موت مبارك قد يؤدي لاستلام العسكر للحكم ولو بقناع مدني

عبد الحليم قنديل   في الإثنين ٢٩ - أكتوبر - ٢٠٠٧ ١٢:٠٠ صباحاً


يبدو المشير محمد حسين طنطاوي ـ وزير الدفاع المصري الحالي ـ تلخيصا لحال الجيش والمآل الذي انتهي اليه، فالمشير طنطاوي ـ كما تنطق الصور ـ يبدو كتوما كأنه لم يتكلم أبدا، ونادرا ما يبتسم، وهيئته الصحية منهكة علي الدوام، وبلا شعبية ملفتة، وبلا طموح سياسي علي الاطلاق، وربما كانت هذه الصفات ذاتها وراء بقائه الطويل في منصب الوزير والقائد العام للقوات المسلحة، فقد عين في منصبه عام 1991، وبعد فترة انتقال قصيرة لم تتجاوز السنتين تولي وزارة الدفاع فيها يوسف صبري أبو طالب بعد الاطاحة بالمشير أبو غزالة، قضي أبو غزالة في منصبه ثماني سنوات، وقضي طنطاوي ـ الي الآن ـ ضعف مدة أبو غزالة، وأصبح أطول وزراء الدفاع المصريين عمرا في منصبه، تماما كما أن مبارك الذي عينه هو الأطول عمرا في مقام الرئاسة، ففترة حكمه ـ الي الآن ـ تساوي فترتي رئاسة عبد الناصر والسادات معا، ولا نكاد نجد حاكما مصريا ـ رئيسا كان أو ملكا أو خديو ـ ينافس مبارك ببقائه المديد في السلطة، باستثناء محمد علي الألباني مؤسس الدولة الحديثة (!).

وربما هي حاسة الأمن المفرطة التي جعلت مبارك يثق بالمشير طنطاوي بالذات، فطنطاوي لم يكن من قادة الصف الأول ولا الصف الثاني في حرب أكتوبر آخر الحروب الوطنية للجيش المصري، وبعكس ما كان عليه أبو غزالة ويوسف صبري أبو طالب، ثم ان تعيينه في منصبه جاء بعد حرب الكويت التي ورطوا بها الجيش المصري تحت القيادة الأمريكية، وفي أجواء من القلق صاحبت تنفيذ حملة خصخصة الشركات والأصول العامة عملا بأوامر صندوق النقد والبنك الدوليين، وعودة ملايين المصريين للانضمام الي طابور البطالة الطويل مع تآكل فرص الهروب للعمل والاقامة المريحة في العراق الذي وضع تحت الحصار، وتصاعد وتيرة صدام الدولة مع عنف الجماعات الاسلامية المتمردة الذي استمر الي أواخر عام 1997، بدا المشهد ـ في جملته ـ مقلقا مع بدء عشرية مبارك الثانية في الحكم، وكان لا بد من شخص موثوق به وبلا خطر علي رأس الجيش، ووجد مبارك ضالته في طنطاوي، وبدا الاتجاه لأولوية مطلقة للتأمين السياسي ظاهرا ـ أيضا ـ في تعيينات رؤساء الأركان العامة،

فقد جاء الفريق صلاح حلبي مع طنطاوي لرئاسة الأركان عقب عودته من حرب الكويت، وبعد محاولة اغتيال مبارك في حادث أديس أبابا، كان لا بد من رد الجميل للحرس الجمهوري الذي زادت قوته ودوره، وزاد تقدير بيت الرئاسة لرجاله بعد نجاحهم الباهر في صد وتعقب المهاجمين، رغم أن قيادة الحرس الجمهوري تبدو منفصلة عن الهيكل النظامي للجيش، فقد جري يعيين الفريق مجدي حتاته قائد الحرس الجمهوري رئيسا لأركان الجيش في الفترة من أكتوبر 1997 الي تشرين الاول (أكتوبر) 2001، وجري تعيين الفريق حمدي وهيبة الذي خلف حتاته في قيادة الحرس الجمهوري رئيسا لأركان الجيش في الفترة من أكتوبر 2001 الي أكتوبر 2005، وحين عادت رئاسة الأركان العامة لقيادات الجيش، فقد وقع الاختيار علي الفريق سامي عنان رئيسا للأركان الي الآن، وهو من قيادة الدفاع الجوي ذات الولاء التقليدي لمبارك الذي كان قائدا للقوات الجوية قبل تعيينه ـ أواسط السبعينيات ـ نائبا للرئيس السادات.

