بوادر للعصيان المدني فى مصر :
من غزل المحلة.. إلي طب الأزهر.. إلي الأب مكسيموس.. إلي المحامين الليبراليين

سعد الدين ابراهيم   في السبت ١٦ - ديسمبر - ٢٠٠٦ ١٢:٠٠ صباحاً


هذا المقال يعدد بودار العصيان المدني فى مصر من حالات مجابهة الاستبداد و الخروج عن طاعة ولاة الأمر فى سبيل تحقيق مصالح وحاجات مشروعة ..

بقلم  د.سعد الدين ابراهيم


شهدت الساحة المصرية في الآونة الأخيرة مزيداً من محاولات كسر القوالب الجامدة، والقيود الحديدية المفروضة علي المجتمع، وليست الدولة وحدها هي التي تضع هذه القوالب أو تفرض هذه القيود، ولكن تشارك في هذه المهمة الكنيسة والأزهر، والنقابات المهنية والعمالية. ويجمع بينها استمرار الفكر التسلطي القديم والممارسة الاستبدادية، وفي مقابل ذلك هناك عناصر التحدي الجديدة التي تنشد التعددية، وتوسيع الفضاء العام، والارتفاع بسقف الحرية، وفي النصف الأول من شهر ديسمبر ٢٠٠٦، شهدنا عدة نماذج من هذا الصراع بين القديم والجديد. ورغم أن المعارك ما زالت في بدايتها، فإنه من المفيد أن نرصد تجلياتها، ونتأمل الدروس المستفادة من تجاربنا وتجارب الآخرين، حتي يمكن ترشيد هذا الصراع الحتمي، والحرص علي إبقائه صراعاً سلمياً.

.. المعركة النقابية

كان إضراب، ثم اعتصام عمال مصنع المحلة في الأسبوع الأول من ديسمبر، احتجاجاً علي سياسات إدارة الشركة، وامتناعها عن صرف حوافز ومكافآت ـ يعتقد العمال أنها حقوق مكتسبة لهم ـ مؤشراً مهماً لخروج النقابة الفرعية للمصنع عن النقابة العامة، بل عن الاتحاد العام لعمال مصر، فهذا الأخير بهيكله وقياداته قد تحوّل خلال نصف القرن الأخير إلي امتداد بيروقراطي للأجهزة الحكومية والأمنية في مصر، وحيث لم تعد الحركة العمالية في ضوء ذلك تملك استقلالها، فإن النقابات والاتحاد الذي فُرض عليها لم يعد يعبّر حقيقة عن مصالح العمال أو ينطق صدقاً بأصواتهم، وزاد إحساس العمال بالقهر أن انتخاباتهم الأخيرة لم تتم بحرية ونزاهة، فجاءت نتائجها الرسمية المعلنة مخالفة لإرادة غالبية العمال، وبالتالي شعروا بأن إرادتهم، وهي أغلي ما يملكون، قد زُورت، وتم اغتصابها، بواسطة المباحث، لحساب الحزب الوطني الحاكم.

ولعل إضراب عمال شركة غزل المحلة، ثم اعتصامهم لعدة أيام، رغم كل محاولات الأجهزة الرسمية والمدنية للالتفاف عليهم، وشق صفوفهم، ثم ترهيبهم، والتهديد بتشريدهم، وصمودهم إلي أن تحققت مطالبهم، هو أحد قصص نجاح العصيان المدني في مصر. وهو نجاح لم يكن فقط من أجل مطالب فئوية نقابية، ولكنه كان أيضاً نجاحاً سياسياً ضد تسلط الأجهزة الأمنية واستبداد النظام الحاكم.

وفي مقال أخير لنا عما حدث في أوروبا الشرقية منذ ربع قرن بعنوان «تعديل ٧٦ و٧٧ كبديل للفوضي» (المصري اليوم ٩/١٢/٢٠٠٦) ذكرنا كيف كانت الشرارة الأولي هي إضراب نقابة عمال بناء السفن في بولندا (١٩٨٠)، بسبب ارتفاع ثمن اللحوم، وكان إضراب تلك النقابة بالمخالفة للاتحاد العام لعمال بولندا، الذي كان يدور في فلك الحزب الشيوعي البولندي الحاكم، أي الأقرب للحزب الوطني واتحاد عمال مصر، وبدلاً من تخوين نقابة بناء السفن في بولندا، انضمت إليها نقابات أخري، فيما عُرف وقتها بتنظيم «تضامن» (Solidarity)، والذي استمر يناضل لتسع سنوات إلي أن أسقط النظام الشيوعي، في أوائل عام ١٩٨٩، وسرعان ما انتقلت العدوي إلي بقية بلدان أوروبا الشرقية، فتساقطت أنظمتها الشمولية تباعاً، بما في ذلك الاتحاد السوفيتي نفسه، الذي أصبح أثراً بعد عين.. إن ما فعله عمال شركة غزل المحلة مستقلين، وبلا استئذان من أحد، هو بداية لكسر القالب الحديدي الذي تم حشد كل النقابات العمالية فيه، في تنظيم هرمي شبه فاشستي، تحت اسم اتحاد عمال مصر، الذي توقف عدة عقود عن التمثيل الحقيقي للطبقة العاملة أو الدفاع عن مصالحها، ولعل تلك تكون أيضاً بداية لتعددية نقابية حقيقية، حتي لو ظل الاتحاد العام قائماً، علي شكل «فيدرالية» للنقابات، يكون فيها للأخيرة حق الحركة الذاتية.

