المستشار فؤاد راشد: انسخاط الثورة !

في الأحد ٠٢ - أكتوبر - ٢٠١١ ١٢:٠٠ صباحاً

المستشار فؤاد راشد: انسخاط الثورة !

في اللغة الدارجة تستعمل كلمة انسخاط للدلالة علي أمر أو شيء يبدأ كبيرا ثم يقل حجمه أو دوره أو قيمته أو يصيبه التشوه علي نحو غير مفهوم أو مبرر , والحقيقة أن الثورة تتعرض للانسخاط بهمة عالية .

وبداية البدايات فانه لابد من التفرقة بين الإمكانيات المتاحة لفرد أو جماعة تدير وبين الوصول الي نتائج تتسق مع المقدمات , وأسباب الهوة بين المعطيات والنتائج عصية علي الحصر , وهي تتفاوت من حالة الي حالة .

في حرب أكتوبر المجيدة أظهر المقاتل المصري قدرات علي التخطيط والقتال وشجاعة فائقة أذهلت العالم بأسره وأعادت الي الأذهان تاريخا حربيا مصريا وعربيا يراد له أن يطمس تحت طيات الثري, وقدمت مصر الدم فداء لكبريائها الوطني وثمنا لغد حر عزيز أبي  , ولكن من نكبات الزمان أن يتولي أنور السادات  ترجمة تضحيات الدم الي موقف تفاوضي  مكافيء  , ويأبي ألا أن  يقود منفردا مندفعا بما أذهل أعداءه قبل مواطنيه, وعلي أية حال فان كيسنجر الوسيط المنحاز لإسرائيل بحكم أنه كان ممثلا  للسياسة الأمريكية اضافة الي كونه يهوديا هو نفسه الذي كتب في مذكراته لاحقا عن ذهوله لمواقف السادات التفاوضية , وقرر بجلاء أن السادات لم يحسن اللعب بما لديه من أوراق وأنه كان يعرض عليه بعض الرؤي الصهيونية وهو متردد ويؤكد أنها ليست رؤاه بل مجرد أساس اسرائيلي للتفاوض فاذا بالسادات يبادر الي الموافقه الفورية دون الرجوع الي مستشاريه  , بل كان يتبني الاقتراحات وينسبها الي نفسه أحيانا وهي صهيونية في الأساس .

وهكذا انتهت  مصر المنتصرة عسكريا الي الخروج عن مجال العمل العربي تاركة دورها ومتخلية عن زعامتها لأمتها العربية , وانتهت تضحيات الدم الي وطن يستباح علي يد مجموعة التفت حول السادات لتنهب وتسرق وتخرب , وجري الحديث عن قطط سمان  ثم أبقار سمان  أيام السادات , ثم أكمل خليفته المسيرة فراح يبيع مصر من المنشآت والي البنوك الي دورها العربي والافريقي والعالمي  , ونما من حوله حيتان متوحشة  شرهة للمال الحرام ومن حولها جيوش  جراد متوحش مصاص للدماء ! وانتهي الحلم  مدفوع الثمن من دم الرجال الي كوابيس موحشة .

كان هذا نموذجا لغياب الرؤية وضعف الارادة , وفي المحصلة فان المواطن الذي لم يتردد في التضحية بدمه من أجل حياة عزيزة انتهي به المطاف شهيدا في طابور توزيع الخبز زمن مبارك أو  في عبارة غارقة لاتصلح لنقل البشر أو  في قطار يحترق بركابه ,    بينما استباح كبار اللصوص الوطن بطوله وعرضه .

وعلي امتداد تاريخنا فان هناك قاعدة نادرا ماتخرق , ومؤداها أن هناك شعب  يضحي وقيادة ومن حولها جماعات ملتفة نافذة تقبض الثمن !

واليوم يتكرر نفس المضمون مع اختلاف الموضوع والتفاصيل , فنحن أمام شعب عظيم يختزن في أعماقه موروثا حضاريا هائلا تبدي أمام العالم خلال الثورة التي رفعت شعارا سلميا , حتي أن الثوار كانوا يقبضون علي حثالات البشر من ذيول مبارك وأعوانه فيخلوا سبيلهم  , واستشهد نحو الف بطل وبطلة تثير صورهم في القلوب ماتثير من اجلال واكبار ممزوجين بحزن عميق , كما أصيب نحو الف  بعاهات أخصها فقد احدي العينين جراء اطلاق طلقات موجهة بدقة من المجرمين عديمي الضمير والشرف بتوجيه ودعم من أكابر المجرمين !

