رقم ( 8 )
الباب الخامس : غياب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يعني الإهلاك

 

الباب الخامس : غياب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يعني الإهلاك

 

 الفصل الأول : الأغلبية الصامتة نذير هلاك للمجتمع

 

 المترفون وهلاك المجتمع : قراءة للأحداث المعاصرة:

مقالات متعلقة :

 

1 ـ بالظلم والاستبداد والفساد السياسي والاجتماعي مع تحكم الأديان الأرضية تتركز الثروة والسلطة في أيدي أقلية مترفة في مقابل أغلبية مقهورة فقيرة صامتة تناضل من أجل الحصول على الضروري من متطلبات الحياة، وطبقة وسطى هزيلة تحاول أن توازن بين دورها التنويري ولقمة العيش. وجود هذه الطبقة المترفة يعني أن ثرواتهم زادت عن الحد فتحول الأغنياء الأثرياء إلى الترف. الغني الثري العادي منشغل بتنمية ثروته بالمنافسة الشريفة وغير الشريفة، أما الثري المترف فهو منشغل بكيفية الانفاق من ثروته في الفساد والمجون، بينما ثروته تتزايد بنسب فلكية دون أن يتعب لأنه بنفوذه وأعوانه ينهب ثروة الشعب بالأمر المباشر. العادة أنه كلما زاد تركّز الثروة لدى المترفين قلّ عددهم، وفي المقابل تناقص عدد الطبقة الوسطى التي تقود المجتمع ثقافياً وفكرياً وأخلاقياً، وتضخّم عدد الفقراء والمعدمين مما يؤهّل المجتمع للتدمير بسبب وجود واستمرار هذه الطبقة المترفة الحاكمة ، وهذا التدمير قد يأتي من الداخل أومن الخارج .


2 ـ يأتي التدمير من الخارج بتعرض الدولة المستبدة لغزو خارجي من قوة طامعة خارجية تنتهز عزلة المستبد وأعوانه المترفين عن المجتمع وقهرهم للمجتمع وكراهية الناس لهم وعدم استعداد جند المستبد للتضحية بأنفسهم دفاعاً عن مستبد ظالم لهم ولأهاليهم ولا يأبه حتى بجنده.  والمترفون من قادة العسكر هم على سنّة سيدهم المستبد في الفساد والتجبر وفي معاملة الجند كالرقيق والعبيد. وفي عصرنا لا يمكن للمستبد أن ينتصر على جيش آخر إلّا إذا كان الجيش الأخر مملوكاً لمستبد مثله، عندها ينهزم الجيشان.!! المستبد لا ينتصر إلا على شعبه المسالم الأعزل المنزوع السلاح. ولكن هذا لا يدوم لأنّ المستبد لو نجا من الغزو الخارجي فلن ينجو من عاصفة التمرد الداخلي والثورة الشعبية عليه .

 

3 ـ يحدث الانفجار الداخلي عندما تصل الأغلبية الصامتة الفقيرة إلى النقطة الحرجة التي تتخير فيها بين نوعين من الموت : الموت جوعاً أو الموت على أيدي جند المستبد، وحين تصل أعراض الجوع والتذمر لجند المستبد الذين يبذلون دماءهم في سبيله، ومن أجله يقتلون أهاليهم المساكين. إنّ النّهم في السلب والنهب من خصال المستبد الفاسد ليستأثر بالثروة كما يستأثر بالسلطة. وهو لا يعطي منها إلّا لأتباعه الذين يشبهونه في الطمع والجشع وعدم الشبع. وبالتالي كلما زادت ثروات المستبد وأعوانه كان هذا على حساب بقية الشعب من الطبقتين المتوسطة والفقيرة، وبازدياد النهب لثروة الشعب تتضاءل ثروة الطبقة المتوسطة ويتحول معظمها إلى طبقة الفقراء، بينما يزداد الفقراء عدداً وفقراً ويزداد المعدمون جوعاً، وبدخول الطبقة الوسطى بفكرها ووعيها وثقافتها إلى عالم الفقر والفقراء فإنها تسهم في وعي الفقراء وتنفث فيهم روح التمرد .

4 ـ معاناة الفقر والجوع وحدها لا تؤدي إلى ثورة الفقراء والجوعى. ربما تؤدي إلى هبّة وانتفاضة وقتية يمكن إجهاضها والسيطرة عليها، ولكن لا يمكن أن تؤدي المعاناة فقط إلى ثورة مستمرة إلّا في حالتين - الأولى : أذا وصلت المعاناة إلى حد الجوع الحقيقي والخيار بين الموت جوعاً أو الموت قتلاً في الثورة الدموية، والثانية : إذا زاد الوعي لدى الفقراء بحقوقهم المسلوبة سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وضرورة القيام بالثورة، أي إذا تخلص الفقراء من ثقافة العبيد .

 

5 ـ ثقافة العبيد تتحول إلى ثقافة سامة إذا وجدت لها مسوغاً دينياً، بالاعتقاد بأن إرادة الله هي  التي سلّطت عليهم الظالم بسبب ذنوبهم، وأن الاعتراض على الظالم والظلم هو اعتراض على المشيئة الالهية، وأن إنتقاد الظلم هو إعتراض على القدر الالهي. إنها الجبرية التي برع فيها الأمويون وكل المستبدين، والتي وقف ضدها أحرار المسلمين الذين أسموهم (القدرية) لأن أولئك الأحرار قالوا (لا قدر والأمر أنف) ،أي إن الظلم ليس بقدر الله ولكن رغم أنوف الناس، أي بقهر الناس. هذه هي (القدرية) أو مذهب الإرادة الإنسانية الحرة الذي يوجب مقاومة الظلم لأنه فعل بشري وليس إرادة الاهية، ولأن الله جل وعلا لا يريد ظلماً للعالمين وقد حرّم الظلم وفرض مقاومته واعتبره كفراً في السلوك، وإذا تم تسويغه بمبرر ديني أصبح أيضاً كفراً في العقيدة. ولكن عمل فقهاء الدين السّني بالذات على تقعيد الاستكانة والرضى بالظلم، وصنعوا الأحاديث  التي توجب السمع والطاعة للحاكم حتى لو (كان عبداً حبشياً) وأن طاعة سلطان غشوم خير من فتنة تدوم، وانه لا يجوز الخروج على الحاكم مهما فعل. لو إعتنق المجتمع ثقافة العبيد واعتبر البؤس الذي يعيش فيه قدراً الاهياً لا فكاك منه، وأنه من سنن الحياة فلا يمكن أن يثور. سيثور إذا تم تنويره وتحريره من ثقافة العبيد التي ينشرها خدم المستبد من رجال الدين والاعلام . 

 

6 ـ والعادة أن يظلّ المستبد في السلطة إلى الموت أو العزل. ليس هناك تداول سلطة وحاكم سابق يعود إلى صفوف الشعب كما يحدث في الدول الديمقراطية. في عصرنا شاخ المستبدون العرب في مقاعدهم، ومن مات منهم على عرشه ورثه ولي العهد متمسكاً بنفس الفساد والاستبداد والنخبة المترفة وسلب ونهب وإفقار الشعب. جاء في مناخ الاستبداد العتيد هذا جيل جديد تعامل مع الانترنت ووسائل الاتصالات التي حطّمت السور الحديدي الذي يصنعه المستبد حول شعبه.

 

رأى الجيل الجديد أنه صاحب الحاضر والمستقبل وأنه لا يصحّ أن يترك حاضره ومستقبله لنخبة مترفة فاسدة شاخت في الفساد والاستبداد ولا تلد إلّا فاجراً كفّاراً. من ناحية أخرى اتاح فضاء الانترنت لهذا الشباب التواصل ومطالعة الكتابات الاصلاحية وعرف تعدد الآراء، وأتيح له أن يكشف عوار السلطة وجهل شيوخها ومثقفيها وخبرائها وأرباب الاعلام والعلم فيها، وكشف الانترنت بعض مظاهر الفساد. بالمعرفة والاستنارة وبالتواصل أمكن للشباب حشد أنفسهم في العالم الافتراضي، ثم تطور الحشد ليصبح واقعاً في الشارع والعالم الحقيقي الواقعي. وبهذا الوعي  بدأ تحرك الشباب للمطالبة سلمياً بحقوق الشعب المهدرة، وقابلها المستبد بقواته المسلحة من الأمن والجيش، واشتعلت المواجهة بين شباب أعزل يحلم بمستقبله ونخبة فاسدة تحتمي بقواتها المسلحة تقاوم من أجل بقائها جاثمة فوق جثة الشعب. ولم يتم حسم الحرب بعد . النتيجة النهائية تتوقف على إنضمام الأغلبية الصامتة. إن وقفت بشجاعة مع الثورة حسمت المعركة لصالحها ولصالح دولتها وحاضرها ومستقبلها. إن استمرت في سلبيتها وأجّلت الصدام الحتمي إلى مرحلة لاحقة ستكون الكارثة التي ربما تؤدي لحرب أهلية وحمامات دم، أي إلى الهلاك الجزئي أو الكلي. كل هذا بسبب استمرار الأغلبية الصامتة في سكوتها عن نصرة حقوقها. هي تساند الظالم بهذا السكوت. بل أحياناً تخرج عن صمتها لتؤيد الظالم. لا تدري أنها تحفر قبرها بيديها، وأن هذا القبر سيكون بمساحة الوطن كله ؟!. تعالوا بنا للقرآن الكريم نبحث عن التوصيف والعلاج . 

 

ثانياً : ردّ على بعض أعداء القرآن:

 

سبق في مقال أن رددت على بعض من يتهم القرآن بالتناقض، إذ كيف ينهى عن الفسق ثم يأتي الأمر بالفسق في قوله جل وعلا في تدمير الأمم الظالمة (وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا) (الاسراء 16). وقلت في الرد الآتي وهو داخل في موضوعنا عن الإهلاك :

1 ـ القرآن يفسر بعضه بعضاً، والمنهج القرآني في فهم القرآن أن نتتبع الموضوع المراد بحثه بتجميع كل الايات المتصلة بالموضوع في سياقها العام والخاص، ونضعها معاً لنتعرف على حقائق القرآن في هذا الموضوع، أما الذين في قلوبهم زيغ ومرض فانهم ينتقون من الآيات ما يحقق هواهم متجاهلين السياق، ولذلك يكون القرآن شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الضالين إلا ضلالاً (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَارًا) (الاسراء 82). كما يجب أن تتوفر في الباحث القرآني بالإضافة للموضوعية والحيادية ـ ان يتمتع بفهم علوم اللغة العربية وأسرارها البلاغية. وذلك الداعية للتنصير يفتقد الموضوعية ويفتقد العلم بعلوم اللغة العربية.

 

2 ـ هناك في البلاغة العربية والقرآنية ما يعرف بالايجاز بالحذف، حين يكون المحذوف مفهوماً من السياق، مثلا يقول جل وعلا في قصة وسورة يوسف (وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا) (يوسف82) المحذوف هنا كلمة (اهل) أي واسأل اهل القرية، و(اصحاب) أي أصحاب العير التي اقبلنا فيها. وهناك إيجاز بالحذف في الاية الكريمة (وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا) هو بحذف كلمة (العدل أو القسط) أي (أمرنا مترفيها بالعدل والقسط). وهذا مفهوم لأن الله جل وعلا لا يأمر إلا بالعدل والقسط، يقول جل وعلا (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (النحل 90) (الاسراء 82).

 

 

وأرجو ان ترجع إلى مقالنا (الاسلام دين العدل والقسط ) لمزيد من التوضيح. وعليه فإن قوله جل وعلا (وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ) (الأعراف 28)، يفسر قوله جل وعلا (وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا) (الاسراء 16)، فالله جل وعلا يأمر بالعدل والاحسان وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي. وما جاء محذوفاً بالايجاز في (أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا) شرحته مئات الايات التي تحض على العدل و التقوى وتنهى عن الاثم والعدوان والظلم. هذا في السياق العام في الأمر بالعدل والنهي عن الظلم .


3 ـ أما في السياق الخاص، فهو موضوع الآية نفسه، وهو إهلاك القرى (أي المجتمعات) الظالمة .

وحين تقوم بتجميع الآيات الخاصة بالإهلاك للظالمين تفهم أن هناك شروطاً لكي يتم إهلاك قرية، وأن هذه الشروط قد تم إيجازها باختصار معجز في آية (وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا) (الاسراء 16). ونوجز القول هنا على النحو التالي :


3 / 1 : بعد أن قصّ الله جل وعلا قصص بعض الأنبياء السابقين واهلاك تلك الأمم ـ في سورة الشعراء قال جل وعلا يضع القاعدة في الإهلاك (وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ لَهَا مُنذِرُونَ ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ) (الشعراء 203 : 204). أي لا بد من وجود منذرين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، يأمرون بالعدل وينهون عن الظلم. وعليه فقوله جل وعلا (وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا ) أي جاء الأمر لهم عن طريق الأنبياء والرسل أو غيرهم ممن يسير على نهجهم. ومن الإعجاز أن الله جل وعلا هنا لم يقل (وما أهلكنا من قرية إلا ولها أنبياء منذرون) لأن هذا يعني عدم وجود اهلاك بعد خاتم المرسلين، ولكنه قال جل وعلا (وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ لَهَا مُنذِرُونَ) لأن كلمة منذر تشمل الأنبياء و الرسل و كل ناصح أمين لقومه.


3 / 2 : ويقول جل وعلا في سورة هود بعد أن قصّ قصص بعض الأنبياء السابقين وأممهم  التي أهلكها الله جل وعلا (فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا أُتْرِفُواْ فِيهِ وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ) (هود 116:117). أي لو كان فيهم ناصحون وأطاعوا أوامر الناصحين ما أهلكهم الله جل وعلا لأن الله جل وعلا لا يهلك إلا القرية الظالمة، ولا يمكن أن يهلك قرية صالحة. والواضح هنا أن السبب في الإهلاك هو سيطرة المترفين المتحكمين في الثروة والسلطة، وواضح أن البقية يتبعونهم خوفاً أو رغبًا، لذا يقول جل وعلا (وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا أُتْرِفُواْ فِيهِ وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ).

وهذا يشرح لنا ما جاء عن المترفين الذين يؤمرون بالعدل فيزدادون عصياناً فيحق عليهم القول ويتم اهلاكهم وتدميرهم (وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا ) ( الاسراء 16 ).


3 / 3 : ويرسم رب العزة في كتابه العزيز صورة رمزية للقرية الظالمة بعد تدميرها واهلاك اهلها، إذ يبقى دليلاً على الترف الهائل والفقر الهائل معلمان تذكاريان : قصر فخم مشيد ( كان يسكن فيه شخص واحد) وبئر معطلة، أي مرافق معطلة مع أنه كان يعيش عليها كل أو معظم الشعب، ولكن كل ما يكسبه الشعب ينهبه المترفون ويقيمون به قصوراً في نفس الوقت الذي تعطش فيه الحقول و تتلوث فيه المياه وتتكدس الزبالة، يقول جل وعلا ( فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ) (الحج 45). وفي مصر الآن حيث يتحكم المترفون تجد كل المرافق والمياه النقية تصل إلى قصور المترفين وحمامات سباحتهم وحدائقهم الغنّاء في الساحل الشمالي و البحر الأحمر وسيناء، مع أنهم لا يجدون الوقت الكافي للاقامة في كل تلك القصور، بل حتى مجرد التعرف على اجنحتها و زخارفها. هذا، بينما يعاني سكان العشوائيات والأحياء الشعبية في القاهرة والمدن والقرى من اختلاط المياه بالصرف الصحي، وتلوثها وانقطاعها وانقطاع الكهرباء، وأزمات الخبز والتموين والمواصلات والاسكان والحاجيات الأساسية..الخ .. فالقرآن الكريم يضع ملامح القرية الظالمة لتنطبق على أي عصر يسيطر فيه المترفون. وقد حدث هذا الإهلاك كثيراً في تاريخ المسلمين في العصرين العباسي والمملوكي، وحدث في عصرنا الراهن في لبنان والعراق، وهناك قرى ( دول ) مرشحة للانفجار من الداخل أو من الخارج ، أهمها (مصر والسودان والسعودية وايران وما تبقى من فلسطين).

 

هذا ما قلته في مقال (سؤال وجواب عن القرآن الكريم ) بتاريخ أول أغسطس 2010، قبيل ثورة اللوتس المصرية، وهو واحد من عشرات التحذيرات من إهلاك قادم، ومن تحريض الأغلبية الصامتة لتدافع عن حقوقها المهضومة. ونعطي من القرآن الكريم تفصيلات إضافية لموضوع الإهلاك ثم كيفية النجاة منه . 

 

ثالثاً : أسباب الإهلاك للمجتمعات والدول:

 

1ـ تفشي الظلم - يقول جلّ وعلا (وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ)(القصص : 59)، ويقول (ذَلِكَ أَن لَّمْ يَكُن رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ)(الانعام 131)، أي لا يمكن أن يهلك الله جلّ وعلا قرية إلّا إذا كانت ظالمة وكان أهلها غافلين عن الحق والعدل. أي لا يمكن لقرية (أي مجتمع ودولة) تطبق العدل أن تتعرض للهلاك. الهلاك هو مصير القرية الظالمة فقط .

 

الله جل وعلا يصف المجتمع المعرّض للهلاك بأنه قرية ظالمة غافلة، وهذا وصف يشمل كل القرية أو المجتمع. وقلنا أن الظالمين نوعان: نوع فعّال مقترف للظلم (المستبد وأتباعه المترفون) ونوع يقع عليه الظلم ويرضى به مستكيناً للظلم، وهؤلاء وأولئك يجمعهم الغفلة عن العدل والحق وعن المصير الأسود الذي ينحدرون اليه جميعاً.

 

هذا الهلاك تكرر من قبل وسيتكرر، يقول جلّ وعلا ( وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ) (الحج 48)، أي إن الله جلّ وعلا يمهل ولا يهمل، وهو جلّ وعلا للظالمين بالمرصاد ( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ) (الفجر 6 : 14). وبعد نزول القرآن يتوعّد رب العزّة من يكذّب بحديث الله في القرآن بأنه سيستدرجهم من حيث لا يعلمون (فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) (القلم 44 : 45). وأنه سيعطيهم النعم ابتلاء وأختباراً فيرسبون في الاختبار إذ يحسبون النعم تفضيلا لهم عن غيرهم وخيراً خاصاً بها فيزدادون بالنعمة كفراً وإثماً (وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمًا وَلَهُمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ)(آل عمران 178). وهذا ما حدث ويحدث في تاريخ المسلمين الماضي والمعاصر. الله جل وعلا يصف المجتمع المعرّض للهلاك بأنه قرية ظالمة غافلة، وهذا وصف يشمل كل القرية أو المجتمع .  

 

2ـ رفض الظالمين الحق الذي يأتي به المنذرون : الحق يعني العدل، والعدل هنا يعني أرجاع الحقوق إلى أصحابها والمساواة بين الأفراد وتكافؤ الفرص أمام الجميع. يرفض الظالمون الاصلاح، بل يضطهدون المنذرين الذين ينذرونهم بالهلاك إن لم يبادروا بالاصلاح. يقول جلّ وعلا (وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ لَهَا مُنذِرُونَ ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ)(الشعراء 203 : 204 ).

 

3 ـ والمترفون لهم حججهم التي يحتجّون بها ضد العدل وضد الدين الحقّ :

 

3/ 1: فهم يرفضون الاصلاح والعدل تمسكاً بالأوضاع الاجتماعية القائمة التي أتاحت لهم التمكين في السلطة، فبهذه (الثوابت) التي أصبحت بمرور الزمن ديناً أرضياً أصبح لهم الجاه والثروة، وهم بما وجدوا عليه آباءهم مستمسكون، وهم للحق رافضون. هكذا قالت قريش المشركة في مواجهة القرآن ودعوته للقسط ( بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ)، وهو نفس القول الذي قاله المشركون قبل قريش، وسيقوله المشركون الظالمون بعد قريش، لذا جعلها الله جل وعلا قاعدة عامة تنطبق على كل زمان ومكان ؛ أن يتمسك الكافرون المترفون بما وجدوا عليه آباءهم في مواجهة الحق والعدل، تقول الآية التالية (وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ) (الزخرف22 : 23). وفي عصرنا ينبح فقهاء السلطان بالثوابت و (إجماع الأمة) و (الاقتداء بالسلف الصالح) و يحلو لهم القول بـ (اجمعت الأمة على كذا وكذا) مع أن هذه الأمة لم تجمع إلّا على التفرق والاختلاف في كل شيء، من سنّة وشيعة وصوفية، ثم مذاهب سنية وفرق شيعية وطرق صوفية، وداخل كل فرقة وطائفة ومذهب عشرات التقسيمات وآلاف الاختلافات .

 

3/ 2: والملأ المستكبر المترف يعتقد أنه طالما أوتيّ المال والأولاد والجاه في الدنيا فسيكون بنفس النعيم في الاخرة، ولن يتعرّض للتعذيب يوم القيامة، وبالتالي فلا حاجة للاصلاح فقد ضمن لهم  دينهم الأرضي الجنة بالشفاعات، لذا جعلها رب العزة قاعدة عامة تنطبق في كل زمان ومكان، فحين يتحكم المترفون ودينهم الأرضي في مجتمع ما فلا بد أن يكفروا بالدين الحق ودعوته الاصلاحية (وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالا وَأَوْلادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ) (سبأ 34 : 35).

