رقم ( 6 ) : فيه خمسة فصول
الباب الرابع : مكر قريش والفتنة الكبرى

المسكوت عنه من تاريخ الخلفاء الراشدين

  الباب الرابع : مكر قريش والفتنة الكبرى

الفصل الأول  : انتهاك الأشهر الحّرم فى خلافة عثمان : ( أولا : البلاد المفتوحة أسوأ حالاً في عهد عثمان .  ثانيا : مؤامرة إستخلاف عثمان بدلا من ( على ). ثالثا : كان مستحيلا أن تنشب ثورة ضد عمر للأسباب التالية . رابعا : حتمية الثورة على عثمان . خامسا : تآمر قريش على عثمان . )

مقالات متعلقة :

الفصل الثانى   : الانتقام الالهى من عثمان  : ( أولا : تقرير موجز عن احداث الثورة على عثمان . ثانيا : الروايات فى قتل عثمان  ودفنه . أخيرا . )

الفصل الثالث  ( خلافة على والانتقام الالهى فى موقعة الجمل )   ( مقدمة  :هذه الفتنة الكبرى التى لازلنا نعيش فى ظلامها . أولا : خلافة ( على ) فى سطور من ( الطبقات الكبرى ) لابن سعد  . ثانيا : تحليل معركة الجمل كلعنة الاهية .  أخيرا . )

 الفصل الرابع  إنتهاك الأشهر الحرم فى معركة صفين فى خلافة (على )  :  

الفصل الخامس  : (على : خليفة فاشل ، قهره عصره )  : ( مقدمة  :  تقييم (على  بن أبى طالب ). أولا : بين معاوية ( العلمانى ) و( على ) الذى يخلط السياسة بالدين . ثانيا : بين عبقرية ( على ) الجنسية وعبقرية معاوية السياسية .   ثالثا : نموذج للمقارنة السياسية بين ( على ) ومعاوية . رابعا : من مظاهر الفشل السياسى لعلى .   أخيرا . ) :

 

 

 الباب الرابع : مكر قريش والفتنة الكبرى

الفصل الأول  : انتهاك الأشهر الحّرم فى خلافة عثمان

أولا : البلاد المفتوحة أسوأ حالاً في عهد عثمان

1 ـ ونبدأ بالإشارة إلى حال الغلابة الذين أكل العرب اموالهم واسترقوا نساءهم وأولادهم .أهل البلاد المفتوحة .ونسأل هل ساءت أحوالهم أم تحسنت في عهد عثمان ، والإجابة على السؤال تعطي سبب مقتل عثمان ، فالله تعالى لا يظلم الناس شيئاً ولكن الناس أنفسهم يظلمون.

2ــ لقد استمرت الفتوحات في خلافة عثمان: ففي سنة 24هـ فتح العرب الرى ، سنة 26هـ فتحوا سابور ، سنة 27هـ أغاروا على قبرص وفتحوا أرجان وداربجرد ، وفتحوا شمال أفريقيا وأغاروا على الأندلس ، سنة 28هـ فتحوا قبرص وغنموا أموالا هائلة وسبوا آلافا من السبايا فبكى أبو الدرداء وقال " سلط الله عليهم السبي لأنهم ضيعوا أمر الله" ، سنة 29هـ فتحوا أصطخر في الشرق ، سنة 30هـ فتحوا جنديا سبور ونيسابور وطوس وسرخس ومرو وبيهق في أواسط آسيا ، وكثرت الأموال حتى كان عثمان يأمر للفرد الواحد بمائة ألف بدرة مال في كل بدرة أربعة آلاف أوقية ذهب ، سنة 31هـ الانتصار على الروم في معركة ذات الصواري البحرية في البحر المتوسط ، وفتح أرمينية ، وسنة 32هـ استكمال فتح مرو وفتح الطالقان وطخارستان في الشرق ،والإغارة على القسطنطينية ، وسنة 33هـ الإغارة على الحبشة وغزو النوبة ، سنة34هـ ، سنة35هـ التذمر ثم حصار عثمان ثم مقتله.ومن العرض السريع لأهم الأحداث في خلافة عثمان يظهر أن الفتوحات استمرت حتى قبل مقتله بعامين.أى بعد توقف الغزو بعامين فقط جاء الانتقام الالهى من عثمان بقتله فى الشهر الحرام .

