شيماء الصبَّاغ: القصَّة الكاملة لتظاهُرة سلميَّة كان جزاؤها القتل

في الخميس ٢٦ - فبراير - ٢٠١٥ ١٢:٠٠ صباحاً

 

 

شيماء الصبَّاغ: القصَّة الكاملة لتظاهُرة سلميَّة كان جزاؤها القتل

عربي، حريات

 

نُشر هذا التقرير للمرة الأولى في موقع VICE News، تنشره «ساسة بوست» مترجمًا بإذن من الموقع، ومن الكاتب «جون بيك» @JM_Beck.

قُتلت شيماء الصبَّاغ على رؤوس الأشهاد. سجَّل الصحفيون والمارَّة لحظاتها اليائسة الأخيرة في الحياة بهواتفهم وكاميراتهم، بعد أن أُطلق عليها النار في يوم 24 يناير في تظاهرة سلميَّة صغيرة في وسط القاهرة.

انتشرت صورةٌ مؤلمة لمقتلها على وسائل التواصل الاجتماعي، وعلى الصفحات الأولى للجرائد؛ الأمر الذي جعل منها نقطة حشدٍ لمعارضي الحكومة القمعية في مصر.

الرجل في الصورة هو سيد أبو العلا، أحد أصدقاء شيماء الذين شاركوا في التظاهرة التي كانت تُحيي ذكرى المئات الذين قتلوا في الانتفاضة التي أزاحت الديكتاتور مبارك عن منصبه في يناير 2011.

التقى الاثنان – شيماء وسيد– للمرة الأولى منذ أربعة أعوام حين كانا عضوين فاعلين في المجموعات الثورية، وكانا مُقرَّبين خلال الاضطرابات السياسية التي عانت منها مصر بعد ذلك، في كل عصيان مدني، أو تظاهرة، أو مسيرة، أو حتى مواجهة عنيفة مع قوات الأمن. بعد التقاط الصورة، حملها إلى الناحية الأخرى من الشارع ووضعها على الرصيف. يقول سيد: «كانت شيماء أكثر من أخت بالنسبة لي».

 

لم يكُن باستطاعتهما البقاء على ذلك الرصيف الإسمنتي طويلًا؛ فقد اعتقلت قوات الأمن اثنين من الذين حاولوا مساعدة شيماء؛ وكانوا يطاردون المتظاهرين في الشارع. حمل جسدها الضعيف صديقٌ آخر، يُدعى مصطفى عبد العال، إلى مقهىً، ووضعها على أحد الكراسي البلاستيكية المنتشرة خارجه. رفض أفراد الأمن الاستجابة إلى صرخات سيد ومصطفى بإحضار عربة إسعاف؛ ولم يكُن الناس حول المقهى مستعدين لتقديم العون. الوحيد الذي فعل كان طبيبًا يُدعى ماهر نصَّار. بعد لحظاتٍ من الكشف على جسد شيماء، قال ماهر إنها قد ماتت.

وصل عددٌ أكبر من رجال الشرطة إلى المقهى بعد ثوانٍ؛ وأبعدوا الجميع من حول جسد شيماء، تاركينه مضمومًا على الكرسي وحده.

كانت شيماء، 31 سنة، تعيش في الإسكندرية مع أسرتها الصغيرة وابنها «بلال» أو «بيبو». اهتمَّت بالعمل السياسي والاجتماعي بعزيمة لا تهدأ، وانضمت إلى حزب «التحالف الشعبي الاشتراكي»، الذي نظَّم التظاهرة التي قُتلت خلالها. كانت أيضًا شاعرة معروفة، تُلقي قصائدها عن الحياة والسياسة.

يعرفها أصدقاؤها بالهدوء والميل إلى التصالُح. كانت شيماء مصدر قوةٍ لأصدقائها رغم عدم الاستقرار الذي كان يكتنف حياتها. كانت متفائلة، توقنُ أن مصر ستصبح أفضل مما حملته لها الأعوام الماضية عمَّا قريب.

قبل كل شيء، كانت شيماء أمًا مُخلصة لابنها «بلال»، الطفل الذكي الذي ربَّته واجتهدت لتُدخله في مدرسة جيدة. يقضي «بلال» أيامه الآن في منزل أسرة من أصدقاء والدته؛ ولا يعلم أنها قد ماتت.

