د. طنطـــاوي المتورط حتي أذنيه

محمد الباز   في السبت ٢٧ - أكتوبر - ٢٠٠٧ ١٢:٠٠ صباحاً


لا يقبل شيخ الأزهر د. سيد طنطاوي أي مساس بقامته.. كلمات النقد تغضبه.. المناقشة الصريحة لآرائه وأفكاره وفتاواه توتره.. التصدي لوضعه الديني في خدمة السياسة يخرجه عن شعوره.. فيتحول من رجل هادئ ورزين يعلو الوقار ملامح وجهه.. إلي وحش كاسر يدمر ويحطم، فهو عندما يغضب لا يبقي ولا يذر.. في أوقات كثيرة أجدني مشفقاً علي هذا الرجل.. فهو يورط نفسه في مزالق عديدة دون أن يعي أن قدمه التي تغوص به في مستنقعات السياسة لا تضيف إليه بل تخصم من رصيده.. ليس رصيده في الدنيا فقط ولكن في ميزان حسناته في الآخرة أيضاً.


قبل أيام قليلة من رحيل شهر رمضان وضع شيخ الأزهر نفسه في مرمي السهام.. كانت مصر تحتفل بليلة القدر.. كان المصريون يرفعون أكفهم بالدعاء إلي الله كما علمهم الرسول - صلي الله عليه وسلم- اللهم إنك عفو غفور تحب العفو فاعف عنا.. لكن شيخ الأزهر كان أبعد ما يكون عن العفو والمغفرة.. كانت الأعصاب مشدودة في الوسط السياسي والصحفي معاً.. الأحكام القضائية تتوالي بحبس رؤساء التحرير والصحفيين.. النظام في ورطة.. لا يعرف كيف يسد كل هذه الثغرات التي فتحت عليه مرة واحدة ومن كل جانب، من بين هذه الحيرة خرج شيخ الأزهر الرجل الذي من المفروض أن يكون أميناً علي الدين.. لا ليبارك ما يفعله الحزب الوطني بالصحافة والصحفيين، ولكن ليمنحه غطاء شرعياً يستطيع أن يتحرك تحته وهو مرتاح الضمير.. ومستقر الوجدان.

كلام الإمام الأكبر كان واضحاً لا يحتاج إلي تأويل.. قال بالجلد ثمانين جلدة للذين يقذفون غيرهم بالتهم الباطلة.. لأن جميع الشرائع السماوية وجميع القوانين الوضعية تأبي التفرقة بين الناس فيمن يستحق الاحترام والثواب وفيمن يستحق الاحتقار والعقاب.. والشريعة الإسلامية ساوت بين الجميع في عقوبة جريمة القذف التي فيها عدوان أثيم علي الأطهار الأخيار من الرجال والنساء.. ضرب د. طنطاوي عصفورين بحجر واحد.. أوجب عقوبة الجلد علي الصحفيين الذين يري أنهم يقذفون في حق الناس بالتهم الباطلة.. وجعل مطالبة الصحفيين بإلغاء عقوبة الحبس في قضايا الرأي حرام شرعاً.. لأن الشرع لا يفرق بين من يستحق العقاب.

لم تكن هذه أول رصاصة يطلقها شيخ الأزهر ضد الصحافة.. فقبل أيام من الاحتفال بليلة القدر كان د. طنطاوي يخطب الجمعة في مسجد النور بالعباسية.. وهناك شن هجوماً عاصفاً علي الصحف التي تروج للشائعات وتثير الفتن.. كانت خطبة الرجل قصيرة جداً.. وأغلب الظن أن قصرها لم يكن لعظم فقهه.. بل لأن وقته ضيق جداً، وأفتي فيها بمقاطعة الصحف التي تنشر الشائعات والأخبار الكاذبة وحرم شراءها.. كان ما فعله شيخ الأزهر إذن في الاحتفال بليلة القدر ليس إلا تفصيلاً لما سبق وأجمله في خطبة مسجد النور.

