رقم ( 8 )
الفصل الخامس :صراع أديان المسلمين الأرضية فى الدولة العثمانية وتسيد دين التصوف السنى

الفصل الخامس :صراع أديان المسلمين الأرضية فى الدولة العثمانية وتسيد دين التصوف السنى

  الدولة العثمانية فى لمحة عامة

إختلاف الرأى فى الدولة العثمانية:

1 ـ بعض الباحثين لا يرى فى الدولة العثمانية إلا الاستبداد والظلم والتخلف والمذابح والعزلة عن العالم التى فرضتها الدولة على ولاياتها العربية مما أدى إلى نشر الفقر والجهل والمرض. يرى آخرون أن الدولة العثمانية أوقفت وصول البرتغاليين إلى البحار الشرقية والجزيرة العربية والبحر الأحمر،ومنعت تقدمهم الى جدة حيث كانوا يريدون الهجوم على مكة وهدم الكعبة ثم الزحف على المدينة المنورة لنبش القبر المنسوب للنبى محمد عليه السلام. كما إنها حمت شمال أفريقيا من وقوعه تحت سيطرة البرتغال والأسبان.

مقالات متعلقة :

2 ـ الواقع أن الدولة العثمانية لم تكن بدعا فى استبداها ومظالمها، فلم تختلف فى مجال  الاستبداد والفساد والظلم عما سبقها وما عاصرها من دول عربية تنتمى للاسلام أو دول أوربية تنتمى للمسيحية، إلا أن الدولة العثمانية كانت أكثر التحاما بأوربا وصراعا معها، كما استمرت فى الوجود الى عصر التطور والنهضة الأوربية، وتقاعست فيه عن الاصلاح حيث كانت تعيش فترة ضعفها واضمحلالها وتكالب الدول الأوربية عليها.

3 ـ مسيرة الدولة العثمانية والحكم الحقيقى عليها تحدده ثلاث عوامل متداخلة، هى  ظروف الزمان والمكان والانتماء الرسمى للاسلام.

*من حيث الموقع لم تتكون الدولة العثمانية فى قلب العالم العربى والاسلامى كالدول الأموية والعباسية والفاطمية، بل قامت واتسعت فى آسيا الصغرى فى مناطق الصراع بين المسلمين والبيزنطيين، لذا قامت منذ نشأتها بالتوسع باسم الجهاد تهاجم أوربا وتتوسع على حسابها. *من حيث الزمان فقد تكونت الدولة العثمانية وتطورت من إمارة الى امبراطورية فى وقت تداعت فيه الدول الكبرى وسقطت لتتيح الفرصة لتأسيس الدولة العثمانية وتطورها.

سقطت دول الأتراك السلاجقة فى آسيا الصغرى، وأسقط العثمانيون دولة المماليك العجوز المسيطرة على قلب (العالم الاسلامى) والحجاز، كما أسقطوا الامبراطورية البيزنطية الأكثر عجزا وشيخوخة وحلت محلها وتوسعت فى أوربا على حساب الامارات المتاخمة لها.

واجهت الدولة العثمانية ــ  فى شبابها ـــ زحف الأسبان والبرتغال فى عصر قوتهما .

وبعد تحول اسبانيا والبرتغال الى قوة من الدرجة الثانية واجه العثمانيون وقت ضعفهم مولد وتطور امبراطوريات أقوى فى فرنسا وانجلترة. كما شهدت الدولة العثمانية نهضة عدوتها أوربا وقوتها وثراءها بسبب استعمارها واستغلالها  ثروات العالم الجديد، وبهذه القوة التفتت أوربا وأتحدت حول شىء واحد هو الانتقام من العثمانيين وطردهم من القارة الأوربية.

عزّز ذلك تطور الدولة الروسية فى الشمال الأوربى والآسيوى ،وقد قامت سياستها الخارجية على أساس التهام الجزء الأكبر من الدولة العثمانية، لسببين: سعى روسيا للزحف جنوبا نحو البحار الدافئة ، وكان وجود الدولة العثمانية عائقا دون تقدمها،   وتحرير الشعوب السلافية أبناء جنسها من الحكم العثمانى فى البلقان وما حوله.

زاد من القوة الأوربية دخولها عصر النهضة والتقدم الصناعى والمعرفى والحربى فى وقت ضعف العثمانيين ووقوعهم فى الجمود والتخلف فى مجالات العلم والتسليح والتصنيع .

ولت أوربا وجهها شطر الدولة العثمانية فى شيخوختها لتنتقم منها ما فعلته سابقا بأوربا وبالدولة البيزنطية.

*فى نفس الوقت لا نغفل التأثير الدينى فى الصراع العثمانى الأوربى.

قبل ظهور الدولة العثمانية احتدمت الحروب الصليبية فى الشرق الأوسط وآسيا الصغرى، كما احتدم صراع آخر فى شبه جزيرة ايبريا بين المسلمين والمسحيين الأسبان والبرتغاليين. بعد إنهاء الوجود الصليبى فى المشرق وإنهاء الوجود العربى المسلم فى شبه جزيرة ايبريا ركن المسلمون المنتصرون المماليك الى صراعات داخلية وشىء من الحروب الخارجيةفى الشرق بينما واصل الأسبان البرتغاليون حربهم الصليبية ضد المسلمين فى شمال أفريقيا وعملوا على الوصول الى الهند والتحكم فى تجارة الهند الشرقية بعيدا عن تحكم المماليك والعالم الاسلامى ، كما أرادوا الوصول الى الحبشة المسيحية والتحالف معها لقطع النيل عن مصر والتوغل الى قلب العالم الاسلامى والجزيرة العربية من خلالها. فى هذا الجو المحتدم بالصراع تمت ولادة الدولة العثمانية وتوسعها على حساب القوة المسيحية الكبرى فى شرق أوربا والتى تمثلها الامبراطورية البيزنطية العجوز. وبهذا دخلت الدولة العثمانية منذ ولادتها حمأة الصراع الاسلامى المسيحى وحملته الى وسط أوربا غازية فاتحة مهاجمة. ومن ثم جاء انتقام أوربا منها فى عهد ضعفها.أى كان الاسلام الذى حملته الدولة العثمانية مسوغا لتوسعها أبان قوتها قد قوبل بحركة صليبية أوربية لمناوأة الدولة العثمانية أثناء قوتها ثم للاجهاز عليها فى فترة ضعفها.

4 ـ لقد عاشت الدولة العثمانية أكثر من ستة قرون واجتاحت جيوشها أقاليم شاسعة فى جنوب شرق أوربا ووسطها ، وهى أقاليم لم تخضع قط لأى حاكم مسلم وأحرزت بإسم الأسلام إنتصارات باهرة خاطفة ، وامتلأت قلوب الحكومات الأوربية والشعوب هلعا وفزعا من هذه الدولة الإسلامية الطارئة عليها فى عقر دارها. وتعرضت الدولة فى مسيرتها فى أوربا لتكتلات صليبية دولية تنادت بها البابوية فى روما وأسهمت فيها دول أوربية عديدة . وتبادلت الدولة العثمانية مع الدول الأوربية الإنتصارات والهزائم. ولم تترك أوربا للدولة العثمانية فرصة أن تلتقط أنفاسها الى أن أسقطتها فى نهاية الربع الأول من القرن العشرين.

هذا الصراع الحربى بين العثمانيين والغرب صاحبه صراع فكرى ايدولوجى، فالهجوم على الدولة العثمانية اشتد من جانب المؤرخين الأوربيين خصوصا المتحمسين منهم دينيا وعرقيا قاموا بتشويه سيرة العثمانيين، وانتقل جانب من هذا الهجوم الى مثقفى المسلمين والعرب مع الانفتاح على الغرب وانتقال المؤثرات الحضارية والتحديث الى مصر وسوريا ولبنان وتونس وغيرها، فأصبح التحديث مرتبطا بالهجوم على الجمود الذى تمثله الدولة العثمانية بترهلها وضعفها واستبداها ونظامها العتيق . زاد فى الموضوع ارتكاب العثمانيين ـ وقت ضعفهم ـ مذابح للمسيحيين تزامنت مع تكوين طبقة مسيحية مثقفة فى سوريا ولبنان تربت على أيدى المدارس التبشيرية الفرنسية والأمريكية، مما عجل بالدعوة الى الاستقلال عن العثمانيين والقومية العربية لمواجهة الجامعة الاسلامية العثمانية التى دعا اليها الأفغانى واستثمرها سياسيا السلطان عبد الحميد الثانى لانقاذ دولته ولتخويف انجلترة وفرنسا باثارة مسلمى الهند وشمال أفريقيا ضدهما.

سقوط الدولة العثمانية لم ينه الحرب الفكرية التى لا تزال مشتعلة بشأنها.

الطامحون لإحياء الخلافة ـ بعد سقوط الخلافة العثمانية ـ يدافعون عن الدولة العثمانية ويبررون أخطاءها، بينما العلمانيون والمستغربون والقوميون يهاجمون الدولة ولا يرون فيها الا الوجه السىء . وأكبر حجتهم هو جمود العثمانيين وفسادهم واستبدادهم. وقد تناسوا أن جمود العثمانيين يرجع أساسا الى دين التصوف السنى الذى إعتنقه العثمانيون على أنه الاسلام، ومن خلاله تعلموا الثقافة العربية الرائجة وقتها والتى تتركز فى التقليد دون الاجتهاد. هذا ما تعلمه العثمانيون الذين كانوا فى الأصل قبائل تركية بسيطة جاهلة فما لبث أن تأقلموا بالأعراف السائدة فى المنطقة وساروا عليها. هذا بالطبع لا يعفيهم من المسئولية بعد أن صار لهم السلطان وتحتم عليهم السير فى طريق التقدم والاصلاح فأعرضواعنه، مع إنه كان قريبا لهم لدى عدوهم الذى يجاورهم.

 

نشأة الدولة العثمانية وتطورها

منطقة السهول الاستبسية الواسعة فى أواسط آسيا مسئولة عن إحداث تغييرات تاريخية عالمية كانت تقع فى أوربا والشرق الأوسط ، ويدفع ثمنها العرب والمسلمون والأوربيون المسيحيون على السواء. فى هذه السهول الممتدة تعيش قبائل رعوية شديدة البأس تحترف الإغارة والسلب والنهب والقتل ، فاذا حل الجفاف وتكاثف عددها رحلت الى الغرب نحو أوربا وبلاد المسلمين . كان أشدهم بأسا قبائل المغول والتتار التى أقامت امبراطورية هائلة على حساب أوربا والمسلمين وأهلكت ملايين البشر. زحف المغول والتتار أحدث قلاقل وحركات هجرة داخل أوربا وبلاد المسلمين وداخل آسيا نفسها ، فبعض القبائل الواقعة فى طريق الزحف المغولى ـ مثل القبائل التركية ـ كانت تفر منه أو من مناطق نفوذه ، مما أوجد سببا آخر للنزوح من أواسط آسيا الى الغرب.