دفع الشعب المصري العزيز دم بعض خيرة أبنائه راضيا ثمنا لغد مشرق عزيز , فهل من بشائر لهذا الغد ؟ وأين تلك البشائر ؟!

انني أرجو الا أكون مبالغا أو متشائما اذ أري أن الصورة التي بدأت وردية يوم تنحي المخلوع قد بهت عنها لونها الوردي وراحت تكتسي بألوان كئيبة وظلال أشد كآبة , وأن اليأس هو الخط الأبرز في تلك الصورة !

كانت نقطة الضعف الكبري في الثورة المصرية ومن قبلها الثورة التونسية أن اليد التي أمسكت بالزمام -  بحكم حقائق القوة علي الأرض –  هي يد لم تتحسب ولا في عالم الأحلام لماجري بل نزلت عليها الأقدار فيما حارت في وصفه أهو هدية السماء لخدمة الوطن أم بلاء ومحنة عسيرة خاصة مع تفجر  ملفات عديدة شائكة في ظروف بالغة الصعوبة  , وكان البادي لأول وهلة من تصريحات رجال المجلس الأعلي للقوات المسلحة  مدي شعورهم بثقل العبء الذي القته علي كاهلهم الأقدار  , ورغم أن وطنية رجاله  أمر مسلم لايحتمل جدالا فان التردد في اتخاذ القرارات الثورية جعل اليأس يتسرب الي نفوس جموع المصريين في أن تتكافأ النتائج مع التضحيات , وهو ما ترجم نفسه في صورة احتجاجات بدأت  هامسة ثم صارت  هادرة , ونخشي مايخشاه ملايين المصريين أن تقع الخصومة بين الثوار ومن يتولون قيادة ثورتهم , وهو أمر لن يفيد منه سوي أعداء مصر المتربصين بها  .

 انني أتساءل – تساؤل كل المصريين – هل دفعت مصر  الف روح والف عين من أرواح وعيون أبنائها ليحل زيد موضع عبيد , ويبقي  المناخ هو هو ؟ اليست الفلول تتجمع يوما بعد يوم وتقوي شوكتها ويقال ان هناك من يخطط ومن يمول لاجهاض كل ماتحقق علي الأرض ؟ هل من المعقول أن تنسخط الثورة في مجرد بضع اجراءات ادارية ومحاكمات تتحول أحيانا عبر الفضائيات الي ملهاة ؟ أين الحساب السياسي ياسادة ؟ وكيف لايسأل مبارك ورجاله سياسيا عن الحنث بالقسم الدستوري الذي أقسم عليه ؟ الم يقسم بأن يحافظ -  مخلصا – علي النظام الجمهوري؟ فهل كان من قبيل الحفاظ علي النظام الجمهوري تعديل الدستور وتفصيله علي مقاس ولده ليرث الحكم من بعده ضاربا عرض الحائط بالدستور والوطن والمواطنين معا  ؟ وعلي حافظ علي سلامة الوطن وأرضه ؟ الم يترك مصر نهبا  لكل ناهب حتي أن  بعض الصعاليك تحولوا  الي أصحاب مليارات بين عشية وضحاها  بفعل هبات الأرض والمصانع  السحت عطاء من  لايملك لمن لايستحق ؟ اليس المجال قائما الي اليوم ليعود ملايين الفلول ممن أدمنوا الحرام  ليحتلوا مقدمة الصفوف في النظام الجديد الذي هو مجرد استنساخ للقديم ؟

اليس من الطبيعي تشكيل هيئة سياسية من شخصيات وطنية محايدة لمحاسبة مبارك دستوريا ليقف أمامها ليدافع عن نفسه وليكون عبرة لمن يأتي بعده , أم أن كل مصائب وجرائم ونكبات عهد مبارك قد انسخطت الي جريمة جنائية في حين  الأمر كله تم في اطار سياسي حتي القتل نفسه ؟

انني أتوجه ليس فقط الي رجال المجلس الأعلي للقوات المسلحة بل في الأساس  الي أصحاب الثورة وهم جموع المصريين , وأعيد ماسبق أن كتبته في بدايات الثورة مطالبا بأن نلزم التحرير حتي يتم التحرير , واليوم أقول مجددا : التحرير حتي يتم التحرير .. التحرير حتي يتم التحرير !!

اجمالي القراءات 2921