الشباب المهدور فى الوطن العربي

signature   في الخميس ٢٣ - نوفمبر - ٢٠٠٦ ١٢:٠٠ صباحاً


حين نقول لمحدثنا إننا سنتحدث عن (الانسان المهدور) تأتى الاستجابة فى غالبية الأحيان وبتكرار لافت للنظر (آه هذا أنا)! والكتاب الذي بين أيدينا يتناول هذه القضية الخطيرة من خلال إلقاء الضوء على إنسان عالمنا العربي فى واقعه الراهن الذي تتوافق جميع الأدبيات على أنه فى مأزق.

وإذا كان القهر يعنى الغلبة والأخذ من فوق وبدون رضى الشخص بما يعنى أن الانسان المقهور هو ذاك المغلوب على أمره بعد تعرضه لفرض السطوة عليه من جانب المتسلط عنوة فإن الهدر أوسع مدى من ذلك بحيث يتحول القهر إلى إحدى حالاته!.

فالهدر يتفاوت من حيث الشدة ما بين هدر الدم واستباحة حياة الآخرين باعتبارهم لا شيْ وعديمي القيمة والحصانة وبين الاعتراف المشروط بانسانية الانسان كما يحدث في العصبيات فأفرادها مقبولون ومحميون ما داموا يمتثلون لسلطة العصبية ورغباتها وفيما بين هذا وذاك يتسع نطاق الهدر كي يشمل هدر الفكر وهدر طاقات الشباب وهدر المواطنة .. إلخ.

الهدر الانساني

يعرف لسان العرب (الهدر) بأنه: ما يبطل من دم أو غيره أى ما يستباح ويمكن سفحه فى حال زوال حرمته التي تحصنه ضد التعدي عليه ويتفاوت الهدر الانساني من إباحة وإراقة الدماء فى فعل القتل والتصفية إلى سحب القيمة والتنكر لها.

ويتحدث الكتاب عن هدر خاص وآخر عام والأخير يطال شرائح كبرى من الناس والمجتمعات ويتمثل فى حالات الاستبداد والظلم والطغيان ونهب القلة للثروات ودفع الناس إلى المستوى النباتي أى ما يوفر رمق العيش فقط فيصبح الانسان في قمة السعادة إذا توفر له ما يقيم الأود وهذا ما ينتج عنه الانكسار بحيث يخضع الانسان وتنعدم قيمته.

الاستبداد

الحاكم فى المجتمعات المتقدمة يحاسب من شعبه ومجتمعه أما فى دول الهدر فيفرض سلطته وهيبته بشكل قاطع وترتكز سيكولوجية الاستبداد والطغيانعلى ثلاثية هى: نزوة السطوة، النرجسية، الأنا المثالي وكل عمود منها تقوم الحاشية بتعزيزه وجذب الرأى العام للمستبد على اعتبار أنه لايوجد – من وجهة نظرها – من لا يصلح لأن يحل محله مما يؤدي لترويض المجتمع.

نفسية المهدور

يقع الانسان المهدور فى مثلث الاكتئاب، والغضب والعنف، والانقسام النفسي وتتفاعل هذه الحالات لتشكل حالة ليس من السهل مواجهتها والتعامل معها إلا باتخاذ وسائل تدفع ما تولده من آلام وصراعات نفسية مثل السلبية والفكر الانتحاري والانطواء وتجنب الآخرين والخوف والغضب.

وحالة الكتاب – حسبما يرى المؤلف – هى نموذج على هدر الفكر وهدر الطاقات حيث يعمل الاستبداد واستراتيجيات الهيمينة العالمية على تضليلهم وتعمية رؤاهم وبالتالي الحيلولة دون تبصرهم فيما هم فيه وفيما يجب أن يكونو عليه مما يبدد امكانات المجتمع ورصيده المستقبلي.

واقع الشباب

يقسم الكتاب الشباب إلى فئات هي:

-   الفئة المترفة: التي تتربى على التراخي فى الضبط والنظام الذاتي ولم تتعلم معنى الجهد وليس لها هوية نجاح مستقبلي فتعيش من خلال الترف فى حالة من البحث عن اللذات والإثارة والاستعراض الاستهلاكي.

-       الفئة المنغرسة: وتحظى برعاية أسرية وحسن إعداد للمستقبل وبالتالي يتكون لديها مفهوم ايجابي عن الذات والعالم.

-       الفئة الطامحة: التي تتوسل الدراسة والتفوق للارتقاء الاجتماعي والحياتي وتحقيق حياة أسرية كريمة.

-   فئة شباب الظل: وهم الأغلبية التي لا تدخل فى حساب السلطة ومخططاتها إلا في مجال الحذر منها وقمعها وبالتالي هى الفئة المهدرة منذ نعومة أظفارها والمحرومة من بناء هوية نجاح حياتي ومهني.

تشكل فئة الشباب الشريحة الأكبر عددا فى المجتمعات العربية والاسلامية التي تعتبر أساسا مجتمعات شابة إلا أن هذه الفئة الآن أكثر عرضة للتحديات واستهدافا من أسواق الاستهلاك والاستبداد الذي يضيق بهم ذرعا ويخشاهم أشد خشية فى الوقت نفسه الذي يقصر فيه أيما تقصير فى وضع الاستراتيجيات الكفيلة بحسن توظيف طاقاتهم الانتاجية.