ينتمى العثمانيون إلى قبيلة تركية تصادف سنة 1232 أثناء ترحالها فى وهاد الأناضول أن شاهدت جيشين يقتتلان أحدهما أكبر عددا من الآخر ،فانضمت القبيلة التركية إلى جانب الجيش الضعيف وأنقذته من الهزيمة وحققت له الأنتصار. بعد المعركة تبين للقبيلة التركية أنها ناصرت أقارب لها ينتمون إلى الأتراك وهم الترك السلاجقة والذين كانوا يحاربون جيشا مغوليا ينتمى إلى أقطاى بن جنكيز خان . وتقديرا للجميل قام السلطان علاء الدين الأول " 1219 – 1235 " سلطان دولة الأتراك السلاجقة بإقطاع أرطغرل رئيس تلك القبيلة التركية منطقة حدودية من دولته التى كانت تجتاز دور الأضمحلال . بعدها عيّنه السلطان السلجوقى محافظا للحدود فأعطاه الفرصة للاغارة على الدولة البيزنطية التى كانت تجتاز دور الاحتضار.تحت شعار الجهاد نجح طغرل فى التوسع غربا على حساب البيزنطيين فاستولى على مدينة" أسكى شهر " ومات ارطغرل عن 93 عاما وخلفه فى الحكم أبنه عثمان سنة 1299 وهو الذى سميت بإسمه الدولة العثمانية.

كان المغول هم أصحاب الفضل فى تأسيس إمارة لتلك القبيلة التركية الهاربة من المغول والتائهة فى جبال الأناضول، فلولا هجوم المغول على دولة الأتراك السلاجقة ما تأسست إمارة لتلك القبيلة التركية تابعة للأتراك السلاجقة. ومن حيث لا يدرون ـ أيضاـ فقد أسدى المغول جميلا آخر للامارة العثمانية الصغيرة، إذ أعطوها فرصة الاستقلال عن الدولة السلجوقية التركية فى الاناضول، فقد أغار المغول سنة1300 على دولة الأتراك السلاجقة فى أسيا الصغرى فأسقطوها، فأعلن عثمان إستقلاله بالمنطقة التى يحكمها.

إهتم عثمان بدعم الجيش وتنظيم الحكومة فاعتبر المؤسس الأول للدولة العثمانية. عمل عثمان على تدعيم  دولته وزيادة العنصر البشرى الكفء فيها بمصاهرة الدول أو الكيانات السياسية المجاورة،والحصول على الرقيق بكل  وسيلة من مختلف البلاد وتربيتهم وتدريبهم ليكونوا جنودا مخلصين للدولة،وتوظيف المغامرين ذوى الكفاءة من القادة ، كان منهم ميخائيل البيزنطى المرتد عن المسيحية، والذى جعله عثمان نائبا له فى ميادين الحرب.

ومضى عثمان يوسع بقعة بلاده على حساب البيزنطيين فوصل إلى البسفور، وقبيل وفاته سنة 1326 فتح ابنه أورخان مدينة بروسا فأوصى عثمان بنقل رفاته إلى بروسا فى كنيسة القصر التى حولوها إلى مسجد. مات عثمان بعد أن أرسى سياسة راسخة لدولته قام على تنفيذها السلاطين الأقوياء من ذريته تدفعهم وتساعدهم الروح الدينية الجياشة والطبيعة العسكرية الصارمة والموقع الجغرافى لإمارتهم الشابة وسط كيانات  سياسية فى دور الأضمحلال.

 

تقرير تاريخى موجز فى توسع الدولة العثمانية

1 ـ السلاطين العظام هم عشرة أولهم عثمان الأول وأخرهم السلطانة سليمان المشرع، وقد حكموا فترة حوالى 267 عاما:(1299-1566 ) وتميزوا بالتوسع الأقليمى المرحلى فى القارات الثلاث وإرساء القوةاعد والأنظمة العسكرية والأدارية والسياسية ، وكانوا مركز الثقل فى الأمبراطورية التى أقاموها. أما المجموعة الثانية فهم 26 سلطانا أولهم السلطان سليم الثانى أبن السلطان سليمان المشرع وينتهون بالسلطان محمد السادس وهو أخر سلاطين الدولة،وقد حكموا حوالى 357 سنة: ( 1566- 1920 ). وفى عهدهم توقفت حركة التوسع وانهالت الهزائم على الدولة وتدهورت أحوالها واستقلت عنها معظم أقاليمها ثم سقطت.

وسبب الأضمحلال أنهم واجهوا الزحف الأستعمارى الأوربى فى أشد مراحله بشخصياتهم الضعيفة الماجنة تاركين الأمور فى أيدى الحريم السلطانى والقواد ومراكز القوى ولم يفكروا فى تطوير أنظمة الدولة لتواكب الأوضاع الجديدة فى أوربا .ٍ

ينتهى العصر الذهبى للدولة العثمانية بوفاة السلطان سليمان المشرع سنة 1566 وفيه بلغت الأوج فى النفوذ الدولى والقوة الحربية والتوسع الأقليمى ، بينما يتميز العصر الثانى بسلاطين ضعاف أطلق على عدد كبير منهم السلاطين " التنابلة " ،لأنهم انغمسوا فى المجون فأصبحت الدولة فى يد مراكز قوى تتكون من الأنكشارية والحريم السلطانى والأغوات الخصيان وأخذت الدولة تفقد ممتلكاتها رويدا رويدا فى أوربا وأفريقيا وأسيا .

وكانت معاهدة كارلوا فيتس فى 26 يناير 1699 أول معاهدة تفرضها عليها أوربا كدولة منهزمة . وتعاقب فرض المعاهدات الجائرة عليها . واستطال أضمحلالها حوالى مائة وخمسين عاما . ويعد مؤتمر برلين الأوربى سنة 1878 هو بداية النهاية لها إذ تكتلت عليها روسيا والنمسا والمجر وبريطانيا وفرنسا والدول البلقانية الناشئة التى كانت من قبل خاضعة للعثمانيين ونجحت فى تمزيق أوصال الدولة العثمانية .

واستطاع السلطان عبدالحميد الثانى فى ظروف قاسية أن يحافظ على تماسك ما تبقى من الدولة حتى عزله الأنقلاب العسكرى سنة 1909 ونجح الأنقلابيون فى الوصول للسلطة ولكن انهزموا فى مغامرات خارجية ، فسقطت الدولة العثمانية فى أعقاب الحرب العالمية الأولى بعقد هدنة مدروس 30 أكتوبر 1918 ومعاهدة سيفر 10 أغسطس1920 وأصبحت مجرد تركيا . 

2 ـ تشغل الدولة العثمانية حيزا كبيرا فى تاريخ العالم الإسلامى وتاريخ العالم الأوربى المسيحى. امتدت فتوحاتها إلى آسيا وأوربا وأفريقيا وغدت دولة أسيوية أفريقية أوربية.

أبان قوتها كان جيشها أكثر الجيوش الأوربية تعدادا وأحسنها تدريبا وأعظمها تسليحا وأكملها تنظيما. عبرت جيوشها البحر من الأناضول إلى أوربا عام 1356 على عهد السلطان أورخان ثانى السلاطين العثمانيين، ومضت فى زحفها تكتسح أقاليم أوربية عديدة، فاستولت على بلاد اليونان بما فيها شبه جزيرة المورة ، وبلغاريا ، والصرب والمجر ، وترنسلفانيا والبوسنة والهرسك والبانيا والجبل الأسود، واستمرت فى زحفها لتصل مشارف فيينا عاصمة النمسا فى أواسط أوربا، فكانت الدولة العثمانية هى أول دولة مسلمة فى التاريخ الأوربى تصل بجيوشها الجرارة إلى قلب أوربا. ثم حلّ بالدولة العثمانية أعراض الضعف والشيخوخة فى وقت إزدادت فيه أوربا قوة فأطلقوا عليها(رجل أوربا المريض)الذى  تسابقت  الدول الأوربية على موته واقتسام تركته. ولولا رغبة إنجلترة فى الابقاءعلى ( الرجل المريض ) لتنفرد بتركته ما بقيت الدولة العثمانية حية الى الربع الأول من القرن الماضى.

 

الدولة العثمانية المحمدية و( المحمديون ) فى لمحة عامة

 

  صراع الدولة العثمانية والدولة الشيعية الايرانية الصفوية ، وكان يحكم الأخير الشاه إسماعيل الصفوى ( 1501 ـ 1524 )

 

إسماعيل الصفوى هو المؤسس الحقيقى للدولة الصفوية واتخذ المذهب الشيعى مذهبا رسميا للدولة وعمل على نشره فى العراق ونجح فى ذلك إلى حد بعيد . ثم حاول نشر هذا المذهب فى الأناضول وهى الموطن الأصلى للدولة العثمانية .

ولقى المذهب الشيعى استجابة واسعة من رعايا الدولة وبخاصة فى شرقى الأناضول واشتهر هؤلاء الشيعة بإسم قزلباش أى أصحاب الرؤوس الحمراء . فهب السلطان العثمانى سليم الأول – ( 2151 – 1520) لإستئصال الخطر الشيعى الزاحف عليه وانتصر على الشاه إسماعيل فى موقعة جالديران فى أغسطس 1514 ودخل فى العام التالى تبريز العاصمة  وهرب الشاه إلى جوف بلاده . واستولى سليم على كثير من بلاد أرمينيا الغربية وما بين

النهرين وتبليس وديار بكر وجميع الأراضى الجنوبية حتى الرقة والموصل وهبط بالدولة الصفوية إلى دولة من الدرجة الثانية ، ثم عاد سليم إلى أستطنبول ليعد العدة لصراع حربى ضد أقاليم الشرق العربى الأسلامى .

فتح الشام ومصر

وفى هذا الصراع ضد الأقاليم العربية الأسلامية فى الشرق ظهرت الدولة العثمانية لأول مرة فى تاريخها كدولة من دول البحر الأحمر . ولى سليم مجهه شطر بلاد الشام، وكان جزءا من دولة المماليك الشراكسة وانتصر فى معركة مرج دابق أغسطس / آب 1516  على السلطان الغورى وتساقطت فى يديه تباعا المدن الرئيسية : حلب ، وحماه ، وحمص ، ودمشق وانساب جنوبا ودخل فلسطين ودخل مصر حيت انتصر على السلطان طومان باى أخر سلاطين دولة المماليك الشراكسة فى معركة الريدانية فى يناير كانون الثانى 1517 ودخل سليم القاهرة فى اليوم السادس والعشرين من ذات الشهر.وهزم طومان باى آخر سلطان مملوكى وشنقه، وانهى الدولة المملوكية سنة921 هجرية / 1517 م.    

