بي بي سي-لندن
بريطانيا الرق: تجارة القرن الحادي والعشرين بأرواح البشر

في الخميس ٢٢ - فبراير - ٢٠٠٧ ١٢:٠٠ صباحاً

جالينا فتاة روسية لمّا تتجاوز بعد الثانية والعشرين من عمرها، إلاّ أنها ذاقت شتى صنوف العذاب والقهر والذل في حياتها، فهي واحدة من آلاف ضحايا "الإتجار بالبشر" في بريطانيا والذين لا يقتصرون على النساء فقط، بل بينهم رجال وحتى أطفال صغار.

في سن الرابعة عشرة من عمرها لم تجد جالينا منفذا للخروج من جحيم العيش مع والديها "السكيرين" سوى الهروب من منزل العائلة لينتهي بها المطاف في شوارع ليتوانيا حيث تقابل هناك رجلا يعدها بتأمين فرصة عمل مغرية في بريطانيا تقفز لها فرحا وتدغدغ أحلامها بدفن الفقر والعيش حياة هنيئة.

أما وقد استطاع الرجل أن يقنع جالينا برفقته، فلم تمر على الفتاة الروسية إلا ساعات قليلة من وصولها إلى بريطانيا حتى وجدت نفسها مرغمة على ممارسة البغاء كسبيل وحيد للنجاة بحياتها.
مخالب الرجل" كوابيس وأضغاث أحلام تنتابني، كما أنني أشعر بالقلق والخوف عندما يمر شريط الذكريات الأليمة أمام ناظري...نعم يتملكن شعور بالغضب الشديد نتيجة لما حصل لي، فأنا أشعر بالخجل لما أقدمت عليه

جالينا، فتاة روسية وقعت ضحية الإتجار بالبشر
تمر أشهر ثلاثة قبل أن تتمكن جالينا من الهروب من "مخالب الرجل" وتجد لها ملاذا آمنا في مؤسسة "بوبي" الخيرية التي تقدم ملجأً للهاربات من جحيم "تجار النساء"، وهي تعيش اليوم في مأواها الجديد بصحبة طفلها الرضيع الذي لم يتجاوز بعد من العمر شهرا واحداً.

آثار الندوب والعلامات لا زالت بادية بشكل جلي على جسد جالينا وهي التي وجدت ذات يوم في الانتقام من نفسها وسيلة لتفريغ شحنات القهر والتعبير عما يجول في مكنونات الذّات من شعور بالذل والنقمة والخوف.

تقول جالينا: "كان الأمر عسيرا جدا عليّ منذ أن تمكنت من الهروب. لقد حاولت الانتحار مرارا وجرحت نفسي عن قصد وتصميم".

كوابيس وأضغاث أحلام
تتابع الفتاة الروسية روايتها قائلة: "كوابيس وأضغاث أحلام تنتابني، كما أنني أشعر بالقلق والخوف عندما يمر شريط الذكريات الأليمة أمام ناظري...نعم يتملكني شعور بالغضب الشديد نتيجة لما حصل لي، فأنا أشعر بالخجل لما أقدمت عليه".


القانون الليتواني يمنع الدعارة ولكن مئات الليتوانيات يجري بيعهن في بريطانيا ودول أخرى كل عام
لم تعد جالينا ترى مخرجا لمحنتها سوى بالتحديق مطولا في وجه طفلها الرضيع والتأمل في عينيه علّه يعيد إليها بعضا مما أفقدتها إيّاه تجربتها المرة من فرح وابتسامات ولحظات سعيدة.

تقول جالينا: "ولكن عندما أتطلع إلى ابني الصغير لا أشعر بكل هذه الأشياء. إنّه الشيء الوحيد الجيد في حياتي".

تجارب مريرة
لم أكن أعرف قبل الأمس أن عدد من مروا خلال السنوات الأخيرة الماضية بتجارب مريرة كتجربة جالينا ودخلن غياهب تجارة البشر في بريطانيا يتخطّى العشرات أو المئات على أبعد تقدير، سيّما وأن البلاد تحتفل هذه السنة بالذكرى المئوية الثانية لإلغائها تجارة الرقيق فيها وبشكل رسمي.

إلاّ أن لغة الأرقام التي تنساب على لسان محدثي الكاهن الدكتور إدموند نيويل، رئيس كنيسة القديس بولوس ومدير معهد القديس بولوس في لندن، تظهر أن تجارة البشر لا زالت واقعا حيّا وملموسا في المجتمع البريطاني حتى الساعة.

