العشوائيات أزمة مصر المزمنة وبـؤر محتقنة قابلة للانفجار | |||||||||||||||
المساكن البديلة شبح يزرع الأزمات بين الحكومة والمواطنين والتخطيط العشوائي يفسد نجاح عمليات التهجير. | |||||||||||||||
العرب عماد أنور [نُشر في 02/01/2015، العدد: 9785، ص(6)] | |||||||||||||||
رحلة البحث عن مسكن أزمة تواجه عددا كبيرا من أبناء الشعب المصري، أما إذا كانت الرحلة بغرض البحث عن مسكن ملائم يلبي احتياجات المواطن، فتلك رحلة أقل ما توصف به أنها “شاقة وربما مستحيلة”، وقد تنتهي رحلة الحياة نفسها قبل إيجاد سكن ملائم. حلم فئة من المصريين أصبح يتمثل في 4 جدران تأويهم من برد الشتاء، يشعرون داخلها بأبسط الحقوق الآدمية وهي “الخصوصية”، إذا كانت تلك هي أحلام الباحثين عن مسكن، فماذا يفعل من وجدوا أنفسهم خارج مساكنهم بين عشية وضحاها، بعد أن انقض شبح التهجير على منازلهم، إما لأسباب أمنية، أو كوارث طبيعية، أو لأبعاد جغرافية، مشفوعة بصبغة سياسية. الإرهاب وقف خلال الأسابيع الماضية، وراء نقل عدد من أهالي سيناء المصرية وتهجير عدد منهم، عقب إعلان الجيش المصري الحرب على الجماعات المسلحة، ودك حصونهم في أرض الفيروز التي اتخذوا من جبالها مأوى لهم، كما استعملوها معبرا للدخول إلى المناطق الآهلة بالسكان، وتنفيذ مخططات إرهابية.
رئيس مجلس الوزراء المصري، المهندس إبراهيم محلب، أصدر في أكتوبر الماضي قرارا، بإخلاء المنطقة الفاصلة بين رفح الفلسطينية ورفح المصرية، على امتداد الشريط الاستراتيجي الشمالي الشرقي لمحافظة شمال سيناء، من السكان وتوفير أماكن بديلة لكل من يتم ترحيله، مشددا على تنفيذ الإخلاء بشكل جبري في حالة الامتناع، ويتم تقدير التعويضات المستحقة طبقا للقانون، حفاظا على أرواحهم. هذا القرار، اعتبره كثيرون يخدم مصالح وطنية عليا للبلاد، بينما وصفه حقوقيون بأنه انتهاك للقانون، لأنه يتنافى مع المادة (63) من الدستور المصري المستفتى عليه في يناير من العام الماضي، حيث تحظر المادة 63 من دستور 2014 التهجير القسري للمواطنين بجميع صوره وأشكاله، ومخالفة ذلك جريمة لا تسقط بالتقادم. الناشط الحقوقي حافظ أبو سعدة، قال لـ”العرب” إن القانون الدولي يمنح التهجير مشروعية في حالات استثنائية، لكن شرط التناسبية غالبا ما يحدده العسكريون، موضحا أن المادة (49) من اتفاقية جنيف الرابعة تمنح السلطات المصرية مشروعية التهجير تحت دعوى الحفاظ على الأرواح والضرورات العسكرية المُلحة، بشرط أن يكون القرار آخر البدائل الممكنة، ويكون لفترة مؤقتة، تعقبها إعادة توطين المواطنين. أزمة العشوائيات اعتبارا لأهمية أزمة السكن وتداعياتها الاجتماعية والاقتصادية وحتى الأمنية، أجرى المركز القومي للدراسات الاقتصادية والاجتماعية دراسة بخصوص هذا الملف والبحث عن إيجاد بدائل ملائمة، خاصة في حالة التهجير. الدراسة اتخذت كنموذج عمل “شارع الرزاز” بمنطقة (منشأة ناصر) في القاهرة، وهي إحدى المناطق التي تندرج تحت مسمى العشوائيات. وكشفت عن عدم وجود نظرة بعيدة المدى للحكومة المصرية في تنفيذ عملية التهجير التي طالت أكثر من 24 ألف أسرة من ساكني