المنطق الإمبراطوري الأمريكي وراء الوفاق مع إيران

مختار كامل   في الأربعاء ٢٩ - يوليو - ٢٠١٥ ١٢:٠٠ صباحاً


يهدف هذا المقال إلى تقديم تفسير للاتفاق الأمريكي الإيراني الأخير من زاوية واحدة فقط دون زوايا متعددة: “توازن القوى من منظور أمريكا الإمبراطورية”. 

الإمبراطورية هي دولة تتمتع بفارق ضخم في القوة بينها وبين دول أخرى في المجموعة الدولية، وبالتالي تعكس الظاهرة الإمبراطورية خللا حادا في توازن القوى الدولي. بهذا المعنى فإن الولايات المتحدة إمبراطورية. ونظرا لضخامة الإمبراطورية بحكم التعريف يصبح مجالها الحيوي ضخما خارج نطاقها العضوي، مما يستلزم شكلا ما من أشكال السيطرة على أقاليم أو مناطق أخرى خارجها. ولا يقل الجهد المطلوب للحفاظ على مكاسب الإمبراطورية وبقائها عن جهد بنائها، إن لم يزد. وتستخدم الإمبراطوريات عددا من الأدوات للحفاظ على وجودها وسيطرتها على ماتراه مجالاتها الحيوية، أٌقلها كفاءة وأكثرها تكلفة على مواردها هو القهر المباشر للآخرين، لذا تبتعد الإمبراطوريات الذكية عن مثل هذه الأداة قدر الإمكان، وتحاول بدلا من ذلك أساليب أخرى متعددة كتنصيب دولة إقليمية كرجل بوليس لحراسة المنطقة المعنية وتأديب دولها المتمردة، أو ربط الدول الأصغر بالمجال الاقتصادي للإمبراطورية بحيث يصعب الاستغناء عن المزايا الاقتصادية التي تتأتى عن الارتباط، أو تنصيب طبقة حاكمة موالية داخل الدولة الأصغر، لكن الأداة التي تهمنا هنا هي “توازن القوى”، وهو -تبسيطا- صيغة أكثر تطورا وتعقيدا من صيغة “فرق تسد” الاستعمارية التقليدية المعروفة. وتقدم الإمبراطورية البريطانية مثالا واضحا على هذا التطبيق، فبدلا من أن تبذل جهدا في التدخل العسكري المباشر في أوروبا القارية، كانت تراقب الصراعات بين الدول الكبرى بالقارة، وتحرص على ألا تحقق أحدها نصرا نهائيا على الأخري، حتى تظل طاقات هذه الدول موجهة ضد بعضها البعض وليس ضد الإمبراطورية، وتطلب هذا أيضا منع أي دولة واحدة من الهيمنة على القارة، وعلى هذا فقد تدخلت ضد فرنسا نابليون لصالح النمسا وروسيا وبروسيا وغيرها، وتدخلت ضد ألمانيا القيصر وألمانيا هتلر لصالح فرنسا وغيرها، وهكذا. (تتبنى الولايات المتحدة استراتيجية الإمبراطورية البرطانية كجزء أساسي من تراثها الاستراتيجي). 
وقد اعتمدت الولايات المتحدة في إدارة مصالحها في الشرق الأوسط على ثلاث توازنات أساسية قبل غزو صدام للكويت في ١٩٩٠: التوازن بين الهند وباكستان، والتوازن بين إسرائيل والعرب، والتوازن بين العراق وإيران. وهذا التوازن الأخير هو الذي تعرض لأشد الاهتزازات منذ نجاح الخميني في إيران في ١٩٧٩ وعملت الولايات المتحدة على إصلاحه، وما قصة الاتفاق الأخير مع إيران وإصرار حكومة أوباما على تمريره رغم المعارضة الشديدة في الداخل من جانب اليمين وفي الخارج من جانب السعودية وإسرائيل إلا الحلقة الأخيرة ضمن سلسلة محاولات متنوعة من جانب الإمبراطورية الأمريكية لإعادة تركيب هذا التوازن بشكل أو بآخر. وخلاصة الأمر أن العراق في ظل حكم صدام حسين لم يعد في نظر الولايات المتحدة قادرا على أن يلعب دور المصد لأطماع إيران في الخليج ولا أن يقوم بدور المنطقة العازلة بين إيران وإسرائيل، لأن صداما قد تمرد على الولايات المتحدة وحلفائها بعد أن ألحقت به هزيمة نكراء وطردته من الكويت. لذا تفتق الفكر الأمريكي عن تدمير دولة صدام حسين وبناء دولة جديدة في العراق على النمط الغربي تستطيع لو أحسنت إدارة مواردها الضخمة أن تشكل سدا مانعا ضد النيات التوسعية الإيرانية (نية التوسع الإيراني متأصلة في بنية النظام الإيراني بحكم التصور بأن نشر الإسلام الشيعي هدف مقدس للدولة وبحكم تراث إيران الإمبراطوري أيضا). وفي هذا الصدد فقد سيطر على الفكر الأمريكي نموذج اليابان بعد هزيمتها في الحرب العالمية الثانية: فقد نصبت أمريكا عليها أميرا هو ماك أرثر ودمرت النظام الإمبراطوري وسرحت جيشه وأقامت بدلا منه نظاما ديمقراطيا ووضعت اليابان تحت المظلة الاقتصادية والأمنية الأمريكية، فترعرعت الدولة اليابانية حتى جاء اليوم الذي تستطيع فيه اليابان حاليا أن تخدم باعتبارها أحد المصدات الهامة ضد الصين التي يتزايد خطرها على الإمبراطورية الأمريكية. وكان هذا هو النموذج الذي درسته هيئة أركان الحرب الأمريكية وهي تعد لغزو العراق قي ٢٠٠٣، وهو ما يفسر الصلاحيات الواسعة التي أعطيت لبول بريمر الذي نصبه بوش الإبن أميرا على العراق كما كان ماك أرثر في اليابان، وقام بريمر مثل ماك أرثر بتسريح الجيش العراقي وهدم النظام الصدامي وعمد إلى إقامة نظام ديمقراطي تعددي على الطريقة الغربية. لكن التحليل الأمريكي وقع في عدد من الأخطاء الغريبة حين أخفق في إدراك الفوارق الكبيرة بين العراق واليابان: فالعراق دولة مصطنعة بفعل معاهدة سايكس-بيكو في ١٩١٦، وتحت سطح نظام الدولة القومية الذي أقامه الإنجليز رقدت نعرات قبلية وطائفية شديدة النفاذ في المجتمع، أهمها نعرة الطائفية الدينية، كما أن العراق مثله مثل معظم دول الشرق الأوسط لم يمر بمرحلة المجتمع الصناعي المتقدم مثل اليابان، ولهذا فما أن تم تطبيق الديمقراطية عن طريق صناديق الاقتراع إلا وظهرت سيطرة الشيعة على مقاليد الحكم. وكانت النتيجة أنه بدلا من أن يعمل النظام العراقي الجديد على بناء دولة حديثة تصد إيران، أصبح على العكس تماما محابيا لها بحكم الولاء الديني ومنشغلا بتصفية الحسابات مع السنة ! وهكذا وجدت الولايات المتحدة أنها قد حققت النتيجة العكسية تماما، فبدلا من بناء دولة مناوئة لإيران إذا بها تساعد على بناء دولة أصبحت مع مرور الوقت امتدادا لإيران ! معنى ذلك محاولة إعادة بناء توازن القوى بين العراق وإيران قد أدت إلى زيادة اختلال هذا التوازن لصالح إيران