والصورة ـ في عمومها ـ قد توحي بأن كل شيء هادئ علي جبهة الجيش ، وهو ما شجع مبارك ـ فيما يبدو ـ علي توريط متدرج محسوب للجيش في الحروب الداخلية لنظامه، بدت مشاركات الجيش ضمنية غير محسوسة في الحرب مع جماعات العنف الاسلامي، لكنها بدت ظاهرة مقحمة مع العودة لخط اعتقالات الاخوان المسلمين منذ أواسط التسعينيات، وتكررت حالات احالة مبارك لمدنيين ـ من قادة الاخوان بالذات ـ الي محاكمات عسكرية، ومع الصحوة المدنية ـ الشعبية الملحوظة في مصر عقب صدمة التواطؤ مع أمريكا في حرب غزو العراق أواخر آذار (مارس) 2003، وظهور حركة كفاية وأخواتها أواخر 2004، وتقدم الاخوان ـ رغم غلبة التزوير ـ في انتخابات البرلمان أواخر 2005، وسريان القلق علي الجبهة الاجتماعية بدءا باضراب عمال المحلة أوائل كانون الاول (ديسمبر) 2006،

مع هذه التطورات المثيرة لقلق سياسي واجتماعي غير مسبوق ضد حكم مبارك، التجأ الرئيس وعائلته للتحايل بتعديلات الانقلاب علي الدستور، والتي جري اقرارها بالتزوير العبثي في استفتاء 26 اذار (مارس) 2007، حولت التعديلات حالة الطوارئ الممتدة منذ بداية حكم مبارك الي فريضة دستورية لا تسقط بالتقادم، وان تحولت بالاسم في المادة 179 ـ ربما علي سبيل التمويه المكشوف ـ الي قانون لمكافحة الارهاب (!)، وأعطيت للرئيس صلاحيات مد نطاق القضاء العسكري، وتعديد درجاته بصورة موازية ـ وربما بديلة عند الاقتضاء ـ للقضاء المدني، وهو ما بدأ تطبيقه بسرعة في سياق حرب تكسير العظام مع الاخوان، فقد قررت محكمة مدنية اخلاء سبيل خيرت الشاطر ـ نائب المرشد العام للاخوان ـ وعشرات من رفاقه القياديين، وهم متهمون بتمويل جماعة الاخوان عبر شركات لغسيل الأموال، وعلي باب المحكمة صدر القرار باعتقال قيادات الاخوان تطبيقا لقانون الطوارئ، وجرت احالتهم الي محاكمة عسكرية في مواجهة هي الأكبر الي الآن، وكان النائب طلعت عصمت السادات قد أحيل ـ هو الآخر ـ الي محكمة عسكرية، وصدر القرار بسجنه سنة كاملة، وبدا ذلك كنوع من العقاب الباطش لطلعت الذي طاش لسانه، واقترح ـ في مناقشة برلمانية جرت أوائل عام 2005 ـ وضع شرط دستوري لسن الترشح للرئاسة، وبحيث تكون السن المقترحة أكبر من عمر مبارك الابن وأصغر من عمر مبارك الأب، ومدوا له الحبل قليلا الي أن أحالوه لمحاكمة عسكرية، وبدعوي تعريضه بالجيش واتهام قيادات ـ بينها الرئيس مبارك ـ بالتورط في حادث اغتيال عمه الرئيس السادات (!).

