رقم ( 5 )
الباب الثانى : الدولة السعودية الراهنة تنشر الوهابية فى مصر ف1 : دور رشيد رضا

كتاب : نشأة  وتطور أديان المسلمين الأرضية :

ج2 :الدين الوهابى المعاصر: تأسيسه فى نجد وإنتقاله الى مصر

الباب الثانى : الدولة السعودية الراهنة تنشر الوهابية فى مصر

 

الفصل الأول :  دور رشيد رضا :

 

فهرس الفصل الأول : ( لمحة عن وحشية الوهابية فى تأسيس الدولة السعودية الراهنة  ( مقدمة ـ  مذبحة تربة وخرمة  ـ مذبحة الطائف ( الثانية ) ـ السعوديون وقتل الاطفال والنساء )

نشر الوهابية فى مصر بين عبد العزيز آل سعود و رشيد رضا . ( مقدمة ــ حاجة عبد العزيز لإنشاء ( إخوان مصريين ) بديلا عن (الاخوان النجديين ) ــ العوامل التى كانت تحتم على ( عبد العزيز ) تحييد مصر أو كسبها الى جانبه  ــ   رشيد رضا  الذى خان أستاذه الإمام محمد عبده  )

رشيد رضا : شخصيته بين النفاق والتعصب : (  مقدمة ـ لمحة عن حياة رشيد رضا ــ تعصب رشيد رضا . )

رشيد رضا عميلا لانجلترة : بين رشيد رضا وأسمهان : ( بالذكاء الانجليزى تأسّست الامبراطورية البريطانية واستمرت قرونا ـ  بين الذكاء البريطانى والامام محمد عبده  ــ  رشيد رضا عميلا لانجلترة ــ الأدلّة على أن رشيد رضا كان عميلا للإنجليز ــ أنجلترة تشدُّ أُذُن الشيخ رشيد رضا ــ أخيرا .

 رشيد رضا والشريف حسين حاكم الحجاز : (مقدمة ــ  بأوامر بريطانية : رشيد رضا ( الوهابى ) يتحالف مع الشريف حسين عدو الوهابية الأكبر ــ  رشيد رضا ( الوهابى ) يرفض تأييد الشريف حسين فى أن يكون خليفة المسلمين ــ العلاقة بين الشريف حسين ورشيد رضا من الفتورالى الخصومة )

رشيد رضا خادما لعبد العزيز قبل أن يقابل عبد العزيز  ( وهابية رشيد رضا تظهر فى حياة محمد عبده  ــ دفاع رشيد عن عبد العزيز قبل إستيلائه على الحجاز ــ  إنحياز رشيد الى عبد العزيز فى صراعه مع الشريف حسين  ــ  رشيد رضا بوقا دعائيا لعبد العزيز قبل أن يلتقى عبد العزيز ــ  أخيرا )

 لماذا كان عبد العزيز محتاجا لرشيد رضا ؟ ( مقدمة ـ عن الحجاز ــ  بين الأسرة السعودية ومصر: من القرن التاسع عشر الى إحتلال عبد العزيز للحجاز ــ  بين عبد العزيز والملك فؤاد الأول ــ أخيرا : حاجة عبد العزيز لرشيد رضا )

 علاقة رشيد رضا بعبد العزيز : (   إتصالات رشيد بعبد العزيز قبل مؤتمر الحجاز 1925ـ التحالف العلنى بين رشيد رضا وعبد العزيز ــ  رشيد رضا يهاجم الأزهر بسبب كراهية الأزهر وقتها للوهابيةــ  إخلاص الى آخر العمر)

تحالف عبد العزيز آل سعود مع رشيد رضا : والحاجة الى المال   : ( مقدمة ــ مصر الليبرالية : حرية بلا عدل  ــ  إخلاص رشيد رضا فى نشر الوهابية فى مصر )

تحالف عبد العزيز آل سعود مع رشيد رضا : هل كان سببا فى إكتشاف البترول ؟ ( عبد العزيز يجد الحل فى ( البترول ) ـ الوهابية وكراهية الاجانب المستثمرين   ــ إنهاء معرضة الاخوان وعلمائهم والسيطرة المطلقة لعبد العزيزــ  التنقيب على البترول ــ البترول ونشر الوهابية فى مصر . ).

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الفصل الأول : دور رشيد رضا  

لمحة عن وحشية الوهابية فى تأسيس الدولة السعودية الراهنة        

 

مقدمة :

1 ـ أسّس عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل الدولة السعودية الثالثة الراهنة ، معتمدا على ( الإخوان ) وهم أعراب عزلهم عن العالم فى مستوطنات تعلموا فيها الوهابية ووحشيتها وتزمتها وعدوانيتها . 

2 ـ كان عبد العزيز يسير على سُنّة أجداده فى وحشيتهم . وقد روى حافظ وهبه المستشار السعودي لعبد العزيز في كتابه (جزيرة العرب) قول عبد العزيز: ( لقد قاومت دعوتنا كل القبائل أثناء قيامها ، وكان جـدي سـعود الأول قد سجن عدداً من شيوخ قبيلة مطير، فجاءه عدد آخر من القبيلة يتوسطون بإطلاقهم ، ولكن سعود الأول قد أمر بقطـع رؤوس السجناء ، ثم أحضر الغداء ووضع الرؤوس فوق الاكل وطلب من أبناء عمهم الذين جاؤوا للشفاعة لهـم أن يـأكلوا من هذه المائدة التي وضعت عليها رؤوس أبناء عمهم و.. لما رفضوا الاكل أمر سعود الأول بقتلهم!. )  ويقول حافظ وهبه في كتابه ( لقد قص هذه القصة الملك عبد العزيـز علـى شـيوخ قبيلة مطير الذين جاؤوا للاستشفاع في زعيمهم فيصل الدويش قبل ان يقتله عبد العزيز ليبين لهم أن عبد العزيـز سـيقتلهم أيضاً إذا لم يمتنعوا عن طلب الشفاعة لزعيمهم فيصل الدويش).

3 ـ فيصل الدويش هو زعيم الإخوان الذين أقاموا مُلك عبد العزيز ، والذى أراد المشاركة فى السلطة فرفض عبد العزيز فأصبح معارضا لعبد العزيز ، وتطورت معارضته الى الصدام الحربى بينهما ، وهزمه عبد العزيز مرتين ، ثم قتله 

4 ــ الأسرة السعودية فى نشرها الوهابية أسهمت فى حفز اتباعها ليقيموا مذابح ضد الشيعة وبقية الاقليات فى منطقة العراق والشام المكتظة بالأقليات الدينية والمذهبية . وأدت مذابح الوهابيين ومنها مذبحة عام 1830 الى هجرة ملايين المسيحيين الشوام الى أمريكا الجنوبية بالذات والى مصر وغيرها ، وادت الى إنتماء الدروز فى فلسطين الى إسرائيل وخدمتها طلبا لحمايتهم من التعصب الوهابى الذى نشرته الأسرة السعودية . مأساة سوريا الآن مرجعها الى تسلط الوهابيين السوريين على الشيعة النصيرية ، مما أدى بهم الى رفع شعار العروبة ودخول حزب البعث، ثم الانفراد من خلاله بالسلطة والانتقام من السنيين السوريين ، ويستميت بشار الأسد فى الدفاع عن نظامه خوف أن يستأصل السنيون شيعة سوريا وهم خُمس السكان .   ونعطى بعض التفصيلات  عن مذابح الدولة السعودية الراهنة  :

أولا :  تعداد إجمالى للمذابح التى ارتكبها السعوديون

في عام  1921 كان الحجاج اليمنيون قادمين ليؤدوا مناسك الحج وكانوا حوالي ألف حاج ، وهم عُزّل من السلاح فالتقى بهم الاخوان الوهابيون فسايروهم في الطريق وأعطوا الأمان ، ثم غدروا بهم وقتلوهم عن آخرهم فى وادى تنومة ، ولم ينج منهم إلا شخصان فقط هربا وأخبرا بالمذبحة .

من كثرة المذابح السعودية ــ فى تاسيس دولتها الثالثة الرهنة ـ ليس هناك إتفاق على عددها ، ولا إتفاق على عدد الضحايا حتى فى أشهر تلك المذابح .

وفى كتابه ( تاريخ آل سعود ) ذكر ( ناصر السعيد ) تعدادا بالمذابح التى ارتكبها السعوديون . تحت عنوان ( لائحة بمجازر آل سعود في الجزيرة العربيّة) يقول :
وفي ما يلي كشف بمجازر آل سعود التي ارتكبوها في ربوع الجزيرة العربية:
1
ـ مجزرة مسجد الشعبيّة بمناسبة الهجوم على حائل رمضان 1922 3790 شخصاً.
2
ـ مجزرة الجليدة قرب حائل، 410 قتلى من عشيرة «أسلم» من «شمّر».
3
ـ مجزرة «بيضاء نثيل» 513 من قبيلتهم عنزة.
4
ـ مجزرة أمّ الغراميل، شرق حائل 411 قتيلاً.
5
ـ مجزرة الغوطة في حائل 375 قتيلاً مع هبقان السليطي.
6
ـ مجزرة تربة، مقتل كل الجيش الشريفي 40.000 ونجاة 500 فقط.
7
ـ مجزرة الطائف والحوبة، 15.000 من الرجال والنساء والأطفال والشيوخ.
8
ـ مجزرة حصار الطائف 2800 من الجيش الشريفي ومن أهل جدّة.
9
ـ مجازر القصيم 37.000 قُتلوا غدراً.
10
ـ مجازر النيصية والوقيد والجثامية، 10.000 من «شمّر» وأهل حائل.
11
ـ مجزرة الجوف، عدد غير محدّد.
12
ـ مجازر تهامة وعسير 50.000.
13
ـ مجزرة وادي تنومة 1200 حاجّ يمانيّ.
14
ـ مجزرة وادي بني مالك في الطائف، 7000 وهدم سبعين قرية.
15
ـ مجزرة جبل القهر جنوب الحجاز، 1520 قتيلاً عام 1959 من قبائل الريث.
16
ـ مجزرة الجهراء، 1000 قتيل من أهل الجزيرة العربيّة والكويت.
17
ـ  مجازر السبلة وأم الرضمة، 5000 من جيش الإخوان الذي حقّق لهم الانتصارات.
18
ـ  مجازر قبائل العجمان، 3000 ومنهم نايف وضيدان بن حثلين.
19
ـ   مجازر الحويطات وبني عطية وجهينة وبلي، 7000 وتشريد الآلاف.
20
ـ   مجزرة الحجاج الإيرانيين 329 بين نساء ورجال.

ثانيا : ونعرض لمحة سريعة عن أشهر المذابح :

 مذبحة تربة وخرمة :  

1 ـ وهما قريتان بالحجاز على حدود نجد والحجاز ، كانتا تتبعان الشريف حسين حاكم الحجاز. انقض عليهما جنود الوهابية بقيادة فيصل الدويش في أواخر شعبان 1337هـ /1919م فقتلوا ونهبوا واعتدوا على الأعراض وأحرقوا النخيل . 

2 ــ إستولى الاخوان على تربة ،وذبحوا معظم حاميتها كلهم،  ومن نجا من الذبح تلك الليلة قتلهم جيش الملك عبد العزيز في اليوم التالي . ثم كان بعدها الإجهاز على المدنيين ، فلم ينج من أهالي تربة سوى  ألف شخص . وكالعادة هناك إختلاف فى عدد القتلى .  يقال أنه ثمانية آلاف مدني من رجل وامرأة وطفل، إضافة الى سبعة آلاف من الجيش.  وكان من بين الناجين من مذبحة الحصن الشريف شاكر ومعه شاب من الأشراف إسمه عون بن هاشم. وقد كان عون يوم شهد المجزرة في الخامسة عشرة من عمره، فوصف هول ذلك اليوم فقال: (رأيت الدم في تربة يجري كالنهر بين النخيل، وبقيت سنتين عندما أرى الماء الجاري أظنها والله حمراء، ورايت القتلى في الحصن متراكمة قبل أن طحت من الشباك، ومن أعجب ما رأيت أثناء المعركة أن الإخوان يدخلون الجامع ليصلوا ثم يعودون الى القتال)!. أى كانوا يؤدون الصلاة وهم يقتلون النساء والأطفال . وكانت مذبحة تربة تمهيدا لمذبحة الطائف .

مذبحة الطائف ( الثانية )

1 ـ عرضنا لمذبحة الطائف الأولى فى الدولة السعودية الأولى .

2 ـ ونحن الآن مع مذبحة الطائف الثانية فى الدولة السعودية الثالثة فى عصر مؤسسها عبد العزيز عام 1924 م . ويقال أن عدد القتلى بلغ مائة ألف .

3 ـ هجم الوهابيون على الحجاز وحاصروا الطائف ،ثم دخلوها عنوة وأعملوا في أهلها السيف . فقتلوا الرجال والنساء والأطفال .  وسجل هذه المذبحة مؤرخ عبد العزيز الشخصى ( أحمد فؤاد العطار ) في الجزء الثاني من كتاب (صقر الجزيرة "عبد العزيز آل سعود")  نقلا عن عبد العزيز نفسه ، وحاول تبرئة عبد العزيز من المذبحة وإلصاق التهمة بالاخوان .

4 ــ ومنه نعرف أن جيش ابن سعود باغت الطائف . وتحرك جيش الشريف على عجل لانقاذ الطائف ب 400 مقاتل بالمدفعية ، وكادت المدفعية الهاشمية أن تقهر الاخوان ، لولا أن البدو الذين كانوا مع جيش الشريف خانوه وانضموا الى الاخوان أملا فى الغنائم.  وتراجع جيش الهاشميين أمام الكثرة من جيش ابن سعود الذى بلغ   400000 ـ فأرسل الشريف حسين مددا للجيش ، واستمرت المعركة الى ان تمت هزيمة الجيش الهاشمى فهرب تاركا الطائف ، فانتشر الذعر والهلع بين السكان المدنيين ففر من استطاع تاركا كل ما معه ناجيا بحياته ، وخبأ الاغنياء الذهب والاحجار الكريمة وأغلقوا الابواب وحصنوها من الداخل بأحجار كبيرة ليستعصى فتحها إذا ما احتل الغزاة المدينةووصل حوالى مائة ألف من الأعراب لجيش ابن سعود ،  فوصل الجيش السعودي إلى أكثر من /50000/ . وتدفق الغزاة إلى الداخل كما تدفق الاعراب الطفيليون معهم ،  وزرعوا الشوارع والاسواق وقتلوا كل من وجدوه بها واحتلوا المراكز الحكومية والابراج والقلعة ونهبوا ما بها.، راحوا يقضون الليل في السلب والنهب والقتل وهتك الاعراض ، وهاجموا البيوت وحطموا الابواب ودخلوا على الابرياء ومزقوهم بالسيوف وأطلقوا عليهم الرصاص، واستلبوا كل ما وجدوا من غال ورخيص.  ويتابع ـ العطار السعودي ـ صياغته لاعترافات عبد العزيز آل سعود، فيقول: (وقد وجد البدو ممن لهم ثارات عند الاهلين فرصة نادرة للانتقام فزحفوا إلى بيوتهم واقتحموها عليهم وقتلوهم شر قتلة تشفيا منهم، وهتكوا أعراضهم، وبعد أن ذبحوهم وضعوا رقابهم في حنفيات الماء والصهاريج فشربوا من دمهم وتوضأوا بالماء الملوث بالدماء البريئة وصلّوا. ولم يكلفوا أنفسهم عناء استلام الاساور الذهبية من أيدي النساء الممدة بل قطعوا أيديهن وأرجلهن ، ولبس "الاخوان" الحلي ، وهذه الاساور بأيديهم ووضعوا القلائد ـ الخرزية والذهبية ـ في رقابهم كي لا تعيقهم عن بقية النهب والقتل… ). هذا موجز ما نقله العطار من كلام عبد العزيز آل سعود .

5 ــ ويدافع العطار عن ابن سعود : "وأنا كمؤرخ أبرئ ابن سعود من مسؤولية مذبحة الطائف فهو من تعاليمه ونصائحه لجنده ألا يتبعوا مدبرا وألا يجهزوا على جريح وألا يهاجموا بيتا وألا يقتلوا شيخا ولا طفلا!. وألا يعترضوا امرأة ولو قاتلت!، وألا يؤذوا المدنيين من السكان ".

6 ــ وحينما أراد عبد العزيز الصاق هذه الجرائم بقائد جيشه ابن بجاد ، رد عليه ابن بجاد في مجلسه في مكة أمام الحاضرين من أهل الحجاز بقوله: (أنت الذي أوصيتني يا عبد العزيز أن أقتل البرئ ليرضخ العاصي وان أفتك بلا رحمة حتّى تكل السيوف من رقاب أهل الحجاز الكفار)!.. فخرس عبد العزيز لهذا الرد.

7 ـ ولكن تحليل الأحداث التالية يؤكد أن مذبحة الطائف كانت مخططة لارهاب أهل مكة والمدينة ليستسلموا بلا مقاومة . وهذا ما حدث بعد مذبحة الطائف ، إذ إستسلمت مكة، ثم ما لبث أن إستسلمت المدينة . ودخلت قوات ابن عبد العزيز الي المدينة في 5/12/1925.ثم لحقت ينبع بالمدينة .ولم يبق إلا جدة التي حوصر فيها الملك علي بن الشريف حسين ، فاضطر في النهاية الي الاستسلام بتوسط بريطانيا وبتعهد ألا يدخلها الأخوان ، فتنازل عن الحجاز ، وغادر جدة الي أخيه الملك فيصل بالعراق في 3/1/1926 .واصبح عبد العزيز ملك الحجاز وسلطان نجد وملحقاتها في   8/1/1926.  

ثالثا : السعوديون وقتل الاطفال والنساء

 1 ـ فى الطائف قتلوا الأطفال والنساء بلا تمييز . وفي هجومهم علي الكويت في معركة الجهرة قتلوا النساء سنة 1920 ، ونفس الحال في هجومهم علي ثريب في شرق الاردن سنة 1924 . وسجل المراقبون الاجانب ان الاخوان لايحتفظون بالاسري وانما يذبحون كل من يقع في ايديهم.

2 ـ  وكانت الدعوات للانضمام الي الوهابية او الاسلام تحمل التهديد لمن لا يستجيب بالاعدام . وتقول احداها (ان من ينضم الينا يأمن علي ممتلكاته واسرته ). وقيل عنهم انهم ظلوا لعدة سنوات لا يخيفون الاطفال وحدهم وانما الكبار ايضا . وقد قتلوا جميع الرجال والنساء والاطفال في المنطقة ما بين المويلة وشرق الاردن. وقد اعترف اثنان من الاخوان الاحياء الي جون حبيب ــ مؤلف كتاب عن الاخوان الوهابيين ــ إنهما شاركا في الغارة التي توغل فيها الاخوان داخل العراق ،وقد استغرقت المسيرة عشرة ايام، وانهما فيما بينهما قتلا حوالي الف شخص ، وكان القتال يجري ليل نهار ،وانهما لم يناما سوي ثلاث ساعات فقط في اليوم ،وكان طعامهما من التمر والخبز والقهوة ،وحفنة من التمر. وقد ادت هذه الوحشية الي انشاء البريطانيين قلعة ( بسية ) لحماية العراق من هجمات الاخوان . وغضب الاخوان من إنشاء هذه القلعة الدفاعية ، وضغطوا على (عبد العزيز ) فكان إنشاؤها سبب المعارضة السياسية والحربية بين الاخوان وعبد العزيز. وعندما تمردوا على سيدهم عبد العزيز هاجموا اخوانهم الوهاببين من اتباع عبد العزيز، و قتلوا الشيوخ والنساء والاطفال .

3 ــ ساعد على هذا عقيدة الاستحلال وهذا الارتباط الديني والعقائدي بين القتال والصلاة .   

4 ـ إنتشرت هذه الوحشية الوهابية مع انتشار الوهابية تهدد العالم كله ، نراها الان فى القاعدة وداعش والنصرة ..الخ . ونعطى لمحة عن هذا الانتشار فى هذا الفصل .

 

نشر الوهابية فى مصر بين عبد العزيز آل سعود و رشيد رضا .

مقدمة :

كانت الوهابية ممقوته فى مصر ، حين كان دينها الواقعى هو التصوف السُّنّى . حدث تطور هائل إذ إنتشرت الوهابية فى مصر تحت مسمى لطيف محبوب هو ( السُّنّة ) و تم تجنب إسم الوهابية ، وكان يشار اليها أحيانا بالسفية ، وهو غسم محبوب أيضا لأنه يرمز فى دين التصوف السنى الى ( السلف الصالح ) من الخلفاء ( الراشدين ) و الصحابة والتابعين. هذا التطور الخطير هو الذى أنتج ( الإخوان المسلمين ) وبجهودهم إنتقلت الوهابية من مصر الى بقيه دول المحمديين ، خصوصا دول الشرق الأوسط  . هذا التحول الخطير صنعه إثنان عبد العزيز آل سعود مؤسس الدولة السعودية الثالثة الراهنة ، وعميله فى مصر الشيخ رشيد رضا . ونعطى بعض التفصيلات

 أولا :

حاجة عبد العزيز لإنشاء ( إخوان مصريين ) بديلا عن (الاخوان النجديين )

1 ـ عانى عبد العزيز آل سعود منشىء الدولة السعودية الراهنة من تزمت وتخلف الشيوخ الوهابيين ومن تسلط ( الإخوان النجديين ) وهم الذين أقاموا بوحشيتهم مُلكه ، وكانوا يتدخلون فى سلطته ، وإعتاد عبد العزيز ان يستخدمهم وأن يسايرهم الى حين يجد البديل .

2 ـ ودخل الاخوان النجديون فى معارضة سياسية مع عبدد العزيز وعززهم شيوخ الوهابية المتمسكون بالحرفية الوهابية ، والتى لا تعطى عبد العزيز مرونة فى التعامل السياسى مع القوة العظمى وقتها ( إنجلترة ) ومع القوة الاقليمية الكبرى ( مصر ) . والوهابيون من الاخوان النجديين وشيوخهم يعتبرون الانجليز كفرة ويعتبرون المصريين مشركين ، ويعتبرون المخترعات الحديثة من التليفون والتليغراف والموتوسيكل رجسا من عمل الشيطان .

3 ـ  تحولت معارضة الاخوان النجديين  السياسية بالمؤتمرات الى صراع عسكرى هزمهم فيه عبد العزيز مرتين . وقبل هزيمتهم وفى أثناء صراعهم السياسى معه أدرك ضرورة تركيز السلطة في يده ، وإخضاع علماء الوهابية لسلطته . لذا صبر على ( الاخوان النجديين ) وشيوخ الوهابية المتزمتين وسايرهم وحاول إسترضاءهم بمؤتمرات المعارضة التى كانوا فيها يزايدون عليه بالوهابية ليؤسسوا لهم سلطة سياسية تنازع عبد العزيز سلطانه .

