رقم ( 9 )
الباب السادس : )حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ )

 

الباب السادس : )حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ )

 

الفصل الأول : تشخيص المرض : سرطان الضلال.

 

مقــدمة :

مقالات متعلقة :

دائما نتغنى ونكرر قوله جل وعلا (إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ )(الرعد11 ) ونرى أن تغيير الأنفس هو العلاج. وفعلاً فإن العلاج هو تغيير النفس المريضة بالخنوع والخضوع والأثرة والأنانية والسلبية والشح والبخل والدناءة والجبن والنذالة لتكون نفساً سوية متفاعلة بالخير، تعمل المعروف وتأمر به وتتجنب المنكر وتنهى عنه. بهذا تفلح النفس وتسمو على فجورها وتتزكى، على مستوى الفرد وعلى مستوى المجتمع والشعب. ولكن تدبر الآية الكريمة يحتاج إلى وقفة. فنحن أمام مرض معقد يستلزم الشفاء المعقد. ونبدأ التشخيص الصحيح للمرض ليكون الشفاء أو التغيير حقيقياً.

 

تغيير النفس بين المرض والشفاء حسياً ومعنوياً:

  

1ـ القرآن الكريم يقسّم المرض إلى نوعين ويجعل الشفاء نوعين. هناك المرض الحسي الجسدي والمرض القلبي النفسي المعنوي. المرض الجسدي في قوله تعالى ( فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ)، (وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ)(البقرة  184: 185)، (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ)(النور 61). والشفاء من المرض الحسي الجسدي مرجعه الحقيقي لله جل وعلا (وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ)(الشعراء 80)، وقد أشار رب العزة إلى عسل النحل كشفاء للمرض الجسدي فقال (يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاء لِلنَّاسِ) (النحل 69). أمّا المرض المعنوي فهو الضلال وملحقاته، وهو مرتبط بالقلب. والقلب في مصطلحات القرآن الكريم هو النفس والفؤاد والصدر، وليس تلك العضلة التي تضخ الدماء في الأوردة و الشرايين. مرض الضلال يشمل إدمان الفواحش بحيث لا يراعي ذلك الشخص حرمة البيوت التي يدخلها (فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ) (الاحزاب32). كما يشمل الكفر والنفاق، يقول جل وعلا (فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً) (البقرة 10). والقرآن الكريم هو  الشفاء المعنوي من المرض القلبي المعنوي او الضلال، أو هو الهداية. القرآن وصفة ناجحة للناس جميعاً، ولكن ليس كل الناس يرغبون في هذا الدواء، فمعظم الناس يصدّ عنه راغباً عنه وليس راغباً فيه، ولذلك لا يستفيد منه أو يهتدي به إلا المؤمنون به، أي فمع أنه شفاء لعموم الناس إلا إن المنتفعين بهذا الشفاء هم المؤمنون وحدهم، إذ يكون القرآن الكريم لهم هدى للصدور ورحمة يوم القيامة (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ) (يونس 57). بل أكثر من ذلك، فبعض الذي يرفض الشفاء القرآني يحاول التلاعب بآياته فيزداد بهذا التلاعب مرضاً على مرض، وخساراً على خسار، وبالتالي يكون القرآن الكريم شفاء ورحمة للمؤمنين به، وفي نفس الوقت يكون خساراً على الذين يحرفون معانيه ويلحدون في آياته (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا ) (الاسراء 82) .

 

الفارق بين المريض العادي والمريض بالضلال:

 

1ـ أي نحن أمام نوعية فريدة من المرض (مرض الضلال)، ونعرف أن علاجه بالهدي القرآني. المشكلة هنا أن المريض بالضلال يحسب أن ضلاله هدى، فهو محبّ لمرضه متمسك به معتقد فيه، ويرفض الدواء بل يعتبر الدواء مرضاً. المريض الجسدي والمريض النفسي العادي كلاهما يذهب إلى الطبيب بمحض إرادته ويستسلم له على سرير الكشف أو على أريكة العلاج النفسي يحكي له أسراره. أما المريض في حالتنا فهو راض بمرضه بل قد يعمل طبيباً يدعو الناس إلى المرض الذي يعاني هو منه، وبالتالي يرفض العلاج بل يقاتل ليصدّ الناس عن العلاج، لا يكتفي بمرضه بل يريد نشره ليكون وباءاً يطيح بالبشرية ويوردها مورد التهلكة ـ أو الهلاك .

 

مشكلة رفض المريض للعلاج تعادلها مشكلة أخرى هي صعوبة العلاج. فالعلاج هنا ليس فقط شفاء المريض من مرضه بل تحويله إلى طبيب حقيقي، أي أن يتحول من ضال مضلّ إلى تقيّ لا يكتفي فقط بعمل المعروف واجتناب المنكر بل يكون داعية يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، أي أنه يتحول من النقيض إلى النقيض، أو يتحول من الحضيض إلى قمة السّمو. وهذا مستحيل طبقاً لما جاء في القرآن الكريم عن استحالة الهداية لمن يحترف إضلال الناس مهما حرصت على هدايته (إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ (37) (النحل)، (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ ءأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (6) (البقرة)، (وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (10)(يس). (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ (8)( فاطر) .

 

أمثلة فردية بسيطة لاستحالة شفاء المريض بالضلال:  

 

1ـ مريض بضلاله ظل طيلة عمره يدعو للضلال، وصار إماماً بهذا الضلال ولهذا الضلال .. هل يمكن في نهاية عمره أن يتوب ويعلن للناس خطأه، ويتحول إلى داعية لما كان ينكره طيلة عمره الفائت؟ هل يستطيع القرضاوي وأمثاله الإيمان بالقرآن وحده حديثاً مصداقاً لقوله جل وعلا (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ) (الاعراف 185،المرسلات 50)؟ هل يمكن للقرضاوي أن يعلن كفره بكل حديث آخر سوى القرآن ؟ .

 

2ـ هناك مستبد أمضى حياته في الظلم هل يمكن أن يتوب في آخر عمره وينصف كل من ظلمهم ويعيد كل الحقوق لأصحابها؟ هذا مستحيل. بل نجد مستبداً ورث الحكم شاباً مثل حاكم الاردن ومع ذلك فهو أكثر استبداداً وفساداً من أبيه. فكيف بمن أصبح عريقاً في الفساد ؟

 

3ـ هناك من وهب حياته للوصول إلى الحكم باستخدام الاسلام مطية لطموحهم وعلى حساب دماء الناس ومستقبلهم، مثل زعماء الاخوان. أولئك من المستحيل أن يتخلّوا عن هذا الحلم بعد أن عانوا في سبيله عدة عقود. أولئك جميعاً مرضى بالضلال والظلم، وكل منهم يحسب أنه يحسن صنعاً، بل كل منهم يرى نفسه من المخلدين في الجنّة. بل يتهم المصلحين بالكفر ويكفر بآيات الله جل وعلا التي تتعارض مع عقيدته وسلوكه. أي يرفض الدواء والشفاء. ومن هنا يكون هذا المرض المعنوي سرطاناً لا يجدي معه علاجاً سوى البتر. خصوصاً ونحن نتعامل مع حالة سرطان معنوي وصلت إلى عمق أعماق المريض، وهي الإضطهاد الديني .

 

الاضطهاد الديني حضيض الضلال في الدين الأرضي حين يتحكّم فيه:

 

1ـ أغلبية البشر تقع في الشرك العقيدي (وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103) (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106) (يوسف)، ولكن ليس كل البشر يجعلون الشرك العقيدي متحكماً في حياتهم. أغلبية البشر في عصرنا يجعلون الدين شأناً فردياً لا تتدخل فيه السياسة ولا تتدخل فيه الحكومات، وبالتالي لا تتحكّم فيهم أديانهم الأرضية سياسياً واجتماعياً، بحيث لا يعرفون الحروب الدينية مع الآخر في الخارج ولا يعرفون الاضطهاد الديني أو المذهبي مع الآخر المختلف معهم في الداخل. لا يخلطون الدين بالسياسة وتحقيق طموحات سياسية، وليس لديهم مؤسسات دينية تتحكم في مشاعر الناس وتوجيه عقلياتهم ودقائق تصرفاتهم بالفتاوى. تجد هذا في معظم دول العالم من الصين واليابان واستراليا وأوربا وأمريكا وكندا وروسيا وفي أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، بل تنتمي إلى هذه النوعية أكبر دولة مسلمة (اندونيسيا) ومعها ماليزيا وأغنى وارقى وأصغر دولة مسلمة (مدينة سنغافورة) وهي(سويسرا المسلمين) حيث تأتيها ثروتها بعرق أبنائها وبشفافية ورقي نظامها العلماني وليس ببترول يقوم الآخرون باكتشافه لها وتصنيعه لها كما يحدث في العرب (شرّ أمة أخرجت للناس). لا توجد في هذه الدول حروب خارجية أو حروب أهلية، ويمضي فيها التحول الديمقراطي بسهولة أو بمشقة ولكن بلا حمامات دم كما يحدث عندنا. ولو حدثت فيها حركات ارهابية فالأغلب أن تأتي من عندنا، ومن وحي الوهابية السعودية محور الشّر في العالم .

 

2ـ لقد أشار القرآن الكريم إلى أمة مشركة غير معتدية وأوجب على الدولة الاسلامية المسالمة بطبيعتها وبشريعتها أن تتعامل معها بالبر والقسط والعدل (لا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8)( الممتحنة ) كما نهى أفراد المؤمنين عن التحالف مع دولة مشركة متعدية معتدية أخرجت المؤمنين من ديارهم وحاربتهم ظلما بسبب الدين (إِنَّمَا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ (9) (الممتحنة). إذن هنا لدينا أفظع أنواع الكفر العقيدي والسلوكي الذي يفرض سلطانه على الناس في الداخل متحكماً في حياتهم الشخصية يأمر بالمنكر وينهى عن المعروف، يقوم بإكراه الناس في الدين ويضطهد الآخر المختلف في الدين أو في المذهب، ثم لو إستطاع وكانت له قوة حربية لأشعل حروباً دينية مع دول العالم المخالفة لدينه الأرضي، ولا يترك استغلال فرصة ليقوم بالتدمير العشوائي وقتل الناس عشوائياً في بلادهم كما فعلت وتفعل القاعدة الوهابية في العالم كله .

 

3ـ هذا الحضيض في الضلال لا مجال لأصحابه في الهداية والاصلاح.ولو تحكّم هذا الحضيض في الضلال والاضلال في عقلية شعب ما وسيطر على دولة ما فإن العلاج المجدي هو البتر لأنها وصلت إلى مرحلة متقدمة ويائسة من سرطان الضلال. وهذا هو واقع العرب اليوم. جاءتهم فرصة الربيع العربي فإذا بسرطان الضلال يحول الربيع إلى حمامات دم قائمة وقادمة .ّ!

 

جذور الاضطهاد الديني المعاصر ( سرطان الضلال )  :

    

1ـ هو مرض متجذّر في المنطقة العربية، نعطي لمحة تاريخية عنه حتى نفهم حقيقة هذا المرض الذي يوشك بفناء العرب .

2ـ خفّت حدة الاضطهاد الديني والمذهبي بعد زوال نفوذ الحنابلة الذي كان من قبل في منتصف العصر العباسي. جاء العصر المملوكي (648 : 921 / 1250 : 1517) وقد سيطر عليه التصوف السّني فكان أقرب للتسامح، وهناك وشائج قربى بين التصوف والتشيع فلم يكن هناك اضطهاد (كبير) للشيعة أو للأقباط إلّا إذا بدوافع سياسية أو شخصية. بانتهاء الدولة المملوكية 921 / 1517 ووقوع معظم الدول العربية تحت الحكم العثماني إزدادت سيطرة التصوف على الحياة الدينية والاجتماعية، ولكن لم يفلح التصوف في كبح جماح التعصب الديني والمذهبي للعثمانيين الذين كانوا وقت قوتهم يهاجمون أوروبا المسيحية، ثم أصبحوا في عصر ضعفهم يواجهون تكتل أوروبا المسيحية ضدهم. والحرب الدينية مع الخارج لا تنفصل عن الاضطهاد الديني في الداخل، لذا ارتبطت حروب الجهاد العثمانية ضد أوروبا المسيحية باضطهاد الأقليات المسيحية داخل الامبراطورية العثمانية. كما أن الحروب والتنافس بين العثمانيين والصفويين الشيعة حكام ايران جعل العثمانيين يضطهدون الأقليات الشيعية العربية الخاضعة لهم. وشاخت الدولة العثمانية وضعفت فأصبحت أكثر تعصباً ضد الأقليات في الداخل لتعوض ضعفها أمام أوروبا التي طردت العثمانيين من اوروبا وتنافست على وراثة ممتلكاتها وأطلقت عليها اسم (الرجل المريض). وحتى بعد سقوط الخلافة العثمانية وتفكك معظم الامبراطورية العثمانية فإن الحكام الجدد من جماعة الاتحاد والترقي التركية أحلّوا التعصب العرقي محل التعصب الديني والمذهبي، إذ آمنوا بسمو العنصر الطوراني التركى ومارسوا الاضطهاد العرقي ضد العرب والأكراد وغيرهم من الخاضعين لهم .