عُقدت جنازتها في الإسكندرية في 25 يناير، لكن الكثيرين حضروا عزاءها في أحد مساجد القاهرة بعد أسبوع من وفاتها. كان سيد أبو العلا هناك، يقف على أول طابورٍ من الأصدقاء ورفاق الحزب تحت صورة لوجهها تُحيي الذين جاؤوا لتوديعها.

«كان شرفًا أن أعيش إلى جوارها. أهم شيء حدث لي في حياتي هو أنني كنت بجانبها في لحظاتها الأخيرة. نعلمُ أن الحرية غالية، لكننا نسأل أنفسنا الآن: هل الحرية أغلى من دم شيماء؟ لسنا متأكدين من الإجابة». – سيد أبو العلا لموقع VICE News

بكى سيد بعد هذه الكلمات، ولم يهدأ إلى حين احتضنه مصطفى عبد العال تحت نظر شيماء في الصورة.

 

 

 

 

بدأ يوم شيماء الأخير في بيتها في الإسكندرية. تركت ابنها «بلال» لدى أحد أصدقائها واستقلَّت القطار إلى القاهرة في الساعة التاسعة والنصف صباحًا مع ثلاثة من أعضاء حزب التحالف الشعبي الاشتراكي. وصلت المجموعة إلى القاهرة عند الظهر؛ تناولوا إفطارهم مع بعض الشاي والقهوة في أحد المقاهي؛ ثم توجَّهوا إلى مقر حزب التحالف الشعبي الاشتراكي المجهول في وسط القاهرة ليحضروا اجتماعًا يناقش قرار الحزب بشأن الانتخابات البرلمانية في مارس.

كان نقاشًا مهمًا؛ فقد عزل الجيش المصري محمد مرسي، أول رئيس منتخب ديمقراطيًا في البلاد، في منتصف 2013؛ وأحكم منذ ذلك الحين سيطرته؛ فقمع أي شكلٍ من أشكال المعارضة؛ ولاحَقَ أنصار مرسي بوحشية ممنهجة. كما أقرَّت الحكومة قانونًا للتظاهر يسمح للسلطات بمنع التظاهرات السلمية، وتفريق المتظاهرين بالقوة أو حتى اعتقالهم. انتُخب القائد العام للقوات المسلحَّة سابقًا المشير عبد الفتاح السيسي رئيسًا بلا منافسة تُذكر في عام 2014؛ وقال إن الانتخابات البرلمانية ستكون آخر مرحلة في التحوُّل الديمقراطي. لكن المجال السياسي يبدو مستعدًا لاستقبال مسؤولي نظام مبارك، وللعودة أكثر وأكثر إلى النظام القديم؛ مما دفع الكثير من المُعارضين إلى إعلان المُقاطعة.

حُظرت أنشطة جماعة الإخوان المسلمين، التي كانت أكثر القوى السياسية تنظيمًا في وقت سابق؛ وقُتل المئات من مؤيديها في مواجهات مع قوات الأمن؛ وسُجن الآلاف منهم.

وبالإضافة إلى الانتخابات، ناقش المكتب السياسي لحزب التحالف الشعبي فكرةً كانت تُتداول في مجموعة مُغلقة على «فيس بوك» منذ يومين: إرسال وفدٍ صغير من الحزب لوضع باقةٍ من الزهور إحياءً لذكرى الذين قُتلوا خلال ثورة 25 يناير في ميدان التحرير. كانت شيماء مُتحمسةً في ذلك اليوم، تضحك وتمزح مع الجميع، وفقًا لحسام نصر، أحد الذين سافروا معها من الإسكندرية.

قالت شيماء يومها للأمين العام للحزب طلعت فهمي: «سنهتف: «يسقط يسقط طلعت فهمي!» في الشوارع». كانت تُغني أيضًا أغنية يعرفها الجميع:

«قولوا لأمي ماتزعليش

وحياتي عندك ماتعيطيش

قولولها معلش يا أمي

أموت أموت وبلدنا تعيش…».