وبعبارة أخرى: يترك الشباب بلا فرص توفر لهم مصادر للاعتزاز والانجاز بل ويحاربون عند أى تحرك أو تعبير عن حقهم فى الوجود ويتهموم بتهديد الاستقرار والسكينة العامة وهو ما يحرمهم من بطولات حقيقية أمام إثارة ونجومية بديلة فى القنوات الفضائية وملاعب الكرة.

وفي موازاة الهدر الداخلي يتراكم الهدر الخارجي من خلال إغراق جيل الشباب بكل ألوان الاغراء الاستهلاكي فتنفتح الشهوات للاستهلاك وتتراجع صورة الجهد طويل النفس والبناء الدؤوب للمستقبل لصالح الإشباع الآنى  لكن المفارقة أن القلة فقط هي من يملك الامكانات مما يؤدي إلى الاحباط عند الغالبية وإحساس بالمرارة إما أن ينفجر عند أول مناسبة فى سلوكيات عنيفة وإما يتحول إلى استكانة وغرق فى الاكتئاب ومشاعر البؤس.

ويضاف إلى ذلك قواعد المعلومات ودردشاتها وتزايد إدمان الشباب عليها بحثا عن واقع بديل عن واقعهم الميت يحمل لهم فرصة الاحساس بالمبادرة والقدرة والتفاعل والعلاقات أما العمل وتحقيق الذات فيغيب فى ظل التنافس على العمالة الماهرة الرخيصة حيث يوجد فائض متزايد فى حجمه من العمالة بين الشباب على اختلاف مستويات المهارة مما يدفع بشرائح متعاظمة نحو البطالة طويلة المدى أو العمالة المتقطعة أو غير المضمونة وتتفاقم هذه الحالة في بلاد الهدر التى لا تقوم على بناء مجتمعات منتجة تخلق فرص عمل كافية للأجيال الصاعدة نظرا لأن المتسلطين يضعون يدهم على ثروات البلاد من أجلهم هم وليس من أجل توظيف الموارد فى بناء القدرة المستقبلية.

ومع هذا التهميش تتصاعد أزمات الحرمان من بناء مكانة مميزة والقيام بالأدوار المنتجة وتنحسر فرص اشباع الحاجات العاطفية والإرضاءات الجنسية المشروعة حيث تتفاقم مرارة العزوبية والعنوسة وبكلمة أخرى: يتفاقم هدر الشباب على أكثر من صعيد وأهمها الاستهلاك، بناء المكانة، الإقصاء من المشاركة والاعتزاز بالعطاء والتنمية ومع هذا المأزق يكاد المجتمع يتحول إلى مواطن وبؤر تفجير متنوعة كالتطرف والعنف ووسائل التعويض غير المتكيفة والاستسلام والكآبة والاغتراب .. إلخ.

هدر الكفاءات والدور

تركز الأنظمة المستبدة حول الولاء وليس الأداء والانتاجية ولذا فلا وزن أو أولوية لبناء الكفاءات وحسن توظيفها فما يهمها هو الحفاظ على تأبيد تسلطها والحفاظ على استمرار مواردها المتأتية من مصادر الثروة الوطنية.

أما العولمة فقد حدد منظروها أن الطاقة البشرية القادرة على العمل ستتوزع مستقبلا ما بين 20 % يعملون و80 % عاطلين عن العمل بما يعنى أن خمس الطاقة البشرية ستعمل وتحصل على كل شيء بينما لن تحصل الأربعة أخماس الباقية إلا على الفتات.

ولايقتصر مأزق الشباب على هدر الطاقات والكفاءات بل يتفاقم من خلال تحييده عن المشاركة فى القضايا والهموم الوطنية وبينما كان الشباب فى الماضي موضع جذب من قيادات الحركات الوطنية وكان يجد فى العطاء والمشاركة هويته الذاتية واعتزازه الوطنى فإنهم يغيبون تماما عن ساحة المشاركة والتضحية فى الوقت الراهن.

إن الشباب من حيث التعريف باحث عن البطولات ومعاركها التي ينتزع من خلالها الاعتراف والتقدير ومن هنا نفهم جزئيا حماس الشباب وتضحياتهم ونفهم فى الوقت نفسه مقدار الظلم الذي يحل بهم في بلاد الهدر حيث لم تعد هناك قضايا كبرى أو معارك مصيرية تربط الانسان بالقيم والمثل واختزل الوطن فى هم المتسلطين فى الحفاظ على الكراسي وهو هم ليس فيه مكان بلا شك لبطولات الشباب وتضحياتهم.

وقد وجدت سلطات الهدر فى التسلية والإلهاء نوعا من المخدر الفعال وهكذا ملأت التسلية الثقافة المرئية وتحولت صناعتها إلى واحدة من أكبر التجارات ربحا وازدهارا كما فرضت هيمنتها فأغرقت الشباب وحولته عن الوعي بقضايا المصير!.

ويختتم الكتاب بالقول: إن هدر الشباب هو باختصار ليس مجرد قمع أو تهميش يمكن المجادلة بشأنه أو التساهل فيه إنه هدر مستقبل الوطن ذاته وبداية دخول بلاد الهدر فى فئة المجتمعات المستغنى عنها وخصوصا حين لا يتوفر لها مجتمع الخمس الذي يشكل النخبة المنتجة.

·        المصدر:

الكتاب: الانسان المهدور – دراسة تحليلية نفسية اجتماعية

المؤلف: الدكتور مصطفى حجازى

الناشر: الدار البيضاء – المركز الثقافي العربي، ط1، 2005.

اجمالي القراءات 8761
أضف تعليق
لا بد من تسجيل الدخول اولا قبل التعليق