 

3ـ في الفصل الأخير من تاريخ الدولة العثمانية وتعصبها ظهر التعصب السنّي الوهابي معادياً للعثمانيين ولكن أشد تعصباً منهم ضد الشيعة والنصارى. قامت الدولة الوهابية السعودية الأولى عام 1745، وأرسلت حملاتها العسكرية تدمر مساجد الشيعة في العراق وتقتل الناس عشوائياً في الشام والعراق والجزيرة العربية والخليج، وترسل الدعاة لنشر الوهابية. وأسقط والي مصر محمد علي الدولة السعودة الأولى عام 1818 ثم أعيد قيامها ثم سقطت ثم أعاد قيامها عبد العزيز آل سعود خلال1901 :1932، وأدى ظهور البترول والظروف الدولية والاقليمية المواتية إلى ظهور (السعودية) قوة إقليمية مؤثرة تنشر دينها الوهابي بين المسلمين، وتنشىء فروعاً له أكبرها الاخوان المسلمون والسلفيون وما تفرع عنهم من منظمات وجمعيات وجماعات سرية وعلنية، وبهم أصبحت الأسرة السعودية التي تملك الدولة السعودية أقوى وأثرى أسرة في العالم على حساب حوالي 20 مليون قتيل خلال نشر الوهابية من عام 1745 وحتى الآن. وعلى هامش هذا التاريخ الدموي تجذّر التعصب الديني والمذهبي في المنطقة العربية ليصبح  السرطان الذي يوشك أن يقضي على العرب اليوم .

 

الآثار المدمرة لسرطان الإضطهاد الديني في الهند وافغانستان:

 

1ـ الهند أبرز ضحية للوهابية. انتشرت فيها الوهابية فتقسمت الهند إلى الهند وباكستان وتأجج التعصب الديني بين الهنود على الجانبين (الهند ضد باكستان التي كانت تتكون من باكستان الشرقية في البنغال وباكستنان الغربية في البنجاب) وبسبب تباعد باكستان الشرقية فقد قلّ فيها تأثير الوهابية  وتسيد التصوف فيها أكبر، بينما انفردت باكستان الشرقية بالقيادة لقسمي الدولة وجيشها. وبسبب وهابية الباكستانيين الغربيين فإنهم إعتبروا مسلمي باكستان الشرقية كفاراً، وأقام الجيش الباكستاني مذبحة في باكستان الشرقية قتل فيها أكثر من 3 مليون شخص مدني، مما نتج عنه انفصال باكستان الشرقية تحت اسم بنغلاديش .

 

2ـ وهابية باكستان الحالية امتدت إلى افغانستان فأحرقتها ودمرتها بالتعصب. وهذا هو المصير الذي ينتظر العرب. وسوريا أبرز دليل .

 

 

 

 

 

الآثار المدمرة لمرض الإضطهاد الديني في سوريا:

 

1ـ الحالة السورية الراهنه تعكس هذا المرض القاتل وتصوّر الحضيض الذي وصل اليه العرب. ففي سوريا يتقاتلون دون الوصول إلى حلول وسط تحقن دماءهم. مخطىء من يراها مشكلة سياسية ومجرد صراع في سبيل الديمقراطية لاسقاط حكم استبدادي حزبي. هي أعمق وأعرق وأعقد من ذلك. إذ تضرب جذورها في التاريخ الديني في العصور الوسطى .

 

2ـ ظهر المذهب النصيري الشيعي بقوة في سوريا الخاضعة للدولة المملوكية يهدد السلطة المملوكية، فتعامل معه المماليك بالاضطهاد وإجبارهم على التصوف السّني الدين العملي للعصر المملوكي. ولكن جاء العثمانيون بإضطهادهم المشار اليه. وقبيل سقوط الدولة العثمانية حاول السلطان عبد الحميد الثاني تجديد قوتها وإنقاذ ما تبقى منها بتهديد انجلترة وفرنسا اللتين تسيطران على مئات المسلمين في الهند والجزائر وشعوب اسلامية أخرى في أفريقيا وآسيا خارج الدولة العثمانية. فأنشأ ودعا السلطان عبد الحميد للجامعة الاسلامية ليسيطر على تلك الشعوب المسلمة ويستخدمهم ورقة ضغط وتهديد المستعمرين البريطانيين والفرنسيين الطامعين في الدولة العثمانية.

 

3ـ قبلها طمعت الأقليات المستضعفة في الشام في معونة أوروبا، وخصوصاً المسيحيين الموارنة في الشام ومعهم الشيعة خصوصاً (النصيريين) والدروز. شجعها نشاط الارساليات المسيحية في جبل لبنان وسوريا. واجه العثمانيون هذا بحملات اضطهادات ضد تلك الأقليات وصلت إلى مذابح كان أشهرها عام 1860، وتميز العثمانيون بإقامة تلك المذابح للمسيحين بالذات وكان من ضحاياهم الأرمن في بلادهم الأصلية أرمينيا حين كانت تابعة للعثمانيين، ثم النصارى والشيعة في الشام مما أحدث هجرات جماعية للأرمن ولمسيحيى الشام إلى الأمريكيتين ومصر، ومعروف ما سميّ بأدب المهجر، وهجرات مثقفي الشام إلى مصر وهم الذين أنشأوا الاهرام ودار الهلال (المصور ـ روز اليوسف) وأسسوا نهضة مسرحية في مصر .

 

4ـ أولئك المثقفون المسيحيون والشيعة أرهبهم مشروع السلطان عبد الحميد لإحياء الجامعة الاسلامية، وخشوا من مزيد من الاضطهاد فقاوموه بالدعوة إلى القومية العربية لتجمع العرب جميعاً بغض النظر عن الدين والمذهب ضد الأتراك. قاد المسيحيون العرب ـ ومنهم ساطع الحصري ـ تلك الدعوة للقومية العربية بديلاً عن الجامعة الاسلامية، وتكونت أحزاب تدعو للقومية العربية أهمها حزب البعث بقيادة المسيحي ميشيل عفلق، وإزدهر عصر القومية العربية بزعامة عبد الناصر، وانتهت القومية العربية بهزيمة 1967، وتم دفنها نهائياً بغزو صدام للكويت وبهزليات القذافي.

 

    

5ـ تحت عباءة القومية العربية نجح حزب البعث  في الوصول إلى السلطة في سوريا والعراق. وكان حزب البعث فرصة للأقلية النصيرية العلوية الشيعية المستضعفة في سوريا في الوصول للحكم بشعار القومية العربية. ونلاحظ أن الهدف الأعظم لحافظ الأسد لم يكن على الاطلاق استرداد الجولان بل البقاء في سدة الحكم هو وطائفته في سوريا. كما نجح المغامرون المهمشون في العراق من خلال البعث للوصول للحكم، فحكم صدام العراق مواجهاً حافظ الأسد في حكم سوريا. ولأن ولاء هذا وذاك للمذهب وليس للحزب فقد إشتد الشقاق بين حزب البعث (السني) الحاكم في العراق وحزب البعث (الشيعي النصيري العلوي) الحاكم في سوريا، واستحال تحقيق حلم الاتحاد لدى القوميين العرب في البلدين لأن الجذور الدينية هي الأساس، وهي الصراع (الخالد) بين الشيعة والسّنة. وبينما اضطهد بعث العراق السّني الشيعة العرب في العراق كالمعتاد في تاريخ العراق فقد اضطهد شيعة البعث حكام  سوريا السنيين الأغلبية في سوريا منتقماً لما حدث من قرون إضطهاد سابق. وبينما لجأ شيعة العراق المعارضين لصدام إلى تسييس الدين لحاقاً بثورة إيران الشيعية المتطرفة للعمل ضد صدام حسين السّني فإن سنيي سوريا المعارضين لحافظ الأسد قاموا بتسييس دينهم بالوهابية فأصبحوا (الاخوان المسلمين) المعبرين عن الأغلبية السّنية المقهورة من الأقلية الشيعية الحاكمة.

 

6ـ زاد هذا مع انتشار الوهابية في سوريا فتحول الصراع في سوريا الآن إلى (صراع وجود) ما إن يبدأ حتى يتحول إلى حمامات دم. فعل هذا حافظ الأسد في مذابح حماة وحلب ويقوم به الآن بشار في مذابح مستمرة. في صراع الوجود ليس مطروحاً مجرد البقاء في الحكم بل البقاء على قيد الحياة، لأن زوال بشار من الحكم يعني زوال الطائفة الشيعية النصيرية العلوية من الوجود ـ هكذا يحلم الاخوان المسلمون في سوريا، وهكذا يتصور بشّار وطائفته التي يبلغ تعدادها خمس عدد السكان في سوريا. ولذا تتردد الدول الكبرى في التدخل خوفاً من انتصار الاخوان وقيامهم باستئصال الطائفة العلوية. ولهذا ستبقى الأزمة السورية تنزف دماً بلا حل سوى البتر. هنا صراع وجود يقوم على المذابح والبتر. هنا مرض سرطان لا علاج له إلا بالبتر .

 

لبنان بين حرب أهلية سابقة وبوادر حرب أهلية قادمة:

 

1ـ في التجربة اللبنانية دليل آخر. بسبب الاضطهاد الديني في القرن التاسع عشر وافقت أوروبا في اتفاقية سايكس بيكو على فصل جبل لبنان المليء بالأقليات الدينية والمذهبية. وأجاد الموارنة إستغلال شعار القومية العربية حتى تحقق لهم النفوذ في لبنان، ثم بعدها هجروه وارتدوا إلى دينهم الأصيل ليكون شعارهم الحقيقي ضد المسلمين العرب، وفي سبيله تتنوع وتختلف تحالفاتهم من الشيعة إلى السنة حسب مصالحهم .

 

 

2ـ إقامة اسرائيل ألهب الصراع وجعله أكثر تعقيداً، أدخل لبنان في حرب أهلية مروعة، والآن يقف لبنان على حافة حرب أهلية كبرى تتعدد أطرافها المحلية والاقليمية والدولية بسبب ايران وسوريا وحزب الله من جهة والسعودية واسرائيل وأمريكا من جهة أخرى، والفلسطينيين بين هنا وهناك.

 

الدروز الشيعة بين اسرائيل والسنيين:

ولكن قيام إسرائيل كان طوق نجاة للشيعة الدروز في فلسطين، فقد وجدوا في دولة اسرائيل الحماية من إضطهاد السنيين المزمن والذي ارتفعت وتيرته مع تسيد الوهابية. لذا سارع الدروز مبكراً بالانضمام إلى الدولة الاسرائيلية واكتسبوا جنسيتها وصاروا عماد جيشها، بينما إنحاز دروز لبنان للعروبة في عهد كمال جنبلاط ـ وبعد إغتياله تتأرجح بوصلة ابنه وليد جنبلاط  في تحالفاته.

 

اليوم سوريا ... وبعدها الخليج:

1ـ السعودية ـ محور الشّر في العالم ـ تنازلت مؤقتاً عن تحقيق حلمها في الاستيلاء على الكويت ودول الخليج لأن الدول الكبرى لا تسمح لها بذلك، فاستعاضت عن تحقيق الحلم المستحيل بنشر الوهابية في الخليج فاحتدم الاضطهاد السني الوهابي للشيعة وهم الأغلبية في دويلات الخليج.

2ـ بقيام الدولة الدينية الشيعية في ايران نشأ وضع جديد، فايران الشيعية ترى أن من حقها السيطرة على الخليج (الفارسي) وليس العربي بكل ثرواته النفطية خصوصاً مع وجود أغلبية سكانية شيعية تتحكم فيها أقلية سنية وهابية حاكمة. لذا تعمل ايران على امتلاك السلاح النووي لتساوم به أمريكا وترعب به عرب الخليج السنيين، وتقطع دابر النفوذ الأمريكي والغربي والاسرائيلي في الخليج ليكون خالصاً لها، وبه تقود العالم الإسلامي (السّني) بدل السعودية في مواجهة أمريكا واسرائيل. وتستعيد ايران مجدها القديم حين كانت في عهد الأكاسرة تمثل القوة الشرقية ضد الامبراطورية الرومية البيزنطية. إمتدّ النفوذ الايراني معتمداً على وجود الأغلبيات الشيعية في الخليج بدءاً من المنطقة الشرقية في السعودية المليئة بالبترول، إلى قطر والامارات والكويت وعمان والبحرين. هذا مع شيعة العراق. نجحت ايران في العراق، وتستغل الربيع العربي ليصل الشيعة إلى الحكم على حساب النظم السلفية الوهابية. وتمدد النفوذ الايراني ليصل إلى حماس وإلى صعدة في اليمن وحزب الله في لبنان، مما يعقّد الصراع في سوريا وفلسطين واليمن.

3ـ في المقابل تعمل السعودية وحلفاؤها على احتواء ومواجهة التمدد الايراني بالضغط على شيعة الخليج ومصر واليمن وشمال أفريقيا وبحشد الخليج تحت زعامتها ولو أدى الأمر إلى الاتحاد مع البحرين أضعف حلقات الحلف الوهابي السني ضد ايران. ثم بالحرب المباشرة والمستترة لحزب الله في لبنان ولنظام الأسد في سوريا .

4ـ كما تعمل السعودية على إضعاف اليمن وتقسيمه حتى لو كان أحد القسمين تابعاً للماركسيين أو للشيعة الحوثيين أو للقاعدة، لأن وجود اليمن دولة قوية متحدة يهدد الاسرة السعودية، ففي نهاية المطاف فاليمن صاحب حضارة ممتدة ودولة تجاوز عمرها آلاف السنين وليس مثل الدولة السعودية الراهنة التي ظهرت للوجود عام 1932 .

5ـ ايران هي عنصر تفجير المنطقة. وستكون سعيدة بتفجيرها حتى يظهر (المهدي المنتظر الفارسي) يتجول في خرابات ما كان يسمى بالبلاد العربية .

