عن الدولة الدينية..الجزء الأول: الاسكندرية.. مدينة الفتن

هشام الطوخي   في الخميس ٢٧ - سبتمبر - ٢٠٠٧ ١٢:٠٠ صباحاً


والآن.. فان الله على دراية بما سوف يحدث من أمور، والبشر على دراية بالأحداث التى جرت، أما الحكماء منهم فعلى دراية بما هو وشيك الحدوث ".
فيلوستراتوس، حياة أبولونيوس التيانى، الجزء 7
مقولة فيلوستراتوس لم تعد تصلح للتطبيق فى حى محرم بيك ولا فى غيرها من أحياء الاسكندرية، ولا فى شوارع مدينة الخانكة، ولا حتى على جرف ترعة فى قرية العديسات.. مقولة فيلوستراتوس لم تعد اليوم صالحة فى أى شارع من شوارع المحروسة.


ونحن لا نتحدث عن الله ولا عن الحكماء.
نتحدث عن البشر الفانين.. أؤلئك الذين اعتبروا أن قضية الدولة الدينية هى غاية سامية تصلح لتكون مشروعاً وقضية بعد انتهاء القرن العشرين.. القرن الذى سقط فيه الى الأبد مبدأ العنصرية، و لم يعد مقبولاً فيه التمييز بين البشر على أساس دينى أو عقائدى أو طائفى.. القرن الذى صارت فيه قضية حقوق الانسان والمساواة من المسلمات التى تسعى اليها كل الشعوب التى يستعبدها حكام يصرون على ابقائها فى تخلف العصور الوسطى.
نتحدث عن البشر الفانين.. أولئك الذين هزتهم الصدمة أو ادعوها اثر أحداث كنيسة مارى جرجس أوغيرها من الحوادث التى لن يوقفها الا تشكيل وعى جديد ناضل من أجله رواد النهضة والتنوير المصريون وتلامذتهم رفاعة الطهطاوى والخديوى اسماعيل و محمد عبده وقاسم أمين وطه حسين وعلى عبد الرازق ومصطفى النحاس وطلعت حرب و مى زيادة وسلامة موسى وهدى شعرواى ونبوية موسى وسيزا نبراوى ونجيب محفوظ وفرج فودة ونصر حامد أبو زيد ورفعت السعيد وأحمد عبد المعطى حجازى وأسامة أنورعكاشة... وعى يؤمن بالمثل العليا ويتبنى القيم الانسانية.. التسامح والمساواة والعدالة والحرية.. وعى حارب رواد التخلف تجسده فى أرض الواقع.. وعى يحاول اليوم تلاميذ التخلف - الساعون الى حرق أعلام دولة المواطنة لاستبدالها بأعلامهم الطائفية - قتله كمبدأ وفكرة.. فالتسامح يحرمهم من الاستعلاء، والمساواة تحرمهم من السطو على النفوذ، والعدالة تحرمهم من اذلال الناس، والحرية تكشف أباطيلهم التى يستعبدون بها العقول، وتسحق الخزى الذى يريدون للانسان أن يركبه فى رحلة العودة لاستحضار العار من عصور التخلف.
نتحدث الى البشر الفانين.. أولئك الذين يحتاجون الى كشف التخلف، وسحق الخزى، ومحاكمة العار.
نتحدث عن البشر الفانين.. أولئك الذين نتلمس لهم كل الأعذار الممكنة، لأنه قد جرت الكثير من عمليات الفرمتة لذاكرة العقل المصرى ولم تعد تتضمن الا تلك الملفات التى تبثها مجموعات المصالح المختلفة الأهداف و المصالح، والتى ترتدى أحيانا رداء العقائد أو رداء الشوفينية. لكن الوقائع التى حدثت - ولا أقول الحقائق - لا يمكن أن تندثر بسهولة طبقاً لأمنيات أو حتى ارادة، فما جرى لا يمكن انكاره لأنه ببساطة قد جرى.
ونحن حين نتحدث عن تاريخ المحروسة ( الدولة ) يمكننا بجرأة أن نعرفه بأنه ذلك الشيئ الذى عولج كثيراً بالتزوير وبمحاولات الاخفاء المختلفة، لكن لأنه - التاريخ - من أكثر الأشياء التى تستعصى على الابادة، فكما يسهل القاؤه فى تلال القمامة يسهل بالمثل التقاطه.
الاسكندرية.. مدينة الفتن
وحين نتكلم عن الاسكندرية فيمكننا - بنفس الجرأة - تعريفها بمدينة الفتن.. تنام على هدوئها البادى سرمدياً لتنتفض على براكين تقذف بالحمم، هى مدينة التعايش الكوزموبوليتانى ومدينة الاضطهاد والتعالى.. مدينة العقول المتقلبة والقلوب التى بلا روح..
