حتي عبدالناصر لم يجرؤ!

خط أحــــــــمر   في الأربعاء ٢١ - نوفمبر - ٢٠٠٧ ١٢:٠٠ صباحاً


لا يملك المرء، حين يسمع إشادة غالبية رجال الدولة والحزب الوطني، بالدستور الحالي، ومزاياه، إلا أن يعود إلي الوراء ٥٥ عاما، لنري معا كيف أننا نخطو خطوات سريعة، إلي الخلف، ونواصل الانحدار يوما بعد يوم! ثم نزهو بذلك مع شديد الأسف!

مقالات متعلقة :


فقد كان في إمكان الرئيس عبدالناصر، حين قرر وضع دستور جديد للبلد، بديلا عن دستور ٢٣، الذي ألغاه عام ٥٢، أن يعهد بمسؤولية الدستور الجديد، إلي عدد من رفاقه، وزملائه، ومعارفه، ممن يفهمون في القانون.. ولكنه علي عكس ما كان متوقعا، أسند عملية صياغة دستور جديد، إلي عدد من عقول مصر الكبار، من أمثال علي ماهر، وطه حسين، ولطفي السيد، ومصطفي مرعي، وعبدالرازق السنهوري، ومكرم عبيد، وفريد أنطوان، وغيرهم، فكانوا وقتها أعضاء في لجنة نشأت لهذا الغرض، وكان عددهم خمسين عضوا، من هذه العينة، التي يزن الواحد فيهم ألف رجل، ممن تراهم اليوم!

طبعا، لم يشكل عبدالناصر اللجنة علي هذا المستوي الرفيع، طواعية، ولكنه كان مرغما علي ذلك، ومضطراً، لا لشيء، إلا لأن الثقافة الديمقراطية السائدة والراسخة في ذلك الوقت، لم تكن تسمح له، بأقل من هذا.. فقد نشأ الناس طوال عهد ما قبل الثورة، علي أن الدستور الجيد، هو الأساس الأول لحياة سياسية جيدة وسليمة، وأن الدستور الأعرج، يؤدي بالضرورة إلي حياة سياسية عرجاء، لا روح فيها، كما هو حاصل اليوم.. ولم يكن أدل علي ذلك، من أن مصر كلها ناضلت نضالا حقيقيا، من أجل إعادة دستور ٢٣، حين ألغاه إسماعيل صدقي باشا، عام ١٩٣٠.

فطوال خمس سنوات من عام ٣٠ إلي عام ٣٥، حين أعاد الملك فؤاد، دستور ٢٣ رغم أنفه، كان البلد يغلي، وكانت الاحتجاجات في كل مكان، وكانت المظاهرات تملأ الشوارع طولا، وعرضا، تطالب بعودة الدستور علي الفور، وكان زعماء الأمة، ورموزها السياسيون، لا يهدأ لهم جفن، ولا يرضون بدستور ٢٣ بديلا، وكانت ملحمة من الكفاح الحقيقي عاد بعدها الدستور، حين تبين أن له أصحابا، يحرصون عليه، ومستعدين للموت في سبيله!

وحين انتهت اللجنة، التي شكلها عبدالناصر، لإرساء مبادئ الدستور الجديد، من عملها، وقع الرئيس في مأزق، فقد اكتشف أن اللجنة أعدت دستورا يقيم في مصر قواعد جمهورية برلمانية عصرية، علي غرار ما هو موجود الآن في الهند، وتركيا، وإسرائيل- علي سبيل المثال- وكان عبدالناصر في وقت عمل اللجنة، مشغولا بالطريقة التي سوف تجري بها علي يديه تحولات جذرية في البلد، كان يتصورها، ويراها أمامه.. فاكتشف، ربما للمرة الأولي، أن دستورا بهذا المستوي، سوف يعوقه عما هو عازم عليه، لأنه كان يريد البلد كله في يده، وليس في يد برلمان، يراقب ويشرع بالفعل، وحكومة هي صاحبة اليد العليا في السلطة، في حين يبقي رئيس الدولة طبقاً لمشروع الدستور الجديد، رمزا أكثر منه رقما، في الحياة السياسية!

وكان القرار السريع، هو نسيان مشروع الدستور الجديد، الذي اشتهر فيما بعد، بمشروع دستور ٥٤، بل وإلقاءه في أقرب صفيحة قمامة!!.. حيث ظل هناك حتي عثر عليه الأستاذ صلاح عيسي، آخر التسعينيات، وأصدره في كتاب!

وكان لابد من دستور آخر، فصدر بالفعل، دستور ٥٦، الذي سماه عبدالناصر، علي استحياء، الدستور المؤقت، فلم يكن في مقدوره أن يجعله دستورا دائما من حيث الاسم علي الأقل، وهو يعرف بينه وبين نفسه أن ما بين هذا الدستور المؤقت الجديد، وبين دستور ٢٣ الملغي، كان كما بين السماء والأرض!

غير أن الشيء المدهش، والمحزن حقا، أن هذا الدستور المؤقت هو الذي يحكمنا إلي اليوم، مع تعديلات هنا، وترقيعات هناك، جعلته في النهاية أشبه ما يكون بالثوب المهلهل، الذي يفضح أكثر مما يستر!!

وكان أسوأ تعديل أدخلوه علي هذا الدستور المؤقت، هو تعديل مايو ١٩٨٠، حين تقرر وقتها تعديل المادة ٧٧، بحيث تنص علي بقاء الرئيس في منصبه مدي الحياة، بدلا من فترتين فقط، كما كانت تنص من قبل.. ثم خضع الدستور بعدها لعدة ماكياجات، غيرت شكله بالأصباغ السياسية، ولم تغير جوهره.. وحين تري أحداً يمتدحه ويتغزل في جماله، فاعلم عن يقين أنه يبرر حكم الفرد، الذي يرسخه الدستور، أكثر مما يتحدث عن شيء له وجود حقيقي علي الأرض!

وكيف نري غداً إن شاء الله، كيف تحول الدستور المؤقت إلي دائم.. وكيف أن هذا التآكل في حقوق الشعب بفعل ضمور الثقافة الديمقراطية، لم يعد يثير اهتمام أحد!!




 

اجمالي القراءات 7431
أضف تعليق
لا بد من تسجيل الدخول اولا قبل التعليق




مقالات من الارشيف
more