صحافة مصر «زي» مصر!

بقلم : مأمون فندي   في الإثنين ٠١ - أكتوبر - ٢٠٠٧ ١٢:٠٠ صباحاً


قامت الدنيا ولم تقعد لأن علاقة الصحافة المصرية بالحكومة قد اهتزت عندما حكم القضاء المصري على أربعة صحافيين بالسجن لمدة عام، باعتبار أن القرار اعتداء على حرية وكرامة الصحافة. ولم ينتفض أحد لضبط علاقة الصحافة بالمواطن العادي، حيث تعتدي الصحف المصرية على كرامة الأفراد وسمعتهم كل يوم، أحيانا بالتخوين وأحيانا أخرى بالتكفير. استغرب البعض هذا الحكم وعارضه ظانا أن مصر هي بريطانيا أو سويسرا، مصر هي مصر، وصحافة مصر «زي» مصر. الوصول للنموذج البريطاني من حيث حرية الصحافة وحرية الفرد بأن يقاضي الصحافة، يظل هدفا منشودا. في بريطانيا، مثلا، إذا أثبت القضاء أن صحيفة ما أساءت إلى شخص رفع قضية عليها، قد يحكم له بتعويض مالي تصل قيمته في بعض الأحيان إلى عشرة ملايين جنيه استرليني، ما يساوي عشرين مليون دولار، أو ما يساوي بالمصري ( x 520) أي مائة مليون جنيه. ثمن الإساءة لفرد وإيذاء مشاعره قد يفلس الجريدة. لذا نجد في كل قناة تلفزيونية أو صحيفة غربية قسما قانونيا يعمل به أمهر المحامين، يرجع إليهم المحررون ومعدو البرامج وحتى نشرات الأخبار، إذا ما كان هناك التباس قانوني قد يجلب على الصحيفة خسائر مادية ضخمة.
هذا الأسبوع غرم تلفزيون (جي إم تي في) بمليوني جنيه إسترليني لأنه غش في المسابقات التي يقدمها. برنامج «بانوراما» الشهير الذي تبثه محطة الـ«بي بي سي» كلف محطته ذات مرة ثلاثة ملايين دولار نتيجة لغلطة واحدة. في أميركا دفعت جريدة «البوستون هيرالد» مؤخرا تعويضا بمبلغ ثلاثة ملايين وأربعمائة الف دولار للقاضي إرنست ميرفي لأنها صورته كقاض متساهل مع الجرائم.
أقصى كفالة أو تعويض في مصر لا يصلان إلى أكثر من ألف باوند (عشرة آلاف جنيه مصري)، هذه هي كفالة الصحافيين الأربعة المحكومين بالسجن. ماذا تعني الف جنيه استرليني لمالك جريدة؟ لو كان الحال كذلك في بريطانيا أو أميركا لتشفى ملاك الصحف من خصومهم كل يوم (غسيل ومكوى).
لا يردع الجريدة في بريطانيا سوى خوفها أن ترفع عليها قضايا من هذا النوع تفلسها وتؤدي إلى إقفال أبوابها وتسريح موظفيها. إن لم يستطع مالك الجريدة الدفع، يحجز على أملاكه أو يسجن.. إذن السجن هو الحل في نهاية المطاف! بما أنه لا يوجد في مصر تعويض رادع، فالجماعة يأخذونها في إطار «هات من الآخر»، لذا يبدأون بالسجن مباشرة.
في القاهرة ثلاثة أحياء راقية: الزمالك ومصر الجديدة والمعادي. وهي أقرب الى صحف مصر العجوزة، ولا داعي للتسمية، فأنت عارف، وأنا عارف. ولكن من يزور الزمالك اليوم يرى أن المباني العشوائية قد زحفت عليها، كما أن الباعة الجوالين يمرحون في صرة الزمالك، كأن تجد «عربية بطاطا» في قلب شارع اسماعيل صبري.. وليس بالعجب اليوم أن تجد أحدهم «فارش» بعربية بطاطا في صفحة «الرأي» في واحدة من صحف مصر العريقة. بالطبع هناك كتاب متميزون، ولكن كيف لنا أن نثمن التميز وسط عربات البطاطا وباعة المقالات الجوالين!