طلب الاسكندر ابن فيليب من المهندس " دينوقراطيس " بناءها عام 332 ق. م.، وفى عام 323 ق.م. استطاع بطليموس الأول ( سوتر ) أن يجعلها عاصمة الدولة البطلمية التى يحكم منها مصر، حمل الاسكندر و بطليموس وخلفه اليونانيين اعجابا بالحضارة المصرية القديمة، واعجابا مماثلا للمصريين، فأظهروا احتراماً كبيراً وتسامحاً نحو عاداتهم ومعتقداتهم، فكانوا يقدمون الذبائح للآلهة المصرية، ورغم أنهم فرضوا على المؤسسات الدينية أعباءاً ضرائبية كبيرة فلم يتوقفوا يوما عن رعايتها واحترامها.
كانت الاسكندرية المدينة العالمية الجديدة تجمع شعوباً من جنسيات عدة منهم المصريين واليونانيين واليهود، فكر بطليموس فى طريقة تذيب الفجوة الثقافية والعقائدية بين هذه الفئات وتجمع قلوبهم على الانتماء لمدينتهم ودولتهم الجديدة، فجمع رجال الأديان المصرييين برئاسة المؤرخ والكاهن المصرى مانيتون واليونانيين برئاسة ثيموثيوس وطلب منهم ابتكارمعبود جديد للسكندريين يجمع قلوبهم ويوحدها، فمزجوا عدة آلهة مصرية ويونانية، وأنتجوا معبوداً جديداً يجمع فى نفس الوقت بين صفات زيوس واسكيليبيوس وأوزوريس وأبيس، وأطلقوا على معبودهم الجديد اسم سيرابيس ( serapis ) وأعطوه زوجة هى ايزيس المصرية، وتم بناء أروع المعابد للعبادة الجديدة فى حى راكوتيس المصرى - كرموز حاليا - وهو السيرابيوم الذى صار فخر السكندريين و رمز ديانتهم الجديدة التى جمعت أفئدتهم، وانتشرت الى كل الدول الهللينية فى البحر المتوسط، وظلت الديانة الأهم التى صمدت لكل المتغيرات عدة قرون تالية.
وفى عام 32 ق.م. انتحرت كليوباترا وأنطونيوس بعد هزيمة معركة أكتيوم، وفى لحظة درامية دخل أوكتافيانوس الاسكندرية التى استعصى سقوطها على أحلام الرومان قرنين من الزمان معلناً تحويل مصر الى مجرد ولاية رومانية بعد أن ظلت ثلاثة قرون أعظم الدول اليونانية فى حوض البحر المتوسط.
رأت الدولة الرومانية أن وحدتها وتماسكها يتطلب سلاماً داخلياً لن يتحقق الا عن طريق التسامح الدينى التام مع كل الشعوب المختلفة متعددة العقائد والأعراق التى تظللها راية الامبراطور، وكذا بتوافرالاحترام الكامل لمعتقدات ومعبودات كل الطوائف المختلفة فيما بينها، فاحتقرت الامبراطورية جميع النزعات الشعبوية الانعزالية التى تنادى بالتعالى الطائفى، وادعاء المعرفة الالهية المطلقة و احتكار الحقيقة، وارتبط هذا التسامح الامبراطورى بالخضوع المدنى الكامل للامبراطور واظهار الاحترام لجهاز الادارة والالتزام بسداد الضرائب للدولة، وتمتعت الاسكندرية بهذا التسامح الدينى كغيرها من المدن الرومانية حتى ابتدأ ظهور المسيحية.
ولد المسيح - فى أقوال متضاربة - عام 2 أو 3 ق.م.، وتفترض بعض الآراء أن القديس مرقص - جون ابن ريستوبولس ومارى المولود فى كورينة (برقة حالياً ) - هو مؤسس كنيسة الاسكندرية.
على المستوى الرسمى لم تتخذ السلطات فى الاسكندرية بادئ الأمر أى موقف تجاه المسيحية، واعتبرت أن هذه البدعة الجديدة انما هى خلاف عقائدى خاص بالطوائف اليهودية يدور فيما بينها، واعتبر الأمر - رغم احتقاره - قابلاً للخضوع كغيره لسياسة التسامح التى تنتهجها الامبراطورية.
" بدايات الحركة الدينية كانت غامضة، ولم يكن لها أى علاقة بالطبقات الاجتماعية العليا، ولم تعرهم السلطات أدنى اهتمام الا فى حالة تمردهم على قوانينها " (1).
أما على المستوى الشعبى فيقول ادوارد جيبون : " ان جمهور المواطنين - السكندريين - وهم شعب يتميز بالصلابة الكئيبة قد استقبلوا الدين الجديد فى فتور واشمئزاز، وكان من النادر فى أيام أورجين origin أن تلتقى بمصرى تغلب على تعصبه القديم للحيوانات المقدسة فى بلده ".