لم يبدُ أن أحدًا سيموت من أجل بلاده في ذلك اليوم. قرَّر قياديو الحزب الخروج في المسيرة، ورغم أنهم كانوا يعلمون أن ذلك يُعد خرقًا لقانون التظاهر، إلا أنهم أصَّروا على أن يكون الوفد قليل العدد، ملتزمًا بالسلمية، ويتجنَّب أي استفزاز. كانت الخطة هي التجمُّع لمدة قصيرة، ووضع إكليل من الزهور يحمل شعار الحزب على النصب التذكاري، ثم الانصراف. تُستبدل كل الهتافات المُعادية للحكومة، والشعارات المُعادية لقوات الأمن بشعار الثورة الذي لا يختلف عليه أحد: «عيش، حرية، عدالة اجتماعية». واتفقوا على أن يعودوا إلى مقر الحزب إذا أمرتهم قوات الأمن بالتفرُّق. حتى إن اختيار موعد المسيرة جاء في يوم 24 يناير لتفادي أيَّة مشاكل بسبب إعلان الإخوان الخروج في تظاهرات في يوم 25 يناير، ذكرى الثورة.

أغلقت قوات الأمن، كما هو المعتاد في هذه الأوقات، كافة مداخل ميدان التحرير بالأسلاك الشائكة والعربات المُصفحة؛ لذا قرَّر المتظاهرون الذهاب إلى ميدان طلعت حرب.

تركت المجموعة مقر الحزب في شارع محمد صدقي باشا، حاملين إكليلًا من الزهور ولافتة كبيرة حوالي الساعة الثالثة والنصف عصرًا. كان عددهم لا يتجاوز 30 شخصًا، 13 منهم تفوق أعمارهم 60 سنة، واثنان أكبر من 70 سنة، وفقًا لطلعت فهمي، أمين عام حزب التحاف الشعبي.

بدأوا المشي في اتجاه الميدان عبر شارع هدى شعراوي، ملتزمين بخطة تجنُّب الهتافات المُثيرة، وفقًا لشهود العيان. كان اليوم إجازةً والشوارع خالية، لكنهم استمروا في المشي على الرصيف فقط لعدم تعطيل المرور. وحين دخلوا شارع طلعت حرب، واقتربوا من ساحة الميدان، رأوا قوة من رجال الشرطة بزيهم الرسمي وبدونه، وأفرادًا من قوات الأمن المركزي. عبروا إلى الناحية الأخرى من الشارع لتجنُّب المصادمة معهم؛ ووقفوا في صفٍ أمام المحال التجارية في أحد جوانب الميدان.

لكن قوات الأمن كانت تحتشد للمواجهة، تُجهز الأسلحة، وتتخذ أماكنها.

انفصل طلعت فهمي عن المجموعة وحاول التحدُّث مع عميد شرطة، وأخبره أنهم سيضعون الزهور تحت التمثال وينصرفون دون أيَّة تظاهرات. ثار غضب العميد، كما يحكي الأمين العام للحزب، وهدَّد بتفريق المتظاهرين بالقوة. حاول طلعت فهمي شرح الأمر مرةً أخرى، لكن العميد قطع حديثه.

«قلت له إننا سنذهب… لم أكُن قد أتممت الجملة بعد حتى رأيت وابلًا من الطلقات».

بدأ إطلاق الأعيرة أثناء محاولة طلعت فهمي التوجُّه إلى المتظاهرين لإخبارهم بالذهاب بعيدًا عن الميدان. انطلقت صافرات الإنذار؛ تقدَّمت القوات؛ وبدأ الإطلاق: الغاز المسيل للدموع في البداية، ثم طلقات الخرطوش.

تفرَّق المتظاهرون، أو معظمهم. كانت شيماء مُصممة على البقاء. حاول رفاقها القلقون جذبها بعيدًا. يقول حسام نصر، الذي يرتدي الأخضر في الفيديو الخاص بالواقعة واقفًا بجانب شيماء: «كنت أقول لها هيا بنا نهرب لأنهم سيبدؤون إطلاق النار بكثافة». لكنها قالت: «لا؛ لقد بدأنا هذا الأمر ويجب أن نُنهيه. إنهم يريدون إخافتنا».

