الخوف: أيديولوجيا السّلطة

عثمان محمد علي   في الخميس ١٦ - أبريل - ٢٠٠٩ ١٢:٠٠ صباحاً


الخوف: أيديولوجيا السّلطة

بقلم: جيلاني العبدلي

لدراسة ظاهرة الخوف من تبعات الانشغال بالشّأن العام عند شرائح واسعة من التّونسيين لا بدّ من سرد الوقائع الثّلاثة التالية من وقائع كثيرة لازالتْ تطفو على سطح ذاكرتي:



الأولى أني لاحظتُ خلال المسيرة التي جابتْ شارع باريس بوسط العاصمة (في سنة 2003) احتجاجا على العدوان الأمريكي البريطاني على العراق، أن كثيرا من المواطنين ولّوا الأدبار، خوفا من تهمة المشاركة وسوء العاقبة، فارّين في الأنهج الفرعيّة لمّا باغتتهم الجموع الغفيرة المتحرّكة في اتّجاه ساحة الجمهوريّة.

والثّانية أنّ شابا كان كلّما تسلّم منّي صحيفة للمعارضة طواها طيّا، ولفّها لفّا، ودسّها في الجيب الداخلي لسترته دسّا، في كثير حذر من النّاظرين عسى أن يقرأها في مخبئه السّري داخل غرفته، بعيدا عن أنظار العائلة كما أسّر لي بذلك ذات مرّة.

والثالثة أنّ مُدرّسا قصّ عليّ أنّه بات ليلته في حُلم مُرعب بمخفر من مخافر الشرطة تحت الاستنطاق والتعذيب وانتزاع الاعترافات، وفي اليوم الذي أتْبع فيه قراءته صحيفة المعارضة بمشاهدة شريط تلفازي سياسي عرف فيه البطل ما يلقاه في العادة كلّ سجين سياسي في السّجون العربيّة.



هذه الوقائعُ الثلاثة التي سُقتها، ليست إلاّ أمثلة حيّة من ظاهرة عامّة لافتة للانتباه ومثيرة للاستغراب، هي ظاهرة الخوف، بل الهوس الذي جعل التّونسي خاضعا لرقابة ذاتيّة صارمة في جميع حركاته وسكناته، محكوما بحذر وريبة مفرطين، وبحالة من الانفعال والتّوتّر والتمزّق ناجمة عن توقّع خطر قادم أو شرّ داهم في كلّ حين وأوان.

الخوف في الذّاكرة الشعبية

ذاكرتُنا الشّعبيّة التونسيّة تزخرُ بسيل من الأقوال والأمثال الشعبيّة التي تؤسّسُ لثقافة الخوف، وكثيرا ما يستنجد التونسي بهذه الأمثال ويتحصّن وراءها لتبرير خوفه من مواجهة المشكلات المتوقّعة ويكفي المتأمل في موضوع الخوف، أن يتصفّح الخطاب اليومي لعامّة المواطنين، ليدرك ضخامة شبح الخوف الجاثم على صدور كثير من التّونسيين، وفي أغلب الأحيان دون مُبرّر موضوعي.

فإذا سمعت البعض يقول "كلمة لا ما تجيب بلا والّلي خاف نجا" أو "لا تدخّل يدّك للمغاغر ولا تلسعك العقارب" أو "آش يلزّك حتّى الوادي يهزّك" أدركت بوضوح غياب إرادة المواجهة وعدم الاستعداد لدفع ثمن المواقف الرافضة مهما كان حجم الثّمن.

فالكثير يردّد أنّ " الشّجاعة تخلّف الذّل" وأنّ "الخوف يعلّم السّبق" إيحاء بأنّ للخوف مزايا، وإيهاما بأنّ للقعود عن مقارعة الأخطار محاسن مادامت القوى غير متكافئة، كقولهم "قادم على جبل بقادومه" أو "اليد ما تعاند لشفة" خاصة إذا كان الطّرف المواجه هو السّلطة السّياسيّة، إذ "الّلي خصيمو الحاكم أش كون نصيرو" الأمر الذي يستدعي "خاف ربّي وخاف اللي ما يخافش ربّي".

الأقوال في هذا الاتجاه كثيرة والأمثال شتّى، وليس قصدنا في هذا المقام حصرها وتدوينها، إنّما المقصود هو تبيّن عمق الخوف عند التّونسي في ما يتّصل بالشأن العام، ومدى تجذّره في الذّاكرة الشّعبيّة، لإدراك حجم الخطورة التي تمثّلها هذه الظّاهرة على الصّعيد الشخصي والمجتمعي.

مخاطر الخوف

الخوف ظاهرة سيكولوجيّة شلّتْ ولازالت تشلّ قدرة كثير من التونسيين على التفاعل الاجتماعي والتّكيّف البنّاء، وأعاقتْ كلّ نشاط عقلي وكلّ أداء ميداني، وغذّتْ العجز والإحباط واليأس واختيار الوقوف على الرّبوة أمام سيل جارف من المشكلات الخطيرة المتنامية يوما بعد يوم على الصّعيد الذّاتي أو على الصعيد الاجتماعي.

