سعدالدين ابراهيم .الدولة المدنية

د. سعد الدين ابراهيم   في السبت ١٧ - مارس - ٢٠٠٧ ١٢:٠٠ صباحاً


بما أنني أدافع منذ سنوات عن حق الإخوان المسلمين في المشاركة الكاملة في الشأن السياسي المصري، ما داموا يفعلون ذلك سلمياً، لدرجة أن هناك صحفيون مباحثون يدّعون أني "أغازل الإخوان". أما لماذا أغازلهم أو يغازلوني، فعلم ذلك عند الله، وربما عند الأجهزة التي تروج ذلك. ولكن هذا الدفاع عن حقهم يعطيني كل الحق في نقد ممارساتهم حينما تهدد حقوق الآخرين أو تروع المجتمع. ومن هذا المنطلق أكتب هذا المقال.



ما زالت تتردد أصداء ما فعله طلاب محسوبون على الإخوان المسلمين، بكلية الطب، جامعة الأزهر، في أوائل شهر ديسمبر 2006، حينما استعرضوا قدراتهم الجسمانية ومهاراتهم العسكرية قرب مكتب مدير الجامعة. وقيل في تفسير أو تبرير ذلك، أن الاستعراض كان للاحتجاج على فصل زملاء لهم، جرأوا على أن ينشأوا اتحاداً طلابياً حراً، ومستقلاً عن سطوة مباحث أمن الدولة. كما قيل أن استعراض القوة هذا كان إجراءاً وقائياً استبقائياً لتدخل "البلطجية" الذين تستعين بهم مباحث أمن الدولة أحياناً لترويع الخصوم السياسيين للنظام الحاكم، على نحو ما حدث قبل مشهد جامعة الأزهر بأسبوع لترويع طلاب الاتحاد الموازي بجامعة عين شمس، أو ما وقع في يوم الاستفتاء على تعديل المادة 76 من الدستور في 25 مايو 2005. وقيل أخيراً في التفسير والتبرير أن طلاب الإخوان المسلمين تعودوا على القيام بهذه الاستعراضات من قبل، وهي أساساً تدريبية وللبهجة والمتعة، شأنها شأن أي رياضة يستمتع بها الإخوان والمتفرجون على السواء.

وضمن تداعيات ما حدث في طب الأزهر إلقاء القبض على عشرات من الإخوان المسلمين، وحبسهم لمدة أسبوعين على ذمة التحقيق، وفي مقدمتهم المهندس خيرت الشاطر، نائب المرشد العام للإخوان المسلمين. وكان هذا الرجل زميلاً لي في سجن مزرعة طره (200-2003)، وأذكره ودوداً مبتسماً، ولكن مباحث أمن الدولة تشتبه فيه كمسئول ومحرك لما تعتقد هي أنه يقود الذراع العسكري للجماعة. وقد اعتذر الطلاب عما بدر منهم في لحظة غضب أو حماسة، أو حماقة. كما تنصلت قيادات الإخوان من كل ما بدر عن أولئك الطلاب، وأنهم قاموا بما قاموا به من تلقاء أنفسهم، ودون توجيه أو تنسيق أو أوامر من هذه القيادات.

ولكن الإعلام الرسمي للدولة المصرية لم تدع الأمر يمر بهذه البساطة. ففضلاً عن التنكيل بالطلبة المشتبه في مشاركتهم فيما أصبح يُعرف بالعرض العسكري "للإخوان المسلمين"، فإن الإعلام الرسمي، وخاصة جناحه المباحثي، لم يدخر وسعاً في إذكاء الخوف والرعب في قلوب المصريين من تلك "الجماعة المحظورة" وفي الأيام التالية للحديث، كان الإعلام المباحثي يوحي كما لو كان مواطن مصري مسالم سيجد في انتظاره أخاً مسلماً ملثماً، ينكر عليه حريته الشخصية، ويسلبه إرادته، ويروعه في حياته في الدنيا، باسم الشرع والشريعة، ناهيك عن إشعاره بأن جهنم وبئس المصير ينتظراه في الآخرة، لتقصير هنا أو معصية هناك.

