طلقة حبر:
جورباتشوف.. تعلم يا «أهبل» من أحمد عز!

عادل حمودة   في الإثنين ٠٥ - نوفمبر - ٢٠٠٧ ١٢:٠٠ صباحاً



لم يبق من لون الشيوعية الأحمر في حياة آخر زعمائها "ميخائيل جورباتشوف" سوي لون جواز سفره الصادر في موسكو يوم 22 أبريل عام 2002 ويحمل رقم (57988 ).. وقد حصلت علي صورة ضوئية منه واحتفظت بها بين أوراقي التاريخية الثمينة.. مثل خطابات جمال عبد الناصر العاطفية لزوجته السيدة تحية كاظم.. ومثل يوميات اختطاف محمد نجيب التي كتبها بخط يده وهم ينقلونه سرا إلي بيت مجهول في الصعيد.. ومثل رسائل سيد قطب الخاصة التي أرسلها من الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية إلي أصدقائه في مصر.


كان جورباتشوف يقيم في الجناح الرئاسي في فندق فنيسيا.. أشهر فنادق بيروت.. وكان ينتقل بسيارة «بي إم دبليو» تحمل رقم (288142).. وترافقه ثلاث سيارات جيب شيروكي مسلحة بمدافع خفيفة.. تتبع الجيش اللبناني.. رغم أن زيارته التي جرت في 10 أبريل عام 2003 لمدة يومين كانت زيارة خاصة بمناسبة إعلان تأسيس منظمة خيرية باسم الأميرة انستازيا رومانوف.. الأميرة الوحيدة المتبقية من قياصرة روسيا البيضاء بعد أن ذبحت الثورة الشيوعية الحمراء عائلتها. لقد قدر لآخر أباطرة الكرملين أن يرد الاعتبار لآخر سلالة القياصرة.. إنها مفارقة تبدو خرافية لا توجد إلا في شطحات وحكايات «ألف ليلة».. لكنه.. لم يفعل ذلك لوجه التاريخ.. وإنما لوجه خمسة آلاف دولار قبضها من مؤسسي الجمعية الذين ساندوا صاحبتها بعد أن اكتشفوا أن ثروتها تقدر بنحو عشرين مليار دولار.

ولم يكن غريبا أن يقبل جورباتشوف مثل هذه العروض التجارية.. فقد سبق أن ظهر في إعلان يروج لنوع من البيتزا الأمريكية غير المعروفة.. ولم يتردد في أن يخرج علي الناس بإعلان آخر عن ورق تواليت.. فمن يدفع أكثر يجده أسرع.. حسب شعار السوق المفتوحة علي البحري.

وقد دفعت له شركة «لوي فيترون » أخيرا أكثر مما كان يحلم ويتصور ويتوقع ليظهر في إعلاناتها.. وشركة «لوي فيترون» هي شركة تنتج أغلي حقائب النساء والسفر في العالم.. فلا يقل سعر حقيبة اليد الصغيرة عن ثلاثين ألف جنيه.. وتتجاوز حقيبة الملابس المتوسطة الخمسين ألف جنيه.. وهو ما يجعلها شركة سخية في الإنفاق علي إعلاناتها.. فكان أن دفعت خمسة ملايين دولار كي يظهر جورباتشوف في واحد منها نشرته مجلة "نيوزويك" الأمريكية في عددها الأخير.

الإعلان علي صفحتين يصور جورباتشوف يجلس في سيارة ليموزين فاخرة وبجانبه حقيبة من «لوي فيترون» بينما يبدو ما تبقي من سور برلين واضحا خارج نافذة السيارة.. فكأن الزعيم الشيوعي الذي ساهم بما فعل في هدم سور برلين وتوحيد شطري العاصمة الألمانية وقطع دابر الإمبراطورية السوفيتية قد تحول إلي رمز من رموز الرفاهية الرأسمالية.. تجسده حقيبة لوي فيترون.

لكن.. ظهور حقيبة من «لوي فيترون» بجانب جورباتشوف ليس دليلا علي أنه قد أصبح في المستوي المادي الذي يسمح له باستعمالها.. فهو مجرد " موديل " إعلاني.. يأخذ أجره.. ويرحل.. مثل عارضة الأزياء الفقيرة التي ترتدي أغلي الثياب وأغلي المجوهرات وتضع في قدميها أغلي الأحذية ثم تتركها علي الباب قبل خروجها.. فهي مجرد "عهدة" تستخدمها وقت "الشغل" فقط.وقد رأيت جورباتشوف عن قرب يومين كاملين وشعرت بأنه فلاح روسي ساذج من جورجيا غرروا به واستخدموه في الإجهاز علي كسر قلب الشيوعية مجانا.. لقد كانت الحرب علي الشيوعية تكلف الغرب سنويا نحو 300 مليار دولار.. بمتوسط مليار دولار كل يوم.. وكان يمكن أن يستمر الغرب في تحمل هذه النفقات سنوات طويلة أخري.. ولكن.. جاء جورباتشوف ووفر عليه كل هذه المليارات المهدرة.. علي أنه خرج من المولد بلا حمص.. يا مولاي كما خلقتني.