 

موجز النعي مقدماً :

1ـ المقصود أنه صراع ديني بين أديان أرضية يتقاتل أتباعها حول النفوذ والسيطرة، وفي هذا الصراع يتم استخدام كل الشعارات. بدأ بالشعار القومي العربي ثم الشعار الإسلامي والآن يلحق به جزئياً شعار حقوق الانسان والديمقراطية. وفيما يخصّ موضوعنا عن (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) فيتم استغلاله نظرياً وتطبيقياً في خدمة الهدف السياسي وبالتالي يتأسس تناقضهم مع الاسلام ودولته المدنية الحقوقية القائمة على الحرية المطلقة في الدين والديمقراطية المباشرة والعدل والمساواة وحقوق الانسان وكرامته .

 

2ـ هذه أمثلة واقعية للحضيض الذي هبطنا اليه. هو سرطان معنوي يكون الشفاء منه والتخلص منه بالبتر. ويتبارى المتصارعون في بتر بعضهم البعض. يبدأ الأمر فكرياً بإلغاء الآخر دينياً ومذهبياً وحقوقياً، ثم يتحول الالغاء الفكري والديني إلى إستئصال جسدي ودموي. فهم المرضى وهم الأطباء والقتلة، هم القاتل وهم الضحية، هم الباتر وهم المبتور، ولا يبترون سوى أعضائهم وأطرافهم ولا يعقلون. وكل فريق يقتل الفريق الآخر أو يبتره جهاداً في سبيل الله. وكلهم جميعاً أعداء الله جل وعلا .

 

3ـ في معارك البتر هذه لا تجدي الحلول المظهرية في الشفاء. لا ينفع في علاج مريض السرطان المادي تدليك عضلاته وعمليات تجميل لجلده. بالتالي لا ينفع في علاج السرطان المعنوي أن تعالجه سطحياً. لا يجدي التغيير في النفس سطحياً. لا بد من تغيير كامل وشامل. لا بد أن يكون التغيير (تصنيعاً). ليس تغيير الفرد ولكن (تصنيع الفرد) من الألف إلى الياء. وليس تصنيع فرد بل تصنيع كل أفراد المجتمع ..

 

4 ـ يا للهول ( تصنيع كل أفراد المجتمع ؟ ).. كيف هذا ؟. 

 

 

 

 

الباب السادس : ( حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ )

الفصل الثاني : قواعد التغيير والتصنيع : تصنيع الفرد والمجتمع في إطار التغيير للأفضل

 

أولاً : ـ الوصفة السريعة لا تنفع ولا تجدي في تصنيع الفرد والمجتمع :

 

1ـ كان الخديوي إسماعيل معجباً بالحضارة الأوروبية فحاول أن يجعل مصر قطعة من أوروبا، فارسل البعوث من الطلبة وأسس الأوبرا وقام بتعمير وتحديث القاهرة، التي لا تزال أحياؤها الحديثة تنبض بجهوده، ولكن سبّق الخديوي اسماعيل بإنشاء مجلس شورى النواب في سابقة لم تحدث في الشرق. وجيء بالنواب في المجلس، وهم لا يعرفون سوى الطاعة للخديوي الذي كانوا يخاطبونه بوليّ النعم. وقيل لهم أن المفروض في النواب أن ينقسموا إلى جبهة يمينية توافق ولي النعم، وجبهة يسارية تعارضه، وعليهم أن يختاروا أحد الجبهتين، فما كان من النواب جميعاً إلا أن تزاحموا إلى جبهة اليمين تأييداً لولي النعم. حدث هذا في ستينيات القرن التاسع عشر. بعدها بأكثر من قرن كانت أغلبية المصريين توافق بإجماع مذهل أو ديمقراطي جداً أي كلمة يقولها المستبد العسكري عبدالناصر، إلى أن أفاق المصريون على نكسة 67. جاء السادات مثل الخديوي اسماعيل مغرماً بالغرب، ويريد مثله إصلاحاً فوقياً مظهرياً فأعلن لأول مرة عن السماح بالمنابر السياسية لتكون مقدمة لتكوين الأحزاب، فتم إنشاء آلاف المنابر، وتزاحم المواطنون طوابير للسماح لكل منهم في تكوين منبر، وأتخذوها (سبّوبة) ووسيلة للتكسب وتنفيذاً لتوجيهات السيد الرئيس (السادات). وتقدم السادات خطوة فأنشأ حزب مصر ليمثّل السلطة بديلا عن الاتحاد الاشتراكي الذي أنشأه عبد الناصر لتجميع الشعب خلفه. وساعد السادات على إنشاء حزب العمل وسمح بظهور حزب التجمع اليساري الاشتراكي الناصري الماركسي لخلق معارضة مستأنسة وديكور ديمقراطي سطحي مظهري. ثم كالعادة أصابه الملل من أداء حزب مصر الحكومي فأعلن إنشاء حزب جديد للسلطة أسماه (الحزب الوطني) وفي يوم واحد (هرول) نواب وقادة وأعضاء حزب مصر إلى الحزب الجديد، ودخل مصطلح (الهرولة) إلى قاموس السياسة المصرية. كل هذا يعبر عن نقص في ثقافة الديمقراطية. إذ أنه لا بد من نشر وتعميق ثقافة الديمقراطية في الطبقات الشعبية والأسرة والبيت والمدرسة والجامعة والعمل والشارع والنادي والمؤسسات الحكومية والأهلية. لا يصح أن تؤسس مؤسسات الديمقراطية فوق أرض هشّة فتنهار فوق رؤوس الناس فوضى، بحيث يشتاق الناس لمستبد يعيد قبضته الحديدية. أي يفضّل معظم الناس التضحية بالحرية مقابل الأمن .

 

2ـ ولأن الديمقراطية هي المشاركة في الحكم، وتفاعل الفرد في المجتمع معبراً عن رأيه وموقفه فإن ما نقوله عن الديمقراطية ينطبق تماماً على موضوعنا عن تفاعل الفرد بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تفاعلاً يقلل من وجود الأغلبية الصامتة التي هي نذير سوء بهلاك المجتمع. وبالتالي فلا تجدي الوصفة السريعة في إقامة ديمقراطية فوقية سطحية مظهرية، أو في تفاعل حقيقي خلاق يأمر فعلاً بالمعروف ويتخلّق به، وينهى عن المنكر ويتجنّبه.

بدون ثقافة ديمقراطية متعمقة رأسياً وسائدة أفقياً يتحول المجتمع بالحرية التي لا يحسن إستغلالها إلى فوضى وغابة تسقط فيها الدولة ويتمنى الناس وجود حاكم مستبد يضبط البلد. لو تم تنفيذ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بلا ثقافة ووعي متعمق ومنتشر فسيكون في أفضل حالاته زوبعة وتمضي، أو تكون موجة عاطفية موسمية وتنتهي، أما في أسوأ حالاتها ستكون خداعاً لاستمرار الاستبداد خلف مظاهر كاذبة .

 

ثانياً : الوعي هو الأساس:

 

إن الاستعداد للتضحية بالنفس والمال مما يساعد على ترسيخ ثقافة الديمقراطية والتفاعل بالخير. ولكن بدون ثقافة ووعي فلن يجدي العطاء وستكون التضحية في سبيل الشّر والارهاب.

المثال المؤلم هو في تاريخ المسلمين بعد وفاة النبي محمد عليه السلام. أطاع الرسول عليه السلام أوامر ربه في تشريع القتال (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) (البقرة)، فلم يقم مطلقاً بالاعتداء على أحد، واكتفى بالحرب الدفاعية. وفي أواخر حياته أرسل رسائل للحكام يدعوهم سلمياً إلى الاسلام، وشمل هذا كسرى وهرقل والمقوقس وغيرهم. كانت رسائل لإعلامهم بالاسلام، تنصح وتعظ، ولا تهدد بشنّ حرب. وفي عهده عليه السلام كان أغلب مسلمي المدينة يجاهدون مع النبي عليه السلام في سبيل الله جل وعلا بالمال وبالنفس. وقبيل موته عليه السلام رأى النبي جموع العرب تدخل في دين الله أفواجاً، ونزل قوله جل وعلا في سورة النصر (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً (3)). رآهم يدخلون في الاسلام بمعناه الظاهري أي المسالمة والسلام، وليس بمعناه القلبي فلا يعلم غيب القلوب وما تخفيه الصدور سوى رب العزّة جل وعلا. دخلوا في الاسلام بمعنى السلم والسلام، ومعهم بنو أمية وغيرهم من أساطين قريش أصحاب التاريخ الطويل في حرب الاسلام .

 

إختلف الوضع بعد موته عليه السلام فسيطرت قريش (المهاجرون والطلقاء) أي من أسلم بعد فتح مكة مما دفع الأعراب في نجد وغيرها إلى الردة، فتوحّد القرشيون في حرب المرتدين إلى أن هزموهم. وحتى لا يعود الأعراب إلى الثورة والردة فقد رأت قريش أن تستثمر طاقتهم الحربية وغرامهم بالسلب والنهب والغزو في حرب الأمم المجاورة التي لم تحاربهم. ونسي كبار الصحابة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وغيرهم قوله جلّ وعلا في تحريم قتال المسالمين الذين لم يعتدوا على المؤمنين ( لا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8)، ونسوا أن الأمويين وغيرهم ممن دخلوا في الاسلام مؤخراً هم الذين أخرجوا المؤمنين من ديارهم وقاتلوهم من قبل، وممنوع موالاتهم طالما يحاربون المؤمنين معتدين.

نسوا قوله جل وعلا عن بني أمية وغيرهم (إِنَّمَا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ (9) (الممتحنة). الأعراب الذين لا علم لهم بحقائق الاسلام كان سهلاً إقناعهم بأن تلك الأمم المجاورة كفرة يجب قتالهم. وبهذا قاتل العرب بكل فدائية في الفتوحات معتقدين أنه جهاد في سبيل الله جل وعلا. و كان بعض المرتدين السابقين أشجع الفرسان في الفتوحات، بل إن أشجع الفرسان المسلمين على الإطلاق في معارك القادسية وفتح المدائن والقضاء على فلول كسرى كان طلحة بن خويلد الأسدي الذي ادعى النبوة في حركة الردة، ثم عاد للإسلام بالتأويل القرشي وظل يكفّر بشجاعته وفروسيته عن خطيئة الردة، وفق ما ترسّب في عقليته من أن غزو تلك البلاد هو جهاد في سبيل الله يتفانى فيه طالباً الموت تحت شعار إمّا النصر وإمّا الشهادة.! وارتكب العرب كل هذا القتل والنهب والسبي لشعوب تمتد من خراسان إلى الاندلس، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً. والآن يسير على نفس الطريق قادة الارهاب حين يقنعون الشباب ويخدعونهم بتفجير أنفسهم على أنه جهاد في سبيل الله. إذن فقبل بذل المال والتضحية بالنفس لا بد من الوعي حتى تكون التضحية في الخير وليس في الشر .

  

ثالثاً : مراعاة التدرج وفهم الأوضاع القائمة من أساسيات الوعي:

1ـ وتدبر آيات القرآن الكريم يعطي أمثلة. ففي السور المكية ولمدة 13 عاماً كان التركيز على التعليم والتوعية باخلاص العقيدة وإلتزام الخلق السامي، وأن تكون العبادات وسيلة للتقوى، ومن ملامح التقوى حسن التعامل مع الناس والتزام الرقي الحضاري والأخلاقي في التعامل الفردي والجماعي وعلى كل المستويات. ولم يأت فرض القتال مطلقاً في  السور المكية بل ظل الأمر بالكف عن رد الاعتداء سارياً بعد الهجرة للمدينة، وتحمل المسلمون في أول عهدهم وهم بالمدينة اعتداءات متكررة من قريش لأن الأمر بالقتال لم يكن قد أتى بعد. ثم جاءهم الإذن بالقتال يشير في حيثياته إلى تحمل المسلمين لهجوم قتالي من العدو المعتدي بينما هم ملتزمزن بكف اليد وعدم الدفاع عن انفسهم. يقول جلّ وعلا ( أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) (الحج). أي بدأ رب العزة بترسيخ ثقافة لااله إلا الله وثقافة الوعي الخلقي، أي ثقافة الديمقراطية المباشرة وثقافة التفاعل الصحي في المجتمع قبل أن تبدأ الممارسة في المدينة، ثم شهدت المدينة نزول السور المدنية بتفصيلات التشريعات السياسية التعبدية والأخلاقية والاجتماعية. وغيرها ..

 

 

 

2ـ تخيل لو نزل في مكة قوله جل وعلا (وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36) (التوبة) وهي في أواخر ما نزل من القرآن وفيه الرد على تحالف المشركين المعتدين بالاتحاد ضدهم كافة. لو فرضاً نزل هذا الأمر في مكة حيث يعاني المؤمنون الاضطهاد والعذاب، عندها سيكون تطبيق هذا الأمر ـ لو حدث ـ انتحاراً جماعياً. إن تشريعات التعامل مع المعتدين تختلف حسب قوة المظلومين وضعفهم. ويجب الوعي بهذا. عند الضعف يكون التشريع هو الصبر على الاضطهاد أوالهجرة، وعند القدرة على رد الاعتداء يكون الاذن بالقتال الدفاعي. وعند امتلاك زمام القوة يكون الاستعداد لرد إعتداء أي تحالف ظالم معتد. هذا مع التمسك بالسلام وعدم الاعتداء على المسالمين في كل حال. لا بد من الوعي بأن لكل مقام مقالاً. وبدون ذلك يقع الطرف الضعيف في الانتحار كما يفعل الانتحاريون الذين يوصفون بالارهابيين لأنهم في عجزهم عن مواجهة جيش العدو المعتدي يستبيحون قتل الأبرياء المدنيين.