وأجدني مضطرا لأن أسأل شيخ الأزهر سؤالاً.. هل طلب منك أحد أن تتفوه بهذا الكلام يا مولانا.. أم أنك اجتهدت فجادت قريحتك بهذه الفتاوي والآراء العبقرية؟ اسمح لي أن يكون السؤال أكثر صراحة ووضوحاً.. فهل طلب أحد منك أن تصدر هذه الفتوي ضد الصحفيين في هذا الوقت الساخن والملتهب حتي تضعف موقفهم وتقلل من تعاطف الناس معهم.. أم غضبك للصحفيين وكراهيتك لهم وما يكتبون هي التي جعلتك تهجم عليهم هذه الهجمة الشرسة؟ وللسؤال أصل.. فـالدكتور طنطاوي رجل رقيق الحال.. دموعه تسبقه.. ولايزال حتي الآن عندما يتذكر زوجته التي مات منذ سنوات يبكي أمام عمال المشيخة.. لكن يبدو أنها السلطة وحبها الذي يحول أصحاب القلوب الرقيقة إلي وحوش كاسرة.

<<<

إشفاقي علي شيخ الأزهر يأتي من معرفتي بكيف تتحول الأمور عند رجل الدين عندما يتحول من مجرد داعية أو باحث أو مجتهد إلي رجل صاحب سلطة.. ولعل د. طنطاوي يعرف هذه القصة جيداً.. فمنذ سنوات طويلة كان هناك مفتٍ لمصر.. وكانت العادة أن يذهب المفتي ليستطلع هلال شهر رمضان.. وقبل أن يبلغ الناس بالخبر ويعلنه علي الملأ يتصل بمكتب الرئيس كي يزف له الخبر ويهنئه بقدوم شهر رمضان.. اتصل المفتي بمكتب الرئيس، رد عليه سكرتير الرئيس للمعلومات.. وعندما سمع أن رمضان غداً.. قال للمفتي علي سبيل المزاح: يا نهار أسود ده الرئيس مسافر بكره.. ينفع يا مولانا نأجل رمضان لو 24 ساعة فقط.. كان سكرتير الرئيس للمعلومات ينتظر أي رد في الدنيا إلا ما قاله المفتي بالفعل.. قال له: والله لو دي رغبة السيد الرئيس ممكن نأجل.. هذا المفتي كان متسقاً مع نفسه جداً.. فهو يضع نفسه خادماً للسلطة التي جاءت به وعينته ومنحته امتيازات عديدة.. فلماذا يخرج عنها، ولماذا يعارضها.. بل لماذا لا ينفذ لها كل ما تطلبه منه وبشكل كامل؟!.

لقد فعل هذا المفتي - الذي يعرفه جيداً د. طنطاوي ويعلم تفاصيل قصته - ذلك لأنه كان يتمتع بامتيازات عديدة.. فما بالنا بالامتيازات التي يحصل عليها شيخ الأزهر.. إنه في منصبه يوازي مركز ومنصب رئيس الوزراء.. له مخصصاته ومكاسبه.. تخصص له الدولة سيارة مرسيدس فخمة يتنقل بها.. وهناك أوامر رئاسية بجعل ترتيب الإمام الأكبر تالياً لرؤساء الحكومات في البروتوكول المصري.. وتشدد مصر في أن تكون الدعوات الموجهة للإمام الأكبر لزيارة الدول المختلفة صادرة من رئيس أو ملك أو أمير أو رئيس حكومة علي الأقل.. فعندما ينظر شيخ الأزهر ـ أي شيخ أزهرـ لكل هذه المكاسب والامتيازات فلا يمكن أن يتردد لحظة ليس في أن يستجيب لكل ما يطلبه منه النظام فقط.. ولكن حتي أن يتطوع من تلقاء نفسه لتقديم الخدمات التي يطلبها هذا النظام.. بل ولا يمانع مطلقاً في أن يقوم بتوصيلها إلي المنازل.