اذن، فقد جري اقصاء الجيش ـ بحوادث الثلاثين سنة ـ عن دور في صنع السياسة، وجري اخصاء الطموح السياسي للجنرالات، وجري التعويض ـ بالاحلال والاستبدال ـ يالامتيازات المفرطة، والاحالات المنهجية للتقاعد توقيا لنشوء خطر، وجري توريط الجيش ـ بعد التطويع ـ في أدوار تسيء اليه والي الشعب معا، جري استدعاؤه بالقطعة الي عمليات صدام خشن مع معارضين مدنيين حرموا من الحق في المحاكمة أمام قاضيهم المدني الطبيعي، والأفدح أنه تجري أحيانا محاولات لتوريط الجيش في سيناريو توريث الرئاسة من الأب الي الابن، وهو السيناريو المكروه شعبيا بظواهر الحال المصري، ففي مناسبة الخطاب السنوي للرئيس مبارك أمام مجلسي الشعب والشوري، ظهرت اشارة خطرة في نهايتي عامي 2005 و2006، فقد جلس جمال مبارك ـ وهو بلا صفة دستورية ولا عسكرية ـ في المقاعد المخصصة لجنرالات الجيش في مناسبة خطاب 2005، وزادت الاشارة استفزازا بجلوس جمال مبارك أمام الجنرالات ـ لا وسطهم علي طريقة 2005 ـ في مناسبة خطاب 2006، وبدت الصورة ـ مع ذلك ـ مختلطة، فثمة همهمات عن معارضة جنرالات لخطة التوريث التي تريد السيدة سوزان مبارك التعجيل بها، بينما يبدو مبارك الأب مترددا وأقرب الي طلب التأجيل، والنتيجة: ارتباك واشارات مختلطة، باللون الأحمر وباللون الأخضر في الوقت نفسه، فوقت أن جلس جمال مبارك لأول مرة في مقاعد الجنرالات، كان الرئيس مبارك علي المنصة يلقي خطابه المعد له بعناية، ولفت المراقبين قوله انه سوف يبقي في مكانه الي آخر نفس ، وهو ما يعني ـ علي الاقل ـ أنه لا فرصة لرئاسة جمال مبارك حتي آخر نفس في حياة أبيه (!)، وزاد اختلاط الصورة مع اشارات معارضة شبه علنية صدرت عن بعض المقربين من الجيش، فالمعروف أن جمال مبارك ـ رئيس الظل ـ يدير ملف الاقتصاد والخصخصة بالذات، ويدعم عملية بيع الأصول وتجريف الثروات لصالح الأجانب، وقد أثارت المعارضة ضجة كبري ـ قبل شهور ـ بعد الاعلان عن النية في بيع بنك القاهرة بعد بيع بنك الاسكندرية للاجانب، وكانت المفاجأة أن اللواء سيد مشعل ـ وزير الانتاج الحربي ـ جهر هو الآخر بالمعارضة في اجتماع ساخن لمجلس الوزراء أوائل تموز (يوليو) 2007، واتهم الحكومة ـ الموالية لجمال مبارك ـ بأنها تبيع البلد (!)،

فيما ظل المشير طنطاوي علي صمته السابغ في الاجتماع نفسه، وكأنه لا يريد التورط في نقد أو تأييد سياسة لا شأن له بها، أو كأنه يريد التأكيد علي أن طموح السياسة ليس مما يشغله أو يثير خياله، أو كأنه يترقب لآخرين مصائر الاحتراق في دراما تنافس ضمني مع سيناريو توريث جمال مبارك، وبالطبع لا يبدو اللواء سيد مشعل منافسا لأحد، وان بدت معارضاته، وقد كررها علنا في تصريحات لاحقة ترفض خصخصة المصانع الحربية، بدت هذه المعارضات قريبة من تحفظ صامت لجنرال طموح ـ علي غير العادة ـ هو اللواء عمر سليمان رئيس جهاز المخابرات العامة، واللواء سليمان ـ 72 سنة ـ تربطه صلة ثقة مختلفة بالرئيس مبارك، وقد توطدت الثقة الشخصية بعد الدور المميز لسليمان في حماية مبارك من مصير الاغتيال بحادث أديس أبابا سنة 1994، فرئيس المخابرات هو الذي نصح بشحن سيارة الرئيس المصفحة مع طائرة مبارك، وعلي أن يركبها الرئيس فور وصوله الي مطار العاصمة الأثيوبية، وكانت النصيحة هي السبب المباشر في نجاة مبارك، ودفعت الواقعة مبارك ـ المهووس المهجوس بأمنه الشخصي ـ لدعم صلاحيات اللواء سليمان، وهكذا توسع نفوذ اللواء سليمان خارج حدود وظيفته الأمنية، وانتهت اليه ـ بتفويض من مبارك ـ خيوط وملفات الاهتمام المصري بفلسطين والعراق والسودان والعلاقات مع اسرائيل وأمريكا بالذات، وصارت الأدوار السياسية لرئيس المخابرات من طبائع المشهد المصري، ودعم صورته أنه بدا علي مسافة نزاهة شخصية تفصله عن شخوص النهب والسرقات العامة، فوق أن جهاز المخابرات ـ بطبيعة دوره الوطني ـ لا يبدو مكروها من الناس، ولا سيئ السمعة كجهاز مباحث أمن الدولة مثلا، غير أن اللواء عمر سليمان لا يلقي في بيت الرئاسة ـ علي ما يبدو ـ ذات المحبة التي يستشعرها من الرئيس، فقد مد له الرئيس مبارك في سنوات الخدمة أكثر من مرة، وزاد في جرعات الاعتماد عليه حتي في مسائل داخلية حساسة كالملف القبطي، وقيل ان الرئيس مبارك انتوي أكثر من مرة تعيينه نائبا له، لكن السيدة سوزان مبارك ـ بدورها المرئي في لعبة الحكم ـ بدت في موقف عناد يخاصم دور الجنرال لصالح دور الابن.