ووفقًا لنصر، أشار العميد في اتجاههم مُعطيًا أوامره لرجل شرطة مُلثَّم يحمل بندقية. رفع المُلثَّم سلاحه وأطلق الخرطوش في اتجاههم ثلاث مرات على الأقل. أصابت بعض الطلقات من الدفعة الأولى محمد شريف، أحد أعضاء الحزب من الإسكندرية، في رأسه وذراعه؛ واستقرَّت طلقات أخرى في ظهر شيماء ووجهها. لكن الدفعة الثالثة من الطلقات أصابت شيماء مباشرةً في الظهر. توضعُ العشرات من كُرات الرصاص في السلاح لتنتشر على امتداد مرماها. لكن المدى كان قصيرًا جدًا، إلى درجة أن كافة الطلقات تقريبًا قد أصابت جسد شيماء، لتخترق قلبها ورئتيها، وتُسبب نزيفًا داخليًا حادًا، وفقًا لتقرير الطب الشرعي.

لوهلةٍ لم يلحظ حسام نصر أن صديقته قد أُصيبت؛ فتحرَّك ليقف حائلًا بينها وبين قوات الأمن ليحميها من الطلقات. وبينما كان يفعل ذلك، انهار جسد شيماء. يقول نصر: «ظننت أنها سقطت على الأرض لأنني كنت أجذبها إلى الاتجاه المعاكس. لم أُفكر للحظة أنها قد أُصيبت بالخرطوش». حاول نصر رفعها من على الأرض، صائحًا أنه يجب عليهم الذهاب فورًا، يجب عليهم الهرب. لكن أفراد الأمن، ومعهم ضابط بثياب مدنية يظهر في الفيديو، جذبه بعنف، وضرب جسده بأحد الأبواب المعدنية، ثم دفعه إلى سيارة مُصفحة بينما كان يضربه. التفت نصر ليلمح سيد أبو العلا يحمل جسد شيماء الغارق في الدماء. كانت المرة الأخيرة التي يراها فيها.

إسلام أسامة، المصُّور في صحيفة «اليوم السابع»، هو من التقط الصورة الشهيرة التي يحاول فيها أبو العلا رفع جسد شيماء من الأرض. كان إسلام يقف خلف شيماء حين سقطت؛ التقط صورتين، ثم اقترب ليلتقط المزيد بينما كان أبو العلا يحاول مساعدتها، ثم هرب بعيدًا ليتفادى الاعتقال.

قال إسلام بعد ذلك لموقع VICE News إن الأثر العالمي لهذه الصورة هو مصدر فخر مهني له، لكنها ما تزال تُلقي بظلالها عليه. التعبير الذي رآه على وجهها لا يفارقه: «أتعاطف مع شيماء كثيرًا… إن الصورة التي التقطتها… الحالة التي كانت عليها… لقد أصبحت شبحًا يطاردني في كل وقت».

حمل أبو العلا جسد شيماء إلى الجهة المقابلة. يقول: «لم أكُن أعلم مدى خطورة إصابتها… لكنها بدأت في النزيف من الأنف والفم فعلمت أنها خطيرة. طلبت من ضابط شرطة أن يطلب الإسعاف لكنه تجاهلني».

لمحهما طلعت فهمي عند «مقهى ريش» وصاح في ضابط شرطة شاب ليطلب المساعدة من جهاز الاتصال الخاص به. نفَّذ الضابط طلبه لكن لم يأتِ أحد. استمر فهمي في الصياح حتى لاحظه عميد الشرطة وجاء مع رجالٍ آخرين ليعتقله. كان الشخص الثاني الذي يُعتقل أثناء محاولته مساعدة شيماء.

حملها مصطفى عبد العال، الرجل الضخم الذي يرتدي البرتقالي في الصور، وذهب إلى مقهى «البستان» بينما كان أبو العلا يجري أمامه ليطلب المساعدة.

وضعا جسدها على أحد الكراسي. وقال الاثنان إنها كانت ما تزال تحاول الإمساك بأيديهما.

