اذا حكم الجيش مصر :هل كان أبو غزالة هو الجنرال الأخير الذي حلم بحكم مصر ؟

عبد الحليم قنديل   في الجمعة ٢٦ - أكتوبر - ٢٠٠٧ ١٢:٠٠ صباحاً


لا نتحدث ـ لاسمح الله ـ عن الجيش المصري كتشكيل عسكري وأسرار سلاح، ليس ـ فقط ـ لأنها منطقة محرمة بحكم القانون، بل لأن لدينا ـ كعامة المصريين ـ احترام عظيم للجيش الذي حرص لعقود علي عدم التورط في صدام مع مواطنيه، وظلت عقيدته القتالية ـ بتقاليد الوطنيه المصرية ـ ضد اسرائيل بالذات.



لكن سؤال الجيش والسياسة في مصر الأّ ن ـ علي أي حال ـ قصة أخري.

وقد يبدو غريبا أن نتحدث عن احتمال عودة الجيش لحكم مصر، فقد يري البعض أن الجيش يحكم مصر بالفعل، وأن الحياة المدنية معسكرة بما يكفي، وأن عددا كبيرا من المحافظين ورؤساء مجالس المدن من أصول عسكرية، وأن عددا غير قليل من رموز جماعة البيزنس يعودون في أصولهم للجيش أو لجهاز المخابرات، وكل ذلك صحيح، ولكنه لا يكفي للدلالة علي وضع ممتاز للجيش في السياسة المصرية الاّن، تماما كما أن وجود عدد كبير من القضاة في مناصب تنفيذ لا يعني أن القضاء المصري بخير.

وربما نغامر بالقول ـ جملة ـ أن الجيش المصري انتهي الي وضع الضحية للسياسة، ودون أن يعني ذلك أن الحكم انتهي للشعب، أو لمدنيين ناطقين باسمه، فقد تكونت ـ في مجري تطور حوادث يوليو 1952 ـ نخبة حكم من العسكريين الطامحين تحالفت الي العقائديين والبيروقراطية الصاعدة مع موجة التعليم والتصنيع الكبري، وجري فك هذه النخبة تدريجيا مع التناقض الذي نشأ ـ عقب حرب أكتوبر 1973 ـ بين الذين عبروا والذين هبروا، جري الانقلاب علي اختيارات تجربة ثورة يوليو، ودون أن تحل محلها اختيارات ولا تجربة لها معني وطني، جري التطويح بالتجربة وخلع أساساتها، ولم يترك لمصر سوي هدد وحطام وبقايا صور مراوغة في اختيارات السياسة والاقتصاد والثقافة، خرجت مصر ـ كبلد ـ من سباق التاريخ، وخرج الجيش ـ مع الشعب أيضا ـ من سياق حوادث وقوارع تداعت بالنكبة اثر النكبة، وربما كانت لحظة الخروج المزدوج هي نفسها، فقد خرج الشعب المصري جماعيا ـ لاّخر مرة الي الآن ـ في انتفاضة 18 و 19 يناير 1977، وهي اللحظة ذاتها التي استدعي فيها الجيش لوقف انفلات الشارع، وقتها بدت قيادة الجيش في حالة تردد وربما توجس، وأصر المشير محمد عبد الغني الجمسي ـ وكان وزيرا للدفاع ـ علي اشتراط الحصول علي أمر قيادة من الرئيس السادات بصفته القائد الأعلي للقوات المسلحة، فلم يكن الجمسي ـ قائد غرفة عمليات حرب اكتوبر ـ يريد للجيش أن يبدو في حالة صدام مع الشعب، ولم يكن يريد لاحتمال التورط في صدام أن يكتب باسمه في التاريخ، وحصل بالفعل علي ما أراد من السادات الذي كان هاربا ـ في أسوان ـ فزعا من ثورة الناس، ولم ينزل الجيش للشارع الا بعد أن كانت الأزمة قد تراخت، وبعد أن صدر قرار بالغاء زيادات الأسعار، والغاء الاتفاق الأول مع صندوق النقد الدولي، وحين نزل الجيش أخيرا، فانه سيطر علي الوضع الأمني بسلاسة واقتدار، ودون أن يلحق الأذي بأي مواطن.