3 ـ وقد استمر السلب والسبي أثناء وبعد المعارك ، بالإضافة إلى الجزية والخراج بعد توطيد الحكم واستقراره ، وكان دفع المهزومين الجزية يعد دليلاً على إسلامهم ، كما كان رفضهم دفع الجزية دليلاً على كفرهم ، نفهم هذا من قول الطبري عن سعيد بن العاص أنه : ( صالح أهل جرجان وكان يجبون أحياناً مائة ألف وأحياناً مائتي ألف وأحياناً ثلاثمائة ألف" أي كانوا يدفعون هذا المقدار جزية ثم يقول الطبري " ثم امتنعوا وكفروا فلم يعطوا خراجاً حتى اتاهم يزيد بن المهلب ) ، أي أنهم حين امتنعوا عن دفع الأموال صاروا كفاراً. أي ارتبط اسلام أولئك الناس الذين لم يدخلوا الإسلام بدفعهم الأموال للعرب ، فإذا امتنعوا صاروا كفاراً مستحقين للقتال والغزو والتأديب ، وهذا ما كان يحدث في إعادة الغزو لإجبارهم على دفع الأموال ، وهذه الأموال التي تضخمت لدى العرب بالظلم هي التي سببت اختلافهم ، وكانت السبب المباشر في قتل عثمان ثم الفتنة الكبرى.

4 ـ وهنا لا نجد اختلافا بين موقف عثمان وعمر فيما يخص ظلم البلاد المفتوحة وسلب أموالها وسبي أهلها ، بل ربما نجد ظلمًا أكبر في عهد عثمان مبعثه التساهل مع الولاة والحـُمـَّى والشراهة  في جمع المال بأي طريق ، ونعطي على ذلك أمثلة من مصر نسوقها مما ذكره المقريزي المعروف بتعصبه ضد الأقباط ، يقول نقلا عن ابن الحكم : ( إن عمر كتب لعمرو بن العاص بأن تختم في رقاب أهل الذمة بالرصاص ، وجزّ نواصيهم )، وذلك مع فرض الجزية على الرءوس وكانت 40 درهما أو دينارين، ثم جزية عينية ، ونقل المقريزي رسائل لعمر يستحث فيها عمرو بن العاص على زيادة الخراج والجزية ، ويعتذر له عمرو بأن ذلك يستلزم إصلاحات وتعميراً ورفقاً بالناس وكان ما يجمعه عمرو من جباية مصر 12مليون دينار .. هذا عن عمر.  ثم عزل عثمان عَـمْـربن العاص  وولى مكانه عبد الله بن سعد الذي جبى بالعسف والظلم الزائد خراجاً من مصر قدره 14مليون دينار ، فأعجب ذلك عثمان فقال لعمرو: " لقد درَّت اللقحة (أي الناقة) بأكثر من درها الأول " ، أي درت مصر ـ البقرة الحلوب ـ لهم بخراج أكثر في ولاية ابن سعد ، فقال له عمرو: "أضررتم بولدها" أي أجعتم وأرهقتم الناس. أى أن عثمان استنزف أموال مصر بأكثر مما استنزفه عمر في خلافته. ولنا أن نتخيل قسوة ابن سعد هذا في جمع الأموال ، حين نتذكر أنّه من أسباب ثورة العرب في مصر عليه وعلى عثمان أنه قتل رجلا عربياً اعترض عليه ، قتله ضربا بالسوط ، فكان الأعراب في مصر هم أقوى فرقة في الثورة على عثمان ، فإذا كان عبد الله بن سعد يفعل هذا في عربي مسلم من جيش الفتح فكيف به في تعامله مع المصريين الغلابة؟. إلى هنا ينتهي دور الغلابة في موضوع عثمان ، ويتبقى دور أموالهم المسلوبة وكيف فعلت بعثمان وبالعرب ، وهنا حكمة المولى القدير حين يتحول المال المسلوب إلى سيف انتقام يتقاتل بسببه الظالمون.وهذا يستلزم تحليلا سريعا .