كان الدكتور حسام نصَّار، الرجل الستيني ذو اللحية البيضاء والنظارات السوداء، قد انتهى من تناول فنجان قهوة ويستعد لطلب الحساب حين بدأ إطلاق النار. انطلق حين أبصر شيماء ليرى كيف يمكنه المساعدة. لكن السيف كان قد سَبَق. قال نصَّار لموقع VICE News إنه كشف على مؤشرات شيماء الحيوية، وأدرك أن جراحها كانت مميتة. «لم يكُن باستطاعتي فعل شيء من أجلها. لم أكُن أحمل أيَّة أدوات، ولا ضمادات، ولا دماء. أخبرتهم أنها قد ماتت».

يقول أبو العلا: «نظر إلى عينيها وقال إنها قد ماتت. صرخنا في وجهه؛ لم نكُن نصدق». جاءت قوات الأمن من طرفي الشارع وأبعدوا الرجال، ومعهم الدكتور نصَّار، عن شيماء. «كنا نقول لهم اعتقلونا لكن أنقذوا شيماء أولًا».

ألقاهم أفراد الأمن في السيارة المُصفَّحة ورحلوا تاركين شيماء مُلقاة على الكرسي البلاستيكي.

حدث كل ذلك في 15 دقيقة مرَّت منذ أن بدأت المسيرة، و4 دقائق منذ أن أُطلق النار على شيماء.

كانت نجوى عبَّاس، إحدى صديقات شيماء ورفيقتها في الحزب، مُختبئةً في حمَّام المقهى الذي ماتت فيه شيماء. طلب منها أحد أعضاء الحزب، محمد صالح، أن تذهب مع أحد الأشخاص في سيارته الخاصة بعد أن عرض إيصال شيماء إلى المستشفى. هُدد صالح بالاعتقال؛ فحاول الابتعاد عن المنطقة، لكنه اعتُقل في النهاية. رأت نجوى بعض الشباب يحملون جسد شيماء إلى سيارة يقودها رجلٌ أكبر منهم؛ فجلست معهم في المقعد الخلفي لتستريح رأس شيماء في حِجرها. تقول نجوى: «لم يحمل جسد شيماء أي أثرٍ للحياة حينها».

ذهبت السيارة إلى معهد القلب؛ وضعها الرجال على كرسي متحرك وانطلقوا سريعًا. لم تكُن نجوى ولا أعضاء الحزب يعرفون هوية السائق ولا الشباب الذين كانوا معه، لكنها تعتقد أنهم متعاونون مع قوات الأمن؛ لأن السائق مرَّ بسرعة من كمين للشرطة، وأجرى حديثًا مقتضبًا مع ضباط الكمين ناداهم فيه بأسمائهم.

أسرعت عزة مطر، صديقة أخرى لشيماء وإحدى رفيقات الحزب، إلى معهد القلب بعد اتصال هاتفي قصير ردَّت فيه نجوى على هاتف شيماء قائلةً: «شيماء ليست بخير. أنا لا أعرف ماذا يجب عليَّ أن أفعل».

اتصلت عزة بأعضاء الحزب لتخبرهم بما حدث. بعضهم ظنَّ أنها مزحة سخيفة؛ وبعضهم شتمها. بحثت عزة بعد ذلك عن هاتف شيماء حتى لا يقع في أيدي الشرطة. كانت والدة شيماء وأختها تتصلان بلا انقطاع. ردَّت عزة عليهما في النهاية ونقلت إليهم النبأ الصادم. «كنت أنا التي أخبرتهم بما حدث. كانت شيماء أمام عينيَّ».

اتصل بلالٌ أيضًا، لكنها لم تستطع الرد هذه المرة.

كانت الفوضى قد عمَّت صالة الاستقبال في معهد القلب حينها. وصل أصدقاء شيماء وأعضاء الحزب، ورجال الشرطة أيضًا. بعد شد وجذب، واتهامات للشرطة بمحاولة «خطف» جثمان شيماء لإخفاء الجريمة، حملت قوة الشرطة جسد شيماء في سيارة إسعاف إلى مشرحة زينهم، وأخذوا معهم أحمد راغب، المحامي في مركز هشام مبارك للقانون.

تبعهم أصدقاء شيماء وزملاؤها إلى المشرحة في حوالي الساعة السادسة مساءً؛ وظلُّوا هناك حتى ضغطوا لإجراء تشريح للجثة. انتظر الجميع 7 ساعات حتى جاء عم شيماء ليتسلَّم الجثة.