المعرض فرصة فريدة أمام صنّاع القرار والرّأي العام ليروا ما الذي تعنيه فعلا تجارة البشر بالنسبة لضحاياها مثل هذه الممارسة البشعة

آيدان مكويد، مدير المنظمة الدولية لمناهضة العبودية
يقول الدكتور نيويل في حديث لبي بي سي قبيل افتتاح "معرض الإتجار بالبشر"، أو "بريطانيا العبودية: تجارة القرن الحادي والعشرين بأرواح البشر"، في مقر الكنيسة يوم الثلاثاء والذي يفتح أبوابه للجمهور يوم الأربعاء ليستمر حتى التاسع والعشرين من الشهر القادم:

"لقد سجل في بريطانيا أكثر من 4000 حالة إتجار بالبشر عام 2004. نعم لقد وضع حد لهذه الظاهرة في بريطانيا بشكل قانوني قبل قرنين من الزمن، ولكنّها لازالت تمارس بشكل سري حتى يومنا هذا".

إحصائيات
كما تشير إحصائيات حديثة إلى أن أكثر من خمسة آلاف شخص يقعون ضحايا للإتجار بالبشر في بريطانيا سنوياً.

ما يلفت الانتباه في حديث الدكتور نيويل هو تأكيده أن ضحايا ظاهرة الإتجار بالبشر لا يقتصرون على النساء فقط، بل هم أيضا من الرجال وحتّى الأطفال الصغار.

نساء ورجال وأطفال
الدكتور نيويل وكريستينا مسينيني يشددان على دور المجتمع في مكافحة تجارة البشر
يقول الدكتور نيويل: "نحن لا نركز على قضية الجنس واستغلال النساء فقط، بل هناك أيضا ضحايا للإتجار بالبشر من الرجال والنساء والأطفال الذين يقعون ضحايا لشبكات تجارة الهجرة غير الشرعية، إذ يُخدع الكثير من البشر بوعود تأمين فرص عمل مغرية في بريطانيا ليكتشفوا فيما بعد أنها مجرد أوهام وحيل حيكت بخبث للإيقاع بهم".

وعلى الرغم من أن الدكتور نيويل ينظر إلى ظاهرة تجارة البشر في بريطانيا على أنها "تجري بشكل سري" إلا أنه يعتبرها "خرقا للقانون" ومصدر إزعاج وقلق للمجتمع والكنيسة.

يقول الدكتور نيويل: "إنها حقيقة تصدم المرء أن يكون للإنسان القدرة على استغلال أخيه الإنسان".

رسالة الكنيسة ليست القضية قضية عصابات إجرامية كبيرة متورطة بتجارة النساء، بل أن هناك نسوة قد تم بيعهن من قبل أصدقائهن وأفراد عائلاتهن

جو بيكسلي من مؤسسة بانوس بيكتشرز
ويشدّد على أن في تنظيم المعرض في رحاب الكنيسة رسالة مفادها أنه يتعين على المجتمع ومؤسساته تكريم ضحايا الإتجار بالبشر وأن يكون للكنيسة دور فعال في تسليط الضوء على أهمية التثقيف وتوعية الناس بخطورة هذه الظاهرة.

يقول الدكتور نيويل: "تقوم الكنيسة بالكثير من العمل الرعوي مع الناس المضطهدين في المجتمع وهناك أوقات تحتاج فيها أن ترفع صوتها عاليا نيابة عن أولئك الذين يعانون بسبب استغلالهم بأشكال مختلفة".

أترك الدكتور نيويل لأتجول قليلا في أروقة المعرض الذي يضم عددا 17 صورة نادرة لنساء ورجال حقيقيين هم من ضحايا الإتجار بالبشر التقطها لهم رسامان محترفان في مدن وبلدات مختلفة من بريطانيا منها شيفيلد وكارديف وبورتسموث ولندن وبيرمنغهام وليستر.

بيعت سبع مرّات
تقول جو بيكسلي من مؤسسة بانوس بيكتشرز، التي تنظم المعرض بالتعاون مع منظمة العفو الدولية والمنظمة الدولية لمقاومة العبودية، إنه في إحدى الحالات تم بيع فتاة ليتوانية تبلغ من العمر 15 عاما فقط ولسبع مرات متتالية في غضون ثمانية أسابيع فقط أجبرت خلالها على التنقل بين أماكن عدة في كل من بيرمنغهام وكوفينتري ولييستر وشيفيلد حيث جرى اغتصابها وأرغمت على ممارسة الدعارة.