 

3/ 3: وهذا الملأ المستكبر المترف يرى أنه أفضل من الأنبياء والمرسلين والمنذرين، ويستنكف أن يكونوا أتباعاً لبشر مثلهم ( وَقَالَ الْمَلَأُ مِن قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاء الآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ وَلَئِنْ أَطَعْتُم بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَّخَاسِرُونَ) (المؤمنون 33 : 34). وجعلها رب العزّة جلّ وعلا قاعدة عامة حين يتحكّم المجرمون في قرية ما، أن يتأففوا من الوعظ ، بل ويزعمون أنهم أولى بالرسالة الالهية من الرسل، وأن يمكروا بالمصلحين، وهم لا يعرفون أن الهلاك ينتظرهم، أي أنهم يمكرون بأنفسهم وما يشعرون، وسينالون الهلاك في الدنيا والعذاب بالآخرة (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُواْ فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ صَغَارٌ عِندَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُواْ يَمْكُرُونَ ) (الانعام 123 : 124). ولذا يأمر الله جل وعلا بالسير في الأرض للتفتيش على آثار الأمم السابقة البائدة لنتعظ بما جرى لها ( فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ )( الحج 45 : 46 )

 

أخيراً:

 

لتحاشي هذا الهلاك القادم ولتفعيل الأغلبية الصامتة حتى لا تكون عاملاً في الهلاك وضع رب العزة سبل الاصلاح . ونتوقف معها في المقال القادم .

 

 

الباب الخامس  :  غياب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يعني الإهلاك 

 الفصل الثاني :  تحذير من إهلاك قائم وإهلاك قادم   

 

العرب والمسلمون على شفا الإهلاك: 

 

1 ـ وجود واستمرار أقلية مترفة وأغلبية فقيرة معدمة صامتة مقهورة يعني قرية ظالمة. عندما ترفض القرية الظالمة الاصلاح وتطارد المصلحين فالهلاك على الأبواب. هذا موجز ما جاء في القرآن، وهو ينطبق على كل زمان ومكان، يقول جل وعلا في قاعدة إهلاك القرى الظالمة في تاريخ البشر (وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا) ثم يقول في سريان هذه القاعدة في تاريخ البشر قبل نزول القرآن (وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِن بَعْدِ نُوحٍ وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا)، ولأن الظلم هو العملة السائدة في تاريخ البشر إلى يوم القيامة فإن إهلاك (القرى الظالمة) مستمر إلى يوم القيامة بعد نزول القرآن طالما يوجد منذرون وطالما يتم إضطهاد المنذرين، يقول جلّ وعلا في قانون آخر للاهلاك يسري في المستقبل (وَإِن مَّن قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِك فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا). جاء هذا في سورة الاسراء: ( 16 ، 17 ، 58 ).

 

2 ـ يتحقق هذا الآن فيما يعرف بالعالم الإسلامي. فكل دولة فيه هي قرية ظالمة، ولكن كان ينقصها وجود المنذرين في القرون السابقة. ثم ظهر أهل القرآن منذرين من أكثر من ثلاثين عاماً يدعون المسلمين إلى الاصلاح السلمي بالقرآن بتطبيق حقائق الاسلام المهجورة في الحرية الدينية والعدل والسلام والديمقراطية وحقوق الانسان. وصلت دعوة أهل القرآن إلى الآفاق، وأسهم في نشرها خصومهم، إما بأخبار اضطهادهم ودفاع المنظمات الحقوقية عنهم وإمّا بالهجوم عليهم ولفت الأنظار اليهم. بوجود الظلم وبوجود أهل القرآن منذرين إكتملت ملامح القرية الظالمة المرشحة للهلاك طبقاً لقوله جلّ وعلا (وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ) (القصص 59) ( وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ لَهَا مُنذِرُونَ ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ )( الشعراء 208 : 209 ) .

 

3 ـ بل وبدأ الهلاك الفعلي بزوال دولة الصومال وتفككها، ثم التدمير الجزئي في السودان والعراق وليبيا وأفغانستان، وهو قائم في سوريا الآن، وهناك إحتمال قوى بهلاك قادم لدول أو( قرى ظالمة) أخرى في الجزيرة العربية  ومصر وشمال أفريقيا وباكستان. ولا يزال أهل القرآن في دعوتهم ـ بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر  ـ ماضين، ولكن لا يزال أهل القرى في غفلتهم سادرين. خصوصاً الأغلبية الصامتة، الصامتة عن نصرة الحق، والصامتة عن مواجهة الباطل والظلم .

 

4 ـ وممّا يعجّل بالهلاك قيام المترفين الحكام بتلميع جهلة الوعاظ من السلفيين العاديين ليكونوا أئمة الدعوة للدين الأرضي السائد، فأفسدوا أفئدة الأغلبية الصامتة، وأرضعوهم ثقافة العبيد والرضى بالظلم والصبر عليه، ودخلوا بهم في نفق الدين الأرضي وخرافاته وثقافته السمعية، وأصبح وعّاظ الدين الأرضي نجوم الإعلام وقادة التوجيه في المساجد وعلى الانترنت والقنوات الفضائية، وأضاف هذا قوة للسلفيين الآخرين من الإخوان المسلمين، وأصبح لهؤلاء وأولئك نفوذ في الشارع أسفر عن وصول الاخوان والسلفيين إلى أعتاب السلطة في مصر وفي ليبيا وتونس.

 

خلق هذا مشكلة عويصة راهنة. فالثورة قام بها الشباب ليس للوصول للحكم ولكن للتغيير إلى حكم ديمقراطي حقوقي، ولكن قفز عليها أئمة الأغلبية الصامتة من الإخوان والسلفيين. وأصبح الاختيار صعباً بين استبداد قائم يقاوم في سبيل البقاء واستبداد قادم يعدّ العدّة لدولة دينية مستبدة، تكون أسوأ من الاستبداد العادي. تجارب مصر وليبيا وتونس جعل المساندة الغربية للربيع العربي تتراجع خوف وثوب الاخوان على الحكم، ولهذا تدفع سوريا الثمن تدميراً وإهلاكاً دون مساندة من الغرب. ونفس المصير من التدمير ينتظر بقية القرى الظالمة العربية، إن ثار أهلها إختطف السلفيون من السّنة أو الشيعة الحكم،  وإن سكتوا إلتهمهم الظالم قضمة قضمة .  

 

5 ـ أي لا حلّ إلا بالوقوف ضد المستبد القائم والمستبد القادم معاً. وإلا فالهلاك الجزئي قائم والهلاك الكلي قادم. أي لا بد من مواجهة الاستبداد بكل أنواعه، ولا بد من تكاتف الشباب الثائر ضد العدوّين معاً. وهذا ما يناضل في سبيله أهل القرآن، فهم ضد الدولة الدينية واستبدادها شيعية كانت أو سنية، وهم ضد المستبد العلماني. وأهل القرآن ضحايا للإثنين معاً، والعادة أن المستبد القائم والمستبد القادم ينسيان خلافاتهما ويتحدان في مواجهة أهل القرآن، والأغلبية الصامتة بثقافتها السمعية تصدّق بل وتؤمن بكل ما يقال لها من أكاذيب، فإذا قال الإعلام الرسمي والإعلام الشعبي ورجال الدين والوعّاظ أن أهل القرآن كفرة فهم عند الأغلبية الصامتة كفرة. ويتأسّس حاجز صلب بين دعوة الحق للمنذرين (بكسر الذال) والمنذرين (بفتح الذال). ويظل المنذرون يعظون بدون تقصير ولكن بلا تأثير، ويظل الظالمون في غيّهم بلا نكير إلى أن يحلّ المصير ويأتي الهلاك للغني والفقير والجاهل والمستنير. الأمل في الشباب في أن يواجهوا ذلك التعتيم على أهل القرآن وذلك التشويه لهم، وذلك بمجرد نشر الفكر القرآني ودعوة السلفيين والشيعة لمناقشته .

 

أهل القرآن ـ ومن خلال رؤية قرآنية موضوعية وفهم لتراث المسلمين وتاريخهم ـ لا يمارسون جلد الذات، بل يوضحون تناقض المسلمين مع الاسلام ثم يضعون العلاج. في هذا المبحث مثلا نوضح هنا الرؤية القرآنية التي يتناقض معها المسلمون في موضوع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ثم نضع العلاج القرآني على المستوى النظري والمستوى التطبيقي. وهذه هي وظيفة المنذرين الذين يتصدّون لإصلاح القرية الظالمة قبل وحتى لا يحيق بها الهلاك. ولأن الإنذار يعني التخويف والتحذير فإننا نعلن هذا التحذير.   

 

تحذير قبيل الهاوية :

 

1 ـ ليس هذا شماتة، فلا يشمت في وطنه وقومه من عانى في سبيل إصلاح وطنه وقومه، ولكنها صيحة تحذير قبل الهاوية، والهاوية هي حرب أهلية تفتح أفواهها لتلتهم الظالمين من مترفين وصامتين. إن الله جل وعلا يقول ( قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُل لَّسْتُ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) (الأنعام 65 : 67). ليس هذا خطاباً محدداً بقريش حين كذّبت بالقرآن وجاءها التهديد من الرحمن بل هو تهديد يتخطى الزمان والمكان، وهو إنذار لكل من كذّّب بآيات الله في القرآن، وعاند وصدّ عن سبيل الله جل وعلا. التهديد هنا بقدرة الخالق جل وعلا على أن يبعث عليهم عذاباً من فوقهم أو من تحت أرجلهم، مثل الأوبئة والتلوث والفساد في البر والبحر بما كسبت أيديهم، أو أن تقع بينهم الحروب وحمامات الدم، ويذيق بعضهم بأس بعض. هذا ما جاء في قوله جل وعلا (قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ). ولم يفقهها الملأ الأموي الحاكم في قريش، ولم يفقها أتباعهم وأنصارهم من قريش، وهم قوم النبي وأهله، فتقول الآية التالية (وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُل لَّسْتُ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ). أي كذّبوا بالقرآن ـ وهو الحق ـ والردّ على تكذيبهم يأتي من الله جل وعلا . وهذا الرّد من جزئين :

 

2 ـ الجزءالأول هو: (قُل لَّسْتُ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ)، أي أمر الاهي لخاتم المرسلين أن يعلن لهم أنه ليس مسئولاً عنهم، وتكرر هذا كثيراً في القرآن الكريم، ومنه قوله جل وعلا له عليه السلام: (فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ إِلاَّ مَن تَوَلَّى وَكَفَرَ فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الأَكْبَرَ إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ) (الغاشية21: 26). أي هو مجرد (مُذَكِّرٌ ) أو ( مبلّغ ) أو ( نذير )، ليس عليه سوى البلاغ، فلا إكراه في الدين، وليس له السيطرة على أحد ( لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ). ومرجعهم الى الله جل وعلا وحده، وهو الذي يتولى حسابهم وعذابهم  (إِلاَّ مَن تَوَلَّى وَكَفَرَ فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الأَكْبَرَ)، ومرجعهم إلى الله جل وعلا وحده، وهو الذي يتولى بعثهم وحسابهم (إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ ). أي ليس للنبي من الأمر شيء (آل عمران : 128)  بل لله جل وعلا الأمر كله، لذا قال له ربه جل وعلا (وَقُل لِّلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ وَانتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ) ( هود 121 : 123 ).

3 ـ الجزء الثاني من الرّد هو قوله جل وعلا مهدداً مرة أخرى من يكذّب بكلام رب العالمين  ( لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ). أي يحمل لهم المستقبل أنباء سيئة آتية جزاء تكذيبهم. لم يكن كل قوم النبي مكذبين، فقوله جل وعلا (وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ) يتحدث عن الأغلبية المسيطرة، أي الأمويين. وتتميز سورة الأنفال بأن معظم حديثها ينصبّ على قريش، من آمن منهم ومن كفر، فقد نزلت تعقّب على الانتصار في معركة بدر على قريش الكافرة. وبعد الحديث عن مشركي قريش جاء التحذير للقرشيين المهاجرين هائلاً (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ إِنَّ شَرَّ الدَّوَابَّ عِندَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَّأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَّهُم مُّعْرِضُونَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) (الأنفال 20 : 28). نقول أنه خطاب موجّه في الأساس للصحابة المهاجرين بدليل قوله جل وعلا لهم يذكّرهم بالاضطهاد السابق (وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ). والمستفاد منه أن هناك من القرشيين المهاجرين المشاركين في بدر، أو ( البدريين ) من جاء في حقه هذا التقريع لأفعال بدرت منه، منها معصية الرسول والتولي عنه ومتابعة الكافرين المعاندين من قومهم القرشيين الذين كانوا يتندرون على النبي بقولهم (وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ )، بل أكثر من ذلك هو تحذيرهم من خيانة الله جل وعلا والرسول مع علمهم بما يفعلون ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ). والمستفاد بكل أسف إن هذه القلة المؤمنة من البدريين القرشيين لم تسلم من التكذيب ، وإلا ما قال رب العزة فيهم هذا الكلام .

 

محل الاستشهاد هنا هو أن منهم من بلغ به التكذيب درجة أن يقول فيهم رب العزة (وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ)، أي فهناك منهم من هو عريق في الظلم، وهناك منهم من يسمع ويطيع لأولئك الظالمين، والله جل وعلا يحذّر مقدماً من طاعة أولئك الظالمين حتى لا يأتي العذاب ليشمل الجميع. ونعيد قراءة هذا التحذير الخطير (وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) وبعده يذكّرهم باضطهاد قومهم لهم (وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)، ثم يحذرهم من الخيانة (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ). الذي أنزل هذا التحذير هو ربّ العزة الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور. وهو جل وعلا يتحدث عن غيب وسرائر السابقين زمناً في الاسلام من المهاجرين القرشيين. وهذا الغيب وتلك السرائر التي فضحها رب العزة تتناقض مع الشكل السطحي والمظهر الخارجي لأولئك السابقين زمناً في الاسلام، وهذا يؤكد صدق قوله جل وعلا للنبي وهو في مكة عن أغلبية قومه (وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ ).

 

 

4 ـ والذي حذّر منه رب العزة مقدماً وهو قوله جل وعلا (وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) وقع فيه القرشيون بعد موت خاتم المرسلين، وانتهاء القرآن نزولاً، وبعد أن اجتمعت قريش معاً وتزعمت العرب. عندها توحّد المهاجرون الذين نزلت فيهم الآيات السابقة من سورة الأنفال مع الأمويين وبقية القرشيين الذين دخلوا في الاسلام بعد طول عداء وحروب وخصام. أي أن من تحدثت عنهم سورة الأنفال وتحاربوا مع بعضهم انتهى بهم الأمر لأن يتحدوا مع بعضهم، وأن يهمّشوا الأنصار الذين (آووا ونصروا) والذين مدحهم رب العزة في نهاية سورة الأنفال نفسها. خالف القرشيون المهاجرون وصية رب العزة بالأنصار وتحذير رب العزة من التحالف مع الكفار (الأنفال 72 :75). وأتيح للأمويين تصدر الموقف بعد موت خاتم النبيين، مما سهّل عليهم قيادة المسلمين إلى الفتوحات العربية باستغلال إسم الاسلام، وتلك جريمة كبرى في حق شريعة الاسلام لأنها اعتداء على شعوب لم تبدأ المسلمين بالاعتداء، ولأنها سلب ونهب واسترقاق وسبي واستعمار واحتلال لأمم لم تقدم سيئة للعرب أو المسلمين. ولأن الأمويين كانوا هم القادة في هذا الظلم ـ من وراء ستار في عهد أبي بكر وعمر وعثمان ـ وعلناً بعد أن أقاموا دولتهم ـ فقد تسببوا في الحرب الأهلية التي قتلت قادة المهاجرين، فمات أبو بكر بالسّم، ومات عمر بالاغتيال، وقتل الثوار الأعراب عثمان، وقتلوا علياً، وفي الحرب الأهلية في معركة الجمل قتل الزبير وطلحة ـ وهما من رءوس الفتنة. وقتل معهم عشرة آلاف من الجانبين كل منهما يهتف ( الله أكبر )، ثم تكررت المذابح في صفين والنهروان، وتطورت في حروب مستمرة بين الخوارج ومعاوية، ثم في عهد ابنه يزيد حدثت المآسي الثلاث : كربلاء واقتحام المدينة واستباحة دماء الأنصار وأعراضهم، ثم حصار الكعبة وضربها بالمجانيق. أي خلال جيل الصحابة قام المهاجرون السابقون زمناً ومعهم الأمويون بمذابح لأمم لم تبدأهم بعدوان، فيما بين فارس إلى شمال افريقيا، فيما يعرف بالفتوحات. ولما اختلفوا على تقسيم الغنائم والمسروقات اقتتلوا فيما بينهم وقتلوا قادتهم وقتلوا أنفسهم، اذاق بعضهم بأس بعض. وحق فيهم تحذير رب العزّة في المدينة بعد معركة بدر (وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ). وتحقق فيهم ما نبّأ به من قبلها رب العزة حين فضح مكنون الأغلبية من قوم النبي فقال جلّ وعلا (وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ)، وجاء تفسير النبأ (لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ) في الحروب الأهلية التي خاضها الصحابة يقتلون أنفسهم بأنفسهم، وتحقق ما حذّر منه رب العزة (قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ).

 

 

 

 

 

 

5 ـ ولكن لم يتحقق فيهم وفينا قوله جل وعلا (انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ). فلم يفقهوا الآيات القرآنية. ولم نفقهها نحن أيضاً. لذا بدأ ما يعرف بالفتنة الكبرى بمقتل عثمان وما تلاه من حروب اهلية ولا يزال المسلمون يعيشون نفس المشهد، فاقتتالهم فيما بينهم مستمر مستقر، بل وتأسست على هامش هذه (الفتنة الكبرى) دين السّنة ودين الشيعة، ولا يزال الشيعة يعيشون ملاحم الفتنة الكبرى بدءاً من بيعة السقيفة إلى مذبحة كربلاء. ولا يزال العداء مستحكماً بين السّنة والشيعة حول كبار الصحابة، يقدّس الشيعة علياً وذريته ويلعنون أبا بكر وعمر وعثمان والزبير وطلحة والسيدة عائشة ومعاوية وأبا هريرة ويزيد ..الخ، بينما يقدس دين السّنة كل الصحابة ويجعلهم ذواتاً معصومة من الخطا، أو (عدول) و أنهم كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم. ويجعلون مكانة (علي) بنفس ترتيبه في الخلافة، أي الأفضلية لأبي بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي. وهذا يسبب للشيعة آلاماً نفسية وربما فسيولوجية أيضاً.

 

الفتنة الكبرى لا زلنا نعيشها الآن بكل حذافيرها في صراع السّنة والشيعة في إيران والعراق وسوريا والخليج والجزيرة العربية، وفي قفز السنيين للسلطة في مصر وتونس وليبيا، وفي محاولتهم الوصول للحكم على أنقاض الاستبداد القائم في شمال أفريقيا وموريتانيا والسودان وباكستان، وبعد تدمير الصومال وأفغانستان. وفي مواجهة هذه الفتنة الكبرى نحذّر ونعظ قبل أن يتحول الهلاك الجزئي إلى هلاك كلّي وحروب أهلية لا تبقي ولا تذر. نحن نحذّر من فتنة أو حرب أهلية لا تصيبن الذين ظلموا منا خاصة .

 

موعدنا مع مزيد من تحذيرات القرآن في الفصل القادم .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الباب الخامس  :  غياب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يعني الإهلاك 

 الفصل الثالث :  تحذيرات رب العزة لنا بالإهلاك  :  

  

  مقــدمة

1 ـ قلنا إنّ وجود واستمرار أقلية مترفة وأغلبية فقيرة معدمة صامتة مقهورة يعني قرية ظالمة. عندما ترفض القرية الظالمة الاصلاح وتطارد المصلحين فالهلاك على الأبواب. تحقق هذا قبل وبعد نزول القرآن الكريم. فالقاعدة هي (وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا )، وسريان هذه القاعدة في تاريخ البشر : قبل القرآن (وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِن بَعْدِ نُوحٍ وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا)، وبعد القرآن (وَإِن مَّن قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِك فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا) (الاسراء 16،17 ،58). ومن الطبيعي أن يكون القرآن الكريم رسالة إنذار وتحذير للبشر قبل قيام الساعة حتى لا يقعوا في الإهلاك أو العذاب الدنيوي العام ثم العذاب الأخروي الخالد. يقول رب العزة عن القرآن كبيان للإنذار (هَذَا بَلاغٌ لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُواْ بِهِ وَلِيَعْلَمُواْ أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ ) (ابراهيم 52). العادة أن يتعامل الناس مع أي بيان حكومى بالجدية والاهتمام خصوصاً إذا كان بيان تحذير وإنذار، ولكن تعامل المسلمون مع القرآن الكريم أو هذا البيان أو هذا الانذار الالهي بأن حوّلوه إلى أغنية يتغنّون بها في مناسبات العزاء، أي بالإستهزاء، فحقّ عليهم قوله جلّ وعلا (وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنذِرُوا هُزُوًا)، وطالما إستهزءوا بالانذار الالهي فلا فائدة في هدايتهم على الاطلاق، يقول ربّ العزّة في الآية التالية (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِن تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَن يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا) (الكهف 56 : 57). وبالاضافة إلى الاستهزاء والسخرية فالأغلبية المسلمة تتجاهل كل ما نقدمه من حقائق القرآن الكريم وتحذيراته، وكل ما ننشره ونذيعه يتم تجاهله والتعتيم عليه، ممّا يسارع بوتيرة الوقوع في الهلاك القادم. ومع هذا فنحن مصممون على القيام بواجبنا لنقدّم العذر لرب العزّة أملا في دفع الهلاك القادم، أو على الأقل حتى ننجو من هذا الهلاك القادم .