دخول الحجاز وبعض مناطق اليمن تحت السيادة العثمانية .

وفى أثناء إقامة السلطان سليم فى مصر استقبل وفدا من أعيان الحجاز بعث به الشريف بركات أمير مكة المكرمة . وكان على رأس هذا الوفد أبنه ( أبو نمي ) وحمل معه رساله من والده أعلن فيها  الشريف بركات قبوله دخول الحجاز تحت السيادة العثمانية وأرسل مع أبنه مفاتيح الكعبة الشريف وبعض مخلفات رسول الله صلوات الله عليه، فدخل الحجاز دخولا تلقائيا وسلميا تحت السيادة العثمانية .

ونهج هذا النهج الأمراء الذين كانوا يحتلون وقت ذاك بعض مناطق فى اليمن . على هذا النحو دخلت فى خلال سنة واحدة 1516 – 1517 أربع أقاليم إسلامية عربية هامة هى : الشام ثم مصر ثم الحجاز ثم أجزاء من اليمن تحت الحكم العثمانى ، وزاد عدد رعاياها المسلمين العرب زيادة كبيرة للغاية .

وأصبح البحر الأحمر بحيرة عثمانية تقريبا فمصر والحجاز  واليمن تطل على أجزاء طويل من ساحلية الشرقى والغربى، وتدعم الطابع الأسلامى العثمانى للبحر الأحمر حين فتح السلطان سليمان المشرع ( 1520 -1566 ) الذى خلف والده سليم الأول كلا من مصر وسواكن عام 1557 منتهزا فرصة اندلاع حربا أهلية فى الحبشة.  وقد نجحت الدولة فى تخفيف الضغط البرتغالى على التجار العرب والأمارات العربية الساحلية ، كما أوقفت الأعتداء البرتغالى إلى حد جعله يعجز عن أن يمد مواقعه إلى داخل البحر الأحمر وإلى الولايات العربية الداخلية ، وحطمت المحاولات التى بذلها البرتغاليون لتكوين جبهة مسيحية منهم ومن الأحباش ضد القوى العربية والأسلامية فى البحر الأحمر وشرقى أفريقيه .

وقد فتح السلطان سليمان المشرع إقليم العراق عام 1534 وامتد النفوذ العثمانى إلى الأحساء المطل على الخليج العربى ثم إلى بعض الأمارات ومشيخات الخليج ، كما استولى على عدن ومن ناحية أخرى أنشئت ثلاث ولايات عثمانية فى شمال أفريقيه : هى الجزائر ثم طرابلس ثم تونس ، وبذلك امتد الوجود العثمانى إلى الحوض الغربى للبحر المتوسط .

وعلى هذا النحو اتسع الوجود العثمانى من الجزائر غربا إلى الخليج العربى شرقا ومن حلب شمالا إلى خليج عدن وبحر العرب جنوبا ، وزاد عدد الرعايا العرب فى الدولة زيادة كبيرة فأصبحت ذات صبغة عربية قوية بعد أن كانت ذات طابع أناضولى أوربى ، كما أنها غدت تضمن ــ فضلا عن قلب الأسلام مكة المكرمة والمدينة المنورة ــ العواصم والأمصار الأسلامية الكبرى مثل دمشق عاصمة الدولة الأموية وبغداد عاصمة الدولة العباسية التى كانت مركز إشعاع حضارى للعام والقاهرة التى كانت عاصمة الدولة الأيوبية والفاطمية ودولتى المماليك حيث قام بها الأزهر والقيروان فى تونس والكوفة والبصرة ، وكان يطلق عليها المصران.

 الطبيعة السياسية للحكم العثمانى:

 

لم تهتم الدولة العثمانية بالشئون الداخلية للولايات التابعة لها فى مجالات الزراعة والتجارة والمواصلات والطرق والقنوات والموانىء،ولم تهتم بالتعليم العام أو بالصحة العامة أو بالمرافق العامة، ولم تواكب التطور  الذى أخذت به الدول الأوربية.

 مارست سلطانها فى نطاق ضيق للغاية لم يتجاوز المحافظة على الأمن الداخلى وجمع الضرائب بطريقة غير مباشرة عن طريق الألتزام فى الريف ، وتنظيم الطوائف فى المدن وتنظيم القضاء على أساس المذهب الحنفى، وكان القضاء يشمل القضايا الجنائية والمدنية والأحوال الشخصية .

هذا النطاق الضيق جعل سلطان الدولة العثمانية محدودا على رعاياها فكان سطحيا بعيدا عن التغلغل فى حياة الجماهير، ولم تفرض الدولة على الأقاليم التى فتحتها تعديلات جوهرية إلا ما كان يتعارض منها مع سياسدة الدولة، فيما عدا ذلك تركت رعاياها يمارسون حياتهم وفق الأسلوب الذى يألفونه محافظين على لغاتهم وثقافاتهم وعاداتهم وأديانهم ، بل تركت لبعض العناصر الأصلية نصيبا فى حكم البلاد مع وضع ضمانات تكفل لها الحفاظ على السيادة والسيطرة  والحصول على الجزية المقررة .

ولذا ظل الوالى العثمانى فى مصر ينحصر اهتمامه فى جمع الضرائب وتحصيل الجزية تاركا مقاليد الأمور فى أيدى المماليك الذين استمروا فى الحكم تحت مظلة الدولة العثمانية وباسمها. وتحيّن الأمير المملوكى (على بك الكبير )الفرصة فاستقل عن الدولة العثمانية ردحا من الزمن، ثم عادت مصر الى التبيعية العثمانية عن طريق أمير مملوكى آخر هو محمد بك أبو الدهب الذى كان مملوكا سابقا لعلى بك الكبير. وإذ أبقى العثمانيون على المماليك ـ حكاما تحت سيطرتهم الاسمية ـ فالمنتظر أن تظل بقية النواحى الاجتماعية والاقتصادية والحياة الدينية على حالها، فالدولة العثمانية فى نهاية الأمر تنتمى الى قبائل الترك التى لا تحمل خلفية حضارية تمكنها من إحداث تغيير حضارى أو فكرى، بل إنها إكتسبت حضارتها من رعاياها ومن المنطقة التى أقامت فيها دولتها.

ولذلك اعتنقت ـــ  تحت اسم الاسلام ـــ الدين الأرضى السائد فى الأناضول ، وهو دين التصوف السنى. ولم يكن لها علم بالاسلام الحقيقى الذى كان عليه خاتم النبيين عليهم السلام . بل إنها توسعت وأصبحت إمبراطورية بالجهاد السُّنى الذى يعنى الغزو والاحتلال والسلب والنهب ودفع المقهورين الجزية ـ لا فارق بين ( المحمديين السنيين أو الشيعة أو المسيحيين الأوربيين ). وكل هذا بدأه خلفاء قريش من أبى بكر وعمر ، وهو مناقض لشريعة الاسلام .

 

 ملامح دين التصوف السنى فى الدولة العثمانية

1 ـ الملامح السنية:

كان للمفتى أو" شيخ الأسلام " مركز مرموق فى الدولة العثمانية، فهو المشرف على الهيئات القضائية والدينية وهو الذى يصدر الفتاوى للسلطان فيما يخص شن الحرب أو عقد المعاهدات. وكان أستخدام شعار الجهاد مما يعزز دور الهيئة الدينية فى إعداد الجند للمعارك

وحرصت الدولة على تطبيق الشريعة السلفية طبقا للمذهب الحنفى مع المحافظة على التقاليد. ولم تكن تسمح بأحد بإنتهاك حرمة شهر رمضان بالأكل والشرب علنا طوال شهر الصيام، وكانت تشرف أشرافا فعليا على تنظيم الحج إلى الحجاز، وهذا مع أن سياستها ألا تهتم بالشئون الداخلية للولايات إلا أن الحج جعلته من أولويات أهتماماتها فعملت على تيسيره بحفر الآبار وحراستها وتشييد الفنادق وأقامة المخافر، وكانت تتحرك كل سنة أربع قوافل حج رئيسية من كافة أنحاء الدولة فى مواعيد محددة وبنظام رتيب وفى حماية عسكرية  يقودها قادم يسمى سردار الحج ويرأس كل قافلة كل قافلة " أمير الحج" .

2 ـ الملامح الصوفية

من مظاهره أن الدولة العثمانية تركت مشايخ الطرق الصوفية يمارسون سلطات واسعة على الموردين والأتباع .وانتشرت هذه الطرق الصوفية انتشارا واسعا حتى أن حياة الجماهية كانت أكثر خضوعا لتأثير مشارخ الطرق الصوفية أكثر من رجال الدولة الرسميين . ومدت يد العون إلى بعض الطرق الصوفية وكان من أهم الطرق الصوفية النقشبندية والمولوية و البكتاشية و الرفاعية والأحمدية والخلوتية والكزرونية .

إستخدم محمد الفاتح إسطورة تاريخية عن مشاركة الصحابى أبى أيوب فى حصار الأمويين للقسطنطينية عام 670 لشحن جيشه لفتح القسطنطينية . كان شائعا أن أبا أيوب الأنصارى قد استشهد فى هذه الحملة الخاسرة ، وأنه أوصى بدفن جثته فى أقرب موقع من القسطنطية . أشاع محمد الفاتح العثور على قبر الصحابى أبى أيوب الأنصارى على مقربة من أسوار القسطنطية . وأقام محمد الفاتح مسجدا على هذا القبر المزعوم ، وإستخدم تقديس هذا القبر فى شحن وحشد جيشه عقب فتح القسطنطينية ، ونجح فى هذا فأحدث تغييرا حاسما فى تاريخ العالم وقتها . وبعد فتح القسطنطينية ــ بإسم الاسلام ــ أطلق محمد الفاتح أسم اسطنبول عليها ، وقام بتحويل كنيستها المشهورة آيا صوفيا الى مسجد . فتحول السلطان محمد ( الى محمد  الفاتح ) وواجه أوربا فى عُقر دارها بالجهاد السُّنّى ردا على الحملات الصليبية والدول الصليبية التى قضى عليها المماليك من قبل . وكان ظهور الجهاد العثمانى السُّنّى مواجهة للجهاد الصليبى الى تزعمته اسبانيا والبرتغال بعد إجتثاث المسلمين من ( الأندلس ).

 نعود الى محمد الفاتح ومسجده الذى أقامه على القبر المزعوم للصحابى أبى أيوب الأنصارى ، ونقول إن السلاطين العثمانيين حافظوا على تقليد جديد إبتدعوه لتدعيم سلطتهم الدينية ( السنية الصوفية ) فاعتادوا أقامة حفل دينى رسمى فى ضريح أبى أيوب عقب إعتلاء كل سلطان جديد للعرش ، فكان السلطان يذهب فى موكب رسمى حافل إلى هذا المسجد ، ثم يدخل إلى ضريح أبى أيوب الأنصارى ويتسلم من يد شيخ الطريقة المولية " بيوق جلبى " سيف السلطان العثمانى الأول الجد الكبير للسلاطين العثمانيين .