في الشوارع، كما في الصحف، هناك الأسلاك الكهربائية العارية والوصلات غير القانونية التي توصل الكهرباء المسروقة للبيوت، كما تصل الإشاعات والنميمة إلى الصحف، وهناك المجاري «اللي طفحت» في الأحياء وفي الصحف. وكما لا توجد إشارات مرور في الشوارع تنظم السير، لا توجد قوانين تنظم الصحافة والتلفزة.
في مصر، الصحف أنواع. هناك صحف تحس وأنت تقرأها أنك في العتبة أو باب الشعرية لكثرة الازدحام، ناس وأخبار، تحس بحركة وضجيج، ويضيع وقتك بين الحوانيت والبقالات الصغيرة، وفي النهاية لا تجد ما تنشده.. فقط أتيحت لك الفرصة لأن تجرب الزحام والزنقة.
صحف مصر العريقة «زي» مصر الجديدة. الحي المترف، ولكن نصف من يمشون في شوارعه هم من الأحياء العشوائية المجاورة، مثل عين شمس وعزبة النخل والمطرية.. كذلك الحال بالنسبة للصحف المصرية ذات التاريخ العريق، فقد غزتها الأقلام العشوائية! وهناك صحف (ما بين بين) في معظمها تشبه مدينة نصر، منطقة صحراوية، فقط ساكنوها هم المروجون لها كمنطقة راقية، ربما لقربها من ضوضاء المطار!.. وفي هذه المساحة تقع الصحف التي صدرت على بعضها الأحكام. هناك بالطبع صحف كثيرة شبه لاظوغلي. بعض الصحف الشابة تراهن على المعلومة، وهي أقرب إلى مدينة الشروق الجديدة، فهي جيدة ربما لأنها جديدة، ولا ندري ماذا سيحدث لها غدا. أما بقية الصحف العشوائية فهي مثل المعمار غير المنظم المتعدي على النيل أو على الأراضي الزراعية الخصبة. حالة سميتها سابقا بصحافة «الحضيض والصلب». طبعا هذا الكلام لا يصدقه من يعرفون مصر كزائرين، تبدو لهم الأمور جميلة لأنهم يقضون فيها إجازة قصيرة في فنادق فاخرة. لوعاشوا فيها كأهلها، ستتغير الصورة لديهم.
قامت الدنيا ولم تقعد لأن الصحف التي حكم على أصحابها بالسجن «شتمت» الحزب الحاكم وسمي ذلك إضرارا بمصلحة الوطن. ولم يحاكم الصحفيون عندما ينصبون مشتمة لمواطن عادي. أليس في شتيمة المواطن العادي إضرارا بمصلحة الوطن؟ الأفراد كما الأحزاب كما الجمعيات لها كرامتها وسمعتها، ووظيفة المجتمع بمؤسساته القانونية الحفاظ على كرامة هؤلاء جميعا.
هنا سأحكي قصة شخصية تحدث عشرات مثلها للمصريين كل يوم. منذ ثلاثة أعوام شنت صحيفة «الأسبوع» حملة علي شخصيا وتصدرت صورتي ولأربعة أعداد متتالية صدر الصحيفة، حتى ظننت أنني أحد نجوم السينما وليس رجلا أكاديميا عاديا. زوجتني الصحيفة من امرأة يهودية، كما زوجتني صحيفة سعودية ذات مرة من كاتبة الـ«نيويورك تايمز» جوديث ميلر، وقد كتبت عن هذا من قبل. «الأسبوع» سودت صفحاتها بكلام يعف عنه اللسان. ولم تعتذر الصحيفة حتى هذه اللحظة! لم تنتفض نقابة الصحفيين الموقرة لنصرة مواطن، لم ينبر صحفي واحد أو كاتب عمود ليتساءل عن مدى صدق المعلومات!.. لم يسأل أحدهم لماذا يتصدر أكاديمي الصفحة الأولى لجريدة لأربعة أعداد متتالية؟ لم يندهش أحد. صعب أن تصدق أن الأصوات الزاعقة اليوم التى تنتفض لنصرة الصحفيين، هي أصوات نقية تهدف إلى رفع مستوى المهنة. شرف الصحافة زي عود الكبريت، «وياما حرايق والعة» في بشر عاديين، لكن البشر العاديين الذين تنهشهم بعض الصحف يبدو أنهم لا يستحقون اهتمام الصحفيين.