 

2 ـ والتوقف مع القرآن كرسالة الاهية تحذيرية من الإهلاك في الدنيا وعذاب الآخرة يستحق أكثر من رسالة علمية لنيل (العالمية) أو الدكتوراة . ونتمنى أن يقوم بها بعض أبنائنا. ونعطي لمحة سريعة هنا :  

 

أولا : ملاحظات عامة :

1 ـ بعض السور القرآنية نزلت أساساً في موضوع التحذير من الإهلاك في الدنيا ومن عذاب الآخرة مثل سور الأعراف وهود. وأيضاً بعض قصار السور مثل سورة (القمر)  التي سنعرض لها في فصل قادم.

2 ـ خلافاً لقوانين الإهلاك التي جاءت في سورة الإسراء والتي عرضنا لها، فقد نزلت قوانين أخرى في موضوع الإهلاك في ثنايا سور أخرى من الطوال والقصار، ويدخل في هذا القصص القرآني الذي يتعرّض للأمم التي تعرضت للإهلاك، وقد يأتي تعليقات قرآنية وتحذيرات طبقاً لمنهج القرآن في القصص في التركيز على العظة، فلم يأت القصص القرآني للتسلية والتـاريخ، بل لنتعظ ونتجنب الإهلاك الذي يلاحقنا إذا تحولنا إلى قرية ظالمة ترفض الانذار وتضطهد المنذرين .

3 ـ من الأعجاز القرآني أن يحلّ الدمار والإهلاك الجزئي بالمسلمين سواء بالحروب الأهلية أو بالهجوم الخارجي من الشرق ( تيمورلنك والتتار) أو من الغرب (الروم البيزنطيون والصليبيون في العصور الوسطى، ثم الاستعمار الغربي في العصر الحديث، وفي عصرنا الراهن مزيج متفاعل من هذا كله : استبداد، حروب أهلية، واسرائيل وهيمنة غربية ووهابية مدمرة، وصراعات مذهبية). هذا عدا الكوارث الطبيعية، ونحن لا نستبعدها ضمن آليات الإهلاك. وسنعرض لهذا في حينه في موضوع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في تاريخ المسلمين .

 

4 ـ إختلفت طبيعة الإهلاك قبل وبعد نزول القرآن الكريم. كانت الرسالات السماوية السابقة محلية حسية وقتية مرتبطة بقوم محددين في زمن معين ومكان معين، في تاريخ كل الأنبياء، سواء من قصّ رب العزة قصّته وما لم يقصّ. وكان الملأ المستكبر يطلب آية، أي (معجزة )، فتأتي الآية لهم محلية حسية مادية وقتية متفقة مع ما يعرفون ومتفوقة عليه حتى يؤمنوا. وكانت الآية تأتي نذيراً بهلاك لهذه الأمة إذا لم تؤمن. أي كانت تأتي تخويفاً (وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُواْ بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفًا) (الاسراء 59). ولهذا إمتنع نزول آية حسية للتحدي مع القرآن لأنه رسالة عقلية عامة في الزمان والمكان إلى قيام الساعة، ولأن الإهلاك العام لجميع من يخاطبهم القرآن لم يعد وارداً، وإلا كان هذا يعني دمار البشرية كلها بعد سنوات من تمام القرآن نزولاً. من هنا إختلفت طبيعة الإهلاك بعد نزول القرآن، فأصبح محلياً وجزئياً ووقتياً لمن تتحقق فيهم شروط الإهلاك : أي قرية ظالمة (أقلية مترفة تظلم وأكثرية صامتة ترضى بالظلم) وكل الظالمين في هذه القرية يرفضون الإصلاح ويتهمون المصلحين المنذرين بالإهلاك إن لم يتم الاصلاح. بعدهذه الملاحظات العامة نتوقف مع بعض الملاحظات الجزئية .

 

ثانياً : التحذير بنزول القرآن الكريم :

 

في أول سورة الأعراف يقول جلّ وعلا ( كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ). هنا تشريع للنبي ولنا في النهي عن التحرج في تبليغ القرآن والتذكير به. مبعث التحرّج هو تلك القداسة الزائفة التي يعيش فيها المجتمع المرشح للهلاك، حين يقدّس البشر وقبورهم، مما يجعل المصلح بالقرآن يتحرج من مواجهة مجتمعه بالإعلان بأن هذه القبور المقدسة رجس من عمل الشيطان، أو أن تلك الشخصيات المقدسة آثمة كافرة، وحتى لو كانت من الأنبياء والصالحين فتقديسها رجس من عمل الشيطان. يوجب رب العزة رفع هذا الحرج وينهانا عنه، ويأمر بأن نتبع القرآن وحده، ولا نتبع غيره. ويؤكّد أن قليلا ما نطيع ونتذكّر. بعدها جاء مباشرة التحذير من الإهلاك إن لم نطيع ونتذكر (وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلاَّ أَن قَالُواْ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ). ثم بعدها جاء الحديث عن يوم الحساب (فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُم بِمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ).(الاعراف 2 : 9). أي إنّ نزول القرآن هو للتحذير من الإهلاك ومن عذاب الآخرة .

 

ثالثاً : التحذير بالقصص القرآني ، ويأتي التعليق على القصص بأخذ العبرة :

 

1 ـ في سورة الأعراف وبعد إيراد القصص القرآني يقول جل وعلا ( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ). أي لو آمنوا واتقوا لم يكن الإهلاك مصيرهم. ثم يتوجه الخطاب لنا بعد نزول القرآن بالتحذير والانذار في صيغة أسئلة لا سبيل للإجابة عليها إلّا بالموافقة (أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللَّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ )؟؟!! ثم بعد هذا التقريع بالأسئلة القاسية يأتي تحذير هاديء وخطير بأنه من الممكن أن يؤاخذنا الله جلّ وعلا بذنوبنا بعد أن ورثنا القوم الظالمين المهلكين وسكنّا مساكنهم ولم نتعظ بما حلّ بهم (أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ مِن بَعْدِ أَهْلِهَا أَن لَّوْ نَشَاء أَصَبْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ). ثم يؤكّد رب العزّة الهدف من قص قصص تلك القرى المهلكة حتى نتعظ (تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ مِن قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَىَ قُلُوبِ الْكَافِرِينَ )( الأعراف 96 : 101).

 

2 ـ ومثل سورة الأعراف كررت سورة هود نفس القصص لنفس الأنبياء والأمم المهلكة. ثمّ في التعليق على قصصهم يقول ربّ العزّة يعظنا (ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ) . أي من هذه القرى ما لاتزال أطلاله باقية، ومنها ما اندرست وزالت معالمه. وفي كل الأحوال هم الذين ظلموا أنفسهم، وفي كل الأحوال فإن أئمتهم وآلهتهم المقدسة التي كانوا يطلبون منها المدد ويستغيثون لدفع الضرر لم تغن عنهم شيئاً، ولم تنقذهم من الهلاك، بل زادتهم ضلالاً وخساراً (وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مِن شَيْءٍ لَّمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ)، وهذه هي طبيعة الإهلاك الالهي للقرى الظالمة في كل زمان ومكان، فهو إهلاك قاس أليم شديد ( وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ).

والعبرة هي ما يتبقى لنا من هذا القصص حتى ننجو من الهلاك في الدنيا ومن العذاب يوم القيامة الذي إقترب (إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لأَجَلٍ مَّعْدُودٍ) (هود 100: 104). بعدها يضع رب العزّة لنا سبيل الإصلاح والإفلات من الهلاك، وهو الدعوة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ينهض بها مصلحون، لو فعل هذا مصلحون في معظم الأمم السابقة لنجوا من الهلاك، ولكن الأغلبية الصامتة إتبعت المترفين المجرمين، فالله جلّ وعلا لا يمكن أن يهلك القرية الصالحة المصلحة ( فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا أُتْرِفُواْ فِيهِ وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ)       (هود 116 : 117). هنا نضع ايدينا على العلاج الذي يقي من الهلاك، وهو موضوعنا (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) أو (الإصلاح) أو تفعيل المجتمع ليتواصى بالحق والعدل فينجو .

 

رابعاً : التحذير الضمني بوقائع معينة في تاريخ بني اسرائيل، حيث تكرّر كثيراً قصص بني إسرائيل ومحنتهم مع فرعون، ومواقفهم مع الأنبياء. ونقتصر منه على موضوعنا في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والأغلبية الصامتة السلبية الساكنة الراضية بالظلم. بسبب القهر الزائد الذي تعرّض له بنو اسرائيل وهلعهم ورعبهم من فرعون فإنهم لم يؤمنوا ( لموسى)، أي لم يثقوا به. آمنوا (به) رسولاً، ولكن لم يؤمنوا (له) أي لم يثقوا به ولم يطمئنوا له خوفاً من فرعون وإسرافه في التعذيب (فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنْ الْمُسْرِفِينَ) (يونس 83). هذا الجيل الذي عاش وتنفّس الخوف والهلع رأى هلاك فرعون ورأى الآيات الالهية التي اعطاها الله جل وعلا لموسى، بعصاه  التي فجّرت اثنتا عشرة عيناً، وتمتعوا بالمنّ والسلوى، ومع كل هذا فقد ظلوا على سلبيتهم وخوفهم الذي تمكن من قلوبهم بسبب فرعون حتى بعد هلاك فرعون ورؤيتهم لجسده الغريق تقذفه أمواج البحر ليكون لهم آية (يونس 92). جاءهم الاختبار في دخول الأرض المقدسة التي كتبها الله جلّ وعلا لهم فتقاعسوا وطلبوا أن يقوم بالمهمة عنهم موسى ورب موسى (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنْ الْعَالَمِينَ يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ قَالَ رَجُلانِ مِنْ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمْ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَداً مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ) . كانت النتيجة هي الحكم عليهم بأربعين سنة في التيه حتى ينقرض هذا الجيل المتهالك، ويأتي جيل جديد يعرف المعاناة والشدائد ( قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ) (المائدة 20 : 26). أي هنا إهلاك ( رقيق ) لجيل ينتمي للأغلبية الصامتة الساكنة السلبية، لأنه لا فائدة فيه. ومنه نأخذ العبرة بأن الجيل السلبي لا فائدة فيه، حتى مع عدم وجود ظلم يقع عليهم. فأولئك كانوا يعيشون مع موسى وهارون بعد فرعون متمتعين بالعدل والخير، ولكن إستمروا في سلبيتهم كما كانوا في نفس السلبية وقت فرعون. وبالتالي فإنّ وجودهم عديم الفائدة. بعدها دخل بنو اسرائيل في عصر جديد أقاموا فيه المدن واستقروا في دولة، فدخل بعضهم في إختبار جديد. يقول جل وعلا يخاطب خاتم النبيين يأمره أن يسأل بني اسرائيل في عهده عن تلك القرية الساحلية التي إحتالت على تحريم السبت وتحريم الصيد في هذا اليوم بأن كانت تخدع السمك بالحيلة يوم الجمعة بأن تفتح له ممراً يدخل فيه ولا يخرج منه، لأنه كان في يوم السبت يظهر لهم جماعات كأنه يغريهم بصيده في ذلك اليوم الحرام. فإذا مضى يوم السبت كان في قبضتهم يوم الأحد. هم الذين حرّموا السبت على أنفسهم فجعله الله جلّ وعلا محرماً عليهم عقوبة لهم في الاعتداء على حق الله جل وعلا في التشريع (النحل 114 :118) (الأنعام  146) . وفي تلك القرية الاسرائلية الساحلية نقرأ قوله جل وعلا ( وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ فَلَمَّا عَتَوْا عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ) (الاعراف 163: 166). هنا نرى ثلاثة مواقف : الأول موقف الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن السّوء، وقد نجوا (أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ). الثاني موقف الذين يلومون من ينهى عن المنكر ويأمر بالمعروف على أساس أنه لا فائدة، وهذه هي الأغلبية الصامتة اللائمون الذين لا ينطقون إلا في الضلال ومدح الظالم. وقد تعرضوا إلى عذاب بئيس باعتبارهم شركاء للظالمين بسكوتهم عن الظلم ولومهم للمنكرين على الظلم  (وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ). فالذين ظلموا هم الظالمون والساكتون عليهم. وقد أدمنوا العصيان، لذلك لم يفلح معهم العذاب الذي نزل بهم ، فإزدادوا عتواً وفسقاً وظلماً، لذا مسخهم الله جل وعلا قردة وخنازير .!!: (فَلَمَّا عَتَوْا عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ)، واصبحوا عبرة لمن جاء بعدهم من بني اسرائيل وغيرهم. لذا جاء التذكير بهم في معرض العظة لأهل الكتاب (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ) (البقرة 65 : 66)، (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللَّهِ مَن لَّعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَّكَانًا وَأَضَلُّ عَن سَوَاء السَّبِيلِ) (المائدة 59: 60)،  وهو تحذير للمسلمين من أصحاب الديانات الأرضية، وهم قد نقلوا التراث الذي كان لأسلافهم من أهل الكتاب، أو ما يسمّى بالاسرائيليات .  وقد أصبحت أساس ديانات المسلمين الأرضية.

 

 

 

الباب الخامس  :  غياب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يعني الإهلاك 

الفصل الرابع  : خطوات ومعالم الإهلاك الكامل   

 

أولا ً :  خطوات ما قبل التدمير :

1 ـ تستحق القرية الظالمة الإهلاك برفضها الاصلاح، سواء من المترفين الظالمين أو الأغلبية الصامتة المستكينة للظلم والمتشبعة بثقافة العبيد. وكان هذا الإهلاك عامّا في تلك القرى في العهد القديم .

 

في تاريخ الأنبياء السابقين كان يبدأ العدّ التنازلي للإهلاك بخطوات تحذيرية لو إنتبهوا لها وأسرعوا بالاصلاح نجوا من الهلاك، وإلّا فالهلاك قادم اليهم وهم مسرعون اليه. الخطوة الأولى تكون بالمصائب على أمل أن يتوبوا ويئوبوا إلى الله ويتضرعوا. وهذا إختبار بالطبع. ثم يليه إختبار النعمة بعد إبتلاء النقمة. ولو فشلوا فيه واغتروا حلّ بهم الهلاك بغتة، يقول جلّ وعلا عن الأمم السابقة في قصص الأنبياء (وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَّقَالُواْ قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاء وَالسَّرَّاء فَأَخَذْنَاهُم بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ) (الأعراف 94 : 95). وتكرّر هذا في قوله جلّ وعلا ( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)، فالخطوة الأولى هي المصائب من البؤس والضرّ حتى يتضرعوا ويتوبوا. ولكنّهم قست قلوبهم ورفضوا التوبة ، فتأتي المرحلة التالية وهي إختبار النعمة فيفرحون وبها يغترّون، وعندها يحلّ بهم الهلاك فجأة، فيقطع دابرهم، أو بالتعبير القرآني بالغ الدلالة : (فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ).

 

2 ـ ونعطي مثالاً من قصة موسى وفرعون. أرسل الله جلّ وعلا موسى لفرعون فاستهزأ به فرعون (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ) ورفض الآيات المعجزة التي أتى بها موسى ( وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلاَّ هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا) فجاءهم العذاب والبأساء والضراء حتى يؤمنوا (وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)، فاستغاثوا بموسى  (وَقَالُوا يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ ) فكشف الله جل وعلا عنهم العذاب، ولكنهم عادوا للعناد والكفر ونكث العهد (فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمْ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ) بل تطرّف فرعون فاستهزأ بموسى في مؤتمر علني حشد فيه قومه وجنده (وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحتى أَفَلا تُبْصِرُونَ  أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ (52) فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ).

وهلّل له أتباعه من الأغلبية الصامتة المطيعة التي عادة ما يستخف بها كل فرعون ويشاركونه الظلم والعصيان (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ). فكانت النتيجة هلاك فرعون وجنده وقومه المهللين له (فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ)، ومن وقتها أصبح فرعون مثلاً لكل مستبد يهلك نفسه وقومه (فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلآخِرِينَ) ( الزخرف  46 : 56 ).

 

تكرر هذا بالتفصيل في (سورة الأعراف 130 : 136 )، ( وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِّن الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُواْ لَنَا هَذِهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ وَقَالُواْ مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِن آيَةٍ لِّتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُّفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْمًا مُّجْرِمِينَ وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُواْ يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُم بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ ).

 

 ثانياً : وصف التدمير:

 

1 ـ يقول جل وعلا عن موقف القرية الظالمة حين يقع عليها التدمير يصف مشاعر المترفين وقتها ( وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُم مِّنْهَا يَرْكُضُونَ لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ فَمَا زَالَت تِّلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ) (الانبياء 11 : 15)، ويقول جلّ وعلا عن الإهلاك الكامل ( فَكُلا أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (العنكبوت 40)، فالإهلاك يأتي بسبب ذنوب الطغاة العصاة وجرائمهم وظلمهم والسكوت عن ظلمهم. وتنوع الإهلاك من تدمير آت من الفضاء، أو أنفجار صاعق، أو خسف في الأرض، أو غرق .

 

2 ـ ومن تدبر الآيات  التي تحدثت عن إهلاك الأمم السابقة يتضح الآتي :

 

2/1 : تدمير عاد وثمود بصاعقة، والله جل وعلا يهدد قريش بمثلها (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ) (فصلت 13). والصاعقة هي انفجار لا نعرف نوعيته بالتحديد، ولكن نتعرف على بعض مظاهره وآثاره تأثيره. وهنا يأتي الاختلاف بين صاعقة عاد وصاعقة ثمود .

 

2/2 : الصاعقة التي أهلكت قوم عاد أثارت رياحاً هائلة، وصل تأثير أصواتها إلى الآذان: (فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ لِّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لا يُنصَرُونَ) (فصلت 16)، وهذه الرياح دمرت كل شيء كانت تمرّ عليه فتتركه رميماً (وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ مَا تَذَرُ مِن شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ) (الذاريات41 :42). وقد بدأت الرياح سحباً أخذت تتجمع فظنوها سحب أمطار فاستبشروا بها، ولكنها كان رياحاً مهلكة لا تبقي ولا تذر (فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ) (الاحقاف24 : 25)، أي أهلكتهم وأبقت مساكنهم يمكن رؤيتها بعد موتهم. وظلت الرياح تضربهم سبع ليالٍ وثمانية أيام حسوماً، وتركتهم موتى جثثاً في البيوت وفي الشوارع كأعجاز نخل خاوية. وانمحى أثرهم (وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ فَهَلْ تَرَى لَهُم مِّن بَاقِيَةٍ) ( الحاقة 6 : 8 ).

 

2/3 : أما الصاعقة التي أهلكت قوم ثمود فقد أحدثت (صيحة ورجفة)، والصيحة تعني إنفجاراً مدوياً هائل الصوت بحيث يدمّر من يسمعه، ويجعله يرتجف فاقداً التوازن إلى أن يموت بعد عذاب وإذلال (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ) (فصلت 17). جاءتهم صاعقة الانفجار في الصباح مصحوبة بصوت هائل وهم في بيوتهم المنحوتة في الجبال فما أغنت عنهم بيوتهم الجبلية المحصّنة الآمنة شيئاً (وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ وَكَانُواْ يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ) (الحجر 80 : 83). تمتعوا ببوتهم الصخرية في أحضان الجبال إلى حين، ولكن الصاعقة فاجأتهم في داخل حصونهم فما استطاعوا القيام من أماكنهم (وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنظُرُونَ فَمَا اسْتَطَاعُوا مِن قِيَامٍ وَمَا كَانُوا مُنتَصِرِينَ) (الذاريات43 :45) فظلوا يرتجفون حتى ماتوا جاثمين في أماكنهم: (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ) (الاعراف 78)، (وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ) (هود 65 : 67). طغت الصيحة أو الانفجار أو صوته فدمّر عصاة ثمود في مخابئهم الصخرية، لذا جاء وصف الصيحة بالطاغية، أي التي طغت على الصخر فاخترقته (فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ ) (الحاقة5). تآمر قوم ثمود وعقروا الناقة وكذّبوا النبي صالح عليه السلام ومكروا به، فدمرهم الله جلّ وعلا، وبقيت بيوتهم عبرة (وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (النمل 50).