4 ـ الذى لم يعرفه الاخوان النجديون وحلفاؤهم الشيوخ الوهابيون  ــ وقتها ــ أن عبد العزيز كان يخطط منذ أن فتح مكة وسيطر على الحج وانفتح على العالم الاسلامى ـ فى تصدير الوهابية فى مصر وتأسيس ( إخوان ) جدد فى مصر ، وأنه كان يعد هذا سرا. كما كان فى نفس الوقت ينشىء قوة عسكرية تابعة له خارج الاخوان النجديين يستخدمها فى الصراع العسكرى القادم مع ( الإخوان ) النجديين الذين أنشأهم فتمردوا عليه . وفعلا فى الوقت المناسسب له حارب الاخوان النجديين وهزمهم ، ووقتها كان قد أرسى فروعا للوهابية فى مصر تعمل من أجل تحويل العُمق المصرى المسلم المسالم الخانع من دينهم التصوف السُّنّى الى الوهابية الوحشية الدموية.   

ثانيا :

العوامل التى كانت تحتم على ( عبد العزيز ) تحييد مصر أو كسبها الى جانبه

1 ـ أدرك عبد العزيز تخلف الوهابية عن مسايرة العصر ، وأدرك ان صلاح الايدولوجية الوهابية فوق طاقة علماء نجد ،فآثر ان ينفتح بها علي مصر ،ليأتي الاجتهاد في تنقيح وتحديث الوهابية من مصر بعد ان تكون مصر عمقا استراتيجيا لدولته الوليدة ،ولا ريب ان مستشاره المصري ( حافظ وهبة ) كان وراء هذا الانفتاح في توثيق الصلة بين الجانبين .

2ـ وقد كان حافظ وهبة مهتما بتوثيق العلاقات بين الملك عبد العزيز ومصر ، فى كتابه ( جزيرة العرب فى القرن العشرين ص 268 ) يقول حافظ وهبة في تأريخه لأحداث الصراع بين الملك عبد العزيز والشريف حسين :(وفي سبتمبر سنة 1925 وصل فضيلة الشيخ المراغي ، وكان رئيسا للمحكمة العليا الشرعية ، ومعه عبد الوهاب بك طلعت من موظفي السرايا ( الملكية المصرية ) ومعهما كتاب رقيق من جلالة ملك مصر جوابا لكتاب سلطان نجد ( عبد العزيز آل سعود ) بمناسبة عزمه علي زيارة مكة . )،ويقول حافظ وهبة معبرا عن مشاعره (انه ظرف ملائم جدا وفرصة نادرة لتوثيق العلائق بين مصر ونجد . وسلطان نجد كان ولا يزال معترفا بزعامة مصر من وجهة الثقافة والمدنية ، ويجب ان توطد العلائق بينه وبين مصر) وقتها كان عبد العزيز قد سيطر على الحجاز الذى كان تحت النفوذ المصرى ( الأدبى ) . 

3 ـ ( مصر ) في حد ذاتها هي المشكلة الكبري لعبد العزيز، فهي التي كانت تسيطر علي الحجاز في العصر المملوكي ،واستمر نفوذها الادبي فيه . ولقد اصطدم العسكر المصرى ــ الذى كان يرافق كسوة الكعبة من القاهرة الى مكة ـ بأخوان عبد العزيز في حادث المحمل. وقتل العسكر المصرى الوهابيين المحتجّين ،وحاول عبد العزيز تلافى الموضوع حرصا على تطبيع العلاقات مع مصر بعد استيلائه علي الحجاز . ونلاحظ حرصا زائدا من  عبد العزيز ومستشاره حافظ وهبة علي استمالة مصر بكل طريقة الي السلطة الجديدة .

4 ـ كما ان مصر هي التي اسقطت الدولة السعودية الاولي واسهمت بالايجاب والسلب في سقوط الدولة السعودية الثانية ،وبالتالي فان مصير الدولة السعودية الثالثة لابد ان يرتبط بمصر ايجابا وسلبا ،فمصر هي اقدم دولة في المنطقة وأكثرها خطرا على دولة عبد العزيز، وكانت وقتئذ احدث دولة في المنطقة (قبل قيام اسرائيل ) .

5 ــ ومن الممكن ان يكون العمق المصري رصيدا متأجّجا بالكراهية للوهابية ، وقد يؤدى هذا الى تحالف مصر مع  الاردن والعراق حيث كان يحكمهما الاشراف (فيصل وعبد الله )،ومع  اليمن، هذا بالاضافة الي الشيعة في الاحساء وفي الحجاز ، فيتم بمصر ذلك الحصار وتختنق دولة عبد العزيز. إنّ توسع عبد العزيز فى الجزيرة العربية جعله يضم داخل عباءته خصوما ألدّاء:الشيعة فى الأحساء والمنطقة الشرقية وفى الحجاز ، بالاضافة الى أنه أصبح يتاخم العراق والأردن وقد كان يحكمهما ابناء خصمه الشريف حسين . ثم هناك إيران أقوى مركز شيعى ، وخصومته مع اليمن . لو أضيفت مصر الى هؤلاء ــ وهى تمقت الوهابية أصلا ـ فإن سقوط دولة عبد العزيز الوليدة أمر لا مفرّ منه ، خصوصا بعد أن إستولت على الحجاز ، وهو الأقرب وجدانيا وسياسيا وتاريخيا لمصر ــ ومنذ الدولة الطولونية .

6 ـ ولكن من الممكن ايضا ان يكون العمق المصري رصيدا لدولة عبد العزيز ترتكز عليه في مواجهة اولئك الخصوم المتربصين بها المحيطين بها في الشرق والشمال والجنوب . ومن هنا كان لابد من كسب مصر الي جانبه بكل وسيلة ،وقد حاول عبد العزيز ومعه مستشاره الداهية حافظ وهبة ونجح ..علي المستوي الرسمي امكن تفادي حادث المحمل . ولكن الأهم هو الانقلاب الخطير الذى تم فى مصر منذ عام 1926علي المستوي الشعبي والثقافي .بجهود رشيد رضا العميل السعودى فى مصر . وقد عرفنا دوافع عبد العزيز فما هى دوافع رشيد رضا

ثالثا : رشيد رضا  الذى خان أستاذه الإمام محمد عبده 

1 ـ الانفتاح المصرى السياسى فى عهد الخديوى اسماعيل أثمر إجتهادا دينيا إصلاحيا قام به الامام محمد عبده في مصر  في اواخر القرن 19 وأوائل القرن العشرين ،ولكنه مات 1905 أي قبل قيام عبد العزيز آل سعود بتكوين الاخوان  النجديين بخمس سنوات . وبعد موت محمد عبده خانه تلميذه رشيد رضا الذى قام بتحويل فكر محمد عبده الاصلاحي الي اتجاه سلفي وهابى . وهذا الانقلاب الخطير أسفر فى النهاية عن تحويل التدين المصري من التصوف السنى الكاره للوهابية الي تدين سني وهابي يحتكر الاسلام ، ويقوم بتكفير غيره . وبهذا التحول الدينى فى مصر أصبحت مصر تابعة دينيا للسعودية ، ثم بالتالى ـ وبسبب ظروف أخرى لاحقة ـ أصبحت مصر تابعة سياسيا للأسرة السعودية . وتبعتها فى هذا بقية دول المنطقة . بداية هذا التحول الخطير كان بجهود رشيد رضا فى الأساس.

2  ‏هربا‏ ‏من‏ ‏بيئة‏ ‏التعصب‏ ‏الدينى  ‏فى الشام هاجر  لمصر كثير من المثقفين والأدباء والفنانين من مسلمين ونصارى ، وجاء من بينهم رشيد رضا . جاءوا لمصر يحملون داخلهم موروثات التعصب الدينى والمذهبى ، ذلك التعصب الذى أجّجه من قبل شيوخ الوهابية فى الشام والعراق ، وسبّب مذابح للنصارى ولطوائف من الشيعة  . جاء رشيد رضا يحمل فى داخله التعصب الوهابى ، إلا إنه بكل ما أوتى من دهاء أهل الشام كان يكبت مشاعره وهو ملتصق بشيخه الإمام محمد عبده . ولأنه وهابى عريق فإننا نتوقع أنه كان يتوجع من آراء استاذه محمد عبده الذى أعلن حقيقة أن كل الأحاديث الموجودة هى أحاديث آحاد تحتمل الصدق والكذب ولا تفيد اليقين ـ وبالتالى يمكن القول بالاستغناء عنها لأنها ليست جزءا من اليقين الاسلامى .  

3   ‏وبينما‏ ‏كان‏ ‏رشيد‏ ‏رضا‏ ‏يحتفل‏ ‏بآراء‏ ‏شيخه‏ ‏فى ‏نقد‏ ‏التصوف‏ ‏ويرصع‏ ‏بها‏ ‏أقواله‏ ‏فى ‏تفسير‏ ‏ المنار‏ ‏نجده‏ ‏على ‏العكس‏ ‏يتجاهل‏ ‏أراء‏ ‏محمد‏ ‏عبده‏ ‏فى ‏السخرية‏ ‏وانتقاد‏ ‏الوهابية‏، ‏ومنها‏ ‏قوله‏ ‏عنهم‏ إنهم:  لم‏ ‏يكونوا‏ ‏للعلم‏ ‏أولياء‏ ‏ولا‏ ‏للمدنية‏ ‏أحباء‏. ) (‏الإسلام‏ ‏بين‏ ‏العلم‏ ‏والمدنية‏: 47: 48)‏ . ‏وكذلك‏ ‏تجاهل‏ ‏رشيد‏ ‏رضا‏ ‏ما‏ ‏أكده‏ ‏الامام‏ ‏فى ‏نفس‏ ‏الكتاب‏ ‏السابق‏ ‏عن‏ ‏الأصل‏ ‏الثالث‏ ‏من‏ ‏ أصول‏ ‏الإسلام‏ ‏وهو‏ ‏البعد‏ ‏عن‏ ‏التكفير‏، ‏والتكفير‏ ‏أساس‏ ‏الاستحلال‏ ‏للدماء‏ ‏والأموال‏ ‏والأعراض‏، ‏والاستحلال‏ ‏أساس‏ ‏قيام‏ ‏وتوسع‏ ‏الدولة‏ ‏السعودية‏ ‏الوهابية‏. ‏وصاحبنا‏ ‏رشيد‏ ‏رضا‏ ‏أوقع‏ ‏نفسه‏ ‏ فى ‏تكفير‏ ‏خصومه‏ ‏فى ‏المذهب‏ ‏وفى ‏الدين‏ ‏فى ‏مواضع‏ ‏كثيرة‏ ‏من‏ ‏تفسيره‏ ‏فى ‏المنار‏، إذ سار رشيد رضا فيه على منهج ابن تيمية ‏فى ‏إدمان‏ ‏التكفير‏ ‏لجميع‏ ‏من‏ ‏يخالفونه‏ ‏فى ‏الرأي‏.‏ 
‏4- ‏ وإذا كان الامام محمد عبده فى كتابه ( الاسلام بين العلم والمدنية ) قد جعل الأصل الخامس من أصول الاسلام هو ( قلب السلطة الدينية ــ اى الكهنوت الدينى والدولة الدينية ــ والاتيان عليها من الأساس ) فإن رشيد رضا أوّل هذا المفهوم الواضح هجوما على التصوف ، ثم نراه فى المقابل يعمل على نشر الوهابية ــ فيما بعد ـ وما تتضمنه من تأسيس دولة دينية .     5وهنا‏ ‏تبدأ‏ ‏الفجوة‏ ‏بين‏ ‏محمد‏ ‏عبده‏ ‏ورشيد‏ ‏رضا‏، ‏وهنا‏ ‏أيضا‏ ‏تتسع‏ ‏الفجوة‏: ‏فالأحاديث‏ ‏النبوية‏ ‏ عند‏ ‏محمد‏ ‏عبده‏ ‏مجرد‏ ‏أحاديث‏ ‏آحاد‏ ‏لا‏ ‏تفيد‏ ‏اليقين‏ ‏وإنما‏ ‏تفيد‏ ‏الظن‏، ‏ولا‏ ‏تنهض‏ ‏وحدها‏ ‏دليلا‏ ‏إلا‏ ‏إذا‏ ‏اتكأت‏ ‏على ‏آية‏ ‏قرآنية‏ ‏أو‏ ‏رؤية‏ ‏قرآنية‏ ‏واضحة‏. ‏أما‏ ‏عند‏ ‏تلميذه‏ ‏رشيد‏ ‏رضا‏ ‏فالأحاديث‏ ‏هى ‏ مصدر‏ ‏قائم‏ ‏بذاته‏ ‏سواء‏ ‏اختلف‏ ‏أو‏ ‏تعارض‏ ‏مع‏ ‏القرآن‏، ‏بل‏ ‏طبقا‏ ‏لمنهجه‏ ‏فإنه‏ ‏يستسيغ‏ ‏تأويل‏ ‏ الآيات‏ ‏القرآنية‏ ‏وتحريف‏ ‏معناها‏ ‏كى ‏توائم‏ ‏وتتفق‏ ‏مع‏ ‏الأحاديث‏ ‏الصحيحة‏ ‏لديها‏.‏ 
6 ‏ولكن‏ ‏النتيجة‏ ‏الواضحة‏ ‏والمؤلمة‏ ‏أن‏ ‏رشيد‏ ‏رضا‏ ‏نجح‏ ‏فى ‏خنق‏ ‏وتحجيم‏ ‏حركة‏ ‏شيخه‏ ‏، ‏وكان‏ ‏لذلك‏ ‏سببان‏: ‏الأول‏ ‏يرجع‏ ‏إلى ‏منهج‏ ‏محمد‏ ‏عبده‏ ‏نفسه‏ ‏الذى ‏لم‏ ‏يكن‏ ‏متسقا‏ ‏ومحددا، فلم يبدأ بتحديد المفاهيم قرآنيا ، ومن خلال القرآن ينظر الى التراث .   
‏  ‏والسبب‏ ‏الثانى ‏يعود‏ ‏إلى ‏المناخ‏ ‏الذى ‏ساند‏ ‏رشيد‏ ‏رضا‏ ‏فى ‏منهجه‏: ‏فرشيد‏ ‏رضا‏ ‏لم‏ ‏يكن‏ ‏فى ‏ وزن‏ ‏شيخه‏ ‏محمد‏ ‏عبده‏ ‏ليكمل‏ ‏بعده‏ ‏مشوار‏ ‏الإصلاح‏ ‏ولم يكن مؤهلا لكى يعادى الأزهر وحلفاءه فى السرايا الملكية والاقطاع ، على فرض أن رشيد رضا كان مخلصا ومتحمسا فى السير على طريقة أستاذه ، ولكنه إتخذ من إستاذه سُلّما للشهرة والوصول فى حياة الامام محمد عبده ، ثم وجد المناخ مواتيا بعد موت الامام كى يتنكب طريق الامام ، ويكشف وجهه السلفى الوهابى . بل أصبح هذا المناخ مساعدا له كى يرسى دعائم السلفية ، بل يجد تشجيعا من شيوخ الأزهر الذين أفزعهم قيام مثقفين شوام بنشر  مذاهب الغرب الالحادية ، خصوصا بعد سقوط الخلافة العثمانية وتحول تركيا الى العلمانية الملحدة . وقد واكب هذا ظهور عبد العزيز آل سعود بطلا قادما من عُمق الصحراء يرفع راية إسلامية وقد إحتل الحجاز ، وانتشر   الحديث عن عودة الخلافة ( الاسلامية ) بعد سقوطها فى الأستانة .

‏7 من‏ ‏الطبيعى ‏أن‏ ‏يحاول‏ ‏رشيد‏ ‏رضا‏ ‏بمهارته‏ ‏الشامية‏ ‏أن‏ ‏يظفر‏ ‏من‏ ‏هذا‏ ‏السوق‏ ‏السياسى ‏بأى ‏ شيء‏. ‏وقد‏ ‏ظفر‏ ‏فعلا‏ ‏بشيء‏ ‏وأشياء‏، ‏وبغض‏ ‏النظر‏ ‏عن‏ ‏هذه‏ ‏الأوضاع‏ ‏السياسية‏ ‏فإنها‏ ‏خلقت‏ ‏ مناخا‏ ‏ليس‏ ‏لديه‏ ‏أدنى ‏استعداد‏ ‏للبناء‏ ‏فوق‏ ‏ما‏ ‏أرساه‏ ‏الإمام‏ ‏محمد‏ ‏عبده‏. ‏ويكفى ‏أن‏ ‏الظروف‏   الاجتماعية‏ ‏والسياسية‏ ‏فى ‏مصر‏ ‏أصبحت‏ ‏تتقبل‏ ‏فكرة‏ ‏الدولة‏ ‏الدينية‏، ‏بعد‏ ‏أكثر‏ ‏من‏ ‏قرن‏ ‏من‏ ‏   النهضة‏ ‏الفكرية‏ ‏وتأسيس‏ ‏الدولة‏ ‏المدنية‏ ‏الحديثة‏ فى مصر ، ومشاركة محمد عبده فى تاسيس الحزب الوطنى القديم الذى كان يفصل بكل وضوح بين الانتماء الدينى والعمل السياسى ويرفض خلط السياسة بالدين .

8 هذا هو المناخ الذى شهد تحالف عبد العزيز آل سعود مع  رشيد رضا ، وقيام رشيد رضا بنشر الوهابية فى مصر ، وتأسيس الاخوان المسلمين ، والتى دخلت بمصر وما حولها فى نفق الوهابية ، ذلك النفق الذى لم تخرج منه المنطقة حتى الآن .

ونحاول بعد مرور اكثر من قرن  على عصر الامام محمد عبده أن نعيد مصر والعالم العربى الى المستوى الفكرى الذى كان فى عصر محمد عبده . فما فعله رشيد رضا وعبد العزيز بن سعود وأسرته فى تخريب العقل العربى ــ بالوهابية ــ يفوق فى ضرره المذابح التى قامت بها الأسرة السعودية من عام 1745 وحتى الآن .

ونتوقف مع رشيد رضا مهندس نشر الوهابية فى مصر .

 

رشيد رضا : شخصيته بين النفاق والتعصب 

 

مقدمة :

1 ـ واقع الأمر أن رشيد رضا كان يريد حماية نفسه وسط عالم متغير ؛ امبراطورية عثمانية تتحلل وتسقط وجماعة تركية متعصبة ( الاتحاد والترقى ) تتولى زمام الأمور ، والشام فى قبضتها ، ودولة أقليمية تأخذ فى التكوين في نجد ( عبد العزيز آل سعود ) وإستعمار انجليزى يمتد من الهند بمسلميها الى مصر والسودان عبر الخليج وإماراته ، واستعمار فرنسى فى تونس والجزائر والمغرب، وآخر إيطالى فى ليبيا ، وثورة عربية كبرى ضد العثمانيين قادها الشريف حسين متحالفا مع انجلترة وفرنسا ، ونفوذ ألمانى يتحرك فى العراق وثورة رشيد الكيلانى هناك ، وحرب عالمية أولى رسمت حدودا جديدة لدول جديدة لم تكن موجودة من قبل فى الرافدين تحت الانتداب الفرنسى والانجليزى، وهزيمة الشريف حسين واستيلاء عبد العزيز آل سعود على الحجاز وتكوين دولة السعودية باسمها الحالى عام 1932 ، وقيام حكم لابناء الشريف حسين فى سوريا والعراق والأردن .

2 ـ لو كان رشيد رضا صاحب سطوة تحميه فى بلده لإختلف الأمر . لو كان شخصا يسير الى جانب الحائط يرفع شعار ( وأنا مالى ) ما تعرض له أحد . لو كان متحررا من الوهابية وعلى الدين المصرى السائد وقتها وهو ( التصوف السنى ) ما خشى من أحد  . ولكنه وهو فى مصر كان يحمل الوهابية فى قلبه وهى التى يكرهها المصريون . لقد تعرض محمد عبده بكل مكانته وجاهه الى إضطهاد فى الأزهر وهو أبرز شيوخ الأزهر ، وتعرض لاضطهاد السراى وهو من أكبر الزعماء السياسيين فى مصر ، وتعرض للنفى من مصر لأنه شارك فى حركة أحمد عرابى . أين رشيد رضا اللاجىء الى مصر من مكانة شيخه محمد عبده ؟.

3 ـ عبقريته السياسية ( اللبنانية ) أن يتلاعب على كل الحبال وأن يكسب من الجميع دون أن يتعرض للإضطهاد الذى هرب منه فى الشام .  لذا عاش حياته فى مصر ينافق ويوافق  ليحمى نفسه فى ظل هذا العالم المتغير بسرعة والمعقّد فى علاقاته . عاش معارضا بعض الوقت منافقا حتى فى غير أوقات العمل الرسمية ، فتمتع بالشهرة على مستوى العالم ( الاسلامى ) وهو فى غير بلده ، بل زار بلده لبنان التى هرب منها من قبل،زارها عزيزا مُكرما . كسب عطف شيخه محمد عبده  فى حياته وورث مكانته  بعد مماته . وكان لابد من استكمال مسيرة النفاق يكتم وهابيته مع الكبار ، بل ويتحالف معهم ينافقهم ويوافقهم ، ثم لا يلبث أن تغلبه وهابيته فيقول ما يثير أصدقاءه عليه . ثم أعلنها فى النهاية بعد أن أصبح عميلا لعبد العزيز بن سعود .

4 ـ عقيدته الوهابية أوقعته فى تقلبات سياسية . تقلباته هذه انتهت بتحالفه مع عبد العزيز . جمعتهما الوهابية ، فلم يعد بحاجة الى النفاق . إنتهى هذا بإخلاصه لعبد العزيز ، فقد وجد كلاهما فى الآخر ما يبغى. 

5 ــ نعطى بعض التفاصيل عن حياته نتابع فيها ما كتبه الشيخ د. أحمد الشرباصى فى بحثه ( رشيد رضا . صاحب المنار ) منشورات المجلس العلى للشئون الاسلامية رقم 58 عام 1970. هذا الكتاب كان بحثا علميا للدكتوراة ، وقد ملأه الباحث مدحا لرشيد رضا ودفاعا عنه ، على عادة الأزهريين فى التطبيل والتهليل لمن يترجمون لهم . وكان لا بد من التحقق مما يقوله الباحث ، وإستنطاق النصوص التى ينقلها ويلوى عنقها. ننقل المعلومات التارخية فى هذا البحث ونربطها ببعضها وبعصرها لنصل الى نتائج تخالف ما قاله الباحث .