في حالتي، لم ألجأ إلى القضاء لأن التعويض لا يكفي أجر المحامي. لو كان هذا الأمر خارج مصر، ورفعت قضية عن كل عدد من هذه الصحيفة وعن أكاذيبها، لأفلست الصحيفة ولدخل صاحبها السجن. السجن يأتي بالطبع عندما لا يستطيع المحكوم عليه دفع التعويض. مرة أخرى، أنا ضد سجن الصحفيين لكنني أطالب بعقوبة رادعة، أما إذا بقيت عقوبة الصحفي ألف جنيه، فتأكد أن الصحافة ستتحول إلى مشتمة أو إلى «فتح مطاوي» في حارات شبرا المظلمة، وهنا تفقد الصحافة احترامها في الداخل والخارج.
تلخبطت الأمور في مصر، لأن الخط الفاصل بين الباحث والمباحث قد ضاع.. وأصبح الوسط الصحفي زي «وسط البلد»، والوسط محتاج «لهزة» قوية وغربلة حتى يتساقط الدخيل ويبقى الصحفي. وهنا لا أقصد الإعلام المكتوب فقط، فالتلفزيونات أصبحت كما يغني الجنوبي محمد منير «شبابيك.. الدنيا كلها شبابيك»، شاشات يطل منها كل من هب ودب، ليلقي ما عنده علينا، فتصبح الشاشات أشبه بشبابيك «المساكن الشعبية». في غياب آليات السوق وغياب معايير الكفاءة، يحق لمن جعلك صحفيا (بالعافية) ووضعك على رأس صحيفة أو على الشاشة، أن يزيلك من المنصب متى ما أحب. ولأن معظم المؤسسات الإعلامية بيوتها من زجاج، فلا تستطيع أن تنتقد عيوب وسيلة إعلامية في وسيلة إعلامية أخرى. الصحفيون يسمحون بنقد أي إنسان إلا زملاء المهنة. فأين نتحاور عن عيوب الصحافة إذن؟!
على الحكومة أن تكون جادة في مسألة حرية الصحافة، وعليها أيضا أن تعدل القوانين لتحافظ على حق الفرد، فالصحفي مواطن كما أن رئيس الدولة مواطن. أساس الديموقراطية هي الفرد (مش فرد الملاية أو فرد السلاح). الحفاظ على حق الفرد هو الأساس.. في مصر تبتز الصحافة وتهتز. القوانين الحالية تحتاج إلى مراجعة من حيث قيمة التعويضات لتصبح رادعة لمن استسهل الإساءة للآخرين من أجل كسب شعبية رخيصة.
وفي النهاية، حتى لا يزعل مني أحد، وأتهم بالتحامل على الصحافة المصرية، (رغم أن هذا من حقي كمصري).. أقول إن صحافة السعودية زي السعودية، وصحافة اليمن تشبه اليمن، وصحافة ليبيا مثل ليبيا، وصحافة سوريا كالسوريين، وصحافة قطر زي «all of the above» أو كل ما سبق مخلوط في بعضه. لا تشبه الصحافة امكنتنا فقط، صحافتنا أيضا «زي» زماننا.

اجمالي القراءات 7510
أضف تعليق
لا بد من تسجيل الدخول اولا قبل التعليق