.. الاتحاد الطلابي الموازي

من نفس المنطلق، وثورة علي الاتحاد العام لطلاب الجامعات، الذي هو أيضاً أشبه بتنظيم الحزب الواحد، وتدير شؤونه مباحث أمن الدولة، حيث هي التي توافق أو تعترض علي أسماء المرشحين في الانتخابات الطلابية، قامت جموع من الطلاب، بتأسيس اتحاد آخر موازٍ، أطلقوا عليه اسم «الاتحاد الحر لطلاب الجامعات»، ونظموا انتخاباتهم الحرة المستقلة عن انتخابات الاتحاد الطلابي القديم، الذي أصبح يعرف باسم «الاتحاد الحكومي»، وردت الأجهزة البيروقراطية في الجامعات، بتأديب من تم انتخابهم في جامعاتهم وكلياتهم، ومنهم اتحاد طلبة كلية الطب بجامعة الأزهر، ورغم التعسف في هذا القرار، والالتماس السلمي من الطلبة لإدارة الجامعة بإعادة النظر في قرار فصل زملائهم، فإن الإدارة أصرّت علي التمسك بقرارها. فما كان من مجموعة من الطلاب المتضامنين مع زملائهم المفصولين، إلا الاعتصام أمام مكتب رئيس الجامعة. ثم ادعوا أن الأمن قد تحرش بهم، فما كان منهم إلا استبدال ملابسهم بملابس الميليشيات العسكرية،

 ووضعوا الأقنعة علي وجوههم، ثم بدأوا استعراضاً لقوتهم بإجراء تدريبات في فنون الكاراتيه والكونغ فو، أمام بقية الطلاب وهيئة التدريس وكاميرات وسائل الإعلام المحلية والعالمية، وقيل إن رئيس جامعة الأزهر قد تراجع عن قرار فصل أعضاء الاتحاد الموازي لكلية الطب، وقامت ثائرة وسائل الإعلام الرسمية، التي ألقت بمسؤولية ما حدث علي جماعة الإخوان المسلمين، وحاولت قيادات هذه الجماعة التنصل مما حدث في البداية، ثم التقليل من شأن ما حدث.. وبصرف النظر عن الحقيقة، فإن غباء استبداد أجهزة اتخاذ القرار، سواء في حالة عمال المحلة الكبري أو طلبة كلية طب الأزهر، هي التي تدفع الناس إلي اللجوء للعصيان المدني، وهو بالمناسبة أمر مشروع، وهو بديل سلمي للعنف، كما أن الأصل في الاجتماع البشري، هو أن الناس تلدهم أمهاتهم أحراراً، وهم بإرادتهم الحرة الذين ينظمون أنفسهم في جماعات وروابط واتحادات ونقابات، فلماذا تتدخل أجهزة الدولة في أمر ارتضاه الطلاب لأنفسهم، حتي لو كانوا إخواناً مسلمين أو ماركسيين أو ناصريين، أو حتي شياطين، ما داموا لا يلجأون لعنف، أو يخرقون قانوناً.

.. الأب مكسيموس والكنيسة القبطية

وضمن نفس الاتجاه الصاعد في المجتمع المصري لكسر القوالب الجامدة، خرج علينا منذ عدة أشهر، أحد القساوسة الأقباط الأرثوذكس، بالإعلان عن ميلاد طائفة مسيحية جديدة، لها كنيستها المستقلة، وشرائعها وقواعدها وشعائرها الخاصة بها، وربما أحد وجوه الإثارة في دعوة الأب مكسيموس، هو أن الطائفة الجديدة تبيح الطلاق للأقباط الأرثوذكس، الذين ينضمون إليها، وهو أمر محرم عليهم الآن، إلا في ظل قواعد وشروط تعجيزية أو مهنية في نظر البعض، مثل ثبوت الزني أو الاعتراف به من أحد الزوجين. ومرة أخري ثارت ثائرة أتباع الكنيسة الأم ـ وهي التي تضم أكثر من ٩٠% من مسيحيي مصر. هذا دون أن تراجع الكنيسة القبطية الأرثوذكسية نفسها، أو تعدل من بعض قواعدها الجامدة، التي لم تتغير طوال الألف سنة الأخيرة. وحقيقة الأمر تاريخياً، هي أن الأديان تتفرع إلي ملل، ثم إلي مذاهب، وإلي طوائف، حينما يتجمد الأصل، ويتوقف أو يعجز عن تلبية المطالب والحاجات المستجدة لأتباعه، هذا ما حدث في الإسلام واليهودية، والمسيحية في بلاد الدنيا كلها. وفي الولايات المتحدة، هناك ما يقرب من أربعمائة مذهب وطائفة ونحلة بين المسيحيين أنفسهم، ولم يؤثر ذلك لا علي المسيحية ولا علي أمريكا.