 ثانيا : مؤامرة إستخلاف عثمان بدلا من ( على ) :

1 ـ المتفق عليه بين المؤرخين أن عمر بعد أن طعنه أبولؤلؤة الفارسى المجوسى عيّن كبار الصحابة ليختاروا من بينهم خليفة( على ، عثمان ، الزيبر ، طلحة ، سعد ، عبد الرحمن بن عوف )، وجعل معهم ابنه عبد الله ليكون له حق التصويت دون حق الترشيح . وأمهلهم مدة لهذا . ولأن كل واحد من الستة كان يطمع فيها لنفسه ، فاقترح عبد الرحمن بن عوف أن يلى الخلافة مؤقتا على ان يقوم بالتشاور وإختيار خليفة ويعلنه وينتهى بهذا دور عبد الرحمن . ووافقوا على رأيه ، وبدأ عبد الرحمن بن عوف يستشير كل واحد من رفاقه الخمسة ، فيمن يراه خليفة بدلا منه، وانقسمت الآراء بين (على) و(عثمان) . وواصل عبد الرحمن بن عوف مشاوارته مع أهل المدينة فكانت الآراء بين ( على ) و ( عثمان ) . وكان لابد لعبد الرحمن بن عوف ان يعلن واحدا منهما خليفة فى مؤتمر عام فى المسجد ، فاستدعى عليا فى البداية وطلب منه أن يعلن التزامه بسيرة عمر وأبى بكر ، فقال مايعنى انه سيبذل جهده فى السير على طريقهما ، ولم تعجبه كلمة ( على )، فاستدعى عثمان فاستجاب بلا تحفّظ . وبمقتضى سلطته فى الاختيار أعلن عبد الرحمن بن عوف إختيار عثمان ، وبويع خليفة . هذا هو ( السيناريو) الذى ظهر للناس ، والذى قام فيه عبد الرحمن بن عوف بدور البطولة .ونراها مؤامرة حيكت ضد ( على ).

2 ـ  عبد الرحمن بن عوف كان شريكا لعمر ولعثمان فى التآمر على قتل أبى بكر وفى استخلاف عمر بعده . لذا كان لا بد لحماية نفسه من ان يختار عثمان بدلا من ( على ) . إن النفوذ القرشى تركز فى بنى هاشم ويمثلهم ( على ) وبنى أمية ويمثلهم عثمان، وبقية رءوس الصحابة من قبائل قرشية أقل شأنا . وهناك الخشية من أن الخلافة لو وصلت لبنى هاشم فلن تخرج منهم،وبالتالى تضيع طموحات الآخرين، وهذا عكس عثمان الأموى ، فليس بوسع عثمان أن يجعل الخلافة فى بنى أمية .

3 ـ ولقد تطلعوا الى خليفة سهل ليّن الجانب ، ولم يكن ( على ) هو الشخص المناسب . لقد تشوقوا الى عهد جديد يتمتعون فيه بالثروة والنفوذ فى ظل خليفة هيّن ليّن بعد أن أمسك عليهم عمر ، ورأوا أن ( عليا ) سيكون إمتدادا لعمر. وقد ملّ الناس شدّة عمر وحزمه وصرامته ودرّته ، وقد منع كبار الصحابة من الانسياح فى البلاد المفتوحة وألزمهم بالبقاء الى جانبه فى المدينة ،يروى الطبرى: (قال الشعبي : لم يمت عمر رضي الله عنه حتى ملته قريش  ) ، وعثمان هو الذى فتح لهم باب الثراء وجعلهم مراكز قوى فى خلافته . يقول الطبرى: ( فلما ولي عثمان لم يأخذهم بالذي كان يأخذهم به عمر ، فانساحوا في البلاد ، فلما رأوها ورأوا الدنيا ورآهم الناس انقطع اليهم من لم يكن له طول ولا مزية في الإسلام ) ، ( فلما ولي عثمان خلّى عنهم فاضطربوا في البلاد وانقطع إليهم الناس فكان أحب إليهم من عمر .) ( لم تمض سنة من إمارة عثمان حتى اتخذ رجال من قريش أموالا في الأمصار ، وانقطع إليهم الناس ، وثبتوا سبع سنين ، كل قوم يحبون أن يلي صاحبهم . ) . وفعلا حققوا ثروات لم يحلموا بها فى خلافة عثمان . وكأن أولئك الخمسة ( عبد الرحمن بن عوف ، طلحة ، الزبير ، سعد ) أكثر من إستفادوا فى خلافة عثمان بالاضافة الى عثمان نفسه .