اقتحمت الشرطة البريطانية شقة في شارع كينغسلي في هانسلو في لندن استخدمت للتجارة بالبشر (تصوير: كارين روبينسون، بانوس بيكتشرز)
والمعرض يشتمل أيضا على جناح "زراعي" يوضح أن مشكلة الإتجار بالبشر تمتد إلى مجالات أخرى غير الجنس، فهناك أناس يجبرون على العمل في قطف ثمار أشجار الفاكهة والخضراوات ويباعون للعمل أيضا كعمال في الفنادق.

تقول بيكسلي: "تجارة البشر في بريطانيا لا تقتصر فقط على ساحة سوهو وسط لندن، بل هي تحدث بيننا وحقيقة أن عيوننا ليست مفتوحة تماما لمعرفة حجم هذه الظاهرة".

عصابات إجرامية
وتضيف: "ليست القضية قضية عصابات إجرامية كبيرة متورطة بتجارة النساء، بل أن هناك نسوة قد تم بيعهن من قبل أصدقائهن وأفراد عائلاتهن".

في المعرض تطالعك وجوه وعيون لضحايا عائدين من عوالم التيه والخوف والرعب والقهر واستغلال الإنسان للإنسان.

صور تحكي قصص نساء ورجال وأطفال شكلوا يوما سلعا رخيصة يتعامل بها تجار البشر، ليتمكنوا بعدها من الهروب من جحيمهم ويفزعوا بعدها إلى أحضان بشر آخرين في قلوبهم رحمة أكثر يفتحون لهم صدورهم ويحدثونهم عن أحلامهم المتحطمة وضحكاتهم التي اختطفت منهم في غفلة من الزمن.

خوف إنساني
صور تحكي أيضا قصة رعب وخوف الإنسان من الإنسان عندما يقع أسيرا بين مخالبه فلا يترك له منفذا إلى عالم الأمان والطمأنينة والرأفة ولا يدع له أي مساحة للأمل تذكر مهما ضاقت وتلاشت في صغرها.

إنها قصص تتراكم وتتداخل فيما بينها لتشكل نسيجا لقصة الوجع الإنساني وتظهر كم هو هائل ثمن بيع المرء للمرء.

فهذه صورة للفتاة اللتوانية داينا البالغة من العمر 19 عاما وقد أشاحت بوجهها خجلا عن كاميرا المصور ليحكي التعليق على الصورة قصة بيع صديقها لها في لندن لتتحول مرغمة إلى ممارسة الدعارة وترغم على الإجهاض مرارا.


تباع حوالي 3 آلاف امرأة من دول البلطيق سنويا
هروب
وتلك صورة لعجوز ليتوانية تبلغ من العمر 68 عاما وتحتها تعليق يروي قصّة ابنتيها إنجا وماريا اللتين تم بيعهما خمس مرات متتالية في ألمانيا وغيرها من البلدان قبل أن تتمكنا من الهرب عائدتين إلى بلادهما ولتصبحا غير قادرتين بعد ذلك على ممارسة حياتهما الطبيعية مرة أخرى.

أما الهندية ديفيا فيروي التعليق المرفق بصورتها قصة الخادمة التي انتقلت مع مخدوميها الكويتيين إلى عاصمة الضباب لتجبر على النوم خارج المنزل في العراء وتحرم من تناول حتى الطعام الذي تطبخه هي للعائلة.

هائمة على وجهها
وينتهي المطاف بديفا امرأة هائمة على وجهها حيث تمضي الليل بأكمله ولسنوات مشرّدة في الحدائق العامة بدون مأوى أو طعام أو شراب إلا ما تصدق عليها به الآخرون.

النساء والأطفال والرجال الذين وافقوا على أن نحكي قصصهم في هذا المعرض هم أناس شجعان للغاية

كيت ألين، مديرة منظمة العفو الدولية في بريطانيا
دوفيل هي الأخرى يغرّر بها من قبل أحد معارفها من الرجال في بلدها ليتوانيا. يعدها الرجل بالمال الوفير مقابل العمل في أحد مطاعم لندن.

تقول دوفيل إن صديقها أكد لها أنّ كلّ ما يتعين عليها القيام به هو إمضاء الوقت في "الدردشات المسلية" مع بعض الأثرياء من رواد المطعم، ولكن الفتاة الليتوانية تصاب بالرعب عندما تكتشف أن المطعم لم يكن إلا مجرّد شقة مفروشة تستقبل فيها قسرا "مشتري المتعة من الرجال".

"للعبودية العصرية"
المصوران كارين روبينسون وديفيد روز يقولان إن الصور التي قاما بالتقاطها وعرضها في المعرض تظهر الشكل المتنامي بقوة لتجارة البشر و"للعبودية العصرية" التي تكشف الأثر المدمر لهذه الظاهرة على المجتمع البريطاني وغيره من المجتمعات الأخرى.