 

اعتُقل 6 أشخاص بعد مقتل شيماء: طلعت فهمي، وسيد أبو العلا، ومصطفى عبد العال، وحسام نصر، وماهر نصَّار، ومحمد صلاح. قال اثنان منهم إ">يعتقد طلعت فهمي (الأمين العام للحزب) أن الشرطة لم تُطلق الغاز المسيل للدموع، وأنه كان سيشمه بالتأكيد إذا تم إطلاقه، لكن إسلام يملك صورًا للغاز، ويؤكد جميع الشهود أن الغاز المسيل للدموع قد أُطلق قبل طلقات الخرطوش.

لكن التناقض الأكبر جاء من عاطف سلامة، أحد العاملين في مقهى «البستان». أكَّد عاطف في البداية رواية الجميع، لكنه بدأ بتقديم معلومات مختلفة حين تحدَّثنا عن استجواب الشرطة له. قال عاطف إنه يلوم الذين كانوا يُحيطون بشيماء؛ وإنهم رفضوا عروضًا بحمل شيماء إلى المستشفى في سيارة، كما قال إن الفترة التي فصلت بين وصولهم إلى المقهى وبدء الاعتقال كانت تُقدر بـ 15 دقيقة.

من المؤكَّد أن ضابط شرطة هو من أطلق الخرطوش على شيماء، طبقًا لروايات الشهود، ومقاطع الفيديو التي سجَّلت الواقعة، وتقرير الطبيب الشرعي الذي يثبت أن إطلاق النار جاء من مسافة أقل من 8 أمتار.

حتى السيسي قال، في خطوة غير مسبوقة، إن فردًا من الشرطة قد يكون مسؤولًا عن قتل شيماء في خطابٍ وصفها فيه بأنها «ابنته». لكنه أضاف أن سُمعة مؤسسة كاملة لا يجب أن تُشوَّه بسبب فعل أحد أفرادها. وقد فتحت السلطات الآن تحقيقًا في الواقعة.

لكن ذلك لم يحدث إلا بعد حملة إعلامية ضخمة. كان الأمر يبدو وكأنَّه سيمُر مرور الكرام كما حدث من قبل. قال اللواء جمال مختار في 28 يناير إن الشرطة لا تستخدم القوة لفض تظاهرة صغيرة بهذا الشكل؛ وأشار إلى أن المقاطع التي سجَّلت إطلاق النار عليها قد تكون مُعدَّلة. وقال وزير الداخلية اللواء محمد إبراهيم إن الضباط يحملون الغاز المسيل للدموع فقط؛ وأن بنادق الرش «ممنوعة بشدة» خلال التظاهرات.

ثبت كذب هذه الادعاءات؛ فقد أكَّد كافة الشهود الذين تحدَّثوا إلى VICE News وجود البنادق التي يُمكن رؤيتها كذلك في الصور ومقاطع الفيديو.

لمَّحت بعض وسائل الإعلام الموالية للحكومة أن جماعة الإخوان المسلمين قد تكون مسؤولة بطريقة ما عن قتل شيماء. يُلقى كل فعلٍ سيءٍ الآن على هذا التنظيم، حتى تلك الأفعال التي يُعلن آخرون مسؤوليتهم عنها، مثل حوادث الاعتداء على الجنود في سيناء.

بدأت مقاطع الفيديو التي تقول إن القاتل الحقيقي هو رجلٌ طويل يرتدي سترة بُنية اللون في الانتشار بين مؤيدي الجيش. كان الرجل يسير هادئًا، واضعًا يديه في جيوب السُترة التي، وفقًا لهم، كانت تُخفي سلاحًا أطلق منه النار على شيماء.

الرجل المقصود هو نائب رئيس حزب التحالف الشعبي الاشتراكي وقائده الفعلي زهدي الشامي، الذي كان حاضرًا في المسيرة. ضُرب الرجل على رأسه أثناء محاولته الفرار من الطلقات شاعرًا بالدوُّار، وفقًا لروايته.

بعد ذلك، حضر زهدي الشامي جنازة شيماء في الإسكندرية وعاد إلى منزله في دمنهور. لكن مكتب النيابة العامة في قصر النيل أصدر طلب استجواب له في 31 يناير، وجرى الاستجواب باعتباره متهمًا لعدة ساعات، اتهمته النيابة بعدها بحمل السلاح والاعتداء على المواطنين.