4 ـ ونعيد التذكير بثرواتهم:( عثمان )مع شدة كرمه وكثرة عطاياه كان له يوم مقتله ثلاثون الف الف درهم وخمسمائة الف درهم ومائة الف دينار ، وقد نهبها الثوار الذين قتلوه ، بالاضافة الي ما قيمته مائتا الف دينار من الاصول . (الزبير ابن العوام ): كان لديه 35 الف الف درهم ومائتا الف دينار ، ويقال 51 الف الف درهم او 52 الف الف درهم ، بالاضافة الي مساكن وعقارات وخطط في الفسطاط والاسكندرية والبصرة والكوفة ، كما ترك غابة او بستانا هائلا بيع بـ الف الف وستمائة الف . ( عبد الرحمن بن عوف ): مات سنة 32 هـ قبيل عثمان ، ترك ذهبا كانوا يقطعونه بالفئوس حتي محلت ايدي الرجال منه .(سعد ابن ابي وقاص) : ترك 250 الف درهم بالاضافة الى قصره المشهور فى العقيق . (طلحة بن عبيد الله ): كان في يده خاتم من ذهب فيه ياقوته حمراء ، وكان ايراده من ارضه في العراق الف درهم يوميا او ما بين 400 الي 500 الف درهم سنويا في رواية اخري ، وترك بعد موته الفي الف درهم ومائتي الف درهم ، و مائتي الف دينار ، وترك اصولا وعقارات بثلاثين الف الف درهم .وترك مائة بهار مليئة بالذهب في كل بهار ثلاثة قناطير او اثنين من الارادب ، أي ترك 300 اردبا ذهبا او 200 قنطار ذهبا ( طبقات ابن سعد 3/ 53 ، 76 ، 77، 157 ) ( المسعودي مروج الذهب 1/ 544 : 545).

5 ـ لذا نرى إن إستخلاف عثمان كان مؤامرة محبوكة ، وكان ( على ) ضحية لها . ونرى أصابع أبى سفيان ليست عنها ببعيدة ، تقول الرواية التى ذكرها المسعودى فى مروج الذهب ج 1 ص 551 ، ونراها صادقة : ( حين بويع عثمان دخل أبو سفيان داره ومعه بنو أمية ، فقال ابو سفيان ـ وكان قد عمى ـ أفيكم أحد غيركم ؟ قالوا : لا . قال : يا بنى أمية تلقفوها تلقف الكرة ، فو الذى يحلف به أبو سفيان ما زلت أرجوها لكم . ولتصيرنّ الى صبيانكم وراثة .).وتحقق أمل أبى سفيان فيما بعد .

ثالثا : كان مستحيلا أن تنشب ثورة ضد عمر للأسباب التالية:

1 : فقد أشغل العرب بالفتوحات والانتصارات ، فعاشوا عصرا لم يحلموا به ، وظلوا فى غزو وسلب ونهب وسبى وتوطيد للحكم طيلة عهده دون أن يلتقطوا أنفاسهم ، بل إستمر هذا فى عهد عثمان باستمرار الغزو والسلب والنهب . فلما توقف الغزو إختلفوا وقتلوا عثمان ودخلوا عصر الفتنة الكبرى ولم يخرجوا منها حتى الآن . كان جهادهم وغزوهم ليس فى سبيل الله جل وعلا بل فى سبيل المال والنساء والسلطة والثروة ، لذا سرعان ما اختلفوا بمجرد توقف الغزو ، وكان الاختلاف حول المال .

 2 : جمع عمر بين العدل والحزم فى تعامله مع العرب ، لم يميّز نفسه أو أقاربه على أحد ، وجعل العرب جميعا حزبا واحدا فى مواجهة الأمم المفتوحة التى صارت غنيمة للعرب جميعا. بالعدل ضمن ولاءهم ، وبالحزم أخاف منه الجميع ، فلم يجرؤ أحد على مواجهته،سواء من قريش أو من قبائل العرب .