أولا : لمحة عن حياة رشيد رضا 

1 ـ مولود فى 23 سبتمبر 1865 فى قرية لبنانية تتبع طرابلس ، وتوفى فى القاهرة فى  22 اغسطس 1935 . تزعم أسرته الانتماء الى الأشراف ، والتفاخر بهذا الزعم ممّا يسىء الى صاحبه إسلاميا ، ويجعله محترفا دينيا . ونلمح هذا الاحتراف الدينى فى سيرة رشيد رضا فى التعليم على يد والده ، ثم فى تعليمه الدينى السنى فى بيئة طرابلس اللبنانية معقل السنيين ، وفى هذا الوقت كان السنيون فى الشام هم الأكثر تأثرا بالوهابية ، لذا تأثر رشيد رضا بالوهابية من نشأته .

2 ـ وظهر هذا فى مؤلفاته بعد موت استاذه الامام محمد عبده ، إذ أظهر عقيدته السنية الوهابية بما يخالف به أستاذه الإمام . فى تفسير المنارــ الذى كتب جزأه الأول محمد عبده حتى  الآية (125) من سورة النساء، وأكمله رشيد رضا حتى سورة يوسف ــ نرى الامام محمد عبده ينفى علم النبى محمد بالغيب وبالتالى ينفى كل الأحاديث التى فيها كلام عن غيبيات المستقبل والساعة والشفاعة وأحوال اليوم الآخر، وأتى رشيد رضا فكتب بعده فى تفسير المنار يثبت الشفاعة وملأ تفسيره بالأحاديث عن الغيبيات . بالتالى فلكل منهما دين خاص لا يلتقيان . وبالتالى أيضا فإن رشيد رضا كان ممّن مرد على النفاق بحيث كتم دينه حتى يستفيد بصحبة شيخه ونفوذه ، ثم فيما بعد ينقلب عليه .

3 ـ حين كان الامام محمد عبده منفيا فى لبنان زار طرابلس فالتقى به رشيد رضا فاكتسب عطف الامام. كان محمد عبده وقتها مأخوذا بفشل ثورة عرابى ، يعيش يلعن السياسة ، ويعايش حُلما جديدا ، هو الاصلاح الدينى والتعليمى . ويأمل أن يكوّن جيلا متعلما مثقفا من الشباب يجاهد فى الاصلاح ، يتبنى الأفكار التى يدعو اليها الامام محمد عبده ، والتى تتناقض مع الوهابية . الخدعة الكبرى أن هذا الوهابى العريق هو الذى إقترب من الامام محمد عبده ، فوجد فيه محمد عبده الشاب الذى يخلفه ويكمل مسيرته . لذا قضى الامام محمد عبد سنوات حياته الأخيرة يكتب فى الاصلاح ومعه مساعده الشاب .

بعد عودة الامام محمد عبده الى مصر لحق به رشيد رضا  فى يناير 1898  فقيرا لايملك شيئا ، ولكن سرعان ما أصدر بعد شهرين مجلة ( المنار ) فى مارس 1898 بموافقة وتعضيد الامام محمد عبده ، وكان فيها باب لتفسير المنار يكتبه الامام .

4 ــ وأسّست جريدة المنار شهرة رشيد رضا فى ربوع العالم الاسلامى من شمال افريقيا الى الهند ، وأصبحت المنار هي المجلة الإسلامية الأولى في العالم الإسلامي . بعد موت الامام محمد عبده بدأ رشيد رضا يحتل مكانته ، فأتته الدعوات لزيارة أقطار مختلفة من الهند الى الخليج والحجاز وسوريا . وقابل الحكام وتعامل مع المشاهير ، وأنشا عام 1912 مدرسة دار الدعوة والإرشاد لتخريج الدعاة  في مقرها في جزيرة الروضة بالقاهرة، وبدأت الدراسة في اليوم التالي للاحتفال،  وواجهته صعوبة التمويل فتوقفت مع بداية الحرب العالمية الأولى .

ثانيا : تعصب رشيد رضا  

1 ـ  جاء رشيد رضا الى القاهرة فقيرا، سكن أولا فى حى شعبى (درب الجماميز ) بالقاهرة ، ثم إنتعشت أحواله فانتقل إلى مسكن بالقرب من " كوبري الملك  الصالح " ،ثم دار في شارع زين العابدين بحي السيدة زينب . واخيرا اشترى بيتا  في شارع ( صفية زغلول الآن ).  وفيها كان المسكن ، والمطبعة ، والمكتب ومخزن الكتب .

2 ــ ويعترف رشيد بأحواله قبل القدوم الى مصر، حيث الذل والفقر ، ثم  يقول : " وأين منهم المقام في مصر التي كانت جديرة بان يحسدها الملوك والأمراء في كل قطر : أمان واطمئنان ، وسعة في الرزق ، وجميع مرافق الحياة " ويقول : " إنني لم أكن أستطيع وانا في وطني الأول ( لبنان ) أن أقول الحق ،ولا أن أكتبه ، ولا ان اخدم الملة والأمة بما خدمتها به في مصر ، وانا اعتقد أن هذه الخدمة فرض علي ، وقد آذتني الحكومة الحميدية  ( التركية العثمانية فى عهد السلطان عبد الحميد ) علي في اهلي ومالي وانا بعيد عن سلطتها ، ولو قدرت علي لما اكتفت بمنعي من هذه الخدمة ، بل لنكلت بي تنكيلا " .  

3 ـ ولكن عقيدته الوهابية السنية أسفرت عن وجهها فى كتاباته بعد موت الامام محمد عبده. وفى علاقاته بالمصريين وغيرهم .

3 / 1 : تبدو عقيدته الوهابية فى كراهيته للأقباط المصريين . جاء الى مصر مهاجرا فتعامل بكراهية ــ وهابية ــ مع الأقباط وهم (أصل مصر ) . تصدى للاقباط المصريين ومطالبهم وأخذ يرد على عقائدهم ، وأخذ يهاجم ما زعمه بالتحالف بين الأقباط والانجليز . وهو الذى كان عميلا سريا للإنجليز ـ كما سيظهر فيما بعد . وجمع رشيد مقالاته في كتاب خاص أسماه "المسلمون والقبط".

3 / 2 : هجومه على الأقباط جعلهم مع الليبراليين المصريين يهاجمونه ردا على عدوانه عليهم. وكان من أبرز صحفهم ومجلاتهم التي هاجمت رشيدًا بقوة "مجلة الشرق اليسوعية . وفي أغسطس سنة 1907 يذكر رشيد  فى جريدة ( المنار) أن ابراهيم المويلحي كتب في جريدة : "المؤيد "   يقول عن رشيد انه جاء مصر فقيراً ، ثم بعد ان صار غنياً طعن على اهلها ، ويذكر رشيد أيضا انه لم يرد على المويلحي حينئذ ، لأن الحملة كانت من صحف : المؤيد ، واللواء ، والجوائب ، وجرائد اخرى .  ) ويرد رشيد رضا يزعم أنه لم يرد عليهم لأن المقصود بالهجوم هو الامام محمد عبده . وهذا تزوير فادح فاضح ، فالامام محمد عبده هو شيخ الليبرالية فى مصر ، وهو عدو الدولة الدينية الذى يؤمن بالفصل بين الدين والسياسة فكيف يهاجمه أبناؤه الليبراليون ؟ ثم إن الهجوم هنا شخصى على رشيد رضا الذى جاء لمصر فآمنته مصر من خوف وأطعمته من جوع فكان أن ردّ الجميل بالتى هى أسوأ . هذا هو رشيد رضا وليس هو محمد عبده .

3 / 3  ـ وتبدو عقيدته الوهابية فى هجومه على المصريين ، فى قوله لصديقه الشنقيطى : " إنني أنكرت نفسي في مصر ، فإن كثرة رؤيتي  للمنكرات فيها ، ككشف العورات في الحمامات ، وشرب الخمر على  أفاريز الطرقات ، وكثرة سماعي لقول السوء ، خفف استبشاع ذلك في نفسي ، وضعف كره أصحابه والنفور منهم ، فإنني كنت في بلدي القلمون المجاورة لطرابلس الشام  إذا سمعت بأن رجلا ارتكب فاحشة لا يستطيع النظر إليه ولا الحديث معه " . هنا كراهية وهابية لشخص الذى يرتكب المعصية . وهذه الكراهية الشخصية للعاصى والابرؤ منه تخالف الاسلام ، فالنبى محمد عليه السلام كان مأمورا أن يتبرأ من عصيان أصحابه وليس منهم هم:( وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ)

( 215 : 216 الشعراء   )

3 / 4 ـ تبدو عقيدته الوهابية فى هجومه على الحكومة المصرية ووصفها بأنها حكومة صورية لأنها لا تقف ضد الانجليز فى السماح بالتبشير بالمسيحية فى مصر . ناسيا قوة التبشير فى لبنان وسوريا وعدم وقوفه ضد هذا التبشير هناك ، وناسيا أن الليبرالية المصرية كانت تسمح بهذا وقتئذ ، وأن الليبرالية الغربية كانت ـ ولا تزال ـ تسمح للمسلمين  بالتبشير بدينهم فى الغرب . ومبدأ الحرية الدينية المطلقة من أُسُس الاسلام .

4 ـ وبعض أصدقاء رشيد رضا إنفضوا عنه وهاجموه ،

4 / 1 : سافر رشيد الى عُمان والكويت عام 1330هـ/1913م ، وقال فى المنار تحت عنوان (رحلتنا الهندية العربية   :شكر علني لأهل عمان والكويت ) : ( شكرنا في الجزأين الأول والثاني لإخواننا مسلمي الهند حفاوتهم بنا وحسن ضيافتنا، ووعدنا بأن نشكر مثل هذه الحفاوة لإخواننا العرب الكرام في مسقط والكويت والعراق، وقضتْ كثرة المواد التي لا يمكن تأخيرها أن نرجئ الوفاء بهذا الوعد إلى هذا الجزء .) وتحدث بإسهاب عن الحفاوة الى إستقبله بها أمير الكويت وأهل الكويت وأهل عُمان .

ولكنه لم يذكر ما حدث فيما بعد حين اصدر علماء الكويت فتوى بتكفيره، وحاول أحدهم قتله فى السنة التى زار فيها الكويت . (جلال كشك :  السعوديون والحل الاسلامى 271 ، 306 ).

4 / 2 : كان من أصدقاء رشيد رضا الشيخ الأزهرى ( يوسف الدجوي ) ت 1946 ، عضو هيئة كبار العلماء ، وهو من الشيوخ المحافظين خصوم الوهابية ، وهو صاحب ( رسائل السلام ) .  وقد هاجم الشيخ على عبد الرازق فى كتابه  ( الرد على كتاب الاسلام وأصول الحكم ) .

عندما أظهر رشيد رضا وهابيته وتحالف مع ابن سعود أرسل اليه الدجوى رسالة بتاريخ يوم الثلاثاء  8 سبتمبر سنة 1931 ، يقول فيها : (لتعلم يا شيخ رشيد (فيما بيني وبينك ) أني اعلم من سخافات المنار ، وتفسير المنار ، ومن خرق الاجماع ، وتأييد الابتداع ، بل من  كفريات المنار وتفسير المنار ، ما يربو على كفريات أبي زيد الذي هو غرس يدك ، وثمرة شجرتك ، وما أخذ أسسه إلا منك ، خصوصا تفسير سورة البقرة والنساء . ولا عبرة بكثرة الكلام ، وطيش الأقلام وإنما العبرة بالمنطق الصحيح، والتحليل  البالغ ،والتفكير العميق ، وقد رأيت أن أتغافل عما كتبت  في منارك هذه المرة ، علما بعذرك من ، ومن ، ومن .واستبق من لم ترد قطيعته واستره مادام عنك مستترا. وما حملني على لإطالة في الرد على الوهابيين إلا جهالة جهلائهم ، وسفاهة سفهائهم ، وقد قالوا قديما : عدو عاقل خير من صديق جاهل .وما عجبت لشيء عجبي لقراء المنار التي يكفرهم صاحبه  ، ويستحل دماءهم وأموالهم ، ويعتقد أنه يتقرب بذلك إلى الله  لو قدر على ذلك ، كإخوانه الوهابيين ، ولا ادل على ذلك من نشره تلك الكتب المعروفة التي يحبثها ، ويقول بما فيها ، خصوصا ( تطهير الاعتقاد ) الذي نشره مستقلا بعد أن نشره في المنار . وبعد فإني أعرف  من تناقضك وتلونك وتاريخك ما لا تعرفه من نفسك ( وقلما يعرف انسان ما يكون طبيعيا فيه ) . فاتق الله يا شيخ رشيد ، ورزقك الله الرشد ، ( ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم  إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما ) .واقبل فائق احترامي وخالص تحياتي . صديقك القديم : يوسف الدجوي . من هيئة كبار العلماء ") .

جدير بالذكر أن :

1 ـ  د. الشرباصى صاحب كتاب رشيد رضا ، يقول فى صفحة 204 عن هذه الرسالة  : ( رسالة خطية وفقت للعثور عليها ، وهي من الشيخ يوسف الدجوي ، ولم تنشر ، وقد احتفظ رشيد بالرسالة وغلافها ، وكتب عليها ما يلي : " يحفظ من الشيخ يوسف الدجوي 14 سبتمبر سنة 1931 ، فيه من الشتائم والسفه والتقرير ولم يكن يظن بانتهاء جهله وغروره إليه " .) أى إن رشيد رضا رفض نشر هذه الرسالة على غير عادته .

2 ـ أعتقد أن السبب فى عدم نشر رشيد رضا لهذه الرسالة هى قول الدجوى : (وما عجبت لشيء عجبي لقراء المنار التي يكفرهم صاحبه  ، ويستحل دماءهم وأموالهم ، ويعتقد أنه يتقرب بذلك إلى الله  لو قدر على ذلك ، كإخوانه الوهابيين . ). والمعنى أن عبد العزيز آل سعود يستحل بدينه الوهابى من ليس وهابيا ويعتبر قتلهم وقتالهم قربة يتقرب بها الى الله جل وعلا . أى يستحل دماء من يقرأ المنار ، وهم جمهور عريض ليس كله وهابيا . نشر هذه العبارة تضع رشيد رضا فى مأزق مع قُرّاء المنار .

3 ـ إنقلبت صداقة الدجوى برشيد رضا الى خصومة ومقالات وملاسنات فى مجلات  الأزهر والمنار . وللشيخ الدجوى كتاب يهاجم فيه رشيد رضا هو : (  صواعق من نار فى الرد على صاحب المنار  ).

رشيد رضا عميلا لانجلترة : بين رشيد رضا وأسمهان

 

رشيد رضا عميلا لانجلترة

أولا :

بالذكاء الانجليزى تأسّست الامبراطورية البريطانية واستمرت قرونا:

1 ـ كانت الامبراطورية التى لا تغيب عنها الشمس ، الذين كانت تحكمهم إنجلترة كانوا يفوقون عدد سكانها مئات المرات. كوّنت هذه الامبراطورية بالذكاء ، إحتلت الهند بالتجارة ( شركة الهند الشرقية )التى أصدرت مرسوم إنشاءها الملكة اليزابيث عام 1600 . وبها توغلت فى آسيا الى السيطرة على الصين . بذكائها كانت تستخدم جنودا من استراليا تحكم بهم الهند ، وتستخدم جنودا من الهند تحكم بهم مصر .

2 ـ لم يكن هناك مثيل للإستعمار الأسبانى فى حٌمقه ولا فى جشعه . دمّر شعوبا فى العالم الجديد ونهب كنوزها .  لم يكن لدى الانجليز قدرة على منافسة أسبانيا التى جنّدت قوتها العاملة فى جيشها العامل فى الاسطول وفى قهر شعوب أمريكا الجنوبية والوسطى . كان هناك نقص فى الانتاج الأسبانى  فى الداخل ، لم يكن يفى بحاجات الشعب ولا الأسطول .نهض الذكاء الانجليزى للإستفادة منه ، أغرقت المنتجات البريطانية أسبانيا وبدأ الذهب الأسبانى ينتقل الى إنجلترة. قويت إنجلترة فعهدت لقراصنتها بحرب إستنزاف للسفن الأسبانية التى تحمل كنوز أمريكا ، تهاجمها وتستولى على حمولتها.

3 ـ شبّت الحرب بين انجلترة واسبانيا واستمرت الحرب من عام 1585 : 1604 . الغرور الأسبانى فى هذه الحرب جعل ملك أسبانيا يقوم بتصنيع أكبر اسطول فى العالم وقتها لغزو بريطانيا ، وهو الأرمادا . هذه الاسطول الضخم البطىء الحركة هزمته السفن البريطانية السريعة فى مايو 1588 .وبهذا بدأ غروب الامبراطورية الأسبانية لتحتل بريطانيا مكانها بل وتتفوق عليها .

4 ــ هذا الذكاء البريطانى جعل الأمبراطورية الابريطانية ليست فقط أضخم إمبراطورية بل الأكثر إستمرارا ، وحين إحتلت بريطانيا مصر كانت لهذا الذكاء خبرة تراكمت خلال ثلاثة قرون . هذا الذكاء منقطع النظير   هل يمكن أن يتلاعب به اللبنانى المنافق رشيد رضا ؟

ثانيا :

بين الذكاء البريطانى والامام محمد عبده

1 ـ فى مذكرات الامام محمد عبده يبدو ضيقه من أحمد عرابى وسطحيته ، ولكن إشترك محمد عبده فى حركة عرابى وكان ظهيرها المدنى . الذكاء الانجليزى لم يشأ معاقبة عرابى بالاعدام ، إكتفى بنفيه ، ثم سمح له بالعودة بعد تحطيم اسطورته . الذكاء الانجليزى هو الذى إحتوى ثورة 1919 وأنهاها بمثل ما أنهى دعوة مصطفى كامل وعزل محمد فريد . الذكاء الانجليزى هو الذى أعاق تقدم العرب والمصريين بمساعدة عبد العزيز وحسن البنا ، وأن تجلو تاركة المنطقة تحت حكم مستبدين تتلاعب بهم، وتحصل بريطانيا على الأرباح بعد الجلاء دون إحتلال .

الذكاء الانجليزى فهم شخصية محمد عبده الاصلاحية التى لا ضرر فيها على المستوى المنظور ، بل يمكن الاستفادة منها فى تدعيم سُلطة الاحتلال وتبييض وجهه .

بعد فشل عرابى حُكم على الشيخ محمد عبده بالسجن ثم بالنفي إلى بيروت لمدة ثلاث سنوات،عاد الى مصر عام 1889 ، بالسماح الانجليزى .

وبإتفاق مع اللورد كرومر ـ الذى كان مثقفا داهية ـ تفرّغ محمد عبده الى الاصلاح . وخلال هذه المدة وحتى وفاته أنجز محمد عبده الكثير . ساعده كرومر فى إنشاء كلية للقضاة الشرعيين تحت رئاسة محمد عبده . كما كان الشيخ مستشارا فى مجلس شورى القوانين الذى سنّ قوانين عصرية .  من إصلاحات الامام فتاويه الجريئة سابقة عصرها ومنها إباحة التوفير وأنه ليس من الربا المحرم ، وأقواله الجريئة مثل قوله ( ان المسلمين ليس لهم إمام في هذا العصر غير القرآن وإن الإسلام الصحيح هو ماكان عليه الصدر الأول قبل ظهور الفتن  ) وقوله:( لايمكن لهذه الأمة أن تقوم مادامت هذه الكتب فيها -التراثية - ولن تقوم إلا بالروح التي كانت في القرن الأول، وهو القرآن وكل ماعاده فهو حجاب قائم بينه وبين العلم والعمل ). وقوله عن كل الأحاديث ( لايمكن أن يعتبر حديث من أحاديث الآحاد دليلاً على العقيدة ). ومن الاصلاح الدينى تفرع إصلاح الأدب واصلاح السياسة ، وهذا موضوع شرحه يطول ، ولكن يكفى  أن مدرسته الاصلاحية التى سارت على خُطاه لم تصل الى درجته . ومن أعلام مدرسته سعد زغلول وقاسم أمين وأحمد لطفى السيد وطه حسين وعلى ومصطفى عبد الرازق والمراغى وأحمد أمين. ومن أسف أن إنتشار الوهابية أجهض مدرسة الامام محمد عبده . والذى قام بإجهاض هذه المدرسة هو ذلك المنافق عميل انجلترة : رشيد رضا .

ثالثا : رشيد رضا عميلا لانجلترة

1 ـ فى نفس العام الذى رجع فيه الامام محمد عبده الى وطنه إرتحل رشيد رضا الى مصر ليعمل مع شيخه الذى جهّز له الامكانات وقدّمه الى أعلام مصر فى السياسة والثقافة والاعلام . وقدمه أيضا الى المسئولين الانجليز فى مصر . بدون الامام لم يكن لهذا اللبنانى اللاجىء أن يحوز على هذه الشهرة وتلك المكانة . والمنتظر أن يكون النفوذ الانجليزى خلف ذلك ، وأن يكون مستفيدا من ذلك . فلا  يمكن للاجىء لبنانى فقير أن يتعامل مع السلطات الانجليزية فى مصر وخارجها إلا إذا كان هذا فى المصلحة البريطانية من الأساس . كما أنه لا يمكن للذكاء الانجليزى الذى حكم العالم وأدار شئونه قرونا أن يعجز عن فهم رشيد رضا وأن يعرف الفارق بين محمد عبده المخلص فى طلب الاصلاح  وتلميذه المتلون المنافق . ولذا لم تتعرض العلاقة بين محمد عبده والانجليز الى تقلبات ، بل ظل الشيخ الى آخر حياته متفرغا للاصلاح وعلى وفاق مع كرومر ورفاقه الى درجة حزنهم الشديد على وفاته المبكرة . هذا بينما عمل رشيد رضا فى خدمة بريطانيا ولم يحظ على ثقتها ، فكانت تتعامل معه بمنطق العصا والجزرة .

2 ـ  رشيد رضا كان نموذجا مثاليا لأن يعمل عميلا للمخابرات البريطانية ، فهوعالم مسلم وتلميذ للإمام محمد عبده ، ليست له جذور فى مصر  يحتاج الى القوة المسيطرة على مصر يتكىء عليها . ينقصه الإعداد وأن يكون مشهورا . وهذا سهل وميسور . يعيبه الطموح وأنه لا يوثق به . العلاج سهل ، وهو أن يكون تحت السيطرة بالترهيب والترغيب .

3 ـ نتابع ما كتبه د أحمد الشرباصى فى كتابه عن رشيد رضا ــ فيما ينقله عن ( المنار ) وكتب رشيد رضا وما نثره فيها من مناقبه الشخصية وذكرياته . والعادة ان الباحث الشيخ الشرباصى ينقل هذه  النصوص عن علاقة رشيد رضا بالانجليز وهو يهتف لرشيد وكراهيته للإستعمار . وكان الهجوم على الاستعمار هو الثقافة السياسية فى عهد عبد الناصر وقت نشر هذا الكتاب . ننقل من هذا الكتاب الدليل على أن رشيد رضا كان عميلا للإنجليز .