<<<

إذا أردنا أن نفهم ما فعله شيخ الأزهر ليس هذه المرة، ولكن في المرات السابقة فعلينا أن نضعه في سياقه.. فمنذ أن تم تعيينه شيخاً للأزهر عام 1996 خلفاً للشيخ جاد الحق علي جاد الحق وهو يعتبر نفسه موظفاً لدي النظام المصري.. قد يكون موظفاً كبيراً له قيمته لكنه في النهاية موظف ينتظر الأوامر التي تأتيه من الجهات المسئولة عنه وليس عليه بعد ذلك إلا أن يبادر بتنفيذها.. وتشاء الأقدار أن كل موقف يحتاج من شيخ الأزهر رأياً أو فتوي.. يأتي الرأي وتخرج الفتوي في صالح النظام مهما كان موقفه غامضاً ومشوهاً ومشوشاً.. لابد لنا هنا من بعض الأمثلة وهي كثيرة ولا يخلو منها سجل شيخ الأزهر د. طنطاوي.

1- اسمحوا لي أن أعود بكم إلي الوراء قليلاً.. إلي أواخر 1990.. عندما دخل صدام حسين بقواته إلي الكويت.. كان الشعب المصري رافضاً بكل فئاته هذا التدخل في شئون دولة عربية بالاحتلال.. لكن الشعب المصري وبكل فئاته أيضاً رفض أن ترسل مصر جيشاً يساهم في ضرب وتحطيم دولة عربية شقيقة هي العراق.. ضرب النظام بهذا الشعور عرض الحائط، ووقف الرئيس مبارك بنفسه ليودع القوات المصرية التي كانت مسافرة إلي المجهول الذي يقف الجحيم في آخر طريقه.

كان من الطبيعي أن يساند عدد من السياسيين والكتاب والمفكرين موقف النظام.. فلكل نظام رجاله الذين يقولون له في كل ما يفعله آمين.. لكن كان النظام في حاجة إلي من يسبغ شرعية دينية علي قراره، ويبدو أن شيخ الأزهر وقتها الإمام الأكبر جاد الحق رفض أن يقوم بهذا الدور، فاتجهت الأنظار إلي د. سيد طنطاوي مفتي الجمهورية، لم يقم د. طنطاوي بإصدار فتوي يؤيد بها مشاركة القوات المصرية في تحرير الكويت فقط، لكنه سافر بنفسه إلي حفر الباطن، ارتدي زيه الأزهري ووضع شاله الصعيدي علي كتفيه ووقف وسط الجنود وليعظهم ويقول لهم إن ما يقومون به من عمل يتقربون به إلي الله.

2- السياسة هي التي تحركه إذن.. وليس مبالغة إذا قلت إن فتاوي وتصريحات شيخ الأزهر لا تصيغها مقتضيات الشرع بل تصيغها علاقات مصر الخارجية، سواء مع أمريكا أو إسرائيل.. ففي الوقت الذي يرفض فيه المصريون التطبيع مع إسرائيل بل ويرفضون مقابلة أي إسرائيلي ولو بشكل عابر في الشارع، استقبل. د. طنطاوي وهو شيخ الأزهر سفير إسرائيل وكبير حاخامات إسرائيل في مكتبه.. فعل ذلك دون أن يرتعش له جفن.. قال له علماء الأزهر وقتها: إن مقابلتك للسفير الصهيوني ثم للحاخام الصهيوني فتوي غير مباشرة قصدت أم لم تقصد بإباحة التطبيع مع اليهود وقد بدت ثمارها المرة فتجاسر علي التعامل مع الأعداء الغاصبين من كان يتردد أو يحيك في نفسه شيء من التأثم، وقد استغلها اليهود أسوأ استغلال لو علمت.

هان شيخ الأزهر بموقفه هذا.. فكان طبيعياً أن يهون علي خصومه.. فمقابلاته للصهاينة جعلتهم يتجرأون عليه ويأمرونه بما يريدون، وقد وضحت الصورة المؤسفة بكل تفاصيلها في الرسالة التي بعث بها إلياهو بكاشن حاخام إسرائيل الأكبر إلي د. طنطاوي وسلمها له سفير مصر في إسرائيل وقتها محمد بسيوني، قال إلياهو لشيخ الأزهر: إن الفتوي التي ستصدرها ينبغي أن تقول فيها إن الدين الإسلامي يعارض قتل الأبرياء من الأطفال والنساء وكبار السن، وأن الله سوف يعاقب منفذي العمليات الانتحارية ولن يدخلهم الجنة.. لأن هذه الفتوي سوف تمنع إراقة الدماء وستجعل السلام يحل في المنطقة كلها.