والحق أنه قد لقيت المسيحية رفضاً ومقاومة شديدة من جموع العامة المصريين فى الاسكندرية وكذا فى الأقاليم المصرية المختلفة، واستقبلوا مرقص بعد وصوله الى مصرعام 55 م. - وفى أقوال أخرى أعوام 45، 58، 60، 61 م - باحتقار وازدراء شديدين، واعتبروا ما يعرضه تحدياً لمعتقداتهم بل ووجودهم وطريقتهم فى الحياة، فقد امتنعت الأعداد القليلة من المصريين التى قبلت المسيحية عن تناول أطعمة العامة من الشعب معتبرين أنها نجاسة قدمت للآلهة، وامتنعوا عن الزواج من المصريين الوثنيين أو تزويج بناتهم منهم، وامتنعوا عن قبول الوظائف العامة التى كانت تشريفاً اجبارياً لرؤوس العائلات الثرية، ورفضوا الانخراط فى الخدمة العسكرية ضمن جيش الامبراطورية الوثنى، وأظهروا الاحتقار لأفكارالمصريين وفلسفاتهم وأعيادهم وأفراحهم، بل وأظهروا الشماتة فيما ينزل بالمصريين والدولة من مصائب...، " وفسروا الكوارث التى انتابت الدولة بتحقيق النبوءات التى جاءت فى الكتاب المقدس عن تدمير بابل وعودة المسيح " (2)، وابتكر المسيحيون عادات جديدة لم يألفها المصريون استهجنوها ووصموها بالشذوذ، فأوريجينوس المثقف المصرى رئيس مدرسة الديداسيكلون المولود عام 185 م والذى يعد من أبرز آباء المسيحية الأوائل - تلميذ كليمندس الفيلسوف اليونانى الذى كان أعظم علماء المسيحية فى عصره - كان قد أقدم فى عمر الثامنة عشرة على اخصاء نفسه (3)، وبدا المسيحيون المحملون بالأسرار الغامضة والمريبة فى انعزالهم وتعاليهم على بقية المصريين وكأنهم يشكلون دولة داخل الدولة.
ونتيجة لعزلة المسحيين عن المجتمع واظهارهم الاحتقار للمصريين فقد انتشرت ضدهم الشائعات الكريهة، أشيع أنهم يذبحون أطفالاً ويشربون دماءهم فى أعياد القديسين وحفلات المجون sexual orgies ))4، وتم الصاق التهم بالمسيحيين بأنهم مصدر كل الشرور وأن المصائب التى تحل بالشعب كالأمراض والأوبئة والمجاعات والحروب والزلازل ونقصان فيضان النيل انما هى لعنات تصبها الآلهة الغاضبة لوجود المسيحيين الذين يسبونها، فكانت تخرج المظاهرات العارمة تطالب بابادتهم وتدمير أماكن تجمعهم واعتذار كهنتهم للآلهة وتقديم القرابين لها لاسترضائها.
وفى عام 68 م. توافق عيد القيامة مع عيد سيرابيس الاله المصرى، وخرجت الجموع الغاضبة تهدر بالشعارات الدينية المصرية، وقبض المتظاهرون على مرقص جون ابن مارى وريستوبولس، وربطوا عنقه بحبل وجروه فى شوارع المدينة حتى تمزق جسده وانفصل رأسه عنه (5)،...... " وكان المتعصبون الوثنيون يرون فيه خطراً على الآلهة ومدعاة لتفكك العائلات واستجلاباً لنقمة السماء والويلات التى تحل بالزرع والضرع " (6).
وكانت النتيجة أن ابتدأت مواقف الامبراطورية تجاه المسيحيين الذين يرفضون الولاء للدولة و يحاولون تشكيل دولة داخل الدولة فى التغير، ففى رسالة منسوبة الى الامبراطور هادريانو عام 134 م. يقول عن المسيحيين : " وكنوع من الرجال فهم محرضون على الفتنة، وفارغون وحاقدون فى مجملهم.." (7).
وابتدأت نار الاضطهاد الشعبى ضد المسيحيين تتأجج وتستعر.