  رابعا :

الأدلّة على أن رشيد رضا كان عميلا للإنجليز :

1 ـ بمجرد مقامه فى مصر قدّمه الامام محمد عبده الى ( موظف ) بريطانى، يقال عن رشيد رضا أنه ( تعرف بشخص واحد هو (متشل انس) الذي كان موظفًا بوزارة المالية المصرية وقد مدحه رشيد وذكر أنه أشد الإنجليز استقلالاً في الفكر وحرية في الرأي، وكان له مذاكرات سياسية ودينية مع رشيد رضا، وقد عقد الصلة بينهما الشيخ محمد عبده . ).

2 ـ أرسله الانجليز فى رحلات مختلفة تسبقه فيها شهرته كعالم مسلم وخليفة الامام محمدد عبده . وكان فى رحلاته يجتمع بالأمراء والملوك والقادة ، حيث يتحدثون معه بحرية واثقين من مكانته لا يعرفون خلفيته البريطانية . مثلا قام بزيارة للهند ( دُرّة التاج البريطانى ) والتى من أجلها سيطرت على إمارات الخليج . وفى هاتين الرحلتين تم إستقبال رشيد رضا بحفاوة بالغة ، وأجرى محادثات مع بعض الحكام مثل حاكم الكويت . يقال تحت عنوان (  رحلته إلى عمان والكويت ..: رحلته إلى عُمان والكويت عام  1330 / 1913 ) :كانت الهند ضمن الأقطار التي زارها رشيد رضا في رحلاته - كما سبق - وفي طريق عودته من الهند إلى مصر مرَّ بعمان والكويت وكلها بلاد كانت مستعمرة من الإنجليز.وكان وصوله إلى مسقط في 12 جمادى الأولى عام 1330هـ بواسطة سفينة إنجليزية حملتْه من الهند إلى مسقط، والتَقَى في مسقط بسلطانها السيد فيصل وبعض رجالها، كما قام بإلقاء بعض الخُطَب والمواعظ في بعض مساجد مسقط

وبعد أن مكث الشيخ رشيد سبعة أيام في مسقط سافَر منها إلى الكويت، واجتمع في الكويت بالشيخ مبارك الصباح وبعض رجالها، وأقام في الكويت أسبوعًا أيضًا، ألقى فيه العديد من الخطب والمواعظ في بعض مساجد الكويت، كان عليها إقبال كبير من الناس ،كما يذكر ذلك الشيخ رشيد رضا نفسه عند حديثه عن رحلته إلى عمان والكويت، وقد تطرَّق الشيخ رشيد في حديثه إلى بعض الأمور السياسية والتاريخية التي لها صلة بالموضوع.)

3 ـ نحن الآن قبيل الحرب العالمية الأولى والتى يجرى الاستعداد لها . كانت الدولة العثمانية قد تحالفت مع ألمانيا ضد انجلترة وفرنسا . وكان السلطان عبد الحميد قبل عزله يهدد بريطانيا بمشروعه ( الجامعة الاسلامية ) وبمشروع خط سكة حديد الحجاز . وبالتقارب بين الدولة العثمانية وألمانيا كان لا بد لإنجلترة من وأد المشروعين . مشروع الجامعة الاسلامية كان مقصودا به إثارة مسلمى الهند على بريطانيا وإثارة مسلمى شمال أفريقيا على فرنسا . لإجهاض هذا المشروع كان لا بد من وقوف العرب المسلمين مع بريطانيا ضد الدولة العثمانية . وبالاتفاق مع بريطانيا أعلن الشريف حسين حاكم الحجاز الثورة على الدولة العثمانية وأتهمها بالكفر ليجهض مقدما إستغلالها للخلافة فى صراعها مع انجلترة . إحتاجت بريطانيا الى حملة ( إسلامية ) تؤيد الشريف حسين فى ثورته على الخليفة العثمانى . وكان رشيد رضا أبرز المؤيدين للشريف حسين . نتصور أن رشيد رضا لم يكن معجبا بالشريف حسين حاكم الحجاز لأن هذا الشريف حسين كان أكبر خصم للوهابية ولعبد العزيز آل سعود فى دولته ( نجد ) . ولكن حتّمت عليه عمالته للإنجليز أن يؤيد الشريف حسين فى ثورته .. ثم فيما بعد يتركه وينضم الى عبد العزيز آل سعود عندما وقع الصراع بينه وبين الشريف حسين.

2 ـ يقول د أحمد الشرباصى : ( وتشير الدلائل على أن رشيد رضا قد تعاوَن مع الإنجليز في بداية الحرب العالمية الأولى وذلك ضد الاتحاديين، ولهذا أيَّد ثورة الشريف حسين أوَّل الأمر . ) ويقول : (  وبين يديَّ الآن مذكرة كتبها رشيد رضا بخط يده في أوائل عام 1915م (1334هـ) وقدَّمها إلى رجال الدولة البريطانية في مصر، وقد بدأ رشيد مذكرته في ملحق إضافي بيَّن فيها سبب كتابته هذه المذكرة، وذكر أن بعض أصحابه السوريين جمعوه مع (الكولونيل هوكر باشا) الذي سأل رشيد رضا عن موقف العرب إزاء دخول الدولة العثمانية في الحرب الحاضرة (الحرب العالمية الأولى) مع ألمانيا فأجابه رشيد بأجوبةٍ تمنَّى الكولونيل كتابتَها له لأهميتها، ولأجل دراستها مع رجال حكومته.كما حرص على ذلك مدير المخابرات في مصر (الكابتن كليتن)، فكتب رشيد هذه المذكرة من أربع عشرة صفحة مع ملخص لها في صفحتين، أمَّا الملحق الإضافي لها فهو في خمس صفحات. ).!!

ويقول ( ..حتى إذا اشتعلت نيران الحرب العالمية الأولى عام 1914م وانضمَّت تركيا إلى ألمانيا ضد إنجلترا وفرنسا أعلن الشريف (حسين بن علي) ثورته ضد الأتراك في عام 1334هـ (أكتوبر 1916م) منحازًا إلى جانب الإنجليز، وقد أبدى رشيد إعجابه وتأييده لهذه الثورة ووصَفَها بأنها أعظم خدمة للإسلام والمسلمين.. )

وعندما ساءت العلاقات بين الشريف حسين ورشيد رضا اسرع رشيد رضا بفضح الشريف حسين وإتفاقاته السرية مع بريطانيا ، والتى كانت معلومة لرشيد رضا . يقول د . أحمد الشرباصى ( وأخَذ رشيد رضا يبيِّن مساوئ وأخطاء ثورة الحسين وأسرارها، فيذكر أن الشريف حسينًا كان متَّفقًا مع بريطانيا قبل ثورته على أن يحكم بلاد الجزيرة العربية وسوريا والعراق تحت قوَّة بريطانيا.ويذكر أن ذلك الاتِّفاق كان سريًّا لم يطَّلع عليه أحد، وقد أطلع أحدُ الإنجليز في مصر رشيدًا على هذا الاتفاق قبل الثورة، ويذكر رشيد أنه أنكره وقال: لا يرضى بذلك إلا عدو للعرب أو حمار لا يفهم معناه") . واضح هنا أن رشيد رضا طرف أساس فى خدمة بريطانيا  بحيث تُطلعه على إتفاقاتها السرية . ويدافع الشيخ الشرباصى عن رشيد فيقول : (  ولكن إذا كان رشيد قد اطَّلع على هذا الاتفاق قبل الثورة - كما يقول - فلماذا لم يصرِّح بإنكاره على الشريف حسين في ذلك الوقت وينصح له؟ لعلَّ رشيدًا فعَل ذلك ولكن الشريف حسينًا كذَّب الاتِّفاق وأنكره.)

رابعا :

أنجلترة تشدُّ أُذُن الشيخ رشيد رضا :

1 ـ لا ريب ان بريطانيا عرفت بخيانة رشيد رضا لمنهج استاذه الامام الاصلاحى . وبالتالى  لم تكن تثق فيه وكانت تراقبه . شكيب ارسلان صديق الشيخ رضا يأخذ من مراقبة بريطانيا لرشيد دليلا على خصومة رشيد مع بريطانيا . وهو فى كتاباته عن صديقه رشيد فى غاية التحيز له . يقول مثلا : ( جاءنا في إحدى المرَّات أن السيد رشيدًا هو من المغضوب عليهم عند الإنجليز؛ لأنهم رغبوا إليه في بث الدعاية الإنجليزية ببلاد العرب، فلم يستطع أن يجيبهم علنًا وأظهر شيئًا من الموافقة لهم على مقاصدهم على صورة أن يبثَّ الدعوة لفصل العرب عن الترك، فوافَقُوه على ذلك إلا أنهم فيما بعد قبضوا على كتبٍ منه تتضمَّن التحذير من الإنجليز أنفسهم، فقبضوا عليه وفكَّروا في نفيه إلى مالطة في جملة مَن نفوهم، وكادوا يفعلون إلا أنهم عادوا وفكَّروا أن نفي مثل هذا الشيخ قد يقربه من الأتراك، ويزيد الضرر بسياستهم فتركوه في مصر لكن تحت المراقبة الشديدة) . ويلتقط الشيخ الشرباصى الخيط من شكيب ارسلان ويقول : (  ومع بقاء رشيد تحت المراقبة الشديدة من الإنجليز كان له أدوار سياسية خاصَّة في إخراج بعض المسلمين من السجن الذين اعتقلهم الإنجليز اعتقالاً سياسيًّا فخرجوا بكفالة رشيد رضا. ) .!!.

2 ـ قويت الشكوك البريطانية فى رشيد رضا فى رحلته الى الشام عام 1919 بعد نهاية الحرب العالمية الأولى ، حيث أُستقبل بحفاوة ، وتم تنصيب فيصل بن الشريف حسين ملكا على سوريا. وفي دمشق انتُخِبوا رشيد رضا رئيسًا للمؤتمر السوري العام الذي كان بمثابة مجلس الأمة (أو الشعب) في مملكة سوريا.  فأعلن المؤتمر استقلال سوريا وجعل الأمير فيصلاً ملكًا عليها،ولكن سرعان ما احتل الفرنسيون دمشق  في 23 يوليو عام 1920م . ثم أراد رشيد بعد ذلك العودة إلى مصر، ولكن سلطات الاستعمار الإنجليزي لم توافق على عودته، ولم يعد رشيد إلى أسرته في مصر إلا بعد عام كامل قضاه في سوريا.

3 ـ ويبدو أن الشكوك البريطانية فى رشيد رضا كانت لها وجاهتها ، فلم تستبعد بريطانيا أن رشيد فى إقامته فى سوريا تحت الحماية الفرنسية قد لعب على الحبال الفرنسية ضد مصالحها . لذلك ظل رشيد خاضعا للمراقبة البريطانية فى تحركاته وفى مراسلاته ، حتى ان السلطات البريطانية منعته من الاجتماع بصديقه شكيب ارسلان  سنة 1934م.

أخيرا

1 ـ هناك عميل لبنانى آخر مشهور، كان جاسوسا لانجلترة  فى الحرب العالمية الثانية ثم تلاعب بها ، فقتلته عام 1944 . هذا العميل هو المطربة أسمهان .

2 ـ من حُسن حظ الشيخ رشيد رضا أنه ليس اسمهان وأنه نجا من مصير أسمهان .

 

رشيد رضا والشريف حسين حاكم الحجاز

مقدمة :

1 ـ يقول رب العزة جل وعلا : ( تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83) القصص ). ( العُلُوُّ ) لا يكون إلّا  لرب العزة جل و (علا ) سبحانه و (تعالى ) عما يشركون . المتقون لا يسعون الى (العلو ) فى الأرض لأن هذا يعنى الفساد أخلاقيا وسلوكيا . يصل المستبدون بالقوة الى العلو فى الأرض وينافسهم آخرون يسعون الى التمكين بإستعمال القوة وبخداع الجماهير . المصلحون المتقون يعرفون أن الاسلام ليس فيه دعوة سياسية للوصول الى الحكم ، وأن مجتمعا ما لو أقام دولة حقوقية إسلامية فليس فيها خلط الدين بالسياسة وليس فيها كهنوت دينى أو إستبداد سياسى وليس من وظيفتها إدخال الناس الى الجنة والدعوة الى هدايتهم لأن الهداية والضلال إختيار شحصى ، ومن إهتدى فلنفسه ومن ضلّ فعليها ،ومرجعنا جميعا للواحد القهار ليحكم بيننا يوم الدين فيما كنا فيه مختلفين . هذا ما فهمه محمد عبده حين هاجم الدولة الدينية . وقد إُضطر محمد عبده للاشتراك فى الثورة العرابية دفاعا عن وطنه ،ولم يكن معجبا بعرابى وانتقده ، وبعد فشل ثورة عرابى وعودة الامام محمد عبد من منفاه الى وطنه تفرغ ما تبقى له من عُمر فى الاصلاح متحملا مواشى الأزهر .

2 ـ على النقيض جاء اللبنانى رشيد رضا الى مصر يحمل وهابيته ونفاقه ليصل بالسياسة فى مصر الى السلطة والثروة مستعينا بعد موت الامام بمن يملك القوة ، وهم الانجليز . لم تكن له قوة ذاتية فهو لاجىء يخفى وهابيته المكروهة من المصريين ، وبالتالى كان عليه أن يتكىء على الانجليز . ورأى فيه الانجليز مواهب لا تصلح إلا فى أن يكون عميلا لهم ، فإستخدموه قبيل الحرب العالمية الأولى وأثنائها بوقا إعلاميا ضد تركيا ومع ثورة الشريف حسين . وبعد أن إستعملوه ولم يعد مفيدا لهم بل قد يسبب لهم الإزعاج هددوه وطردوه . أى إن عمله بالسياسة لم يجن منه سوى أن يكون عميلا لانجلترة . ثم كان من حُسن حظّه أن عبد العزيز آل سعود قائد الوهابية ــ الذى يحارب فى نجد يقيم دولته متوسعا فى الشرق ( فى الاحساء والمنطقة الشرقية ) ـ كان قد إلتفت الى الغرب بسبب نزاعه مع خصمه الشريف حسين ، وانتهى النزاع بينهما بهزيمة الأشراف وإستيلاء عبد العزيز آل سعود على مكة والمدينة وسيطرته على الحجاز ، فأصبح نجما عالميا صاعدا ،دخل عبد العزيز بإستيلائه على الحجاز الى عالم الأضواء وإهتمام العالم ، فوجد رشيد  مكانه المفضل،أن يعمل خادما لسيده عبد العزيز، بعد ان طرده أسياده الانجليز. ونعطى بعض التفاصيل :

أولا : بأوامر بريطانية : رشيد رضا ( الوهابى ) يتحالف مع الشريف حسين عدو الوهابية الأكبر

1 ـ كتم رشيد رضا وهابيته فى أعماق قلبه وتسلح بكل ما يملك من نفاق وسعى الى الاتصال بأعوان الشريف حسين . وهذا كان بأوامر بريطانية . يقول الشرباصى فى كتابه عن رشيد رضا : (  فالشيخ رشيد يذكر لنا: أن أوَّل صلة له بالشريف حسين كان عام 1327هـ/ 1909م في أثناء إعلان الدستور العثماني، حينما التقى الشيخ رشيد بكاتب سر الشريف (مصطفى فهمي) الذي استشاره رشيد في وجوه إصلاح الحجاز فذكر له رشيد طائفة من تلك الإصلاحات أبلغها كاتب السر إلى حسين بن علي فأعجب بها ، وكان ذلك سببًا في بداية اهتمام الشيخ رشيد بالشريف حسين وأعماله حتى أن كتب في سنة 1328هـ/ 1910م مؤيدًا لجهود الشريف حسين في اتفاقه مع أمير نجد (عبدالعزيز آل سعود )).  كان هذا قبيل الحرب العالمية الأولى ووقت الاعداد لها من طرف انجلترة .

2 ـ شبّت الحرب العالمية الأولى عام 1914م وانضمَّت تركيا إلى ألمانيا ضد إنجلترا وفرنسا فأعلن الشريف (حسين بن علي) ثورته ضد الأتراك في عام 1334هـ (أكتوبر 1916م) منحازًا إلى جانب الإنجليز. وبأوامر بريطانية أعلن رشيد إعجابه وتأييده لهذه الثورة،ووصَفَها بأنها أعظم خدمة للإسلام والمسلمين قائلا أنها لحماية  ( حرم الله وحرم رسوله )  - لأن سقوط الدولة العثمانية مع استمرار تبعية الحجاز لها يجعل الأماكن المقدسة فى خطر .

وانتقل من مدح الثورة الى مدح الشريف حسين ومدح إعلانه بالثورة على تركيا وإستقلاله عنها بأنه: "منشور كتب بمداد الحكمة، وأصالة الرأي وشرف الغاية. ) كما وصف الحسين بن علي بأنه (سيد العرب)  .ولما توالت المنشورات من الشريف عن ثورته ، وأخذت جريدته " القبلة " تنشرها كان رشيد ينشرها  فى المنار، ووصفها  بأنها " منشورات سيدنا الشريف الحكيمة " . وبأنها أحسن ما ينشر في المجلة ، وحرض القراء على قراءتها .واضح هنا الترتيب الانجليزى مع الشريف حسين ورشيد رضا وتوزيع الأدوار بينهما .

3 ـ وفي عام (1334هـ - 1916م) حج رشيد رضا والتقى بالشريف حسين (أو الملك حسين) ، ونزل في ضيافته وقَبِل منه ( جائزة سنية وهدية هاشمية )، كما يقرِّر ذلك رشيد نفسه. وحين إلتقى رشيد بالشريف ــ وكلاهما يزعم الانتساب للنبى محمد ـ تناسى رشيد وهابيته وإستعمل كل خبرته فى النفاق . يقول الشرباصى ( في هذا العام ــ 1916ــ حج رشيد ، والتقى بالشريف حسين ـ أو الملك حسين ــ معجبا به مثنيا على أخلاقه ، وكان رشيد يحاول تقبيل يده. ) . 

 4 ـ وقام رشيد بمهمته الدعائية وقت الحج بين جماهير الحجاج من شتى أنحاء العالم يخطب فيهم مؤيدا ثورة الشريف حسين . ومنها خطبة سياسية مهمَّة أمام الشريف حسين في احتفال أُقِيم في (منى) شرَح فيها رأيه في ضعف الدولة العثمانية وأسبابه، كما تطرَّق إلى مساوئ الاتحاديين الأتراك، ومدح عمل الشريف حسين في ثورته الاستقلالية. وقد نقلت "جريدة القبلة الحجازية" الناطقة بلسان الشريف حسين خطبة رشيد بكاملها ، وأشارت إلى ثناء الشريف حسين على رشيد وموافقته له في الرأي. وواصل رشيد مهمة الدعاية فى تنقلاته فى رعاية الشريف حسين  قائما بدوره الذى كلفته به بريطانيا ، وعاد الى مصر محملا بهدايا الشريف حسين في النصف الثاني من ذي الحجة عام 1334هـ (1916م).

ثانيا : رشيد رضا ( الوهابى ) يرفض تأييد الشريف حسين فى أن يكون خليفة المسلمين

1 ـ أحاط الشريف حسين ( المبعوث البريطانى ) رشيد رضا بالحفاوة حين زار الحجاز ، حتى أن الشريف

 اناب عنه الشيخ محمد نصيف لاستقبال رشيد في جدة ، فوصفه رشيد بأنه " وكيل سيدنا الشريف الأعظم صاحب الحجاز ".

2 ـ كان الشريف يخطط أن يحوّل رشيد رضا من مبعوث بريطانى له الى مبعوث من لدنه الى بريطانيا يتوسط لديهم ليجعلوا الشريف  خليفة للمسلمين . كان هذا من مصلحة رشيد إذ سيعلو شأنه لدى الشريف وربما لدى الانجليز ، وسيرى له دورا قادما فى الخلافة القادمة . ولكن وهابية رشيد أبت عليه هذا ومنعته من التوسط بين الشريف والانجليز ومنعته من تعضيد رغبة الشريف لديهم .   

3 ــ وبكل حنكة حاول الشريف حسين أن يجعل من رشيد بوقا له فى موضوع الخلافة ، أى تكون دعاية رشيد لتأييد ثورة الشريف على تركيا متضمنه للدعوة بأن يكون الشريف خليفة للمسلمين بدلا من  الخليفة العثمانى المحجور عليه فى تركيا . ، والشريف حسين بعروبيته ونسبه الأولى بهذا . والنسب الهاشمى الذى يزعمه الشريف حسين ورشيد رضا يرجّح تأييد رضا للشريف حسين ، خصوصا وأن هذا مجال يمكن لرشيد رضا ان يصول ويجول فيه . يقول الشرباصى : ( يذكر رشيد أن بعض المقرَّبين من الشريف تمنَّى على رشيد لو أنه جعل خطبته في منى مقدِّمة لمبايعة الشريف حسين بالخلافة، لكن رشيد رد عليه بقوله: "إن هذا ليس من رأيي ولا من حقي"، وحوَّل الحديث السياسي إلى مفاكهة أدبية . ) . رشيد هنا فى مهمة حددتها له بريطانيا ولم يأت معجبا بالشريف مؤيدا له على طول الخط . وهنا دهاء رشيد فى التملص من الاجابة بتحويل الحديث الى مفاكهة أدبية .

4 ـ ولم ييأس الشريف بل واصل الالحاح على ضيفه رشيد فى الدعاية له فى موضوع الخلافة . إلحاح الشريف معناه أنه يعرف بالصلة الوثيقة بين رشيد رضا والسلطات الانجليزية ، أى تعنى أن يتوسط له رشيد رضا لدى بريطانيا معضدا رغبة الشريف فى الخلافة ، ولكن رشيد الوهابى رفض أن يلعب هذا الدور، وحتى لا يخسر علاقته بالشريف فقد نصحه بتأجيل الموضوع الى ما بعد انتهاء الحرب العالمية وانتظار النتيجة.

5 ـ وأراد الشريف أن يضع رشيد رضا أمام الأمر الواقع ، فقام أعوانه بالاعداد لمؤتمر يحتشد له الحُجّاج  لمبايعة الشريف بالخلافة . أحسّ رشيد بخطورة الأمر وبالمأزق الذى أعدّه له الشريف فأسرع إلى مخيَّم الشريف حسين في منى ونصحه بالعدول عن ذلك، وذكَّره بوعيد حديث: (إذا بُويِع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما) . ويبدو أن رشيد قام بتخويف الشريف بالقتل بناءا على هذا الحديث ، لأن هناك خليفة عثمانى لا يزال حيا يتمتع بالبيعة والشريف حسين يناوئه ، أى يكون مستحقا للقتل . إرتاع الشريف حسين من هذا الحديث . و يذكر رشيد رضا أن الشريف حسين اعتذر له بأن ذلك من سعي بعض أنجاله وأولاده.