 

 

2/4 : نفس الإهلاك حدث لقوم مدين بعد تكذيبهم النبي شعيب عليه السلام. كان صيحة إنفجار بصوت هائل ارتجفوا منه وماتوا. فقيل عنهم مثلما قيل عن ثمود ( وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ) (هود94)، (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ) (العنكبوت:37) (الاعراف 91). ولكن تميّزت صيحة أو إنفجار قوم مدين بإنتشار غبار كثيف غمر وطمر ولفّ مدينة مدين لمدة يوم كامل، أو هو (يوم الظّلة)، فكان هلاكاً مرتبطاً بعذاب هائل (فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) (الشعراء 189). قد يكون نفس الانفجار الذي أهلك قوم ثمود، ولكن إختلف المظهر باختلاف نوعية المساكن. فقوم ثمود سكنوا في بيوت صخرية منحوتة في الجبل فلم يدمرها الانفجار ولكنه  دمر السكان داخلها. أما قوم مدين فقد عاشوا في مدينة تجارية على طريق القوافل مبنية كالمعتاد وقتها، فدمّر الانفجار بيوتها وأحالها إلى غبار هائل ظلل موقع المدينة .

 

2 /5 :  في الأحوال السابقة فإن كل تلك الانفجارات قتلت فقط الكفّار، ولم تمسّ المؤمنين. يقول جلّ وعلا عن عاد قوم هود عليه السلام (فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُواْ مُؤْمِنِينَ) (الاعراف 72)، أي أنجتهم رحمة الله من الانفجار الذي وقع وهم شهود عليه وهم في نفس موقع الانفجار. ويقول عن صالح (فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ) (هود 66: 67). رأى صالح مصرع قومه، ووقف حزيناً يشاهد جثثهم ويخاطبهم (فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِن لاَّ تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ) (الاعراف 79) ونفس الحال مع النبي شعيب (وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ كَأَن لَّمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلاَ بُعْدًا لِّمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ) (هود 94 : 95)، شهد شعيب مصرع قومه ووقف أيضاً يتحسّر عليهم (فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ )(الاعراف 93 ).

 

2/6 : ومن هنا يختلف هذا الإنفجار عن الانفجار الذي أهلك قوم لوط، والذي إستلزم تهجير المؤمنين حتى لا يصيبهم الانفجار الذي سيبيد قوم لوط المعاندين. ربما كان الانفجار الذي أهلك عاد وثمود ومدين نوعاً من الاشعاع الناتج عن تفجير ذري يهلك البشر دون تدمير البيوت. وربما كان الانفجار الذي حدث لقوم لوط نوعاً من التفجير الذري الذي يدّمر المكان والانسان. هو إنفجار أمطر قوم لوط بقنابل حجرية ملتهبة تم إعدادها من طين. ونتتبعها كالآتي : حين انفجرت كانت (صيحة) من جهة الشرق (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ) (الحجر 73)، وأعقبها مطر:(وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَرًا) (الاعراف 84)، ( وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَرًا فَسَاء مَطَرُ الْمُنذَرِينَ) (الشعراء 173)، ليس مطراً من ماء، بل قنابل أصلها من طين ثم تم تصنيعها لتكون حجارة ملتهبة ( لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن طِينٍ مُسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ) ( الذاريات 32)، وهي حجارة موصوفة بأنها (رجز) أي تورث المرض والهلاك (إِنَّا مُنزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِّنَ السَّمَاء) (العنكبوت 34)، وأنها من سجيل، أي ما يشبه اللافا أو الماجما الملتهبة التي تخرج من البراكين (وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ) (الحجر74) وهو سجيل منضود منظّم مصنّع مهندس (بفتح الدال) :( وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنضُودٍ )(هود 82 ). كان  الانفجار في الصباح الباكر، وقبله تم تهريب وإجلاء المؤمنين قبل تدمير القوم ( فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ الْمُسْلِمِينَ) (الذاريات 32). وجاءت التعليمات للمؤمنين بطريقة خروجهم، أن يخرجوا ليلاً قبل موعد الهلاك في الصباح، إلى مكان محدد آمن وبعيد عن الضرر الحادث من الانفجار، وألا يلتفت منهم أحد خلفه حتى لا يصيبه إشعاع التدمير بالعمى وتشويه الوجه، وأن يزحفوا في سيرهم بحيث يكون بعضهم خلف بعض لتفادي الاشعاعات المهلكة الناتجة من التفجير الذي جعل مساكن القوم أعاليها سافلها ( فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ اللَّيْلِ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنضُودٍ مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ)(هود81 : 83)، (فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ وَامْضُواْ حَيْثُ تُؤْمَرُونَ وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلاء مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِينَ)، (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ) (الحجر 65: 66  ـ 73 : 76 ).

 

ثالثا : أطلال وآثار ما بعد التدمير:

 

1 ـ ولا تزال أطلال سدوم وعمورة  باقية عبرة لمن يعتبر بما حدث لقوم لوط، وهم أشهر وأول من أدمن الشذوذ الجنسي، والذين قال لهم نبيهم لوط  (وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ الْعَالَمِينَ) (العنكبوت 28). ومع استفاضة رب العزة في تفصيل قصة قوم لوط، ولعنهم إلإ أن المسلمين إبتداءاً من العصر العباسي قد عرفوا وأدمنوا الشذوذ الجنسي، واشتهر بهذا بعض الخلفاء والسلاطين، بل تخصّص الصوفية في إعتباره ضمن شعائرهم الدينية فيما يعرف بالشاهد. واشتهرت به قصور السلاطين العثمانيين وساد العصر العثماني. ومن المسلمين انتقل إلى أوروبا أخيراً. والطريف أن رفاعة الطهطاوي حين ذهب إلى فرنسا كان يتغزل في الشباب الأمرد كعادة الشعراء، وكان يتعجب من عدم وجود الشذوذ الجنسي هناك. وسنعرض لهذا في مقال عن كتابه (تخليص الابريز في تلخيص باريز). وحالياً فالشذوذ منتشر بلا نكير في أوروبا وأوساط الوهابيين وغيرهم. هذا ، مع أن رب العزّة يؤكّد ترك أطلال قريتي سدوم وعمورة (قوم لوط) لتكون عبرة للذين يخافون العذاب الأليم، الذين يعقلون والذين يتوسمون (وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِّلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الأَلِيمَ) (الذاريات 37)، (وَلَقَد تَّرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (العنكبوت 35)، ( إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْمُتَوَسِّمِينَ ) ( الحجر: 76). ولكن أين هم في عالم المسلمين أصحاب الديانات الأرضية ؟  ومع ذلك فهم يجعلون أنفسهم خير أمّة أخرجت للناس .؟

2 ـ و كانت أطلال قوم لوط  باقية على طريق القوافل في عهد خاتم النبيين عليهم جميعا السلام. يقول جلّ وعلا لقريش عن أطلال قوم لوط بعد تدميرهم (وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِم مُّصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ) (الصافات 137 : 138). وكانت قريش في رحلاتها التجارية بين الشام واليمن تمر على آثار قوم عاد وقوم ثمود. فقال جل وعلا لهم  يدعوهم للإعتبار ( أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّأُولِي النهى) ( طه 128 ).

 

3 ـ بل أمرنا رب العزّة بالسير في الأرض ومعاينة آثار الأمم السابقة التي تعرضت للهلاك لنتعظ ونستفيد، يقول جل وعلا (قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ) (آل عمران 137 :138)، (قُلْ سِيرُواْ فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) (الانعام 11)، (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِم مِّنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ)(يوسف 109)، (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ) (النحل 36)،  (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) (الحج 46)، (قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ) (النمل 79)، (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا) (فاطر 44)، (أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِن وَاقٍ ) (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (غافر 21 ،82)، (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا) (محمد 10)، (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)   (قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُم مُّشْرِكِينَ) (الروم 9 ، 42).

4 ـ جئنا بهذه الآيات لتوضيح التناقض بين الاسلام والدين السّني الوهابي بالذات. فهم يكفرون ـ بهذا الصدد ـ بتلك الآيات الكريمة، ويؤمنون بحديث ينهى عن مشاهدة تلك الأطلال والآثار. ومن عجب أن مدائن عاد وثمود مدفونة تحت رمال الجزيرة العربية في المملكة السعودية، وتكاد تفصح عنها صور الفضاء وأجهزة المركبات الفضائية، وهو نصر للإسلام عظيم لو أمكن الكشف عنها ومطابقة تلك الأطلال بما جاء في وصفها في القرآن الكريم. ولكن إيمان الوهابية بهذا الحديث يمنعهم من ذلك، ومن أجله يكفرون بالقرآن ويتجاهلون فريضة اسلامية قرآنية نزلت فيها هذه الآيات الكريمة .

5 ـ تخيلوا لو كشفنا عن أطلال قوم عاد، وتدبرنا ما قاله لهم نبيهم هود عن رفاهية قومه وتقدمهم العلمي في هذا العصر السحيق (أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ وَإِذَا بَطَشْتُم بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُم بِمَا تَعْلَمُونَ أَمَدَّكُم بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ) (الشعراء 128 : 135) وتذكرنا قوله جل وعلا عن العظمة المعمارية لقومي عاد وثمود (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ) (الفجر 6 :9). ونتذكر ما قاله النبي صالح عليه السلام يعظ قومه ورفاهية قومه وتقدمهم العلمي (أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ) (الشعراء 146 : 152)، وما قاله رب العزة عن بيوتهم بعد هلاكهم (فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ)(النمل 51).

 

6 ـ ولكن كيف ننظر وكيف نتّعظ إذا كان الدين السّني يحرّم رؤية هذه الآثار ؟ هذا قصص لم يأت ذكره في التوراة ولا في الكتب الأخرى لأهل الكتاب. إنفرد القرآن الكريم بذكرهم، بعد أن انتهى العلم بهم. هي أمم بائدة لم يبق منهم نسل ولا ذرية، ولا بقية (فَهَلْ تَرَى لَهُم مِّن بَاقِيَةٍ ) (الحاقة  8)، (وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الأُولَى وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى) (النجم  50: 51). لم يبق منهم أحد، ولكن بقيت آثارهم للتحذير والعظة والتذكير. ولكن السنيين وغيرهم يسيرون على سنّة أولئك القوم الهالكين، لذا لا يريدون التفكّر في عاقبتهم، وهم مثلهم يكرهون الناصحين المصلحين المنذرين.

 

ولنتذكّر النبي صالح عليه السلام بعد مصرع قومه، وهو يقف حزيناً يشاهد جثثهم ويخاطبهم: (فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِن لاَّ تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ ) (الاعراف 79). ونخشى أن يتكرر الهلاك ونقول لقومنا (وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِن لاَّ تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ ).

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الباب الخامس  :  غياب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يعني الإهلاك 

 الفصل الخامس :  بين الإهلاك الكلي والإهلاك الجزئي   

 

من الإهلاك إلى التعذيب : 

 

1 ـ  كان الإهلاك عامّا في تلك القرى في العهد القديم. ثم إنتهى عهد الإهلاك العام الذي كان يمحو القرية الظالمة كلها، أو المجتمع كله ولا ينجو إلّا المتقون. جاء البديل بإهلاك جزئي، أو بتعبير القرآن (تعذيب). ومن هنا يأتي الحكم الالهي العام باهلاك ( أو) بتعذيب كل قرية قبل قيام الساعة (وَإِن مَّن قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِك فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا ). ( الاسراء : 58 ).

 

فرعون وقومه والإهلاك الجزئي:

 

1 ـ على أن هذا التغيير من الإهلاك الكلي إلى الإهلاك الجزئي حدث بالتدريج. وكانت البداية في إهلاك فرعون وقومه فقط دون بقية المصريين. حسب توصيف القرآن الكريم هناك فرعون وجنده وآله وقومه في ناحية، وهناك في الناحية الأخرى (أهل مصر) ، أو (اهل الأرض) وهم الفلاحون العاملون في الأرض المرتبطون بها الذين لا يعرفون غيرها ولا يهتمون بغيرها، ثم التجار والحرفيون، وكان منهم من وفد لمصر من الخارج وتمصروا وصاروا من أهلها مثل العبرانيين الاسرائيليين في ذلك الوقت، ثم فيما جاء الشوام واليونانيون والايطاليون وغيرهم، وقت أن كانت مصر تستقبل الهجرات .

يقول جل وعلا (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ) (القصص 4 : 6). فرعون علا في (ارض) مصر، إمتلك أرض مصر الزراعية ونيلها بأنهاره التي تعددت وقتها، وأعلن ملكيته لمصر متفاخراً يخاطب قومه ( وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحتي أَفَلا تُبْصِرُونَ) (الزخرف 51). قوم فرعون هنا هم الذين حشدهم في مؤتمره، وليسوا كل سكان مصر وأهلها. قوم فرعون هم فقط ملأ فرعون بدرجاتهم المتدرجة عسكرياً وكهنوتياً ووظيفياً، لذا يأتي لفظ (الملأ) بصيغة فريدة في القرآن تعبّر عن تضخّم هذا الملأ من قوم فرعون ونفوذهم وتسلطهم على بني اسرائيل (فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ) ( يونس 83)، فهم ليسوا مجرد ( ملأ ) مثل ملأ قوم نوح أو قوم عاد أو قوم ثمود، بل طبقة ضخمة، أو ( قوم ) في حد ذاتهم، يعيشون في انفصال وانفصام عن بقية أهل مصر، وقام فرعون بتقسيم أهل مصر ( وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا) وإضطهد بني إسرائيل الذين كانوا من قبل مقربين من الهكسوس (يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ). قوم فرعون هؤلاء لا شأن لهم بأهل مصر، فأهل مصر أو أهل الأرض وقتها كانوا قسمين : أقلية وافدة كانت عزيزة ثم ذلّت وهبطت إلى حضيض المصريين الفلاحين، مع أنها عاشت وتمصرت وهم بنو اسرائيل، والقسم الآخر هم الفلاحون وبقية الشعب من بقية أهل مصر، الذين كانوا ربما يشهدون أو يسمعون ما يحدث لبني اسرائيل من ذبح للأطفال واسترقاق للنساء فيزداد هلعهم من الفرعون. لا يستطيع الفلاح المصري الهرب، ليس فقط لارتباطه بالأرض، ولكن لأنه ليس مسموحاً للفلاح المصري بالهرب، وهو قانون ظل معمولاً به في مصر حتى العصر العثماني. ثم إن هذا الفلاح المصري ـ رقيق الأرض ـ لا يستطيع مواجهة الآلة العسكرية لفرعون الذي كان القائد العسكري والحاكم المركزي الذي تتجمع فيه كل السلطات حتى أصبح الاها حسبما ساد في عصر الرعامسة. إذن تجمع الخطأ والخطيئة في جانب واحد يحتكر القوة والسلطة والثروة، أو حسب تعبير رب العزّة عن فرعون ( وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لا يُرْجَعُونَ ).

 

2 ـ كان مستحيلاً مواجهة طغيان فرعون بأي مقاومة بشرية، أي كان لا بد من تدخل الاهي يجعل فرعون نفسه يتبنى موسى ليكون له عدواً وحزناً كما قال رب العزة (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ) (القصص 7 : 8). التخطيط الالهي هو اهلاك جزئي لفرعون وآله وقومه وجنده دون بقية المصريين، وأن يرث  المستضعفون المضطهدون من بني اسرائيل ملك فرعون وقومه وثروته: (وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ). أي هو من البداية إهلاك جزئي يقع على الظالمين في مكان بعيد عن أرض مصر الزراعية، يقول جل وعلا (وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لا يُرْجَعُونَ فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ) (القصص39: 40). هلك فرعون وجنده ودمّر الله جل وعلا منشئاته وقصوره وورثهم بنو اسرائيل المستضعفون: ( فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُواْ وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ) (الاعراف  136 : 137 ). 

بمجرد ترك فرعون وجنده أرض مصر المزروعة فقد ملكيته عليها لأنها كانت ملكية بالغصب والقهر، ثم تأكّد هذا بموته وجنده، فورثها من بعده بنو اسرائيل ( كَمْ تَرَكُوا مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ) (الدخان25 : 28).     (فَأَخْرَجْنَاهُم مِّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ)      (الشعراء57 : 59).

تدمرت مؤسسات فرعون العسكرية والأمنية وقصوره المترفة ومعابده، بل وذلك الصرح الذي كان يريد أن يصعد اليه ليرى رب موسى.! (وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ) (الاعراف 137). ولكن بقيت المروج والجنات والزروع والمقام الكريم أي الأطيان الزراعية، وبقاؤها يعني بقاء القائمين عليها أي بقاء الفلاح المصري، ملح الأرض الملتصق بها ( قبل أن يعرف الهجرة للأردن والخليج !! ).

 

3 ـ هلاك فرعون موسى هو نقطة فاصلة في تاريخ الرسالات السماوية والإهلاك الالهي للظالمين. يقول جلّ وعلا في ختام قصة فرعون ( وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لا يُنصَرُونَ وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُم مِّنَ الْمَقْبُوحِينَ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِن بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) (القصص 40 : 43).

 

يعنينا هنا حقيقتان - الأولى : إمامة فرعون وقومه لكل الظالمين المجرمين من بعده إلى قيام الساعة ( وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ)، ولذلك يوصف المشركون اللاحقون بأنهم يسيرون على سنّة فرعون وعلى خطاه وعلى دأبه (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلادُهُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ) (آل عمران10 :11)، (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَفَرُواْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُواْ ظَالِمِينَ) (الأنفال 52 : 54). أي يسيرون على دأبه فيهلكون مثله ذلك (الهلاك الجزئي) الذي يصيب الظالم وقومه.

 

الحقيقة الثانية - هي نزول التوراة كتاباً سماوياً فارقاً عما سبقه بعد إهلاك الأمم السابقة التي انمحت تماماً .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 بين الإهلاك العام أو الجزئي وبين نزول معجزة حسّية:

 

1 ـ قلنا إن الإهلاك مرتبط بوجود آية أو معجزة للتحدي، إن جاءت الآية ولم يؤمن القوم بعدها فالهلاك هو العقوبة، كما حدث لقوم ثمود وقوم فرعون. وبعد هلاك فرعون وقومه بقليل حدث إنذار بهلاك جزئي لبني اسرائيل حين طلبوا أن يروا الله جلّ وعلا جهرة، فأخذتهم الصاعقة، ثم أحياهم الله كي يعتبروا ( وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (البقرة 55 ، 56)، السبب أنهم طلبوا آية حسية هي رؤية الله جل وعلا جهراً، أي لم يكتفوا بكل ما رأوه من آيات ومعجزات موسى عليه السلام وما حدث لفرعون. فكانت الصاعقة تنبيهاً لهم وتحذيراً. وفي عهد خاتم المرسلين، عليهم جميعاً السلام ـ طلب أهل الكتاب منه آية حسية ولم يكتفوا بالقرآن، فقال جلّ وعلا يذكّرهم بما حدث لأسلافهم (يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِّنَ السَّمَاء فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذَلِكَ فَقَالُواْ أَرِنَا اللَّهِ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَن ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُّبِينًا )(النساء 153).

 

2 ـ وجاء عيسى عليه السلام بمعجزات حسّية شتى لبني اسرائيل، فلم يكتف الحواريون بها وطلبوا أن تنزل عليهم مائدة من السماء، وألحّوا في الطلب، وكان طلبهم بأسلوب سيء وفي صيغة غير مهذّبة ( إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِّنَ السَّمَاء)، سألوا عن إستطاعة رب العزّة إنزال مائدة من السماء، كأن رب العزة لا يستطيع!! ولم يقولوا (ربنا) بل قالوا (هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ).!!، وردّ عليهم عيسى يأمرهم بالتقوى إن كانوا فعلا مؤمنين ( قَالَ اتَّقُواْ اللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ )، فألحّوا في الطلب وعلّلوه وسوّغوه ( قَالُواْ نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ) فدعا عيسى ربه جلّ وعلا أن يستجيب لهم (قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِّنَ السَّمَاء تَكُونُ لَنَا عِيداً لِّأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِّنكَ وَارْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ)، ولأنهم يطلبون آية حسّية يرتبط إنزالها بالعذاب أو الإهلاك الجزئي عند عدم الايمان فقد قال الله جل وعلا لهم محذّراً ومتوعّداً (قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِّنَ الْعَالَمِينَ) (المائدة 112 : 115 ). هنا تحذير لهم بعذاب غير مسبوق إن كفروا بعد إنزال المائدة .

 

 

 

 

 

 

 

مع اليمن و( سبأ ):

1ـ اليمنيون القدماء أصحاب حضارة إبتدعوها من بين الصخور معتمدين على الأمطار وتخزينها، متميزين بذلك على بقية الحضارات التي نشأت في أحضان الأنهار في مصر والرافدين والهند والصين. والعادة أن القصص القرآني لا يذكر تاريخ كل الأنبياء، ولم يذكر أسماءهم كلهم أو عددهم، وحتى في القصص الموجود لا يذكر كل التفصيلات التي حدثت، ولكن نستنتج سريان قواعد الإهلاك والتعذيب التي جاءت في القرآن على الجميع .

