الاستشراق هدم للتخلف وبناء لو تعلمون

محمد البدري   في الإثنين ٣١ - ديسمبر - ٢٠٠٧ ١٢:٠٠ صباحاً


تناست حركة القومية العربية والحركات الاشتراكية اليسارية أن للاستعمار دور في وجودها وتشكلها عبر عولمته القديمة. لكن الإسلام الذي يمرر- دون تصريح - فكرة التعرب عجز عن إفراز فكرة القومية لقرون طويلة. فالوعي التحرري من الاستعمارين التركي والأوروبي فاق الإسلام في إبراز فكرتي القومية والوطنية. وساعدت الحرب العالمية الأولي بفكرها القومي لنهاية الخلافة الإسلامية. وهنا يطرح سؤال لماذا لم تظهر القومية العربية عبر الإسلام (عند العرب) رغم كونه دينا خرج من رحم الثقافة العربية؟ فإجابة الإسلاميين انه دين عولمي. وعليه فان إقامة الجامعة العربية كمؤسسة فاشلة منذ إنشائها كانت صناعة استعمارية تعسفية من الغرب وبعبقرية السياسة البريطانية كبديل لما سقط في القسطنطينية بفعل الشيخوخة أو حركة التاريخ للأمام. بهذا اخترع الاستعمار الأوروبي ما لم ينطق به العرب، ثم تبناه العرب الغافلين لإعادة التمكين مما فقدوه بعد فقدانهم الخلافة. ووجدت الفكرة هوي لمن يريد التخلص من الأتراك باستعمارهم الديني أو الأوروبيين كمستعمرين تقليدين. متناسين أن العرب هم أول من أسس للاستعمار الديني. فمراحل تحولات أوروبا من الدين إلي القومية إلي العولمة وصلتنا متأخرة من الشمال وليس بتطور داخلي من عندنا. فالاستعمار كسياسة هو معرفة كاستشراق بدراسته للحضارات الشرقية، يقابله عجز أهل الإسلام علي دراسة الغرب بعلم مقابل رغم لعبهم دور المستعمر أيضا. فلو أن العرب أفصحوا عن نيتهم كمستعمرين لما ظلت غشاوة المعرفة ولما ضللهم الإيمان عن معرفة العالم. فحركة الاستشراق أفاقت المنطقة بالقومية وبالعلوم بعد شيخوختها بالإسلام.

بعد استقلال الأندلس تباكي العرب عليها شرط استبعاد أعمال ابن رشد كمنجز معرفي بعد 800 عام من استعمارها. كان مفترضا ظهور علم الاستغراب مبكرا عن علم الاستشراق، لان العرب غزوا أوروبا قبل إعادة غزو الأوروبيين للشرق بألف عام. لكن غياب المنهجية العلمية للمسلمين في الدراسة والبحث والنقد الذي مرده حكم القرآن وأقوال الفقهاء الدينية في كل الأمور أعجزهم عن ذلك، فرغم كل الضجيج المفتعل عن الحضارة العربية إلا أن ذهاب العرب لم يحقق علما مقابلا يمكن تسميته بالاستغراب. بينما أعمال ابن رشد يمكن رؤيتها كعمل إستشراقي عكسي يخرج من أوروبا من اجل عقلنه التراث الإسلامي الوافد علي أرضها. بكلمات أخري فان مجئ الغرب الأوروبي إلينا أو الذهاب إليه يصب بنتائجه دائما في خانة إصلاحنا رغما عنا. فهل يغيب الجدل عنا ولو كنا في بروج مشيدة؟!!

فكتاب وصف مصر كنتاج لحملة بونابرت كان ممنهجا وواصفا بدقة عالية حال المصريين. وقابله عندنا، عن ذات الفترة، تاريخ الجبرتي الذي كتب بشكل حكائي علي طريقة أحسن القصص وليس بحثا. وامتلأ بالوفيات من الأعيان وعلية القوم في أجزاء كثيرة منه. وهنا يكمن الفرق بين الغرب الحديث وبين الشرق الراسخ في سبات الإيمان. فرغم فشل الحملة الفرنسية عسكريا إلا أن نجاحها فكرا وأيديولوجيا فاق خسائر المصريين فيها وتحولت إلي مكاسب في المعرفة واكتشاف التاريخ والحضارة. وكانت انجح حملة استعمارية استفاد منها الطرفان عظيم الفائدة. لكنها لم تطرح فكرة القومية المصرية ربما لطول غياب الوعي المصري عن أرضه ووطنه بتبعيته لعواصم خارجية. أما غزو الأندلس فأدي لكشف حاجة المسلمين الملحة للعقلانية كمكسب يفوق ولعهم بالجباية.