 

3ـ ولنتخيل نزول هذه الآيات في مكة (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (62) لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذاً فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63) (النور)، هي من أوائل ما نزل في المدينة، ونزلت في الحث على حضور المجالس السياسية للشورى وعدم التخلف عنها. وكان مستحيلاً تطبيقها في مكة  حين كان المؤمنون في اضطهاد وملاحقة وتحت الحصار. ولكن سبق هذه الآيات في مكة الأمر بالشورى كمجرد تمهيد نظري لملامح المجتمع المسلم (وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (38)(الشورى).

 

ثالثاً: التركيز على التغيير منذ الصغر:

 

1ـ الأمويون والأعراب الذين أمضوا معظم حياتهم في حرب للاسلام تمسكاً بثقافة الجاهلية ثم أضطروا لإعتناق الاسلام قبيل موت النبي لم يتغيروا، ثقافتهم التي عاشوا عليها وحاربوا الاسلام في سبيلها لم تتغير، لذا سرعان ما أعلن الأعراب ردتهم بعد موت النبي، ووجدها بنو أمية فرصة ليستعيدوا صدارتهم بالوقوف إلى جانب بني عمومتهم القرشيين المهاجرين، وبعدها قفزوا للحكم باسم الاسلام فإعادوا المسلمين إلى ثقافة الجاهلية تحت شعار الاسلام. طول معايشتهم لثقافة الجاهلية وطول معايشتهم قروناً لما وجدوا عليه آباءهم كان هو الأساس الراسخ والذي عاشوا عليه طفولتهم وشبابهم وكهولتهم، أما الاسلام الذي إعتنقوه بضع سنين في حياة النبي فكان شيئاً عارضاً وسهلا محوه من قلوبهم .

 

2ـ نفس الحال ينطبق على منافقي المدينة، وقد كانوا فيها الملأ المتصدر قبل الهجرة. فسببوا المتاعب للنبي والمؤمنين معه. ليس فقط لأنهم أسسوا لهم زعامة وقيادة قبل هجرة النبي والمؤمنين إلى المدينة فلما حدثت الهجرة فقدوا تلك الزعامة وتلك الصدارة بالوضع الجديد، ولكن أيضاً لأنهم أمضوا شبابهم وكهولتهم وقد إعتادوا على ثقافة الجاهلية فأصبح صعباً عليهم التخلّي عنها، وهذا شأن الانسان عادة بعد أن يتجاوز الخمسين من عمره واعتاد على موروثات وعادات وتقاليد أصبحت لديه ديناً أرضياً ملزماً .

 

3ـ لذا يكون صعباً أو متعذراً أو مستحيلا تثقيف الانسان بثقافة الديمقراطية بديلا عن ثقافة العبيد وأن يتثقف بالفاعلية والتفاعلية والمشاركة الايجابية في المجتمع مستعداً للتضحية في سبيل الخير، بدلا من ثقافة الخمول والخضوع والسلبية و ( الأنا مالية ـ من العبارة المصرية المشهورة : وأنا مالي ؟ ).

 

4ـ هناك من يبلغ الخمسين والستين بل والسبعين وتكون لديه قابلية للهداية والتفاعل الايجابي بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأنّه يكمن في قلبه استعداد داخلي لم يجد طريقه للتعبير والظهور، فلما جاءته الدعوة رحّب بها لأنه كان يعايشها من قبل في ضميره متمنياً، وكان ينظر لما حوله متألماً. أما من يمضى معظم عمره في الصّد عن سبيل الله والظلم والفساد والاضلال والافساد فلا يمكن أن يتغير، ولو أرغمته الظروف فسيضطر إلى مجاراة الوضع الجديد نفاقاً حتى يجد الفرصة ليتآمر ويدمّره من الداخل .

 

5ـ التثقيف يبدأ مع الطفل والشباب في مرحلة التعلم والاستيعاب. وتأتي المتاعب عادة من كبار السّن ممن تشبعوا بثقافات الاستبداد والتخلف والتسلط وتكونت لهم مصالح لا بد لهم أن يدافعوا عنها ويكون الاصلاح عدواً  لهم. وأولئك يجب مداراتهم بـ التي هي أحسن، فهم إلى زوال بحكم السّن، هم جزء من الحاضر ويمثلون الماضي. أما الشباب والأطفال فهم الجزء الأكبر من الحاضر وهم وحدهم أصحاب المستقبل.

 

رابعاً : الجمع بين التغيير الأفقي والتغيير الرأسي معاً: 

ولكنّ هذا لا يعني مطلقاً إهمال تثقيف الكبار. إن التغيير الرأسي هو مع تثقيف الأطفال والشباب، بينما يكون التثقيف الأفقي هو شموليته للمجتمع كله. فالتركيز في العمق بتوعية وتعليم الأطفال والشباب لا يعني الاهمال التام لكبار السّن والشيوخ، فأولئك ينالهم نصيبهم في الدعوة الأفقية التي تشمل المجتمع بأسره من خلال وسائل الاعلام والاتصال والمساجد والكنائس والنوادى والمقاهي. لو نجح التركيز في العمق مع الأطفال والشباب مع التركيز الأفقي في النشر العام للوعي فسيتم تصنيع الانسان ليكون متفاعلا بالخير فينجو المجتمع من الاستبداد والفساد .. ومن الهلاك .

 

 

الباب السادس ( حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ )

 الفصل الثالث  : إرادة البشر في التغيير بتصنيع الفرد والمجتمع

 

 أولا : مفهوم التصنيع : 

1ـ نتحدث عن إعادة تأهيل المواطن، أو تصنيعه بتغيير شامل كامل للنفس، أو بتصنيع الفرد المتفاعل الايجابي والمجتمع النابض بالخير. كيف يمكن تصنيع ذلك الفرد المتقي وذلك المجتمع المتقي الذي يتفاعل بالخير ويتواصى بالحق والعدل والصبر والاحسان ؟

 

2ـ في البداية نقول (تصنيع) لأنه يتم تصنيع للانسان بعد مولده بالتعليم. الطفل يولد بفطرته وبراءته، ثم يتم تصنيعه بظروف المجتمع ومدى إستجابته لهذه الظروف إيجاباً وسلباً خيراً أو شراً. بغفلته أو بإرادته الفردية يتحدد مصيره وتتشكل مسيرته في الحياة. هذا الطفل البريء عندما يكبر قد يصبح مثل نيرون والحجاج بن يوسف وجنكيزخان وهولاكو وتيمورلنك وهتلر و صدام ومبارك والقذافي وغيرهم من سفاحي التاريخ، وقد يصبح في عظمة عمر بن عبد العزيز ومعاوية بن يزيد بن معاوية والحسن البصري والخليل بن أحمد الفراهيدي وابن المقفع وأبي حنيفة ومحمد عبده وتولستوي وغاندي ومارتن لوثر كنج ونيلسون مانديلا، وقد يصبح ضمن ألاف البلايين من البشر الذين عاشوا وماتوا وسيعيشون ويموتون دون أن يتركوا أثراً، عاشوا موتى وماتوا موتى لا يحسّ بهم أحد ولا يأبه بهم أحد. هم الأغلبية الصامتة التي ينطبق عليها قوله عزّ وجلّ (هَلْ تُحِسُّ مِنْهُم مِّنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا) (مريم 98). بالتصنيع الجيد كما نفهم من القرآن يمكن تغيير الفرد والمجتمع من أسفل سافلين إلى أحسن تقييم .

 

ثانياُ : إرادة التصنيع والتغيير:

 

1ـ التصنيع المراد أمر هائل، فهو يشمل المجتمع كله أفقياً، ويتغلغل في النفس رأسياً، ليتعانق الفرد والمجتمع بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتواصي بالحق والوقوف ضد الظلم، وتأسيس العدل والديمقراطية المباشرة التي لا وجود فيه لحاكم فرد أو طبقة حاكمة تعلو على الناس وتظلم الناس.

 

2ـ إنّ هذا التغيير يبدأ بإرادة قوية حاكمة واعية مستبصرة. هذه الإرادة البشرية عندما تشاء وتريد التغيير تأتي إرادة الله جل وعلا ومشيئته تالية لها ومؤيدة لها، وهذا معنى قوله جلّ وعلا (إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ ). وهذا يستلزم توضيحاً قرآنياً:

 

 

 

ثالثاً : مشيئة الإنسان هي الأصل في إرادة التغيير والتصنيع:

 

1ـ مشيئة الإنسان هي الأصل في الهداية أو العدل مع الله.:

ان العدل درجات، وان الدرجة العليا فيه هي في التعامل مع الله بمعنى الا نظلم الله تعالى في اتخاذ شريك له وهو وحده الخالق المسيطر الذي لا يشرك في حكمه احداً (الكهف 26)، وهذا العدل يستلزم هداية إلى الحق تقوم على الفطرة السليمة، وهذه الهداية تبدأ باختيار الإنسان، فالانسان يفكر بعقله مهتدياً بفطرته السليمة يحاول الوصول إلى الحق بموضوعية، وعلي اساس هذا الاختيار الانساني للهداية يرشده الله تعالى إلى الهداية، أي تأتي مشيئة الله للهداية تالية ومؤكدة لمشيئة الانسان واختياره طريق الهداية، وفي ذلك يقول الله تعالى (ويزيد الله الذين اهتدوا هدى - مريم 76)، ويقول(والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم - محمد 17).

 

وفي المقابل فأن الذي يختار الضلال تأتي مشيئة الله تؤكد على الذي اختاره من ضلال (قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا - مريم 75)، (في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا :البقرة 10).

وفي الحالتين فان من يشاء الهداية يشاء الله هدايته ، ومن يشاء الضلالة يشاء الله ضلالته، يقول الله تعالى (فان الله يضل من يشاء، ويهدي من يشاء فلا تذهب نفسك عليهم حسرات - فاطر 8) (قل ان الله يضل من يشاء ويهدي اليه من اناب - الرعد 27 ).

 

باختصار فان اقامة العدل مع الله تعالى (أي بالهداية) يتوقف على مشيئة الانسان وإرادته الحرة. الانسان هو الذي يقرر ويشاء الهداية وتأتي مشيئة الله لتؤكد على هذا القرار. وقد يستلزم هذا الاختيار جهاداً وتكون هداية الله و إرشاده قريبة من هذا الجهاد، يقول تعالى ( والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وان الله لمع المحسنين - العنكبوت69).

 

2ـ مشيئة الإنسان هي الأصل أيضاً في إرادة التغيير أو إقامة العدل بين الناس:

وايضاً فان إقامة العدل مع الناس ومع البيئة تستلزم مشيئة الناس وإرادتهم، فكيف يقوم الناس بالقسط دون إرادة؟ بل لابد للإرادة أن تكون جماعية، وبقدر تكاتف الجماهير خلف الإرادة الجماعية لتحقيق العدل يمكن النجاح في تحقيق العدل بأقل قدر ممكن من الخسائر. ولكن السؤال الهام هنا كيف ينجح الناس على حمل انفسهم على المبادرة بالنهوض لتحقيق العدل ضد الظلم السائد ؟ كيف يترك الناس القيم الاجتماعية الهابطة مثل الخنوع والسلبية والتواكل ليستبدلوها بقيم سامية هي الايجابية والحرية والشجاعة والحرية والتضحية والفداء وحب الحق والدفاع عن العدل؟. إن الاجابة هنا تكمن في التغيير، تغيير النفسية أو الذهنية، وهذا التغيير يستلزم مشيئة حازمة قادرة فاعلة، فان شاء الناس تغيير ما بأنفسهم من خنوع وخمول وتواكل وسلبية وقرنوا المشيئة بالعمل نجحوا.

وهنا تأتي مشيئة الله تالية لمشيئة الناس وهذا معنى قوله تعالى (ان الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم - الرعد 11) أي هي نفس القاعدة ان إقامة العدل مع الله تستلزم اختيار الانسان للهداية ثم تأتي إرادة الله لتؤكد هذا الاختيار الانساني، واقامة العدل بين الناس ومع البيئة تستلزم تغييراً في الذهنية يقوم على اختيار انساني  حازم، وتأتي مشيئة الله مؤكدة وتالية لهذا الاختيار البشري. وعليه فأن حركة الانسان نحو تحقيق العدل هي اختيار بشري يؤكده اختيار الله تعالى ومشيئته.

 

3ـ شرعية التغيير مرتبطة بإرادة الناس:

 

فماذا اذا اختار الناس السلبية والخنوع والخمول والتواكل والرضى بظلم الحاكم ؟ طالما ارتضى الناس الخضوع لحاكم ظالم فهذا هو اختيارهم وتأتي مشيئة الله لتؤكد على هذا الاختيار الذي لا يرضاه الله تعالى. ان الله تعالى لا يرضي ان يكفر به عباده (ان تكفروا فان الله غني عنكم ولا يرضي لعباده الكفر وان تشكروا يرضه لكم - الزمر 7)، ولكن يشاء الله جل وعلا للكافرين ضلالهم طالما ارتضوا لانفسهم الضلال (كذلك يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء- المدثر 31). والله تعالى لا يريد الظلم في الارض (وما الله يريد ظلماً للعالمين - آل عمران 108)، (وما الله يريد ظلماً للعباد - غافر31). ولكن طالما ارتضى الناس تحمل الظلم واعترفوا بشرعية الحاكم الظالم ملكاً عليهم فان الله تعالى يعترف به حاكماً عليهم. ومن هنا ارسل الله تعالى موسي وهارون رسولين إلى فرعون اعتى الظالمين ظلماً، و اوصاهما بأن يقولا له قولا ليناً لعله يتذكر أو يخشى (طه 44)، ووصف الله تعالى بعض الحكام بأنهم ملوك، ومنهم ذلك الملك الذي ادعى الالوهية ودخل ابراهيم عليه السلام في جدال معه (الم تر إلى الذي حاج ابراهيم في ربه أن اتاه الله الملك، اذ قال ابراهيم ربي الذي يحيي ويميت قال انا احيي واميت ..) إلى أن يقول تعالى عن ذلك الملك (فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين - البقرة 258). فنحن هنا أمام مدعي للالوهية يصفه الله تعالى بالكفر والظلم. ولكنه يصفه ايضاً (ان اتاه الله الملك)، وقد اعطاه الله الملك لأن الشعب رضي به واختاره، فجاءت مشيئة الله تالية لاختيار الناس.