6 ـ وبعد عودة رشيد من الحجاز بُويِع الشريف ملكًا على العرب في المحرم 1335هـ، وقد نشر رشيد رضا منشور هذه المبايعة في "مجلة المنار" وعلَّق عليه ذاكرًا أن سبب هذه المبايعة هو تحكُّم الاتحاديين بالدولة العثمانية بمساعدة الألمان، ثم بغضهم وكراهيتهم للعرب ودينهم الإسلامي، هذا إضافة إلى أن أقاليم الدولة إمَّا أن تقع تحت سيطرة الألمان، أو تحت سيطرة أعداء الترك؛ لأنهم سيعدُّون العرب من أعدائهم التابعين للترك - فيما لو انهزمت الدولة العثمانية - فلذلك وجب إعلان الاستقلال . وتبد حنكة رشيد من تاييده لاستقلال الشريف وعدم قبوله بأن يكون الشريف ملكا على جميع العرب .

6 ـ يقول الشرباصى : ( لذلك كان غير مستغرب أن تثار الأقوال عن حج رشيد سنة 1334 هـ ـ 1916 م حيث قيل انه ذاهب مع وفد من سلطان مصر لمبايعة شريف مكة بالخلافة ، وقيل أنه ذهب مدعوا من الشريف لتولي منصب قاضي القضاة أو شيخ الإسلام . وقد كذب رشيد هذه الأقوال ، وذكر أنه ذهب ليحج فقط ، ولينصح المسلمين ، ويفي بنذره لوالدته ، كما ذكر انه حج من مال يعتقد حله . ) .

ثالثا : العلاقة بين الشريف حسين ورشيد رضا من الفتورالى الخصومة

1 ـ بعدها دخلت علاقتهما فى دور الفتور، وتزايد  بإصدار الشريف حسين أمرًا بمنْع دخول "مجلة المنار" إلى الأراضي الحجازية، وقد نشر رشيد رضا قرار المنْع هذا في "مجلة المنار" في مجلدها الثاني والعشرين الصادر في سنة (1340هـ- 1921م). وقد ورد في قرار الشريف حسين أن سبب المنع ما ورد في "مجلة المنار" من التعريض بحكومة الشريف في عددها التاسع من المجلد التاسع عشر الصادر في 30 ربيع الآخر سنة 1335هـ، ولم يذكر القرار نوع هذا التعريض وكيفيته، ولكن على أيَّة حال فقد جاء هذا التعريض بعد أشهر من عودة رشيد حاجًّا، وبالتحديد بعد أربعة أشهر فقط، كما يوضح ذلك التاريخ الموجود في قرار المنع.

2 ـ تحول الفتور الى خصومة تجلت فى مهاترات بين المنار وجريدة القبلة . بدأ رشيد يهاجم الشريف ضمنيا مدافعا عن نفسه فى صلته السابقة بالشريف حسين ، وأنها كانت علاقة قائمة على السعي لمصلحة العروبة والإسلام، ويذكر رشيد أنه رغم إكرام الشريف حسين وأولاده له إلا أنه كان كثير النصح لهم ن وأنه عاهَد الشريف حسينًا على العمل معه فيما يعتقد أنه الحق فقط ، كما أخذ رشيد رضا يردُّ على التُّهَم التي وجهتها إليه "جريدة القبلة" الناطقة بلسان الشريف حسين بشأن المسألة العربية والشريف حسين.

أخيرا :

تطورت خصومة رشيد والشريف حسين الى تحالف بين رشيد وعبد العزيز آل سعود . وكانت هذه هى المحطة الأخيرة التى وجد فيها رشيد نفسه متسقا مع وهابيته خادما لآل سعود . وفى هذه المحطة الأخيرة قام رشيد رضا بأخطر عمل وهو فى تمام نضجه السياسى والعملى ، قام بنشر الوهابية فى مصر خدمة لسيده عبد العزيز ، ومن مصر إنتقلت الوهابية الى العالم . ولا يزال العالم يدفع الثمن حتى الان .

 

 

رشيد رضا خادما لعبد العزيز قبل أن يقابل عبد العزيز  

 أولا : وهابية رشيد رضا تظهر فى حياة محمد عبده 

1 ـ فى العصر الليبرالى فى مصر كتب الامام محمد عبده فى مذكراته يهاجم عميد الأسرة الحاكمة فى مصر ، لأنه إحتكر الزراعة والصناعة والتجار ومنع من حمل السلاح وقام بتهميش الطيقة الوسطى . بكل دهاء أنتهزها رشيد رضا فكتب يهاجم الاحتفالات التى أقيمت عام 1902 بمناسبة مرور مائة عام على حكم أسرة محمد علي مصر، وبين رشيد في هجومه مساوئ حكم محمد علي وذكر أن من أبرزها قضاءه على الوهَّابيين في بلاد نجد والقضاء على ما نهضوا به من الإصلاح الديني والسياسي في جزيرة العرب.

2 ـ على هذا يكون رشيد رضا أول من دافع عن الوهابية فى تاريخ مصر الحديث . وقتها كان عبد العزيز آل سعود قد إستولى على الرياض فقط وبدأ خطواته فى توسع دولته الوليدة بالوحشية الوهابية ، ولم يكن مشهورا خارج الجزيرة العربية.

ثانيا : دفاع رشيد عن عبد العزيز قبل إستيلائه على الحجاز

1 ـ  مع تحرر رشيد رضا من مشروع استاذه الفكرى بموت الامام محمد عبده عام 1905 كان الشاب عبد العزيز ينشىء بالوحشية الوهابية دولته قطعة قطعة يتوسع منها فى نجد وماحولها.  لم يأبه رشيد رضا بالمذابح التى أقامها عبد العزيز ، بل تابع دفاعه عن عبد العزيز .

2 ـ  فمثلا فى صراع عبد العزيز مع آل الرشيد المسيطرين على شمّر وعاصمتها ( حائل ) سخّر رشيد المنار لنقل الأخبار متحيزا لابن سعود ـ وهو المعتدى ـ زاعما أن ابن رشيد هو الأجهل والأظلم .وقتها كان رشيد يعمل خادما لبريطانيا ومتعاونا مع الشريف حسين خصم الوهابيين ، ومع هذا كان يجد وقتا للدفاع عن عبد العزيز دون أن يلتقى عبد العزيز .

ثالثا : إنحياز رشيد الى عبد العزيز فى صراعه مع الشريف حسين

1 ـ وتطور الأمر بهزيمة الشريف حسين وطرده وأسرته من الحجاز بعد إستيلاء عبد العزيز على الطائف ومكة والمدينة وجدة . عندها أسفر رشيد رضا عن وجهه الوهابى فأخذ ينتقد الشريف حسين في المجلدين الخامس والعشرين والسادس والعشرين من " المنار "، وأخذ يؤيد ابن سعود ويدعو إلى تأييده ،معتبرا  أن ابن سعود هو خير الملوك في شبه الجزيرة العربية ، ويقارن بينه وبين غيره مع تساؤل  فمن  من الملوك المذكورين في شبه الجزيرة  يستحق أن يسود العرب  .؟ ويجيب ( والجواب على هذا السؤال سهل ميسور ،وهو ان ابن سعود هو احقهم، لان رعيته تطيعه وتحبه . ).

2 ـ  ثم يكتب رشيد إلى صديقه الأمير شكيب رسالة بتاريخ 15 من جمادى الآخرة سنة 1344 هـ ـ 31 ديسمبر سنة 1925 ، يقول له فيها : " والذي نعلمه منذ سنين ، وازددنا علما في هذه الأيام ، انها ما وجد في بلاد العرب بعد صدر الإسلام  من يقدر على حفظ الأمن في الحجاز ونجد مثل هذا السلطان " . يعني ابن سعود . ويعلق شكيب على ذلك بقوله : " هذه حقيقة لا يقدر أن يتمارى بها احد ، ولا من اعداء ابن سعود ".

3 ـ وفي كتاب رشيد : " السنة والشيعة " يتكرر تمجيد رشيد لابن سعود قبل فتح الحجاز بسنتين .

رابعا : رشيد رضا بوقا دعائيا لعبد العزيز قبل أن يلتقى عبد العزيز

1 ـ ويبدو أنه كانت هناك علاقة ومراسلات بين رشيد رضا وعبد العزيز قبل إحتلاله الحجاز عام 1925 . يقول د الشرباصى عن علاقتهما : ( ويظهر من هذا  ان العلاقة بين ابن سعود ورشيد طيبة ، وستزداد هذه العلاقة مع الأيام توثقا وتعمقا ، وقد عثرت على رسائل من ابن سعود إلى رشيد يتضح منها عمق هذه العلاقة . ).

2 ـ ويمكن أن نتأكد من وجود تناغم بين إحتدام الصراع بين الشريف وعبد العزيز وإنعكاسه على كتابات رشيد رضا وهو يؤيد عبد العزيز ويهاجم الشريف حسين. وهذا التناغم يعنى ان رشيد عمل بوقا دعائيا لعبد العزيز بعد ان ترك العمل لدى بريطانيا والشريف حسين ، بل أخذ يهاجم سيده السابق الشريف حسين لصالح سيده القادم عبد العزيز.

3 ـ هاجم رشيد  الشريف حسين أمير مكة؛ لأنه قَبِل الوصاية من دولة أجنبية باسم الحماية أو الإشراف. ولبس رشيد ثوب الوطنية فبادر بالهجوم على من يتعاون مع بريطانيا ( ناسيا نفسه )  ولم ينج أمين الريحانى الكاتب والمؤرخ من ارتياب رشيد بأنه يعمل لانجلترة . ثم أخَذ يكتب في النزاع القائم بين الشريف حسن وسلطان نجد وملحقاتها (عبدالعزيز آل سعود)، فذكر أن رجال الجامعة الإسلامية أعداء بريطانيا يفضِّلون سيادة ابن سعود في الحجاز على سيادة الشريف حسين وأولاده.

4 ــ كما تطرَّق رشيد الى الدفاع فجأة عن الوهابية : ( وحقيقة دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهَّاب التي يتمسَّك بها أهل نجد؛ لأنها قائمة على العودة إلى الإسلام في أصوله الأولى ومحاربة الأمور الدخيلة والبدعية في الدين. ) . كما قام رشيد بالرد على تشويهات حكومة الحجاز لعقيدة أهل نجد ودعوتهم السلفية، وبذلك دافَع رشيد في هذه المقالات عن أهل نجد دينيًّا وسياسيًّا، وقد جمعها في كتاب أسماه "الوهَّابيون والحجاز".

5 ـ بل لم يتورع رشيد عن إصدار فتوى طويلة يدين فيها الشريف   ومحالفته لبريطانيا وفرضه ضرائب باهظة على الحجاج، ومنعه بعضهم من الحج (كحجاج نجد) وانتهى في فتواه إلى أن الشريف حسينًا قد جنى على الحرمين الشريفين، وعلى الحرم الثالث (المسجد الأقصى) بجعْلها تحت سلطة غير إسلامية، وأن بقاءه ملكًا للحجاز في مكة خطر على الحرمين الشريفين وسائر جزيرة العرب في أن يزول ملك الإسلام منه، ثم ذكر أن الواجب على المسلمين إنقاذ الحرمين الشريفين منه.

 6 ـ بعد هذه الفتوى مباشرة استولى إخوان عبد العزيز على الطائف، وذبحوا أهلها ، وقد تعرضنا لهذا فى مقال سبق عن وحشية الوهابية فى تاسيس الدولة السعودية الراهنة ، وأدت هذه المذبحة الى تسليم أهل مكة فدخلها الوهابيون في ربيع الأول 1343هـ (1924م)،   ثم تمكَّن (عبدالعزيز آل سعود) من الاستيلاء على (المدينة المنورة) ثم (جدة) في جمادى الآخرة عام 1344هـ (1925م) بعد حصار لها دام قرابة السنة، وبذلك دخل الحجاز تحت الحكم السعودي. 

7 ـ أثناء هذه المعارك كثّف  رشيد رضا فى الدعاية لعبد العزيز ، لم يكتب فى المنار فقط بل كان يكتب فى الأهرام وغيرهما  في تأييد ابن سعود، وبيان مساوئ الشريف حسين في الحجاز مما سبب زحف النجديين عليه، أى يهيل التراب على مذبحة الطائف بجعل مساوىء الشريف حسين فى الحجاز هى السبب فى إحتلال عبد العزيز للحجاز. وكأنما إكتشف لأول مرة فساد الشريف حسين ، وهو الذى كان فساده مفضوحا لا يخفى عن مسلمى الهند والمغرب بسبب سلبه الحجاج من كل الأقطار وسوء معاملته لهم .سكت رشيد رضا عن هذا ثم تحدث عنه فيما بعد تأييدا لسيده الجديد عبد العزيز ،ولم يكن قد إلتقاه بعد . فكيف بعد ان إلتقيا ؟

أخيرا :

1 ـ الجبرتى سمع بمذابح الوهابيين وذكرها فى تاريخه . أما رشيد رضا فقد سمع بمذابح تربة والطائف وكان قريبا منهما وهو فى زيارته للحجاز حين كان يخدم الشريف حسين . ومع ذلك تجاهل رشيد تماما مذابح سيده عبد العزيز ونصب نفسه بوقا دعائيا متطوعا حتى قبل أن يلتقيه . دماء الأطفال والنساء والشيوخ العُزّل فى الطائف لم تحرّك ضمير رشيد رضا ، بالضبط كما لم تحركه شناعة الشريف حسين فى سلب الحجاج .

2 ـ  وحتى نعرف مدى إجرام رشيد رضا وسكوته عن مذابح الوهابيين التى كان شاهدا عليها نستعيد بعض ما ذكرناه من قبل عن مذبحة الطائف عام 1924 ويقال أن عدد القتلى بلغ مائة ألف .: 

 3 ـ هجم الوهابيون على الحجاز وحاصروا الطائف ،ثم دخلوها عنوة وأعملوا في أهلها السيف . فقتلوا الرجال والنساء والأطفال .  وسجل هذه المذبحة مؤرخ عبد العزيز الشخصى ( أحمد فؤاد العطار ) في الجزء الثاني من كتاب (صقر الجزيرة "عبد العزيز آل سعود")  نقلا عن عبد العزيز نفسه ، وحاول تبرئة عبد العزيز من المذبحة وإلصاق التهمة بالاخوان .

4 ــ ومنه نعرف أن جيش ابن سعود باغت الطائف . وتحرك جيش الشريف على عجل لانقاذ الطائف ب 400 مقاتل بالمدفعية ، وكادت المدفعية الهاشمية أن تقهر الاخوان ، لولا أن البدو الذين كانوا مع جيش الشريف خانوه وانضموا الى الاخوان أملا فى الغنائم.  وتراجع جيش الهاشميين أمام الكثرة من جيش ابن سعود الذى بلغ   400000 ـ فأرسل الشريف حسين مددا للجيش ، واستمرت المعركة الى ان تمت هزيمة الجيش الهاشمى فهرب تاركا الطائف ، فانتشر الذعر والهلع بين السكان المدنيين ففر من استطاع تاركا كل ما معه ناجيا بحياته ، وخبأ الاغنياء الذهب والاحجار الكريمة وأغلقوا الابواب وحصنوها من الداخل بأحجار كبيرة ليستعصى فتحها إذا ما احتل الغزاة المدينةووصل حوالى مائة ألف من الأعراب لجيش ابن سعود ،  فوصل الجيش السعودي إلى أكثر من /50000/ . وتدفق الغزاة إلى الداخل كما تدفق الاعراب الطفيليون معهم ،  وزرعوا الشوارع والاسواق وقتلوا كل من وجدوه بها واحتلوا المراكز الحكومية والابراج والقلعة ونهبوا ما بها.، راحوا يقضون الليل في السلب والنهب والقتل وهتك الاعراض ، وهاجموا البيوت وحطموا الابواب ودخلوا على الابرياء ومزقوهم بالسيوف وأطلقوا عليهم الرصاص، واستلبوا كل ما وجدوا من غال ورخيص.  ويتابع ـ العطار السعودي ـ صياغته لاعترافات عبد العزيز آل سعود، فيقول: (وقد وجد البدو ممن لهم ثارات عند الاهلين فرصة نادرة للانتقام فزحفوا إلى بيوتهم واقتحموها عليهم وقتلوهم شر قتلة تشفيا منهم، وهتكوا أعراضهم، وبعد أن ذبحوهم وضعوا رقابهم في حنفيات الماء والصهاريج فشربوا من دمهم وتوضأوا بالماء الملوث بالدماء البريئة وصلّوا. ولم يكلفوا أنفسهم عناء استلام الاساور الذهبية من أيدي النساء الممدة بل قطعوا أيديهن وأرجلهن ، ولبس "الاخوان" الحلي ، وهذه الاساور بأيديهم ووضعوا القلائد ـ الخرزية والذهبية ـ في رقابهم كي لا تعيقهم عن بقية النهب والقتل… ). هذا موجز ما نقله العطار من كلام عبد العزيز آل سعود . 

هل كان رشيد رضا فى المريخ بينما كان المؤرخ العطار فى الأرض .؟

 

 لماذا كان عبد العزيز محتاجا لرشيد رضا ؟ 

مقدمة : 
1 ـ بإحتلاله الحجاز أوقع عبد العزيز نفسه مبكرا فى إحتمال الصدام مع مصر. 
2 ـ الدولة السعودية الأولى فى عهد سعود الكبير احتلت الحجاز 1805 ، وكان هذا سببا فى ارسال حملة محمد على عام 1811 ، والتى إنتهت بتدمير هذه الدولة عام 1818 . 
ستون عاما بين إقامة الدولة السعودية الأولى ( 1745 ) وإحتلالها الحجاز 1805، أما عبد العزيز فقد بدأ بتأسيس دولته من عام 1902 ، واستولى على الحجاز بدءا بعام 1924 ، يعنى حوالى عشرين عاما فقط . 
3 ـ كانت الدولة السعودية الأولى فى أوج قوتها وهى تستولى على الحجاز بينما كانت مصر مجرد ولاية عثمانية بوال لم تتثبت أقدامه فى مصر بعد ، ومع ذلك قضى ( محمد على ) الوالى الجديد على الدولة السعودية وهى فى شبابها ودمّر عاصمتها وأرسل آخر حكامها ليلقى حتفه فى الأستانة . 
أما عبد العزيز فلم يكن فى قوة سلفه سعود الكبير ، بينما كانت مصر أقوى دولة وقتها فى المنطقة ، وبالتالى فإن شبح نهاية الحاكم السعودى الأخير فى الدولة السعودية الأولى كان يُفزع عبد العزيز بلا شك . 
4 ـ ونعطى خلفية تاريخية : 
أولا : عن الحجاز
1 ـ بدأ النفوذ المصرى فى الحجاز مع تأسيس أول دولة فى مصر فى إطار الخلافة العباسية ، وهى الدولة الطولونية 868 : 905 ، والتى توسعت فى الشام شرقا وليبيا غربا ، ثم تلتها الدولة الأخشيدية التى سقطت بلا قتال أمام الفاطميين عام 972 ، وصارت القاهرة الشيعية تناوىء بغداد العباسية السنية ، بل وصلت دعوتها الشيعية الى بغداد نفسها ، ومن عهد الدولة الفاطمية صار الحجاز تابعا لمصر ، إستمر هذا مع الدولة الأيوبية ثم المملوكية.
 
2 ـ وبعد سقوط الدولة المملوكية وتحول مصر الى ولاية عثمانية فإن النفوذ المصرى فى الحجاز لم ينقطع . وبالتالى تدخلت مصر العثمانية وقضت على الدولة السعودية الأولى حين إحتلت الحجاز. 
3 ـ تدمير الدولة السعودية الأولى كان أكبر خطوة فى تثبيت أقدام محمد على فى حكم مصر ، قبيل ذلك ذبح المماليك وتخلص من شرورهم ، وأرسل جيشه العثمانى ليحارب السعوديين ويتخلص من هذا الجيش العثمانى المرتزق المتخلف ، وبعده أسّس الجيش المصرى من الفلاحين المصريين . وعلى هامش الجيش أقام اسطولا وصناعات حربية وتعليما ونهضة . 
4 ـ ابراهيم باشا الابن الأكبر لمحمد على بدأ عبقريته الحربية بالقضاء على الدولة السعودية الأولى ، جعله ابوه القائد فى المرحلة الأخيرة من الحرب عام 1816 ، فأسر حاكم الدرعية عبد الله ، وأرسله الى القاهرة ، فبعث به محمد على الى الآستانة فطافوا به فى شوارعها ثلاثة أيام ثم قتلوه . عبد العزيز كان يخشى هذا المصير . 
ثانيا : بين الأسرة السعودية ومصر: من القرن التاسع عشر الى إحتلال عبد العزيز للحجاز 
1 ـ أُعيد تأسيس الدولة السعودية الثانية على يد الأمير تركى بن عبد الله بن محمد بعد عام أو إثنين من سقوط الدولة الأولى . وعانت الدولة السعودية الثانية من حرب جيرانها وإنشقاقات الأسرة السعودية الحاكم ، وفى النهاية قضى عليها آل الرشيد حكام حائل وشمر والذين كانوا من قبل تابعين لآل سعود . وهرب آخر حاكم للرياض وهو عبد الحمن الفيصل الى الكويت ومعه أسرته ومنهم إبنه عبد العزيز الذى أسس الدولة السعودية الراهنة الثالثة . عبد العزيز شهد نهاية الدولة السعودية الثانية ، وحين أسّس دولته الثالثة كان يخشى من مصر التى أصبحت فى وقته قوة إقليمية صاحبة نفوذ على الحجاز . 
2 ـ وقت معاناة الدولة السعودية الثانية تطورت مصر لتصبح قوة إقليمية مع تبعيتها الاسمية للخلافة العثمانية . 
3 ـ : ابراهيم باشا كان من أعظم القواد العسكريين فى وقته . بعد إنتصاره على السعوديين حارب وانتصر فى السودان بعد ضمه الى مصر ، وضمّ الشام لمصر عام 1831 ، وواصل زحفه الى عُقر الدولة العثمانية ، وهزم جيشهم فى موقعة قونية عام 1832 ، وأسر القائد العثمانى وأصبح الطريق مفتوحا الى الآستانة نفسها فاستغاث السلطان العثمانى بأوربا ،وتدخلت أوربا ، وتم عقد إتفاقية كوتاهية فى 8 ابريل عام 1833 .وبضغط ابراهيم باشا وفى 6 مايو 1833 وافق السلطان العثمانى على أن يحكم محمد على مصر وكريت وسوريا ، وأن يحكم ابراهيم باشا الحجاز واقليم أضنة فى آسيا الصغرى . 
في عام 1839م حاول السلطان العثماني إسترداد أراضي الشام فجهز ابراهيم باشا جيشه وزحف مرة آخرى إلى الاناضول وسحق الجيش العثمانى فى موقعة نزيب ، وأوشكت الدولة العثمانية على الانهيار فأسرعت أوربا بالتدخل وأجبرت مصر على قبول معاهدة لندن ، وتدخلت بريطانيا بإشعال ثورات ضد الحكم المصرى حتى أعادت سوريا الى الدولة العثمانية .
4 ـ لولا التدخل الأوربى كانت مصر سترث الدولة العثمانية . ولهذا وقفت اوربا ضد مصر حتى لا ترث القوة المصرية الشابة الدولة العثمانية التى كان يُطلق عليها ( رجل أوربا المريض ) . وتغيرت سياسة اوربا مع مصر والدولة العثمانية تبعا للمصلحة الأوربية، فقد كانت اليونان وشرق أوروبا تابعا للدولة العثمانية منذ القرن 15 الميلادي ، وعجز السلطان العثمانى عن اخماد ثورة اليونان فإستنجد بمحمد علي فأخمدها ابراهيم باشا خلال حرب استمرت ثلاث سنوات: ( 1825 : 1828 ).ولكن تدخلت انجلترة وفرنسا وروسيا فدمرت الاسطول العثمانى والمصرى والجزائرى فى موقعه نافارين فى 20 اكتوبر 1827 ، والتى تعد من أهم المعارك البحرية العالمية فى القرن التاسع عشر.
5 : تولى ابراهيم باشا حكم مصر فى حياة أبيه محمد على ولكنه مات قبيل أبيه فى 10 نوفمبر 1848 . وتولى عباس الأول بن طوسون بن محمد على ، الذى حكم فيما بين( 1848 : 1845 ) وكان غريب الأطوار، كثير الشك قاتلا قاسيا ، ومعتنقا للوهابية . وبعد إغتياله تولى سعيد باشا الذى حكم ( 1845 : 1863 ) والذى أعطى ديليسبس إمتياز حفر قناة السويس التى كانت لعنة على مصر ، فتحت باب التدخل الأجنبى فى مصر بما أدى الى إحتلالها .
 