3 : الى جانب العدل والحزم استعمل عمر دهاءه فى ضمان ولاء أكبر قوتين فى قريش ؛ الأمويين والهاشميين . حافظ على ولائه لأبى سفيان ، وترك معاوية يحكم الشام منفردا ، والأمويون أصحاب علاقات بقبيلة كلب،وهم القوة الحربية التى تسيطر على الشام ،وقد ضمن معاوية ولاءهم ، وتعزّز هذا بزواج معاوية من ميسون بنت بحدل الكلبى زعيم قبائل كلب ، وأنجب منها إبنه يزيد . وعزّز هذا أيضا استمرار معاوية فى الحكم مؤيدا لعمر ، يغزو باسمه الروم ويسلب وينهب دون مساءلة من عمر . ثم إستطاع عمر بدهائه أن يستميل الى جانبه بنى هاشم و( عليا )، فجعل ( عليا ) مستشارا له، وتزوج ابنة (على) وأنجب منها ، بنفس الكيفية التى جعل النبى يتزوج حفصة بنت عمر.

رابعا : حتمية الثورة على عثمان

1 ـ كان حتميا أن يثور العرب على ( عثمان ) لاختلاف شخصيته عن عمر ، ولاختلاف عهده عن عهد عمر ، إذ شهد العرب تغييرات هائلة لم تكن فى أحلامهم ، بما أصبح فى أيديهم من مستعمرات وكنوز . وهم حتى ملّوا شدة عمر ، فكيف بهم مع خليفة فاسد مثل عثمان . لقد أشار المؤرخون لأسباب الثورة على ( عثمان ) ومقتله . منها إنحيازه لأقاربه الأمويين ، وإنسياح الصحابة فى الأمصار ، وكان عمر قد حجر عليهم وأبقاهم الى جانبه فى المدينة ، فسمح لهم عثمان بالخروج فأصبحوا مراكز قوة وثروة وأطماع سياسية ، وبالتالى تركزت الثروات فى قريش خصوصا الأمويين مما أثار الأعراب وهم جند الغزو والفتح . ونرى أن الأسباب الأساس هى توقف الفتوحات ، وفساد عثمان وعناده ، وتآمر قريش عليه بما فيهم الأمويون.

2 ـ عندما ثار الأعراب والعرب فى حركة الردة وهزمتهم قريش رأت قريش أن العرب بما تعودوه من غزو وتقاتل لن يكفوا عن الثورة بالردة أو بأى حُجّة ، فكانت إستنفاذ طاقتهم وإدمانهم السلب والنهب والغزو بالفتوحات . وقتها وصلت الدولة الكسروية الى مرحلة من الترف والفساد ممّا سهل سقوطها سريعا أمام العرب.  وصمد الروم إذ تحصنت عاصمتهم بالبحر ، فاستمرت القسطنطينية رأسا بلا جسد بعد أن إقتطع العرب جسدها ومستعمراتها فى مصر والشام وشمال افريقيا . بتوقف الغزو فى عهد عثمان رجع العرب الى طبيعتهم الأولى للتقاتل فيما بينهم ، كالنار تأكل نفسها إن لم تجد ما تأكله . فكان حتما بعد توقف عثمان عن الغزو أن يثوروا على عثمان ، خصوصا وأنه كان نقيضا لعمر فى فساده ومحاباته لأهله وعناده ورفضه للاصلاح الى نهاية حياته، ومع تأكده من أنهم سيقتلونه .

خامسا : تآمر قريش على عثمان

1  ـ إلا إن المثير للإهتمام هو تآمر قريش على ( عثمان ) . وهذا ما نقرأه بين سطور الروايات التاريخية ومجريات الأحداث . ( معاوية ) فى تنفيذه لخطة أبيه أبى سفيان بعد موت أبيه ، أسهم فى تشجيع عثمان على الفساد وسلّط عليه ابن عمه مروان بن الحكم  ، ثم تركه وحيدا يواجه الثورة عليه دون أن ينجده بجيش يأتى من دمشق الى المدينة. لقد ظل عثمان محاصرا 49 يوما يستغيث ، ولا مغيث . بل اكتفى معاوية بنشر أنباء تفيد بقدوم جيش لنصرة عثمان ، فجعل الثوار يسرعون بقتل عثمان قبل ان يأتى الجيش المزعوم لنجدة عثمان !. وقتلوا عثمان ولم يكن هناك جيش آت فى الطريق ممّا مكّن الثوار من بيعة ( على ) واستمرار سيطرتهم على المدينة وهم آمنون بعد أن تأكدوا من عدم وجود جيش قادم . أى إن معاوية هو الذى حرّض على قتل ابن عمه عثمان. إنّ كل ما حرص عليه معاوية هو ان يحصل من أرملة عثمان على ( قميص عثمان ) ليستغله فى الوصول للحكم . أى كان لزاما قتل عثمان ليتخذ منه معاوية حُجة للمطالبة بثأر عثمان . فهل يطالب بثأر عثمان وعثمان حىُّ يُرزق ؟ . وبالمطالبة بثأر عثمان وصل معاوية للحكم ، ومعه جيشه من قبائل كلب الذين تعودوا السمع له والطاعة . 