 

إن هذه الحياة الدنيا قائمة على اساس الاختيار (حرية الاختيار بين الايمان او الكفر، بين الرضى بالقهر أو الثورة عليه) وتأتي مشيئة الله لتؤكد على ما يختاره الانسان والناس، وهنا يكمن الاختبار في ذلك الاختيار. ثم يأتي يوم الحساب ليلقى كل إنسان نتيجة عمله حسب الشريعة الدينية الالهية ، وحيث يتحقق فعلاً ما ينبغي أن يكون .

 

 

 

 

4ـ الأديان الأرضية تعقد المشكلة وهذا يؤكد على أهمية الوعي والعلم:

من البساطة أن يقال إن الرسالات السماوية هدفها جميعاً أن يقوم الناس بالقسط والعدل. فإن لم يتحقق العدل والقسط بالطرق السلمية فلا مفر من اللجوء للحديد أي القوة لنصرة الرسالات السماوية وإقامة العدل والقسط. المشكلة هي الاستخدام السيء للرسالات السماوية والحديد. .

 

الحديد في حد ذاته معدن محايد، لا تقول انه حرام أو حلال. إنما يحرم استعماله في الظلم ويجوز استعماله في المباح وقد يجب استعماله في الفرض. السكين والبندقية قد تستعملها في الصيد المباح ويكون استعمالها واجباً وضرورياً عندما تدافع بها عن نفسك حين يهاجمك مجرم سفاك، ويكون حراماً استعمالها في الاعتداء على المسالمين .

 

الرسالات السماوية النبيلة أيضاً تتحول بالتحريف إلى وسائل لاستعباد البشر وظلمهم. يفعل ذلك عادة شر الناس الذين يخترعون بالتزييف أدياناً أرضية يستخدمونها سياسياً وبها يركبون ظهور الشعوب والعوام بإسم الدين الالهي وهم أعدى اعدائه. وهنا لا بد من مواجهتهم أساساً بالوعي الديني الصحيح، أي من خلال الاسلام نفسه. ثم بعدها تتطور الأمور كالعادة إلى الدفاع عن النفس ضد أعتداء المستبد الظالم.

 

5ـ مواجهة الأديان الأرضية للمسلمين بالتوعية بالاسلام نفسه،

 ليس المقصود هنا الجهاد على الطريقة السلفية الاخوانية – أي الوصول إلى الحكم بالارهاب واستغلال اسم الاسلام العظيم لاقامة دولة دينية كهنوتية استبدادية معادية  للاسلام كالدولة العباسية أو العثمانية أو الفاطمية أو السعودية. ليس المقصود أيضاً إحلال حكم مستبد حالي محل حكم مستبد سابق، للخروج من هذه الحلقة الشريرة لا بد من تحديد هدف الجهاد الإسلامي وأنه السعي لإقامة دولة اسلامية حقيقية أي بالمفهوم المعاصر دولة مدنية علمانية ديمقراطية تحقق العدل والحرية، ليس مهمتها ادخال الناس الجنة رغم انوفهم ولكن حماية كل حقوقهم في هذه الدنيا على أساس المساواة والعدل المطلق بين كل المواطنين. وليس من شعارات الدعاة لهذه الدولة رفع لافتات دينية منعاً للخلط بين الدين والسياسة ولكن رفع قيمة العدل والحرية التي لا جدال حولها، وإذا تحقق العدل وتحققت الحرية وتمت سيادة القانون الشرعي العادل على الجميع فإن المسلم يرى في هذه الدولة العادلة دولته الاسلامية ويراها المسيحي دولته المسيحية المثالية ويراها العلماني الملحد دولته التي يحلم بها. لا بأس من اختلاف التفسيرات، المهم إقامة القسط بين الناس. الديمقراطية ـ مثلا ـ لا يمكن فرضها بالعنف، لا بد قبل إقامة الديمقراطية من ارساء الوعي الديمقراطي أولاً، أي إرساء ثقافة الديمقراطية. ولا يمكن أيضاً تعليم الديمقراطية إلا من خلال الثقافة المحلية السائدة، أي طالما أنت في مجتمع مسلم فلا بد من الترويج للديمقراطية من خلال الاسلام. واذا كان الوهابيون والاخوان قد نجحوا في نشر ثقافتهم الارهابية المستبدة باستغلال شعارات اسلامية فانه من السهل مواجهتهم من داخل الاسلام. والقرآن الكريم هو الأساس الذي تستطيع به هزيمتهم.

القرآن أرسى فارقاً حقيقياً يوضح الفرق بين الداعية للحق والداعية للباطل حين قال (اتبعوا من لا يسألكم أجرا وهم مهتدون- يس 21)، الأنبياء كانوا لا يأخذون أجراً على الهداية، وهذا ما تكرر في القرآن. والأنبياء أيضاً هم أول البشر عملاً بما يقولون وأول الناس طاعة وتطبيقاً لما يأمرون به الناس. وعلى نفس النسق يكون الداعية للحق ؛ لا ياخذ من الناس أجراً  بل يجاهد بما يملك من مال ونفس يبتغي رضا الله تعالى، ويطبق على نفسه ما يقول للآخرين ويكون أول الملتزمين بما يدعو اليه. دعاة الباطل كما وصفهم القرآن الكريم يأكلون اموال الناس بالباطل ويشترون بآيات الله ثمناً قليلا، عينهم على الأجر والمتاع الدنيوي، يجمعون الأموال وينهبونها ويسرقونها باسم الاسلام. أما كبارهم فالأجر الذي يسعون اليه هو ان يموت الشباب انتحاراً من أجل أن يركبوا على أكتافنا باسم الاسلام بإعتبار انهم وحدهم من دون العالمين هم الذين اختارهم الله تعالى لاسترقاقنا وامتلاكنا والتحكم فينا حيث تكون لهم كل الحقوق وعلينا لهم كل الواجبات !!

 

هل هناك ظلم للبشر أفظع من ذلك ؟

الأفظع منه ظلمهم لله تعالى. فالله تعالى أنزل كل الرسالات السماوية لتحقيق هدف واحد وهو أن يقوم الناس بالقسط، إلا أن اعداء الله تعالى قاموا بتزييف دينه بأحاديث كاذبة وتفسيرات ضالة وتأويلات فاسدة ومصطلحات مبتدعة ليبرروا ظلمهم وسرقتهم حقوق الناس والأمم والشعوب .

 

وبذلك فهم لم يظلموا الشعوب فقط وانما جعلوا لظلمهم مسوغاً شرعياً ليستمر الظلم محتمياً بمرجعية الاهية مزورة. وفي هذا كل الظلم للواحد القهار ودينه ورسالاته السماوية التي نزلت لإقرار العدل المطلق والديمقراطية المباشرة فحولها أعداء الله بالتزوير والغش إلى تقنين للظلم. هم بذلك يظلمون الله تعالى أكثر من ظلمهم للبشر. ويكفي وصفهم بالإسلاميين، فهناك من المسلمين وغيرهم من يبغضون الاسلام واسمه وشريعته لأنهم عاشوا مقتنعين – ولا يزالون مقتنعين – أن اولئك السلفيين الحاليين وائمتهم وتراثهم وتاريخهم هو الاسلام فأصبح الاسلام متهماً بما فعله أعداؤه القدامى والمعاصرون .

 

وظيفة الكهنوت أن يزعم – كذباً - التوسط بين الله تعالى والبشر. وليس في الاسلام واسطة بين الله تعالى والناس. ولأنه زعم كاذب لا سند له في دين الحق أو في عقل سليم كان لا بد للكهنوت أن يحتمي بقوة تساعده في إلزام الناس بطاعته وتقديسه وعبادته. من ناحية أخرى فالاستبداد السياسي يحتاج إلى مسوغ ديني يخدع به الجماهير، أي يحتاج إلى مؤسسة كهنوتية تبرر له وتفتي من أجله وتترعرع في ظله وتنعم معه على حساب حقوق الناس. وهكذا عاش الإستبداد والكهنوت معاً في تاريخ المسلمين والغربيين، وبينما تقلص نفوذ الكهنوت في الغرب بعد أفول الاستبداد الغربي فإن الاستبداد الشرقي العريق لا يزال يعيش معتمداً على الكهنوت الديني في شكل مؤسسات دينية تدعي أنها مؤسسات علمية. تميز الكهنوت الشيعي بإقامة دولته الدينية التي يحكمها مباشرة وفق ما يعرف بولاية الفقيه، وهي الحلم الذي يسعى اليه المعارضون الوهابيون للدولة السعودية امثال الفقيه والمسعري وتلميذهم الشهير أسامة بن لادن.

المستبدون والكهنوت أعداء حقيقيون لله تعالى، سواء كانوا في السلطة أو يسعون إليها مسلحين بفكر الكهنوت وثقافة الارهاب والاستبداد والاستعباد، ولذا ترى حركتهم العسكرية معبرة عنهم حين تقتل المدنيين والأبرياء مخالفة تشريعات القرآن. هم في جهادهم المزعزم يكررون نفس الخطيئة التي فعلها الصحابة حين قاموا بما يسمى بالفتوحات الاسلامية وقتلوا فيها مئات الألوف من الأبرياء في آسيا وأفريقيا مقابل حطام دنيوي زائل.

 

هذا بعض ما يجب تعليمه للمسلمين لتدعيم ثقافة الديمقراطية وتجذير الوعي بها حتى يغيروا ما بأنفسهم من خنوع وخضوع. وهذا هو الجهاد السلمي الهادف لنشر الوعي والتنوير، ويتأكد هذا بتعليم المسلمين من داخل الاسلام أن جهاد اولئك المستبدين والكهنوتيين واجب اسلامي سواء كانوا في السلطة أو يسعون إليها، وأن  الهدف الاساسي هنا ليس الوصول للسلطة طبقاً لتلك العادة السيئة للثوار من العسكر وأصحاب الأيدلوجيات الدينية والقومية والسياسية، ولكن لإعادة السلطة للشعب، ليس لحاكم أو حزب أو طائفة تزعم وتحتكر الحديث باسم الشعب ولكن للشعب بالحقيقة وليس بالمجاز. وإذا كان تطبيق الشورى الاسلامية – أي الديمقراطية المباشرة – صعباً الآن فلا بأس من الأخذ مؤقتاً بالديمقراطية النيابية التمثيلية بانتخابات حقيقية نزيهة يختار الشعب فيه ممثلين عنه، ثم تقوم الدولة الديمقراطية الوليدة بإصلاح كامل شامل ينشر الوعي بحيث يصبح ميسوراً لكل فرد في الشعب أن يتحدث بنفسه دون حاجة لنائب يمثله بممارسة الديمقراطية المباشرة التي جعلها الاسلام فريضة وطبقها المسلمون في عهد النبي ثم أضاعوها – وحان وقت استرجاعها.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الباب السادس  :  ( حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ )

الفصل الرابع  :  إرادة التغيير وتحديد الهدف  

 

1ـ تأتي إرادة الله جل وعلا مؤيدة وتالية للإرادة البشرية. ونتحدث هنا عن إرادة قوية حاكمة واعية مستبصرة، تعي أن إرادة الله جل وعلا مؤيدة وتالية لها فتشعر بالفخر وتشعر بعظمة المسئولية المناطة بها، وتعمل على أن تكون على قدر هذه المسئولية .

 

تبدأ هذه الإرادة البشرية الواعية المستبصرة قوتها بالعلم الحقيقي الذي يورث الوعي والبصيرة. العلم الحقيقي يبدأ بالاجابة على تلك الأسئلة الضخمة التي يبدأ بها الطفل يسائل بها والديه ثم ينساها ويغفل عنها فيما بعد: لماذا خلقنا الله جل وعلا ؟ ولماذا نحن هنا ؟ وماذا بعد الموت ؟.

 

2ـ الإجابة في الدين الحق تؤكّد أننا هنا للإختبار ولم يخلقنا الله جل وعلا عبثاً (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ) (المؤمنون 115)، (أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَى ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَى) (القيامة 36 : 40)، وهذه الاجابة الصحيحة تستلزم موقفاً صحيحاً إيجابياً وعملياً يعني أنّ علينا أن ننجح في إختبار هذه الحياة الدنيا لنكسبها ونكسب أيضاً الآخرة. وهذا بالتالي يؤكد أن على ذلك الانسان الواعي أن يحدد له هدفاً في الحياة يحقق به نجاحه في أختبار الوجود على هذا الكوكب الأرضي في هذه الفترة الزمنية  التي مقدر له أن يقضيها في هذه الدنيا. والانسان هنا يعني الفرد والمجتمع .