كيف استطاع شيخ الأزهر أن يبتلع هذه الإهانة؟. وكيف طاب له المقام بعد ذلك علي كرسي المشيخة الكبير وهو يتلقي الأوامر ليس من الحكومة فقط، ولكن من أصدقائها أيضاً.

3- هذا اللين ظهرت آثاره في الفتاوي التي أطلقها شيخ الأزهر وتماست مع الاحتلالين الأمريكي للعراق والإسرائيلي لفلسطين.. لقد كان موقف د. طنطاوي الثابت أن منفذي العمليات الفدائية في فلسطين شهداء مصيرهم الجنة.. لكنه في ديسمبر 2001 كان يرد علي سؤال في مؤتمر صحفي عن العمليات الاستشهادية التي راح ضحيتها 30 قتيلاً إسرائيلياً في يومين فقط، كان رده مفاجأة قال بالنص: باسم الشريعة الإسلامية نرفض وندين العدوان علي الأبرياء المدنيين.. وقد امتدت هذه الفتوي أو لنقل الهتاف السياسي إلي أمريكا في العراق فقد حرم أيضاً قتل المدنيين الذين يتعاملون مع الاحتلال الأمريكي واعتبر منفذي العمليات ضدهم آثمين.

4- هذا الموقف المتخاذل نفسه كان ما فعله شيخ الأزهر تجاه واقعة إهانة المصحف وتمزيقه والتمسح به في معتقل جوانتانامو.. كان ما حدث مروعاً ومفزعاً لقلب وعقل وروح كل مسلم.. فما بالنا بشيخ الأزهر!.. لقد أهين كتاب الإسلام المقدس وكان فيما حدث رسالة واضحة، فالجيش الأمريكي يستهين بالإسلام والمسلمين والدليل إهانته للقرآن، كان المنتظر من شيخ الأزهر أن يقف موقفاً صلباً وحاداً.. يقول ما يضع النظام ليس في مصر وحدها، ولكن في كل الدول العربية والإسلامية في حرج، ولكنه وقف موقفاً رخواً.. كل ما فعله أن استعار مصطلحات الحكام العرب وأدان ما حدث.. كان يجب أن يقود شيخ الأزهر مظاهرة يطالب فيها بأن تعتذر أمريكا عما حدث وتعاقب جنودها.. لكن كيف يقود شيخ الأزهر مظاهرة وهو من الأساس يري في التظاهر عملاً آثماً.

5- نعم وليس هذا أمراً غريباً.. فقد قال شيخ الأزهر إن المظاهرات ليس من الإسلام.. ونسي الشيخ الذي ينحاز للنظام الحاكم في كل شيء أن المظاهرات عمل مشروع والتظاهر أمر أقره الإسلام وحث عليه ولم يعارضه.. بل إن الرسول -صلي الله عليه وسلم - خرج بنفسه بأول مظاهرة في الإسلام، كانت الدعوة إلي الله وقتها لاتزال في الخفاء تحتويها دار الأرقم بن أبي الأرقم وعندما صدرت الأوامر الإلهية بالجهر بالدعوة خرج المسلمون في صفين يقف في أحدهما عمر بن الخطاب ويقف علي رأس الصف الثاني حمزة بن عبدالمطلب عم الرسول.. ليعلنوا بذلك اعتراضهم علي دولة الظلم ورموزها.. معني ذلك أن الرسول أقر التظاهر وقام به.. ولذلك فلماذا يعارضه شيخ الأزهر ويعتبره عملاً مناقضاً لروح الإسلام؟ اللهم إلا إذا كان في نفسه غرض يصب في النهاية بمصلحة السلطة.