 

سياسة الدولة العثمانية فى التعامل مع الشيعة داخلها

فى حربها ضد الدولة الصفوية إستأصلت الشيعة من الأناضول ومنعت زحف المذهب الشيعى على الشرق العربى الأسيوى وعلى مصر.

 أما الوضع فى العراق فقد كانت له أوضاع خاصة . كان موطن العتبات أو المزارات المقدسة ويضم آثارا للشيعة . وكان الشاه إسماعيل الصوفى قد نجح كما ذكرنا فى نشر المذهب الشيعى فى ربوع العراق وأصبح الشيعة يشكلون قطاعا رئيسيا من قطاعات السكان ولهم تقاليدهم وعاداتهم ولا يرضون عنها بديلا إذ أصبحت جزءا من عقيدتهم الدينية . ولما فتح السلطان سليمان المشرع العراق ودخل بغداد فى ديسمبر – كانون الأول – عام 1534 ـــ حيث أقام أربعة أشهر  ـــ عمل خلالها على إرضاء مشاعر أهل السنة وأهل الشيعة معا ، ورصد أوقافا ينفق إيرادها على أهل المذهبين معا ، وخرج من بغداد فى رحلة تعرف فيها على قبر الأمام أبو حنيفة وأعاد بناء ضريحه إرضاءا لأهل السُّنّة ، وكان الشيعة من أهل فارس قد دنسوا رفاته وهدموا القبة والضريح . وفى نفس الوقت حرص السلطان سليمان على زيارة  العتبات المقدسة للشيعة خصوصا فى كربلاء . وكانت المنطقة التى تحيط  بكربلاء تغمرها المياه وتصل للعتبات المقدسة ، فأمر ببناء سور يسمى السليمانية حول المدينة لوقايتها من مياه الفيضان ، ثم وسع من ترعة الحسينية كى تنساب فيها المياه على مدار السنة فزرعت المنطقة حول العتبات المقدسة بالبساتين وحقول القمح . وزار السلطان القبر المقدس للأمام (على ) فى النجف.  وهكذا انتهج السلطان سليمان المشرع تجاه أهل السنة والشيعة فى العراق سياسة تنم عن الحكمة والحصافة وسعة الأفق.

 ملاحظة:

 ( المعلومات التاريخية مستقاة من كتاب : الدولة العثمانية دولة اسلامية مفترى عليها للأستاذ الدكتور عبد العزيز الشناوى :1 / 33 ، 34 ،35 ، 39 ، 40 ، 345 ،  28،29 ،

33 ، 34 ،35 ، 39 ، 40 ، 54 – 59 ، 64 ، 186 – 190، 345 ) أما التحليل فهو لنا .

 

 

أثر الصراع الشيعى السنى فى إسقاط الدولة المملوكية وإحتلال العثمانيين مكانتها  

 

ظهور اسماعيل الصفوى الصوفى الشيعى خطرا يهدد العثمانيين والمماليك

 

مدخل:

1 ـ تسيد التصوف السنى الحياة الدينية لأغلب المسلمين فى العصر العثمانى، ومع ذلك فقد بقى التشيع دينا أرضيا ثابتا يستعصى على الاستئصال،لتجذره فى الثقافة الفارسية القومية بالذات، كما ظهر فى كتاب الملطى ( التنبيه والرد ) عن انتشار التشيع فى أنحاء فارس وأقاليمها ، ومنها انتشرت سيطرته على قلوب طوائف شتى من العرب المسلمين. ثم انتشر التصوف وتسيد وتوسط معسكرى السنة والتشيع .

2 ــ وكما احتمى دين السنة بالتصوف وأنتج نسخة معدلة باسم التصوف السنى فقد فعل التشيع نفس الشىء وأنتج التصوف الشيعى. ولأن التصوف منذ البداية ابن للتشيع، فقد اختلف الأمر بين التصوف السنى والتصوف الشيعى. ففى التصوف السنى كانت الغلبة لعنصر التصوف أكثر منها للسنة التى تركزت معالمها فى دين التصوف السنى فى مجرد اداء الصلاة والصوم والحج والزكاة، ونظام القضاء، بينما تمت للتصوف السيطرة الكاملة على العقائد والثقافة والفكر والحياة الاجتماعبة باسرها. إختلف الأمر فى التصوف الشيعى الذى كان فيه التصوف مجرد قشرة رقيقة بينما كان الجوهر شيعيا محضا. واستعمل الشيعة هذه القشرة الصوفية للتسلل للأخرين وخداعهم من خلال التصوف الذى كان القاسم الأعظم المشترك فى الحياة الدينية للمسلمين منذ العصر المملوكى السابق على العصر العثمانى.

3 ــ إعتنق العثمانيون الاسلام شكليا ورسميا ولكن الذى اعتنقوه فعليا كان الدين الأرضى السائد فى الأناضول وقتها وهو التصوف السنى.ومالبث أن أصبح العثمانيون عنصرا فى الصراع بين دينى التصوف السنى والتصوف الشيعى. فالتصوف الشيعى هو الذى أنشأ الخصم الشرس للدولة العثمانية ، وهو الدولة الصفوية الفارسية الشيعية بقيادة اسماعيل شاه الصفوى أو الصوفى حسبما كانت تذكره المراجع التاريخية المعاصرة له.

4 ــ الصراع بين الدولتين الصفوية والعثمانية كان صراعا بين دينين أرضيين هما التصوف السنى والتشيع الصوفى.وقد تغلب التصوف السنى ممثلا فى الدولة العثمانية، لكن ذلك لم يقض على التشيع، وإن كان قد هزم الدولة الصفوية الشيعية وسارع بها الى نهايتها.

الصراع بين الدولتين الصفوية الشيعية والعثمانية السنية هو الذى أدى الى تدمير الدولة المملوكية السنية وحلول الدولة العثمانية محلها فى زعامة العالم الاسلامى.

الدولة العثمانية السنية الشابة هى التى أسقطت الدولة المملوكية السنية العجوز بعد هزيمة السلطان الغورى ومقتله أمام العثمانيين فى مرج دابق سنة 922هـ .

5 ــ والغريب أن الدولتين العثمانية والمملوكية  كانتا تدافعان معا عن دين التصوف السنى ضد عدو مشترك هو اسماعيل الصفوى حاكم ايران المتشيع الذى يسعى لنشر التشيع فى البلاد المجاورة طمعا فى مد نفوذه السياسى .وقد أدى خطره على العثمانيين والمماليك الى تحالفهما ضده. قابل الشاه اسماعيل هذا التحالف السنى ضده بالوقيعة بين عدويه السنيين ـ المملوكى والعثمانى ـ فاجتذب المملوكى إلى صفه وجعله يحارب العثمانيين على غير استعداد تام منه لحربهم وعلى غير نية حقيقية من العثمانيين لتدمير الدولة المملوكية .

وانتهى الأمر بانهيار الدولة المملوكية بسرعة لا يتخيلها المرء حين يتذكر أن قدوم الغورى لحلب كان لمجرد حجة الإصلاح بين السلطانين المتنازعين ( الصفوى والعثمانى ). وهذا الأنهيار المفاجىء سببه ضعف الدولة المملوكية من الداخل بعد إنهيار إقتصادها بسبب كشف البرتغاليين لطريق رأس الرجاء الصالح وتحول تجارة الهند اليه ، وضياع هذا المورد الضخم من خزانة الدولة المملوكية التى كانت تسيطر على الطريق المعروف والمألوف بين الهند وأوربا.

6 ــ والعلاقات بين اسماعيل الصفوى والغورى وسليم العثمانى متشابكة غامضة، ولتيسيرها على القارىءنقسمها الى مرحلتين :ظهور الصفوى خطرا يهدد العثمانيين والمماليك على السواء، ثم تحالف الغورى مع الصفوى وأثره فى انهيار الدولة المملوكية.

المرحلةالأولى :ـ ظهور اسماعيل الصفوى الصوفى الشيعى كخطر يهدد العثمانيين والمماليك . 

1 ــ فى سنة 905 ظهر ببلاد العجم شاه اسماعيل بن الشيخ حيدر الذى ينتمى الى الشيخ صدر الدين موسى بن صفى الدين اسحاق الأردبيلى . وكان صفى الدين اسحاق الأردبيلى شيخا صوفيا فى مدينة أردبيل .وخلفه بعده ولده صدر الدين موسى الذى حاز على احترام السلاطين واعتقادهم فيه كولى صوفى صاحب كرامات ، وكان ممن اعتقد فيه السلطان تيمورلنك.

2 ــ فيما بعد تحول حفيده حيدر الى التشيع ، يجمع بين التصوف والتشيع لصالح التشيع ، فكثر اتباعه ومريدوه بأردبيل فخافه السلطان جهان شاه صاحب اذربيجان فأخرجهم من أردبيل، فتوجه الشيخ حيدر إلى ديار بكر وصاهره حسن الطويل . ولما استولى صهره حسن الطويل على اذربيجان عاد الشيخ حيدرإلى أردبيل وتزايد اتباعه، فلما توفى حسن الطويل تزوج الشيخ حيدر من ابنة السلطان يعقوب فولدت له شاه اسماعيل سنة 892 هجرية.

3 ــ وشارك الشيخ حيدر فى النزاعات السياسية المسلحة باتباعه الذين عرفوا بالقزلباش، أى الرأس الأحمر.  وقتل الشيخ حيدر وأسر ولده اسماعيل وهو طفل ، فعرف اسماعيل الكفاح والهزائم منذ صغره، وتابع أباه فى طريقه معتمدا على دعوته الشيعية حتى تزايد امره، يقول عنه المؤرخون المعاصرون له (واستولى على ساير ملوك العجم و خراسان واذربيجان وتبريز وبغداد وعراق العجم وقهر ملوكهم وقتل عساكرهم بحيث قتل ما يزيد على الف الف، وكان عسكره يسجدون له )( أخبار القرن العاشر مخطوط 41 ، تاريخ القدس مخطوط 67 )  .

 خطر اسماعيل الصوفى على الدولة العثمانية  

1 ــ اتجهت الفتوحات العثمانية قبل سليم الأول إلى البلقان وأوربا ثم تحولت فى عهد سليم نحو الشرق لأول مرة حيث انشغل سليم  بمواجهة الخطر الشيعى الزاحف من الشرق إلى قلب  الأملاك العثمانية ممثلا فى اسماعيل الصفوى الذى كان بإمكانه أن يترك الغرب وشأنه ويواجه غزاة السهوب الأوراسية ، خاصة وأن العثمانيين لم تكن لهم مطامع فى الدول (الاسلامية) المجاورة، خصوصا الدولة المملوكية. والدولة المملوكية فى مصر والشام اكتفت بموقف الدفاع من الهجوم الايرانى دون إحتكاك بالدولة العثمانية أو حتى الصفوية .