 

3ـ  إنّ الهدف الذي تسعى اليه في حياتك هو الذي يحدد قيمة حياتك. والأهداف مهما تكاثرت فهي تنتهي إلى واحد من إثنين : إمّا أن تقتصر على هذه الحياة الدنيا، وإمّا أن تتجاوزها في جعل السعي الدنيوي طريقاً للنجاح في الآخرة.

 

4ـ هناك من يحدد هدفه في نطاق الدنيا فقط، في الثراء أو الجاه والنفوذ، قد ينجح فيكون ثرياً أو صاحب نفوذ، ولكن بالموت يفقد كل شيء في الدنيا وينتهي بالخلود في النار في الآخرة. هذا إنسان غافل عن قيمته عند الله جل وعلا، فالله جلّ وعلا خلق كل هذا الكون بأرضه وسماواته وما بينهما من نجوم ومجرات لكي يختبر الانسان وأعطاه إرادة حرة في الايمان أو الكفر، في الطاعة أو المعصية، وبعد إن يتم إختبار كل نفس بشرية يدمّر الله جل وعلا السماوات والأرض وما بينهما من نجوم ومجرات ويخلق أرضاً جديدة وسماوات جديدة يكون فيها مساءلة كل فرد عن حريته في إرادته التي كانت له في هذه الدنيا، ثم يكون مصير كل فرد إلى خلود في جنة أو خلود في الجحيم.

الغفلة عن هذه الحقيقة والغفلة عن تلك القيمة الكبرى لكل فرد عند ربه جل وعلا والغفلة عن تلك المسئولية الكبرى المناطة بكل فرد فينا ـ تلك الغفلة تحول بين الانسان وإدراك مستقبله عند ربه، فيحصر عقله في هذه الدنيا، ويحصر فيها إرادته وغايته.

 

5ـ هذا الصنف (الدنيوي) يتنوع من حيث إرادته إلى نوعين : متفاعل له إرادة وله هدف يسعى اليه، وغافل بلا إرادة وبلا هدف .

5/1: هذا الغافل إنسان فاقد الارادة، أو (أراد ألّا يريد)، أي أراد أن يكون بلا إرادة . عاش غافلا لاهياً، يترك نفسه في هذه الدنيا تحمله أمواج الحياة تتلاعب به وتتقاذفه إلى أن تلقيه في القبر لا فارق بينه وبين حيوان أو جماد. يظل كل هدفه في الحياة أن يشبع غرائزه الدنيوية وبأي طريق. هذا الغافل يعيش بنصفه الأسفل غارقاً في الشهوات، وحين يتدين يتحول دينه إلى لهو ولعب وغناء ورقص كما يفعل الصوفية في موالدهم وأعيادهم الدينية التي يقيمونها حول الأنصاب والأضرحة (الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (51) ( الاعراف ) .

 

هم يتخذون دينهم وأنصابهم وقبورهم المقدسة وأعيادهم وموالد أوليائهم عادة اجتماعية دينية، أو مودة بينهم في الحياة الدنيا، ثم تتحوّل هذه المودة إلى عداء يوم القيامة، وهذا ما كان ابراهيم عليه السلام يقوله لقومه ( وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْوَاكُمْ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (25) (العنكبوت). هذا الصنف اللاهي يعيش ليأكل كالحيوان (وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ (12) (محمد)، ويظل ضالاً مكباً على وجهه (أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (22) (الملك)، ثم تأتيه المفاجأة القاسية يوم الحشر بعد أن أضاع حياته في خرافات ومتع حسية بهيمية جعلها دينه وطريقه في الحياة الدنيا ( وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدْ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنْ الإِنسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنْ الإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (128) (الانعام)  غفل عن الإرادة أو أراد ألّا يريد فانتهى إلى سوء المصير.

 

5/2: وهناك إنسان قرّر أن ينتبه لنفسه وأن يجعل لحياته هدفاً يسعى إلى تحقيقه. وهذا الصنف صاحب الهدف ينقسم إلى نوعين أيضاً : نوع يجعل هدفه دنيوياً فقط، أي محدد بهذه الدنيا لا يتعدّاها إلى الآخرة. وصنف يجعل هدفه يتعدى الدنيا لتكون الدنيا عنده رحلة عمر يتزود فيها بالتقوى لينجح في إختبار الحياة ويفوز بالخلود في الجنة .

 

 

5/3: الصنف الذي يجعل هدفه في الدنيا فقط ينقسم أيضاً إلى قسمين : قسم يتفاعل بالفساد أو بالخير.

القسم المتفاعل بالفساد أطياف كثيرة أسوؤها من يستخدم دين الله ليفسد به في الأرض وينسب فساده إلى رب العزة جل وعلا، وهو أحطّ البشر وأظلم الناس لرب الناس، وفي هذا القسم تجد أئمة الأديان الأرضية للمسلمين وغيرهم في الماضي والحاضر. كل منهم يسعى وبإرادته الشخصية لأن يتخذ من دين الله مطية يصل به إلى تحقيق طموحاته في السلطة والثروة، أو بتعبير مخفف (يخلط السياسة بالدين) وهو يقوم بدور المضلّ أي الذي يضلّ الناس، يتفاعل في الاضلال ليربح الدنيا بإفساد وتحريف الدين .

 

وهناك من هو أقل منه ضرراً وجرماً وهو الذي يفسد الناس بنظريات أرضية بشرية بعيدة عن الدين. ومنهم صنف أناني يتفاعل بالاجرام وبالشرور مثل زعماء العصابات وزعماء الدول .

 

5/4: ولكن هناك الصنف الشريف النظيف ممن يريد الدنيا. هو الذي يتفاعل فيها بالخير ليأخذ سمعة وجاهاً في هذه الدنيا، يفعل الخير للناس ابتغاء مرضاة الناس، وليس لرب العزة نصيب في إعتقاده. هذا الصنف الدنيوي الفعّال في الخير لأجل الدنيا ولمرضاة الناس يعطيه الله جل وعلا أجره في الدنيا مقابل عمله الذي يبتغي به الدنيا، ثم لا يكون له نصيب في الآخرة سوى النار، هو صنف معطاء كريم و فعّال للخير يريد النهوض بمجتمعه وقومه، ولكن لايؤمن بالآخرة، فهو يحدد الدنيا فقط هدفاً لحياته يريدها (حلوة له ولغيره). هذا لا يحرمه الله جلّ وعلا من نصيبه من الدنيا، فقد عمل لها وفيها خيراً فيأخذ الجزاء بالخير فيها فقط  دون الجنة في الآخرة، يقول جل وعلا (مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (20) (الشورى)،(إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ (7) أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (8) (يونس)، (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ (15) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (16) (هود). هذا الصنف الايجابي النافع في الدنيا هو الذي أقام الحضارة الغربية بإختراعاتها ومدنيتها وديمقراطيتها النيابية. نحن نحكم على الظاهر فقط. ولا شأن لنا بعلاقته بربّه وعقيدته الايمانية .

 

5/5: وأخيراً .. هناك المتفاعل بالخير في الدنيا مخلصاً لله جل وعلا ومؤمناً بالآخرة عاملا لها بالصالحات النافعات للناس.

بالتعاون بين هذين النوعين المتفاعلين بالخير يمكن إقامة مجتمع الفضيلة والدولة الاسلامية الحقيقية التي تضمن الحرية الدينية المطلقة والعدل والأمن والديمقراطية المباشرة لكل فرد فيها.

 

6ـ  بالجمع بين الإرادة والهدف وتنوعاتهما نخلص إلى أن لدينا هنا صراع إرادات : إرادة أنانية تملك السلطة والثروة (مثل المستبد العربي) أو تسعى إلى الثروة والسلطة (مثل المعارضة الوهابية السّنية كالاخوان والسلفيين في الربيع العربي الراهن)، وكلاهما تستغل المجتمع وتسعى لركوبه بطرق مختلفة، وتسعد بوجود الأغلبية الصامتة الخانعة الخاضعة. وفي المقابل هناك إرادة خيّرة تقف ضد هذا المنكر لتقيم الأمر بالمعروف، وتسعى لتفعيل الأغلبية وتنهض بها، لا لكي تصل على أكتافها للحكم والسيطرة، ولكن لتأسيس دولة العدل والحرية والحقوق للجميع على قدم المساواة. (مثل شباب الثورة المصرية في ميادين التحرير بالقاهرة وغيره في المدن المصرية ). هنا يمكن أن تلتقي في هذه الإرادة الخيّرة من يعمل بالخير للدنيا فقط ومن يعمل بالخير للدنيا والآخرة. هما معاً يجب أن يعملا على تغيير ما بأنفسهم وما في مجتمعهم من صفات التواكل والسلبية والسكون والخنوع والخضوع إلى صفات الشجاعة والإقدام والعطاء والإلتزام بقيم العدل والقسط والحرية وكرامة الانسان .

 

7ـ إرادة الخير هذه حددت هدفها، ويبقى أن تشحذ قواها لتحقيق الهدف. وهنا يأتي العلم بحقائق لا جدال عليها تؤكّد وجوب نضالها في سبيل حقوقها وإقامة دولة العدل والحرية والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. الأغلبية الصامتة تتعلل بالخوف من الموت والخوف من التعذيب والخوف على الوظيفة والرزق. وفي سبيل الحرص على الحياة والحرص على الأمن والابتعاد عن المشاكل والقلق والحرص على الوظيفة ترضى بالعيش الذليل والرضى بالمهانة وضياع حقوقها .

 

هنا يجب التبصير بحقائق إيمانية لا جدال فيها ، نتعرض لها في الفصل القادم .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الباب السادس : ( حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ )

الفصل الخامس:   الوعي وموضوعاته العقيدية

 

السريرة مسرح التغيير  :

1ـ من نعم الرحمن على الانسان هي تلك السريرة الخاصة به، والتي لا يعلم بها بشر غيره، ولا يعلم خطراتها إلّا الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور. في تلك السريرة يخاطب الانسان نفسه ويعيش أحلام يقظتة، وتراوده غرائزه وينهاه ضميره، ويحتفظ في هذه السريرة بمشاعره الحقيقية التي قد يخفيها عن كل العالم، ويستودع فيها أسراره وفضائحه. وهذه السريرة مسرح تغيير النفس .

 

2ـ فيها يستطيع الانسان أن يواجه نفسه ويسائلها ليعلو ويسمو بها. ويستطيع الانسان أن ينجح في تغيير ما بنفسه من نواقص وأن يقمع شهواته وغرائزه فلا تكون له سريرة، أي لا يكون في داخله أسرار يخجل منها بأن يتوب عما فات، ويبدأ صفحة جديدة بيضاء نقية، ويكون سرّه مثل علانيته شفافاً نقياً، فلا يشعر بالخزي والعار يوم القيامة إذا تم فضح وكشف المخبوء في السرائر (يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ(9) (الطارق)، هو يوم عرض أعمال البشر علانية بأسرارهم وخباياهم المستورة ( يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ (18) (الحاقة)، (يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ (6) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَه (8) (الزلزلة ).

 

الحرية الحقيقية هي التحرر من سيطرة الهوى والغرائز:

1ـ حين تصل الشفافية بالانسان إلى أن لا تكون له سريرة وأن تتفق علانيته مع سريرته ولا يكون هناك ما يخجل منه فقد أصبح مسيطرا ًعلى نفسه، وبسيطرته على نفسه يملك تمام حريته، فالحرية المطلقة أن تتحرر من غرائزك فتكون أقوى إنسان في العالم، ولا يستطيع العالم كله أن يهزمك، لأنه ليس لديك ما تفقده، ولأنك تتمتع بفضيلة القدرة على الاستغناء .

 

2ـ والقدرة على الاستغناء من أهم ملامح الحرية الحقيقية للإنسان، فبمقدار ما تتكاثر رغباتك وبقدر ما تلهث في تلبيتها يكون احتياجك للغير أكبر ويكون ضعفك أمام نفسك أكثر وأمام الغير أكثر وأكثر. فالمدمن للسيجارة فما فوقها يفقد من حريته ـ وربما من كرامته ـ بمقدار حاجته وبقدر إدمانه. فأقوى البشر هو من لا إدمان عنده، ولا يحتاج إلا لضرورات الحياة من تنفس وطعام وشراب ومسكن مع قناعة وزهد واستعداد للتحمل ورغبة عما في يد الناس، فمن لا يكون عبداً لنفسه لا يكون عبداً لغيره. وبالتالي فلا تستطيع قوة بشرية أن تقهره، لأنه ببساطة لا يحتاج للغير ولا مطمع له في الغير .

 

 

الحرية الحقيقية هي التقوى الحقيقية وهي قمّة التغيير الايجابي للنفس:

1ـ الوصول إلى هذه الحالة من السموّ والرقيّ هو قمة التغيير للنفس، وهذا لا يتحقق إلا بالتقوى الحقيقية لأنّ بهذه التقوى تقتنع النفس بأن لها هدفاً أسمى يستحق التضحية من أجله، وفي سبيله تهون هذه الدنيا وزخرفها الزائل أمام خلود في الجنة ونجاة من الخلود في النار. وهنا تتعرف النفس على التقوى بالإيمان الحقيقي بالله جل وعلا لا شريك له وبالايمان بيوم الحساب. عندها يسهل تغيير ما بالنفس ويسهل للإرادة العليا للإنسان السيطرة على النفس وتطويعها نحو هدف أعظم يتخطى هذه الدنيا وزخرفها ومتاعها القليل.

 

2ـ بل تسعد النفس بتحالفها مع الخالق جل وعلا ونصرتها له مقابل أن ينصر الله هذه النفس   (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7) (محمد)، (إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنْ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38))، (وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40)(الحج)، (وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47) (الروم).