يورد يوسابيوس القيصرى - القرن الرابع الميلادى - رسالة ديونيسيوس الى فابيوس أسقف انطاكية (8).. يقول ديونيسيوس : " لم يبدأ اضطهادنا بصدور الأمر الامبراطورى، بل سبقه بسنة كاملة.. "
" ان مخترع و مصدر الشرور فى هذه المدينة أياً كان، قد سبق فحرض وهيج ضدنا جماعات الأمميين، ونفث فيهم من جديد سموم خرافات بلادهم.. واذ هيجهم بهذه الكيفية، ووجدوا الفرصة كاملة لارتكاب أى نوع من الشر، اعتبروا أن أقدس خدمة يقدمونها لشياطينهم هى أن يقتلونا.. فألقوا القبض أولاً على رجل متقدم فى السن اسمه متراس، وأمروه بأن ينطق بكلمات كفر، ولكنه أبى أن يطيعهم، فضربوه بالهراوات، ومزقوا وجهه وعينيه بعصى حادة، وجروه خارج المدينة ورجموه ".
"بعد ذلك حملوا الى هيكلهم امراة اسمها كوينتا، لعلهم يجبرونها على عبادتهم. ولما استقبحت الأمر ربطوا رجليها، وجروها فى أنحاء المدينة على الأرض المرصوفة بالحجارة، ورضضوا جسمها فوق حجارة الطاحون، وفى نفس الوقت جلدوها، وبعد ذلك أخذوها الى نفس المكان ورجموها حتى زهقت روحها.."
" وألقوا القبض على امراة اسمها أبولونيا، وهى سيدة متقدمة فى السن، وضربوها على فكيها، وكسروا كل أسنانها، وأوقدوا ناراً خارج المدينة وهددوها بالحرق حية ان لم تشترك معهم فى هتافاتهم الكفرية.. ولما رفضت أحرقوها بالنار.."
" ثم ألقوا القبض على سرابيون فى بيته، وعذبوه بقسوة وحشية، وبعد أن كسروا له كل أطرافه طرحوه من طبقة عليا، ولم يكن هنالك فى الاسكندرية مفتوحاً أمامنا شارع أو طريق عام أو عطفة، نهاراً أو ليلاً، لأنهم كانوا يصيحون دواماً وفى كل مكان بأنه ان كان أحد لا يردد معهم كلمات الكفر وجب أن يجر فى الحال خارجاً ويحرق.."
"ويوليانوس الذى كان يشكو كثيراً من داء المفاصل حتى عجز عن الوقوف أو المشى قبضوا عليه مع اثنين آخرين كانا يحملانه، فأنكر أحدهما المسيحية وأنقذ نفسه، وأخذوا يوليانوس والرجل الآخر الذى معه واسمه كرونيون وحملوهما على جملين، وطوفوا بهما فى كل شوارع الاسكندرية - وهى كبيرة جداً كما تعلم - وفى المكان المرتفع ضربوهما، ثم أحرقوهما فى نار رهيبة، تحيط بهم العامة من كل جانب وهى ترعد وتصفق.."
والشهادة - المعاصرة للأحداث - التى تورد الكثير من تفاصيل العنف الشعبى الموجه ضد المسيحيين كتبها ديونيسيوس عام 249 م. قبل عام واحد من قيام الامبراطور ديكيوس باصدار مراسيمه باضطهاد المسيحيين رسمياً، حين أصبح الاضطهاد على المستويين معا.. السياسى والشعبى.
أما أورجين فقد كان " يغلى مرجل الاضطهاد نحوه يوماً بعد يوم حتى لم تعد المدينة كلها تطيقه، ولكنه كان يتنقل من بيت لبيت، وكان يطارد فى كل مكان بسبب الجماهير الغفيرة.... " (9).
" وقد اشتهر عدد من تلاميذه مثل بلوتارخوس هيراكليوس وهور وسيرنتوس، ومن النساء هيرمس التى ماتت وهى لا تزال تحت التعليم، ومنهم يوتانيتا وقد تمسكت بمسيحيتها وتعرضت للاضطهاد، ورفضت أن ترضخ لشهوات سيدها لأنها مسيحية، ولما سيقت للموت حاول الشعب الاساءة اليها وأهانها الضباط بألفاظ بذيئة، ولكن أحد الضباط أبعد عنها اؤلئك المسيئين، ولقد اعتنق المسيحية وقتل هو الآخر "
ورغم أننا لسنا معنيين هنا بتاريخ الدولة ولا الأباطرة، وما نعرض الا لمواقف العامة من الشعب حين تتلبسهم روح التعصب والتعالى الدينى الذى يدعى تمثيل السماء، فلن يضيرنا أن نشير الى أن مواقف هؤلاء الأباطرة الرومان من المسيحيين قد تراوحت ما بين التسامح الكامل فى بعض الأحيان الى التشدد التام بل والاضطهاد فى أحيان أخرى.
استمر الأمر حتى عام 313 م. عندما أصدر الامبراطور قسطنطين مرسوم ميلان الذى اعتبر المسيحية احدى الديانات المعترف بها من الدولة، فانتهى رسمياً اضطهاد المسيحيين، و دخلت الاسكندرية مرحلة جديدة تحول فيها الصراع من معركة تدور رحاها بين الوثنية الأفلاطونية من جهة والمسيحية من جهة أخرى الى معركة تطحن الطوائف المسيحية المتشاحنة فيما بينها، وتنتصر لمذاهبها ونظرياتها بالدم.