 

2ـ بالنسبة لليمن القديم جاءت إشارة لبعض الأسرات الحاكمة وهم التبايعة في قوله جل وعلا (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ) (ق 12 : 14)، ونستنتج وقوع هلاك لقوم تبّع طالما تمّ إلحاقهم بمن سبقهم في الهلاك. ووردت بعض تفصيلات لمملكة سبأ وملكة سبأ في سورة ( النمل ) والتي نجت بقومها وضربت مثلا أعلى للحاكم الحكيم الحريص على قومه. ولهذا فلا موضع لها في حديثنا عن الهلاك.

 

3 ـ وفي سورة (سبأ) جاءت بعض تفصيلات أخرى عن مملكة سبأ وعن هلاك جزئي تعرضت له، يقول جل وعلا ( لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَى أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلاَّ الْكَفُورَ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقًا مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ)      ( سبأ 15). ومن تدبر الآيات الكريمة نفهم أن أهل سبأ عاشوا في جنّات رائعة، ولكن لم يشكروا النعمة وأعرضوا عن إنذار المنذرين ونصح الناصحين فسلّط الله جلّ وعلا سيل العرم في إهلاك جزئي ترتب عليهم تدمير الجنات الرائعة واستبدالها بنباتات صحراوية فقيرة هزيلة. وبعد أن كانت المواصلات آمنة بين مدنهم انتهى بهم الحال بعد سيل العرم إلى الهجرة وتمزيق ملكهم، وهلاك معظمهم ونجاة فريق من المؤمنين. ومعروف في تاريخ اليمن أنه بعد انهيار سدّ مأرب هاجرت قبائل من اليمن وحملت معها حضارتها، ومنها من أقام في يثرب ( الأوس والخزرج ) ومنهم من اقام بين الاردن وسوريا وأقام مملكة تدمر، ومنهم من أقام مملكة الغساسنة جنوب الشام متحالفاً مع البيزنطيين، ومنهم المناذرة أصحاب مملكة في جنوب العراق التي تعاونت مع الفرس. ومنهم قبائل أخرى مثل كلب التي تحكمت في طريق القوافل إلى سوريا وتحالفت مع الأمويين قبل وبعد نزول القرآن .

 

4 ـ ويحكي تاريخ اليمن سيطرة الفرس عليهم، ودخول اليهودية ثم المسيحية، والسائد في التراث أن أصحاب الأخدود وإحراقهم قد حدث في اليمن، يقول جل وعلا ( وَالسَّمَاء ذَاتِ الْبُرُوجِ وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ). ولم يرد في الآيات الكريمة ما يقطع بالمكان أو الزمان، بل حتى لم يرد وقوع الإهلاك على الظالمين والانتقام منهم، بل هناك إشارة إلى إحتمال توبتهم بعدها (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ). ومعروف أنه إذا تاب القوم أو توقفوا عن الظلم قبلها فقد نجوا من الإهلاك. وهذا ما ذكره رب العزة عن قوم يونس، الذين تابوا فنجوا من الهلاك التام وكان على وشك أن يدمرهم (( فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ) (يونس 98)، (فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ) (الصافات 148). والطريف أن فرعون آمن وهو يغرق فما نفعه إيمانه ( وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) فقيل له : (آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ)( يونس 90 : 92).

 

5 ـ نفس الوضع في قصة أولئك المهلكين ( بفتح اللام) في سورة الفيل ( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ). السائد في التراث أنه ابرهة الحبشي الذي كان يحكم اليمن والذي أراد هدم الكعبة، وسار إلى مكة بجيش وقابل عبد المطّلب..الخ. وتنتهي القصة بهلاك ابرهة وجنده وفيله الضخم بنفس ما جاء في السورة، وأن هذا أصبح (عام الفيل) الذي ولد فيه خاتم المرسلين حسبما يقولون. ولا نستطيع أن ننفي أو نؤكد هذه الروايات، فليس هناك أي إشارة للمسجد الحرام في السورة مع الحرص القرآني على كل ما يخصّ البيت الحرام في القصص وفي التشريع، قبل وأثناء نزول القرآن الكريم. كما أنه لا يمكن القطع بأنهم قوم لوط بسبب التشابه الجزئي في نوعية الهلاك، لأن النسق القرآني يربط قصة قوم لوط بما كانوا يرتكبونه وبذكر النبي لوط معهم ( قوم لوط) (إخوان لوط)، ثم لا مكان للفيل مطلقاً في هلاك قوم لوط، ولا مكان للطيور التي كانت تحمل حجارة السجيل .

 

6 ـ نحن نجتهد من خلال النصوص القرآنية، وليس لنا أن نتعداها إلى الدخول فيما سكت عنه رب العزّة، لأن المسكوت عنه غيب، ولا يعلم الغيب إلا علّام الغيوب، رب العزّة جل وعلا. 

 

  :  غياب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يعني الإهلاك 

 الفصل السادس : الإهلاك الجزئي أو التعذيب لقريش مع نزول القرآن الكريم

 

بين الإهلاك الكلي والإهلاك الجزئي   

 خصوصية قريش:

1 ـ بينما كانت تموج صحراء الجزيرة العربية بالغارات والسلب والنهب والصراع حول الكلأ وتعاني الحرمان وإنعدام الأمن تمتعت قريش بالأمن والرخاء بسب قيامها على البيت الحرام وعملها بالإيلاف ورحلتي الشتاء والصيف ( لِإِيلافِ قُرَيْشٍ إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ). وبدلاً من أن يشكروا بنعمة وجودهم حول البيت الحرام فقد كفروا بحجة البيت الحرام، وخشوا على مكانتهم أن تهتز لدى العرب لو إتبعوا هدى الاسلام ( وَقَالُوا إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا)، وجاء الرّد بأن الله جلّ وعلا هو الذي جعل لهم هذا الحرم الآمن الذي تأتي اليه الثمرات والخيرات والأرزاق        (أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِن لَّدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ)، ثم يذكّرهم رب العزة بالهلاك الذي حدث للقرى السابقة التي ظلمت ورفضت الرسل، وأترفت وبطرت معيشتها ( وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ ) (القصص 57 : 59).

 

2 ـ وتكرّر نفس الرد عليهم حين كفروا بنعمة القرآن وآمنوا بالباطل، وكان مفترضاً بهم أن يشكروا لمن أعاشهم في أمن بينما يتعرض الناس حولهم للسلب والنهب والخطف ( أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ)، ولأنهم إحترفوا الكفر العلمي بإختراع وحي الاهي مزيف مثل ما يسمى بالحديث النبوى والحديث القدسي، يقول رب العزة في الآية التالية عن أظلم الناس (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ) ثم يقول جلّ وعلا عمّن يواجه هذا الزيف الباطل المفترى (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ)(العنكبوت 67).

 

3 ـ وأتاهم التحذير بضرب المثل الذي ينطبق عليهم تماماً ( وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ) (النحل112: 113). فقريش كانت آمنة مطمئنة في مكة حول الحرم، يأتيها رزقها رغداً من رحلتي الشتاء والصيف وممّا يجلبه الحجاج، ومما يربحه تجار قريش من رحلتي الشتاء والصيف ومن وفود الحجاج. عاشت قريش في رغد، وبدلاً من الشكر لله جلّ وعلا المنعم فقد كفروا. هي قصة أو مثل ينطبق تماماً على قريش خصوصاً قوله جل وعلا في نفس المثل (وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْهُمْ فَكَذَّبُوه ). يبقى العقاب الذي جاء في المثل، وهو في مرحلتين : الأولى الكفر بالنعمة بدل الشكر (فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ) وكان العقاب (فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ )، والثانية : الكفر بالرسالة والرسول (وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ) فعوقبوا بالعذاب (فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ). جاء هذا المثل تهديداً صريحاً لقريش، فلم تتعظ به . بل إتخذوا سبيل العناد والجدال .

 

الإهلاك وطلب آية حسية:

 

1ـ في تعليل رفضهم للقرآن طلبوا آية حسّية عناداً (وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ ) ونزل الرفض بأنّ الله جلّ وعلا قادر على أن ينزل آية حسية ولكنهم لا يعلمون ( قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَن يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ) مع إشارة إلى حقيقة علمية تدل على إعجاز القرآن الذي يرفضونه  ( وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ)، ومع توصيف لحالهم وضلالهم (وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَن يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) (الأنعام 37 : 39)، ثم جاء التحذير لهم  بوقوع العذاب بالهلاك الجزئي أو بقيام الساعة، وأنهم عندها لن يجدوا غير الله جل وعلا يستغيثون به ( قُلْ أَرَأَيْتَكُم إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاء وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ)، وذكّرهم الله جلّ وعلا بما حدث للأمم السابقة وخطوات إهلاكها ( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)، ثم عاد التحذير في أسئلة للتذكير بحقائق لا مفرّ من التسليم فيها لله جل وعلا الذي يملك سمعنا وأبصارنا وعذابنا ونعيمنا ( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُم مَّنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِهِ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ) (الأنعام 40 : 49) .

  

2 ـ وفي رفض طلبهم لآية حسية جاء التأكيد على الاكتفاء بالقرآن وحده ( وَقَالُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِندَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) وتأكد هذا بشهادة رب العزّة ذاته بأن القرآن كاف للمؤمن ( قُلْ كَفى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) .

 

 

وكانوا أيضاً يتعجّلون العذاب الفوري مع طلبهم الآية الحسية فجاءهم الجواب بأن العذاب الدنيوي له وقته وموعده وسيأتي لهم بغتة، وأن العذاب في الآخرة حتمي ينتظر أصحابه (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُّسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُم بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ) ( العنكبوت 50).

 

3 ـ وفي كراهيتهم للقرآن كانوا يصممون على نزول الإهلاك الكامل الذي حدث للسابقين ويجادلون بالباطل ليدحضوا به الحق، ساخرين من كلام الله ومن رسول الله معرضين عما في القرآن من كل مثل ( وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلا وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلا وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنذِرُوا هُزُوًا) لذا وصفهم رب العزة بأنهم أظلم الناس وأبعد الناس عن الهداية  (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِن تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَن يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا) وأوضح أن لعذابهم موعداً، كما كان هناك موعد لاهلاك السابقين (وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُم بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ لَّن يَجِدُوا مِن دُونِهِ مَوْئِلا وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا) ( الكهف 54).

 

4 ـ في استمرار طلبهم لآية حسّية وعدم إجابة طلبهم كان النبي محمد عليه السلام يشعر بالحزن حرصاً منه على هدايتهم فأكّد له رب العزّة انهم لا يطلبون الآية إلا عناداً، وأنهم في داخلهم لا يكذبون بالحق، بل هم يجحدون الحق ( قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ) وأن هذا حدث في تاريخ الأنبياء السابقين ولقد صبروا على التكذيب إلى أن جاءهم النصر، وأنه لا مبدّل لكلام الله  ( وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ)، وأنه إذا استعظم إعراضهم وأراد أن يأتيهم بآية فليتصرف هو بنفسه، يصعد إلى السماء أو يهبط إلى قاع الأرض ليحضر لهم آية معجزة (وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاء فَتَأْتِيَهُم بِآيَةٍ وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ) (الأنعام 33 : 35). هذا بالنسبة لاستحالة نزول آية. ونفس الحال في موضوع إنزال العذاب، أمره جلّ وعلا أن يقول لهم أنه يعرف أنه على الحق، وأنهم يكذّبون بهذا الحق عناداً، وأنه لا يملك تعذيبهم ولو كان يملكه ما تردد في تعذيبهم حتى ينتهي الأمر بينه وبينهم ( قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَكَذَّبْتُم بِهِ مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ قُل لَّوْ أَنَّ عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ )(الانعام 57 : 59).

5 ـ وعن رفضهم الاستماع للقرآن الكريم واتهامه بأنه أساطير الأولين، وانهم يستطيعون الإتيان بمثله يقول جل وعلا (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ). ولأنهم يعبدون الله ويقدسون الأولياء يتخذونهم مجرد واسطة تقربهم إلى الله جل وعلا زلفى، فقد دعوا الله جل وعلا على أنفسهم أن يعذّبهم لو كان القرآن من عند الله حقا ( وإذ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنْ السَّمَاءِ أَوْ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ). وجاء الجواب بأنه لن يقع عليهم عذاب طالما لم يخرجوا النبي من مكة، وطالما هم يستغفرون الله (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ)، وأن التعذيب سيقع عليهم إذا هم صدّوا عن المسجد الحرام (وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمْ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (الأنفال31 : 34). وهذا ما حدث فيما بعد، إذ أخرجوا النبي محمداً عليه السلام، وصدّوا المؤمنين القادمين من المدينة للحج إلى البيت الحرام. عندها وقع عليهم العذاب في مكة، وليس الإهلاك. يقول جل وعلا لخاتم النبيين عن قومه ( وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ )، ثم يقول عن قومه ( وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ عَنْ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ)، ثم تأتي إشارة إلى العذاب الذي وقع فيهم (وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ)، (وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ) (حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ) (المؤمنون  73 : 77).

 

أخيراً

1 ـ وفي النهاية، فأولئك المعاندون من الملأ القرشي وخصوصاً من الأمويين ما لبث أن دخلوا في الاسلام قبيل موت النبي محمد عليه السلام، وبعد موته إستغلوا الأعراب في الفتوحات ثم تقاتلوا في الفتنة الكبرى، وبها تمّ حكم المسلمين بالاستبداد. وبالفتنة الكبرى يعيش المسلمون إهلاكاً جزئياً مستمراً حتى الآن. وهذا التعذيب أو الإهلاك الجزئي يأتي على نوعين : كوارث طبيعية وحروب أهلية ( قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ)( الانعام 65 ). ولم يفقه المؤمنون حتى الآن. إذ يعاني مسلمو اليوم من الحروب الأهلية وكوارث الزلازل والبراكين و الفيضانات والمجاعات. وبهذا تتصدر أخبارهم شاشات العالم، ليس في صفحات المجد ولكن في صفحات الحوادث والجرائم والوفيات .

 

2 ـ متى يعلنون وفاة العرب يا نزّار يا قباني ؟؟!!

 

 

 

 

 

الباب الخامس  :  غياب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يعني الإهلاك 

 الفصل السابع  : الإهلاك الجزئي أو التعذيب للمسلمين بعد نزول القرآن الكريم  

 

 أولاً: تحذيرات متفرقة لنا بالإهلاك الجزئي أو التعذيب بعد نزول القرآن الكريم:

 

1 ـ القصص القرآني عن اهلاك الأمم السابقة وقوانين الإهلاك لم تأت عبثاً ـ تعالى الله جل وعلا ـ ولكن جاءت في تحذيرنا، نحن الأمم التي عاصرت نزول القرآن والأمم التي أتت وستأتي بعد نزول القرآن إلى قيام الساعة. هذه الأمم تشترك في سمة عامة وهي العالمية، لم يعد العالم كما كان سابقاً جزراً سكانية متباعدة منعزلة، بل بدأ العالم يترابط منذ عصر الرسالة القرآنية الخاتمة، وإزداد ترابطه بالكشوف الجغرافية والتقدم العلمي المضطرد الذي كشف مجاهل الكرة الأرضية بل إمتد يكتشف مجاهل المحيطات والفضاء الخارجي. هذه المرحلة من التطور البشري تنذر مع نزول الرسالة الخاتمة بإقتراب الساعة.

 

وهذا يعني أن هذه المرحلة من تاريخ بني آدم تعني نوعين من الهلاك :

 

1/1: الهلاك الجزئي بالتعذيب، وقد بدأت بوادره بهلاك قوم فرعون وأصبحوا أئمة للهالكين من بعدهم إلى قيام الساعة، وهذا يعني هلاكاً لقوم تتحقق فيهم شروط الإهلاك دون قوم آخرين، ربما يجاورونهم. وهو إهلاك بالتعذيب الذي لا يعني فناء الجميع، بل بعضهم. وهو إمّا بالكوارث وإما بالحروب الأهلية كما جاء في قوله جلّ وعلا (قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ) (الانعام 65)، فقوله جلّ وعلا (عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ) يعني الكوارث الطبيعية، منها ما لا دخل للإنسان به مثل الزلازل والبراكين، ومنها ما ينتج عن فساد الانسان وعبثه (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (الروم 41)، أما قوله جلّ وعلا (أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ) فيعني الحروب الأهلية الناتجة عن انقسام الأمة إلى طوائف متحاربة. لكن لم يعد وارداً ذلك الإهلاك العام للجميع والأتي بالتدخل الالهي المباشر الذي كان يحدث لقوم نوح وقوم عاد وقوم ثمود .

 

1/2: جاء بديلاً له قيام الساعة بتدمير العالم وهلاك عام لآخر جيل بشري، وما يلي ذلك من خلق عالم جديد يشهد بعث البشر ولقاء الله جل وعلا يوم الحساب (يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ) (ابراهيم 48) وفي التحذير من هذا اليوم الذي اقترب بنزول القرآن يقول جل وعلا (وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النَّارُ لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ ) (ابراهيم 49 : 52).

2 ـ بالإضافة إلى ذلك التحذير من اقتراب الساعة ونزول القرآن الكريم بيان تحذير وبلاغ إنذار فقد تكرر ضرب الأمثلة لنا، ومنها قوله جل وعلا ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ وَجَعَلُواْ لِلَّهِ أَندَادًا لِّيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُواْ فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ) .

يلاحظ هنا حقيقتان - الأولى إنطباق الآية على مسلمي عصرنا، خصوصاً في دول المسلمين البترولية، فقد أوتيت نعمة مادية وهي الثروة فبدلتها كفراً، وأوتيت نعمة معنوية هي القرآن فبدلتها أيضاً كفراً وتمسكاً بأديان أرضية. ولا شك أن الآيات الكريمة كانت تنطبق أيضاً على عصور (إسلامية) مضت، من العصر العباسي إلى العصر العثماني. والحقيقة الثانية - أن العقاب لهم بالهلاك بالدمار والبوار، وبقيام الساعة (وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ)، (جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ). ويأتي العلاج وسبيل الانقاذ في الآية التالية ( قُل لِّعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ يُقِيمُواْ الصَّلاةَ وَيُنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خِلالٌ ) (ابراهيم 28 : 31)، إذا آمنوا وأقاموا الصلاة وأنفقوا في سبيل الله قبل مجيء اليوم الآخر فقد نجوا وأفلحوا. وهو علاج ليس مكلفاً لقوم أنعم الله جل وعلا عليهم بالنعم، أي بدلاً من الكفر بالنعم المادية يكون الإنفاق منها في سبيل الله، وليس في سبيل الشيطان والصّد عن سبيل الله جلّ وعلا، وبدلاً من الكفر بنعمة القرآن الكريم يكون الإيمان والعمل الصالح وإقامة الصلاة سلوكاً قويماً وتقوى لله جل وعلا .

 

وننبّه بأن القرآن موصوف بأنه نعمة الله جل وعلا : يقول جلّ وعلا لخاتم المرسلين عليهم جميعاً السلام يأمره بالتحديث بالقرآن (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ ) (الضحى11)، فليس له حديث سوى القرآن نعمة ربه جلّ وعلا. وفي مواجهة اتهامهم له بأنه كاهن ومجنون يأمره ربه جلّ وعلا بالتذكير بالقرآن نعمة الرحمن ( فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ) (الطور 29 )، ويقسم له ربّه جلّ وعلا أنه ليس مجنوناً بسبب هذه النعمة (ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ) (القلم 1 : 2). وردّاً على إعراضهم فما عليه إلّا تبليغ نعمة الله (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ) ثم يقول عن مشركي قريش الذين يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها ( يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمْ الْكَافِرُونَ) (النحل 82 : 83) . ويقول جلّ وعلا لنا (وَلا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُواً وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ)، (البقرة 231)، (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِيناً ) (المائدة 3).  وبهذا نفهم معنيين لكلمة النعمة في قوله جلّ وعلا ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا).

 

3 ـ وطريقة الإهلاك لقوم لوط تنتظر من يسير على سنّتهم، يقول جل وعلا عنهم ( فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنضُودٍ مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ) (هود82 : 83). قوله جل وعلا (وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ) تحذير مباشر لمدمني الشذوذ من المسلمين وغيرهم من العصر العباسي إلى قيام الساعة. والايدز كعقاب للشذوذ الجنسي في عصرنا دليل على ذلك .

4 ـ ونزلت سور تحكي قصص الأمم المهلكة وما حدث مع أنبيائهم. جاء هذا في سور: الاعراف وهود والشعراء والأنبياء، وكان القصص يشير إلى اليوم الآخر ليربط أمامنا ما حدث من اهلاك في الماضي. وفي سورة الحاقة مثلاً ـ وهي من قصار السور، تبدأ بالاشارة إلى هلاك السابقين من طوفان نوح وعاد وثمود إلى فرعون، ثم ما ينتظرنا يوم القيامة         ( الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ (3) كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ (4) فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5) وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6) سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7) فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ (8) وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ (9) فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً (10) إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ (11) لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ (12) .

بعدها يأتي الحديث عن القيامة وأحداثها (فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ (13) وَحُمِلَتْ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً (14) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتْ الْوَاقِعَةُ (15) وَانشَقَّتْ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ (16) وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ (17) يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ (18). ويستمر الحديث إلى أن تنتهي السورة بالحديث عن القرآن الكريم البيان النهائي والبلاغ النهائي للبشر قبل قيام الساعة ( فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لا تُبْصِرُونَ (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ (41) وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ (42) تَنزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (43) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ (44) لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (48) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (49) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ (50) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيم ( 52).