ولأن الإخوان لا يملكون إعلاماً موازياً بنفس القوة أو الانتشار، فإن لم يستطيعوا الرد بنفس الفعالية، ووجدوا أنفسهم في موقف دفاعي ـ اعتذاري. وأغرى ذلك النظام بتصعيد هجومه دعائياً وامنياً. ويجدها فرصة لانقضاض واسع النطاق على شاكلة ما فعلت حكومة النقراشي وإبراهيم عبد الهادي في أواخر أربعينات القرن الماضي، والتي يطلق عليها مؤخراً الإخوان مصطلح "المحنة الأولى"، في العهد الملكي. ورغم شهر عسل قصير مع الضباط الأحرار وثورة 23 يوليو (1952-1954) إلا أن محاولة اغتيال عبد الناصر، في ميدان المنشية بالإسكندرية، كانت ذريعة للانقضاض على الإخوان والتنكيل بهم، وإعدام عدد من قياداتهم وسجن آلاف منهم في منتصف الخمسينيات. ويعتبر الإخوان ما حدث في تلك السنوات (1954-1965) بمثابة "المحنة الثانية"، والتي اُعدم فيها عدد أكبر من زعمائهم، بما فيهم أكثر مفكريهم المتشددين، وهو سيد قطب. ثم كانت المحنة الثالثة، حينما قبض السادات على أكثر من ألف وخمسمائة منهم في سبتمبر 1981، وهي المحنة الثالثة، لا فقط للإخوان، ولكن أيضاً لكل "الإسلاميين"، الذين كانوا قد انشقوا على الجماعة الأم. بل أن أحداث تلك الفترة كان محنة أيضاً لنظام الرئيس السادات، الذي كان قد دللهم وأطلق لهم العنان في سنوات رئاسته الأولى (1970-1976)، ولكنهم سرعان ما تصادموا معه، وانتهى الأمر باغتيال الرئيس السادات نفسه، وإن لم يكن بيد الإخوان، فبيد أحد الجماعات التي خرجت من عباءتهم، وهو تنظيم "الجهاد"، الأكثر ولاء لأفكار المتشدد سيد قطب، والذي كان كتابه الأشهر "معلم في الطريق" هو دستورهم في الممارسة والتنظيم والتعامل مع المخالفين لهم في الرأي أو الدين.

ومن المفارقات التي جعلت العام 1981 "محنة ساداتية" بقدر ما كان محنة للإخوان ولمن خرجوا من عباءتهم، هو أن الرئيس السادات كان قد أعطاهم أكثر مما أعطاهم أي عهد آخر في تاريخ مصر الحديثة ـ أي الملك وعبد الناصر من قبله. فإلى جانب إطلاق سراحهم من السجون، فإنه أطلق لهم العنان للحركة والتنظيم في الجامعات خصوصاً، وفي المجتمع عموماً.

ولكن ربما كان أخطر ما فعله الرئيس في معرض إرضاء الإخوان، واكتساب شعبية، وتأسيس شرعية خاصة به، مستقلاً عن تلك التي ورثها عن سلفه، الرئيس جمال عبد الناصر، فهي استحداث مادة في دستور 1971، لم تكن موجودة في أي من الدساتير والإعلانات الدستورية السابقة، على امتداد أكثر من قرن (1886-1971)، وهي النص على أن "مبادئ الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع"، فلقد كانت الدساتير السابقة تكتفي بنص واحد شديد العمومية، وهو أن "دين الدولة الإسلام". وفي ظل هذا النص الرمزي، لم يكن أحد يطالب بتطبيق الشريعة، التي كانت بالفعل تطبق في قوانين الأحوال الشخصية (كالزواج والطلاق) والمواريث. ولكن بإضافة النص الجديد، أصبح الإسلاميون يطالبون الدولة بأن تفي بما نص عليه دستور 1971 (وتعديلاته عام 1980). وفي هذه المطالبة يسقط الإسلاميون كلمة "مبادئ من منطوق المادة، لتصبح "الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع". وقد تستر العديد من المتزمتين والمتطرفين، وحتى الإرهابيين وراء المنطوق المحرف لهذه المادة، ليبرروا "إرهابهم"، بل وسايرهم بعض القضاة أحياناً، فأروهم من بعض ما اقترفت أيديهم من عنف ضد ممثلين الحكومة وضد بعض الكتّاب والمثقفين بدعوى أنهم يطبقون "شرع الله"، أو أن ردع من ينحرف عن "حاده أو صحيح الدين" فهو "عاص" أو "مرتد"، وإن ردع هؤلاء العصاه والمرتدين هو "فرض عين"، على كل مسلم.

وهكذا أعطى نص "أن مبادئ الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع"، رخصة يستخدمها أي مواطن ضد الدولة أو ضد أي مواطن آخر، انتصاراً للإسلام وحماية للعقيدة. وبهذا الفهم برر أولئك الذين قتلوا فرج فودة (1992)، والذين حاولوا وكادوا يقتلون الأديب العالمي د. نجيب محفوظ. وهم أيضاً الذين روعوا د. نصر حامد أبو زيد، متهمين إياه بالذندقة والردة، ومطالبين بتطليقه من زوجته، رغم أنف الزوجين، وهو ما اضطر الزوجين للفرار واللجوء إلى هولندا، إنقاذاً لحياتهما الزوجية، وحبهما الطويل.

وفي هذا كله كان الادعاء أو الدفاع أو أحد الأطراف المتنازعة، يتحصن بتلك المادة الثانية من دستور 1971. وكان بعض القضاة الذين يلتزمون بحرفية مواد الدستور يتجاوبون ويحكمون لصالح المتشدقين بتلك المادة، وهو الأمر الذي وضع الحكومة المصرية نفسها في موقف حرج أمام قطاع كبير من الرأي العام المحلي والعالمي، كما حدث في قضية د. نصر حامد أبو زيد. فهي إن نفذت حكم المحكمة بضرورة فصل الزوجين، رغم إرادتهما فهي ترتكب مخالفة قانونية ودستورية. ولذلك كان خروجها من المأزق هو بالإيحاء والتستر على خروج د. نصر حامد أبو زيد إلى خارج مصر، ثم التعديل الذي كان يعطي حق "الحسبة" (أي تطبيق شرع الله) لأي مواطن مسلم يعتبر تطبيق الأوامر الشرعية فرض عين، أي فرض على كل مسلم فرد. وفي هذا التعديل احتفظت الدولة بحق الحسبة لنفسها فقط، كممثلة لكل "المؤمنين".

