يا قداسة البابا.. أعلن موقفك بصراحة من تنظيمات ومؤتمرات ومؤامرات أقباط المهجر !

عادل حمودة   في الجمعة ٢٦ - أكتوبر - ٢٠٠٧ ١٢:٠٠ صباحاً


البابا شنودة مع رجال الكنائس القبطية في امريكا خلال رحلته الأخيرة والصورة من مجلة الكرازة المرقسية

في البدء كانت الكلمة».. خلقها الله شجرة قبل أن يخترع الخضرة.. وخلقها نجمة قبل أن يولد الضوء.. وخلقها سحابة قبل أن ينهمر المطر.. وعرفها الإنسان جسرا للاتصال قبل أن يعرف المطبعة والتليفون والقمر الصناعي.. واجه بها الصمت قبل أن يعرف الصخب.. واستخدمها في التعبير عن إيمانه بالله وحبه للبشر.



يتمتع البابا شنودة بسحر البلاغة.. وسرعة البديهة.. وبراعة النكتة.. وحلاوة الكلمة.. هل هناك أرقي من جملته الشهيرة: " إن مصر ليست وطنا نعيش فيه وإنما وطن يعيش فينا "؟.. لكن.. مثل هذه الحروف التي تبرق ذهبا وماسا وبلاتينا لا تكفي وقت الجد والخطر لقطع عرق وتسييح دمه.

لقد نجح صاحب القداسة في أن يبني في كل مدينة في المهجر كنيسة تتبعه.. وتصلي له.. ونجح سنة بعد أخري في توسيع أملاك تلك الكنائس لتقاس بالفدادين لا بالأمتار.. مثلا كانت كنيسة مار مرقص في العاصمة الأمريكية واشنطن تملك ثلاثة أفدنة فقط عندما بنيت عام 1997.. لكنها الآن تملك 17 فدانا علي الأقل.. مثلا.. نجحت كنيسة العذراء في المدينة الكندية مسيوجا في شراء دير يحمل نفس الاسم من أوكرانيا ويقع في منطقة أورينج فيل بولاية أونتاريو علي مساحة تزيد علي 321 فدانا.

وتعلق مجلة الكرازة الناطقة باسم الكنيسة القبطية علي ذلك بجملة دينية واحدة: " الرب يبارك العمل لمجد اسمه ".. أو بلغة أخري: " ربنا يزيد ويبارك".

لكن.. توسعات الكنيسة في المهجر وزيادة ثرواتها وبرامجها وأديرتها ومدارسها وخدماتها ومؤتمراتها جعلها بالنسبة لرعاياها المهاجرين المصريين هي الشيء الوحيد الذي يربطهم بالوطن.. فكأنها اختصرت الوطن في الكنيسة.. وهو ما فعله المهاجرون المسلمون أيضا.. فقد لخصوا الوطن في المسجد.. ومن ثم أصبح من السهل إعادة صياغة جملة البابا شنودة التي تطربنا وتشجينا إلي: " أن بيت العبادة ليس جزءا من الوطن وإنما هو كل الوطن".. وهي للأسف صياغة تناسب الواقع هناك وتعكس نفسها علي الواقع هنا.

لقد تناولت منذ سنوات طعام الغداء في بيت الدكتور رشدي سعيد الذي لايبعد كثيرا عن قلب مدينة واشنطن ومع فناجين القهوة التي شربناها سمعت شكواه من تغير طبيعة المهاجرين المصريين.. " كانوا جالية فأصبحوا ديانة ".. " كانوا سفارة فأصبحوا مسجدا أو كنيسة ".. كانوا يدعمون الوطن بما فتح الله عليهم فأصبحوا يصدرون إليه التعصب والتطرف والإرهاب.. كانوا يساندونه فاصبحوا يهدمونه.. كانوا معه فاصبحوا ضده.. كانوا سلاحا في يده فاصبحوا أداة في يد خصومه.

وربما شجعت المتاعب الداخلية في مصر علي تراجع قانون الحرية السياسية الشهير: «الدين لله والوطن للجميع» ليصبح الدين لله والوطن للمسجد والكنيسة.. فقد أصبح الشيخ والكاهن أكثر تأثيرا علي المصريين من الكاتب والمفكر والمعلم والوزير ونجم السينما.. وفاحت رائحة الطائفية وتناثرت بقعها علي جسد الوطن من أسوان إلي السلوم.

وقد استغلت ذلك تنظيمات أقباط المهجر فراحوا ينفخون في النار ويصبون عليها الزيت لتظل مشتعلة.. ولتمتد السنتها إلي مساحات شاسعة تحرقها.. وتمهد لفوضي بدا أن جهات مختلفة في النظام القائم وخارجه تدفع إليها.. في محاولة خطرة ويائسة لتغيير الحكم.

قبل ساعات بدأ مؤتمر جديد لإقباط المهجر يشرف عليه كميل حليم رئيس التجمع القبطي الأمريكي وبرعاية رأس الحربة المهندس عدلي أبادير المقيم في زيوريخ بسويسرا والملقب بشيخ المهاجرين الأقباط.. وهو صعيدي من المنيا.. يتجاوز عمره الثمانين.. ترك مصر بعد أن اتهم في قضية جنائية.. فسافر ولم يعد دون أن تنتهي المرارة في قلبه.

ولا نتوقع جديدا في هذا المؤتمر الذي لن يكون أكثر من كلمات وبيانات وتصريحات ساخنة تكرس الطائفية ولا تعالجها.. وتغرق الجروح القبطية في الملح والخل وتلهبها دون أن تفكر في البحث عن حلول لها.. فنحن كالعادة أمام تجمع جديد للسب والتشهير تدعو إليه شخصيات مسلمة حتي يمنح نفسه تسامحا شكليا لا يتحمس له.