حوالي 3 آلاف امرأة من دول البلطيق تباع سنويا
أما كيت ألين، مديرة منظمة العفو الدولية في بريطانيا، فترى أن "النساء والأطفال والرجال الذين وافقوا على أن نحكي قصصهم في هذا المعرض هم أناس شجعان للغاية".

فرصة فريدة
آيدان مكويد، مدير المنظمة الدولية لمناهضة العبودية، يرى أنّ "المعرض فرصة فريدة أمام صنّاع القرار والرّأي العام ليروا ما الذي تعنيه فعلا تجارة البشر بالنسبة لضحاياها مثل هذه الممارسة البشعة".

ومن قلب العتمة والظلام يبزغ شعاع من أمل ونور ينير ما تبقى من فسحة أمام ضحايا الإتجار بالبشر، وذلك عندما تتلقف هؤلاء في أعقاب هروبهم من سجنهم الكبير أيادي أشخاص ومؤسسات نذروا أنفسهم لإدخال ما استطاعوا من بهجة إلى قلوب هؤلاء ولتقديم يد العون والمساعدة لهم علّهم يجدون بذلك بعض التعويض عن حرمانهم ومواساة بمحنتهم.

إنها حقيقة تصدم المرء أن يكون للإنسان القدرة على استغلال أخيه الإنسان

الكاهن الدكتور إدموند نيويل، رئيس كنيسة القديس بولوس ومدير معهد القديس بولوس في لندن
تحدثني أنا باودن، الناطقة الرسمية باسم مؤسسة إيفز الخيرية، عن أنواع المساعدات السكنية والمادية والقانونية وغيرها التي تقدمها المؤسسة لضحايا الإتجار بالبشر من النساء فتقول:

مساعدة قانونيّة
"لدينا 35 سريرا تستخدم لإيواء النساء التي تلجأ إلى المؤسسة هربا من المتاجرين بالبشر. نحن نقدم لهن كل شيء من مأوى وطعام وشراب ومساعدة قانونية".

تضيف باودن أن النساء النزيلات في ملجأ المؤسسة تقضي عادة حوالي ثمانية أشهر قبل أن تتمكّن من الانتقال إلى بيوت خاصّة بهُنّ وأنّ حوالي 90 بالمائة منهُنّ يحصلن على حق اللجوء السياسي في بريطانيا.

كريستينا مسينيني من مؤسسة ليتوفوس كاريتاس الليتوانية لمساعدة ضحايا الإتجار بالبشر، تقول إنها جاءت من بلدها لتشارك في المعرض وتسلط الضوء على معاناة ضحايا هذه التجارة "الإجرامية" داخل بلادها وفي بقاع أخرى من العالم.

قلب ينفطر
أمضت كريستينا السنوات الأخيرة من عمرها بمساعدة ضحايا الإتجار بالبشر
تقول كريستينا إنها أمضت السنوات الستة الأخيرة من حياتها في مساعدة ضحايا الإتجار بالبشر وإن قلبها "كاد ينفطر" لقصة فتاة من بلادها لم تتجاوز سن الثامنة من عمرها وقد سقطت بدورها ضحية "لتجارة الجنس".

تضيف كريستينا أن وجهة تجار النساء في ليتوانيا تكون عادة دول أوروبية أخرى، وإن كانت بريطانيا تعتبر "السوق الأوسع" لمثل هذه التجارة الرائجة.

قفص الصور
"لقد سجلت عام 2004 أكثر من 200 حالة لنساء ليتوانيّات جرى بيعهنّ في بريطانيا حيث أُجبرن على ممارسة الدعارة والعمل في أماكن لا يرغبن بها".

وأخيرا يأتي المعرض، والذي جاء تصميمه على شكل قفص يرمز للسجن الكبير الذي تعيش الضحايا داخله، ليطلق صرخة مدوية في وجه الدولة والمجتمع ليضعا معاً حدّا للتغاضي أو التستر على "جريمة" منعتها القوانين البريطانية قبل قرنين من الزمن ولكنّها لا تزال ممارسة حيّة في البلاد حتى زمننا الحاضر.

لقد كادت صور المعرض السبعة عشرة أن تظهر وكأنها صورة فوتوغرافية عملاقة متكاملة تتمثل فيها أطياف مختلفة من القهر والظلم والألم التي ارتضى الإنسان يوماً أن يمارسها بحق بشر آخرين من بني جلدته.

اجمالي القراءات 8393