العشوائيات، والمناطق الرسمية خلال الخمسة عشر عاما الأخيرة. ورغم ما تشهده مدن المحافظات في مصر من تطوير شامل لمختلف خدماتها ومرافقها، إلا أن المناطق العشوائية مازالت تعاني أوضاعا بنائية ومعيشية متدنية، بما يعمق مشكلات تنميتها بالنسبة للمناطق السكنية. تكمن أزمات المناطق العشوائية في خطورة التخطيط الإنشائي حيث يقع أغلبها في مناطق منحدرة بين الجبال وأوضح العميد سمير راغب، رئيس لجنة التخطيط الاستراتيجي والعلاقات الخارجية بحملة “مين بيحب مصر”، للقضاء على العشوائيات أن هناك خللا في معايير الرقابة في المحليات التي تسمح بظهور مناطق عشوائية جديدة كل يوم، حيث أن عدد سكان العشوائيات ينمو بمعدل 3 بالمئة سنويا وقد يصل إلى 45 مليون نسمة عام 2025. بدورها، قالت ليلى إسكندر، وزيرة البيئة، إن لدى الوزارة خريطة قومية للمناطق العشوائية ويتم تحديثها بالتنسيق مع كافة المحافظات، مضيفة أن نصف المصريين يعيشون في عشوائيات، وهناك عشوائيات عدد سكانها يتعدى 2 مليون مواطن. وأضافت إسكندر أن 45 مليون مصري يعيشون في العشوائيات، موضحة أن القاهرة والجيزة وتليهما الاسكندرية أكثر المحافظات التي تشهد عشوائيات نظرا لتواجد أغلب الوظائف بها، مشيرة إلى أن أغلب القادمين من الأرياف إلى القاهرة والجيزة يتجهون إلى العشوائيات لقربها من أماكن عملهم. بالعودة إلى “شارع الرزاز” تقول الدراسة إن تهجير أهالي المنطقة كان قد تم بعد قرار إزالة عدد من المنازل لخطورة المكان، ولتتمكن المعدات من الدخول إلى العقارات، ولتنفيذ أعمال التهذيب وإزالة الخطورة الناجمة عن تشقق الكتلة الصخرية المطلة على الشارع، والتي تقع أسفل هضبة الحرفيين. ورغم الوعود التي تقدمها الحكومة للمتضررين، ما بين توفير البدائل المناسبة والتعويض المادي، إلا أن الأزمات لا تزال قائمة، وهو ما أرجعه عبدالمحسن عبدالمنعم برادة، أستاذ التخطيط العمراني، إلى عدم وضع خطط محددة لحل مثل هذه المشاكل. وأضاف برادة، في تصريحات خاصة لـ”العرب”، أن الحكومة تتخذ أحيانا قرارات سريعة دون نظرة عادلة تصب في مصلحة المواطنين، وأن أزمة الإسكان يعيشها الشعب المصري منذ عشرات السنين، خاصة مع زحف العمران إلى المناطق الحيوية، وترك مساحات شاسعة خالية من السكان. تكمن أزمات المناطق العشوائية في خطورة التخطيط الإنشائي، حيث يقع أغلبها في مناطق منحدرة بين الجبال، وما كان يجب أن تسمح الدولة بإقامتها من البداية. في هذا السياق، يشير برادة إلى أن الحكومة مطالبة بتوفير مساكن مناسبة خارج العاصمة، والمناطق الحيوية وتوفير كافة الخدمات من حولها، لافتا إلى أن المشكلات التي تقع من جراء التهجير، سببها ترحيل المواطنين إلى مدن تفتقر لأبسط الخدمات. بين استغلال السماسرة لأهالي سيناء، واستغلال ملاك البيوت في “شارع الرزاز”، وقع المستأجرون (السكان) ضحايا لعاشقي المال، حيث أشارت الدراسة إلى أن أغلب العقود التي تم توقيعها بين الملاك والمستأجرين في هذه المنطقة، كانت ودية ودون سند رسمي، ما جعل الملاك يطالبون بمبلغ مالي كبير لتوقيع عقود رسمية، حتى يحصلون على حقوقهم من الدولة في حالة التهجير.