2 ــ ولكن مطامع الشاه اسماعيل الصفوى كانت واسعة المدى، شجعها تراخى السلطان العثمانى بايزيد الثانى( والد سليم ) ، فأخذ الصفوى ينشر دينه الشيعى فى عمق الاناضول العثمانية وحول قونية ، أملا فى استخدام دين التشيع سياسيا فى إنتزاع تلك المناطق العثمانية وضمها الى الصفويين.

3 ــ وتمخضت جهوده عن ثورة مسلحة قادها داعى الدعاة الشيعى ( الشاه قول ) ضد العثمانيين والذى استطاع هزيمة الصدر الأعظم العثمانى وقتله . بل أن الصلة توثقت بين الثائر الشيعى ( الشاه قول ) وبين الأمير قرقد ابن السلطان بايزيد الثانى الطامع فى عرش ابيه، واعتنق التشيع الأميران شاهنشاه ومراد ابنا الأمير احمد اخى السلطان سليم ، وهذا معناه أن التهديد الشيعى الصفوى وصل الى داخل الأسرة العثمانية الحاكمة وفى صميم وطنها  على السواء.

4 ــ لذا كان الخطر الشيعى هو الدافع لثورة الأمير سليم على أبيه السلطان بايزيد واخوته، وساعدته الانكشارية، فقد وجدت فيه رجلها المنشود الذى يصمد امام الشاه اسماعيل الصفوى ، فأجبروا بايزيد الثانى على التنازل عن السلطنة لابنه سليم.

5 ــ ولم يكن سليم بعيدا عن الخطر الشيعى حيث ابعده أبوه إلى طربيزون واليا عليها ، فراقب تحركات اسماعيل الصفوى العسكرية ودسائسه وتصرفات أخيه قرقد بن السلطان بايزيد ، وقد غضب  سليم من تساهل والده تجاه ثورة (الشاه قول ) الشيعية.

6 ــ بتولى سليم العرش العثمانى وطد مركزه الداخلى وتفرغ لمواجهة الشاه، فذبح الشيعة فى الأناضول ونقل باقيهم إلى اوربا العثمانية ليضمن مؤخرته فى أى صراع مع الشاه.

خطر اسماعيل الصوفى على الدولة المملوكية 

1 ـ كان صراع  الدولتين الصفوية الشيعية والعثمانية السنية يستلزم تدخل الدولة المملوكية ليس فقط لأنها المتزعمة للعالم الاسلامى وقتها، ولكن لأن حدودها تتاخم الدولتين المتنازعتين  ولا بد ان تتأثر بالنزاع المسلح القائم على حدودها. وكان تدخلها يعنى إنحيازها لدولة ضد أخرى، وترجيح كفتها .

2 ـ وكان متوقعا إنضمام السلطان الغورى المملوكى إلى العثمانيين السنيين ضد الشاه الشيعى الذى بدأ بالعدوان على الممتلكات المملوكية فى الشرق ، لولا أن الشاه اسماعيل الصفوى استطاع استقطاب الغورى إليه بما أوتى الشيعة من مقدرة على الدسائس وبما لهم من اعوان داخل الدولة المملوكية، وبذلك تمكن الشاه الشيعى أن يتحاشى اتحاد القوتين السنيتين على حربه واحتل مقعد المتفرج يشهد دولة سنية فتية ــ لا مطامع لها ــ ( الدولة العثمانية )تجهز على رفيقة لها هرمة ( الدولة المملوكية ) أتى بها الشاه الماكر من مأمنها لتلقى مصرعها عند حدوده دون أن يمد لها يد العون.

3 ــ ونعود إلى ترتيب الحوادث التاريخية وفق ما ذكره المؤرخ ابن إياس بالسنين لتوضيح هذه النتيجة غير المتوقعة والتى غيّرت التاريخ الاقليمى والعالمى، مع ملاحظة أن الشاه اسماعيل الصفوى كان لقبه فى المراجع التاريخية وقتها ( اسماعيل الصوفى ) لأنه واجه التصوف السنى بالتصوف الشيعى مستغلا الجذور الصوفية لدى أسلافه.

فى تاريخه ( بدائع الزهور ) يقول ابن أياس المؤرخ المعاصر لهذه الفترة :ـ

فى سنة 908 ( جاءت الأخبار من حلب أن خارجيا ـ(ـ يعنى ثائرا معاديا من خارج الدولة المملوكية )  تحرك على البلاد  ( يعنى هاجم الحدود المملوكية ) يقال له شاه اسماعيل الصوفى ، فلما جاءت الأخبار إلى القاهرة اضطربت الأحوال وجمع السلطان ( قونصوه الغورى )الأمراء وضربوا مشورة ( أى تشاوروا ) فى أمر الصوفى وعين السلطان تجريدة ( أى حملة عسكرية) ).

وفى سنة 913 ( وفيه جاءت الأخبار من عند نائب حلب ( أى والى حلب المملوكى حيث كانت تابعة للدولة المملوكية وقتها ) بأن اسماعيل شاه الصوفى قد تحرك على ( أى هاجم ) بلاد السلطان، ( يعنى الدولة المملوكية ، حيث كان السلطان هو المالك للدولة وفق ثقافة العصور الوسطى ) ووصل أوائل عسكره إلى مالطية، وحكوا عنه أمورا شنيعة فى أفعاله، فلما بلغ السلطان ذلك تنكد إلى الغاية، وجمع الامراء، وضربوا شورة فى أمر الصوفى ، فأشار الأمراء بأن يرسل إليه تجريده، فنادى للعسكر بالعرض، ( أى أمر بحشد القوة العسكرية فى القلعة مركز الحكم المملوكى فى القاهرة ) فطلع العسكر قاطبة إلى القلعة ، فعرضهم ، وكان قاصد ابن عثمان حاضرا ،( القاصد يعنى المبعوث أو السفير ، والمعنى أنه قد حضر العرض العسكرى مبعوث السلطان العثمانى) .. ثم جاءت الأخبار بأن عساكر الصوفى عدت ( أى إجتازت وعبرت )من الفرات ووصلت إلى أطراف بلاد السلطان، وأن على دولات ( ممثل السلطة المملوكية هناك ) جمع التركمان وتحارب معهم واستعد العسكر بعد اهمال .. وانفق السلطان على العسكر(أى امر بصرف مستحقاتهم المالية) بعد إن كان قد أخر النفقة، ثم عزم السلطان على قاصد بن عثمان فى قاعة البحرة (أى أقام حفل تكريم للمبعوث العثمانى فى قاعة الاحتفالات بالقلعة )، فأظهر فى ذلك اليوم غاية العظمة برسم جماعة القاصد، وعند انصرافه اخلع عليه ( أى أكرمه بأن أعطاه زيا للتشريف والتكريم وفق المتبع وقتها ). ويذكر ابن ياس انه قد حضر من لدن العثمانيين مبعوث فوق العادة فأكرمه الغورى، ويقول ابن اياس ( ثم حضر قاصد من عند على دولات واخبر بأنه كسر ( أى هزم )عسكر اسماعيل الصوفى، وارسل عدة من رءوس القتلى واسيرا من الأمراء على رأسه طرطور أحمر، ( وكان أتباع الشاه اسماعيل الصوفى يعرفون بالقزلباش،أى أصحاب الرأس الأحمر ) فعلق السلطان الرؤوس على باب زويلة، وابطل أمر التجريدة التى عينها إلى الصوفى .. واخلع على قاصد ابن عثمان خلعة سنية ). ثم بعث الشاه اسماعيل الصفوى برسل للغورى يعلمون الغورى ان ما وقع من عسكره حدث بدون علمه، فأكرم الغورى القاصد وجماعته ( وكانوا فى غاية الغلاسة ) على حد قول ابن اياس.

تحليل ما سبق :

1 ــ ابن اياس لم يكن ينقل وجهة النظر الرسمية للأحداث وانما كان يعبر عن رؤية الشارع المصرى فى تلك الفترة، وظهر هذا من خلال تعبيره عن الاستفزازات التى قام بها اسماعيل الصفوى على الحدود المملوكية والتى ترد اخبارها من الوالى المملوكى فى حلب .

2 ــ وحين سجل ابن اياس أخبار الصفوى وصفه ( خارجيا تحرك على البلاد يقال له شاه اسماعيل الصوفى ) وكان ذلك سنة 908 من الهجرة، فكانت المعرفة بالصفوى ضئيلة لم تسمح لابن اباس إلا بالاقتضاب فى القول، ولكن لم يمنعه الاقتضاب من ذكر اضطراب الاحوال فى القاهرة بسبب هجوم على الحدود البعيدة مما يدل على اهمية الأمر رغم قلة المعلومات لدى الرأى العام الذى يمثله ابن اياس ، وأدى ذلك الاضطراب إلى عقد مجلس سلطانى للتشاور أسفر عن ارسال حملة تأديب. اما حديث ابن اياس عن الصفوى سنة 913 ففيه تفصيل كثير لتحركاته وموقف الغورى ومواجهة امراء الحدود المملوكية للهجوم الصفوى الشيعى .ولكن الجديد الذى أورده ابن اياس هو حضور مبعوث عثمانى لدى الغورى، وأكرامه لذلك (القاصد )، ثم حضور مبعوث عثمانى آخر تمتع بإكرام الغورى ،ووصفه ابن اياس بقوله ( ثم حضر من لدى العثمانيين أحد من خواص السلطان العثمانى فكرمه السلطان ) أى أن هناك مراسلات بين العثمانيين والمماليك استهدفت مواجهة الخطر الشيعى المشترك. وكانت تلك المناوشات التى قام بها اسماعيل الصفوى من قبيل جس النبض قبل دخوله فى معركة حاسمة ضد الدولتين.

سياسة الشاه اسماعيل الصفوى مع السلطان الغورى

1 ـ  والمتوقع أن تصل هذه الاتصالات بين المماليك والعثمانيين إلى تحالف مشترك بينهما لمواجهة الخطر الايرانى الشيعى المتزايد لولا أن غيّر اسماعيل الصفوى خططه تجنبا لتحالف غريميه السنيين عليه. فأوقع الغورى بين تهديد داخلى يقوم به الشيعة فى مصر ضد الدولة المملوكية السنية بالاضافة إلى تهديده الخارجى ليجبره على التحالف السرى معه ضد العثمانيين.