ونتصور أن هذه اللحظة كانت فاصلة في هوية نظام، وأن الرئيس السادات، ونائبه الذي كان محدثا وقتها في المنصب حسني مبارك، قد داخله الشك في دور الجيش، ومدي استعداده لخدمة سياسة الهروب لاسرائيل فامريكا، فالجيش المصري قائم علي مبدأ التجنيد الوطني العام، وحس المجتمع منقول اليه بطبائع التكوين، ومبدأ الانضباط الحازم يكفل تماسكه، وروح أكتوبر ـ اللصيقة بزخم تجربة يوليو ـ كانت لا تزال سارية فيه، ولجأ الرئيس السادات ـ بغرائز السلطة ـ الي نوع من نزع الفتيل، وجرت احالات واسعة للتقاعد لقيادات كبري في الجيش وجهاز المخابرات العامة، وتدفقت اغراءات للكسب باللباس المدني في أجواء انفتاح السداح مداح ، بدا أننا بصدد مكافأة نهاية خدمة رمزية للجيش الذي لم يعد أحد يريده في حرب، وبعد أن أعلن السادات أن حرب أكتوبر هي اخر الحروب، بدا أن السياسة التي خانت انجاز السلاح تريد خفض حد السلاح الي الحد الأدني، بدا السادات الهارب من الشعب ـ عقب انتفاضة 1977 ـ هاربا من الجيش في الوقت نفسه، بدا الجيش كموضوع وارد للانتقام، بدا الجيش كخطر ضمني علي صاحب السلطان تماما كما هو خطر ظاهر علي اسرائيل، والتقت الرغبتان في كامب ديفيد، ثم في نصوص معاهدة السلام وملاحقها الأمنية، بدت المعاهدة ـ في أجلي وجوهها ـ كانها تحالف دفاع مشترك بين حكم السادات واسرائيل ضد الجيش المصري، بدا خفض حجم الجيش المصري وتقييد تسليحه شرطا لاسرائيل تماما كما هي رغبة ضمنية للسادات، وبالمقابل جري اطلاق حق الطرفين في التصرف بمقاييس اللحظة، فقد أطلقت اسرائيل العنان لنفسها تبني وتطور جيشها الخارج من صدمة حرب اكتوبر، وبروح الظن أنها صارت وحدها في الميدان بلا خطر منافسة ولا ملاحقة من الجيش المصري، وأطلق الرئيس السادات لنفسه الحق في بناء جيش خاص لسلطته بعيدا عن الجيش الرسمي، ولم تكن صدفة أن جهاز الأمن المركزي ـ الذي ولد محدودا جدا بنهاية الستينيات ـ شهد طفرة هائلة في الحجم والتسليح عقب انتفاضة 1977 بالذات، وهي السياسة ذاتها التي واصلها خلفه الرئيس مبارك، وبعد أن لقي الرئيس السادات مصرعه في دراما حادث المنصة ـ 6 اكتوبر 1981 ـ علي يد ضابط في الجيش المصري، ومن وقتها جري الغاء العروض العسكرية السنوية للجيش، فيما بدت عروض الأمن المركزي بجنود الأردية السود شبه يومية تحاصر النور في شوارع وميادين القاهرة، وتضخم حجم جيش الأمن المركزي الي حد يقترب من المليون، ربما هو رقم المليون نفسه الذي حشده الشعب المصري علي خط القتال مع اسرائيل في حرب 1973، لكن جيش المليون جندي يجري حشده هذه المرة من قبل النظام المصري، وعلي خط القتال مع الشــعب المصـري، انها دورة أقدار كاملة لعلها تلخص واحدا من افدح فصول المأسـاة المصرية.