فمسألة الاستقلال الديني كشفها سقوط الخلافة الإسلامية. ووصف الاستعمار الفرنسي بأنه ثقافي والإنجليزي بأنه سياسي صحيحتين وأديا لفكرة الدولة الوطنية المستقلة بجذورها التاريخية. ولم يتوقف علم الاستشراق علي الوصف. فليس معقولا أن تنتقل العلوم في أوروبا من وصف الواقع إلي بيان القوانين الفاعلة والكامنة في المادة جمادا أو حيوانا ووصف الشعوب وفهم منظوماتها الاجتماعية والسياسية دون العبث بالراسب الفكري والثقافي لمن غابت عنه تلك العلوم. فتخطي علم الاستشراق الوصف إلي تحليل ما كان بين أيدي الشرقيين باعتباره قدس أقداسهم كاللغة والدين والفلكلور ونظم الزواج وطرق المعيشة ما أدي لإمكانية فض القدسية عن كثير مما هو فاعل باعتباره دينا وتبني ما هو غائب باعتباره مفيدا ومطلوبا. فضمن أعمال الاستشراق صدر مؤخرا كتاب تاريخ القرآن لتيودور نولدكه الألماني والذي كان ممتنعا علي الترجمة إلي العربية وفيه رؤية استشراقية ألمانية عن ترتيب تاريخية القرآن كنص منجم وعلاقته بالأحاديث والأحداث وقتها. فكثير من الآيات جاءت بناءا علي أحداث لكنها كتاريخ لم تدون إلا في العصر العباسي بينما ظل النص القرآني مفارقا التتابع التاريخي للحدث، حتى أن تراتبية تدوين القرآن تخالف تراتبية النطق به. فابن عفان الذي قيل بأنه الجامع له رغم أن التدوين جاء متأخرا بأكثر من قرن ونصف من الزمان، وانه أحرق باقي النسخ دون أن نعرف ما فيها لم يفطن لهذا الأمر حتي حققه نولدكه. بل لم يفطن له أيضا كتاب السير والمؤرخين الإسلاميين فيما بعد. لكن ظل المسلمون في سبات عميق يرددون ما قاله البخاري وغيره رغم اختلافاتهم فيه باعتبار مقدسا وصحيحا.

كانت علة الشرق كلما تعرض لغزو خارجي أو هزيمة جديدة القيام ببعث الإسلام مجددا كما لو أن العالم لا جديد فيه إلا الإسلام أو أن الرخاء المفقود والتقدم الممتنع عندنا مرده إلي إعادة شرح وإنتاج ما آمن به أهله قديما. لهذا فان محمد عبده وجمال الدين الأفغاني وكثيرين مما نسميهم إصلاحيين يمكن، من زاوية رصد مختلفة مع تذكر لحالنا إسلاميا اليوم، أن نعتبرهم معطلين لنا من اللحاق بقطار التقدم في العالم. فنحن نعرف انه لا جديد أصلا في الدين لأنه اكتمل بوفاة صاحبه وانتهاء وحيه لكن ما بقي هو الفعل الإنساني العقلي علي الأرض، بعكس الذين يريدون تكرار الماضي بالإحياء والتجديد مخالفين أسلوب محمد علي الذي لم يعر الأمر شيئا بقدر الحصول علي العلوم الحديثة باعتبار أن الدين لن تمحوه فلسفة ومنطق أو صناعة وتكنولوجيا. وهو ما ثبتت صحته. بل وثبت معه خطأ كل المدافعين عن العروبة والإسلام من أخطار الاستعمار، فكلاهما ظل بعد زواله وبضجيج اعلي من سابقه.

فمحاولة عمل علم استغراب بافتراض قدرتنا عليه رغم غموض حقيقتنا علي أنفسنا، جاءت في كتاب "مقدمة في علم الاستغراب" للدكتور حسن حنفي. فعلي ثلاث جبهات حاول تأسيس علم لا نملك من مقوماته إلا كل ما هو أوروبي. فالكتاب أصبح في حقيقته استعراض للثروة الأوروبية منذ عصر الفلاسفة اليونانيين مرورا مرور الكرام علي ما للعرب من إنجاز طفيف. استعرض مؤلفه مناهج البحث المتعددة وكيف تحققت حضارة الغرب المعرفية الحديثة. الكتاب في مضمونه يشيد بكل إنجازات العالم التي في خدمتنا لو أننا استخدمناها بشكل يتفق وعقل حاضر وليس مغيب، وبذهن مفكر وناقد وليس بمقلد ومردد. وهو ذاته أسلوب محمد علي رغم إسلامه وتقواه وحيازته علي عدد لا باس به من الجواري في حرملك القلعة. لكن الكتاب لم يشر إلي أي منهج شرقي يمكننا به دراسة الغرب لنتحصل علي علما استغرابيا خالصا مقابل استشراقيتهم. وبكلمات أخري فان مناهجهم أعادت تشكيلهم عبر عده تحولات ثقافية وحضارية فانتهوا لما هم عليه الآن. فما هي مناهجنا حتي ننقد بها ذواتنا ونفحص بها العالم حولنا ليصبح عندنا ما يمكن بتسميته استغرابا؟ ببساطة وكما أسلفنا فان أيديولوجيا المنطقة التي قادت إلي حالنا اليوم هي هدية علم الاستشراق لنا ومن راس مال المنطقة الديني والعنصري. فهل هدم الغرب من داخله، كما يحلو للبعض الحلم به، ممكنا بعد أن دفن أمراضه؟