6 ـ تولى اسماعيل بن ابراهيم باشا حكم مصر عام 1863 الى عزله فى 26 يونية 1879 . اسماعيل هو المؤسس الثاني لمصر الحديثة ، وفي عهده تكوّن فى مصر أول مجلس نيابى فى 25 نوفمبر 1866ضمن إصلاحات كبرى فى التعليم القضاء والحكومة والصحة والعمران والمواصلات والاتصالات والزراعة والرى والصناعة والقصور الفخمة و الأوبرا ودار الكتب، وأصبحت القاهرة تنافس مدن أوربا الكبرى فى أناقتها وتمدنها ، ووصلت فتوحاته الى الصومال ، وكافح انتشار الاسترقاق فى أفريقيا ،وظهرت عظمة مصر فى حفل إفتتاح قناة السويس عام 1869. 
7 ـ خوف أوربا من طموحه جعلها تضغط على السلطان العثمانى فعزله . بريطانيا عزمت على إحتلال مصر لتأمين إحتلالها للهند بعد إفتتاح قناة السويس . وتم لها هذا فى عهد توفيق بن اسماعيل ( 1879 : 1892 ). 
8 ـ الاحتلال البريطانى لمصر إنصب إهتمامه على موقع مصر الجغرافى الذى يتوسط الامبراطورية البريطانية، فلم يقم بتحجيم مكانة مصر ، بل إستمرت مصر الليبرالية التى أرساها اسماعيل ، وتطورت الإصلاحات بعده وفى ظل الاحتلال الانجليزى . وبالوعى المصرى تعاظم طلب المصريين الاستقلال وتطور الى صدام حربى فى عهد الخديوى عباس الثانى وبتوجيه منه. وبسبب حساسية الموقف الدولى قبيل الحرب العالمية الأولى عزل الانجليز عباس الثانى وأعلنوا مصر محمية إنجليزية وأنهوا تبعيتها الاسمية للدولة العثمانية ، وألغوا لقب خديوى العثمانى وعينوا حسين كامل بن اسماعيل سلطانا فى 19 ديسمبر 1914 . 
9 ـ بعد الحرب العالمية الأولى قام الشعب المصرى بثورة عارمة فى عام 1919 فاصدرت بريطانيا تصريح 28 فبراير 1922 أعلنت فيه انهاء الحماية البريطانية على مصر وإستقلال مصر مع تحفظات لصالح الامبراطورية البريطانية . ورفض المصريون هذا التصريح ، ولكن تحققت لمصر من خلاله وضع (دستور1923) يؤكد على ( مصر الليبرالية ) وأن الأمة هى مصدر السلطات . ولم تحصل مصر ــ حتى الآن ـ على دستور يضاهى ها الدستور الذى مرّ عليه حوالى قرن من الزمان .
10 ـ نلتفت أخيرا لعبد العزيز وقد عاصر ــ بإحتلاله الحجاز ـ عهد الملك فؤاد الأول والذى تولى عام 1917 باسم سلطان مصر ، وبعد إستقلال مصر فى 15 مارس 1922 بعد تصريح 28 فبراير 1922 أصبح لقبه ملك مصر وسيد النوبة وكردفان ودارفور،ثم أصبح ابنه فاروق ( ملك مصر والسودان ) .
ثالثا : بين عبد العزيز والملك فؤاد الأول
 
1 ـ كان ابراهيم باشا حاكم الحجاز ، ومع تطور الأحداث بعدها فلم يؤثر على تبعية الحجاز الفعلية لمصر ونفوذها فيه بسبب إعتماد الأشراف حكام الحجاز على مصر إقتصاديا وحتى فى حل خلافاتهم . 
2 ـ وفي 3 مارس سنة 1923 أعلن مصطفى كمال إلغاء الخلافة نهائياً ، ونفي الخليفة عبد المجيد الثانى وأفراد أسرته . وقبلها كان الشريف حسين فى الحجاز يطمع أن يكون الخليفة حتى فى وجود الخليفة العثمانى . وكان الشريف حسين لا يزال حاكما على الحجاز وقد منح نفسه لقب ( ملك العرب ) . وإمتعض الملك فؤاد أن يحصل الشريف حسين على منصب الخلافة وهو وأسرته أتباع لمصر ، فتطلع فؤاد لهذا المنصب . وإستمر هذا التطلع للخلافة قائما لدى الملك فؤاد . 
3 ـ وكان هذا خطيرا فى وضع مصر الليبرالية ، إذ يعطى فؤاد سلطة دينية ويحوّل مصر الى دولة دينية ، وهذا يخالف دعوة الامام محمد عبده ، وكانت مدرستة لا تزال قوية فى السياسة والفكر والاصلاح الدينى ــ مع إستبعاد رشيد رضا بطبيعة الحال . لم يكن فؤاد بشخصيته مؤهلا لهذا المنصب الدينى ، ولكنه طمع فيه بوصفه حاكم مصر . وقد وقف ضده الشيخ (على عبد الرازق ) بكتابه ( الاسلام وأصول الحكم ) الذى يؤكد أن الخلافة ليست من أصول الاسلام ، فضغط الملك فؤاد على هيئة العلماء فحاكموا على عبد الرازق ، وتم تجريد على عبد الرازق من شهادة العالمية وفصلوه من القضاء . 
4 ـ هاجم كتاب ( الاسلام وأصول الحكم ) الشيخ الخضر حسين شيخ الأزهر فيما بعد ، والمفتى بخيت المطيعى والمستشار عبد الرزاق السنهورى والتونسى الطاهر بن عاشور . بينما دافع عنه محمد حسين هيكل فى جريدة السياسة والعقاد فى جريدة البلاغ وسلامة موسى فى المقتطف. وفى محاكمة على عبد الرازق إستقال عبد العزيز فهمى من وزارة الحقانية فى وزارة زيور باشا فى 13 مارس عام 1925 . أى أحدث هذا الكتاب أزمة وزارية في مصر الليبرالية فى ذلك الوقت . 
5 ـ رشيد رضا كان ضد علي عبدالرازق في كتابه ، وانتقده بشدة وعنف في مجلة المنار ، مع أنه لم يكن فى صف الملك فؤاد . وكان يعلم أن سيده عبد العزيز لا يطمع فى الخلافة لأنه حرص على أن يمر إحتلاله للحجاز بدون مشاكل مع مصر . 
أخيرا : حاجة عبد العزيز لرشيد رضا : 
1 ـ هذه هى مصر الليبرالية التى تعين على عبد العزيز مواجهتها . ليبراليتها قلّصت سلطة الملك فؤاد فى الحكم .كان جده محمد على يقتل من يشاء بمجرد كلمة ينطقها ، وهو الذى انتقم من الجبرتى فقتل ابنه وقتله . ولكن الليبرالية المصرية سمحت بالهجوم على الملك فؤاد، وسمحت بحرية الرأى للجميع حتى الوافدين لمصر ، ومنهم رشيد رضا . وبالتالى فلا يمكن لفؤاد ان يحارب عبد العزيز لو أراد ، بينما يمكن لرشيد رضا خادم عبد العزيز أن يدافع عن عبد العزيز وأن يؤسس له جمعيات تدعو للوهابية مستفيدة من مناخ الحرية السياسية والفكرية . 
2 ـ لذا كان عبد العزيز محتاجا لرشيد .

 

 

 

 

 

تحالف عبد العزيز آل سعود مع رشيد رضا : والحاجة الى المال  

مقدمة :

1 ـ الليبرالية المصرية فى النصف الأول من القرن العشرين كانت تفتقر الى العدل الاجتماعى ، إنتشر التعليم وظهرت طبقة من شباب المتعلمين الفقراء لم يجدوا لهم مكانا تحت الشمس التى إحتكرها الباشوات من الاقطاعيين والرأسماليين وأتباعهم ، ولم يبق للناشطين المتعلمين الفقراء سوى الهتاف فى مظاهرات حزبية أو وطنية . مجال التوظيف كان ضئيلا ومحصورا لمن يستطيع الوصول ، وبعض من يستطيع الوصول الى أولى الأمر لم يكن يحتاج أصلا الى وظيفة . تضخم عدد المثقفين النشطاء من الفقراء المصريين وتطلعوا للصعود الى الطبقة الوسطى ماديا ، بعد أن صاروا من أعمدتها ثقافيا وعلميا . الجهل يجعل الفقير يصبر ويرضي بالموجود الذى لا يعرف غيره ، هى ثقافة الفقر.!. إذا تعلم الفقير توسعت مداركه وتطلع للمزيد وعرف أن له حقوقا يجب أن يسعى لها ، وأن يوظف علمه فى الحصول عليها ليصل الى ما يصل اليه أبناء الطبقة التى تعلوه .  وإذا كان أصحاب السيطرة لا يعطونه حقه المشروع فلا بأس أن يبحث عن بديل يراه مشروعا .! كان عبد العزيز هو البديل ، خصوصا وهو يتقدم اليه باسم ( السُّنّة المحمدية ) و ( السلف الصالح ).  حرصهم على الرزق لم يكن يوازيه إلا  حرص عبد العزيز على تحويل مصر من التصوف السنى الى الوهابية تحت مسمى السنة والسلفية .

2 ـ رشيد رضا وحافظ وهبة ومحب الدين الخطيب أدركوا فقر القطاع الكبير من  ( الافندية ) و المعممين الأزهريين والكُتّاب وتطلعهم للثراء . ولعل عثور حافظ وهبة على هذا الصحفى المصرى المعمور دليل على تجنيد ناجح للناشطين من هذه الطبقة . بذل رشيد رضا جهده وماله فى نشر الوهابية فى مصر ، ولم يكن المال الذى يأتيه من عبد العزيز كافيا لتجنيد أولئك المثقفين ، أو يكفى للإنفاق على الجمعيات التى تكونت من الشبان المسلمين وأنصار السّنّة المحمدية ، وتجنيد شيوخ الأزهر وإستمالة المؤلفة قلوبهم من الصحفيين والكُتّاب والمثقفين المصريين . كان لا بد من مورد مالى .

3 ـ لم تكن موارد عبد العزيز تكفى . فى أحيان كثيرة كان يعانى من ضائقة مالية . الحل تمثّل فى أى إستثمار خارجى من الغرب ( الكافر ). ولكن نفوذ شيوخ الوهابية المتحالفين مع الاخوان يحول دون ذلك . تغير الوضع فى الثلاثينيات بعد أن إتحدت نجد والحجاز وعسير تحت مسمى ( المملكة العربية السعودية ) عام 1932  وتحت قبضة عبد العزيز. غاب الاخوان النجديون عن الساحة وغاب معهم نفوذ الفقهاء الوهابيين وأصبحوا رهن إشارة  عبد العزيز . بدأ ( الكفرة ) البحث عن البترول فى السعودية ، وظهر البترول وبدأ الانتاج ، فتغيرت المعادلة ، ودخلت المملكة السعودية فى عصر البترول الذى لا تزال فيه .

وبقطار البترول السريع وصلت الوهابية ــ بسائر تنظيماتها السرية والعلنية الدعوية السلفية والسياسية والمسلحة ــ الى التاثير على مستوى العالم اليوم تنشر المذابح ، ويعترف بها العالم على أنها ( الاسلام ) وأن أتباعها هم ( الاسلاميون ) مهما إختلفت توجهاتهم السياسية ـ مع أو ضد ـ السعودية .

أصبح الاسلام ـ بنعمة البترول ـ متهما بالارهاب والتخلف والتزمت والتطرف والتعصب ، وبنعمة البترول توارى إسم الوهابية ، بل اصبح لدى بعض الأوساط مقدسا ، بينما أصبح إسم الاسلام مبتذلا .. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم . وصدق الله العظيم القائل : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ وَجَعَلُواْ لِلَّهِ أَندَادًا لِّيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُواْ فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ ) ابراهيم 28 : 30)

ونعطى بعض التفصيلات :  

 اولا : مصر الليبرالية : حرية بلا عدل :

1 ـ لا بد من تلازم العدل مع الحرية لتعيش الدولة فى سلام ورخاء . لا يمكن تحقيق العدل مع غياب للحرية ، وتجربة عبد الناصر شاهد على ذلك . حاول تحقيق عدل إجتماعى وتوفير رغيف الخبز وضمان التوظيف وجعل التعليم سُلّما للترقى وتذويب الفوارق بين الطبقات وتوسيع رقعة الأفندية والطبقة الوسطى بنشر التعليم ومجانيته فى كل المراحل . ولكن الاستبداد السياسى قضى علي مشروعه وأورث مصر حتى الآن عارا إتسعت رقعته بعد موت عبد الناصر ولا تزال تتسع رقعته تحت حكم العسكر الذين اضاعوا العدل والحرية معا .

2 ـ قبل حركة الجيش وظهور عبد الناصر كانت مصر الليبرالية بلا عدل . ظل الظلم الاجتماعى راسخا فوق صدر الأغلبية الساحقة من المصريين ـ خصوصا الفلاحين والعمال . مما أدى فى النهاية الى نجاح حركة الجيش وتأسيس عبد الناصر حكم العسكر الذى جلب العار لمصر ــ ولا يزال .

3 ـ فى العقود الأولى من القرن العشرين تكاثر أبناء الأفندية ممثلى الطبقة الوسطى وتعلموا  ، واصبح توظيفهم فوق طاقة الدولة . إنضم اليهم من تعلم من ابناء الفقراء من الفلاحين والعمال والحرفيين وصغار التجار. أسهموا فى ثورة 1919 ، ولكنها خذلتهم فلم يتسع لهم صدرها ، وظلت دفة الحياة السياسية محصورة فى النخبة . وحتى حزب الوفد أكبر حزب شعبى لم يهتم بأولئك المثقفين الفقراء ولم يفتح لهم باب الصعود والترقى بإختيارهم للترشيح على قوائمه . 

4 ـ فى الثلاثينيات من القرن العشرين ظهر جيل جديد شاب متعلم متفتح متعطش لأن يأخذ حقه فى السلطة والثروة فوجد الأبواب موصدة فى وجهه . إنضم الى هذا الجيل شباب الأزهريين . كانت هناك بعض معاهد ابتدائية وثانوية تابعة للأزهر فى القاهرة وطنطا والاسكندرية والزقازيق ، اسهمت فى الإكثار من خريجى الأزهر . ولكن ميزانية الأزهر المستمدة من الأوقاف المرصودة عليه لم تكن تفى بمرتبات كبار العلماء فيه ، مع أن هذه المرتبات كانت هزيلة . كان خريجو الأزهر يتزاحمون على أبواب شيخ الأزهر يلتمسون الحصول على وظيفة . وكانت تأتى الفرصة إذا مات شيخ من أصحاب المرتبات ، عندها تحتدم المنافسات على الفوز بمنصبه ومرتبه ، وغالبا ما كان يرث هذا المنصب إبن هذا الشيخ بغض النظر عن مدى علمه وكفاءته . بالتالى إنضم خريجو الأزهر الى طوابير العاطلين المتعلمين الناقمين ، وكان إنضماهم أكثر خطورة بسبب خلفيتهم الدينية وفصاحتهم فى الخطابة ومنزلتهم قادة فى الريف والأحياء الشعبية . تجنيدهم دُعاة للوهابية كان ضرورة قصوى أدركها حافظ وهبة الشيخ ( الأزهرى ) . الذى رأى فيهم مرتزقة جاهزين للتجنيد ، خصوصا بعد أن أفسحت الجمعية الشرعية ــ ابوابها ــ للدعوة الوهابية وتوسعت مساجدها فى العمران المصرى، وكان ينقصها التمويل .

5 ـ رشيد رضا عانى من هذا الوضع وهو يجاهد مخلصا فى نشر الوهابية فى مصر .

ثانيا : إخلاص رشيد رضا فى نشر الوهابية فى مصر

1 ـ تزعم الوهابية فى مصر ، وكان معه محب الدين الخطيب ، وتوثقت الصلة بينهما وتوزعت بينهما الأدوار ، وعندما  قامت في القاهرة جمعية الشبان المسلمين  بجهود محب الدين الخطيب كان رشيد يلقى فيها محاضرات متقاربة المواعيد ،وكانت آخرمحاضرة له فيها بعنوان" ويل للعرب من شر قد اقترب " وقد نشرت هذه المحاضرة في مجلة الشبان المسلمين . بينما كان محب الخطيب يتردد على المنار .

2 ـ وفي سنة 1924 تكونت في القاهرة جمعية  " السلم العام في بلد الله الحرام" وكان رشيد من مؤسسيها،وكا ن من اهدافها نشر العلوم والفنون،ولاسيما التفسيروالحديث وعلوم البلاغة. وواضح أن غرضها كان الدعاية لعبد العزيز قبل أن يلتقى رشيد رضا بسيده عبد العزيز .

3 ـ بعد اللقاء بينهما توثقت الصلة ، وتم توزيع ىالأدوار بينهم برعاية حافظ وهبة المستشار الأول لعبد العزيز فى نشر الوهابية فى مصر والعالم . وظهر الى العلن هذا التناغم بين رشيد رضا وعبد العزيز ، وثارت إتهامات لرشيد رضا بأخذ تمويل من عبد العزيز لأن المنار كانت تطبع الكتب السلفية والسنية والوهابية على حساب الحكومة السعودية . ومنها أنه (وهَّابي يحصل من وراء نصرته لابن سعود أموالاً طائلة).

4 ـ  وتصدى رشيد رضا بنفسه للرد على هذه الاتهامات فى المنار ، في فاتحة المجلد الثامن والعشرين من "المنار"  ذكر أن نصرته لابن سعود لم تكن لناحية دنيوية، وإنما هي نصرة للسنة ومذهب السلف، ودلَّل على ذلك بدفاعه عن الوهَّابية ضد محمد علي سنة 1320هـ، كما سبق - وهو لا يعرف أن للوهابية أميرًا يحسن أن يرسل إليه بما كتب عنهم، ثم يذكر أنه صار للوهَّابية حزب كبير في مصر بإرشاد المنار، ولا تشوبه أدنى شائبة دنيوية، ثم ذكر أنه بعد ذلك التاريخ (1320هـ)، ببضع سنوات بدأت المكاتبة بينه وبين الأمير عبدالعزيز آل سعود؛ وذلك لدعوته للاتفاق مع أمراء جزيرة العرب لحماية جزيرتهم من الاحتلال الأجنبي، ويذكر أن ابن سعود رغب من رشيد في إرسال رسول منه ليشرح لعلمائه صفة ذلك الاتفاق، وفعلاً أرسل رشيد الرسول لولا أن قيام الحرب العالمية الأولى حالَ دون وصوله إلى نجد، كما تطرَّق رشيد إلى دعوته لأمراء الجزيرة لإنقاذ الحجاز من مساوئ الشريف حسين وأنه لم يستجب له سوى ابن سعود، وقيام رشيد بتأييده بمقالاته المشهورة.ثم يقول رشيد: "كيف لا أنصر ابن سعود وأناضل خصومه من المبتدعين والخرافيين وقد فعل كلَّ هذا، ويرجى أن يفعل ما هو أتمُّ منه وأكمل"..

كما يرى رشيد أنه مقصِّر في الثناء على ابن سعود وخدماته الإسلامية الجليلة، ثم يذكر أن اتهام المنار بنصرته لابن سعود لناحية دنيوية تردُّ عليه مجلدات المنار في مجلداتها السابقة كلها، ولكنه يذكر: أن هذا لا يعني نفيه أو تحريمه قبول أيَّة مساعدة من ابن سعود أو غيره من ملوك المسلمين في المساعدة على خطة المنار الإصلاحية وخدماتها الإسلامية، ولكنه لا يمكن أن يطلبها منهم.

وفي الجزء السادس من المجلد الثامن والعشرين يكتب رشيد مقالاً خاصًّا بعنوان "أموال ابن سعود التي اتهم بها صاحب المنار"، يقع فيما يقارب عشر صفحات، جمع فيه رشيد جميع التهم الموجَّهة إليه بأخذ أموال من ابن سعود وشرح بطلانها كلها، ثم يذكر أنه لو صحَّ أن المنار يتلقَّى أموالاً من ابن سعود - وما هو بصحيح - لما صحَّ أن يجعل حجَّة على أن المنار أنشئ لجمع المال وإنما يُعَدُّ مساعدة على خطة دينية قديمة في خدمة الإسلام ونشر العلم لا على دعاية سياسية حادثة لأجل الملك؛ لأن المنار من أوَّل إنشائه وقبل قيام الدولة السعودية الحديثة وهو يدعو إلى التوحيد الخالص ومذهب السلف الصالح.( أى الوهابية ) ثم يختم مقالته بذكره أن العلاقة والرابطة بينه وبين ابن سعود رابطة دينية روحية خالصة لوجه الله - تعالى - لا تزيدها الإشاعات والتقوُّلات إلا قوة، ولا يقدر على حلها إلا الله – تعالى. وبلغ من إعجاب رشيد بالملك عبدالعزيز ما أسماه (السيف المسلول للسنة وهدي السلف الصالح).

