لماذا لم تتكرر انتفاضة ١٨ و١٩ يناير؟

د. عمرو الشوبكي   في الخميس ٢٤ - يناير - ٢٠٠٨ ١٢:٠٠ صباحاً


ربما يكون هناك حدثان تاريخيان أثرا في الرئيس مبارك حين كان نائبا لرئيس الجمهورية، وساهما في تشكيل طريقته في الحكم بصورة تختلف عن سلفه الرئيس السادات، الأولي كانت أحداث ١٨و١٩ يناير، والثانية اعتقالات سبتمبر الواسعة التي أعقبها اغتيال الرئيس السادات في ٦ أكتوبر ١٩٨١.



والحقيقة أن كلا الحدثين نسجا تقريبا خلفية الرئيس مبارك "السياسية"، وأضفيا علي طريقته الحذرة، مزيدا من الحذر، وربما مهارة أوسع في إحباط الشارع دون مواجهة مباشرة، ودشن بذلك طريقة جديدة ونادرة في الحكم لم نعرفها ليس فقط طوال عهدي ناصر والسادات، إنما منذ عهد مؤسس دولتنا الحديثة محمد علي.

وهذه الطريقة تقوم علي عدم مفاجأة الشعب بأي تغيير إيجابي أو سلبي، فلم نعرف زيادة صريحة في أسعار أكثر من سلعة في وقت واحد، كما حدث عشية ١٨و ١٩ يناير حين أعلنت الصحف القومية بطريقة أمينة زيادة محدودة في أسعار مجموعة من السلع مرة واحدة،

كما قامت هذه الطريقة أيضا علي عدم المواجهة المباشرة مع كل قوي المعارضة في وقت واحد، مع إبداء اهتمام خاص بالإخوان المسلمين، ليس لأنهم تنظيم ديني إنما لأنهم تنظيم قوي، وصارت مواجهة الأحزاب لا تتم بالمطاردة والاعتقال، إنما سمح لها أن تتحدث في الصحف وتشجب وتصرخ،

ولكنها اكتشف بعد قليل أن ليس لديها أي أمل في المنافسة علي شيء، لا السلطة كما هو مؤكد، ولا حتي التأثير في الشارع، فعادت وتفرغت للصراعات الداخلية، التي زادها غياب المواجهة الشاملة مع النظام كما فعل معها السادات في سبتمبر ١٩٨١، بصورة أفقدتها جانباً من القيم النضالية المفروض دفعها لانتزاع الإصلاح والديمقراطية، وصار شرط بقائها هو التخلي عن هذه القيم بحكم طبيعة الواقع المحيط وليس الاعتقالات.

وبهذا المعني إذا أردنا أن نتذكر مظاهرات ١٨ و١٩ يناير، بعد مرور ٣١ عاما علي وقوعها، سنجد أنها من شدة جسامتها وانتشارها من الإسكندرية إلي أسوان، عجزت قوات الأمن عن إيقافها، إلا بعد إلغاء قرارات رفع الأسعار التي كانت وراء اشتعال الأحداث، وفرض قانون الطوارئ، ونزول الجيش إلي الشوارع.

والحقيقة أن الزيادة في الأسعار كانت هزيلة مقارنة بالزيادات الحالية، وهو درس استفاد منه كثيرا الرئيس مبارك، لتمرير ما هو أصعب اقتصاديا واجتماعيا علي الشعب المصري دون أن يتعرض لاحتجاجات من هذا النوع، ولكن السؤال إلي متي؟.

الحقيقة أن الجماهير التي انتفضت في مصر منذ ٣١ عاما، كانت مستجيبة بصورة كبيرة لخطاب اليسار الذي حرك بشعاراته المختلفة الجانب الأكبر منها، خاصة أن الرئيس السادات كان له توجه واضح نحو اليمين يدافع عنه في كثير من الأحيان بصورة فجة وصدامية، ودخل في خصومة سياسية مع كل رموز اليسار، ومثل نموذجا مضادا لهم بالمعني الفكري والسياسي سواء في توجهاته الخارجية المتمثلة في توقيع اتفاقات كامب دافيد مع إسرائيل، والتحالف مع أمريكا، أو الداخلية بتبني سياسة الانفتاح الاقتصادي.

بالإضافة إلي ذلك كان العالم يعيش نهايات مرحلة الاستقطاب الأيديولوجي بين اليسار واليمين، والاشتراكية السوفيتية والرأسمالية الأمريكية، وبين النظم "التقدمية" العربية، والأخري "الرجعية"، وكان السادات حاسما أمره في الاصطفاف ناحية اليمين، وكان اليسار يعيش نهاية حلمه السياسي، وربما كانت الأزمة الاقتصادية وغلاء الأسعار ورقته الأخيرة.