2 ـ وهناك ناحية لم يتعرض لها الباحثون فى تاريخ الفتنة الكبرى ، وهو دور الحزب ( البكرى ) فى قتل عثمان . نقصد بالحزب البكرى السيدة عائشة ومحمد بن أبى بكر ، والزبير صهر أبى بكر ، وطلحة ، وهو ابن عم أبى بكر . فهو ( طلحة بن عبيد الله بن عثمان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة ) وأبو بكر هو ( أبو بكر بن أبي قحافة بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة .) . الزبير كان منحازا لعلى ، فأم الزبير هى صفية بنت عبد المطلب ، عمة النبى وعمة (على ) . ولكن الثروة التى هبطت بعد الفتوحات غيّرت النفوس ، وجعلت الزبير صاحب طموح سياسى يرى فى إبن خاله ( على ) عقبة فى وصوله للخلافة ، لذا إنحرف عن (على ) وإنضم الى حزب البكريين تبعا لزوجته أسماء بنت أبى بكر وأختها السيدة عائشة ، فالتصق بطلحة بن عبيد الله . ويجمعهم انهم ليسوا من بنى عبد مناف ( أى ليسوا من بنى هاشم وليسوا من بنى أمية وعبد شمس ).

3 ـ لم يكن لعائشة أن تنسى مقتل أبيها بالسّم ، بيد عمر ومعه عثمان . ولكن منعتهم هيبة عمر و قسوته ، وقد رأوه بعد بيعة السقيفة يكاد يحرق بيت السيدة فاطمة ، ثم يكاد يقتل سعد بن عبادة ثم يقتله فيما بعد بعد أن تولى الخلافة. إشتدت سطوة عمر بعد خلافته ، وكان من الطبيعى أن يكتم الحزب البكرى كراهيته لعمر فى حياة عمر ، ولكن هذه الكراهية إنطلقت فى خلافة عثمان تنتقم من عثمان حليف عمر . فالصبى محمد بن أبى بكر الذى مات أبوه وتركه صغيرا يتيما تربى فى حجر زوج أمه ( على بن أبى طالب ) عاش على كراهية عمر وعثمان بسبب مقتل أبيه ، لذا كان من قادة الثورة على عثمان ، وكأن أول من أقتحم بيت عثمان ، وهناك رواية تقول إنه أول من ضرب عثمان ، ورواية أخرى نفهم منها أنه كان على وشك أن يقتل عثمان لولا أن قال له عثمان كذا وكذا .وسنعرض لهذا فى المقال التالى عن مقتل عثمان .

4 ـ أما السيدة عائشة فبدون مبرر ظاهر كانت تطعن فى عثمان وتُحرّض على لقتله، ومشهور قولها :    ( أقتلوا نعثلا ، فإن نعثلا قد كفر ). و ( نعثل ) هو لقب عثمان فى الجاهلية . هذا مع أن عثمان كان كريما معها ومع ابن عمها طلحة بن عبيد الله . وعندما تحققت دعوتها وجاء الثوار يحاصرون عثمان فى منزله تركت السيدة عائشة المدينة الى مكة بحجّة أداء فريضة الحج . تقول رواية الطبرى : ( وتجهزت عائشة خارجة إلى الحج هاربة . ) وخافت عائشة على أخيها الصغير الشاب محمد بن أبى بكر ، فطلبت منه ان يأتى معها بعيدا عن المدينة ، فأبى  تقول الرواية : عنها : ( واستتبعت أخاها فأبى. ) لأنه كان من زعماء الثورة على عثمان . ولقد إحتج عليه حنظلة الكاتب فقال : ( يا محمد، تستتبعك أم المؤمنين فلا تتبعها وتدعوك ذؤبان العرب إلى ما لا يحل فتتبعهم؟  فقال: ما أنت وذاك يابن التميمية؟  فقال ياابن الخثعمية إن هذا الأمر إن صار إلى التغالب غلبتك عليه بنو عبد مناف. ) أى إن الخلافة لو زالت عن عثمان الأموى فستذهب الى (على ) الهاشمى ، أى هى فى بنى عبد مناف دون ذرية أبى بكر .