 5 ـ الواقع أن وهابية رشيد رضا تنفى عنه أنه مرتزق ينشر الوهابية بأجر . نحن نصدقه فى إخلاصه فى نشر دينه الوهابى فى مصر ، حتى قبل أن يتعرف الى عبد العزيز . كان رشيد منافقا فى علاقته بالانجليز فلم يثقوا به ، وكان منافقا فى علاقته بالشريف حسين برغم زعمهما بالانتماء الى الأشراف ، وما يعنيه هذا الزعم من قرابة بينهما . ولكن عبد العزيز ــ الذى لم يزعم النسب الهاشمى ــ كانت صلة رشيد رضا به أعمق لأنا مؤسسة على دين جمعهما.

6 ــ كان عبد العزيز يساعد رشيد رضا ماليا فى نشر الدعوة الوهابية ، ولكن الجهد المالى الأساس كان من رشيد نفسه .  كان لرشيد بستان في بلده " القلمون " فى لبنان ، إيجاره السنوي  خمسة آلاف قرش ، لم يكن يكفى فى تكاليف نشر المنار والكتب السلفية ، خصوصا وأن كثيرين من مشتركي " المنار "  الفقراء لم يحرصوا على دفع اشتراكاتهم بانتظام .    وفي رسائل رشيد شكوى متكررة من هذه الناحية .

 وهو يقول لشكيب بتاريخ 10 من يونية سنة 1929 ان نفقات العمارة والإصلاح في داره قد زادت ، فاقترض من البنك خمسمائة جنيه على دفعتين ، إلى مدة سنة بغير ربح ولكن يحسب لها ربح بعد انتهاء السنة إذا عجز عن الوفاء ، وهو يرجو من فضل الله تعالى أن يقدر على الوفاء . ويذكر أيضا ان مجموع ما عليه من ديون لبنك مصر هذا العام المشار إليه تسعمائة جنيه ، وان الايراد الرسمي الثابت المعد لذلك هو مطبوعات الملك ابن سعود ، وان كان يجب  السعي لغيرها  .

7 ــ ويذكر شكيب ارسلان أن الملك عبدالعزيز حينما علم بضائقة رشيد المالية فرَّج عنه بعض كربتها. أى كان عبد العزيز يعلم بجهاد رشيد رضا فى نشر الوهابية وعجزه المالى ، وكان لا بد أن يجد حلا . 

 

 

 

 

تحالف عبد العزيز آل سعود مع رشيد رضا : هل كان سببا فى إكتشاف البترول ؟

 لا بد لعبد العزيز أن يصدق رشيد رضا، وهو يقول أن نصرته لابن سعود لم تكن لناحية دنيوية، وإنما هي نصرة للسنة ومذهب السلف، وانه كان يدافع عن الوهَّابية قبل معرفته بعبد العزيز ، وأنه   صار للوهَّابية حزب كبير في مصر بإرشاد المنار، وأنه ينفق من جيبه لنشر الوهابية بدافع دينى . ولا بد  أن يجد حلا يعالج به العجز المالى . وتمخض الأمر عن إكتشاف البترول .

ثالثا : عبد العزيز يجد الحل فى ( البترول )

الوهابية وكراهية الاجانب المستثمرين

1 ـ الصحفى المغمور الذى زار ( نجد والحجاز ) بعد ضم الحجاز وموقعة ( المحمل المصرى ) عكس فى كتاباته الثقافة النجدية الوهابية فى نظرتها للأجانب وكراهيتها لمن يأتى منهم بغرض الاستثمار .

 قال فى صفحة 20 ) تحت عنوان ( فشل محاولات استعمارية  ) : ( وقبل أن نغادر  "الجوف " قصّ علي الأمير أن جماعة من السواح الأمريكان والإنجليز طالما حاولوا ارتياد ما بعد الجوف بحجة الاستطلاعات العلمية والجغرافية فلم يأذن لهم الملك ابن السعود مخافة أن يكون لهم شان آخر كهاتيك الشئون الاستعمارية التي بدأها أمثال هؤلاء في غير بلاد العرب...بمثل تلك الأسباب ثم كانت النتيجة بلاء على أهلها ،مثال ذلك أن رجلا إنجليزياً يُدعى مستر "ابشر" ذهب  إلى "الجوف "على رأس قافلة من السيارت كلفته أموالاً طائلةً بحجة إقامة مصنع للفخارمن طينة معروفة بصلاحيتها لهذا النوع فلم يأذن له الملك ، وهكذا أصبح معروفاً في بلاد الغرب ان نجداً لن تصلح أرضها لوطء أقدام السياح والعلماء والخبراء والمهندسين الأوروبيين ، حتى إن أحدهم أكد أن في وسعه أن يفتح آباراً للبترول "بالرياض " عاصمة نجد ، فرُفض طلبه مع شدة حاجة اهلها إلى البترول وغلاء ثمنه . ) الواقع أن عبد العزيز لم يكن يرفض ، الرافضون كانوا الاخوان النجديين وعلماء الوهابية الذين كان لهم نفوذهم على الاخوان وعبد العزيز معا حتى هذا الوقت .

2 ـ ويؤكد الزركلى فى كتابه ( الوجيز ) ص 197 على معارضة العلماء لدخول الأمريكيين الكفرة الى بلاد الأحساء وشواطىء الخليج  ( لأنه سيجر معه دخول المفاسد من خمر وفوتوغراف وسواهما . ) . ومعروف وقتها معارضة الاخوان وعلمائهم للمخترعات الحديثة ومزايداتهم على عبد العزيز لأنه أرسل ابنه سعود الى مصر ( المشركة ) وأرسل ابنه فيصل الى انجلترة الكافرة .

إنهاء معرضة الاخوان وعلمائهم والسيطرة المطلقة لعبد العزيز:

كان رشيد رضا وحافظ وهبة بجوار عبد العزيز فى مواجهته للإخوان النجديين ، ولا نستبعد أنهما نصحا بتكوينإخوان مصريين فى مصر بديلا عن إخوان عبد العزيز المشاكسين . وقد تحولت معارضة الاخوان النجديين الى قتال ، إنتصر فيه عبد العزيز عليهم فى معركة السبلة وما بعدها عام 1929 . بعد الانتصار إلتفت الى علماء الوهابية الذين كانوا يحرضونهم ، وكانوا يرتعشون خوفا من عبد العزيز . عقد لهم مؤتمرا حاشدا حضره الشيخ العنقري وابن زاحم وابو حبيب الشتري والقادة ورؤساء القبائل ،وبلغ عددهم حوالي الفي شخص، وقد خطب فيهم عبد العزيز فأعلن لهم عدة مبادئ محددة :

1-ان القرآن والسنة يجب ان يكون الأساس الذي تبني عليه القرارات الخاصة بالدين وليس التفسير الشخصي .

2-يجب طاعة الملك طبقا لما جاء في الشرع.

3-منع الاجتماعات التي تتناقش في الدين او الدنيا بدون موافقة الملك .

4- يجب احترام المسلمين والذين يحميهم المسلمون. ( أى الأجانب ( الكفرة ) الذين يحميهم الملك ).

5 ــ ووجه عبد العزيز تهديدا مباشرا حاسما للعلماء الوهابي ، بأن الأخوان قد خرقوا هذه المبادئ ،وانهم يمكن ان يتعرضوا لنفس المعاملة التي عومل بها الأخوان اذا ما أخلوا بتلك المبادئ او خرجوا عنها .  ثم ذهب الملك الي فريضة الحج  وتركهم يرتعشون فرقا وخوفا.

 التنقيب على البترول :

1 ـ فى كتاب ( المـمـلـكـة )( تأليف: روبرت ليسي ) ( ترجمة: دهام العطاونة ) ، يقول المؤلف : ( كان عبد العزيز بحاجة ماسة للثروات المعدنية ـ أوثروات من أي نوع كان في بداية الثلاثينات. وقد توحي قصة ((الرجل والحصان)) بأن كرينجاء إلى جدة في شهر فبراير 1931 فقط نتيجة لكرم الشيخ فوزان العربي الحق. ولكنالحقيقة هي أن عبد العزيز كان بحاجة ملحة للمال لدرجة أنه كان سيجد شخصا مثل تشارلزكرين في أي مكان، ولو أن كرين لم يكن على قيد الحياة، لوجد شخصاً آخر لتوفير ما كانالأمريكي يعرضه. )

2 ـ المؤلف الانجليزى لم يكن يعلم بخطط عبد العزيز فى نشر الوهابية فى مصر وحاجته الى المال بسبب هذا . لذا قال آراء متناقضة : (وكان سبب المشكلة هو الركود الذي أصاب الاقتصاد العالمي منذ عام1929 وأدى إلى انخفاض كبير في عدد الحجاج. لقد اعتادت سلطات الحجاز ونجد فيالعشرينات اعتبار العدد 100.000 حاج بمثابة الحد السنوي الأدنى للحجاج إلا أن هذاالعدد انخفض إلى 50.000 عام 1930 ثم إلى 40.000 عام 1931، وقد ظهر هذا الانخفاض فيهبوط الطلب على صادرات نجد القليلة وخاصة التمور.  كان الحج هو المهم. فقدقدرت بريطانيا دخل عبد العزيز أثناء الحرب العالمية الأولى في نجد بأقل من 3000جنيه في الأسبوع بينما كانت الحجاز تصدر ما تزيد قيمته على مليون جنيه من الذهبسنويا ـ أرباح موسم الحج. إنه لا يمكن مقارنة هذه الأرقام على وجه الدقة إلا أنهاتعطي فكرة عن الفرق في حجم اقتصاديات الحجاز ونجد والتحول الذي طرأ على موارد عبدالعزيز المالية من جراء احتلال الحجاز. فقد أصبح عنده فجأة مال أكثر بكثير منالسابق ـ ملايين بلا مبالغة. ولعب ثراؤه الجديد دورا كبيراً في هزيمته للإخوان. فقدقام عبد العزيز بكسب تأييد القبائل بعائدات الحج. وكانت هذه العائدات هي أحدالأسباب لذهابه إلى مكة المكرمة بعد انتصاره في معركة السبلة في مارس 1929. لقدأراد أن يضمن ان دخله السنوي يتم جمعه كما يجب، إذ أن الحج أصبح مصدر قوت الجزيرةبكاملها.) هنا تناقض ، يتبعه قوله : ( لقد أدى انهيار عائدات الحج إلى انهيار موارد عبد العزيز المالية. فتهاوى دخله السنوي من ما يزيد على 5 ملايين جنيه استرليني إلى أقل من مليوني جنيه. ووجد نفسه فجأة مدينا بمبلغ 300.000 جنيه. وتحطمت عملته الجديدة ـ الريال ـ ، وبدأتجار جدة يشترون الذهب ويصدرونه إلى بنوكهم في القاهرة لصيانته تماما كما فعلوا فيأيام الشريف حسين العصيبة. وتعيّن على عبد العزيز أن يعلن تأجيل دفع ديونهالمستحقة. وكان الوقع العام للأزمة المالية أنها جعلته يشعر بالكدر الشديد. وكانيشعر أنه دون مستواه أن يلجأ إلى التجارة مثل شيوخ عمان وقطر. غير أنه شعر في وجههذه الأزمة أنه قادر على نسيان تحفظاته بخصوص منح امتيازات التنقيب عن المعادن فيبلده. قال ذات يوم لفيلبي بسأم وهو يقود سيارته في طريقه إلى الطائف:(لو أن أحداأعطاني مليون جنيه الآن فسيكون له كل الامتيازات التي يريدها في بلادي .). نقل ليسى هذا عن كتاب (فيلبى ) مستشار عبد العزيز الانجليزى ، وسمسار التنقيب عن البترول فى المملكة . وهذا القول هو الذى شجع فيلبى على التحرك . وهذا القول هو بيت القصيد فى موضوعنا . كان عبد العزيز فى حاجة ماسة للمال الذى يستقطب فيه ملايين المصريين ويجنّد فيه آلاف الدعاة للوهابية فى مصر .

3 ـ وتفجرت ينابيع البترول فى الأحساء ، يقول الزركلى فى كتابه : الوجيز فى تاريخ عبد العزيز : ص 148 : ( استعرض عبد العزيز منشئات النفط فى الظهران فى 18 ابريل عام 1939 ، وشهد بعدها أول حمولة بترول فى ميناء رأس تنورة . وحكى بعدها قصة البحث عنه . 

البترول ونشر الوهابية فى مصر :

1 ـ بدأت آثار البترول تظهر فى أقوال ومواقف المفكرين المصريين والنشطاء المصريين ، ونقلها جلال كشك فى ثنايا كتابه ( السعوديون والحل الاسلامى ) : (  ص 44 : محمد حسين هيكل زعيم الاحرار الدستوريين سمى عبد العزيز نابليون العرب ) (  العقاد الذى دخل السجن بتهمة العيب فى الذات المكلية حين هدد بتحطيم رأس الملك فؤاد قال شعرا يمدح عبد العزيز . ) ( ص 45 : أحمد حسين زعيم مصر الفتاة زار المملكة عام 1948، ألف كتابا فى مناقب عبد العزيز ، واتهموه بأنه بالتمويل السعودى أصدر جريدة الاشتراكية التى مهدت لحركة الضباط الاحرار التى كان من ورائها الاخوان المسلمون ، وقال أحمد حسين فى جريدة مصر الفتاة : (أُعجبت با بن سعود الى الحد الذى حديثى عنه يُتّهم خاصة بعد ان عرف العام والخاص انه يشملنى دائما بعطفه ورعايته ويحبونى بكرمه وبره  . ). 

2 ـ الزركلى فى كتابه ( الوجيز  ص 338 : 340 ) يذكر النشاط المصرى فى طبع ونشر المخطوطات : كتب السنة وكتب ابن تيمية وابن عبد الوهاب وابن القيم وابن حنبل . شراء كتب الحديث والتفسير وتوزيعها مجانا ، ومنها تفسير المنار لرشيد رضا ( 12 مجلدا ) تفسير سورة الاخلاص لابن تيمية ومسند الامام أحمد و ( عنوان المجد فى تاريخ نجد ) و ( حاضر العالم الاسلامى ) لشكيب ارسلان ، ومناقب الامام أحمد بن حنبل لابن الجوزى . )

3 ـ المفارقة تظهر فيما ذكره الزركلى فى ( الوجيز ) ص  127 :

بعد حادث المحمل ارسل عبد العزيز ابنه سعود الى مصر عام 1926 لتصفية الجو مع القصر الملكى فيها ، ولكن الجفوة استمرت . تغير الوضع بعد تفجر البترول وتجنيد آلاف المصريين عملاء للوهابية ، وبعد نجاح حسن البنا فى تأسيس الاخوان المسلمين ونشر فروعها خمسين ألف فرع فى العمران المصرى . يقول الزركلى ص 127 : ( دعا عبد العزيز الى تحكيم الشرع فى حديث صحفى ادلى به الى صحفى مصرى عام 1935 ، وقال فيه : لا خلاف بينى وبين مصر . وأمر المحمل متروك الى الدين والى احكام الشرع . فى مصر علماء علينا نستفتيهم ، وأنا معهم فيما يأتون به من الكتاب اوالسنة . أبلغ مصر عنى أن حكومتى على استعداد لكل تساهل تطلبه الحكومة المصرية يتفق مع الشرع . ) تغير الوضع خلال تسع سنوات فقط ( 1926 : 1935 ) . أصبح لعبد العزيز علماء وهابيون فى مصر يمثلون الشرع السنى ، ويتكلمون بالكتاب والسنة ( ولا يذكر الوهابية ) ، وهو يرفع  هذا ( الشرع ) سلاحا ضد الحكومة المصرية . وليس مستبعدا أن يكون حافظ وهبة هو الذى كتب هذا الحديث .. ففى النهاية هو ومعه رشيد رضا ومحب الخطيب ـ هم مهندسو هذا التحول الخطير ، ليس فقط فى نشر الوهابية فى مصر ولكن فى تشجيع عبد العزيز على التنقيب عن المعادن والبترول فى مملكته ليقوم بتمويل نشر الوهابية فى مصر . الثلاثة معا ( رشيد : حافظ / محب ) فقهاء سنيون وهابيون يفقهون الدين السُّنى ومبدأ المصلحة ، خلافا لتزمت فقهاء نجد .

4 ـ لكن جهودهم لم تكن وحدها سبب الانتشار الوهابى فى مصر وخارجها .

 
 

 

مؤتمر الحجاز 1925 والتأثير الوهابى على مصر

 

 مقدمة :

1ـ  أثناء خدمته للشريف حسين زار رشيد رضا الحجاز ، ثم بعد هزيمة الشريف حسين وإحتلال عبد العزيز للحجاز ومبايعة الحجازيين لعبد العزيز دعا عبد العزيز الى مؤتمر إسلامى لبحث حال الحجاز ، وتم عقد المؤتمر عام 1344 هجرية 1925 ، واشترك فيه مندوبو 33 بلدا للمسلمين ،بالإضافة الى حضور جمع من الأئمة والفقهاء .  وحضره رشيد حيث التقى سيده عبد العزيز لأول مرة .

2 ـ واضح أن عقد المؤتمر كان بترتيب حافظ وهبة الذى إستغل علاقاته الدينية بمشهورى الأئمة والحكام فى ذلك الوقت وإجتماع الناس فى فى موسم الحج ليثبت أحتلال عبد العزيز للحجاز وليهدىء مخاوف المصريين وغيرهم، كما أنه كان هناك دور لرشيد رضا فى داخل المؤتمر فقد أظهر فيه نشاطا كبيرا وأصيب في أثنائه بالحمى  .  

3 ـ ونعطى بعض التفصيلات :

أولا :

1 ـ ـ بسبب أصداء مذبحة الطائف حدثت تحركات من بعض الجهات الاسلامية ضد عبد العزيز وتداعت الى عقد مؤتمر وقت أن كان جيش عبد العزيز يحاصر (على ابن الشريف حسين ) فى جدة . كان لا بد لعبد العزيز من الاسراع بإحتواء الموقف ، فبذل  جهوده حتى استولى على جدة وطرد عليا ابن الشريف حسين وحصل على بيعة أهل الحجاز له ملكا ، وبعدها اسرع بالدعوة الى مؤتمر بزعم البحث فى أحوال الحجاز ، كى يحصل به على إعتراف دولى بملكيته للحجاز وكونه ملكا عليه ليكون سلطان نجد وملك الحجاز معا . 

2 ـ وتحدد يوم افتتاحه في 20 ذي القعدة 1344 ، وهذا في خطاب بعَثَه عبد العزيز إلى الشعوب والحكومات الإسلامية في 12 رمضان عام 1344هـ، وقال في خطابه المذكور: "خدمة للحرمين الشريفين وأهلها وتأمينًا لمستقبلها، وتوفيرًا لوسائل الراحة للحجاج والزوَّار، وإصلاحًا لحال البلاد المقدَّسة من سائر الوجوه التي تهمُّ المسلمين جميعًا، ووفاء بوعودنا وعهودنا التي قطَعناها على أنفسنا، وميلاً في تكاتف المسلمين وتعاضدهم في خدمة هذه الديار الطاهرة - ندعو إلى عقد المؤتمر في 20 ذي القعدة 1344هـ .

 3 ـ ويبدو من صياغة الخطاب أن الذى متبه هو حافظ وهبة باسم سيده عبد العزيز الذى كان بدويا لا يجيد القراءة والكتابة. وقد تجنب الخطاب أى إشارة لوضع الحجاز الجديد تحت إحتلال عبد العزيز ، أى ينطلق من أرضية التسليم بتبعية الحجاز لابن سعود ، ولا يضعها محل نقاش بعد مبايعة اهل الحجاز له ملكا.

4 ـ  تم أُرسِال الدعوة للمؤتمر إلى هيئات ودول إسلامية تمثِّل 18 مقاطعة إسلامية فقط منهم: ملك مصر وأفغانستان وإيران والعراق وإمام اليمن ورئيس تركيا ورئيس المجلس الإسلامي الأعلى في القدس، وكثير من الشخصيات والجمعيات الإسلامية، وقد استجابت أكثر هذه الدول والجمعيات باستثناء حكومتي العراق والأردن، وكذلك إيران؛ لعدائها المذهبي الشيعي.

5 ــ وعُقِد المؤتمر في موعده وافتتحه الملك عبدالعزيز، وألقى كلمة الافتتاح الشيخ حافظ وهبة، الذى أوضح أهمية هذا المؤتمر ( الإسلامي الأول) ، وأهمية توحيد كلمة المسلمين وتعاضدهم، بنفس ما جاء فى حطاب الدعوة . ودافع عن عبد العزيز وأنه قام بإنقاذ الحجاز من الأشراف. ووضع حافظ وهبة فى كلمته حدودا لمناقشات المؤتمر ، وهى عدم الخوض فى السياسة الدولية وفى الخلافات البينية بين دول المسلمين وعدم إثارة موضوع الحجاز بعد أن تقررت تبعيته لعبد العزيز . وبنفوذ حافظ وهبة ورشيد رضا جاءت قرارات المؤتمر إستجابة لما يريده عبد العزيز .

ثانيا : قرارات المؤتمر :

1 ـتشكيل لجنة لحصْرِ أوقاف الحرمين الشريفين في العالم الإسلامي على أن تقدم اللجنة تقريرها في المؤتمر المقبل.وهذا يعنى إستيلاء عبد العزيز على الأوقاف الخاصة بمكة والمدينة والتى تبرع بها الملوك والسلاطين والأثرياء عبر القرون .

2 ـ الاستيلاء على إدارة خط سكة حديد الحجاز التي تُعَدُّ وقفًا إسلاميًّا وفقَ قرارات مؤتمر لوزان في يناير عام 1923م القاضي بتشكيل مجلس إسلامي يقوم بإدارة هذا الخط ويكون مركزه المدينة المنورة .

3 ــ التوصية بمدِّ سكة حديد بين مكة المكرمة والمدينة المنورة لراحة الحجاج، ويكون ذلك عن طريق تبرعات تدفع لحكومة الحجاز من العالم الإسلامي.

4 ـ جمع تبرعات من العالم الإسلامي لصيانة الأماكن المقدسة.

5 ـ تشكيل لجنة طبية لدراسة الحالة الصحية في الحجاز وتقديمها لحكومتها لإيجاد الحلول لها.

