ثلاث كلمات أفضت إلى إضعاف أميركا

زبيغنيو بريجنسكي   في الأربعاء ١٣ - فبراير - ٢٠٠٨ ١٢:٠٠ صباحاً


عملت "الحرب على الإرهاب" على خلق وتكريس ثقافة الخوف في أميركا. وكان رفع إدارة بوش لهذه الكلمات الثلاث لترقى إلى مستوى الرقية السحرية الوطنية منذ أحداث 11/9 المرعبة قد أحدث تأثيراً مؤذياً على الديمقراطية الأميركية، على النفسية الأميركية وعلى موقع الولايات المتحدة على الصعيد العالمي. وقد عمل استخدام هذه العبارة على إضعاف قدرتنا على أن نواجه بفعالية تلك التحديات الحقيقة التي يشكلها المتطرفون الذين ربما يستخدمون الإرهاب ضدنا.


إن مدى الضرر الذي أحدثته هذه الكلمات -وهي طريقة كلاسيكية في إلحاق الأذى بالذات- هو بالتأكيد أكبر من أي أحلام جامحة ربما كانت قد دارت في أذهان المخططين المتطرفين لهجمات 11/9 عندما كانوا يتآمرون ضدنا في كهوف أفغانستان القصية. والعبارة نفسها بلا معنى، فهي لا تحدد، لا السياق الجغرافي ولا أعداءنا المفترضين. ذلك أن الإرهاب ليس عدواً وإنما تكنيك من تكنيكات الحرب، والذي يقوم على التدجين السياسي عبر قتل أناس عزل وغير مقاتلين. لكن السر الصغير هنا ربما يكمن في أن غموض العبارة قد كان محسوباً بقصد (أو غريزياً) من قبل واضعيه. وقد أحدثت الإحالة المستمرة إلى "حرب على الإرهاب" إلى إنجاز هدف رئيسي واحد؛ لقد حرض نجوم ثقافة الخوف. والخوف يعطل العقل، يكثف المشاعة ويجعل من السهل على الساسة الديماغوجيين تحريك الجماهير لصالح السياسات التي يرغبون تطبيقها. وما كان لحرب الخيار في العراق أن تحظى بدعم الكونغرس الذي كسبته من دون الصلة النفسية بين صدمة 11/9 والوجود المفترض لأسلحة دمار شامل عراقية. كما أن الدعم الذي تمتع به الرئيس بوش في انتخابات عام 2004 كان قد حُرك بدورها جزئياً بفكرة أن "أمة في حالة حرب" لا تقوم بتغيير قائدها العام في منتصف النهر.
وهكذا، تم تغيير تيار الإحساس بالخطر الماثل وغير المحدد بدقة مع ذلك ليذهب في اتجاه مبرر سياسياً عن طريق تحريض فكرة قبول أننا "في حالة حرب". من أجل تسويغ "الحرب على الإرهاب، قامت الإدارة أخيراً باختلاق رواية تاريخية زائفة، والتي كان يمكن أن تصل حد النبوءة التي تحقق ذاتها. فعن طريق الزعم بأن حربها تشبه صراعات الولايات المتحدة السابقة ضد النازية والستالينية (بينما تهمل حقيقة أن ألمانيا النازية وروسيا السوفياتية كانتا قوتين عسكريتين من الطراز الأول، وهي مكانة لم ولن تستطيع القاعدة أن تبلغها)، فإن الإدارة ربما تهيئ الأرضية لخوض حرب مع إيران. ويمكن لمثل هذه الحرب عندئذ أن توقع أميركا في صراع مطول يمتد من العراق إلى إيران وأفغانستان، وربما الباكستان. إن ثقافة الخوف هي أشبه بالجنّي الذي أطلق من الزجاجة. وهي تكتسب الحياة والديمومة من ذاتها -ويمكن لها أن تصبح موهنة للعزيمة والأخلاق. وأميركا اليوم لم تعد هي الأمة الواثقة بنفسها وصاحبة التصميم التي ردت على هجوم بيرل هاربر؛ ولا هي أميركا التي سمعت من زعيمها في لحظة أخرى من لحظات الأزمة تلك