2 ــ ويلاحظ أن الشيعة قد قاموا بثورتهم فى الصعيد سنة 911 بإيعاز من اسماعيل الصوفى، ولكن بفشل ثورتهم بحث الصوفى عن حلفاء آخرين، أو كما يقول ابن اياس ( قبض على جماعة من عند اسماعيل الصوفى ومعهم مكاتبات منه إلى بعص ملوك الفرنج بأن يكونوا معه عون على سلطان مصر، وأنهم يأتون مصر من البحر ( أى يهاجمون مصر من البحر ) ويأتى هو من البر.. ومما يذكر أن الفرنجة قد استولوا فى هذا الشهر  على طرابلس الغرب ..وقد قبض شريف مكة على ثلاثة منهم متنكرين ...)

3 ـ وفى تلك الاثناء كان عسكر الصفوى يهاجم اطراف البيرة ـ وهى إمارة حدودية فاصلة بين المماليك والصفويين ـ فتصدى له حاكمها ازبك خان، فانتصر عليه الشاه اسماعيل الصفوى وقتله، يقول ابن اياس :( فتنكد السلطان ( الغورى ) لهذا الخبر واقام الامراء عنده الى قريب الظهر يتشاورون بسبب ذلك، وكان ازبك خان ضد الصوفى، وكان مشغولا بمحاربته عن ابن عثمان وسلطان مصر، فلما اشيع قتل ازبك خان خشى السلطان من أمر الصوفى أن يزحف على البلاد ) .

4 ــ واتبع الصفوى سياسة التهديد مع الغورى، فبعث له بمبعوث يحمل رأس ازبك خان مع ابيات من الشعر يفخر فيها بقوته ودينه الشيعى ، ورد الغورى عليه بأبيات شعرية صنعها له صفى الدين الحلبى. ومع انه أقام الاحتفالات لمبعوث الشاه اسماعيل الصفوى الا أنه منع الناس من زيارته وجعله كالمعتقل فى القلعة .

5 ــ ووجد اسماعيل الصفوى فى الاعراب اعوانا له فى مصر فثاروا علي الغورى، أو كما يقول ابن اياس ( تحالفت سبع طوائف من العربان بأن يكونوا يدا واحدة على العصيان )،هذا فى الوقت الذى وصلت فيه عساكر الصفوى إلى البيرة وانضمام جماعة من عساكرها إلى الصفوى.

6 ــ وخاف الغورى تحركات الأشراف ـ أى مدعى الانتساب للنبى محمد ـ  وكانوا ميالين للدين الشيعى فاخرج عنهم (شيئا من الجهات الموقوفة عليهم )أى حاول مصادرة الأموال الموقوفة عليهم ( وعقد مجلسا بالقضاة الاربعة للبحث فيمن اتهم بادعاء النسب الشريف )أى حقق فى معرفة أنسابهم المتصلة بالنبى محمد عليه السلام ليعرف من إندس فيهم ، مخافة ان يكون بينهم من ادعى النسب وهو جاسوس للشاه الصفوى.

7 ــ ثم وصل مبعوث من اسماعيل الصفوى بعبارات (يابسه ) على حد قول ابن اياس، فرد الغورى عليه بمثلها. وقد رد الصفوى بالمثل فسب مبعوث الغورى وشتمه، أو بتعبير ابن إياس ( افحش الصوفى فى حق تمرباى قاصد الغورى ). ومع ذلك وربما بدافع الخوف والملق فإن الغورى قد أوكب المواكب لمقابلة مبعوث الصفوى، وكان غليظا شديد البأس. ثم وصل مبعوث السلطان بايزيد العثمانى، ويقول ابن اياس ( واشيع أنه تنازل عن الحكم لولده سليم، وجاء الخبر بوفاته، وبكى عليه السلطان) .

8 ـ وعلى عكس ما خطط له الشاه اسماعيل الصفوى ( الصوفى ) فقد أدت جهوده إلى تقارب بين العثمانيين والغورى ظهرت فى اكرام القاصد العثمانى كما اتضح من كلام ابن اياس ، بل أن الغورى توسط للصلح بين الامير قرقد الذى جاء لمصر مغاضبا لأبيه السلطان بايزيد وبالغ فى اكرامه واستجاب لشفاعته فى بعض الامراء ثم عاد الامير العثمانى لبلاده شاكرا.

وبعث الغورى الأموال ليشترى الاخشاب والبارود والحديد من الدولة العثمانية، فرد السلطان سليم العثمانى المال وبعث بمراكب محملة بها مجانا ، ووصل من لدنه مبعوث برسالة يمتدح فيها الغورى ويستفسر عن وصول تلك المراكب. وبعد ذلك بعام ارسل الغورى مبعوثا لشراء مهمات اخرى فاكرمه السلطان سليم الذى كان قد أرسلها فى مراكب موسوقة على حد قول ابن اياس .

9 ــ وكان فرار الامراء العثمانيين ،أبان التنازع على العرش، فرصة يتلقفها الحكام المجاورون للضغط السياسى على الدولة العثمانية، وقد آوى السلطان برسباى اميرا عثمانيا،واحتفظ به ورقة رابحة ضد عمه مراد العثمانى.واختلف الحال  فى عهد الغورى اثناء صفائه مع سليم. ولقد فر الامير سليمان إلى الغورى وفر والده احمد بك من اخيه السلطان سليم إلى الشاه اسماعيل الصوفى الصفوى . ولم ينشرح الغورى لفرار الامير سليمان اليه، وخشى من اغضاب السلطان سليم فبعث قاصدا لسليم يهنئه بالملك ( ولنسج المودة بينهم ) .

ورغم اضطراب الأحوال فى القاهرة وانتشار الطاعون فى مصر وتوعك الغورى إلا أنه بعث بالأمير أقباى الطويل مبعوثا للسلطان سليم على هيئة حسنة لم تتفق لمبعوث قبله حتى عدّ إبن إياس ذلك من النوادر. ويذكر أن الغورى حين عزم على محاربة سليم استقدم الامير العثمانى قاسم بن احمد سرا نكاية فى عمه .

 

المرحلة الثانية : تحالف الغورى المملوكى مع اسماعيل الصفوى الصوفى وأثر ذلك فى انهيار الدولة المملوكية

  فشل سياسة الصفوى مع الغورى  

1 ــ عن الشاه اسماعيل الصفوى وأتباعه ( القزلباش ) يقول السلطان العثمانى بايزيد فى رسالة للغورى ( واما قصة غلبة الفرقة الضالة القزلباشية فى البلاد الشرقية فإنها بلية عامة ظهرت فى تلك النواحى ، فدفعهم لازم، بل واجب على الأدانى والأقاصى..لأنهم أهل البدع والضلالة وأصحاب الشر والشقاوة، كلهم روافض( أى شيعة ) ..).

وقد ارسل الغورى إلى بايزيد الثانى رسالة يحث فيها على محاربة القزلباش وعرض عليه المساعدة وقال بوجوب محو ( فئة الصوفية والملاحدة القزلباش ) وأنه اصدر أوامره إلى أمراء الحدود للاستعداد بجنودهم ، كما ارسل إلى ولايات الحدود لجمع الجنود ،وأن الامير جلال الدين قانصوه سيشترك فى الحرب بجنوده مع العثمانيين ضد القزلباش.  واضح هنا وصفهم بالشيعة الروافض وبالصوفية أيضا . أى هو تصوف شيعى فارسى فى مواجهة تصوف سُنّى مملوكى عثمانى .

2 ــ واخفق الشاه اسماعيل فى سياسته فى تخويف الغورى ولم يجن منها إلا مزيد التقارب بين الغورى والعثمانيين .

الصفوى يغيّر سياسته ويستميل الغورى ضد سليم العثمانى

1 ـ ويبدو أن الشاه إسماعيل الصفوى / الصوفى قد أدرك فشل سياسته مع الغورى ، وأنها أدت الى مزيد من التقارب بين الغورى والسلطان سليم العثمانى ، وفى تحالفهما ضده خطورة محققة عليه ، خصوصا وهما ينتميان الى دين واحد ( التصوف السُنّى ) . ولا بد أنه شعر بخطورة السلطان سليم بعد والده المسالم ، وشعر باقتراب اللحظة الحاسمة للصراع بينه وبين السلطان الجديد المتحمس للقضاء على الخطر الشيعى ، وعليه فلا بد من تغيير سياسته مع الغورى ليقطع طريق التحالف بينهما ضده.

2 ـ فعل الشاه أكثر من هذا . لم يكتف بازالة الخلاف بينه وبين الغورى ، بل وعقد تحالفا معه ضد سليم العثمانى . وتم هذا التحالف بينهما فى جو من السرية التى اتقنها دعاة الشيعة.

3 ـ كان للشاه اسماعيل عملاؤه فى الدولة المملوكية التى كتنت تمتد من ليبيا غربا الى العراق شرقا ، ومن جنوب آسيا الصغرى شمالا الى شمال السودان جنوبا ، بما فى ذلك الحجاز . هذا الاتساع أتاح للشاه اسماعيل زرع خلايا شيعية تعمل له ، حيث يوجب التشيع على معتنقيه الولاء للدين الشيعى  قبل الولاء للوطن وللدولة . وقد كانت جماعات التشيع تأتى الى القاهرة بالذات تحمل راية التصوف السنى ، ويحمل أربابها لقب ( الشريف ) يزعمون الانتساب الى (آل البيت ) ، وبهذا الطريق يحظون بالولاية والنفوذ فى مصر . وكانت مصر المملوكية سوقا رائجة لهذا الإفك . وبهذا توافد لمصر جواسيس للشاه اسماعيل ، وتوصل احدهم عن طريق أعوانه إلى ان يصل الى داخل القلعة بل أن يكون نديم السلطان الغورى، إنّه ( الشريف العجمى الشنقجى ) الذى قام بدور هام فى عقد التحالف السرى بين الغورى واسماعيل الصفوى ضد العثمانيين .

4 ـ يقول ابن اياس ( حضر إلى الابواب الشريفة العجمى الشنقجى نديم السلطان الذى كان توجه بأفيال إلى نائب الشام ونائب حلب ( للاستعانة بها فى حرب العثمانيين ). وقد أبطأ مدة طويلة حتى أشاعوا موته غير مرة، ( أى أكثر من مرة ) فظهر أن السلطان كان أرسله إلى شاه اسماعيل الصوفى فى الخفية فى خبر سرّ للسلطان بينه وبين الصوفى ( اسماعيل الصفوى ) كما أشيع بين الناس ذلك .. فلما كان يوم السبت خامس عشر ربيع الآخر خرج السلطان ... قاصد نحو البلاد الشامية والحلبية ).