الشامي رجل نحيف، هادئ الطباع في الستينات من عمره، أجرى جراحة قلب في وقت قريب. يتمتَّع الشامي بحِس دبلوماسي، لكنه مذهولٌ من القضية. يقول: «تجاهلت التحقيقات الذين كانوا يحملون السلاح وسارت خلف روايات خيالية».

كانت السُترة التي ارتداها في يوم مقتل شيماء دليل إدانته أو براءته. ذهب المُحققون إلى بيت الشامي في دمنهور وأحضروا السترة، دون وجوده ودون إذن بالتفتيش، بالمخالفة للقانون، كما يقول علي سليمان، المحامي في «جبهة الدفاع عن متظاهري مصر».

بقول المحامي إنه كان قلقًا من أن تُحدث الشرطة ثقبًا في السُترة ليثبتوا التهمة على الشامي. لكن الرجل أُطلق سراحه بعد لقاء قادة حزب التحالف الشعبي مع السيسي، ضمن لقاء جمعه بقادة الأحزاب.

ينتقد الدكتور نصًّار رفاق شيماء لتحريكهم جسدها بعد إصابتها، الأمر الذي يقول إنه قد زاد حالتها سوءًا. لكن “أبو العلا” وعبد العال لم يكُن لديهم خيارٌ آخر. لا يملك الكثيرون في مصر تدريبًا طبيًا، والجميع معتادٌ على حمل أجساد المصابين أو المحتضرين على الدراجات النارية أو بين أيدي أصدقائهم.

أعلنت نيابة قصر النيل في 10 فبراير الجاري أن قاتل شيماء بين يدي السلطات الآن؛ وأن هويته ستُعلن في خلال أيام، وفقًا لوسائل الإعلام الحكومية. تقول التقارير إنه أحد ضباط الشرطة.

وبعد يومين، أصدر هشام بركات، النائب العام، أمرًا بحظر النشر في القضية حتى انتهاء التحقيقات. وصف بيان النائب العام الحادثة بأنها «جُنحة»؛ ما يعني أن العقوبة القصوى في حالة الإدانة هي ثلاث سنوات في الحبس.

وحتى إذا طالت يد العدالة قاتلي شيماء، ستكون هذه حالة خاصةً للغاية. أصبح من الصعب على السلطات أن توجه إليها تُهمة بارتكاب أعمال عنف أو تُلقي اللوم في مقتلها على جهةٍ أخرى؛ بسبب الكم الضخم من الصور ومقاطع الفيديو، بالإضافة إلى تقرير الطب الشرعي الذي يصف كيفية قتلها، مع خلفيتها المعروفة بأنها أمُ، وشاعرةٌ، وناشطة علمانية.

يموت المئات على يد قوات الأمن المصرية منذ اندلاع الثورة؛ ونادرًا ما يتعرَّض القتلة إلى المُساءلة بأيَّة صورة. في هذا العام وحده، لقى 26 شخصًا حتفهم في ذكرى الثورة، ومات 20 آخرين نتيجة التدافع حين أطلق ضباط الشرطة الخرطوش والغاز المسيل للدموع على مُشجعي كرة القدم خارج ستاد «الدفاع الجوي». لن يوصف هؤلاء بأنهم «أبناء السيسي»، ولن يُجرى حتى تحقيق جادٌ بشأن الأمر إذا سار بالطريقة المعهودة في الأحداث السابقة.

في اليوم السابق لمقتل شيماء، قُتلت «سُندس رضا» بنت الـ 17 عامًا في تظاهرة للإسلاميين في الإسكندرية على يد الشرطة. لم يغضب الكثيرون لأجل «سُندس» بسبب انتمائها لجماعة الإخوان المسلمين، الذي تهاجمه الحكومة والمعارضة العلمانية على حدٍ سواء. كان هناك القليل من الشجب والإدانة، ولم يكُن ثمَّة متعاطفون كُثُر، ولا تقرير للطب الشرعي. ماتت «سُندس»، مثل الكثيرين غيرها، ودُفنت في صمت، دُفنت مع حقوقها.

اجمالي القراءات 1928