وقد نجحتْ هذه الظّاهرة في تقييد حركة المواطن وحرّيته وفي تحديد اندفاعه، لكي يبقى مشغولا بالتّدمير الداخلي يفرضُ على نفسه حالة طوارئ دائمة ورقابة ذاتيّة مًدمّرة، فلا يكلّفُ الأجهزة الأمنيّة المختصّة حتّى عناء الاستخبار عنه أو مراقبته، يعاين مظاهر الفساد الإداري والمالي وغيرها، ولا يمتلك شجاعة التعبير عنها أو الشّهادة عليها لعدم إحساسه بالأمن.

الخوف: أيديولوجيا السلطة

إن النهج الذي سلكته السلطة والتجمّع الدستوري الديمقراطي (الحزب الاشتراكي الدستوري سابقا) في احتكار نظام الحكم مدّة تزيد عن خمسين سنة، وفي تسخير أجهزة الدولة ومؤسساتها للتخلّص من الخصوم السياسيين بكافة أطيافهم، بالمداهمات والاعتداءات والاعتقالات والسجن وقطع الأرزاق، وتوظيف وسائل الإعلام في تشويه المخالفين، وفرض عزلة صارمة عن الجمعيّات والأحزاب المستقلّة ومحاصرة مقراتها، وتجفيف الساحة الثقافيّة من مظاهر التنوّع والاختلاف.

هذا النهج الذي بلغ ذروته في سنوات التسعين من القرن الماضي، أشاع ثقافة الخوف بين عامة المواطنين وخاصتهم، وأصبحت كلّ الأشياء تشتغلُ ضمن آليّة واحدة، وتخدمُ نظاما واحدا وحزبا واحدا، فلا يحقّ لأيّ كان أن يفكّر ويختلف خارج عقليّة السّلطة القائمة ونظامها، ومن يخرجُ عن هذا النّظام وتلك العقليّة، فإنّه يصبحُ خارجا عن القانون والعرف والوطن والدين.

لقد سخّر الحزب الأوحد المحتكر للحكم منذ نصف قرن ثقافة الخوف ليضبط إرهاصات الشعب التونسي، ويحبس تمرّداته الفكريّة والإنسانيّة الوطنيّة، وجعل كلّ شيء موظفا لمصلحة سلطان الخوف الذي أصبح ملازما للتلميذ في المعهد وللطالب في الجامعة وللموظّف في العمل وللكاسب في السوق وللجالس في المقهى وللسائر في الطريق....

فالجهاز الضّخم من قوّات الأمن وخلايا التّجمّع الدستوري الديمقراطي من شُعب ولجان أحياء متعاونين، لعبوا ولازالوا يلعبون أدوارا مختلفة في تخويف كل من تسوّل له النفس في التفكير خارج ما تسمح به السّلطة الأحاديّة المتحكّمة.

لقد صار الخوف إيديولوجيا الحزب الحاكم الهادفة إلى ترويض حركة المواطنين، وتقييد حرّياتهم وتنشئة جيل يلازم الربوة في صمت، لا يفعل فعلا، ولا يدلي بدلو من الشّأن العام، يشكّكُ في كلّ محاولة هادفة إلى تجاوز السّائد وإصلاح الأخطاء، جيل طاعته عمياء وانقياده سهل، يوفّر المناخ الملائم لاستمرار الأوضاع على ما هي عليه مهما ترتّب عن ذلك من مخاطر.

خاتمة

إن تحرير النّفوس من سلطان الخوف يعدّ مدخلا أساسيّا لتحرير العقول وتفجير جميع الطاقات الكامنة للإنسان التونسي، وهي مسؤوليّة كبرى ملقاة على عاتق السلطة القائمة قبل غيرها، الأمر الذي يدعوها إلى التعجيل بإطلاق الحرّيات العامة، وتحرير العمل السياسي، وتحريض الناس على التنظّم والتّحزّب، ضمانا للفعل الجماعي القانوني والسلمي، لا تخويفهم من المعارضة ونعتها بأسوإ النعوت، وهي مدعوّة أيضا إلى رفع الرقابة على وسائل الإعلام، والإقلاع عن تصفية الخصوم، والعمل على إعلاء شأن القانون، وفرض حياد الإدارة، وإشاعة مناخ من الثّقة والنزاهة والانفتاح والحوار، كشروط بديهيّة وأسباب حقيقيّة لتحقيق التنمية الاقتصادية والكرامة البشريّة واللحمة الوطنيّة.



جيلاني العبدلي: كاتب صحفي

Blog : http://joujou314.frblog.net

اجمالي القراءات 7216
التعليقات (1)
1   تعليق بواسطة   ايناس عثمان     في   الإثنين ٢٠ - أبريل - ٢٠٠٩ ١٢:٠٠ صباحاً
[37370]

وضاع الإبداع

ما يشعر به الإنسان العربي من خوف هو شعور يقتل ملكة الإبداع  فيه  فيظل الإنسان العربي منقادا  ليس قط سياسيا كما يسعى حكامه ، بل في كل مناحي الحياة حتى صار لا يجيد إلا التقليد ، وأن يسير دائما في المؤخرة  حتى لا يصيبه أي مكروه وهو لا يدري أن حالته هذه هي المكروه  بعينه


أضف تعليق
لا بد من تسجيل الدخول اولا قبل التعليق