6- لعب شيخ الأزهر دوراً كبيراً في الانتخابات الرئاسية الأخيرة.. وكان الدور هذه المرة بأوامر لا تقبل التأويل.. فقد تلقي وهو جالس في مكتبه تفاصيل السيناريو الكامل الذي سيقوم به علماء الأزهر وخطباء الأوقاف لمساندة الرئيس مبارك ودعمه في الانتخابات الرئاسية.. لم تصل التعليمات لشيخ الأزهر بالتليفون.. بل زاره د. أسامة الباز في مكتبه واتفق معه علي كل شيء وعندما انصرف اتصل د. طنطاوي بوزير الأوقاف د. حمدي زقزوق ليضع معه الترتيبات النهائية لما سوف يقوله خطباء المساجد والطريقة التي سيصيغون بها خطبهم حتي لا يستفزون الناس.. وعلي الفور أصدر وزير الأوقاف أوامره الشفهية لمديري مديريات الأوقاف الذين نقلوا ما قاله الوزير إلي المفتشين تمهيداً لعقد اجتماعات مع خطباء المساجد لتنفيذ الأوامر العليا التي صدرت لشيخ الأزهر.

7 - تبني شيخ الأزهر خلال الانتخابات الرئاسية رأياً واضحاً وهو أن من يكتم الشهادة ولا يذهب إلي صناديق الانتخابات فهو آثم قلبه.. كان يمكن أن نعتبر شيخ الأزهر رجلاً محايداً يقول رأي الشرع ثم يمضي.. لكنه في الوقت الذي دعا فيه لعدم كتمان الشهادة والذهاب لاختيار رئيس لمصر كان في خطب الجمعة التي يلقيها وينقلها التليفزيون المصري لا يكف عن الإشارة إلي إنجازات الرئيس مبارك ولا يترك منبره إلا بعد أن يدعو له وبشكل واضح أن يثبت الله خطاه وينصره علي خصومه.. كان يجب أن يقف شيخ الأزهر علي الحياد لأنه إمام لكل المصريين وليس إماما للرئيس مبارك وحده أو إماما للحزب الوطني.

8- فتوي عدم كتمان الشهادة هذه ظهرت مرة ثانية علي خريطة شيخ الأزهر في فترة الاستفتاء علي التعديلات الدستورية، كان اللقاء تليفزيونيا قال فيه إن من لا يذهب إلي لجان الاستفتاء ليبدي برأيه ويقول كلمته فيها سيكون كاتماً للشهادة وآثم قلبه، سألته المذيعة عن رأيه الشخصي هو في هذه التعديلات.. وقد تكون أرادت بذلك أن تجعله يرشد الناس ويهديهم إلي الرأي الصواب، كانت المفاجأة أن شيخ الأزهر لا يعرف شيئاً عن هذه التعديلات.. ولما سألته المذيعة: كيف؟ قال لها: لم يرسلها لي أحد حتي أطلع عليها.. يتحدث شيخ الأزهر إذن دون علم.. ويحدث الناس عن أمر لا يعلمه.

10- أحدث وقائع شيخ الأزهر جاءت من المنيا هذه المرة.. حيث قام الأهالي بتوزيع منشورات كشفت عن تناقض فتوي الإمام في قضية ختان الإناث.. كان رأيه الثابت فيها عندما كان مفتياً وتحديداً عام 1992 بالنص: ختان الإناث من شعائر الإسلام وورد في السنة النبوية واتفقت كلمة المسلمين وفقهاؤهم علي مشروعيته لما فيه من تلطيف الميل الجنسي عند المرأة والاتجاه به إلي الاعتدال المحمود، ويقول الرسول -صلي الله عليه وسلم-: يا نساء الأنصار اختفضن أي اختتن ولا تنهكن أي تبالغن.. لكن عندما أصبح الحرب علي ختان الإناث هدفاً ومشروعاً قومياً تتبناه السيدة سوزان مبارك.. عدل د. طنطاوي فتواه ورأيه وأصبح ختان الإناث عنده عادة فرعونية قديمة لا أساس لها مطلقاً وليست لها علاقة من قريب أو بعيد بالإسلام، مدللاً علي ذلك بأن الرسول -صلي الله عليه وسلم- لم يختن بناته وأن هذه العادة تسبب أضراراً نفسية وصحية للفتيات.. لست هنا مع هذه المنشورات التي خرجت بالطبع لأنها تؤيد الختان.. لكنها فقط دليل علي أن شيخ الأزهر يحدد موقفه وانحيازاته طبقاً لبوصلة النظام.. فأينما يولي النظام وجهه سيجد شيخ الأزهر جاهزاً له بما يريده.