سيكون المؤتمر أسطوانة مشروخة تزن وتوش وتعيد وتزيد ولا تطرب.. وربما كان ذلك سببا في تراجع مساهمة شخصيات قبطية مؤثرة فيه سبق أن شاركت في مؤتمرات مشابهة ووجدت أن فوائدها في حجم الحبة وأضرارها في حجم القبة.. منهم يوسف سيدهم المسئول عن صحيفة "وطني " المعبرة عن المسيحية في مصر والذي فضل أن يشارك في المؤتمر القادم للمجلس الأعلي لحقوق الإنسان الذي سيعقد في 25 نوفمبر القادم وسيناقش قضية الأقباط ضمن قضية أهم.. قضية المواطنة.

ولن نتوقف طويلا عند المؤتمر الذي بدأ صراخه منذ ساعات.. فموقف منظميه ومؤيديه ومعارضيه تحصيل حاصل.. لكن.. ما يهمنا في هذه اللحظة هو موقف البابا شنودة منه.. ومن التجمعات والتنظيمات والمؤتمرات والمؤامرات المشابهة له.. هل يرفضها؟.. هل يغض الطرف عنها؟.. هل يلعنها؟.. هل يستخدمها ورقة ضغط لتحقيق مكاسب داخلية؟.

لقد وصف البابا اقباط المهجر في رحلته الأخيرة للولايات المتحدة بأنهم "أولاده ".. وهو وصف يشمل الجميع سواء شاركوا في المؤتمر أو ابتعدوا عنه.. سواء سبوا وطنهم أو مدحوه.. لكنه.. عاد ليقول في القاهرة وأعلن رفضه لمن وصفهم بالحسبة القليلة منهم.. وجاء ذلك عابرا في إجابته عن سؤال تلقاه في لقاء له مع نادٍ من أندية الليونز.. وكأن القضية علي أهميتها وخطورتها لا تحتاج منه سوي انتظار سؤال قد يأتي وقد لا يأتي.. قد يطرح وقد لا يطرح.

لا يا قداسة البابا.. القضية مهمة ودقيقة وحساسة ولا يجوز التعامل معها علي طريقة الصدفة ولو كانت أفضل من خير ميعاد.. يا قداسة البابا نريد رأيك بصراحة وفي بيان رسمي واضح وصريح ومختوم بختم الكنيسة بحيث يصبح وثيقة تاريخية لاتقبل التأويل والتسويف وحتي لايتجرأ أحد ويفسر التناقض بين ما يقال هنا وما يقال هناك بأنه نوع من الإمساك بالعصا من منتصفها وهو ما لا نتصوره ولا نتخيله ولا نقبله.

ولا شك أن مثل هذا البيان الذي يصدر عنكم أو عن المجلس الملي سيكون مؤثرا في جموع أقباط المهجر ومرشدا لهم.. فهم في حالة تذبذب.. هل التنظيمات السياسية التي تحمل اسمهم في الولايات المتحدة وكندا واستراليا تعبر عن سياسة الكنيسة الأم أم تختلف معها؟.. هل شخصية مثل عدلي أبادير مرضي عنها من البابا أم مرفوضة منه؟.. وإذا كان شخصية غير مقبولة من البابا فلماذا يسمح له بمساعدة عائلات قبطية يتزايد عددها سنة بعد سنة في قري الصعيد؟.. لماذا يأتي رجال دين حاملون حقائب متخمة بالمال من الخارج ليجري توزيعها في الداخل؟.. ولماذا تترك صحيفة تحرض علي التوتر مثل صحيفة " الكتيبة الطيبية " تبدو وكأن الكنيسة القبطية راضية عنها بل ويكتب فيها رموز لهم الاحترام والتوقير من رجالها؟.. كلها علامات استفهام تتبعها علامات تعجب.

إن البابا شنودة شخصية ليست قوية في أوساط اقباط المهجر فقط بحكم سلطته الدينية عليهم وإنما هو أيضا شخصية يعملون لها ألف حساب في الأوساط السياسية والجامعية الأمريكية.. لقد حصل علي الدكتوراة الفخرية الثامنة من ولاية ميتشجان خلال زيارته الأخيرة للولايات المتحدة.. وسرد رئيس الجامعة البروفيسور لويس ولكر حيثيات المنح بما يجعلنا جميعا نشعر بالزهو والفخر.. " فهو خادم الله ورجل الإيمان وعالم ومعلم وكاتب ملهم وراعٍ صالح وصانع سلام وصوت لغير القادرين علي التعبير ومحفز لكثيرين كي يصلوا إلي القوة الكامنة فيهم ليخدموا معتقداتهم وعائلاتهم ومجتمعاتهم ".

إن رجلاً بهذه المواصفات الإنسانية الرحبة والنادرة لا يمكن أن يقف ساكتا أمام جماعات تسعي إلي مضاعفة التوتر في بلاده وشعبه وأمته ووطنه.. كلمة منه واضحة وقاطعة ستبرد خزان وقود علي وشك الانفجار.. وستجهز علي نيران تحت رماد.. والأهم أنها ستحدد بما لا يدع مجالا للشك في أي المعسكرات يقف؟ وأي الجماعات يساند؟.

وربما كانت رحلته الحالية للصعيد الجواني فرصة ليست لتصفية الخلافات الكنسية هناك وإنما لإعلان الكلمة الطيبة من هناك.

فعلا.. في البدء كانت الكلمة.

اجمالي القراءات 7579
أضف تعليق
لا بد من تسجيل الدخول اولا قبل التعليق