بهذا المعني يمكن القول إن من حرك انتفاضة ١٨و١٩ يناير هو تيارات سياسية منظمة نجحت في أن تتواصل مع الجماهير ولو في قضية واحدة هي الغلاء، وواجهت نظاما محدد المعالم لديه مشروع سياسي محدد تصادمت معه.

وهذا في الحقيقة لم يحدث طوال الخمسة والعشرين عاماً الماضية، فإذا كان نظام الرئيس مبارك يمكن وصفه بأنه نظام يميني إلا أنه لم يقم بأي قرار صادم أو فجائي يثير غضب الناس، تاركا كل شيء لقدره، صانعا تحالفا جديدا يضم كل المتناقضات التي "تلصم" وضعا ولا تبني بلدا، ويتعايش فيها الشيء ونقيضه، فهناك الفاسدون والشرفاء، والمنتجون والعاطلون، وكثير من الجهلاء وقليل من المبدعين،

وتركت لأحزاب المعارضة مجالا للحركة ملبدا بالكوارث، فالمشاركة في الانتخابات تتطلب منها المشاركة بصورة ما في التزوير لكي تضمن فرص النجاح، والحفاظ علي "شكل" الحزب ومقراته يستلزم نسج علاقة ما بالحكومة وأجهزتها الأمنية، وصارت هناك أجنحة "معارضة" تفضلها الدولة وتفرضها علي أجنحة أخري داخل نفس الحزب أو التيار "المعارض".

وانقسم المجتمع إلي تيارات تتحرك علي ضوء تفاعلات الداخل في المال والتوازنات السياسية، وأخري تعبر عن الخارج بأفكاره وأمواله أيضا، وصارت هذه التباينات هي أحد جوانب الصراع الرئيسية داخل مصر كبديل عن الصراع مع السلطة كما حدث في عهد الرئيس السادات.

المؤكد أن حجم التفاصيل والمعارك الصغيرة والصراعات الفجة بين من يفترض أنهم في جماعة أو حزب أو مؤسسة واحدة صارت هي السائدة، نتيجة غياب أي قواعد تنظم المجال العام وفي القلب منه المجال السياسي، فكل الأساليب مباحة، وكل المخالفات تترك بلا حساب، إلا حين النجاح في بناء كيان له معني أو تنظيم جاد أو مؤسسة ذات تأثير، هنا تدخل الدولة بهدوء لإعادة الجميع إلي "المربع الباهت" من لا فعل والثرثرة علي توافه الأشياء.

والمؤكد أن مصر لم تشهد ١٨و١٩ يناير لأن جميع قواها السياسية قد تفككت وأنهكت في معارك جانبية نجح النظام في أن يستنزفها، ولكن المؤكد أن الخطر الذي بات يتصاعد منذ ٢٠٠٦ مع ظهور الاحتجاجات الاجتماعية، لا يمكن مواجهته علي طريقة الرئيس السادات باعتقال رموز اليسار ثم رموز المعارضة،

لأن كليهما ليس له علاقة بهذه الاحتجاجات، إنما صرنا لأول مرة أمام احتجاجات اجتماعية دون دور من النخب السياسية، فقادتها هم من أبنائها وزعمائها يمثلون نمطا جديدا يختلف عن زعامات الأحزاب والقوي السياسية، وقد دخلوا في مواجهة مطلبية مع النظام من أجل فقط تحسين الأجور وظروف العمل، نجحوا خلالها في استنزاف الحكم ودفعه إلي أن يقبل بمطالبهم.

ومن المؤكد أن هذه المطالب لن تتوقف، وأن الحكم لن يستطع أن يلبيها كلها في المرات القادمة، وهنا سنصبح بعد أكثر من ٢٦ عاما من حكم الرئيس مبارك أمام فرص حقيقية لانتشار انتفاضات عارمة لن يكون وراءها تنظيمات سياسية، وسيكون خطرها أنها ستواجه بقايا نظام وليس نظاماً كما حدث أثناء عهد الرئيس السادات، وبالتالي هي لا تحتاج إلي تعبيرات من نوع الثورة الشاملة أو القوي الوطنية، أو حتي تنظيمات سياسية، لأنها لا تعكس أي دلالة في الواقع.

فمن الواضح أننا سنشهد هذا العام انتفاضات متتالية وعشوائية، سيكون وقودها وسندها عشوائية "النظام" نفسه، وبالتالي فإنها ستضرب في مسار واحد هو الفوضي والتحلل والانهيار الداخلي، وفيها سندفع جميعا ثمنا باهظا لقضاء الحكم علي كل الكيانات المنظمة من أحزاب ونقابات ومؤسسات عامة، والذي يرغب أن يورث لنا هذا الوضع لربع قرن آخر.

اجمالي القراءات 6718
أضف تعليق
لا بد من تسجيل الدخول اولا قبل التعليق

اخبار متعلقة



مقالات من الارشيف
more