إخلاء وسط معاناة ما يقدمه المسؤولون من وعود معسولة للمواطنين، من أجل إقناعهم بالتهجير، لم يكن إلا محاولة لتنفيذ عمليات الإخلاء فقط، دون النظر إلى تنفيذ الوعود التي يقر الواقع أنها شبه مستحيلة من الناحية الزمنية. وحتى مع تنفيذ الوعود فإن الضرر الواقع سيكون أكبر بكثير من أي تعويضات، فالمساكن البديلة غالبا ما تكون أقل مساحة ولا تكفي للأسر الكبيرة، فضلا عن أنها تقع في مناطق نائية، ما يستلزم من المواطنين أموالا يومية إضافية للذهاب من وإلى العمل لبعد المسافة، في حال سهولة توافر وسيلة المواصلات المناسبة. بالحديث عن حالات التهجير، ليس هناك مثال أوضح مما عاشه أهالي سيناء في المدّة الأخيرة، حيث استجابوا لقرار إخلاء منطقتهم، لدواع أمنية، رغم المعاناة والصدام مع طبيعتهم الاجتماعية الرافضة لترك هذه البيئة، لأجل انتظار مدينة رفح الجديدة التي وعدت بها الحكومة لتكون بديلا عن مساكنهم ذات المساحات الشاسعة. تعددت الأسباب والتهجير واحد ما بين التهجير المؤقت حتى تحرير الأرض في وقت الحروب، أو الحرب على الإرهاب، أو التهجير الدائم بسبب المشروعات الكبرى، وحماية واكتشاف الآثار في الأقصر، تتعدد حالات التهجير في مصر، فعلى مدار أكثر من مئة عام شهدت منطقة النوبة سلسلة من عمليات التهجير والنزوح لسكانها، وصلت ذورتها عند تهجير 18 ألف أسرة أثناء بناء السد العالي، في جنوب مصر. 37 بالمئة من الكتلة العمرانية في مصر عشوائيات أهالي النوبة الذين لا زالوا يبحثون عن حلم العودة إلى أرضهم، مرت عملية تهجيرهم على أربع مراحل، بدأت عام 1902 مع بناء خزان أسوان، الذي ارتفع معه منسوب المياه لتغرق 10 قرى نوبية. وجاءت المرحلة الثانية عام 1912 أثناء التعلية الأولى لخزان أسوان جراء ارتفاع منسوب المياه وإغراق 8 قرى، وبعد عشرين عاما جاءت المرحلة الثالثة مع التعلية الثانية للخزان وأغرقت معها 10 قرى. مشروع السد العالي، أحد أكبر مشاريع النهضة العملاقة في تاريخ مصر الحديث، شهد بناؤه الهجرة الأكبر للنوبيين، بتهجير 18 ألف أسرة من أهالي النوبة إلى هضبة كوم أمبو وإسنا، بعد أن تسببت (بحيرة ناصر) في إغراق قرى نوبية كثيرة في مصر وشمال السودان. وذهب الرئيس الراحل جمال عبدالناصر وقتها إلى النوبة وألقى خطابه الشهير بجوار معبد أبو سمبل وتقديم وعده أن الحياة سوف تصبح أفضل، وسيشارك النوبيون في الحياة الصناعية وليس الزراعية فقط، ويعم الخير والنماء، وبعد الخطاب بثلاث سنوات بدأت هجرة النوبيين، خلال 244 يوما، وفقا لرواية حسن دفع الله، المسؤول الإداري الأول في مدينة حلفا النوبية، في كتابه (هجرة النوبيين.. ﻗﺼﺔ هجرة ﺃﻫﺎﻟﻲ ﺣﻠﻔﺎ). العدوان الثلاثي على مصر، الذي وقع في عام 1956، كان سببا كافيا لتهجير أهالي مدن القناة الثلاث (السويس وبورسعيد والإسماعيلية)، وهي صاحبة تاريخ طويل مع التهجير المؤقت بسبب الحروب. مصطفى علي، أحد العاملين في هيئة قناة السويس وممن شاركوا في المقاومة الشعبية، روى لـ”العرب”، أنه أثناء قصف مدينتي السويس وبورسعيد، تم وضع خطة لتهجير الشيوخ والأطفال والنساء، وتركوا