خذوا الحكمة من «الآنسة مبروكة» ذات الثمانين ربيعاً: مفيش راجل بينفع:
حكايات من مصر

المصري اليوم   في الأحد ٢٣ - سبتمبر - ٢٠٠٧ ١٢:٠٠ صباحاً


خذوا الحكمة من «الآنسة مبروكة» ذات الثمانين ربيعاً: مفيش راجل بينفع

خلف أكوام الجرائد المتراصة إلي جوارها توارت بجسدها الضئيل، وجلست صامتة تنتظر من يأتي يقلب في بضاعتها، وإن اكتفت بصفحة من «جورنال» قديم لتحمي وجهها من أشعة الشمس.
مقالات متعلقة :


علاقة «مبروكة أحمد ياسين» ببضاعتها لم تتجاوز يوماً حد معرفتها بالشبه، فهي لا تعرف الفرق بين الأخبار والأهرام ولا تدرك معني صحف قومية أو حزبية، ولم تحاول أيضاً قراءة أياً منها، لكنها صاحبة خبرة في سوق بيع الصحف وأيها يقبل عليه الزبون أكثر.

ولم يؤثر جهلها بالقراءة والكتابة علي مهنتها التي احترفتها بالصدفة منذ أكثر من ٧٠ عاماً، حين خرجت وهي فتاة في الثامنة عشرة -أثناء مرض أخيها- ووقفت علي «فرشة الجرائد» التي يبيعها، وواصلت عمله لتنفق علي أمها و«إخواتها الأربعة».

تضحية «مبروكة» لم تجد من يقدرها، فقد أغلقت بابها في وجه أي عريس وظلت تعمل لترعي والدتها، وعندما توفيت الأخيرة طردها شقيقها من المنزل ليعيش فيه هو وزوجته وتركها في الشارع تبحث عن مأوي.. وقتها كان قطار الزواج قد ولي، فرضيت «مبروكة» بحالها، وأغلقت حياتها علي مهنتها البسيطة وعاشت في منزل شقيقتها المتوفية في السيدة سكينة،

وتفرغت لرعاية ابنة شقيقتها ونجلها، وطوال هذه السنوات ارتبطت «مبروكة» بأهالي شارع المبتديان -منذ أن كان اسمه عز العرب- واعتبرتهم أهلها، فقد احتووها ولقيت عندهم ما لم تجده في أسرتها، خاصة أن سكان الشارع ناس أصيلة محترمة -حسب وصفها- لكنها لم تعرف متي بدأت العمل تحديداً ولا تدرك سوي: «أنا هنا من قبل العمارة دي ما تتبني»،

وأشارت إلي عمارة «عبدالهادي» التي اعتادت أن تجلس أمامها بـ«فرشتها».

علي وجهها حفر الزمن قسماته، ولم يبق منه سوي ثنايا وتجاعيد سكنها الهم والحزن والإحساس بأن الحياة انقضت دون أن تخرج منها بشيء مفيد، فلا زوج يهتم بها، ولا ابن يرعي شيخوختها، ولا أخ يحنو عليها: «مافيش راجل أعتمد عليه، طول عمري شايلة همي وهم اللي حواليا وعمر ما حد فكر فيا»، لذا لم تحزن «مبروكة» كثيراً لوفاة شقيقها، فلم تشعر يوماً بأهميته في حياتها، ولم تندم علي تضحيتها من أجل أمها وأشقائها: «أكيد ربنا حيجازيني خير».

سنها المتقدمة جعلتها تعاصر أكثر من جيل: زمان كان حاجة ودلوقتي حاجة تانية، الناس زمان كانوا أحسن والجورنال أبيعه بـ٣ تعريفة والزبون يشتري أكتر من جورنال وياخد عليه أمشاط كبريت كمان، دلوقتي الواحد يبص علي الجورنال ومش عايز يشتريه، والشارع بدل ما كان بيسكنه باشوات، سيطر عليه الصنايعية وراحت الناس الكويسة.

اعتادت «مبروكة» يومياً الخروج من بيتها فجراً والذهاب إلي مقرها في المبتديان سيراً علي قدميها، لتبدأ رحلتها اليومية بين البيوت لتوزيع الجرائد والمجلات، تؤكد هنا أنها لا تتعامل مع «أي واحد ولا تذهب إلا للناس اللي عارفاهم كويس»، وتنتهي من بضاعتها قبل الثانية ظهراً، لتعود إلي منزلها سيراً في محاولة فاشلة لتوفير ربع جنيه قيمة الميكروباص.

ولم يبق لـ«مبروكة» أمل في الحياة سوي أن تحج بيت الله، لكنها تراه حلماً صعب المنال: منين أجيب فلوس الحج!.. رزقي كله رايح علي العلاج ومصاريف ابن بنت أختي، فلم يعد لي سواهما، ومش عارفة حيعيشوا ازاي من بعدي!
اجمالي القراءات 6865
أضف تعليق
لا بد من تسجيل الدخول اولا قبل التعليق




مقالات من الارشيف
more