" كانت وحدة المسيحية الظاهرة أكبر من حقيقتها، فلم تكد تتحرر من ضغوط الاضطهاد، وبمجرد أن تمكن قادتها من التفرغ للتفكير والتأمل فى أمور السلطة، حتى انفجرت الخلافات الكامنة، وتفاقمت خطورتها بسبب المنافسات الشخصية والاقليمية والعرقية، وكادت أن تمزقها ارباً، وفى هذه العملية انجرف عالم البحر المتوسط كله فى المجادلات وفى حمامات الدم " *.
" وبمجرد أن أمسك المسيحيون بآلة الدولة الوثنية أداروها ضد بعضهم البعض، وأخذ القرن يردد صدى المجادلة بين اثنين من الكهنة المستبدين "(10).
واستمرت حمامات الدم فى الاسكندرية بين المسيحيين من أتباع آريوس واثناسيوس، وفى عام 325 م " وبعدد وافر من الكهنة، وبكثير من العنف تم تحرير مرسوم وأدين آريوس.. " ( 11)، لكن الأمر لم يكن قد انتهى، استمر النزاع الدامى رغم كل المراسيم الامبراطورية والقرارات الكهنوتية، وبدا وكان لا شيئ يمكنه أن يوقف هذا الجنون، حتى جاءت لحظة ما من عام 336 م.، فحينما بدا وكأن آريوس واتباعه على وشك الانتصار مات آريوس بطريقة غامضة.. " اجتمع أصحاب آريوس اليوم التالى وشرعوا يهتمون فى نقله الى الكنيسة رغماً عن الأسقف، فشيعوه فى الأزقة بزفة الانتصار وهم يرشقون الأسقف بسهام الطعن والشتائم، فلما دنوا من الساحة ونظروا الى الكنيسة شعر آريوس أنه مضطر الى الذهاب الى المستراح، فانفصل عن مشيعيه واختلى فى موضع خفى لقضاء الحاجة، وكان الجميع ينتظرونه، فلما أبطأ زماناً طويلاً دخلوا عليه فوجدوه ميتاً منكباً على وجهه مغمساً بدمائه وأحشاؤه خارج جوفه..." (12).
واستتب الأمر فى النهاية لاثناسيوس وأتباعه، وهو " كسياسى كان يعرف كيف يمكنه فرض الحقيقية بالقوة " (13)، و تفرغ أخيراً بروح ممثل السماء المنتصر بارادة الرب لتوجيه حملات الكراهية ضد الثقافة والفلسفة ومظاهر الحياة المصرية المخالفة لتعاليم الرب، وقد اختار فى احدى حملاته الدموية أن يضرب التحنيط كأحد الرموز الكبرى للتراث المصرى، وطلب فى وصيته من أتباعه دفنه فى مقبرة سرية.
" والملاحظ - فى عهد اثناسيوس - أن الثورات والانتفاضات الشعبية التى حدثت فى تلك الفترة غالبيتها كانت ذات طابع دينى، فلم تكن الثورة من السمات المميزة للشخصية المصرية، ولكن كان هناك رفض ومواجهة مع الدولة من أجل الدين والمعتقد، فاختلط ما هو دينى بما هو قومى، حيث وجد المصرى الملاذ فى الالتفاف حول رجال الدين والثورة على حكامه.." (14).
وكان اعلان المسيحية ديناً رسمياً للدولة فى عهد الامبراطور ثيوديسيوس الأول دافعاً لا يقاوم للمصريين لاعتناق دين الامبراطور، وابتدأ المصريون بأعداد غفيرة الدخول الى المسيحية، يتحدث ادوارد جيبون عن جمهور الشعب الذى يتميز بالصلابة الكئيبة الذى كان يقاوم المسيحية بادئ الأمر ويناصبها ألد العداء فيقول : " والحق أنه بمجرد أن اعتلت المسيحية العرش انقلبت حماسة هؤلاء للرأى المقنع السائد، وذخرت مدن مصر بالأساقفة وعجت صحراء طيبة بالنساك " !
وفى سنوات قلائل تغير الحال من نقيض الى نقيضه، فبعد أن كانت المسيحية ديانة الأقلية المضطهدة صارت عقيدة الأغلبية الشعبية الكاسحة، وأصبح الوثنيون المصريون قلة تقف فى موقف المقاومة والدفاع عن الوجود، وسرعان ما خضعت المقاومة للاضطهاد والتنكيل، فتم مطاردة المصريين الوثنيين، وتم حرمانهم من الوظائف.