الكلمات القوية "إن الشيء الوحيد الذي ينبغي أن نخافه هو الخوف نفسه"؛ ولا هي أميركا الهادئة التي خاضت الحرب الباردة بإصرار هادئ رغم معرفتها بأن حرباً حقيقية كان يمكن أن تقوم عرضاً خلال دقائق وتتسبب بموت 100 مليون أميركي خلال بضع ساعات فقط. لقد أصبحنا الآن منقسمين، غير واثقين وقابلين بالإمكان للوقوع في براثن الرعب في حال حدوث عمل إرهابي آخر في الولايات المتحدة نفسها. تلك هي نتيجة خمس سنوات من غسل الدماغ المستمر على المستوى الوطني حول موضوع الإرهاب، وعلى نحو لا يشبه أبداً ردود الفعل ساكتة الصوت في العديد من الدول الأخرى (بريطانيا، إسبانيا، إيطاليا، ألمانيا، اليابان، على سبيل المثال لا الحصر)، والتي عانت أيضاً من آلام الأعمال الإرهابية. وفي آخر تبرير له لحربه في العراق، ذهب الرئيس بوش حد الزعم على نحو غرائبي بأن عليه أن يستمر في خوضها خشية أن تعبر القاعدة المحيط الأطلسي لتطلق حرباً إرهابية هنا في الولايات المتحدة.إن مثل هذا السلوك من بيع الخوف، معززاً بمتعهدي الأمن، بوسائل الإعلام وصناعة التسلية، إنما يولد لنفسه زخمه الخاص. كما أن متعهدي الإرهاب الذين عادة ما يوصفون بأنهم خبراء الإرهاب، منخرطون بالضرورة في المنافسة من أجل تبرير وجودهم.
وهكذا يكون دورهم هو إقناع الجماهير بأنها تواجه مخاطر جديدة. وذلك يضع فرق قيمة على تقديم سيناريوهات تتمتع بالصدقية عن أعمال عنف أكثر إرهاباً والتي لن تتوقف، حتى يذهب الأمر في بعض الأحيان بالبصم على حدوثها. إن القول بأن أميركا قد أصبحت غير آمنة وموسوسة هو أمر يكاد يستجيب بالكاد للنقاش. وقد أوردت دراسة حديثة أن الكونغرس كان قد تعرف عام 2003 على 160 موقعاً باعتبارها أهدافاً وطنية هامة محتملة للإرهابيين المحتملين. وبوجود جماعات الضغط لترجيح الكفة، نمت القائمة في نهاية تلك السنة لتشمل 1.849 موقعاً. وبحلول نهاية عام 2004، إلى 28.360، وعام 2005 إلى 77.769. وتضم قاعدة البيانات الوطنية للأهداف المحتملة الآن حوالي 300.000 موقع فيها، بما في ذلك "برج سيرز" في شيكاغو ومهرجان التفاح والخنازير في ألينوي. وفي الشهر الماضي فقط، هنا في واشنطن، وبينما كنت في طريقي لزيارة مكتب صحافي، كان علي أن أمرّ في واحد من أكثر "الفحوص الأمنية" غرائبية والتي انتشرت تقريباً في كل مباني المكاتب الخاصة في العاصمة، كما وفي مدينة نيويورك. فقد طلب مني حارس بزي رسمي أن أملاً نموذجاً ما، وأن أريه بطاقة هويتي، وأن أفسر في هذه الحالة الغرض من زيارتي كتابة. فهل يقوم إرهابي زائر بالإشارة كتابه إلى أن الهدف هو "تفجير المبنى"؟ وهل سيكون الحارس قادراً على اعتقال مثل هذا المفجر الانتحاري المحتمل الذي يعترف بفعلته؟ ولجعل الأمر أكثر غرائبية، فإن محلات التسوق الكبيرة، بحشودها الكبيرة من المتسوقين، لا تنطوي على أي إجراءات مماثلة. وذلك هو حال صالات الحفلات ودور السينما. ومع ذلك، فإن مثل هذه الإجراءات "الأمنية" قد أصبحت روتيناً، وعلى نحو يهدر ملايين الدولارات ويسهم فوق ذلك في تكريس عقلية الحصار. لقد عملت الحكومة في كل مستوياتها على تحريض هذا الوسواس. ولك أن تتأمل على سبيل المثال تلك اللوحات الإلكترونية المعلقة على الطرق السريعة بين الولايات والتي تحث السائقين على "الإبلاغ عن النشاطات المثيرة للشك" (السائقين الذين يرتدون عمامات مثلاً؟). وقد قامت بعض وسائل الإعلام بتقديم إسهامها أيضاً. فقد وجدت قنوات الكيبل وبعض وسائل الإعلام المطبوع أن سيناريوهات الإرهاب تجتذب الجمهور، بينما يقدم "خبراء" و"مستشارو" الإرهاب المصداقية لتلك الرؤى القاتمة الرؤيوية التي يغذى بها الجمهور. وهكذا أصبح انتشار البرامج التي يظهر فيها "الإرهابيون" الملتحون باعتبارهم الأشرار الأساسيين. والتأثير العام لكل ذلك هو تعزيز الخطر غير المعروف والمحلق مع ذلك، والذي يقال بأنه يهدد باطراد حياة الأميركيين.
أما صناعة التسلية فقد قفزت بدورها وشدت أحزمتها للعمل. وهكذا جاءت المسلسلات والأفلام التي تتخذ فيها الشخصيات الشريرة سمات عربية مميزة، والتي تضاء أحياناً بتضمين إيماءات دينية، والتي تقوم باستغلال القلق العام وتحرض مشاعر رهاب الإسلام. كما أن أنماط الوجوه العربية، وخاصة في رسوم الكرتون في الصحف، باتت تصور أحياناً بطريقة تذكر على نحو محزن بالحملات النازية المعادية للسامية. وفي الفترة الأخيرة، امتد الأمر حتى أن بعض منظمات طلبة الجامعات أصبحت متورطة في هذه الدعاية، غافلة تماماً فيما يبدو عن الصلة المنذرة بين تحرضين الكراهيات العرقية والدينية وبين إطلاق جرائم الهولوكوست غير المسبوقة.إن المناخ الذي ولدته "الحرب على الإرهاب" قد شجع على الإزعاج القانوني والسياسي للعرب الأميركيين (وهم أميركيون مخلصون عموماً) بسبب سلوكات ليست جديدة عليهم. ولعل إحدى القضايا المتصلة بذلك هي المضايقات التي وردت في تقارير لمجلس العلاقات الأميركية الإسلامية بسبب محاولاته لأن يقلد، وعلى نحو ليس ناجحاً تماماً، لجنة الشؤون العامة الأميركية الإسرائيلية (آيباك). وكان بعض أعضاء مجلس النواب من الجمهوريين قد وصفوا أعضاء مجلس العلاقات الأميركية الإسلامية مؤخراً بأنهم "مدافعون عن الإرهاب" والذين لا ينبغي السماح لهم استخدام غرفة اجتماعات الكابيتول لاجتماعات الهيئة.إن التفرقة الاجتماعية، على سبيل المثال ضد المسلمين المسافرين جواً، قد أصبحت بدورها نتاجاً إضافياً غير مقصود. وعلى نحو غير مفاجئ، فإن العداء تجاه الولايات المتحدة، وحتى بين مسلمين لم يكونوا ليهتموا بغير ذلك بالشرق الأوسط قد تكثف، بينما باتت سمعة أميركا كرائد في دعم العلاقات البناءة بين الأديان والأعراق المختلفة وهي تعاني على نحو شائن.إن السجل يظل أكثر إقلاقاً في المنطقة العامة للحقول المدنية، ذلك أن ثقافة الخوف قد رعت عدم التسامح، ونزعة الشك بالأجانب وتبني إجراءات قانونية تغض من شأن القضايا الأولية للعدالة. وقد تم الالتفاف على مبدأ "بريء حتى تثبت إدانته" إن لم يتم تجاهله كلية، حيث تم احتجاز البعض -حتى من المواطنين الأميريكيين- لفترات طويلة بدون أي دليل قاطع وفعال.