طبقا للكتاب، فلو توقفنا لفحص ذواتنا بأي منهج كان، فان أفضل ما لدينا هو ما أخذناه عنهم نقلا أو عقلا، فكرا أم تقليدا. وما بقي من تراثنا هو ما غادروه هم في أوطانهم. ففي السياسة ظل عندنا الاستبداد والتمسك بالسلطة حتي الموت وعدم التخلي حتي ولو كانت الأخطاء قاتلة. وفي الاقتصاد لم نتمكن من إقامة نظام يضمن المساواة وفرصة العمل والكسب حسب الكفاءة والاستخدام الامثل للفوائض بما يضمن زيادتها. وفي التعليم فشل وازدواجية. والتربية تعتمد علي العقاب والأمر والنهي مثل الأمر لسبع والضرب لعشر بغض النظر عن قدرة الطفل علي الاستيعاب. وفي نظام الأسرة فمازالت ملكية الأبناء والزوجات خارج نطاق التمتع بالحقوق المدنية كأفراد مستقلين في رعاية الدولة بضمان مؤسساتها. ومع الفشل المستمر لم يجد أصحاب الاستغراب أو الكارهين للاستشراق إلا بإحياء الماضي لولادته بشيخوخة جديدة. فهل ولادة الجديد عندنا هي تجديد لما في قبور الآخرين؟

ففكرة اختراع ما سمي بالاستغراب نبعت من كراهية الغرب وليس عشقا في دراسته، فلم يجد من يطوره وينميه رغم مرور عشرين عاما علي صدور الكتاب. فالتطور والتنمية بعكس الهدم فكرتان لا تتفقان والكراهية خاصة وان المطلوب رأسماليا أو اشتراكيا، ليبراليا أو موجها، هو ما انتقل إلينا عبر الاستعمار. فهل فشل التنمية وفشل الحركات السياسة في الشرق يكمن فيما نحمله من مشاعر وليس في فساد ما نطلبه؟ فالعالم المتحدث باللغة العربية تداخلت عنده مفاهيم الإصلاح والنهضة والتقدم ثم ارتكس إلي الإحياء والصحوة. فلو أن هناك منهج سليم أو كنا أمناء في فهم وتطبيق المناهج الغربية لما ارتدت الأمور لما نحن عليه الآن. فكما أن العقل السليم في الجسم السليم فان التقدم الصحيح في حاجة إلي منهج صحيح يخلو من رغبات قتل ألذات ونفي الآخر. فالإصلاح معناه أن ما لدينا فاسد. والنهضة تعني الانتقال من مرحلة تاريخية راكدة إلي مرحلة ذات حيوية. والتقدم يعني عدم الرجوع والانتكاس. والتطور يعني اختلاف الحاضر نوعيا عن الماضي وبشكل أكثر رقيا. لكننا نجد فكر النخبة الثقافية التي لا تنظر للغرب إلا بعيون العداء والكراهية وخاصة مع فكرة تداول السلطة تعيد علينا فكرة الإحياء الديني أو الإصلاح وتتبناها، ولا معني لها سوي أن ثقافة الكراهية ارتدت إلينا لخلو معارفنا مما هو إنساني وخلو أجسادنا الاجتماعية والسياسية مما هو عقلاني أي ما يسمي علما. هكذا خدعنا السياسيون والمثقفون مرتين. الأولي بالوهم بأننا نملك علما والثانية بجرنا إلي الماضي هروبا من فهم الحاضر. فالغرب هو الذي غادر القومية وغادر المجتمع الديني وغادر العنصرية واسقط الشمولية وتخلص من الكراهية، لكننا وعبر النخب نسعى إلي البحث عما ينفعنا من مخلفاته، رغم أننا ومنذ مائتي عام ذهبنا لإحضار أفضل ما لديه.

اجمالي القراءات 7985
أضف تعليق
لا بد من تسجيل الدخول اولا قبل التعليق