5 ــ ابن إياس كان يؤرخ من الشارع بعيدا عن مكائد القصور ، ولا يعرف ما يدور فى القلعة مركز الحكم المملوكى . كان يرصد ما يُشاع فى الشارع . وقد شاع بين القاهريين هذا الخبر الذى سجله ابن اياس فى تاريخه . ومنه نفهم وجود إتفاق سرى بين بين الغورى واسماعيل الصفوى عقده ذلك الجاسوس المسمى بالشريف العجمى الشنقجى ، وأنه تنفيذا لهذا الاتفاق فقد خرج الغورى بجيشه الى مرج دابق لمؤازرة الصفوى ضد سليم ، فلم يرجع الغورى ، إذ مات تحت سنابك الخيل ، وانهزم جيشه ، وسقطت دولة المماليك العتيقة. وسببها هو ذلك الجاسوس الشيعى الذى تملّك عقل الغورى وجعله يخرج من مأمنه الى مهلكه .!! 

6 ــ وفى كتابه ( الكواكب السائرة فى أخبار المائة العاشرة ) يقول المؤرخ الغزى المعاصر لهذه الفترة ( قبل معركة مرج دابق قرّب الغورى إليه أعجميا ، كان ينسج المودة فى الباطن بينه وبين  شاه اسماعيل ، حتى أخرجه من مصر لقتال سليم ، بحجة الاصلاح بينه وبين الصوفى ).أى وصلت أنباء هذا التحالف السرى بين الغورى والصفوى الى (غزّة ) وسجله المؤرخ الغزى ، ومع ذلك لا نعلم شيئا عن بنود هذا الاتفاق ، سوى أن هذا الجاسوس  السرى الصوفى الشيعى كان قوى التأثير على الغورى بحيث إستطاع أن يخرج الغورى ( الطاعن فى السّن )  من مأمنه الى مقتله . بوسائل لا نعرف عنها شيئا ..

ولكن ما أثر ذلك التحول الجديد على العلاقات العثمانية المملوكية ؟

1ـ قبل سلطنة الغورى استمرت العلاقات العثمانية المملوكية طيبة طالما لم يقع تدخل من جانب احدهما فى شئون الامارات الواقعة بينهما، والتى كان بعضها مشمولا بحماية المماليك والآخر تحت حماية العثمانيين شأن الامارات الصغيرة على حدود الدول الكبرى .ومع ما كان يحدث بين الجانبين من شقاق مبعثه التنافس إلا أنه سرعان ما  يعود الصفاء بينهما كما حدث من تنازع بين محمد الفاتح والظاهر خشقدم حول امارتى زى الغادر وفرغان ، وذلك التنازع بين قايتباى وبايزيد الثانى بسبب الأمير على دولات . ولكن الحال اختلف بظهور الشاه إسماعيل الصفوى / الصوفى الشيعى ، ظهر مناوئا للفريقين المماليك والعثمانيين معا، فتسبب فى قضاء العثمانيين على دولة المماليك العتيدة .

2 ـ  ولم تكن هناك نزاعات حدودية بين المماليك والشاه اسماعيل الصفوى على عكس الحال بين المماليك والعثمانيين . وحتى لا نظلم الغورى نقول إنه ربما أحسّ بالخطر من تحول موازين القوى الى جانب العثمانيين بعد أن إنتصر سليم العثمانى على غريمه الشاه اسماعيل الصفوى فى موقعة جالديران سنة 920 هجرية ، وخشى أن يطمع سليم العثمانى ويضم اليه بعض الامارات الخاضعة للدولة المملوكية والتى تجاور الدولة العثمانية . يؤيد هذا تحرك الغورى لنجدة الصفوى فى جالديران . يذكر ابن اياس أن الغورى قام بتحريك بعض قواته إلى حلب بالقرب من المنطقة التى دارت فيها الحرب بين سليم العثمانى واسماعيل الصفوى ( جالديران ) ، وكانت حُجّة الغورى :( حتى نرى ما يكون من أمر الصوفى وابن عثمان ) . وعرف سليم اثناء تحركه إلى جالديران بأن الصفوى طلب مساعدة الغورى ضد العثمانيين وأكد ذلك له تحرك بعض فرق الجيش المملوكى إلى حلب .  

3ـ ـ أثناء معركة جالديران لم يحدث تصادم مباشر بين القوات المملوكية والعثمانية اثناء حربها مع الصفوى، وان قام أمير مرعش التابع للمماليك باعاقة الامدات العثمانية اثناء القتال مما أثار سليم فقتل أمير مرعش وبعث برأسه إلى الغورى، فغضب الغورى وقال(  ايش ارسلى هذه الرءوس .؟!. أهى رءوس ملوك الفرنج انتصر عليهم ؟) واضطرب الأمر فى القاهرة خاصة وقد ضم سليم إليه إمارة مرعش.

4ـ ويذكر أن الغورى حزن حين علم بانتصار سليم على حليفه الصفوى فى جالديران . قال ابن اياس : ( لم يرسم السلطان بدق الكوسات (أى الطبول )، لهذا الخبر، وكذلك الأمراء اخذوا حذرهم من ابن عثمان ) . والطريف أن الغورى أرغم نائبه فى الشام على أن يصهر إليه ليضمن ولاءه فى الحرب المقبلة بينه وبين سليم.

5 ــ أى ظهرت بوادر التحالف السّرى الذى عقده الجاسوس الشيعى ( الشريف العجمى ) بين الغورى والصفوى ، فأرسل الغورى جيشا يتابع الموقف ، وقام أمير مرعش بتحركات ضد سليم مما جعل سليم يقتله ويضم إمارته الى الدولة العثمانية ، ثم يرسل برأس هذا الأمير الى الغورى ، دليلا على توتر العلاقة بينهما . وتطور هذا التوتر الى حرب .

قبل الحرب بين الغورى وسليم 

1 ــ بعد أن إنتصر سليم على الصفوى فى جالديران عزم على الاجهاز عليه نهائيا فتجهّز لذلك حربيا ينوى مطاردة الصفوى فى عقر داره فارس . خاف الغورى أن يقضى سليم على اسماعيل الصفوى ثم يستدير اليه لينتقم منه . فى نفس الوقت حاول الصفوى إنقاذ نفسه من حرب لا يتحملها بعد هزيمته مع العثمانيين، فعمل الصفوى على أن يضرب سليم بالغورى ريثما يعيد تنظيم قواته ليجهز على المنتصر منهما، فجعل الغورى يأتى ليصطدم بالعثمانيين المتجهين نحو فارس فكانت نهاية الغورى .

2 ــ استعد الغورى وجهز عسكره ( وحلّف امراءه ( أى جعلهم يقسمون على المصحف )على أن يكونوا يدا واحدة، واشاعوا عزم سليم على حرب مصر ). أى أنهم تجهزوا لحرب العثمانيين واشاعوا العكس أن سليم هو الذى ينوى الحرب.

3 ــ وتحرك الغورى بجيوشه نحو حلب فأحس سليم بالخطرالصفوى المملوكى ، فأرسل رسولين للغورى محاولا تحييده ، ويقول فى رسالته يعلل للغورى حربه للصفوى وشيعته:( ... إن الطائفة الباغية التى اجتمعت فى البلاد الشرقية حصلت منها أذية للعباد وتخريب للبلاد وسفك للدماء ... فلا جرم تضاعفت الاجور فى غزوهم وجهادهم ). وفى نهاية الرسالة يلتمس من الغورى ومن الصالحين ( الدعوات الصالحات لاعلاء كلمة الله وتنفيذ احكام الشريعة ).

ظروف قرار السلطان سليم بحرب الغورى

1 ــ أخبر جاسوس صوفى شيعى العثمانيين بأن القزلباش ( جيش الصفوى ) سيعاونون الغورى، مما أكد شكوك العثمانيين فى تحالف الغورى مع الصفوى .

2 ـ وأرسل الغورى لسليم يعلل مجيئه بالجنود للشام بالصلح بينه وبين الصفوى لدفع الضرر عن أهل المنطقة، ويتحدث على لسان الشاه اسماعيل قائلا عنه إنه قرر ألا يحارب العثمانيين بعد هربه الاخير منهم.  واثناء مقام سليم فى قونية اخبرته الجواسيس بقدوم الغورى فلم يغيّر السلطان سليم إتجاهه لمواجهة الغورى ، بل استمر فى طريقه ليحارب الصفوى ، ولكن وصول الغورى بنفسه على رأس جيشه الى حلب قلب الموازين.  بوصول الغورى الى حلب أدرك سليم دقة موقفه العسكرى، فجيش المماليك خلفه و قريب جدا منه، وهو الجيش الذى هزم قوات ابيه فى الماضى، فإذا إنضم الى جيش الصفوى فستكون كارثة عليه.

3 ــ وقع فى يد سليم كتاب بعثه الغورى إلى اسماعيل الصوفى يتضمن ( أننى معك عليه وممسك قطرى حذرا من أن يفر إليه .. ) وافاد الجواسيس أن الغورى طلب المساعدة من الصفوى فى حرب سليم..

4 ـ ودارت مراسلات بينهما . وفيها استنفد سليم كل الوسائل السلمية من شرح اهدافه للغورى، حتى أنه خاطبه فى رسالة بقوله ( أنت والدى اسألك الدعاء ) ويطلب فيها اعادة الود والصداقة وأنه مستعد لاعادة امارة مرعش.إلا أن الغورى اصر على حجته، وان هدفه الصلح بين الصفوى وسليم وطلب من سليم فى نفس الوقت جميع الاراضى التى كانت سابقا لأمير مرعش ليحكمها ابن  سليم الذى الذى فر إليه، واشترط على سليم ان يمتنع عن محاربة الصفوى . ولأن البعثة العثمانية التى ارسلها سليم وخولها عقد الصلح تعرف أن سليم لن يوافق على الشرط الاخير ( أن يحكم ابن سليم الخائن لأبيه إمارة مرعش ) فقد ترددت فى موقفها أمام الغورى،فما كان من الغورى إلا أن اعتقلهم، معلنا لسليم العداء. ثم أرسل من طرفه بعثة عسكرية إلى سليم بحجة عقد الصلح، وفهم سليم أن غرضه هو التهديد فأمر بقتلهم ، لولا توسط وزيره يونس باشا.

5 ــ وقد اعلن سليم فى 30 جمادى الآخر 922  أن المماليك إنما خرجوا متجهين نحوه ، فقرر مجلس حربه فى 5 رجب 922 (أن  الحرب مع الغورى لا يمكن تفاديها وأن على السلطان( سليم ) أن يصرف نظره مؤقتا عن متابعة حربه مع فارس ) . حدث هذا بعد أن  تأكد العثمانيون من هدف الغورى من المجئ بنفسه وجنوده.  

