رقم ( 2 )
مقــدمة

مقــدمة  

أولا :

ساد التعصب الديني معظم العالم المعروف في القرون الوسطى. مصر كانت استثناء، إذ قام التدين المصري على أساسين هما: الصبر والتسامح، الصبر على جور الحاكم والتسامح مع الآخر. صحيح أنه كانت هناك بعض حركات تعصب ضد أهل الكتاب، ولكنها كانت جملة اعتراضية في التاريخ المصري الإسلامي، علاوة على أنها كانت في الأغلب - بفعل عامل خارجي-، مثل حاكم متعصب أو فقيه متعصب زائر، وسرعان ما تمر الأزمة ويعود الوئام، ويعود المصري لما تعود عليه خلال تاريخه الطويل، إلى الصبر والتسامح والتندر على الظالمين وصراعاتهم وتقلب الزمن بهم صعوداً وهبوطاً.

مقالات متعلقة :

وهذا التسامح المصري في العصور الوسطى كان مبعث الدهشة للرحالة والفقهاء الزائرين، خصوصاً من أتى منهم من مناطق تموج بالتعصب، وكل منهم كان يعبر عن دهشته من انصراف العابد إلى عبادته، والماجن إلى مجونه، وكيف تمتلئ المساجد بروادها والحانات بمرتاديها، ولا ينكر هذا على ذلك، وكل منهم مشغول بما هو فيه، نقرأ هذا الكلام فيما كتبه المقريزي في الخطط عن شيخه العلامة ابن خلدون، وفيما كتبه الفقيه المغربي ابن الحاج في "المدخل" عن شيخه العراقي، وفيما كتبه الرحالة المغربي ابن ظهيرة في كتابه "الفضائل الباهرة في محاسن مصر والقاهرة".

ولذلك فإن المصريين في العصر المملوكي لم يستجيبوا لدعوة ابن تيمية الذي لاقى رواجاً في الشام حيث تسود الطائفية والتعصب، بل إن المذهب الحنبلي المتشدد الذي كان عالي الصوت في الشام والعراق اختلف وضعه في مصر، حيث تأثر بالتسامح المصري فترك تشدده . ومن العجيب أنه في الوقت الذي احتدم فيه الصراع المذهبي الفقهي في الحجاز والشام والعراق فإنه كان من السهل في مصر أن ينتقل فقيه من مذهب إلى آخر حسب أطماعه الوظيفية. وتلك الحالة عجيبة لم نرى مثيلاً لها خارج مصر في العصور الوسطى.

ولذلك فإن التصوف كان الأقرب إلى طبيعة التدين المصري، لذا انتشر فيها وساد منذ القرن الخامس الهجري. فقد احتوى التصوف كل العقائد المصرية القديمة وصاغها في أشكال تحمل رموزاً إسلامية. واشترك المصريون جميعاً من أقباط ومسلمين في تأدية نفس الطقوس وفي نفس المناسبات، كالموالد والقبور المقدسة والاعتقاد في الأولياء والقديسين، وقد فصلنا الحديث في ذلك في كتابنا "شخصية مصر بعد الفتح الإسلامي". وفي هذا الإطار كان التسامح مع الآخر، و"التسليم بحالته وطريقته" هو دستور التعامل في مصر، بينما كان "تغيير المنكر" بالقوة هو الدستور الآخر خارج مصر، حيث كان تغيير المنكر يتحول إلى ثورات عارمة فيما بين إيران والشام. والعجيب أن يظهر التعصب والتزمت الحنبلي في مصر في عصرنا الحديث، عصر حقوق الانسان والديمقراطية والدعوة للتسامح والإخاء الديني. والسبب هو دين الوهابية السعودية الذي ظهر في منطقة نجد في الجزيرة العربية.

 

 

 ثانياً: التدين في نجد بين الماضي والحاضر:

منطقة "نجد" في الجزيرة العربية هي نقيض مصر الثرية بمواردها، المنفتحة على العالم بموقعها، المعتدلة بمناخها، المتسامحة بشعبها. منطقة "نجد" متطرفة في مناخها شحيحة في مواردها منعزلة في صحرائها لا يرى أهلها إلا أنفسهم، ولا يرون في الأغراب إلا مجرد ضحايا للسلب والنهب حين يمرون على صحراء نجد من العراق إلى الحجاز. في صحراء نجد القاحلة والواسعة عاش الأعراب على قطع الطريق، وكانت تأتيهم الفرصة الكبرى حين تنشأ فيهم أو تنتشر بينهم دعوة دينية تبرر وتبيح لهم القتل والسلب للآخرين على أنه جهاد. ولذلك كان استحلال الأعراب النجديين لدماء المسلمين المسالمين وأموالهم وأعراضهم في التاريخ الإسلامي مرتبطاً بثوراة نجد الدينية، تلك الثورات  التي تخصصت في التدمير وسفك الدماء. وما عدا الثورات ومشروعات الدول الدموية فإن تاريخ نجد العادي مجرد غارات داخلية فيما بينهم أو غارات سنوية عادية على قوافل الحجاج، أي مجرد غارات "علمانية" بدون شعارات دينية. ولكن تلك الغارات المعتادة استلزمت أن تسير قوافل الحجاج في حماية جيش كامل، ويمكن التأكد من ذلك خلال الحوليات التاريخية العراقية للعصور الوسطى خصوصاً تاريخ المنتظم لابن الجوزي ت 597 هـ. ولقد تأثر ابن خلدون بتاريخهم الدموي فقرر في مقدمته الشهيرة أن الأعراب هم أسرع الناس للخراب، وأنهم يحتاجون إلى دعوة دينية يستطيعون من خلالها استحلال الدماء والأموال والأعراض وإسباغ الشرعية على ثوراتهم واعتدائهم. ومن نجد (قرن الشيطان) كما يقال في بعض الأحاديث نبعت حركة مسيلمة الكذأب، ثم كانت نجد الرحم الذي خرج منه الخوارج ثم حركة الزنج ثم بعدها القرامطة. وأخيرا الوهابية  التي ظهرت في نفس المنطقة  التي ظهر فيها من قبل مسيلمة الكذاب.