يقول المؤرخ يوحنا الأسيوى : " أنه ظهرت وظيفة جديدة هى المفتش عن الوثنية، عمله تبليغ الادارات الحكومية عن الوثنيين " (15).
وتحولت مصر الى دولة يملكها البطريرك ويحكمها الرهبان الذين " لم يكن لهم أية أهمية طالما يعيشون فرادى، ولكنهم وبقدوم القرن الرابع الميلادى تجمعوا فى تجمعات مرعبة، وصار من الممكن أحياناً أن يقوموا بشن الغارات على الأماكن الحضرية كما يفعل البدو اليوم..."، " وكان هؤلاء الرهبان يمتلكون بعض المعرفة فى اللاهوت وأيضاً الحرف الزخرفية، ولكنهم كانوا كارهين للثقافة، وغير قادرين على التفكير، وكان من أبطالهم آمون الذى هجر زوجته عشية زفافهما، والقديس أنطونيو ذلك الذى كان يستحم وهو آثم فحمله أحد الملائكة عبر قنوات الدلتا، ومن أمثال تلك السلسلة كان يتم اختيار البطاركة " (16).
و شهدت شوارع الاسكندرية المظاهرات الراعدة تندد بكل ما يتعلق بالحضارة اليونانية الوثنية باعتبارها منبع كل شر، وفى عام 389 م خرج المسيحيون فى موجات عارمة وغاضبة، تطارد الوثنيين فى كل مكان، واندلع الشغب فى الاسكندرية اثر قيام البطريريك ثيوفيلوس بعد حصوله على تصريح من الامبراطور ثيوديسيوس بالاستيلاء على أحد معابد باخوس وتحويله الى كنيسة، وطورد الوثنيون فى شوارع الاسكندرية، و حوصروا فى معبد سيرابيس الذى كان قد صار رمز الثقافة المصرية ومركزالفلسفة والعلوم بعد انهيار الموزيون، و ملجأ الفلاسفة وعلماء الرياضيات والشعراء، ومكاناً لاجتماع معتنقى التقاليد الهللينستية، ومقراً لمكتبة الاسكندرية التى كانت قد انتقلت اليه بعد تدميرها الأول نتيجة احتراقها فى المعارك التى خاضها يوليوس قيصر فى الاسكندرية لصالح كليوباترا ضد أخيها بطليموس الثامن،.. اندفعت جموع المسيحيين فى هيستيرية واقتحموا المعبد وقتلوا أعداداً كبيرة من الوثنيين الذين احتموا داخله، وأؤلئك الذين قادهم الفيلسوف أوليمبيوس للموت ذوداً عن هياكل الآلهة (17)، وأحرقوا المكتبة، ودمروا المعبد حتى أخر حجر قائم فوق الأرض، وحولوا غضبتهم الى بقية المعابد الهللينستية، وأماكن تجمع الوثنيين و دمروا معظمها، ونهبوا بيوتهم، وانتهى منذ تلك اللحظة التاريخ المجيد لمكتبة الاسكندرية، بل " ولا يوجد دليل بعد تدمير مكتبة الاسكندرية على وجود مكتبات عامة " (18).
واستمر البطريرك ثيوفيلوس ومعه جموع الرهبان فى قيادة المسيحيين نحو اضطهاد البقية من الوثنيين وتدمير معاقلهم حتى توفى عام 412 م، وخلفه على رئاسة أسقفية الاسكندرية كيرلس... " وكان كيرلس ( سيريل ) مندفعاً فى أعماله وأفكاره مع ميل الى العنف، والذى كان ينبع من رغبته فى استبعاد كل العناصر غير المسيحية من مصر......، ولم يعتمد على جنود الحامية العسكرية، بل اعتمد على عامة المدينة والرهبان فى الصحراء الغربية بوادى النطرون قرب الاسكندرية " (19).
" وفى هذا الوقت صار جيش كيرلس (سيريل ) المشكل من الرهبان هو الأعلى سلطة...، وامتلأت الشوارع بجيش سيريل الأسود المتوحش.. الآدميون فى وجوههم فقط، كانوا شغوفين بأى عمل يبرهن على ولائهم تتويجاً لما قاموا به " (20).