والمهم لموضوعنا أن إلغاء أو تعديل المادة الثانية من الدستور الحالي (1971) قد يكون عسيراً في الوقت الحاضر، حيث سيكون هناك دائماً من يزايدون، ويصيحون "وإسلاماه... وإسلاماه" ولكن الممكن والملح فهو استحداث مادة تقرر "الطبيعة المدنية للدولة والمجتمع، وعلى رئيس الجمهورية وبقية الهيئات السيادية أن تحمي هذه الطبيعة المدنية". ولا نتوقع جدلاً كبيراً حول استحداث هذا النص سواء كإضافة للمادة الأولى أو الثانية، أو كمادة مستقلة. فحتى الإخوان المسلمون، وحزب الوسط، ذو التوجه الإسلامي، يقولون في وثائقهم الأخيرة أنهم "مدنيون ذو مرجعية إسلامية". وهذا حقهم. إن استحداث النص الدستوري المقترح هو الذي سيهدأ من روع النساء والمثقفين والمبدعين والأقباط، الذين زادت مخاوفهم بعد الصعود الإخواني في الانتخابات البرلمانية في عام 2005، ثم تضاعفت هذه المخاوف مع ابتزازهم لوزير الثقافة، د. فاروق حسني بسبب إبداء رأيه في ظاهرة الحجاب، ثم بعد أن قام طلاب محسوبون عليهم باستعراضات شبه عسكرية، وهم ملثمون في رحاب جامعة الأزهر. نعم لا بد من إقرار مبدأ الدولة المدنية صراحة في الدستور. وحبذا لو قاد الإخوان المسلمين أنفسهم الدعوة إلى ذلك. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولأبنائنا الملثمين الضالين.

اجمالي القراءات 9170
التعليقات (2)
1   تعليق بواسطة   محمد شعلان     في   الثلاثاء ٢٠ - مارس - ٢٠٠٧ ١٢:٠٠ صباحاً
[4223]

دكتور سعد .. يوم سعد .. أن قرأنا لك على هذا الموقع

مرحباً وأهلاً بك كاتباً مرموقا وعالماً من علماء مصر في مجال علم الاجتماع وبالأخص علم الاجتماع السياسي لكم أسعدني أن أجد لسيادتكم هذا المقال عن الدولة المدنية على هذا الموقع الالكتروني "أهل القرآن" ولقد زاد تألق هذا الموقع أنك من أصدقاء كتابه تشارك بكتاباتك التنويرية التي تصنع وتشكل ضمير ووجدان المثقف المصري المهموم بقضايا وطنه وبلده مصر ، وإن هذا المقال ليعد درسا في التأمل السياسي فيما يحدث من تغيرات على الساحة المصرية السياسية والاجتماعية ، في انتظار المزيد والمزيد من علمك وفكرك وكتاباتك ، وإن كان لي اقتراح أود أن أطرحه على المسئولين على هذا الموقع وعلى شخصكم النبيل وهو أن تتفضلوا بأن يكون على هذا الموقع الكثير من مؤلفات الدكتور / سعد الدين ابراهيم حتى تكون هذه المؤلفات منهلا متاحا لكل محب لعلم الاجتماع وعلم الاجتماع السياسي ولكل محب لأن يتعلم كيفية التحليل الدقيق للأحداث التي تمر بالمنطقة عموما ، وأيضاً كي تتضح الصورة كاملة عن فكر الدكتور سعد، وتزول الأفكار الخاطئة عن فكر الدكتور والتجني على شخصه المحب لمصر والحريص على مستقبل هذا الوطن . الرجاء دراسة هذا الاقتراح وخروجه إلى حيز النور ( صفحات هذا الموقع) وكل المواقع التي تدعو إلى العلم والشفافية .

2   تعليق بواسطة   محمد عطية     في   الخميس ٢٢ - مارس - ٢٠٠٧ ١٢:٠٠ صباحاً
[4310]

شكراً.... و اتفق معك

شكراً للدكتور سعد الدين ابراهيم على مشاركته كوكبة الكتاب لهذا الموقع حيث ان الدكتور سعد من المفكرين القلائل الذين صمدوا امام الغزو الفكرى التترى التى مارسته عليه جماعة الاخوان ... و الاعلام المصرى تطبيلاً و زمراً
و اتفق مع الاستاذ محمد شعلان فى اتاحة الفرصة لكافة المفكرين المصرين بالكتابة فى الموقع و عرض مقالاتهم اثراءاً لرواد الموقع و انا واحد منهم و ليتنا نبدأ بكتابات الدكتور سعد الدين ابراهيم لآنى ارى انه من الشخصيات التى ظلمت فكرياً بدون وجه حق
و الله المستعان

أضف تعليق
لا بد من تسجيل الدخول اولا قبل التعليق