 

ثالثاً:

1 ـ قامت الدولة السعودية ثلاث مرات وسقطت مرتين. أسقطها في المرة الأولى الوالي علي مصر محمد علي باشا، وسقطت في المرة الثانية بسبب الصراع الداخلي في الأسرة. ثم أعاد عبد العزيز آل سعود إنشاءها. كان إسم الوهابية ممقوتاً في مصر فعمل عبدالعزيز آل سعود على نشر الوهابية في مصرـ بعد استيلائه على الحجازـ تحت مصطلح السلفية والسّنة. كانت مصر تدين قبلها بالتصوف السّني المعتدل، ولكن تمكن عملاء عبد العزيز من تحويل مصر خلال 80 عاما إلى التدين السّني الحنبلي التيمي (ابن تيمية ) الوهابي. كان أخطر عملاء عبد العزيز آل سعود في مصر: ( حافظ وهبة المصري مستشار عبد العزيز آل سعود)، رشيد رضا (السوري الذي خان منهج استاذه الامام محمد عبده)، محب الدين الخطيب (السوري صديق رشيد رضا)، وحامد الفقي، والسبكي (شيخ الجمعية الشرعية). بجهدهم وخلال سنوات (1926 : 1928) : تحولت الجمعية الشرعية إلى الوهابية بعد ان كانت قلعة للتصوف، وأنشأ حامد الفقي (أنصار السّنة) لتتفرغ للدعوة عبر مجلتها (الهدي النبوي)، وأنشأ رشيد رضا (الشبان المسلمين) جمعية حركية تربوية للشباب، ثم اختار رشيد رضا من بين شباب (الشبان المسلمين) الشاب حسن البنا ليقيم جماعة الاخوان المسلمين، التي تتفرغ للعمل السياسي وإقامة دولة وهابية في مصر تكون تابعة للدولة الأم في الجزيرة العربية و التي حملت اسم السعودية عام 1932.

 

2 ـ تفرغت الجمعيات السلفية الدعوية للدعوة واخترقت بقية الجمعيات كما اخترقت الازهر، وبدأت ببطء وإصرار في تغيير التدين المصري الصوفي المتسامح ليكون ـ وعلى مهل ـ تديناً سنياً متشدداً حنبلياً وهابياً. في نفس الوقت نجح حسن البنا في استغلال مناخ الليبرالية وسخط الشباب خلال (1928 : 1949) في تشكيل 50 الف شعبة في مصر للاخوان المسلمين، وإنشاء التنظيم الدولي للاخوان وتكوين الجيش السّري للاغتيالات. ولم تنتبه له السلطات في مصر إلا بعد ان نجح في تفجير ثورة الميثاق في اليمن عام 1948 وقتل امامها يحيى وسرق كنوزه الذهبية. بالتالي إنتبهت السلطات المصرية للاخوان وظهرت خطورتهم خصوصاً بعد اغتيال النقراشي وماهر و القاضي الخازندار .

 

3 ـ  أخطر ما قام به الاخوان هو تسللهم للجيش وتحالفهم مع الضباط الأحرار وكونهم الشريك الشعبي لانقلاب يولية 1952. ولأن الاخوان لا يقبلون شريكاً ولا يعترفون بالمشاركة بأي حال ـ مهما نافقوا ـ فقد اختلفوا مع عبد الناصر، فهزمهم عبد الناصر سياسياً، ولكنه كحاكم عسكري أغفل الخطورة الحقيقية للأيدلوجية الوهابية فترك ايدلوجيتهم تعمل في نشر الوهابية في مصر ببطء تحت اسم السلفية مكتفياً بالترويج للقومية العربية بديلاً سياسياً. لذا كانت الوهابية ممثلة للاسلام في الضمير الشعبي المصري بعد سقوط الناصرية في هزيمة 1967، والتي اعتبرها الشعرواي ـ زعيم الدعاة السلفيين ـ انتقاماً من مصر وعبد الناصر بسبب سياساته وتعذيبه للاخوان .