" ومن الأعمال الأولى التى أقدم عليها كيرلس( سيريل ) - وكان مدفوعاً الى ذلك بوحى من تعصبه أو بوحى من محبته لله - تحريضه للرهبان زوارأحيائه على القيام بأعمال النهب والسلب للجالية اليهودية الثرية، وطردها من المدينة، وكان قوامها 40000 من الأشداء، وقد أقدم على ذلك دون الحصول على أى مصادقة سواء من الامبراطور أو من الوالى الرومانى أورستيس، وازاء ما صدر من أورستيس من اعتراضات قام كيرلس بتحويل غضبة الرهبان زوار الأحياء صوب الوالى الذى جرى الاعتداء عليه فى الشوارع، وأصيب بفعل جمهور من الرهبان عددهم 500 من رهبان نيترا، فقام أورستيس باعتقال الراهب أمونيوس الذى قيل بأنه هو المتسبب فى اصابته، وتم جلده الى أن مات، وعندئذ لجأ كيرلس الى أسلوب معروف فى الاضطرابات المدنية التى تحدث دوماً، فأعلن أمونيوس شهيداً، وقام بنفسه بالقاء خطبة نارية فى حفل تشييع جنازته " (21).
والمفارقة هنا أن الوالى أورستيس الذى قاد كيرلس ضده - باسم محبة الرب - حملة العداء لمعارضته - كممثل للدولة - اضطهاد المواطنين اليهود فى المدينة كان مسيحياً !
ومات الموظف المسيحى أورستيس فى النهاية متأثراً باصابته على يدى الشهيد المسيحى أمونيوس !
" وقامت الغوغاء بنهب بيوت الأثرياء وانتشر الاضطراب فى الاسكندرية وعجز الوالى ورجال الجيش عن اخماد هذه الاضطرابات، ولقد ضاق كيرلس بمدارس الفلسفة فى الاسكندرية باعتبارها مركزاً للفكر الوثنى فى رأيه " (22)....، فقاد حملات الكراهية ضدها، وكانت " هيباتيا " عالمة الرياضيات الشهيرة ابنة العالم الرياضى " ثيون " من أبرز مثقفى الاسكندرية عبر تاريخها، وأحد ألمع وجوه الحضارة الهللينية، وكانت تقدم دروسها للعامة من كل الطوائف، وكان يحضرها الشباب المفتون بها من الوثنيين والمسيحيين والرهبان، ومنهم سينيوس أسقف كورينة فى برقة و الذى يتحدث بعد تدمير مكتبة الاسكندرية عن هيباتيا كحافظة للحكمة والثقافة الهللينستية : " لم يبق لنا شيئ واقعى سوى أسماء البلاد المشهورة، فاليوم قد بلغت مصر وصانت الحكمة النافعة من هيباتيا، وكانت أثينا فيما مضى موطن الحكمة، أما اليوم فتجار العسل هم موطن فخارها ! ".
حرض كيرلس عام 415 م. جموع الغوغاء من المسيحيين ضدها، فتربصوا بها وهى عائدة من احدى محاضراتها،... " وقتلها الرعاع من المسيحيين.. جذبت من مركبتها، وعريت من ملابسها، وجرت الى كنيسة قيصرون، حيث مزقت ارباً باستخدام أصداف المحار الحادة " (23)، وكان المسيحيون يمجدون الرب و يرتلون فى هيستيرية شعاراتهم الدينية أثناء صراخها (24) بينما يستخلصون قطع اللحم من جسدها الحى، " ولم تهدأ الأمور الا عندما أرسل الامبراطور بعثة للتحقيق " (25).
يرى جمال حمدان أن المسيحيين كانوا يخاصمون أعداءهم فى الدين، ولو كانوا أبناء جلدة واحدة، فشنودة الاخميمى خرب معابد بلدته اخميم (بانوبوليس) ليبنى بحجارتها أديرة.
وشنودة الذى يتحدث عنه جمال حمدان والذى قام بحرق معابد بلدته اخميم التى لم يمكنه تدميرها بالكامل قد قام بحملات فكرية عنصرية ضد الثقافة اليونانية باعتبارها ثقافة وثنية مخالفة لتعاليم الرب، ودعا الى تخليص اللغة القبطية المصرية من الكلمات والمصطلحات ذات الأصل اليونانى فى عملية يجوز بالقياس على لفظ التعريب الدارج اليوم أن نطلق عليها لفظ " الأقبطة "، وصار استخدام أو نطق ألفاظ يونانية فى أمور الحياة يعتبر معصية دينية تستوجب التوبة، كما اتبع سياسة عنصرية تقوم على عدم قبول رهبان من غيرالأقباط المصريين فى أديرته.
واستمر المسيحيون فى حملاتهم لتصفية المصريين الوثنيين، وانهاء جميع مظاهرالثقافة والحياة المصرية ذات الهوية الهللينية، وصارت الهوية المسيحية بديلاً للهوية المصرية وأصبح الانتماء للكنيسة بديلاً عن الانتماء القومى، وصارت مصر منذ ذلك الحين دولة قبطية!
............ ......... ......... ......... ......... ......... ....
يقول فولتير: " ان الذى يقول لك اليوم لا تفعل هذا والاَّ لعنك الله، سوف يقول لك غداً لا تفعل هذا والا قتلتك ".