 

3ـ وكفى بالنفس البشرية فخراً أن توالي الله جل وعلا وأن تنصره في مواجهة ظلم المشركين لله جل وعلا (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (68) وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69) العنكبوت)،     (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13) (لقمان).

 

4ـ بإيجاز : لا بد لهذا التغيير أن يتأسس على إيمان بالله جلّ وعلا وحده الاهاً، والإيمان بأن هذه الدنيا هي مساحة زمنية للإختبار، وأن موعد الاختبار هو يوم الحساب .

 

من السهل الزعم بالإيمان بالله واليوم الآخر :

1ـ مع التسليم  ظاهرياً وقولياً بلا اله إلا الله والإيمان باليوم الآخر فإنه غير مؤثر في الحياة الواقعية .

 

2ـ كل المسلمين يقولون ( لا اله إلا الله ) ولكن الأغلبية الساحقة منهم تقدس البشر والحجر. كل المسلمين يزعمون الإيمان باليوم الآخر، ولكن الأغلبية الساحقة منهم يؤمنون بشفاعة النبي والأولياء ويحوّلون اليوم الآخر إلى مهرجان مضحك للشفاعات والوساطات وضياع العدل وسيادة الظلم، فيجعلون النبي محمداً مالك يوم الدين دون رب العالمين، فيدخل الظالم الجنة مهما أجرم بمجرد كلمة يقولها .

 

 

3ـ ويعرف الناس جميعاً حتمية الموت حتى لو أنكروا البعث والقيامة. وفكرة الموت ـ في حد ذاتها ـ لو آمن بها الانسان فعلا ـ فلن يجد مبرراً للنزاع والصراع مع اخيه الانسان طالما أنه ـ حتماً ـ سيموت ويترك كل شيء خلفه. فالخلود في الدنيا دون موت هو المبرر للصراع حول حطامها، وطالما أنه لا خلود في الدنيا وأن مصير كل منا الموت فلماذا لا نعيش في أمن وتصالح ومشاركة وسعادة. هذا الكلام المنطقي العاقل لا وجود له في الواقع، لأن كل فرد فينا يرى الناس تموت من حوله ولكن لا يتعظ، ولو إتّعظ فهي فترة عند تشييع جنازة صديق أو صاحب ثم تستغرقه صراعات الحياة، ويخوضها كأنه لا يموت ابدا، ويظل هكذا حتى يستيقظ من غفلته وغفوته عند الاحتضار فيهتف يطلب فرصة أخرى دون جدوى ( حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100) (المؤمنون) .

 

4ـ المقصود أنه بالرغم من تكرار تلك المسلمات باللسان إلّا أنه لا تأثير لها في الواقع إلّا برغبة قاهرة حاكمة تجعل الإيمان بالله وباليوم الآخر فاعلاً حقيقياً في تغيير النفس . 

 

ضرورة الوعي بالإيمان الحقيقي بالله جل وعلا بلا شريك لإحداث التغيير الايجابي:

 

1ـ لا بد في البداية من تخيل عظمة الخالق جل وعلا بالتفكير في عظمة خلق السماوات والأرض. فهذا الكون العظيم (السماوات والأرض وما بينهما من مجرات ونجوم ) يعجز الانسان عن تصور مسافاته وأبعاده، ومع ذلك فهو مؤقت ومخلوق لهدف هو إختبار الانسان، وليس مخلوقا عبثاً، بل ليس الانسان مخلوقا عبثاً بل لاختبار قادم في يوم يأتي فيه كون أعظم ويظل خالداً بجنته وناره .

 

2ـ وينتج عن هذا التفكير في عظمة الخلق من السماوات والأرض وما بينهما ـ أن ينبهر المؤمن بالعظمة الأكبر للخالق جل وعلا، فالخالق لهذا الكون يستحيل وجود شريك له في ألوهيته وربوبيته لأنه لا خالق غيره لهذا الكون ولهذا الانسان، وأنه من التخلف العقلي أن يوضع إلى جانب رب العزة مخلوق من صنع الله جل وعلا. وبالتالي فكلنا نحن البشر سواسية من حيث الخلق والاحتياج للخالق، كلنا من تراب، وكلنا نسكن نفس الجسد السوأة بقذاراته وشهواته وضعف إمكاناته، لا فارق في هذا بين نبي عظيم ومجرم آثيم. الفارق هو في إختيار الهداية ومدى الخضوع الإرادى للخالق جلّ وعلا، فأكرمنا عند الله جل وعلا هو أتقانا وأكثرنا عبودية لله جل وعلا .

 

 

 

3ـ ينعكس هذا على نظرتك للبشر، فالله جل وعلا وحده هو خالقك وهو المتكفل برزقك وهو الآخذ وحده بناصيتك في الدنيا (إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا (56) (هود)، وهو الأقرب اليك  في هذه الدنيا (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16)( ق)، (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِي فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186) (البقرة)، وهو الأقرب اليك عند الاحتضار (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ (85) (الواقعة)، وهو المتحكم في اليوم الأخر وهو وحده مالك يوم الدين، ولن يحاسبك غيره، وكل الأئمة والرسل والعظماء وغيرهم سيؤتى بهم أفراداً مثلك يوم الحساب (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً (95)(مريم)، وستحاول كل نفس أن تدافع عن نفسها أمام الواحد القهار ( يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (111) (النحل). هذا الإيمان إذا تحقّق فعلا لدى المؤمن فيستحيل أن يخضع لغيرالله جلّ وعلا، أو أن يخشى غيره جلّ وعلا، فهو وحده مالك الملك النافع الضار القاهر فوق عباده .

 

4ـ بل حين يتجذّر هذا الإيمان في داخلك فسيكفيك عزّاً أن تكون للخالق جلّ وعلا عبداً، وأن تكون له وحده عبداً، ولست عبدا لغيره. ويكفيك فخراً أن يكون خضوعك وعبوديتك للخالق جلّ وعلا وحده، لأنّه جل وعلا هو وحده المستحقّ للتقديس والعبادة .

 

5ـ ومن هنا يكون الأساس العقيدي لمقاومة الاستبداد، فالمستبد مدع ٍ للألوهية لأنه يريد أن يعلو على الناس، والعلو على الناس ليس إلّا لله جلّ وعلا، لذا يقال لله ( جلّ وعلا ـ سبحانه وتعالى ) وأنه وحده ( القاهر فوق عباده )، والمستبد الذي يقهر شعبه هو مدع ٍ للألوهية صراحة أو ضمناً، وهو يتألّه على شعبه وهم بشر مثله، يستنكف أن يكون مساءلاً أمام شعبه، والله جل وعلا وحده هو الذي لا يمكن لأحد من خلقه أن يسائله عما يفعل، وما عداه جل وعلا يتعرضون للمسائلة حتى لو كانوا أنبياء أو ملائكة (لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23) (الأنبياء)، بل إن المستبد هو الذي يسلط كلاب حراسته يلفق التهم لأفراد شعبه الأحرار ويحكم عليهم ظلماً بالسجن والقتل. وهذا الشعب الخانع الخاضع المستحق للذل قد ظلم نفسه حين رضي بالخضوع لمستبد وجعله شريكاً للخالق جل وعلا في الوهيته. وبالتالي فإن تحرره من عبوديته للإستبداد مقترن بتصحيح عقيدته الإيمانية لتؤمن بالله جل وعلا وحده، وأن يجاهد الناس ضد ذلك الذي يفرض عليهم سلطانه بالقوة والقهر.

 

 

 

 

ضرورة الوعي بالإيمان الحقيقي بالله جل وعلا وحده مالك يوم الدين لإحداث التغيير الايجابي:

 

1ـ الإيمان باليوم الآخر هو الفارق بين المؤمن الحقيقي والمؤمن المزيف، وهو أيضاً الفارق الحقيقي بين الشخص الايجابي الفعّال للخير بهدف النفع الدنيوي والمؤمن الايجابي الفعّال للخير عن إيمان باليوم الآخر وأملاً في الخلود في الجنة والنجاة من الخلود في النار.

 

2ـ هذا المؤمن باليوم الآخر يتقي الله جلّ وعلا في تعامله مع البشر فلا يظلم أحداً، ويحاسب نفسه قبل يوم الحساب، ولا يهتم برأي الناس فيه طالما هو في تصالح مع ربّه، وطالما هو يفعل ما بوسعه ليرضى عنه ربه جل وعلا في سريرته وفي علانيته. وهو في تفاعله الايجابي مع المجتمع لإصلاح هذا المجتمع لا يبغي نفعاً دنيوياً إذ يكفيه الأجر يوم القيامة، وهو يتقبل الأذى في سبيل إعلان الحق، ويتواصى بالحق والصبر. وهو يدرك إن الله جل وعلا قد أعطاه مساحة زمنية ضئيلة في هذه الدنيا، وهذا العمر يتناقص باستمرار وينتهي بالموت، ولكنه خلال فترة عمره قد خلق الله جلّ وعلا له هذا الكرة الأرضية المستديرة التي لا نهاية للسعي فيها، إذن هو مطالب بالهجرة إذا يأس من الاصلاح فأرض الله واسعة أمامه، بينما عمره قصير والموت يقترب منه في موعد محدد سلفاً، وهذا معنى قوله جل وعلا لعباده ( يَا عِبَادِي الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (56) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (57) (العنكبوت).

 

3ـ لذا فهذا المؤمن موطنه الحقيقي هو حريته الدينية وكرامته الشخصية، فإذا تعرّض للقهر ظلماً وعدواناً ولم يستطع المقاومة فلا بد من ترك هذا الوطن إلى وطن آخر ينعم فيه بحريته وكرامته أثناء عمره القصير، فأرض الله واسعة ولكن العمر قصير، ولا يجوز أن نضيّع العمر الثمين في ذلة واستكانة لمخلوق مثلنا نرضى بظلمه ونركع لسلطانه في خمول وخضوع. وقد يكون هذا المهاجر مجاهداً، وهذا المهاجر في سبيل الله بعد نضال وتحمل للأذى في سبيل الحق يعده ربه بأجر حسن في الدنيا وفي الآخرة ( فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لأكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَاباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ (195) (آل عمران)، وحتى لو كان مهاجراً بعد صبر على الأذى فإن ثوابه في الدنيا ينتظره مع غفران يوم القيامة ورزق حسن في الجنة ( وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42) (النحل)، ( ثُمَّ إِنَّ ر"RTL">  

 

الباب السادس : ( حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ )

الفصل السادس : الخوف وتغيير ما بالنفس 

 

يبقى الخوف عائقاً يمنع التغيير الايجابي للنفس. فكيف نقاومه ؟

 

1ـ والخوف هو أكبر التحديات التي تمنع تغيير النفس وتحولها إلى الإيجابية في التضحية. والخوف شعور إنساني عادي خصوصاً لدى البشر الذين يعيشون تحت سلطان مستبد يتفنّن في القهر والتعذيب والارهاب. وفي قصة فرعون وموسى وهارون نلمح تعبير الخوف يتردد على لسان موسى وهارون وقومهما مقترناً بتطرف فرعون في القهر والتعذيب. فالخوف شيء عادي وإنساني لم ينج منه الأنبياء، ولكن يمكن التغلب عليه كما تمكن موسى وهارون من التغلب عليه .

 

2ـ والله جلّ وعلا جعلها قاعدة مفادها : إنّك إذا أتّقيت الله جل وعلا ـ والتقوى هنا تعني الخوف والخشية من الله جل وعلا، فلن تخاف من مخلوق، أما إذا عصيت الله جل وعلا ولم تخش منه ولم تخف منه فإن الشيطان الذي سيتولى زمام أمرك سيخيفك من كل شيء. يقول جل وعلا    (إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ) (آل عمران 175). فالشيطان يخوّف أولياءه وأتباعه، ومفروض على المؤمنين بالله جل وعلا أن يخافوه وحده، وعندها فلهم الأمن من الخوف طالما لا يرتكبون ظلماً وطالما لم يخلطوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم (الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ ) ( الانعام 82 ).

 

3ـ وهناك من يقع في ظلم رب العزة بأن يشرك بالله ويتقوّل عليه بالكذب بأحاديث مفتراة كالأحاديث المفتراة المنسوبة للنبي (الأحاديث النبوية) أو لله جل وعلا (الأحاديث القدسية) التي يجعلونها وحياً وتشريعاً تحت إسم ما يسمى بالسّنة لدى أصحاب الأديان الأرضية من المسلمين، ثم يستطيل على الناس بهذه الافتراء ويفرضه عليهم بالقوة والإكراه في الدين، أي يقرن الكفر العقيدي ( بظلم رب العزة ) بالكفر السلوكي وهو ظلم الناس وينسب ذلك لدين الله جل وعلا ظلماً لرب العزة. هذا الظلم المركّب والمتطرف جزاؤه خوف هائل يستقر في قلوب أولئك الظلمة. خوف يتحوّل إلى رعب يلقيه رب العزة في قلوبهم في الدنيا، ثم مصيرهم إلى النار، وبئس مثوى الظالمين، يقول جل وعلا  (سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُواْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ ) ( آل عمران 151).