انها السياسة التي حاصرت الجيش، وراحت تعمل علي تجنب خطر بدا كامنا فيه، والتصرف في القصة كلها علي الطريقة التالية، فقد يصح ـ بالضرورة ـ أنه ليس ممكنا الاستغناء عن وجود جيش، لكن المطلوب ـ بطبائع سياسة معزولة ـ هو التعامل معه علي طريقة ترويض الشر الذي لابد منه، ولم تكن الطرق سالكة تماما، لكن جملة ظروف تداخلت، وهدفت لجعل الجيش أسيرا لسياسة ليس هو صانعها، وان كان هو الاقرب الي وضع الضحية فيها، فقد جري الاستطراد في خطيئة السادات، جرت استعادة سيناء علي طريقة الذي أعادوا له قدما وأخذوا عينيه، جري نزع سيادة الجيش عن أغلب سيناء ـ وبعمق 150 كيلومترا ـ بنص الملاحق الأمنية للمعاهدة مع اسرائيل، وجري التراجع بخط السلاح وبقوات محددة من الجيش علي مسافة 50 كيلومترا شرق قناة السويس، بينما تركت المنطقة الوسطي الاستراتيجية الحاكمة خالية الا من عدد محدود من كتائب حرس الحدود، وجري نزع سلاح شرق سيناء بالكامل، وكان بوسع السياسة ـ ان أرادت ـ أن تصحح الوضع ولو قليلا، فقد أعطت المعاهدة المنعقدة ـ برعاية أمريكية منفردة ـ لأحد طرفيها الحق في طلب تغيير بنود الملاحق الأمنية بعد فترة 15 سنة علي بدء سريانها، ولكن الرئيس مبارك لم يفعل، ربما لأنه لا يريد أن يغضب اسرائيل ولا أمريكا، ثم ان موافقة اسرائيل ـ بنص الملاحق ـ شرط جوهري، ومع غياب امكانية التحكيم الدولي في معاهدة بدت كأنها اتفاقية مذلة ابدية، والنتيجة: أن الحال بقي علي ما هو عليه، فقد بدت مصر ـ وصدرها مكشوف ـ كأنها تحت حد السلاح الاسرائيلي، وتعقدت مهمة الجيش الذي أبعدوه عن خط الصدام مع العدو الأول بحسب عقيدته القتالية، والأسوأ أن السياسة الخاضعة ـ بطبائع المصالح في البقاء ـ راحت تتورط فيما هو أشد خطرا وأعظم اهانة، اذ أن التغيير الأول في الملاحق الأمنية جري باعتبارات اسرائيلية أكثر وضوحا من غيرها، فقد جري الاتفاق ـ زمن وزارة شارون الأخيرة ـ علي وضع 750 جنديا مصريا عند محور صلاح الدين، وبهدف ضبط عمليات تهريب السلاح ـ عبر الأنفاق ـ الي الفلسطينيين في غزة، وترفض اسرائيل الي الاّن طلبا مصريا بزيادة العدد الي 3500 جندي، وبدرجة تسليح أكبر، وهو ما يعكس الرغبة الاسرائيلية في حجب عودة الجيش المصري ـ ولو بصورة رمزية ـ الي الخط الأمامي.

وبعيدا عن خط السلاح الذي جرت ازاحته للخلف، كانت تجري عملية نزع لسيادة القرار في القاهرة، وبالتوازي ـ والتعاقب ـ مع عملية نزع السلاح عن غالب سيناء، كانت المعونة الأمريكية هي المجري الذي جرت من خلاله عملية التحكم في السياسة واعادة تدوير النخب، بدت المعونة ـ التي بلغت للاّن حوالي 50 مليار دولار ـ كأنها الضمانة لالزام مصر بقيودها علي نحو ما انتهت اليه معاهدة السلام، ثم راحت ـ بطرق انفاقها المقصودة ـ تخلق نواة قوية لـ جماعة بيزنس سرعان ما اندمجت مع بيروقراطية لصوص نامية، وبدت طرق الانفاق العسكري فيها كأنها مرصودة لمراقبة الجيش عن قرب، وتوسيع مساحات التسهيلات والمناورات المشتركة، بدا أن أمريكا تريد تأهيل الجيش المصري لدور تريده، وعلي غير الهدف الذي وجد من أجله، وبدا الجيش بتكوينه الوطني ميالا الي الممانعة، لكن السياسة الخاضعة اختصرت الطرق، بدت مدفوعة بغريزة البقاء بأي ثمن، ولعبت الدور الأكبر في الاساءة للجيش ومكانته الوطنية، وربما بهدف السحب من رصيده في حساب السياسة، فقد لعب الجيش المصري دورا كبيرا في دعم الجيش العراقي خلال حربه الطويلة مع ايران، ولم يكن ذلك لاعتبارات مصرية، وبقدر ما هي اعتبارات الأولوية للسياسة الأمريكية وقتها، ثم جري الانقلاب علي الدور نفسه لأن أمريكا أرادت ذلك، وجري توريط الجيش المصري في حرب الكويت ضد الجيش العراقي، وجري تصوير الجيش المصري في وضع الذي يحارب أشقاءه، وهو الممنوع من محاربة اسرائيل، وبالطبع لم يكن القرار للجيش بل للسياسة، انها اساءة السياسة المقصودة ـ غالبا ـ للجيش، وهو ما تكرر كثيرا في حكم مبارك الذي يحرص علي كسب رضا أمريكا في السر والجهر، وفي المنشط والمكره، ففي أواسط 2006، وعلي خلفية مناقشات في الكونجرس الأمريكي تطلب خفض المعونة العسكرية للجيش المصري، وتطلب العقاب علي ما وصف بالتقصير ـ المقصود ربما ـ في حرب الأنفاق علي الحدود مع غزة، وفي الجو الذي بدا صاخبا، صدر تقرير مكتب المحاسبة الأمريكي ليؤكد علي تضخم سجل خدمات مبارك لأمريكا، ويشير التقرير ـ الذي نشرت ملخصه وقتها دورية تقرير واشنطن ـ الي حقائق مفزعة، فقد سمح مبارك بعشرات الألوف من أذون المرور الجوي لمقاتلات أمريكية عملاقة ذاهبة بالدمار الي أفغانستان والعراق، وسمح مبارك بمرور 891 سفينة وبارجة حربية أمريكية ـ بعضها من النوع الذري ـ عبر قناة السويس، والمعني: أنه أضاف امكانات استراتيجية لمصر لخدمة المجهود الحربي الأمريكي في غزو العراق، وفي الوقت ذاته الذي كان يعلن فيه ـ ربما علي سبيل التمويه ـ أنه ضد غزو العراق (!).