 

ثانياً : ونتوقف هنا مع إستعراض لسورة القمر مثالاً في تحذير البشر قبيل قيام الساعة :

 

1 ـ في رؤية أفقية للسورة فهي تبدأ باقتراب الساعة وإعراض المشركين عنها برغم التحذيرات  التي تأتي اليهم، وموقفهم يوم البعث والنشور والحشر إلى لقاء الله جل وعلا. ثم لفتة سريعة إلى إهلاك الأمم السابقة من قوم نوح إلى قوم فرعون، مع إختتام الحديث عن كل قوم بتذكيرنا وتحذيرنا بالقرآن الميسّر للذكر والعظة. وبعدها يأتي لنا الخطاب المباشر بمصيرنا يوم القيامة.

 

2 ـ في إفتتاح السورة يقول جل وعلا ( بسم الله الرحمن الرحيم- اقْتَرَبَتْ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1) .. هنا يأتي التعبير بصيغة الماضي عن أمر سيقع في المستقبل وهو إنشقاق القمر، والتعبير بالماضي عن أحداث القيامة المستقبلية يعني تحقق الوقوع، كما يشير إلى اختلاف الزمن الأرضي لدينا عن الزمن البرزخي وما فوقه، فقرار قيام الساعة تم إتخاذه، وأتى به الأمر، ونحن سائرون في زمننا الأرضي المتحرك حتى نقابل هذا الأمر، وبهذا نفهم قوله تعالى عن قيام الساعة وصدور الأمر بها فعلاً مع نزول خاتم الرسالات السماوية للبشر (أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُوا أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاتَّقُونِ) (النحل 1 : 2). وبهذا فقد صدر الأمر الالهي بانشقاق القمر مع اقتراب موعد الساعة (اقْتَرَبَتْ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ). وإنشقاق القمر يقع ضمن انشقاق السماوات وتفجير الأرض، أي زوال النظام الالهي الذي يمسك الأرض والنجوم والمجرات والسماوات (فَإِذَا انشَقَّتْ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ) (الرحمن 37)، ( إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ وَإِذَا الأَرْضُ مُدَّتْ وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ)(الانشقاق 1 : 5). وبتدمير العالم وتفجيره تقع الواقعة ويأتي اليوم الآخر بحضور رب العزة والملائكة وتمام تحكمه وزوال حرية البشر التي كانت لهم، ويتم عرضهم وحسابهم ( فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ وَحُمِلَتْ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً  فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتْ الْوَاقِعَةُ وَانشَقَّتْ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ)( الحاقة 13 : 18 ).

 

3 ـ هذا الهول القادم والذي يخبر به رب العزّة ويحذّر منه يقابله المشركون باتهام القرآن بالسحر والتكذيب واتباع الهوى برغم ما حفل به القرآن من أنباء السابقين والحكم والمواعظ، يقول جل وعلا (وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (3) وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ الأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4) حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ (5). وتكرر هذا في قوله جل وعلا في مفتتح سورة الأنبياء ( اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ)(الأنبياء1 : 6). فقد اقترب يوم الحساب والناس في غفلة معرضون لاهون يستمعون القرآن وهم يلعبون. هذا، مع أن الجيل الذي سيشهد وقوع الساعة سيشهد رعباً لامثيل له بحيث تذهل الأم المرضعة عن رضيعها، ويتم إجهاض الحوامل، ويكون الناس سكارى من الهول وليس من شرب الخمر. الله جل وعلا يحذّر منه مقدماً ويعتبره عذاباً في حدّ ذاته (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ )(الحج 1 : 2 ).

 

4 ـ يكون الحال أكبر هولاً عند البعث ومسير الناس وحشرهم إلى لقاء الرحمن، يقول جل وعلا في سورة القمر ( فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِي إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ (6) خُشَّعاً أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنْ الأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنتَشِرٌ (7) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِي يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ (8). يبدأ البعث بإنفجار تصحو فيه كل نفس من نومها أو موتها وتخرج من قبرها البرزخي بعد تدمير هذه الأرض، ثم بإنفجار آخر يتم حشرهم في جماعات وتجميعهم، يقول جل وعلا عن الانفجار الأول الذي يتم به البعث ( وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنْ الأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ)، أي يخرجون من قبورهم البرزخية كأن تلك القبور كانت حبلى بهم وقد تناسلوا منها، ويتعجبون ويتساءلون عمّن بعثهم من نومهم ( قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا)، ويأتيهم الرّد بأنه تحقيق لوعد الرحمن الذي كانوا به يكذّبون (هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ)، ثم يأتي الإنفجار التالي الذي يقذف بهم إلى ساحة الحشر والتجميع والعرض أمام الرحمن (إِنْ كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ) (يس 51). آيات سورة القمر تصف حالهم عند الانفجار الخاص بالبعث، حيث يخرجون خاشعة أبصارهم في ذلّ شديد (خُشَّعاً أَبْصَارُهُمْ) لا يستطيعون عصيان الداعي (مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِي) يتحسّرون من هذا اليوم الذي ينتظرهم (يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ).

 

يخرجون من قبورهم كأنهم جراد منتشر (يَخْرُجُونَ مِنْ الأَجْدَاثِ). الحديث هنا عن أنفس وليس عن أجساد فقد فنيت الأجساد البشرية في الأرض الفانية، وقبل فناء الأرض فإنها تسلّم للأرض التالية الباقية الخالدة البطاقة الخاصة بكل فرد فينا (وَإِذَا الأَرْضُ مُدَّتْ وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ) (الانشقاق 3 : 5). بالبعث تخرج النفوس من القبور طائرة كأنها الجراد المنتشر (يَخْرُجُونَ مِنْ الأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنتَشِرٌ). أو كالفراش الطائر المبثوث في كل ناحية  (يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ ) (القارعة 4). يخرجون جماعات واشتاتاً ليروا أعمالهم قبل أن ترتدي كل نفس عملها (يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ) (الزلزلة 6). يخرجون أفواجاً مثل أفواج المشركين حين يذهبون إلى موالد الأولياء ولكن مع ذلّة وإنكسار ( يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنْ الأَجْدَاثِ سِرَاعاً كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (44)( المعارج 43 : 44 ).

 

5 ـ بعده يأتي المحور التالي من السورة يذكر قصص بعض الأنبياء السابقين وما حدث لأقوامهم من هلاك:

يبدأ بقوم نوح: (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (9) فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10) فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12) وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (13) تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ (14))، ثم التذكير والتحذير وبيان تيسير القرآن للذكر والدعوة لمن يتذكّر ( وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (15) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (16) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17).

 

وقوم عاد: (كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (18) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (19) تَنزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (20)، ثم التذكير والتحذير وبيان تيسير القرآن للذكر والدعوة لمن يتذكّر ( فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (21) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (22).

 

 

ثم قوم ثمود: ( كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (23) فَقَالُوا أَبَشَراً مِنَّا وَاحِداً نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (24) أَؤُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (25) سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنْ الْكَذَّابُ الأَشِرُ (26) إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (27) وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (28) فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ (29)، ثم التذكير والتحذير وبيان تيسير القرآن للذكر والدعوة لمن يتذكّر (فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (30) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (31) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (32).

 

إلى قوم لوط: ( كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (33) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِباً إِلاَّ آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ (34) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (35) وَلَقَدْ أَنذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ (36) وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (37) وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ (38)، ثم التذكير والتحذير وبيان تيسير القرآن للذكر والدعوة لمن يتذكّر (فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (39) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (40).

 

ثم إلى قوم فرعون: (وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (41) كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (42).

 

6 ـ بعدها يتوجه رب العزة لنا بالخطاب، فهل كفّار عصرنا خير من الكفّار السابقين؟ أم لنا حصانة الاهية مكتوبة ومسجّلة ( أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُوْلَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ (43)؟ ولو إغتررنا بقوتنا فالهزيمة مآلنا ولن نستطيع الفرار من الله جلّ وعلا ( أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (44) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45). وأمامنا الساعة تنتظرنا ونحن نسير اليها قدماً، وهي أفظع وأشد مرارة (بَلْ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ(46). ثم يوم القيامة سيكون المجرمون في عذاب هائل خالد (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (47) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48). ولقد خلق الله جلّ وعلا هذا الكون بأرضه وسماواته وما بينهما من نجوم ومجرات وأفلاك بتنظيم مبدع وتقدير يجعل له نهاية مرتبطة ببدايته، وتأتي الساعة بأسرع من سرعة الضوء ( إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49) وَمَا أَمْرُنَا إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50). ثم يعود رب العزّة للتذكير بهلاك السابقين لعلنا نتذكر (وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (51)، وأن كل ما فعلوه مكتوب ومسطّر سواء صغر أم كبر (وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53). ويأتي ختم السورة بالبشرى لأصحاب الجنة، وهم المتقون الذين ينعمون بالقرب من الرحمن جل وعلا ( إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55).

 

ودائماً وأبداً : صدق الله العظيم .!!

الباب الخامس  :  غياب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يعني الإهلاك 

 الفصل الثامن  :  قراءة لسورة ( هود ) بحثاً عن وسائل لتفادي الهلاك      

 

 مقــدمة

1 ـ سورة (هود) تتشابه مع سورتي (الأعراف) و (الشعراء) في سرد قصص الأمم التي تعرضت للهلاك بسبب الظلم وتكذيب الأنبياء. ولكن تنحو سورة هود إلى التركيز على العبرة في نهايتها. والسور الثلاث تبدأ بالتركيز على القرآن الرسالة الخاتمة للبشر والمنذرة لهم  قبيل قيام الساعة، ومع الاشارة إلى بعض ملامح القيامة. ونستعرض هنا سورة هود سريعاً ثم نتوقف في خاتمتها مع كيفية تفادي الهلاك، ونحن نرى ملامحه تترى في بلادنا .

 

2 ـ أكتب هذا المقال في ثاني أيام مايو 2012 وقلبي يخفق هلعاً على بلدي مصر، إذ تترى أخبار حرب أهلية مصغّرة في ميدان العباسية بالقاهرة، البطل فيها هو الغموض، لا تعرف من الجاني ومن الضحية. وهذه هي البداية التقليدية للحروب الأهلية، حيث تلعب الأيدي الخفية في الداخل وهي تلعن المؤامرات الأجنبية، ثم تظهر وتتمايز العناصر الفاعلة المجرمة، ويسعى الفرقاء إلى قوى أجنبية يطلبون عونها ـ مع استمرارهم في التغني بلعن التآمر الأجنبي ـ وفي النهاية تنتشر الحرب الأهلية على اتساع الوطن، ويتأسّس لها إقتصاد حرب محلي واقليمي ودولي مرتبط بها ويعمل على استمرارها لضمان الربح  والنفوذ على حساب الضحايا، وهم الوطن والمواطنون. وهذه هي ملامح الإهلاك الجزئي الذي حدث في السودان والصومال ولبنان وليبيا، وحالياً في سوريا، وتبدو إرهاصاتها في مصر واليمن، ثم الاردن والخليج. دعنا نبحث عن الحل في سورة ( هود ).

 

أولاً :

1 ـ تبدأ سورة (هود ) بتمجيد القرآن كتاباً تم إحكام آياته من رب العزة، ثم الدعوة لعبادته وحده والدعوة للاستغفار والتوبة أملاً في النجاة في الدنيا وفي الآخرة (الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2) وَأَنْ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعاً حَسَناً إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (3) إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (4). ومع ذلك فالمشركون عن القرآن معرضون ( أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (5).

 

 

 

2 ـ وفي الآية السادسة يؤكّد رب العزة بعض ملامح الحتميات، وهي تكفله جلّ وعلا برزق كل كائن حي، ومعرفة بدايته ونهايته (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (6). ثم تؤكّد الآية السابعة الحرية المطلقة لنا في الدين والفكر والعمل، فقد خلق الله جلّ وعلا لنا السماوات والأرض لاختبارنا، والاختبار يعني حرية الاختيار (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَات ِوَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً). ومع ذلك فالمشركون عن القرآن معرضون، فهم لا يؤمنون بالآخرة (وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (7). وهم يطلبون العذاب إستهزاءاً، مع إنه حين يأتيهم يوم القيامة فلن يتركهم ولن ينصرف عنهم، وسيحيق بهم إستهزاؤهم (وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمْ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون (8).

 

3 ـ والانسان في مصطلح القرآن هو البشر العاصي. وهذا البشر العاصي (الانسان) يؤوس كفور،  فإذا أنعم الله عليه نعمة ثم نزعها منه كفر وأصابه اليأس ( وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ (9)، ويحدث له العكس إن أختبره الله جلّ وعلا بالنعمة بعد ضرر أصابه، فإذا به يغترّ. (وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ)(10)، المؤمنون الصابرون في إبتلاء المحنة و الشاكرون في إبتلاء النعمة مستثنون من هذا ولهم عند ربهم جلّ وعلا مغفرة وأجر كبير (إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (11).

 

4 ـ والمشركون في عنادهم يطلبون من النبي عليه السلام آية حسية بديلا عن القرآن كأن يكون له كنز أو يكون معه ملك من الملائكة، وهم في إلحاحهم عليه أصابوه بالضيق، ويؤكّد له ربّه جل وعلا أنه مجرد نذير، وأن الأمر كله لله جلّ وعلا (فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (12)، وهم لا يكتفون بطلب آية حسيّة عناداً أو طلب العذاب إستهزاءاً، بل هم أيضاً يواصلون الاتهام بأن محمداً قد إفترى القرآن من عنده، وأن القرآن ليس كلام الله جلّ وعلا، ويأتيهم التحدّي بأن يأتوا بعشر سور مثل سور القرآن مفتريات إن إستطاعوا، وإلّا فقد قامت عليهم الحجة، ويثبت أن القرآن من لدن الله جلّ وعلا  (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنْ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ (13) فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (14).

 

 

 

5 ـ بالإضافة للمشركين السابقين فهناك من الناس من لا يؤمن بالآخرة ولا يعمل لها، إذ قصر همّه وعزمه وعمله على هذه الدنيا، وعمل لها عملاً صالحاً. الله جلّ وعلا سيوفيه جزاءه الصالح  في الدنيا مقابل عمله الصالح فيها، ولكن ليس له في الآخرة إلّا النار (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ (15) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (16).

 

6 ـ وهناك من أهل الكتاب من يؤمن بالقرآن ولديه شاهد عليه في الكتب السماوية السابقة، ومنهم من يكفر بالقرآن، ومصيره النار (أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَاماً وَرَحْمَةً أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنْ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (17).

 

7 ـ ولكنّ أظلم الناس هو من يظلم ربّ العزّة، بأن يفتري على الله ورسوله كذباً يزعم أنه وحي من الله ـ كما يحدث فيما يعرف بالسّنة والأحاديث النبوية والأحاديث القدسية (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً)، وسيأتي الشهداء أو الأشهاد عليهم يوم القيامة يشهدون يوم الحساب على ضلالهم وإضلالهم الناس، ويؤكد الشهداء أو الأشهاد أو الشهود أن أولئك الظالمين كذبوا على الله جلّ وعلا وصدّوا عن سبيله يبغون العوج والفساد كفراً منهم بالآخرة وتمسكاً منهم بالدنيا التي لم تغن عنهم شيئاً، وهم الأخسرون فعلاً (أُوْلَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الأَشْهَادُ هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (19) أُوْلَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمْ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ (20) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (21) لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمْ الأَخْسَرُونَ (22). وفي المقابل فالجنة للذين آمنوا وعملوا الصالحات (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (23)، ولا يستويان مثلاً (مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالأَعْمَى وَالأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً أَفَلا تَذَكَّرُونَ (24).

 

ثانياً :

بعد هذا التوضيح لمواقف البشر من القرآن عند وبعد نزول القرآن، علينا أن نبحث حالنا في ضوء ما ذكره رب العزة في هذا الجزء الأول من سورة (هود)، هل نحن من فريق الأعمى والأصم أم من فريق البصير والسميع؟ هل نحن من الذين آمنوا وعملوا الصالحات أم من الذين كفروا وعملوا الكبائر والسيئات ؟ لنستعرض الآيات الكريمة السابقة لنرى حالنا .

 

 

1 ـ (الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1). هذا ما يقوله رب العزّة جل وعلا. أمّا علماء (المسلمين) فيؤمنون أن القرآن (حمّال أوجه) يعني أنه يحوي آراء مختلفة ومتناقضة، وما عليك إلا أن تنتقي منه ما تشاء بما يؤكّد رأيك المسبق، وبهذا يجعلون أنفسهم وآراءهم فوق القرآن، وبدلاً من الاحتكام للقرآن ـ وهو فرض (الأنعام 114)، فإنهم يستغلّون القرآن لأهوائهم الدينية والسياسية .

 

2 ـ (أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2). وهذا يخالف الأغلبية العظمى من المسلمين الذين يتوسلون بالقبور وعلى رأسها القبر المنسوب للنبي محمد عليه السلام، ولا يتصورون الحج بدون الحج إلى ذلك الرجس ـ أو القبر المنسوب له عليه السلام في المدينة. هذا هو الشرك أو الكفر العقيدي العملي. وهناك الشرك أو الكفر العقيدي العلمي وهو إتّخاذ ما أسماه رب العزة (لهو) أو إفتراء أحاديث وجعلها وحياً إلاهياً، وهذا يتخصص فيه السنيون أكثر. وهناك الكفر والشرك السلوكي بالإكراه في الدين وفتنة الأقلية في دينها، والاعتداء والظلم وقتل الأبرياء عشوائياً، وهذا يتنافس فيه السنيون والشيعة في العراق وايران ومصر والخليج. ويتفوق المسلمون بأديانهم الأرضية تلك على اليهود والنصارى وأديانهم الأرضية. وإذا كان بعض المسيحيين واليهود في عصر نزول القرآن يتخذون أحبارهم ورهبانهم أرباباً مع عبادة وتأليه المسيح  (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31) (التوبة)، فإن عدد الشيوخ والأئمة والأولياء المقدسين لدى المسلمين السنيين والشيعة والصوفية أضعاف عدد الأحبار والرهبان لدى اليهود والنصارى، وبينما تناقصت وتراجعت لدى الغرب وأمريكا هذه الخرافات الدينية وتم حصر وعزل أديانهم الأرضية داخل الكنائس والمعابد وانفضوا عنها يخترعون ويتمتعون بالدنيا فإن المسلمين لا يزالون على قبورهم المقدسة يعكفون ولا يزالون بأئمتهم يتوسلون، وإذا كان أئمة اليهود والنصارى في عهد نزول القرآن موصوفين بأنهم  (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ(32) (التوبة)، فالأئمة السنيون والشيعة والصوفية  يتفوقون اليوم في حربهم للقرآن وتمسكهم بتراثهم. ولو وقف مسلم من أهل القرآن أمام قبر مقدس للنبي أو الحسين وقرا قوله جل وعلا (أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2)، فستكون عاقبته وخيمة .!! مع أنه لم يقل سوى القرآن. وليست هناك عداء شخصي بينهم وبينه، إنّما هو العداء للقرآن طالما يعارض عقائدهم .

 

3 ـ (وَأَنْ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعاً حَسَناً إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (3)، هل يستغفر أغلب المسلمين ربهم وهل يتوبون اليه؟ لو فعلوا هذا لصاروا فخر البشرية، ولكنهم الآن عار البشرية. الأنباء السيئة تتواتر من عندهم وحدهم، من قتل وظلم وحروب، وهم فيها يستخدمون إسم الاسلام ويجعلونه مسئولاً عما يقعون فيه من جرائم، حتى لقد تعارف العالم على تسمية الارهابيين وتيارتهم المختلفة بالاسلاميين. يجعلون أديانهم الأرضية بمنأى عن العيب، ويصدّرون إسم الاسلام ليتحمل أوزارهم ..!! ولأنهم لا يستغفرون ولا يتوبون ولا هم يتذكرون فهم من المتاع الحسن المؤقت الدنيوي محرومون. يستوي في ذلك الحكام والمحكومون، لا يتمتع حكام سوريا والخليج ومصر والاردن والسودان وغيرهم براحة البال والطمأنينة. ولا يتمتع بها المحكومون السوريون والمصريون والسودانيون والعرب في الخليج والجزيرة العربية. حرموا أنفسهم من الأمن والمتاع الحسن الذي أعدّه الله جل وعلا للمؤمنين في الدنيا والآخرة وقال عنه (سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمْ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ (6) (محمد)، (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82) (الأنعام)، (مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97) (النحل)، (وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ (40) (غافر).

 

4 ـ (إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (4). الذي يؤمن باليوم الآخر وأن مرجعه إلى الله جل وعلا يوم العرض ويوم الحساب ويوم لقاء الله لا بد أن يعمل لهذا اليوم عملاً صالحاً مع قلب سليم. كم هي نسبة أولئك بين بليون ونصف بليون مسلم ؟ وفي المقابل كم هي نسبة المؤمنين بشفاعة النبي والأولياء بين (المسلمين) السنيين والشيعة والصوفية ؟ والايمان بهذه الشفاعة كفر صريح باليوم الآخر وكفر بالله ورسوله وباليوم الآخر. هناك فرق بين الشعارات وبين الواقع ..!!