 

4 ـ بمجيء السادات وتحالفه مع أمريكا والسعودية والاخوان أتيح للسلفية بجناحيها الدعوى (الجماعات السلفية) والسياسي الحركي (الاخوان) السيطرة على العقلية المصرية من خلال الأزهر، التعليم والمساجد والأوقاف والاعلام، بل تسللت إلى الثقافة والشرطة والجيش. وانتشرت جمعيات وجماعات دعوية في القرى والمحافظات، وتفرع عن الاخوان تنظيمات سرية وعلنية من حزب التحرير والتكفير والهجرة إلى الجماعة الاسلامية والجهاد والشوقيين والناجون من النار ..الخ . وحين اختلفوا مع السادات قتلوه .

 

5 ـ  وجاء مبارك خادماً للسعوديين والاسرائيليين والأمريكيين. وحتى يظل في الحكم فقد استخدم وجود الاخوان وجماعاتهم في تخويف الغرب وامريكا والعلمانيين والأقباط، كما استخدم جماعات السلفية في نشر الدين الوهابي لينتج المزيد من شباب التطرف، ووضعهم تحت سيطرة أمن الدولة ليستغلهم ضد الأقباط والعلمانيين .

6 ـ وبعد خلع مبارك انتهت سيطرة (أمن الدولة) على جماعات السلفية فظهرت فجأة  كمارد خرج من قمقم، وعجّل المجلس العسكرى ـ جنرالات مبارك ـ بالانتخابات النيابية ففاز فيها الاخوان والسلفيون. وهذا يوضح سهولة الاتفاق بين العقليتين المستبدتين: العسكرية والسلفية الدينية .

7 ـ ويلعب الاخوان ببراعة بالمجلس وبالثورة، يخدعون جنرالات مبارك من خلال صفقة بينهما يخرجون بها آمنين مثقلين بالغنائم، وبعد تحييد جنرالات مبارك ستتم إحالتهم الى الاستيداع بحكم القانون، ومعظمهم تجاوز الستين، وبالتالي يفقدون مراكزهم ونفوذهم، وعندها سينتقم منهم الاخوان ويقومون بترقية رتب عليا جديدة تدين لهم بالولاء. بعد السيطرة على الجيش سيكون سهلا عليهم احتواء الثورة والثوار وإقامة دولة دينية تستنّ بسنة فرعون أشهر مستبد سياسي ديني وصل به استبداده الى الاعلان بأنه الرب الأعلى .

هذا سيناريو متوقع نرجو ألا يحدث .

 

8 ـ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أروع ما جاء في الاسلام من تشريعات، ولكنه تحول بالوهابية الحنبلية الى رجس من عمل الشيطان يتم تطبيقه يومياً في السعودية، ويأمل السلفيون تطبيقه في مصر، وقد أعدوا له عدته مقدماً باستيراد العصي الكهربائية لتأديب المصريين والمصريات. ولن يتوقف الأمر عند هذا الحد بل سيشمل سلسلة من الممنوعات والمحظورات وسلسلة من محاكم التفتيش تحاكم الناس على عقائدهم وأفكارهم وأقوالهم والمباح من أعمالهم ولكن تخالف الدين الوهابي كالتدخين و الزي و التسلية والفنون بمختلف انواعها، بل سيصل الأمر الى تحريم السياحة والدعوة الى تدمير الآثار الفرعونية لأنها في عقيدة الوهابية السلفية أصنام وأوثان. بإيجاز مفزع سيتم القضاء على مصر حضارياً وإنسانياً تحت لواء (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) بطريقة الحنابلة السنية ( من رأى منكم منكرا فليغيره ).

 

9 ـ من أجل هذا نبادر بتقديم هذا الكتاب، وقد كان بحثاً موجزاً لم يسبق نشره، وأعكف الآن على التوسع فيه ليكون بحثاً أصولياً تاريخياً تحليلياً لموضوع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بين الاسلام والمسلمين .

 

وهذا هو الجزء الأول منه . وقد تم نشر أجزائه في موقعنا أهل القرآن خلال الأشهر الأربعة الماضية .

 

والله جل وعلا هو المستعان  .

أحمد صبحى منصور

28 يونية 2012

الأمـر بالـمـعــروف والـنـهـي عــن الـمـنـكــر في الاسلام
كتاب (الأمـر بالـمـعــر وف والـنـهـي عــن الـمـنـكــ ر بين الاسلام والمسلمين) يتناول فى دراسة تحليلية أصولية تاريخية التناقض بين الأمـر بالـمـعــر وف والـنـهـي عــن الـمـنـكــ ر بين الاسلام والمسلمين. وهذا الجزء الأول يتعرض فى لمحة عامة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فى الاسلام بتأصيل مفهوم المعروف والمنكر قرآنياً وتشريعياً ومدى تطبيقه في الدولة الاسلامية في إطار الحرية الدينية المطلقة للفرد، ثم تعقبه ـ فيما بعد بعون الله جلّ وعلا ـ الأجزاء التالية تتبع مسيرة الأمـر بالـمـعــر وف والـنـهـي عــن الـمـنـكــ ر في تقعيدات وتنظيرات فقهاء المسلمين وفي تاريخهم من عصر الرسالة والصحابة
more