وخلاصة القول أن علاج هذا الموقف، بعد فشل العقوبات الاقتصادية ومحاولات قلب النظام الإيراني بالعمل المخابراتي، قد طرح أمام الولايات المتحدة واحدا من اختيارين للتعامل مع المسألة الإيرانية: أما الحرب أو الاتفاق ولو على حساب إسرائيل والسعودية. فاما اختيار الحرب فقد تم إسقاطه لأنه ينطوي على تكاليف مرفوضة لأسباب عديدة لا مجال لتفصيلها في هذا الحيز الضيق، وبالتالي فلم يبق إلا اختيار التوصل إلى “وفاق” مع إيران

ويلاحظ أنني لم أتحدث خلال المقال كله عن موضوع الأسلحة النووية الذي يبدو للجميع وكأنه لب المسألة الإيرانية كلها. ويرجع السبب في ذلك إلى أن قضية الأسلحة النووية برمتها، من منظور توازن القوى، ليست إلا أداة من أدوات السياسة الإيرانية تستخدمها مع غيرها من الأدوات لفرض توازن جديد في المنطقة ضد شكل التوازن الذي ترغبه الامبراطورية الأمريكية. وقد نجحت إيران. ذلك أن جوهر الاتفاق الأمريكي الإيراني هو الاعتراف بالمجال الحيوي الإيراني في العراق على الأقل، حيث استخدمت إيران ورقة السلاح النووي لإجبار القوة العظمي الوحيدة في العالم إلى جانب الدول الخمس الكبرى الأخرى، على الجلوس معها على مائدة المفاوضات والتعامل معاملة الند للند. ويؤدي رفع العقوبات الاقتصادية إلى تزويد إيران بالموارد التي تسمح لها على أقل القليل بالحفاظ على نفوذها الشديد التميز في العراق، أما الموقف بشأن مساندتها لنظام الأسد في سوريا واستمرار تبنيها لحزب الله الذي يعد بمثابة حاملة طائرات إيرانية موجهة ضد إسرائيل، ومساندتها لحركات الشيعة في كل مكان خاصة في الجزيرة العربية، فستنظر الولايات المتحدة بعين الرضى إلى التقارب السعودي التركي الذي يعمل على تطوير جبهة سنية ضد إيران. ولا شك أن مثل هذه الجبهة تتمتع بما يكفي من الموارد ويزيد لامتصاص وحرق الكثير من فوائض الطاقة السياسية الإيرانية، خاصة مع إضافة التعاون السري مع إسرائيل
وهكذا يتحول التوازن الجديد في خطوطه المبدئية العريضة حاليا إلى صراع دائم بين الشيعة والسنة في المنطقة، حيث تقف الامبراطورية الأمريكية على مسافة لتراقب التطورات، ولا تتدخل إلا عند الضرورة حين ترى أن إحدى الكفتين قد أصبحت مرجحة بقوة على الأخرى، تماما كما تدخلت الامبراطورية البرطانية ضد فرنسا نابليون وضد ألمانيا القيصر وألمانيا هتلر

مختار كامل

محلل سياسي مصري مقيم في واشنطن

اجمالي القراءات 4720
أضف تعليق
لا بد من تسجيل الدخول اولا قبل التعليق