 

5 ـ ( أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (5). كان مشركو قريش صرحاء في رفضهم للقرآن وكانوا يعلنون ذلك، فإذا رأوا النبي وسمعوه يقرأ القرآن غطوا وجوههم بثيابهم. أما مشركو (المسلمين) اليوم فقد ارتضوا سبيل النفاق، وينطبق عليهم قوله جل وعلا (وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمْ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10) (البقرة). وهناك بين مسلمي اليوم ملايين من الملحدين الذين يعلنون كفرهم بالقرآن، وهناك أضعاف أضعاف عددهم يرون القرآن لا يصلح لعصرنا وأنه مجرد وثيقة تاريخية. هذا عدا الأغلبية من السنة والصوفية والشيعة الذين لا يعرفون من القرآن ولا يؤمنون بالقرآن إلّا ما يتفق مع عقائدهم وأديانهم الأرضية وما يتفق مع تحريفاتهم فقط. السنيون يؤمنون بتحريفاتهم بأن لفظ الرسول يعني أحاديث البخاري وغيره، فطاعة الرسول عندهم ليس طاعة الرسالة أو القرآن بل هي عندهم طاعة البخاري ومسلم والشافعي وابن تيمية وابن عبد الوهاب وابن سعود وابن مفعوص .!!. والصوفية يؤمنون بأن أولياءهم هم المقصودون بقوله جل وعلا (أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) ولا يكملون ما بعدها (الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) (يونس).

 

وهم يكفرون بالقرآن إن قلت لهم ما ينطبق على حالهم وهو تقديس الأولياء وأنهم يكرّرون عبادة الجاهليين للأولياء وينطبق عليهم ما قاله جلّ وعلا عن الكفار الخاسرين (أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلاً (102) قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً (104) (الكهف)، والشيعة يؤمنون بتحريفاتهم بما يتفق مع تقديسهم (لآل البيت)  مثل (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119) (التوبة) وهم يرون أن (الصادقين) هم (علي وذريته).

 

وهم يكفرون إذا قلت لهم آية تخالف تأويلهم مثل (وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُتَّقُونَ (33) (الزمر)، فالذي جاء بالصدق قطعاً هو خاتم النبيين، وهو المحدّد بالاسم محمد رسول الله. ومن عداه ممن يستحق وصف التقوى لن نعرفه إلّا يوم القيامة. ولو كان (علي ابن أبي طالب) جزءاً من عقيدة الاسلام لنزل النّص على إسمه تحديداً، ولكنه شخصية تاريخية فقط مثل بقية الصحابة وليس جزءاً من الدين السماوي. ولكن عادة الأديان الأرضية أن تجعل الشخصيات التاريخية آلهة وتجعل تاريخها ديناً. يشترك في ذلك الكاثوليك والبروتستانت والارثوذكس والسنة وطوائف الشيعة  والصوفية وغيرهم ، تشابهت قلوبهم وإختلفت آلهتهم .!! .

 

6 ـ (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (6)، من السهل على المسلمين تكرارهذه الآية الكريمة، بل المعتاد قولهم بأن الرزق بيد الله جل وعلا. ولكن معظمهم لا يعتقد ذلك، بدليل أنهم يتحاشون قول الحق ويسكتون على الظلم حفاظاً على الرزق، ويقول أحدهم ( يا عم وأنا مالي .. أنا صاحب عيال) (خلينا نشوف رزقنا) وعلى هذا يسير ما يعرف الآن بحزب الكنبة في مصر. إيمانهم الحقيقي والواقعي والعملي أن الرزق بيد الحكومة وبيد صاحب العمل، وليس بيد الله جلّ وعلا. ويعصون أمر الله جلّ وعلا بالسير في الأرض التي جعلها الله جل وعلا لهم ذلولاً وأمرهم بالسير في مجاهلها بحثاً عن الرزق (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15) (الملك) وبدلا من ذلك فإن أغلب المسلمين يلتصقون بحكامهم يتحمّلون الجور والظلم ويتغنون بالصبر الذليل، ويعتقدون في الحاكم الظالم مالكاً للرزق، ويخشون إنتقاده حرصا على الرزق الآتي منه بزعمهم .

 

7 ـ (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (7). هنا تأكيد على حرية الدين ومسئولية كل فرد أمام رب العالمين يوم القيامة. ولكن لا يزال الاضطهاد الديني المذهبي سائداً في بلاد العرب والمسلمين. إنقشع من كل بلاد العالم ولا يزال مترسخاً ومتجذراً في بلاد المسلمين. وكان مشركو قريش صرحاء في الكفر بالبعث وباليوم الآخر، ولكن مسلمي اليوم يكفرون باليوم الآخر بأن يختلقوا يوماً للآخرة على هواهم يجعلون فيه النبي محمداً وأئمتهم وأوليائهم مالكي يوم الدين بدون رب العالمين .

8 ـ (وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمْ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون (8). وإذا كان مشركو قريش يستهزئون بالقرآن علناً وجهراً فإن مسلمي اليوم يقيمون حفلات للتغني بالقرآن، يتحول بها إلى أغنية، ويتحول بها الاهتمام إلى صوت (المقرىء) وليس لمعاني القرآن .

 

9 : 11 ـ (وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ (9) (وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ)(10) (إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (11). هذا واضح في تاريخ الانسانية. تلمسه وتراه في معظم البشر .

 

12 : 14 ـ (فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (12) (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنْ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ (13) فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (14). سبقت الاشارة إلى موقف مسلمي اليوم من القرآن ..

 

15 : 17ـ (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ (15) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (16)  (أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَاماً وَرَحْمَةً أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنْ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (17). ترى الآيات الكريمة تشير إلى نماذج موجودة بين المسلمين اليوم وبعض أهل الكتاب .

 

والآيات الكريمة من 18 :24 من سورة هود تتحدث عن المصير يوم الحساب، حيث سيقوم الأشهاد بالشهادة على شيوخ الإفك والبهتان، شيوخ الأديان الأرضية. (أُوْلَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الأَشْهَادُ هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (19) أُوْلَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمْ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ (20) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (21) لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمْ الأَخْسَرُونَ (22)  (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (23) (مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالأَعْمَى وَالأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً أَفَلا تَذَكَّرُونَ (24).

ثالثاً :

 

 يتضح بهذا أن مواقف الكافرين من القرآن عند نزول القرآن ينطبق على معظم المسلمين اليوم. وفي الجزء التالي من السورة نتوقف مع المشركين في قصص بعض الأنبياء السابقين والإهلاك الذي حدث لهم ، من قوم نوح إلى قوم فرعون... لنرى هل يتشابه معهم مسلمو اليوم ؟ 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الباب الخامس  :  غياب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يعني الإهلاك 

الفصل الثامن  :  قراءة لسورة (هود) بحثاً عن وسائل لتفادي الهلاك :( الجزء الثاني) 

 

بعد هذا التوضيح لمواقف البشر من القرآن عند وبعد نزول القرآن، يأتي الجزء التالي من السورة يحكي قصص أقوام نوح وعاد وثمود ولوط ومدين وقوم فرعون والإهلاك الذي حدث لهم . وقد إحتلّ هذا القصص في سورة هود من آية 25 إلى آية 99 . 

 

أولاً : موجز القصص :   

1 ـ كل نبي كان يدعو قومه بنفس الدعوة : لا اله إلا الله . لايقتصر على القول لهم (إعبدوا الله)، لأن ذلك يعني أن يعبدوا الله ويعبدوا غير الله، ولكن يقول لهم باسلوب القصر والحصر    (لا تعبدوا إلّا الله ) أو (إعبدوا الله ما لكم من إله غيره)، ونقرأ هنا ( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (25) أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ ) ، (وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ)، (وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ (61) ، (وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ).  في عقيدة المشركين أنه يكفي أن يكون الله جل وعلا معترفاً به وأن يكون الاهاً معبوداً لأن الالوهية شركة عندهم بين الله وآلهة اخرى أتخذوها لتقربهم إلى الله زلفى أو لأنها آلهة مستقلة بذاتها وليست واسطة. الاسلام هو كفر بكل اله غير الله وإيمان باله واحد هو الله ، لذا تأتي شهادة الاسلام (الواحدة ) لتقول بإسلوب القصر والحصر ( لا اله إلا الله ) ، أي ليس هناك اله سوى الله .

 

2 ـ كان نوح يدعو قومه بنفس الدعوة ( لا اله إلا الله ) فيرفض الملأ، ويؤمن الأقلية، وأكثرهم مستضعفون، ويأتي الإهلاك للكافرين، وينجو المؤمنون، ولا يلبث الشيطان أن يضل الذرية فيعود تأليه وتقديس البشر، ويأتي نبي جديد لقوم مستخلفين بعد قوم نوح هم قوم عاد. ويقول النبي الجديد لقومه (عاد) يذكّرهم بما حلّ بالسابقين من قوم نوح وكيف زادهم الله جل وعلا نعمة: (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (69)، ويردون عليه برفضهم عبادة الله جل وعلا وحده وتمسكهم بعبادة ما وجدوا عليه آباءهم ويطلبون آية على سبيل العناد (قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنتَ مِنْ الصَّادِقِينَ (70) (الأعراف). وينتهي الأمر بهلاكهم، ومجيء قوم آخرين هم قوم ثمود، ولا يلبث أن يضلّهم الشيطان فيرسل الله جل وعلا لهم النبي صالح، فيعيد وعظهم بلا إله إلا الله ، وأيضاً يذكّرهم بما حدث من هلاك لقوم عاد، وكيف أنعم الله جل وعلا عليهم :( وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ (74) (الأعراف).

 

وتتكرر القصة إلى أن نأتي لقوم مدين، ويقول لهم النبي شعيب يذكّرهم بما حدث للسابقين (وَيَا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (89) وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (90) (هود)، ويردّون عليهم بغلظة وبالتهديد بالرجم (قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفاً وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ (91) (هود). ونصل إلى فرعون وقومه لنرى مؤمن آل فرعون يعظ قومه يذكّرهم بما حدث من هلاك للسابقين (وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الأَحْزَابِ (30) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبَادِ (31) ( غافر).

 

 ثانياً : أئمة الضلال للمسلمين أصحاب الأديان الأرضية:

 

1 ـ وتنتهي مرحلة الإهلاك العام بقوم فرعون، ويأتي الانذار لنا في القرآن الكريم لكل من يسير على دأب فرعون ( كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمْ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (52) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (53) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ (54)( الأنفال).

 

2 ـ إي لدينا إثنان من أئمة الضلال : الأولون قوم نوح، والآخرون قوم فرعون. وهما معاً يعانيان من عذاب البرزخ لأنهما أئمة الضلال لمن جاء بعدهم. حين كان قوم نوح يسخرون منه وهو يصنع الفلك، كان يرد عليهم بما نفهم منه إنهم سيكونون أحياء يعذبون في البرزخ بعد غرقهم (وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ (38) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (39) (هود). هم سيعلمون في عذاب البرزخ من يأتيه عذاب يخزيه ويحلّ عليه عذاب مقيم، وسيعلمون من سينجو ومن سيتعرض للسخرية. لو كانوا ماتوا غرقاً ودخلوا في موت البرزخ فلن يشعروا بشيء إلا عند البعث. ونفس الحال مع فرعون وقومه، سيرى بعد غرقه هو وقومه تحقيق مخاوفه من بني اسرائيل (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُفْسِدِينَ (4) وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ (6)) (القصص). يقول جلّ وعلا إن قوم نوح دخلوا النار بعد غرقهم مباشرة (مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَاراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَاراً (25) (نوح) وقال عن فرعون وقومه أنهم في سوء العذاب الذي يسبق العذاب الأشد  يوم القيامة (وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46)( غافر).

ثالثاً : المسلمون يكررون سيرة الأمم الهالكة:

1 ـ باعتباره رسالة إنذار وبيان تحذير فقد حفل القرآن الكريم بكل هذا وعظا لنا، وهذا في حدّ ذاته آية إعجاز لأن المسلمين كرروا كل ما فعلته الأمم التي أهلكها الله جل وعلا. ومن المفهوم عقلاً أن ابليس لا يمكن أن يكون قد قدّم استقالته بنزول القرآن الكريم. لقد كان الشيطان يتلاعب بكل قوم ويضلّهم، وبعد هلاكهم يكرّر نفس الخديعة مع القوم اللاحقين، وبالتالي فبعد نزول القرآن ـ  وحتى الآن ـ فلا يزال ابليس يمارس وظيفته في الاضلال .

 

2 ـ وبهذا أصبح للمسلمين أديان أرضية تكرر عقائد السابقين وعباداتهم ولكن بلغات مختلفة، وبأسماء مختلفة. تتفق عقائد المشركين قبل وبعد نزول القرآن ـ في تقديس وعبادة البشر والحجر، وإطلاقهم عليها الأسماء، ثم تقديس الأسماء التي يعبدونها حتى تكون لهذه الأسماء رهبة .

قوم نوح عبدوا آلهة أسموها (ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر) وتمسكوا بعبادتها 950 عاماً  (وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً (23) (نوح) .

وقوم عاد رفضوا ترك عبادة الأسماء التي إخترعوها وصمموا على أن تكون شريكة لله جل وعلا في الالوهية وطلبوا آية حسية ( قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنتَ مِنْ الصَّادِقِينَ(70)، وردّ عليهم النبي هود بكل قوة يوبّخهم على جدالهم في أسماء اخترعوها وقدسوها وتوعدهم بالهلاك القادم (قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنْ الْمُنتَظِرِينَ (71) (الاعراف).

ونفس الحال مع مصر في عهد يوسف عليه السلام، إذ بدأ يوسف وهو في السجن يدعو صاحبيه وينتقد عبادتهم لأسماء سمّوها هم وآباؤهم ( يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمْ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39) مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (40) (يوسف)، وعلى نفس السّنة سارت قريش والعرب تسمّي اللات والعزى ومناة وتعبدها، فقال لهم رب العزّة ( أَفَرَأَيْتُمْ اللاَّتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى (20) أَلَكُمْ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنثَى (21) تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَى (22) إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمْ الْهُدَى (23) (النجم).

 

والمسلمون بعد نزول القرآن عبدوا أسماء، قاموا بتسميتها بأنفسهم وقدسوها ويرتعبون من المساس بها، فإبن برزويه المجوسي أصبح إسمه البخاري، ولو رفعت صوتك تلعن ابن برزويه فلن يلتفت اليك أحد، ولكن لو تعرضت لاسم البخاري بأي نقد لأصيب السامع بالذعر لأن إسم البخاري مقدس. ونفس الحال مع (علي بن عبد الجبار) لو لعنته ما اهتم أحد، ولكن لو تعرضت لأبي الحسن الشاذلي بسوء قامت قيامة الصوفية عليك، مع أن (المدعو) علي بن عبد الجبار هو نفسه الشاذلي، ولكن إسم الشاذلي مقدس وقد غطى على الاسم الحقيقي له، وكذلك الحال في (أحمد بن علي بن ابراهيم) وهو (السيد أحمد البدوي) ونفس الحال مع ابي حامد الغزالي، وإسمه الحقيقي (محمد بن محمد بن محمد بن أحمد)..ألخ .. أي يعبد المسلمون أسماء ما أنزل الله جل وعلا بها من سلطان . وإلّا فهل جاءت في القرآن تلك الأسماء ( المقدسة)؟   

 

3 ـ كرّر المسلمون نفس الشرك الذي وقعت فيه الأمم الضالة المهلكة :

أقوام نوح وعاد وثمود لم يعرفوا الشذوذ الجنسي لأن قوم لوط كانوا أول من مارسه من البشر: (وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ الْعَالَمِينَ (80) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (81) (الاعراف)، والمسلمون منذ العصر العباسي وحتى الآن وهم غارقون في هذه الرذيلة، بل إن الشذوذ الجنسى يعتبره الدين الصوفي شعيرة دينية .!!.

ولم يرد في قصص قوم نوح وعاد وثمود أنهم احترفوا الخداع في الكيل والميزان وأكل أموال الناس بالباطل، فقد تخصّص في هذا قوم مدين فيما بعد (وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84) وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85) (هود). والمسلمون اليوم تفوقوا على قوم مدين .!!. مع  وصايا رب العزة المتكررة لهم بالوفاء بالكيل والميزان (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ  (152) (الأنعام)، (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (35) (الاسراء)،     (أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (9) (الرحمن)،       (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6) كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) (المطففين).

 

 ولم يعرف قوم مدين ومن سبقهم الاستبداد الفرعوني الذي يجعل المستبد يزعم الالوهية. ولكن تجذّر الاستبداد في تاريخ المسلمين، والمستبد السّني والشيعي يزعم الالوهية ضمناً في أغلب الأحوال وقد يعلنها صراحة مثل الحاكم الفاطمي .

 

المستفاد أن كل قوم من الأقوام المهلكة الملعونة قد تخصصت في رذيلة مع الشرك، ولكن المسلمين عرفوا كل تلك الرذائل بالاضافة للشرك والكفر ..هذا مع وجود القرآن بينهم .

 

 

 

 

رابعاً : الشيطان هو الاله الفعلي في أديان المسلمين الأرضية:

 

1 ـ عبادة وتقديس القبور أبرز ملامح الكفر العقيدي العملي. وبعض الصحابة ظل يعبد القبور (الأنصاب) ويشرب الخمور ويدمن الميسر، فكان من اواخر ما نزل من القرآن قوله جل وعلا لهم ـ ولنا ـ ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ (91) (المائدة). أكّد رب العزة أنها صناعة شيطانية، وقال لهم (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ) ؟ ولم ينتهوا. وحتى الآن فالتصوف والتشيع لدى المسلمين يقومان على تقديس وعبادة القبور. ونسبة الأحاديث  كذباً للوحي الالهي هي صناعة شيطانية وملمح أساس من الكفر العلمي قام على أساسه الدين السّني .

 

 2 ـ وتلاعب الشيطان بعقائد المسلمين فأضلهم وأعاشهم في خرافات الشفاعات فأصبح من المعلوم لديهم بالضرورة أنهم أصحاب الجنة مهما ارتكبوا من كبائر، أي حق عليهم وعيد الشيطان إذ قال (وَلأضِلَّنَّهُمْ وَلأمَنِّيَنَّهُمْ) فلكي ينجح الاضلال فلا بد أن يقترن بأمنيات الشفاعات، أي يرتكب الانسان الكبائر متشجعاً بأنه سيجد النبي يشفع فيه، أو أنه سيدخل الجنة بمجرد نطقه ( الشهادتين ) بزعمهم. وهكذا ظل ويظل الشيطان يعد ويمنّي أولياءه ( وَمَنْ يَتَّخِذْ الشَّيْطَانَ وَلِيّاً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُبِيناً (119) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمْ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً (120)، وفي النهاية فمصيرهم إلى جهنم (أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصاً (121) ) (النساء). وهناك في جهنم سيتبرأ منهم الشيطان (وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِي مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (22) (ابراهيم).

 

3 ـ وبخداع الشيطان فإنّ أصحاب تلك الديانات الأرضية يعتبرون من الجهاد في سبيل الله جل وعلا أن يتقاتلوا فيما بينهم، وأن يسفكوا دماء الأبرياء عشوائياً في الأسواق والشوارع والمساجد والمواصلات. لم يفعل ذلك المنافقون في عهد خاتم النبيين عليهم السلام، ومع ذلك قال جلّ وعلا يوبخهم (  فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمْ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ (23) أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24) إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ (25) ( محمد).

 

 

 

4 ـ وبخداع الشيطان فإنّ أصحاب تلك الديانات الأرضية يعكفون على أوثانهم المادية (القبور) والمعنوية (التراث وأسفاره المقدسة عندهم) وهم راضون مطمئنون يحسبون أنهم مهتدون (أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلاً (102) قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً (104) (الكهف)، فقد زيّن لهم الشيطان سوء عملهم فرأوه حسنا (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (8)( فاطر ) .

لذا لم تعد لديهم مشاكل تؤرقهم إلا نشر الاسلام في مجاهل أفريقيا والقطبين، وفرض الحجاب والنقاب على النساء، فقد تمّ بالنسبة لديهم تعمير القلوب بالدين الحق في نظرهم ولم يعد باقياً إلا المظاهر السطحية في الداخل (الحجاب والنقاب) وفي الخارج نشر الاسلام في شتى بقاع العالم .

 

5 ـ وبخداع الشيطان تراهم يعتقدون أنهم في حصانة من كيد الشيطان وإضلاله، أي إن الشيطان يمارس عمله بكل كفاءة مع غير المسلمين فقط، أما المسلمون فهم في مأمن منه، أي أن المسلمين إهتدوا تماماً بعد نزول القرآن ولا يزالون مهتدين حتى الآن وسيظلون على الصراط المستقيم متمسكين إلى يوم القيامة، وسيظلون إلى آخر يوم في هذه الدنيا وهم خير أمة أخرجت للناس.