<<<

كل هذه المواقف والوقائع يمكن أن نضعها علي محك رجل الدين عندما يعتبر نفسه موظفاً لدي السلطة.. إنه لا يناقض نفسه فقط.. ولكنه يخالف شرع الله أيضاً ففي فتواه الأخيرة التي سعي من خلالها إلي جلد الصحفيين عارض كل ما ذهب إليه العلماء.. بل إنه استخدم آية قرآنية في غير موضعها.. لقد استشهد بآية سورة النور ونصها: «إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم».. والثابت فقهياً أن عقوبة الجلد بسبب القذف سنت في الإسلام لعلة معينة ومحددة وهي القذف بالزني.. لكن يبدو أن شيخ الأزهر ساوي بين الاتهام بالزني ونشر الشائعات السياسية وهو قياس باطل.. لأن التشريع الإسلامي وضع عقوبة الجلد ليحمي النساء المسكينات اللاتي لا يملكن حولاً ولا طولاً ولا يمكن أن يدافعن عن أنفسهن أو حتي يتكلمن.

بفتوي واحدة ساوي شيخ الأزهر بين رموز الحزب الوطني من الرجال الأشداء والقيادات الضخمة والنساء الضعيفات المسكينات فكأن كل هؤلاء لا حول لهم ولا قوة ولابد من تشريع حد الجلد ليكف لسان الصحفيين الأشرار عنهم.. لقد أضر شيخ الأزهر السلطة من حيث أراد أن يدافع عنها.. وضعها في موقف حرج لأنه قدم لها اجتهاداً خاطئاً وقياساً فاسداً.. جعل صورة مصر في المجتمعات الدولية مشوهة وحقيرة.. وكأننا في دولة تعيش في القرون الوسطي.. ففي الوقت الذي يطالب الصحفيون بأن تلغي عقوبة الحبس يخرج لنا شيخ الأزهر ليطالب لهم بعقوبة الجلد.. الكارثة أن شيخ الأزهر يبدو مقتنعاً بما قاله.. يدافع عنه ويتهجم علي من يطالب بمحاسبته أو عزله.. ويبالغ في القول بانه لا يستطيع أحد أن يعزله.. وهو صادق في ذلك فرئيس الجمهورية هو الذي يعينه ولا يرحل من المنصب إلا بالموت أطال الله في عمره.

سيدي شيخ الأزهر ابق في منصبك كما شئت فإنك مفارقه.. لكن تأكد أنك لن تترك وراءك أثراً واحداً إيجابياً يشفع لك عند الناس فيقولوا في حقك كلمة طيبة.. لا يطالبك أحد أن تقف إلي جانب الصحفيين ضد السلطة.. لكن قف موقف الحق فقط.. أم تري أن الحق أصبح عزيزاً عليك؟!.

لقد تورط شيخ الأزهر حتي أذنيه مع السلطة.. وقد يري أنه محق في ذلك.. فهو يؤدي واجباته القانونية معتقداً بذلك أن الله والرئيس يرضيان عنه.. ومادامت الأرض والسماء اتفقت علي كلمة واحدة.. فما الذي يزعجه.. إن كلمة التاريخ لن تكون في صفك يا مولانا.. وعندما تأتي الأجيال القادمة لتبحث عن فقهاء السلطان سيكون اسمك في أول القائمة.. هذا قدرك الذي صنعته بيديك.. ومن الآن لا تلومن إلا نفسك.. قد تكون ربحت مالاً وبنيت قصوراً فخمة تكلفت الملايين رغم أن دخلك الرسمي لا يسمح لك بذلك.. فهل هذا هو المكسب الذي تسعي خلفه؟.. إذا كان هذا مكسبك فهنيئاً لك.. لكنني أعتقد أنه ليس بالمكسب الذي يضحي الإنسان بنفسه من أجله.

اجمالي القراءات 7126
أضف تعليق
لا بد من تسجيل الدخول اولا قبل التعليق

اخبار متعلقة