ملاحظات:
1- الاسكندرية تاريخ ودليل - ا. م. فورستر - مقدمة لورنس داريل - ترجمة حسن بيومى - المجلس الأعلى للثقافة 2000 - ص 90
2- تاريخ الكنيسة القبطية - القس منسى يوحنا - ص 68، قبطى فى عصر مسيحى - زبيدة محمد عطا ص 309
3- العصر الذهبى للاسكندرية - جون مارلو - ترجمة نسيم مجلى - ص 259
4- المرجع السابق - ص 266
5- وادى النطرون - عمر طوسون - مطبعة السفير - ص 2
6- قبطى فى عصر مسيحى - زبيدة محمد عطا - ص 308
7- الاسكندرية تاريخ ودليل - ا. م. فورستر - مقدمة لورنس داريل - ترجمة حسن بيومى - المجلس الأعلى للثقافة 2000 - ص 90
8- تاريخ الكنيسة - يوسابيوس القيصرى - ترجمة القمص مرقص داود - دار الكرنك للنشروالطبع - ص 297
9- قبطى فى عصر مسيحى - زبيدة محمد عطا - ص 312
10- الاسكندرية تاريخ ودليل - ا. م. فورستر - مقدمة لورنس داريل - ترجمة حسن بيومى - المجلس الأعلى للثقافة 2000 - ص93
11- المرجع السابق - ص 94
12- خلاصة تاريخ الكنيسة - لوموند - ترجمة عن الفرنسية الخورى يوسف البستانى - الأمور التى جرت من تتويج كارلوس الكبير الى التئام المجمع الفاتيكانى المقدس - مطبعة الآباء المرسلين اليسوعيين - بيروت 1911 - ص ( 183-184)
13- الاسكندرية تاريخ ودليل - ص94
14- قبطى فى عصر مسيحى - زبيدة محمد عطا - ص 33
15- المرجع السابق - ص 169
16- الاسكندرية تاريخ ودليل - ا. م. فورستر - مقدمة لورنس داريل - ترجمة حسن بيومى - المجلس الأعلى للثقافة 2000 - ص 95
17- اضمحلال الامبراطورية الرومانية وسقوطها - ادوارد جيبون - فصل 28
18- قبطى فى عصر مسيحى - زبيدة محمد عطا - ص 171
19- المرجع السابق- ص 341
20- الاسكندرية تاريخ ودليل - ا. م. فورستر - مقدمة لورنس داريل - ترجمة حسن بيومى - المجلس الأعلى للثقافة 2000 - ص96
21- العصر الذهبى للاسكندرية - جون مارلو - ترجمة نسيم مجلى - ص 294
22- قبطى فى عصر مسيحى - زبيدة محمد عطا - ص 341
23- العصر الذهبى للاسكندرية - جون مارلو - ترجمة نسيم مجلى - ص 295-
24-kingsley - Hypatia
25- الدولة البيزنطية - زبيدة محمد عطا - ص 160
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مراجع تاريخية :
1- تاريخ الكنيسة - جون لوميير
2- تاريخ الكنيسة - يوحنا الأسيوى - ترجمة صلاح عبد العزيز محجوب -تقديم ومراجعة محمد خليفة حسن
3- تاريخ الكنيسة يوسابيوس القيصرى - ترجمة القمص مرقص داود -دار الكرنك للنشر والطبع والتوزيع - 1960
4-تاريخ الكنيسة القبطية - القس منسى يوحنا
5-وادى النطرون ورهبانه واديرته ومختصر تاريخ البطاركة - عمر طوسون
6-العصر الذهبى للاسكندرية - جون مارلو - ترجمة نسيم مجلى
7-قبطى فى عصر مسيحى - د زبيدة محمد عطا
8- الدولة البيزنطية - د زبيدة محمد عطا
9-خلاصة تاريخ الكنيسة - لوموند - ترجمة يوسف البستانى - الأمور التى جرت من تتويج كارلوس الكبير الى التئام المجمع الفاتيكانى المقدس - مطبعة الآباء المرسلين اليسوعيين - بيروت 1911
10- اضمحلال الامبراطورية الرومانية وسقوطها - ادوارد جيبون
11- عابدات باخوس- أيون،هيبولوتوس - ترجمة ودراسة وتقديم عبد المعطى الشعراوى - عين للدراسات والبحوث الانسانية والاجتماعية 1997
12-Hypatia -Kingsley
13-الاسكندرية تاريخ ودليل - ا. م. فورستر - مقدمة لورنس داريل - ترجمة حسن بيومى - المجلس الأعلى للثقافة 2000

 

اجمالي القراءات 8648
أضف تعليق
لا بد من تسجيل الدخول اولا قبل التعليق