الشباب والرجال للدفاع عن بورسعيد، وانتهى هذا التهجير بعودة السكان إلى مدنهم في مارس 1957. وأضاف أنه مع نكسة 1967 وحتى نصر أكتوبر عام 1973، تمت أكبر عملية تهجير في مدن القناة، وقدر عدد المُهجرين بنحو مليون مواطن، موضحا أن التهجير كان اختياريا. وفي 1968 أصدرت القيادة في مصر قرارا بتهجير أهالي القناة، وبقيت نسبة بسيطة منهم وهؤلاء يطلق عليهم لقب “المستبقون”، لمشاركة الجيش من خلال أعمالهم وحرفهم، وتم توزيع السكان على 14 محافظة في دلتا مصر، على رأسها دمياط والمنصورة والزقازيق. أزمة الإسكان يعيشها الشعب المصري منذ عشرات السنين خاصة مع زحف السكان إلى المناطق الحيوية التهجير عاد إلى صعيد مصر مرة أخرى عام 2006، وتحديدا في محافظة الأقصر، حيث تم تهجير سكان نجوع القرنة القديمة الذين يقيمون في منازلهم منذ 200 عام فوق المناطق الأثرية بالبر الغربي للأقصر، ونقلهم إلى قرية أخرى استعدادا لأعمال الكشف عن 950 مقبرة أثرية. وفقا لتصريحات اللواء سمير فرج، رئيس المجلس الأعلى لمحافظة الأقصر آنذاك، تضمن المشروع تهجير ونقل 3200 أسرة من سكان المقابر في منطقة القرنة، بتكلفة إجمالية قدرها 180 مليون جنيه (30 مليون دولار آنذاك)، منها 50 مليون جنيه من الميزانية العامة للدولة ومثلها من وزارة التعاون الدولي، و60 مليونا مناصفة بين وزارتي الثقافة والسياحة، وتعتبر هذه العملية الأعلى تكلفة تحملتها الدولة في سبيل نقل الأهالي إلي مكان آخر، حيث تم بناء 700 وحدة سكنية على مساحة 180 مترا للوحدة، منها 80 مترا مبان و100 متر ملحقة بالوحدة لاستخدامات الأهالي. تهجير أهالي القرنة يعد من أنجح عمليات التهجير الطوعي، قياسا بما قدمته الحكومة المصرية في أماكن أخرى، إلا أن الأهالي اعترضوا عليها نظرا لغياب البعد الاجتماعي عنها وعدم مراعاة احتياجاتهم المعيشية المختلفة. ومهما كانت أسباب التهجير ودوافعه، تبقى المسألة مثار قلق مزدوج، قلق الأهالي الذين يغادرون “مواطنهم” بكل ما فيها من مظاهر استقرار اجتماعي، يمثله المنزل والعائلة والقبيلة، واقتصادي، لأن أغلب المناطق التي شهدت عمليات تهجير هي مناطق زراعية بالأساس. أما بالنسبة إلى العشوائيات، التي وصفتها صحيفة “غارديان” البريطانية بأنها “واحدة من الألغاز الكبرى في الشرق الأوسط”، فتلك نواة أزمة أكبر، تبدأ بأزمة السكن وتنتهي بأزمة اجتماعية وأمنية نتيجة انتشار الفقر والبطالة في صفوف سكان هذه المناطق. ليشكل التهيجر بكل أنواعه جزءا من أزمة السكن العامة التي تعيشها مصر، وتعتبر إحدى أبرز الأزمات الاجتماعية الكبرى في البلاد. أزمة الإسكان في مصر مشكلة مزمنة تتفاقم على مر السنوات ولم تأخذ نصيبها من البحث و الدراسة الجادة والحلول التي تتخذها الحكومات المتعاقبة لا تعدوا عن كونها مسكنات أكثر منها علاج حقيقي للأزمة المتفاقمة. ويرى مختصون أن الأزمة مرتبطة بممارسات خاطئة في سياسات الإسكان في مصر منذ ستينات القرن الماضي وما بعدها، ومنها ما يتعلق بإتاحة الأراضي والتمويل وثقافة السكن والمضاربة على العقارات في فترات مختلفة. |