 

وانه ليس فيهم ملل ولا نحل ولا مذاهب ولا طوائف ولا إقتتال ولا تفرق في الدين، وأنهم سمعوا وأطاعوا عندما قال لهم رب العزة (وَلا تَكُونُوا مِنْ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنْ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32) (الروم) . بعض أنواع الماعز تعتقد هذا وتتصرف على هذا الأساس .

 

6 ـ تلك الماعز (البشرية) تنكر الحاضر والماضي الذي يشهد بأن المسلمين اقتتلوا ولا يزالون، وأن اختلافهم السياسي أنتج أدياناً أرضية لا تزال متحكمة وسائدة، وبها تخلّف المسلمون ولا يزالون. هذه الماعز تنكر أيضاً القرآن الكريم ليس فقط في أن أديانها تتناقض مع القرآن الكريم، وليس فقط في أن أديانهم الأرضية تكرر وبنفس التفصيلات ما قالته الأمم التي أهلكها الله جلّ وعلا، ولكن أيضاً تنكر ما جاء في القرآن الكريم عن يوم القيامة حين سيقول رب العزة يؤنب بني آدم (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62)( يس). أي سيظل الشيطان يمارس عمله في الاضلال مع كل جيل دون يأس، يأتيهم من كل طريق (قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14) قَالَ إِنَّكَ مِنْ الْمُنظَرِينَ (15) قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17)(الاعراف)، وبالتالي فهو يمارس عمله بكل نجاح مع المسلمين وسيظل يمارس إضلاله لهم إلى قيام الساعة، يخدع كل جيل.

وسيأتي المسلمون وغيرهم ليسمعوا التأنيب الالهي لهم ( أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62)( يس ).

 

أخيراً:

1ـ هذا الواقع القرآني واضح إنطباقه على أصحاب الديانات الأرضية من المسلمين الذين يموتون متمسكين بعقائدهم الضالة مع وجود القرآن بينهم. ولولا أنّ القرآن محفوظ بقدرة الله جل وعلا لكانوا قد حرفوا ألفاظه، ولم يكتفوا بحريف معانيه وإبطال وحذف تشريعاته بزعم النسخ .!!

 

2ـ إذن ما الذي يمنع حدوث الإهلاك؟ لقد تكرر الإهلاك الجزئي في تاريخ المسلمين، وسنتعرض له في الجزء التاريخي من هذا المبحث. ولكن لا زلنا مع سورة (هود) .. وبعد أن عشنا مع جزأيها يبقى أن نتوقف مع دروسها التي يمكن بها تجنب الإهلاك. خصوصاً والمسلمون اليوم على حافة الإهلاك ..

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الباب الخامس  :  غياب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يعني الإهلاك 

الفصل التاسع :  قراءة لسورة ( هود ) بحثاً عن وسائل لتفادي الهلاك : (الجزء الثالث ) 

 

عرض للجزء الثالث من سورة هود :

 

أولاً : تعليق على ما سبق من قصص الماضين :

1ـ بعد قصّ القصص قال جل وعلا (ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ (100)، أي من تلك القرى التي قصّ رب العزة قصتها ما يزال قائماً بآثاره ومنها ما اندرس ولم يبق منه أثر. وقلنا من قبل إن مصطلح (القرية ـ القرى) يعني الدولة والمجتمع الذي قد يضم مدينة ومدناً .

 

2ـ وتلك القرى البائدة المهلكة ـ بفتح اللام ـ ظلمت نفسها بتمسكها بعبادة آلهة كانت تتوسل بها، وحين جاء الهلاك لم تنقذهم تلك الألهة المزعومة، وما زادوهم إلّا خسارا، أي فهم الظالمون لأنفسهم ولم يظلمهم رب العزة (وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمْ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (101) .

 

3ـ وهكذا كان تدمير رب العزّة جلّ وعلا للقرى الظالمة، وهو عذاب شديد (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102) .

 

4ـ وبعد الحديث عن الأقوام الهالكين الماضين، يتجه الخطاب لعصر القرآن الكريم للعظة. يعظهم ليس فقط الإهلاك في هذه الدنيا، بل ما هو أكبر وهو عذاب الآخرة الذي سيشهده البشر جميعاً (إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (103).

 

5ـ وتأتي أوصاف هذا اليوم، فهو يوم قد إقترب، وهو أجل معدود ( وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لأَجَلٍ مَعْدُودٍ (104).

 

6ـ وفي هذا اليوم لن تستطيع نفس أن تتكلم إلّا بإذن الرحمن، وحين يأتي وقت حسابها، وينجلي يوم الحساب عن تقسيم الناس إلى أشقياء وسعداء ( يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105).

 

 

7ـ الأشقياء في النار يصطرخون بين زفير وشهيق، وفي النار يظلون خالدين بمشية الله جل وعلا الذي اراد وشاء الأبدية أو الخلود الأبدي في الزمن ( فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتْ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (107).

 

8ـ وهو نفس الخلود الأبدي للسعداء أصحاب الجنة، وفيها يتمتعون بعطاء غير مقطوع ولانهائي (وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتْ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108).

 

ثانياً : الإهلاك وتشابه قلوب المشركين قبل وأثناء وبعد نزول القرآن الكريم :

 

1ـ والحقيقة ان الرسالات السماوية هي جمل إعتراضية في تاريخ البشر الديني المستمر في الشرك والضلال قبل وبعد كل رسالة سماوية. فالرسول يأتي بالاصلاح، ويتم إهلاك المشركين وينتصر الحق، ويلبث فترة ـ أو جملة اعتراضية ـ يعود بعدها الشرك كما كان. حدث هذا في قريش التي كررت كل ملامح الشرك التي عرفتها الأمم السابقة، لذا يقول رب العزة لخاتم المرسلين أن يتيقن من تكرار قريش لكل ملامح الشرك السابق وأنهم سينالون نصيبهم غير منقوص ( فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنقُوصٍ (109). وهنا نتوقف مع تشابه المشركين ووحدة الدين الالهي لكل الأنبياء وكل الرسالات السماوية، ونزل القرآن الكريم رسالة خاتمة للبشرية قبل قيام الساعة يوضّح  ملامح الكفر في كل زمان ومكان، ويحذّر من الإهلاك الجزئي ويحذّر من عذاب يوم القيامة الذي إقترب .

 

2ـ قال جل وعلا لخاتم المرسلين عن كفر قريش بالقرآن في سورة (فصلت): (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41)، ثم قال عن القرآن الكريم (لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42)، أي هو ـ خلاف الكتب السماوية السابقة محفوظ من لدن الله جلّ وعلا لأنه لن يأتي كتاب سماوي بعده، ولن يرسل الله جلّ وعلا نبياً بعد خاتم الأنبياء. لذا يقول رب العزة لخاتم المرسلين عن وحدة الدين الالهي والقرآن وعن مشركي قريش (مَا يُقَالُ لَكَ إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ) أي ما يقال لك من وحي سبق قوله بلغات أخرى للأنبياء السابقين. وما يقال لك من تكذيب وعناد سبق قوله من الأمم السابقة لأنبيائهم .

 

 

 

3ـ وعن وحدة الوحي الالهي لكل الأنبياء يقول جل وعلا ( إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً (163) وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً (164)(النساء). وعن وحدة التشريع الأساس لكل الأنبياء يقول جل وعلا ( شَرَعَ لَكُمْ مِنْ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ (13) (الشورى). وعن وحدة الأمر بلا اله ألا الله في كل الرسالات السماوية يقول جل وعلا (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ (25) (الأنبياء)، بل جاء التحذير موحداً لكل الأنبياء من الوقوع في الشرك لأنه يحبط العمل الصالح (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ (65) بَلْ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنْ الشَّاكِرِينَ (66) (الزمر)، جاء هذا بكل اللغات التي كان يتكلم بها كل نبي وقومه ثم كرّرها وأكّدها القرآن الكريم، ومع ذلك يتناقض معها المسلمون في أديانهم الأرضية..

 

4ـ وعن وحدة التكذيب من كل المشركين مع اختلاف الزمان والمكان واللسان يقول جل وعلا عن طلبهم آية حسية (وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118) (البقرة). أي تشابهت قلوبهم في إجماعهم على طلب آية حسية عناداً. وهم يقرنون طلبهم لآية حسية بإتهام النبي محمد بأنه ساحر أو مجنون. وهو نفس الإتهام الذي كان يقال للأنبياء السابقين، كأنما تواصى أولئك المجرمون الطغاة على هذا الإتهام من قوم نوح إلى قريش. عن اتهامهم النبي بالسحر والجنون (كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52) أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (53) (الذاريات) .

5ـ والعادة أن القادة في الصّد عن سبيل الله جلّ وعلا هم الملأ المترف. ويقول جلّ وعلا عن تمسك المترفين بعبادة مما وجدوا عليه آباءهم وتراثهم أو ثوابتهم الدينية المتوارثة (بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22) وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23) (الزخرف). والعادة ان الملأ المترف الحاكم المسيطر المتسيد هو الذي يكره الاصلاح لأن الاصلاح يعني زوال إمتيازاته وانتهاء ظلمه وسيطرته، لذلك يستكبرون على الحق ويتآمرون على الرسل ويعتبرون أنفسهم أولى من الرسل بالاصطفاء الالهي، يقول جلّ وعلا مؤكداً على قاعدة بشرية اجتماعية ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (123). وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ (124) (الأنعام). وهذه القاعدة القرآنية كأنما نزلت في أيامنا هذه ..سبحان الله العظيم .!!

6ـ يتبع هذه القاعدة في إجرام المترفين قاعدة أخرى في إهلاكهم طالما يتمسكون بالظلم والفسق  ويرفضون الأمر الالهي بالعدل (وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً (16)، وقد تكرر هذا فيما سبق من قرون من بعد نوح  (وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (17). ولذا سيتكرر الإهلاك الجزئي أو التعذيب حتى يوم القيامة نظراً لأن الظلم هو العملة السائدة في دنيا البشر ( وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَاباً شَدِيداً كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُوراً (58)(الاسراء).

7ـ تشابه قلوب المشركين في كل عصر جاء تعبير القرآن عنه غاية في السّمو والاعجاز الفصاحي في سورة (ابراهيم)، إذ جعلهم مع المرسلين يتحاورون كما لو كانوا يعيشون في نفس الزمان والمكان ويتكلمون بنفس اللسان، فيقول المشركون كلهم كذا ويرد عليهم الرسل كذا. يقول جلّ وعلا ( أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (9) قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (10) قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ (11) وَمَا لَنَا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُتَوَكِّلُونَ (12) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَلَنُسْكِنَنَّكُمْ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ (14) (ابراهيم). وتنتهي الايات بالإهلاك واستخلاف المؤمنين، ثم تعود القصة وهكذا. ومن هنا تأتي العبرة و العظة والنصائح في سورة هود. هذا توضيح قرآني لما جاء في قوله جل وعلا في سورة (هود) ( فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ (109). والقرآن يفسّر بعضه بعضاً، ويشرح بعضه بعضاً.

 

8ـ ونعود إلى سورة هود وهي تتحدث عن انتهاء مرحلة الإهلاك الكلي بفرعون وقومه ومجيء مرحلة تالية بنزول التوراة برغم اختلاف بني اسرائيل فيها، ولولا أن كلمة الله جل وعلا قد سبقت بانتهاء مرحلة الإهلاك الكلي لأهلكهم الله جل وعلا، ولكن توفية أعمالهم ستأتي يوم القيامة يقول جل وعلا ( وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (110) ( وَإِنَّ كُلاًّ لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (111). وتكرر هذا المعنى في قوله جلّ وعلا عن مجيء التوراة فصلاً جديداً  بعد إهلاك الأمم السابقة إهلاكاً تاماً وجماعياً (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (43)( القصص).

ثالثاً: نصائح ووعظ للنبي محمد والمؤمنين في الحقبة الأخيرة من وجود البشر في هذا الكوكب الأرضي :

1ـ فحتى ينجو النبي محمد عليه السلام والمؤمنين معه من مصير المشركين لا بد من الاستقامة، أي التمسك بالصراط المستقيم وهو الكتاب والتقوى، ولا بد من تجنب الطغيان المناقض للتقوى والاستقامة، والله جل وعلا بما يعملون بصير (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112).

 

2ـ وتجنب الطغيان يعني تجنب الطغاة الظالمين وعدم الوثوق بهم، وإلّا فمن يثق بهم ويركن اليهم سيكون شريكاً معهم في العذاب القادم (وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمْ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنصَرُونَ (113).

 

3ـ ثم التمسك بإقامة الصلاة، ليس مجرد تأديتها ولكن أن تصلّي الصلوات الخمس خاشعاً وقت صلاتك، ثم تحافظ على صلاتك بعدم الوقوع في الفواحش أو الظلم بين الصلوات الخمس، وبهذا فإن الحسنات تمحو السيئات وتقلل من فرص الوقوع فيها، فمن يشغل نفسه بالطاعة لن يجد وقتاً للعصيان، وهذه موعظة لمن يعي ويتذكر ولا ينال هذا الا الصابرون المحسنون (وَأَقِمْ الصَّلاةَ طَرَفِي النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنْ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (114) وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (115).

 

4ـ وأهم العبر المستفادة من إهلاك الأمم السابقة أنهم انقسموا إلى ملأ مستكبر ومعهم أتباعهم في جانب الظلم والعدوان مقابل النبي والقلة المستضعفة التي معه والتي لا تستطيع الدفاع عن النبي وعن أنفسها. لذا كان يأتي التدخل الالهي بإهلاك المعسكر الظالم الرافض للإصلاح. ولو ظهر عنصر ثالث ينصر الحق ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ما حدث إهلاك، لأن هذا الصنف الآمر بالمعروف سيحدث نوعاً من التوازن وسيضم اليه عناصر من الملأ ومن اتباع الملأ، وبالتالي سيكون هناك أمل في الاصلاح، وهذا الأمل في الاصلاح يمنع الإهلاك. لم يحدث وجود عنصر فاعل يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر لذا جاء الهلاك ولم ينج منه إلا الأنبياء والمؤمنون. وهذه هي العظة الكبرى في تاريخ الأنبياء ، يقول جلّ وعلا ( فَلَوْلا كَانَ مِنْ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنْ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ (116). وتؤكد الآيه التالية على شرط الإهلاك وهو تمسك الظالمين بظلمهم ورفضهم دعوة الاصلاح  ( وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (117).

 

ومن هنا تأتي أهمية تطبيق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تجنباً للهلاك الجزئي. ولكن الذي يحدث أن أديان المسلمين الأرضية منها ما نبذ بالكامل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مثل التصوف، ومنها من بدّل المعروف إلى منكر والمنكر إلى معروف، وفعل مثل المنافقين والمنافقات في عصر نزول القرآن في المدينة حين كانوا ينهون عن المعروف ويأمرون بالمنكر. ولهذا تعرض المسلمون خلال تاريخهم في العصور الوسطى والحديث والمعاصر لسلاسل من العذاب والإهلاك الجزئي . وسنعرض لذلك في أوانه.

 

5ـ وجوهر الموضوع هنا هو أن الله جلّ وعلا خلق الناس أحرار ليختبرهم، وبالحرية التي يتمتعون بها عصى الأكثرية وحدث الاختلاف والشقاق، وسيظل الاختلاف قائماً ما بقيت الانسانية ولهذا خلقهم الله جلّ وعلا أحراراً مختلفين، ولكن ينجو من هذا الاختلاف من يبحث عن الهدى مخلصاً ويتمسك به، وأولئك المهتدون بالحق الالهي لا يختلفون طالما يتبعون الحق ولا يتبعون الهوى. المأساة أن المهتدين قليلون، ولهذا فإن جهنم ستمتلىء بالضالين من الانس والجن الذين أساءوا استعمال الحرية، والذين إختاروا الضلال وحاربوا الهدى. يسري هذا في كل زمان ومكان قبل وأثناء وبعد نزول القرآن. يقول جل وعلا : ( وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119).

 

6ـ وبالتالي فإن من سمات الظلم في الأديان الأرضية ظاهرة الإكراه في الدين، وفرض الدين الأرضي بل وأحياناً مذهباً من مذاهبه على الناس. وتتعاظم الخطيئة حين يستغل الظالمون سيطرتهم ونفوذهم في إضطهاد المصلحين وطردهم، وهو ما كان يفعله المشركون الظالمون مع الأنبياء، وسبق الاستشهاد بآيات سورة (ابراهيم) في هذا الخصوص، وكان طرد النبي أو التهديد بطرده من علامات الإهلاك القادم. وهنا نسترجع قوله جل وعلا (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَلَنُسْكِنَنَّكُمْ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ (14).( ابراهيم ). ونتذكّر بكثير من التدبّر ذلك الوعد الالهي ( .. فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَلَنُسْكِنَنَّكُمْ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ (14) (ابراهيم). وكان العذاب مؤجلاً لقريش طالما لم يرتكبوا جريمة طرد النبي، فقال جل وعلا لهم ( وإذ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنْ السَّمَاءِ أَوْ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (32) وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33)) (الأنفال)، ( وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنْ الأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً (76) سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً (77) (الاسراء)، وبالتالي كان هذا القصص القرآني لتثبيت فؤاد النبي ووعظه وليكون ذكرى للمؤمنين  يقول جلّ وعلا ( وَكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (120).

 

 

7ـ أما بالنسبة للكفار المعاندين الذين لا أمل فيهم فعلينا أن نرضى لهم ما ارتضوه لأنفسهم، وأن يظلوا على دينهم وعقائدهم كما نتمسك نحن بديننا وعقائدنا، أي لهم دينهم ولنا ديننا، وهذا هو منتهى العدل. وننتظر نحن وهم يوم القيامة حين يحكم الله جلّ وعلا بيننا وبينهم. وهذا هو القول الذي أمرنا الله جل وعلا أن نقوله للمشركين المعاندين (وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ (121) وَانتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ (122). وهنا تأكيد على حرية الدين والاعتقاد وتسليم الأمر لله جل وعلا لأن يحكم بين المختلفين دينياً في يوم الدين، وبالتالي فلا حاجة للتناحر الديني أو الاكراه في الدين، بل المسالمة واحترام حق كل فرد في حريته الدينية في العقيدة وفي العبادة وبل وفي الدعوة لما يؤمن به بلا ضغط أو إكراه للآخرين. لو تم هذا فسيكون السلام هو العملة المتداولة بين الناس مهما إختلفت أديانهم ومذاهبهم وطوائفهم. ولكن من شيمة الكفر هو ذلك الإكراه في الدين، كما يفعل أتباع الدين السني بقتل الفرد المخالف بما يسمى بحدّ الردة، وقتال الأمم المخالفة في الدين حتى لو كانت مسالمة لم تعتد على المسلمين طبقاً لحديث البخاري الذي يشرّع القتال لارغام الأمم الأخرى على دخول الاسلام ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا ..). وبالتالي فإن الله جل وعلا يضع سبل السلامة والنجاة من الهلاك بأن يدخل الناس في السلم كافة، وأن يتركوا الحكم لله تعالى في الدين إلى يوم الدين، وهذا معنى أن يكون الدين كله لله جل وعلا يحكم فيه بين الناس فيما هم فيه مختلفون، وأن يكون الناس جميعاً أحرار في كل ما يخصّ الدين من عقيدة وعبادة ودعوى ليكونوا مسئولين أمام رب العزة يوم الدين. فالدين أساسه الحرية في هذه الدنيا، وأساسه مسئولية الناس عن حريتهم يوم الدين الذي هو يوم الحساب. بدون ذلك يكون احتمال العذاب والإهلاك الجزئي وارداً .

 

8ـ وفي النهاية فـ لله جلّ وعلا وحده العلم بالغيب واليه وحده يرجع الأمر كله، وعلينا نحن أن نعبده وحده وأن نتوكل عليه وحده وأن نستعين به وحده جلّ وعلا، فهو الذي يعلم ما نخفي وما نعلن، وكان هذا ختام سورة (هود) : (وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123).

 

ودائما ـ صدق الله العظيم .

 

 

 

 

 

 

الأمـر بالـمـعــروف والـنـهـي عــن الـمـنـكــر في الاسلام
كتاب (الأمـر بالـمـعــر وف والـنـهـي عــن الـمـنـكــ ر بين الاسلام والمسلمين) يتناول فى دراسة تحليلية أصولية تاريخية التناقض بين الأمـر بالـمـعــر وف والـنـهـي عــن الـمـنـكــ ر بين الاسلام والمسلمين. وهذا الجزء الأول يتعرض فى لمحة عامة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فى الاسلام بتأصيل مفهوم المعروف والمنكر قرآنياً وتشريعياً ومدى تطبيقه في الدولة الاسلامية في إطار الحرية الدينية المطلقة للفرد، ثم تعقبه ـ فيما بعد بعون الله جلّ وعلا ـ الأجزاء التالية تتبع مسيرة الأمـر بالـمـعــر وف والـنـهـي عــن الـمـنـكــ ر في تقعيدات وتنظيرات فقهاء المسلمين وفي تاريخهم من عصر الرسالة والصحابة
more