هذه هي الصورة كما تبدو عن بعد، وهي لا تشي ـ في الأحوال كلها ـ باستحالة عودة الجيش لدور في الحكم وصنع السياسة، خاصة أن مصر تبدو في خطر أمني مباشر بمواريث كامب ديفيد الثقيلة، ثم أن أحوال التنمية في مصر علي قدر من الانحطاط قد يستدعي ـ في لحظة مقبلة ـ دورا حاكما للصناعات العسكرية المتقدمة تكنولوجيا بالذات، وفي ظل حكم مبارك بدا الاقصاء والاخصاء قدرا مسيطرا لسنوات طويلة، وبدت الصورة ـ في السنوات الأخيرة المضطربة ـ مختلطة مشوشة باشاراتها وملامحها، وقد يصح ـ هنا ـ أن نتذكر ما جري قبل سنوات في نهاية 2003، كان الرئيس مبارك قد وقع مغشيا عليه، وهو يلقي خطابه السنوي المتلفز أمام مجلسي الشعب والشوري، وفي ثوان كان الجيش يسيطر علي الموقف داخل مبني مجلس الشعب، ويمنع رئيس الوزراء والوزراء والنواب وقادة الحزب الحاكم و دبة النملة من الدخول الي مبارك في استراحة الرعاية الطبية، وصدرت الأوامر بما هو أبعد، وقد يصح أنها تقاليد الانضباط والولاء لرئيس هو القائد الأعلي للقوات المسلحة في الوقت نفسه، وقد تبدو الصورة مشوشة ـ ومن وراء غبار ـ ان حملنا ما جري علي مغزي استعداد الجيش للحكم في لحظة خطر رمزي، وأقرب الي مناورات التدريب لا الي معارك الميدان، غير أن الغبار قد ينجلي في لحظة خطر جدي وعاصف، كأن يموت مبارك فجأة، وهو خطر وارد ـ بأقدار الله ـ لرجل في عامه الثمانين مثقل بمتاعب الشيخوخة، أو كأن تنزلق البلد فجأة الي انفجــــــار اجتماعي تلقائي بكلفة دم لا يريدها أحد، وهو ـ أيضا ـ مصير وارد جدا لبلد غارق مثقل بالمرض والفقر والبطالة والعنوسة، وكبده يحترق بمزيج لاهب من السخط الاجتماعي والذل القومي، وبلا أمل في طوق نجاة ولا عربة مطافئ،

وفي الحالين سوف يسألونك عن الجيش، بل أن الحالين قد يمــــتزجان في حال واحد، فموت مبارك ـ بعد الانتظار الطويل الطويل ـ قد يفجـــــر دفقة فرح تستعيد الشعور بالألم من سوء الحال والمآل، وقد يكون الموت ـ بذاته ـ مناسبة واردة لانفجار اجتماعي تلقائي، وفي الحالين ـ تفرقا أو تزاوجا ـ فقد يصبح زواج الجيش بالحكم من المعلوم بالضرورة، لا يعود الأمر وقتها لوجود جنرال له طموح سياسي أو بلا طموح، وتتحول السياسة وقتها الي حالة فيزيائية، ويتحرك الجيش وقتها كتكوين فيزيائي يتمدد في الفراغ وتحت حرارة الظروف، يحفظ الأمن ويتصرف بالحكم، ولا تبدو من فرصة وقتها لعائلة مبارك ـ حتي لو كان مبارك حيا ـ للبقاء في الحكم، اذ لا بد وقتها من دفـــــع ثمن وتضحية بكبش فداء، ويجد الجيش نفسه في زحام الأسئلة، قد لا يصح وقتها أن يحكم منفردا ووحيدا في الصورة، فمنطق العصر لم يعد يسمح، ثم أن التركة مرعبة والخراب بلا اخر، وظل أمريكا ـ ومعها اسرائيل ـ حاضر وثقيل، فهل يلجأ الجيش وقتها الي الخبرة المتوارثة عبر عقود مضت، ويلبس قناعا مدنيا في صورة حزب دولة، ويتقدم جنرال للرئاسة بالبذلة وربطة العنق وبغير سيوف ظاهـــــرة علي الكتـــف؟ وننتهي الي تمديد نظام مبارك بغير مبارك وعائلته؟! ثم كيف سيتصرف الجيش مع الاخوان والقوي المدنية المعارضة؟ هل يتصل بالصدام الي حدود الدم؟ أم سيلجأ الجيش الي مصالحة تكون فيها الامارة للجيش والوزارة للاخوان علي الطريقة التركية المتقادمة؟ كلها أسئلة برسم المصـــائر المجهولة لبلد عظيم منكوب.
 

اجمالي القراءات 9140
أضف تعليق
لا بد من تسجيل الدخول اولا قبل التعليق