وما يصدق علي الطائفة الجديدة للأب مكسيموس، يصدق علي البهائية، وعلي الشيعة بكل تفريعاتها. إن التعددية في الطبيعة، وبين البشر، هي الأساس. والمطلوب فقط هو الإدارة السلمية لهذا النوع وهذه التعددية.

.. الكهنوت الأزهري الجديد

كتب المفكر الإسلامي جمال البنا يشكو من هرولة أزهرية نحو كهنوت منفرد، يقفل باب الاجتهاد علي لجنة الإفتاء بمجمع البحوث الإسلامية، وهو يعارض هذا الأمر بشدة، فمقولة وقف الفتوي علي أهل «الاختصاص»، وهو ما يعني الأزهريين من خريجي كليتي الشريعة وأصول الدين، يعتبر افتئاتاً علي غيرهم من المسلمين المجتهدين، ومنهم بالطبع الأستاذ جمال البنا نفسه، الذي كتب في شؤون الدين من المجلدات ما لم يكتبه أي أزهري معاصر في العقود الخمسة الأخيرة، وتكفي الأجزاء العديدة لعلمه الموسوعي «نحو فقه جديد»، الذي فتح به آفاقاً لم يطرقها أي أزهري معاصر من «أهل الاختصاص»، بل ربما لو كان أهل الاختصاص من المجددين المبدعين، وليسوا من المقلدين الجامدين، لما فسدت كثير من أمور ديننا ودنيانا.

إن العبرة في أمور الفتوي أن يستمع إليها، ويناقشها، ثم يقتنع بها المؤمن، ويسترشد بها في ممارساته الدينية أو الدنيوية، وللمؤمنين حق الاختيار بين فتاوي الفقهاء، الذين قد يختلفون، والذين في خلافهم رحمة لذوي الألباب، فليكف الأخوة الأزهريون «من أهل الاختصاص» عن محاولات احتكار التفسير والفتوي، وليدعوا تفسيراتهم وفتاواهم هي التي تتحدث عن صدق وتميز اجتهاداتهم، دون إنكار هذا الحق علي غيرهم في مصر أو دار الإسلام الواسعة.

.. نقابة المحامين الليبراليين

نقابة المحامين هي أعرق النقابات المهنية في مصر والوطن العربي والعالم الإسلامي، وقد كانت منذ إنشائها، قبل قرن من الزمان، حصناً لحريات، ممارسة بين أعضائها، أو دفاعاً عنها لأبناء مصر كلها، وكان زعماء مصر الليبرالية طوال القرن العشرين من أعضائها البارزين: مصطفي كامل، وسعد زغلول، ومصطفي النحاس، وأحمد لطفي السيد، وفتحي رضوان، وفؤاد سراج الدين..ولكن النقابة في العقود الأربعة الأخيرة تعرضت لاختراق وهيمنة حكومية مستترة، من خلال الاتحاد الاشتراكي، ثم لسيطرة سافرة من خلال وضعها تحت الحراسة، إلي أن استطاعت المحامية القديرة فاطمة ربيع، بدأبها ومثابرتها، أن تحرر النقابة من الحراسة، وتعيدها لأصحابها الحقيقيين، ولكن سرعان ما اشتد الصراع بين المحامين من الناصريين والإخوان المسلمين، وشعرت أغلبية المحامين، الذين لا ينتمون لأي من المعسكرين، بالغربة في نقابتهم، ولكسر هذه الغربة، بادر عدد من شباب المحامين الليبراليين بتكوين اتحاد لهم داخل النقابة، يحمل نفس الاسم، ولكن عندما بدأوا نشاطهم الفكري، انقضت عليهم جحافل الفكر التسلطي، ومعها الصحافة المباحثية الصفراء.

لقد فكر المهندسون، الذين لاتزال نقابتهم تحت الحراسة، أن ينشئوا نقابة موازية، وحسناً فعل اتحاد المحامين الليبراليين بالتريث في التفكير عما فكر فيه المهندسون، أو ما قام به فعلاً طلاب الجامعات باتحاداتهم الموازية، ونرجو ألا يضطروا لذلك، وأن يرفع خصوم الليبرالية أيديهم عن نقابة المحامين، ويكفوا عن ابتزاز وإرهاب اتحاد المحامين الليبراليين.


 
 

اجمالي القراءات 7986
أضف تعليق
لا بد من تسجيل الدخول اولا قبل التعليق