وليس هناك من دليل قاطع معروف يقول بأن هذه الطريقة قد أثبتت نجاعتها في منح النشاطات الإرهابية، كما أن صدور إدانات بحق إرهابيين محتملين من أي نوع كانت قليلة جداً ومتباعدة. وذات يوم سيحس الأميركيون بالعار بسبب هذا السجل كما هو حالهم اليوم بسبب الحوادث الماضية في تاريخ الرعب الأميركي، حيث مارس الأغلبية سياسة عدم التسامح ضد الأقلية.وفي الغضون، أفضت "الحرب على الإرهاب" إلى إلحاق ضرر جسيم بالولايات المتحدة على المسرح الدولي. فالبنسبة للمسلمين، عمل التشابه بين المعاملة القاسية التي يتلقاها المواطنون العراقيون من الجيش الأميركي وبين ما يتلقاه الفلسطينيون من الإسرائيليين، عمل على تعزيز انتشار واسع لمشاعر العداء ضد الولايات المتحدة بشكل عام. وليست "الحرب على الإرهاب" هي التي تثير غضب المسلمين الذين يشاهدون الأخبار على شاشات التلفزة، وإنما هو الضحايا من العرب المدنيين. ولا تقتصر مشاعر الامتعاض على المسلمين، حيث أظهر استطلاع حديث لمحطة "بي بي سي" والذي أجري على 28.000 شخص في 27 بلداً والذين طلب إليهم تقويم دور الدول في الشؤون الدولية، ونتج عنه أن إسرائيل وإيران والولايات المتحدة قد صنفت على أنها الدول ذات "التأثير الأكثر سلبية على العالم". ويا لها من حسرة في أن يشكل ذلك بالنسبة للبعض محور الشر الجديد. كان يمكن لأحداث الحادي عشر من أيلول أن تفضي إلى تضامن كوني حقيقي ضد التطرف والإرهاب. وربما كان يمكن لتحالف من المعتدلين، بمن فيهم المعتدلون المسلمون، والمنخرطون في حملة لاستئصال شأفة شبكات إرهابية محددة ولحل الصراعات السياسية التي تغذي الإرهاب، ربما كان يمكن له أن يكون أكثر جدوى من حرب أميركية منعزلة إلى حد كبير على الإرهاب ضد "الفاشية الإسلامية" والتي تبنتها الولايات المتحدة على نحو ديماغوجي. ولا يمكن سوى لأميركا متمتعة بالتصميم العقلاني والمنطقي أن تعزز أمناً دولياً أصيلاً والذي لن يترك حينذاك فراغاً سياسياً ليتحرك فيه الإرهاب.
أين هو الزعيم الأميركي الذي يقول اليوم، "يكفي ما نلناه من هذه الهستيريا، أوقفوا هذا الهوس"؟ وحتى في وجه الهجمات الإرهابية المستقبلية والتي لا يمكن إنكار احتمال حدوثها، دعونا نكشف عن بعض المنطق. دعونا نكون أكثر إخلاصاً لتراثنا.

بقلم : زبيغنيو بريجنسكي : الواشنطن بوست

اجمالي القراءات 7149
أضف تعليق
لا بد من تسجيل الدخول اولا قبل التعليق