تحول الإمبراطور السوفيتي السابق إلي «اراجوز» في مسارح المنوعات الرأسمالية.. وبعيدا عنها.. لقد كنت معه في مصعد هبط بنا من الدور العاشر في فندق فينسيا فوجدته يتصرف بخفة ظاهرة لا تليق برجل حكم دولة عظمي كان العالم كله يعمل لها ألف حساب حتي لو انتهت علي يديه.. ووصلت خفته إلي حد أن حاول تقبيل فتيات مراهقات تصادف وجودهن في المصعد.. ولم يكن أمامنا أنا والصحفي اللبناني الشهير غسان تويني سوي تبادل نظرات الدهشة والاستغراب.. فكيف نقول لرجل شغل منصبا مؤثرا في مصير الدينا : "عيب "؟.

وعرفت أنه يريد السهر في كباريه شرقي ليس فوق مستوي الشبهات ليستمتع براقصة شرقية تهز وسطها وتستفز ما تبقي في شيخوخته من حيوية.. لكني.. نصحته بالعدول عن الفكرة.. فنحن في بيروت.. حيث الأسرار تكشف عن نفسها قبل اكتمالها.. والفضائح تنتشر قبل أن تولد.. وأحمد الله أنه استجاب للنصيحة وإلا ما وجد شركة أنفها في السماء مثل شركة «لوي فيترون» تستخدمه كموديل إعلانات.

والحقيقة أن الرجل «صعب علي».. فلا هو باع بلاده للمخابرات الأمريكية كما اتهموه.. ولا هو اقتسم الأرباح الهائلة التي حققتها المافيا الروسية من تفكك دولته الشيوعية.. لا هو استغل نفوذه السياسي في تحقيق ثروة.. ولا هو تحول من رئيس سابق إلي بيزنس مان حالي.. فهو رجل علي نيته لا يعرف كيف يستثمر موقعه في تحقيق ما يستر مستقبله.

لكن.. الفرصة لم تضع عليه تماما.. فلو كنت منه لقطعت تذكرة وجئت إلي القاهرة وجلست كالتلميذ المؤدب كي أتعلم من رموز الحزب الوطني الحاكم والقائم كيف أجمع بين منصب في الحزب وبيزنس في السوق ؟.. كيف أتحول بفضل القوة السياسية التي أحظي بها من رجل أعمال مديون بالمليارات للبنوك إلي رجل أعمال محتكر لسلع حيوية لا يقدر أحد علي الاستغناء عنها؟.

لو كنت منه لجلست فور نزولي مطار القاهرة مع أمين تنظيم الحزب الوطني أحمد عز ولسألته كيف سدد المليارات التي كانت عليه للبنوك دون إشهار إفلاسه ؟.. وكيف حقق مليارات أخري أرباحا غير متوقعة في زمن قياسي خاطف؟.. وكيف نجح في السيطرة علي سوق الحديد في مصر والشرق الأوسط رغم أنه كان قبل سنوات قليلة مجرد تاجر غير مؤثر في السوق ؟.. وكيف حصل علي شركة مثل الدخيلة بتلك السهولة التي يتحدثون عنها ؟.. وما هي علاقة موقعه في الحزب ولجنة السياسات ومجلس الشعب بكل التغيرات والتحولات التي وقعت في حياته؟.

ولأن جورباتشوف بحكم خبرتي معه رجل يقبل النصيحة ويعمل بها فإنني سأقترح عليه أن يقنع أحمد عز بأن يروي له تجربته الناجحة والمتميزة في التاريخ الاقتصادي والسياسي والصحفي والحزبي في مصر ليتعلم منها.. الرجل الذي ضحكوا عليه وسخروا منه وبهدلوه في وكالات الإعلان علي طريقة قرد كروت الشحن.

ولا نتصور أن أحمد عز سيبخل علي جورباتشوف بخبرته المميزة بل لن يبخل بها علي كل من يطلبها منه.. فهو مثل وقدوة لشباب بالملايين يحلمون بأن يكونوا مثله أو علي الأقل يحلمون بأن يهتدوا بأسلوبه ويمشوا علي طريقه.. وفي المقابل يمكن لجورباتشوف أن يكشف له الأخطاء التي وقع فيها والقرارات التي غيرت مصيره.

ولا جدال أنها ستكون تجربة مثيرة جدا.. تجربة حاكم مثل ميخائيل جورباتشوف يحلم بأن يكون رجل أعمال.. وتجربة رجل أعمال مثل أحمد عز بأن يكون حاكما قادما.. ودقي يا مزيكا.. سلام يا جدع.

اجمالي القراءات 8504
أضف تعليق
لا بد من تسجيل الدخول اولا قبل التعليق