وقد نضيف ذلك كله الي ركام اساءات مبارك للشعب المصري وأمته العربية، فحكم مبارك هو العميل الأول للسياسة الأمريكية في المنطقة، والولاء للمصالح الأمريكية الاسرائيليه ـأولاـ هو جوهر استراتيجية بقاء ورثها عن السادات، وجمال مبارك ـ سليل جماعة البيزنس ـ يرث ذات الولاء، وبجينات أكثر صراحة، وكل ذلك مما يهمش دور الجيش في السياسة بعامة، ويحجزه عن حق التصرف الواجب في المقدرات الاستراتيجية للبلاد، أضف: ما يجري من تصرفات بالعمد لانهاك أي طموح سياسي في الجيش، ففي سنوات حكم مبارك الطويلة ـ 26 سنة الي الاّن ـ تضخمت ظاهرة الاحالة للتقاعد ومن رتبة العقيد فما فوق، واستجدت ظواهر التوسع في منح المزايا والهدايا مما لا يستحب الخوض في تفاصيله، وكأن المراد هو بزنسة الجيش ، وجعله مفرخة لرجال أعمال لا لجنرالات الطموح العسكري والسياسي، وقد نختلف في تقدير أثر ذلك كله علي الجيش الذي يمتاز بانضباطه العسكري الصارم، وبالروح الوطنية لرجاله، وبالعقيدة القتالية الراسخة، لكن هدف السياسة الحاكمة ـ علي أي حال ـ يبدو ظاهرا، فمبارك ـ مع العائلة ـ لا يريد منافسا ولا خليفة بالسياسة من الجيش، ولا السياسة الأمريكيه تريد ذلك، ولا تفضله اسرائيل بالطبع، فثمة خشية ظاهرة من جنرال قد تغلب عليه روح التكوين الوطني المميزة للجيش، ثمة خشية ظاهرة من يقظة الجيش للسياسة بعد ثلاثين سنة من التهميش والترويض المتصل، وقد كان ما جري مع المشير محمد عبد الحليم أبو غزالة لافتا، كان أبو غزالة وزيرا للدفاع من سنة 1981 ـ قبل اغتيال السادات ـ وحتي سنة 1989، وكان يمتاز بالديناميكية والكاريزما الشخصية والطموح السياسي والعسكري معا، وتولدت له شعبية هائلة في الجيش، وذاع صيته الي الشارع مع قمع الجيش لتمرد الأمن المركزي أواسط الثمانينيات، كان أبو غزالة يتصرف بندية ظاهرة مع مبارك، وفي اللحظة التي غضبت فيها أمريكا علي أبو غزالة، تصرف مبارك بلا تردد، فقد ادعت المخابرات الأمريكية أن أبو غزالة يرعي مشروعا لتطوير الصواريخ المصرية من خلال شبكة ممتدة الي واشنطن، وانتهز مبارك الفرصة فأطاح بأبو غزالة، وتكفلت وسائل اعلام مبارك بالباقي، ونسبت لأبو غزالة تهم بالتورط في فضيحة السيدة لوسي اّرتين (!) .

فهل كان أبو غزالة هو الجنرال الأخير الذي حلم بحكم مصر ؟، وهل من فرصة لعودة الجيش الي الحكم بعد نهاية مبارك ؟، السؤال معلق الي مقالنا المقبل ان أبقانا الله وأبقاكم .

اجمالي القراءات 8946
أضف تعليق
لا بد من تسجيل الدخول اولا قبل التعليق

اخبار متعلقة