6 ــ تلك هى الظروف التى اكتنفت قرار الحرب فى المجلس العثمانى الذى أعلن بعده سليم الحرب على الغورى وبعث يقول له:( ولما كانت همتنا العالية وعزيمتنا القوية منصرفة إلى الديار الشرقية (أى مملكة الصفويين الشيعية فى فارس) لإحياء الشريعة الغراء ( أى التصوف السنى ) اتضحت لنا بعض تصرفاتك التى لا تليق والتى قصدت بها تقوية ذلك الملحد المفسد ذى العادات السيئة الذى لا يدين بدين ، فقصدت اليك ذاتنا الهيمايونية لأنك أسوأ منه .!). أى انه حتى حين أعلن سليم الحرب على الغورى فإن اسماعيل الصفوى استحوذ على ذهنه ورسالته.

 ولكن هل كان سليم يطمع فى الاستيلاء على الشام ومصر ؟

1 ــ إن إستقراء الحوادث التاريخية ينفى ذلك، فليست لسليم اطماع حتى فى ممتلكات غريمه اسماعيل الصفوى الذى بدأ بالاعتداء على سليم فى عقر داره، والذى كان ظهوره قلبا فى استراتيجية الدولة العثمانية السنية المتجهة فى فتوحها نحو أوربا المسيحية.

2 ــ وقد صرح سليم فى رسالته  للغورى فى محرم 922 بأن غرضه من تأديب القزلباش ( كان لمجرد اظهار النواميس الآلهية والشرائع النبوية .. ولم يخطر ببالنا الشريف حقيقة طمع فى المملكة أو استيلاء على الديار واكتفينا بتفريق شملهم وكسر أنوفهم ... ويعلم الله ـ وكفى به شهيدا ـ أنه لم يخطر على البال قط طمع فى أحد من سلاطين المسلمين أو فى مملكته أو رغبة فى الحاق الضرر به، لم يحدث ذلك لأن الشرع الشريف ينهى عنه ) وإذا كان هذا هو الحال مع الصفوى فكيف يطمع سليم فى حين سابق ـ فى الدولة المملوكية ؟

3 ــ لقد تساقطت أمام سليم بلاد الشام التابعة للغورى بعد مقتل الغورى وهزيمة جيشه، وزين له عملاؤه ـ ومنهم بعض المماليك الذين إنضموا اليه ـ أن يستولى علي الشام .وبعث سليم يستميل طومان باى يطلب طاعته ، وكان طومان باى هو الذى خلف الغورى فى السلطنة المملوكية فى مصر . وكرر سليم هذه الدعوة لطومان بعد هزيمة طومان وفراره للصعيد.

وقد رضى طومان بأن يحكم مصر باسم العثمانيين ولكن قتل بعض المماليك رسل العثمانيين ففشلت الوساطة.

4 ــ والواقع أن سليم كان متخوفا من توغله فى الشام ومصر لأن ذلك لم يكن فى تخطيطه سلفا، وحين أصيب ببعض الخسائر صاح فى  خاير بك ـ  الأمير المملوكى الخائن الذى إنضم اليه ضد سيده الغورى : ( أنت اغررتنى وطمعتنى فى أخذ هذا الأقليم فأنظر كيف وحين تصنع وتدبر نفسك كيف تتصرف وإلا فهى براسك ). وحين أسر طومان باى قال له سليم : ( والله ما كان قصدى أذيتك ونويت الرجوع من حلب، ولو أطعتنى من الأول وجعلت السكة ( أى العملة النقدية ) والخطبة( أى خطبة صلاة الجمعة ) باسمى ما جيت لك و لا دست أرضك ) .أى لو أعلن رسميا دخوله فى طاعة سليم ما حاربه سليم ولا اقتحم مصر.

 

تآمر اسماعيل الصفوى على السلطان سليم العثمانى بعد وفاة الغورى    

1 ــ ولا بد أن الصفوى قد فوجىء بالإنهيار السريع للدولة المملوكية غنيمة سهلة أمام خصمه اللدود. وهذا الأتساع الجديد للدولة العثمانية ـ علاوة على ما فيه من مكاسب لسليم ـ فقد سد الطريق امام اسماعيل الصفوى للتوسع غربا، ولم يعد أمام الصفوى إلا مواصلة ما برع فيه من دسائس، اعتمادا على أعوانه من الشيعة فى سوريا ومصر، ولم ينقطع عن نشاطه حتى مات  بعد عمر قصير لم يتجاوز ثمانية وثلاثين عاما سنة 930 .

2 ـ ولقد أرسل الصفوى رسالة إلى سليم بعد عودته من القاهرة إلى دمشق يقول له فيها : ( ملكت كثيرا من البلاد،استوليت على مصر خاصة وأصبحت خادم الحرميين الشريفين، والآن أرضك أرض الأسكندر.لقد زال ما كان بيننا ولن يعود مرة أخرى.عد إلى مملكتك وأعود أنا إلى مملكتى. لنصُن دماء المسلمين سويا . اننى سأحقق رغبتك ومُنيتك أيا كانت ). ولم يطمئن سليم إلى هذه الرسالة المعسولة ورفض عقد الصلح مع الشاه اسماعيل، وأرسل الصدر الأعظم بيرى محمد باشا على رأس ألفى جندى إلى ديار بكر لمراقبة تحركات الشاه .

3 ــ هذا ، بينما واصل اسماعيل الصفوى تآمره على العثمانيين فى الشام اعتمادا على ما فيها من شيعة دار بعضهم فى أسواق دمشق يندبون الحسين بعد سقوط الدولة المملوكية .

4 ــ وراهن اسماعيل الصفوى على أطماع الأمراء المحليين فى الشام .

وبدأ بابن حنش الأمير العربى الشيعى المقيم فى صيدا، وفى تاريخ ابن طولون رائحة علاقات خفية بين ابن حنش والشاه اسماعيل الصفوى ، وثار ابن حنش على الحكم العثمانى الجديد وانضم لثورته أمير شيعى آخر هو ابن حرفوش فى سهل البقاع وابن فخر الدين المعنى الدرزى. واستفحل أمر الثورة بعد مغادرة سليم دمشق إلى حلب، وانتهت الثورة بمقتل ابن حنش وابن حرفوش وهزيمتهما على يد جان بردى الغزالى وكان سليم لايزال فى حلب.

ولم ييأس اسماعيل الصفوى فجرب حظه مع الأمير جان بردى الغزالى الذى عينه سليم نائب الشام ، فثار جان بردى الغزالى على أسياده الجدد العثمانيين وفشل أيضا. 

5 ــ وامتد نشاط الصفوى إلى مصر بعد وقوعها تحت سيطرة سليم .

أثناء قتال سليم مع اسماعيل فى تبريز تسلل الشيخ الصوفى ظهير الدين الأردبيلى ووصل الى أن يكون من حاشية السلطان  سليم. وكان ذلك الشيخ من كبار دعاة الشيعة السريين التابعين لإسماعيل الصفوى،وقد خدع السلطان سليم بتصوفه السُّنّى فأخذه سليم معه إلى عاصمة الدولة العثمانية ، وعيّن له كل يوم ثمانين درهما. واستغل الأردبيلى وضعه الجديد لصالح سيده اسماعيل الصفوى فاستمال أحمد باشا مملوك سليم ووالى مصر وجعله يعتنق التشيع ، ويثور على الدولة العثمانية، وانتهى الأمر بمقتله بعد فشل ثورته.

6 ــ وهكذا انتصرت الدولة العثمانية على الدولة الصفوية ، وانتصر مع الدولة العثمانية دينها الأرضى ( التصوف السنى) بينما ضاعت فرصة التشيع فى الانتشار متخفيا بالتصوف.

7 ــ بل أتيح للتصوف أن يتحكم فى العصر العثمانى على حساب العناصر السنية التى تقلص دورها فى تأدية الفرائض شكليا فى مساجد تمتلىء بأضرحة الأولياء الصوفية وتستخدمها لعبادتهم أصلا ، وتحمل أسماءهم. هى صلاة ولكن للأولياء المقدسين باسم التصوف .

( المعلومات التاريخية عن الصراع بين الغورى وسليم والصفوى مستقاة من مصادر تاريخية كانت معاصرة للأحداث وقتها، وبعضها لا يزال مخطوطا والبعض الآخر تم نشره ، وهى كالآتى:

مخطوطات فى دار الكتب المصرية :

 اخبار القرن العاشر. مخطوط 41 ،

تاريخ سليم والغورى . مخطوط 13 ، 14 رقم 376 ، تاريخ تيمور ،

تاريخ المقدسى . مخطوط 67 ، 68 رقم 2026

تاريخ مرعى الحنبلى . مخطوط 133 :134 ،

البكرى: ولاة مصر. مخطوط 22 رقم 2407 تاريخ تيمور

عيون الأخبار. مخطوط 2/ 533

تاريخ القدس.  مخطوط 67

مصادر أصيلة منشورة :

تاريخ ابن اياس 4/ 39 ، 118 . 4/ 39 ، 118 ـ 118 : 123 ـ118 : 123ـ4/ 191 ، 205 ـ4/ 191 ، 205 ـ4/   219 : 221 ، 57 ، 260 ، 265 ، 271 ـ 4/ 152 :167 ، 186 : 187 ـ4/ 196 ، 285 ـ4/ 196 ، 285 ـ4 / 289 ، 324 ـ 5 / 35 ، 38 ـ5/22 ـ

4/ 462 : 463 ـ 4/ 398 . 399 ، 402 : 404 ـ4 / 471 : 475 ، 483 .

 تاريخ ابن حجر :انباء الغمر 3/ 499: 500

تاريخ ابن طولون : 2/ 78 : 79 ، 74 : 75 ـ، 2 /23 ، 2/ 78 : 79 ، 74 : 75

تاريخ الغزى ( الكواكب السائرة ) 1/ 297 ،216 ، 159، 216 ، 159 ،

 تاريخ ابن زنبل الرمال: واقعة الغورى وسليم  ط 62 70، 133 : 136 )

لمحة تاريخية عن نشأة وتطورأديان المحمديين الأرضية : ج1 : من الخلفاء الراشدين الى العثمانيين
هذا الكتاب :
تمت كتابته الأولية عام 2006 ، وتأخر نشره ، وكان بذرة لآبحاث متخصصة تم نشرها فيما بعد مثل ( وعظ السلاطين ) و ( المسكوت عنه من تاريخ الخلفاء الراشدين ) و ( الفتنة الكبرى الثانية ) و ( مذبحة كربلاء ) و ( الحنبلية أم الوهابية وتدمير العراق فى العصر العباسى الثانى ) . بالإضافة الى كتاب لم يكتمل عن مسلسل الدم فى عصر الخلفاء وتقسيم العالم الى معسكرين . هذا الكتاب يقدم لمحة عن الأرضية التاريخية التى نبعت فيها الأديان الأرضية المحمدية من سنة وتشيع وتصوف .ونقسمه الى جزئين : الأول عن عصر الخلفاء من الراشدين الى العثمانيين . والآخر عن نشأة وإنتشار الدين الوهابى الحنبلى السنى الذى ينشر التدمير فى العالم اليوم حاملا إسم
more