6ـ عدم إعطاء امتيازات اقتصادية في الحجاز لغير المسلمين ضمانًا لحريته واستقلاله

7 ـ بتأثير حافظ وهبة ورشيد رضا احتجَّ بعض أعضاء المؤتمر على إقدام بريطانيا على أخذ العقبة ومعان ـ وهي من أراضي الحجاز ــ وجعلها تحت سلطة شرق الأردن التى كان يحكمها الأمير عبد الله بن الشريف حسين . وقالوا أن هذه الامارة واقعة تحت سلطة أجنبية ، وطالبوا ملك الحجاز بالعمل لاستعادة هذه المنطقة . وقد عارضت وفود مصر وأفغانستان وتركيا هذا المطلب . أى كان عبد العزيز يريد أن يحتل كل ما كان تابعا للحجاز . لم يحصل عليه بالسيف فأراد أن يحصل عليه بهذا المؤتمر .

ثالثا : المؤتمر التالى 1926 :

1 ـ ثم تم عقد مؤتمر تكميلى فى موسم الحج التالى عام 1345هـ . وحضر بعض المندوبين وانتدبت الحكومة السعودية (كامل قصاب) مدير المعارف ليمثِّلها في المؤتمر. وفيه إشتدت الخلافات بين أعضائه . فكتب حافظ وهبة باسم الملك عبد العزيز خطابًا إلى المؤتمر حدَّد فيه البرنامج الذي يجب أن يسير عليه المؤتمر في ثلاث نقاط: عدم التدخل في الشؤون الداخلية في الحجاز.وعدم الخوض في الشؤون السياسية على الإطلاق.- النظر فقط فيما يفيد الحجاز ويحفظ حقوقه ويضمن راحة جميع الحجاج والوافدين.

2 ـ وواضح أن هذا المنع جاء ردا على معارضة قوية لعبد العزيز وإنتقاد لسيطرته على الحجاز وفرض المحاذير الوهابية فيه .

3 ـ ولكن هذا المؤتمر كان فرصة للدعاية للوهابية ، فلم تصبح ممقوتة جدا كما كانت من قبل ، فحضره وهابيون من مصر وغيرها برعاية رشيد رضا وحافظ وهبة ومحب الدين الخطيب ، وجرت اتصالات مع عبد العزيز فى خطط نشر الوهابية فى بلادها . 

رابعا : المؤتمر الثالث : 1927

1 ـ وفشل المؤتمر الثالث رسميا ، ولم يهتم عبد العزيز بفشله ، إذ كان عبد العزيز قد نجح فى إحتواء الموقف وفى تبريد الغضب الثائر عليه وصولا الى التسليم بملكيته للحجاز . الواقع أن هذا المؤتمر كان  غطاء لاجتماع عملاء عبد العزيز من مصر وغيرها فى مراجعة خطط  نشر الوهابية خارج مملكة عبد العزيز .

2 ـ وقتها 1927 كانت أزمة عبد العزيز مع إخوانه النجديين قد تفاقمت ، واصبح الصراع العسكرى أمرا محتوما يتجهز له عبد العزيز وخصمه فيصل الدويش . وهو صراع سياسى إرتدى ثوب الدين الوهابى ، فهم يزايدون بوهابيتهم على سيدهم واستاذهم عبد العزيز ويتهمونه بالكفر بالوهابية وممالأة الكفار والمشركين . وفى هذه النوعية من الصراع الدينى السياسى الحربى لا مجال للحلول الوسط ، لأنها معادلة صفرية وصراع وجود ، إما هم وإما عبد العزيز . وعبد العزيز يدرك هذا فاستعد لهذا بجيش قوى وببذر الوهابية خارج حدوده ليكسب أراضى جديدة وينشىء أتباعا له جددا خارج حدوده يعملون لصالحه ، لتتكون منهم فى النهاية حركة سياسية تصل الى الحكم ، خصوصا مصر . وبإخوانه ( المصريون ) يكون له أفضل بديل من اخوانه النجديين المشاكسين .

خامسا : التحول الخطير فى مصر ( 1926 : 1928 )

1  ـ الدليل على هذا  أنه جرى إنقلاب صامت فى مصر بعد عودة رشيد رضا . 

علي المستوي الرسمي امكن تفادي حادث المحمل ،وعلي المستوي الشعبي والثقافي بدأ انقلاب خطير منذ سنة 1926 تمثل في بداية تحويل التدين المصري السني الصوفي الي تدين سني وهابي .

2 ـ ،ونتتبعه عبر الطرق الاتية:

2 / 1 : الجمعية الشرعية : أسسها الشيخ محمود خطاب السبكي سنة 1913 علي اساس الولاء المطلق للتصوف ،وفي اخضاع الفقه للتصوف كتب الشيخ محمود السبكي اولي مؤلفاته : اغلب المسالك المحمودية في التصوف والاحكام الفقهية .في اربعة اجزاء .ولكن في 1926 اتخذت مؤلفاته طابعا جديدا تحت شعار الدفاع عن السنة ،وبالطريقة الوهابية اخذ يهاجم التصوف تحت هذا الشعار ،وفي هذا الاتجاه الجديد كتب 26 كتابا الي ان مات سنة 1931 وعلي طريقه سار ابنه امين السبكي فقد كتب في الدعوة الوهابية تسعة من الكتب وتوفي سنة 1968 ،وهكذا . وبالنفوذ السعودي الذي ارساه رشيد رضا انتشرت مساجد الجمعية الشرعية ،وهي الان اضخم جمعية في مصر ،تسيطر على اكثر من الفي مسجد والوف الائمة الوعاظ ،وملايين الاتباع ،وكانت ولا تزال الاحتياط الاستراتيجي للاخوان المسلمين ، وهم أي الجمعية الشرعية والاخوان المسلمون-هم مادة الفكر السلفي وحركته في المجتمع المصري

2 / 2 : جمعية انصار السنة في نفس العام 1926 اقامها الشيخ حامد الفقي احد الازهريين ،وقد انشأ له عبد العزيز آل سعود منزلا في حي عابدين كان مقرا للدعوة الوهابية ،وتخصصت هذه الجمعية في نشر الفكر الوهابي ومؤلفات ابن تيمية وابن القيم ،كما انشأ مجلة الهدي النبوي سنة1936 ولا تزال تصدر .

2 / 3 : جمعية الشبان المسلمين :أنشئت سنة 1927 بتخطيط محب الدين الخطيب رفيق الشيخ رشيد رضا الشامي في الدعوة السلفية ،وتولي رئاستها د.عبد الحميد سعيد ،والاتجاه الحركي يغلب علي هذه الجمعية وانتشرت وسط الشباب ،وكان حسن البنا هو اهم الشباب فيها ،ومع انه انشا الاخوان المسلمين علي غرار جماعة الاخوان التي انشأها عبد العزيز آل سعود،الا ان حسن البنا كان دائم التردد علي جمعية الشبان المسلمين ،وقد قتل امام ابوابها سنة 1948.

2 / 4 : أخيرا : جماعة الاخوان المسلمين :سنة 1928 وهي الاتجاه الحركي السياسي المسلح ،وكان انشاؤها بعناية رشيد رضا وتوجيهاته . ورشيد رضا هو الذي قام بتقديم الشاب حسن البنا الي اعيان السعودية واعمدة الدعوة الوهابية،ومنهم حافظ وهبة مستشار الملك عبد العزيز ،ومحمد نصيف اشهر اعيان جدة ،وابنه عبد الله نصيف هو الذي يتزعم رابطة العالم الاسلامي ،والتي يتغلغل من خلالها النفوذ السعودي الى العالم الاسلامي حتي اليوم ،وهي التي لعبت دورا في تجنيد الشبان للذهاب الي افغانستان وتدريبهم هناك .

 

أولا : إتصالات رشيد بعبد العزيز قبل مؤتمر الحجاز 1925:

1 ـ بموت الامام محمد عبده كان عبد العزيز قد بدأ من الرياض رحلة الغزو والاحتلال فى نجد وخارجها . وواكب هذا خروج رشيد رضا عن منهج استاذه محمد عبده ، وبدء دعوته الى الوهابية تحت مسمى السلفية . وقد أسّس  مدرسة الدعوة والارشاد لتخريج الدعاة السنيين ( الوهابيين ) في جزيرة الروضة سنة 1912 وكانت تجاورها مؤسسة الزهراء للسلفي الشامي محب الدين الخطيب في نفس المنطقة. كما بدأت مجلته (المنار)ذائعة الصيت فى نشر مقالات متخصصة في الدعوة الوهابية تحت مسمى السّنّة والسلفية ,

2 ـ قبل مؤتمر الحجاز 1925 كانت هناك مراسلات بين عبد العزيز ورشيد رضا . وقتها كان رشيد رضا عميلا لبريطانيا متحالفا مع الشريف حسين باوامر بريطانية . ولم يمنعه هذا من التواصل بالرسائل مع عبد العزيز خصم الشريف حسين . ولقد كانت كثيرٌ من الرسائل بين رشيد وعبدالعزيز تبحث في نواحٍ سياسية ، وهذه الرسائل كانت يخضع لرقابة شديدة من قِبَل دوائر الاستعمار البريطاني التي كانت قد وضعت رقابة على البريد الصادر من وإلى الخليج والجزيرة العربية عن طريق بومباي، وفي بعض الأحيان كان يُتَرجَم الخطاب من قِبَل الجهات المختصة في الهند ثم يبعث به إلى لندن.

 3 ـ وأحد الخطابات التي وقعت فى يد الانجليز خطاب موجَّه من الأمير عبدالعزيز آل سعود إلى رشيد رضا بالقاهرة، وقد ترجم الخطاب إلى الإنجليزية في 28 يناير سنة 1916م، ويتضمَّن الخطاب التحذير من مزالق السياسة والمؤامرات الأجنبية وحماية بلاد الجزيرة العربية منها.ويُشِير الخطاب إلى أن رشيد رضا قد عمل بصدد ذلك إجراءات وترتيبات لم يفصح الخطاب عن مضمونها وشكلها، إلا أن الأمير عبدالعزيز آل سعود قابَل هذه الإجراءات بحذر لخشيته من أن تتعارَض مع تقاليد بلاده وأحوال منطقته المتمسِّكة بحبل الدين ( الوهابى ) ، كما أشار الخطاب إلى علاقة الأمير عبدالعزيز آل سعود بشريف مكة في ذلك الوقت، وأنها هادئة بالرغم من وجود خلافات طفيفة لم يذكرها الخطاب، كما أشار إلى علاقته بالحكومة التركية وقال: "وفيما يختصُّ بمعاهدتنا مع الحكومة التركية لا نظن أننا من الضعف لدرجة الحفاظ عليها، فنحن نتبع رابطة الدم".. خطاب من ( الأمير عبد العزيز ) الى الشيخ رضا يبدأ بقول عبد العزيز الى رشيد رضا : (في الحقيقة يا صاحب الشرف الرفيع أنك تبذل نصحك بأمانة وإخلاص، نظرًا لغيرتك على الإسلام والعروبة"، كما ختم خطابه برجاء إلى رشيد رضا في أن يواصل كتابته إليه .

 4 ـ ومن الواضح أن رشيد رضا عمل كمستشار خارجى لعبد العزيز عبر البريد ، يعطى النصح لعد العزيز ، وعبد العزيز يتقبل تلك النصائح بقبول حسن ، تعبيرا عن عُمق الثقة بينهما  . 

 5 ـ وبعد هزيمة الشريف حسين ألقى عبد العزيز بنفسه تحت أقدام عبد العزيز ، وتكاثرت بينهما الرسائل . يقول د أحمد الشرباصى مؤلف كتاب عن رشيد رضا : ويظهر من هذا  ان العلاقة بين ابن سعود ورشيد طيبة ، وستزداد هذه العلاقة مع الأيام توثقا وتعمقا ، وقد عثرت على رسائل من ابن سعود إلى رشيد يتضح منها عمق هذه العلاقة . ) .

6 ـ وفى رسائله ذكر رشيد مساوئ الإنجليز على المسلمين، وأنهم هم الذين يساعدون أعداء الوهَّابيين في الحجاز وهم (شرفاء مكة) ضد ابن سعود وذلك ليكون وسيلة لتدخُّلهم في الحجاز  ، كما ذكر أنه حينما استولى ابن سعود على الحجاز وأعلن أنه لن يكون لأجنبيٍّ نفوذ فيه ساء ذلك إنجلترا وأرادت مساعدة علي بن الحسين بأسلحة من مصر .وفي موضع آخر يتعرَّض للموانع التي وقفت في وجه دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهَّاب وتجديدها لمجد الإسلام الديني والدنيوي، فيذكر أن هذه الموانع هي الدولة العثمانية، ومحمد علي باشا، و(دولة الدسائس) ويقصد بها بريطانيا وإن لم يصرح باسمها  .

ثانيا : التحالف العلنى بين رشيد رضا وعبد العزيز :

1 ــ يرى د الشرباصى أنه ( كان الشيخ رشيد رضا يؤمن بزعامة الملك عبدالعزيز الإسلامية في المحيط السياسي للعالمين العربي والإسلامي، ويؤيِّد هذه الزعامة ويناصرها، خاصة بعد أن أتَمَّ الملك عبدالعزيز توحيد بلاده السعودية، وبالمقابل فالملك عبدالعزيز يقدِّر رشيد رضا كعالم إسلامي مُصلِح، ويستنير بآرائه ويصغي لنصائحه وتوجيهاته.وغنيٌّ عن البيان أن هذه العلاقة القوية بين الشخصيتين قامت على أساس اعتناقهما العقيدة السلفية، فالملك عبدالعزيز يُعَدُّ زعيم أتباع دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهَّاب السلفية في عهده ورشيد رضا أعجب بهذه الدعوة وناصَرَها وتأثَّر بها - كما مرَّ - حتى إن أعداءها يلقِّبونه بـ(الوهَّابي)  - أمَّا أصدقاؤه وتلاميذه ومحبُّوه فقد جعلوه (زعيم السلفيين) في عهده ، والدافع القوي للسلفية في العصر الحاضر ، كما لقبوه بـ(محيى السنة)) .

2 ـ قبيل مؤتمر الحجاز عاد رشيد رضا الى مصر وقد جعل نفسه بوقا دعائيا لعبد العزيز، فأخذ ينشر على صفحات "مجلة المنار" كثيرًا من القرارات السياسية للدولة السعودية ويعلِّق عليها مؤيدًا لها؛ مثل البلاغ الذي أعلنه الملك عبدالعزيز عند دخوله الحجاز، ومثل وثيقة دعوة الملك عبدالعزيز لمؤتمر إسلامي في مكة لتقرير مستقبل الحجاز، وغير ذلك .

 وبعد مؤتمر الحجاز نشر يؤيد الملك عبدالعزيز في سياسته الخارجية وإصلاحاته الداخلية  ، وذكر أنه عمل في الجزيرة العربية أعمالاً لم يسبق لها نظير إلا في صدر الإسلام، وذلك بتحويله الأعراب إلى التوحيد والعلم والحضارة، وتوجيههم الوجهة الإسلامية الصحيحة، ووقف رشيد مؤيدًا للملك عبدالعزيز في حربه ضد "الإخوان النجديين " وقضائه على فتنتهم، ونشر تفاصيل ذلك في "مجلة المنار .

3 ـ وتكثفت المراسلات بينهما ، حيث لعب رشيد رضا دور الإمام الدينى الناصح للإمام السياسى ، ولم تقتصر النصائح حول أمور دينية بل إمتدت الى السياسة والفقه ، وقد ذكر الدكتور أحمد الشرباصي أنه عثر على أغلب رسائل الملك عبدالعزيز إلى رشيد، كما عثر على طائفة من رسائل رشيد إلى الملك .) ويقول : ( والشيء المهم في هذه الرسائل التي يرسلها رشيد إلى الملك عبدالعزيز أنها تحمل ألوانًا من النصائح التي يوجِّهها رشيد إلى الملك عبدالعزيز فيتقبَّلها الملك بصدر رحب بالرغم ممَّا تحمله بعض تلك النصائح من الشدة في الأسلوب، وفي ذلك يقول عبدالرحمن بن عاصم - ابن عم رشيد -: "وإن أنسى لا أنسى أني وجدت شدَّة في خطابٍ منه إلى جلالة الملك عبدالعزيز وراجعتُه فيها، فغضب وقال: أتريد أن تعلمني المداجاة والجبن؟ اقفل المكتوب وأرسله إلى البريد، واعلم أن مزيتي عند الملك إخلاصي وصراحتي في النصيحة، ومزيته عندي أن يقبل النصيحة".. ثم ذكر أن من هذه الرسائل قوله في كتاب أرسله إلى الملك عبدالعزيز: "ولا أزال كذلك أجاهد معكم ما دمتم تجاهدون في سبيل الله وإعلاء دينه"، وفي كتابٍ آخر يقول رشيد: "وقد عاهدناكم على أن نؤيِّدكم ونخدمكم في إقامة السنة وهدم البدع، وإحياء الإسلام على منهاج السلف في أمور الدين ومستحدثات الفنون العصرية في أمور الحرب . وقد ذكر رشيد أنه يسلك في نصيحته للملك عبدالعزيز طريقة السلف الصالح في موعظة الخلفاء والأمراء، وأن الملك عبدالعزيز يحب هذه الطريقة . )

4 ـ وتكلم رشيد عن حديثه مع الملك عبد العزيز فى أول لقاء بينهما فى مؤتمر الحجاز ، قال :    "قلت لابن سعود في أوَّل مجلس جلسته إليه عقب وصولي إلى مكة المكرمة: لقد أُوذِيتم من قبلُ ومن بعدُ فصبرتم، فنصركم الله كما وعد الصابرين، فحق لقومك أن يمتثلوا ويعتبروا بما حكاه الله - تعالى - عن بني إسرائيل مع موسى - عليه السلام - بقوله: ﴿ قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ﴾ [الأعراف: 129].فعليكم أن تحسنوا عملكم بشكر هذه النعمة، فإن الله - تعالى - ينظر كيف تعملون، فيجزيكم به، فأجابني قائلاً: "إننا والله لا نخاف إلا من القرآن - فتأملوا هذه الجواب يا أولي الألباب. )

5 ـ وبسبب عمل رشيد فى نشر الوهابية فى مصر نائبا عن عبد العزيز فقد كان يتلقى منه تمويلا ، لذا إنضمت الأمور المالية الى الموضوعات الشرعية والسياسية ,

6 ـ  والملك عبدالعزيز كان معجبًا برشيد رضا أيضًا، وما جاء ذكره في مجلس إلا وهو يُثنِي عليه، ومن ذلك ما رواه شكيب أرسلان في رسالةٍ منه إلى رشيد أن الملك عبدالعزيز قال: إن السيد رشيدًا لا يوجد مثله اليوم في علماء الشرع في كل العالم الإسلامي وأخذ يطنب في مزاياه، ويذكر شكيب أن الملك عبدالعزيز حينما علم بضائقة رشيد المالية فرَّج عنه بعض كربتها . 

ثالثا : رشيد رضا يهاجم الأزهر بسبب كراهية الأزهر وقتها للوهابية

 تصدى بعض شيوخ الأزهر للهجوم على الوهابية ، فواجهم رشيد رضا يعايرهم بالتخلف والجمود ، ذاهبا بالموضوع الى موضوع مختلف . قال " اتسع نطاق العلوم كلها : لسانية وعقلية وعملية ، فكثرت فروعها وتعددت طرق تعليمها ، وأهل الأزهر ومن على شاكلتهم من مقلدي الأموات على جمودهم ، لا ينقصون من كتب مشايخهم ، ولا يزيدون فيها ، حتى صرنا لا نرى شيئاً من الإصلاح في العلوم العربية ، حتى علوم اللغة ، إلا ممن تعلم في المدارس النظامية التي أصبح زمامها بأيدي الفرنج في كل قطر "(2) . ثم يتوسع رشيد في اللذع والإيجاع فينوه بكتب لأدباء مسيحيين جبر ضومط وجورجي زيدان   .

رابعا : إخلاص الى آخر العمر :

1 ـ علاقة رشيد بالملك عبدالعزيز أخذت تزيدها الأيام رسوخًا وقوَّة، وبلغ من إعجاب رشيد بالملك عبدالعزيز ما أسماه (السيف المسلول للسنة وهدي السلف الصالح). وبالمقابل، فإن الملك عبدالعزيز كان معجبًا برشيد رضا أيضًا، وما جاء ذكره في مجلس إلا وهو يُثنِي عليه، ومن ذلك ما رواه شكيب أرسلان في رسالةٍ منه إلى رشيد أن الملك عبدالعزيز قال: إن السيد رشيدًا لا يوجد مثله اليوم في علماء الشرع في كل العالم الإسلامي وأخذ يطنب في مزاياه. ثم يقول رشيد: "كيف لا أنصر ابن سعود وأناضل خصومه من المبتدعين والخرافيين وقد فعل كلَّ هذا، ويرجى أن يفعل ما هو أتمُّ منه وأكمل".وفي الأخير يرى رشيد أنه مقصِّر في الثناء على ابن سعود وخدماته الإسلامية الجليلة،

2 ـ واستمر إخلاص رشيد لأل سعود حتى وفاة رشيد، بل إن قصة وفاته تدلُّ على عمق هذه العلاقة؛ فقد صادَف أن زار الأمير سعود بن عبدالعزيز - ولي العهد السعودي حينذاك - مصر في جمادى الأولى سنة 1354هـ (1935م)، وحرص رشيد رضا على الاجتماع بالأمير وحده ليفضي إليه بآرائه ونصائحه، فلم تسنح فرصة ذلك الاجتماع إلا صباح يوم سفر الأمير سعود من مصر، ثم رافَق رشيد الأمير سعودًا إلى السويس لتوديعه رغم إجهاد رشيد، فودَّعه وعاد سريعًا إلى القاهرة في اليوم نفسه متعبًا جسمه بركوب السيارة ذهابًا وإيابًا والطريق يومئذ ليست سهلة، فأُصِيب بدوار من ارتجاج السيارة وتقيَّأ ومات  في ظهر يوم الخميس  23 جمادى الأولى سنة 1354هـ (22 أغسطس 1935م).

ولقد كانت آخِر الرسائل في تاريخ العلاقة بين رشيد رضا والملك عبدالعزيز برقيَّة التعزية التي بعث بها الملك إلى أسرة رشيد التي قال فيها: "أسأل الله - تعالى - أن يُحسِن عزاءنا وعزاءكم بفقيد الإسلام والمسلمين، وأن يعوِّضه عنَّا بجناته ورضوانه"  .

الدين الوهابى المعاصر: تأسيسه فى نجد وإنتقاله الى مصر
الجزء الثانى من كتاب ( نشأة وتطور أديان المسلمين الأرضية ):
هذا الكتاب
الكتاب السابق عن تأسيس وتطور الديانات الأرضية فى تاريخ المسلمين كان الفصل الأخير منه عن الوهابية . وقد رأيت أن أتوسع فيه ليكون كتابا كاملا ، فكان هذا الكتاب الذى يقع فى ثلاثة أبواب تتضمن تسعة فصول ، تتخصص فى تأسيس الوهابية فى نجد فى أواخر العصر العثمانى ثم إنتقالها وانتشارها فى مصر فى القرن العشرين .
more