 

4ـ وهذا يتحقق في واقعنا. فأصحاب وأئمة تلك الأديان الأرضية والمروجين لها إذا تعرضوا للإضطهاد سقطوا خوفاً وإنهاروا رعباً، وهذه سمة في تاريخهم عندما يصطدمون بالمستبد ويقعون تحت سطوته. وهذا المستبد نفسه أكثر الناس رعباً، ولا يعدل رعبه إلا مقدار ظلمه، فكلما إزداد ظلماً إزداد رعباً من انتقام ضحاياه. هو يدور في حلقة مفرغة من الظلم ومن الرعب، يرعب الناس ويرتعب من الناس. فلكي يؤكّد إستبداده لا بد من ارهاب الناس بالتعذيب، وكلما أسرف في التعذيب زاد خوفه من ضحاياه ومن انتقامهم، وكلما تراءت له كوابيس ضحاياه أسرف أكثر في الظلم ليخيف الناس، وكلما أسرف في الظلم والتعذيب وإزداد ضحاياه من الأبرياء إزداد خوفه أكثر وأكثر، وهكذا يظل يدور في حلقة مفرغة من الظلم والخوف إلى أن يسقط قتلا أو عزلاً. وإذا سقط  وظلّ حياً تحول إلى فأر مذعور .! وانظروا إلى نهاية مبارك وبن علي، وما كان يفعله القذافي وما يفعله الآن بشّار الأسد .

 

لا مبرر للخوف من البشر فلا دخل لهم في الحتميات لأنها بيد الله جلّ وعلا وحده:

 

1ـ الحتميات، وهي أقدار حتمية لا سبيل للفرار منها، وليس الإنسان مسئولا عنها فلا دخل له في إختيارها ولا حرية له في تفاديها، لذا يكون حساب الانسان يوم القيامة خارج تلك الحتميات فيما يملك التصرف فيه بالطاعة أو المعصية. وتلك الحتميات تخصّ الموت والميلاد والرزق والمصائب.

 

2ـ كل انسان مصيره الموت، أي كل إنسان محكوم عليه سلفاً بالاعدام. ومقدر سلفاً موعد ومكان موته. لو تحصّنت بقلعة هارباً من الموت فسيلحق بك الموت (أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ) (النساء 78) فالموت يطاردك وهو خلفك. ولو فررت من الموت سيقابلك، وستجده أمامك (قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ) (الجمعة 8). هو من خلفك وأمامك لأنه (الموت) يعيش فيك، مخلوق كالحياة في داخلك (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا) (الملك 2). أي لا مهرب من موعد الموت ولا من مكان الموت. وحين إحتج بعض المنافقين على قتلى معركة ( أحد )- ( يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا)، جاء الردّ من رب العزة بأن المكتوب عليهم القتل لو بقوا في بيوتهم لتعيّن عليهم أن يذهبوا إلى المكان المحدد لموتهم في الموعد المحدد لموتهم (قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ) (آل عمران 154). ولا تستطيع قوة في العالم أن تقتلك أو تميتك قبل موعدك أو أن تؤجل موعد موتك (فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ) (الاعراف34، النحل 61) (إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ) (يونس49)، فذلك بيد الله جل وعلا وهو المحيي المميت، وقد أعلن جلّ وعلا أنه لا سبيل مطلقاً لتأخير موعد الموت لنفس إذا حلّ أجلها (وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا) (المنافقون11). أي لايستطيع المستبد أن يقتلك إلا في الموعد والمكان المحدد سلفاً والذي لا بد أن تواجهه بيد المستبد أو بيد غيره. فأنت ميّت لا محالة في موعدك وفي مكان موتك المقرر سلفاً. والأعظم منك شأناً وهو خاتم المرسلين قال له ربه يساوي بينه وبين خصومه في إستحقاق الموت (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ )(الزمر 30). المستبد الذي تخاف منه لن ينجو مثلك من الموت، فلماذا تخاف منه ؟. قد تقول الأغلبية الصامتة إنها لا تخشى الموت ولكن تخشى القتل. ولكن نهاية الحياة حتمية بالموت من مرض أو بالقتل، وليس لنا في هذا خيار. ولكن ماهو الأيسر ـ لو كان لنا الخيار: هل نموت بعد مرض مؤلم مزمن متعب لنا ولأحب الناس الينا أم نموت قتلا وسريعاً في أقل من دقيقة ؟ سنموت حتماً ولكن ما هو الأسرع والأسهل؟ ثم هذا القتل في سبيل مبدأ غاية في السمو أليس أفضل من موت عادي ؟ اليس الموت بأي طريقة أفضل من حياة ذليلة ؟

 

3ـ الأغلبية الصامتة لديها عقدة الخوف من التعذيب. ومعروف أن للجسد الانساني حدا أقصى في تحمل الألم، فإذا تعداه لم يعد يشعر به وراح في غيبوبة، أمّا في الاخرة فلا حد أقصى في تحمل الألم، ولا حد أقصى في مدى حدوث الألم إذ سيكون خالداً أبد الدهر. ونفس الحال في المتعة، فهناك حد أقصى في تذوق المتعة فإذا أسرف الانسان في الملذات فقد الاحساس بها، ولو حاول مثلا إرهاق جسده طلباً للمزيد أصيب بالمرض وربما فقد نهائياً قدرته الجنسية. وفي سجن طرة عام 1987  كان لي رفيق فلسطيني قال إنه عاش مرفّهاً لا يتصور أن يتحمّل صفعة على وجهه، فلما جيء به إلى طرة، كان يرتعش خوفاً من التعذيب، وعندما علّقوه وضربوه بالسياط أحسّ بألم السياط الأولى فقط، ثم تخدّر محل ضرب السياط بحيث لم يعد يشعر بعشرات السياط التالية، ثم فتح عينيه وهو ملقى في الزنزانة. إن الخوف من التعذيب هو أكبر من التعذيب نفسه، والذي يستعد مقدماً لهذه المحنة يقلل كثيراً من ألمها وصعوبتها. ولكل إنسان نصيبه من الألم ومن المتعة، ولا بد أن يأخذ حظه من هذا ومن ذاك، ويأتي الألم من مرض أو من جراحة، فإذا أردت النجاة من تعذيب فربما ينتظرك مرض أفظع ألماً .

 

وفي النهاية فكل ذلك مكتوب لا فرار منه، فهي حقيقة لا جدال فيها أنه لا يصيبنا سوى المكتوب علينا سلفاً (قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا) (التوبة51)، أي أن ما مقدر لنا من مصائب وآلام لا بد أن نواجهها، وإذا حاولنا الفرار منها ستلاقينا، ولو حاول المستبد أن يوقع بنا ضرراً ليس مقدراً لنا فلن يستطيع، ولو حاول المستبد أن ينجّي نفسه وأبناءه من مصيبة قادمة فلن يستطيع. لذا فإن المؤمن يتخذ موقفاً حيادياً من حتميات المصائب والرزق، معتقداً أن ما ينتظره من سراء وضراء لا فرار منه قد تم إصدار الأمر الالهي بها له وعليه حتى قبل مجيئه إلى هذا العالم، لذا فإن المؤمن لا يحزن من وقوع مصيبة ولا يغتر من حدوث نعمة، بل يشكر ويصبر ويرضى ويقرّ نفساً، يقول جلّ وعلا (مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ) (الحديد22: 29).

 

4ـ وقد تكفّل ربّ العزة جلّ وعلا بالرزق لكل كائن حي يدب في الأرض (وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ)(هود 6)، حتى لو كانت دابة في أعماق الصخور أو أعماق البحار تعجز عن حمل رزقها (وَكَأَيِّن مِن دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ)(العنكبوت60). وكل أنسان هو سبب للرزق لأخيه الانسان، الأب سبب في رزق أبنائه ـ والأولاد هم أيضاً سبب في رزق الوالدين، وهم جميعاً سواء في تكفّل ربّ العزة برزقهم (وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُم مِّنْ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ) (الانعام 151)، (وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم) (الاسراء 31)، وصاحب المصنع سبب في رزق العمال، والعمال هم سبب في رزقه، والمستبد نفسه رزقه على الله جلّ وعلا. وفي كل شئون الحياة من بيع وشراء وتجارة وتعامل فإن الذي يدير توزيع الرزق والمكسب والخسارة هو الله جل وعلا، لذا فالمؤمن لا يخشى قول الحق خوفاً من قطع رزقه، أو لأنه (صاحب عيال) أو لحرصه على الوظيفة الميرى. من يفعل ذلك يكفر بالقرآن ويكفر بالله الرزّاق، ويعيش خانعاً ذليلاً، (يأكل العيش بالجبن) كما قال الجزار الشاعر المصري في العصر المملوكي.

 

5ـ وبإيجاز فإن الله جل وعلا وحده هو صاحب حتمية الميلاد لكل فرد من البشر. هوالذي خلق كل فرد وأختار ملامح وجهه ونسبه، ثم هو الذي حدد صحته ومرضه، وهو الذي تحكم ويتحكم في رزقه وفي مصائبه، وحدّد سلفاً موعد وموضع موته. وبالتالي لا نخشى سواه من بشر مثلنا تجري عليهم نفس الحتميات في الميلاد والرزق والمصائب والموت . 

 

أخيراً : (لا مَلْجَأَ مِنْ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ) : التوجّه لله وحده لأنه وحده هو النافع الضّار :

   

1ـ كل البشر سواسية في موضوع النعمة والنقمة، وهم أسباب ووسائل في موضوع النفع والضرر، ومن الله جل وعلا تأتي إختبارات المحنة والنقمة، ولا دور على الإطلاق لتلك الآلهة في نفع أحد أو الإضرار بأحد. يقول جل وعلا ( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِي اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِي اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (38) (الزمر)، (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (18) (الأنعام)، (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (107) (يونس)، (مَا يَفْتَحْ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2)( فاطر).

 

2ـ وبالتالي فكل نعمة مصدرها المنعم جل وعلا (وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللَّهِ (53) (النحل). ونعم الله لا يمكن حصرها ولا عدّها (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34) (ابراهيم)، ( وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18) ( النحل ).

 

 

 

3ـ والله جل وعلا يعطي النعمة إختباراً للناس، فإذا كفروا بالنعمة فقد حلّ بهم الهلاك في الدنيا والخلود في الجحيم في الآخرة ( أَلَمْ تَرَى إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ (28) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ (29) وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَندَاداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (30) (ابراهيم)، وإذا قاموا بحق النعمة شكراً وطاعة زادهم نعمة، وإن كفروا فإن عذابه جل وعلا شديد (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (7) (ابراهيم)، فرب العزّة ليس محتاجاً لتعذيبنا إن شكرنا وآمنّا (مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِراً عَلِيماً (147) ( النساء ).

 

4ـ والقيام بحق النعمة شكراً وطاعة لله جل وعلا وتفاعلاً بالخير في المجتمع يستلزم تغييراً إيجابياً في النفس، وإن لم يحدث هذا التغيير كان الهلاك جزاء كفران النعمة. فالله جلّ وعلا أنعم على فرعون بملك مصر وأنهار تجري من تحته، فقابل النعمة كفراً وعتواً، فحق عليه وعلى قومه الغرق والهلاك، وصار رمزاً كئيباً لمن يأتي بعده ويسير على دأبه وعلى سنّته، يقول جل وعلا  ( ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (53) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ (54) (الأنفال).

 

5ـ ومن هنا فإنّ تغيير النفس بالحق والإيمان الحق والتقوى الصادقة هو طريق الفلاح في الدنيا والآخرة. وبمجرد أن تأتي الإرادة الحازمة و الوعي الصادق بأن النافع الضار هو الله جل وعلا وأنه جل وعلا لا يظلم أحداً في الدنيا أو الآخرة، وأن العزّ في طاعته والخزي في عصيانه، عندها تأتي إرادة الله جل وعلا بنجاح هذا التغيير تالية ومؤكدة لإرادة الناس ( إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ) وإلّا فالهلاك لا مفرّ منه ( وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ (11) ( الرعد ).

 

5ـ بهذا الوعي يمكن تحرير النفس من الخوف وأوهام الخضوع والخنوع، ويمكن السمو بها وتغييرها إلى الأفضل لتكون فعّالة بالخير، تغير صاحبها وتغير مجتمعها بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتتواصى بالحق وبالصبر، وبذلك ينجو البشر الانسان فيها من الخسر والخسران في كل زمان وفي كل عصر وأوان:

(بسم الله الرحمن الرحيم . وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3).

 

 ودائماً .. صدق الله العظيم .

 

 

ملاحظة:

 

بهذا ينتهي الجزء الأول من كتاب (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) ويليه بعونه جل وعلا الأجزاء الأخرى التي تتناول ( الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) في تاريخ المسلمين على مستويين : المستوى النظري التقعيدي، والمستوى التاريخي الواقعي، من عصر النبوة إلى الدولة السعودية في عصرنا الراهن . ندعو الله  جلّ وعلا أن يعيننا على الوفاء بهذا الوعد .

 

 

 

 

 

الأمـر بالـمـعــروف والـنـهـي عــن الـمـنـكــر في الاسلام
كتاب (الأمـر بالـمـعــر وف والـنـهـي عــن الـمـنـكــ ر بين الاسلام والمسلمين) يتناول فى دراسة تحليلية أصولية تاريخية التناقض بين الأمـر بالـمـعــر وف والـنـهـي عــن الـمـنـكــ ر بين الاسلام والمسلمين. وهذا الجزء الأول يتعرض فى لمحة عامة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فى الاسلام بتأصيل مفهوم المعروف والمنكر قرآنياً وتشريعياً ومدى تطبيقه في الدولة الاسلامية في إطار الحرية الدينية المطلقة للفرد، ثم تعقبه ـ فيما بعد بعون الله جلّ وعلا ـ الأجزاء التالية تتبع مسيرة الأمـر بالـمـعــر وف والـنـهـي عــن الـمـنـكــ ر في تقعيدات وتنظيرات فقهاء المسلمين وفي تاريخهم من عصر الرسالة والصحابة
more