5 ـ وقبل أن تترك عائشة المدينة لحق بها مروان بن الحكم وآخرون يرجون بقاءها لتنصر عثمان فى محنته ، تقول الرواية :( وأرادت عائشة الحج وعثمانمحصور ، فأتاها مروان وزيد بن ثابت وعبد الرحمن بن عتاب بن أسيد بن أبي العاص، فقالوا: "يا أم المؤمنين لو أقمت ، فإن أمير المؤمنين على ما ترين محصور ومقامك مما يدفع اللهبه عنه .! " فقالت : " قد حلبت ظهري وعريت غرائزي ولست أقدر على المقام."  فأعادوا عليها الكلام،  فأعادت عليهم مثل ما قالت لهم . فقام مروان وهو يقول‏:‏

وحرّق قيس علي البلاد   حتى إذااستعرت أجذما

فقالت عائشة:  أيها المتمثل عليّ بالأشعار ، وددت والله أنك وصاحبك هذاالذي يعنيك أمره في رجل كل واحد منكما رحا ، وأنكما في البحر.".!.) الى هذا الحد كانت تكره عثمان والأمويين .!.وفى طريقها الى مكة قابلت ابن عباس ، وقد كان عثمان قد بعثه أماما للحج : ( فخرج ابن عباس فمر بعائشة في الصلصل ، فقالت : " يابن عباس أنشد الله فإنك قد أعطيت لسانا إزعيلا أن تخذل عن هذا الرجل وأن تشكك فيه الناس فقد بانت لهم بصائرهم وأنهجت ورفعت لهم المنار وتحلبوا من البلدان لأمر قد حمّ ،  وقد رأيت طلحة بن عبيد الله قد اتخذ على بيوت الأموال والخزائن مفاتيح فإن يل يسر بسيرة ابن عمه أبي بكر." )، أى تدعو ابن عباس بلسانه الفصيح أن يدعو لأن يخلع الناس عثمان وأن يولوا طلحة لكى يسير بسيرة ابن عمه أبى بكر ، فرد عليها ابن عباس إن الناس حينئذ سيختارون عليا وليس طلحة : ( قال قلت : يا أمه لو حدث بالرجل حدث ما فزع الناس إلا إلى صاحبنا . ) يعنى ( على بن أبى طالب ) ( فقالت : " ايها عنك .! إني لست أريد مكابرتك ولا مجادلتك . ).!. أى كانت السيدة عائشة تعمل من أجل أن يتولى ابن عمها طلحة الخلافة ، وأن يتصدر بنو تيم قومها زعامة قريش والعرب دون بنى هاشم وبنى أمية ، وهما معا يتمتعان بكراهية السيدة عائشة ، وهذا يفسر خروج طلحة والزبير على خلافة ( على ) بعد ان بايعاه ، وما حدث فى موقعة الجمل بزعامة السيدة عائشة .

6 ـ وتآمر طلحة على (عثمان ) يستحق وقفة . فقد كان عثمان كريما معه الى أقصى حد . وصار فى خلافة عثمان من أثرى الصحابة ، ومع ثرائه كان يستدين من عثمان مستغلا كرم عثمان . تقول الرواية : ( كان لعثمان على طلحة خمسون ألفا ، فخرج عثمان يوما إلى المسجد، فقال له طلحة: " قد تهيأ مالك فاقبضه ." قال : "هو لك يا أبا محمد معونة لك على مروءتك .! ) أى خاطبه فى المسجد علنا ليسحث كرم عثمان ، فأكرمه عثمان بالتنازل له عن المال . ومع هذا ففى محنة عثمان وهو محصور قد منعوه الماء فقد جاء ( على ) الى طلحة يناشده أن يساعده فى حماية عثمان ، فرفض طلحة ، تقول الرواية : ( .. قال علي لطلحة : " أنشدك الله إلا رددت الناس عن عثمان ." قال : " لا والله حتى تعطي بنو أمية الحق من أنفسها . " ). أى هو حقد شديد على بنى أميه لا يضاهيه إلا حقد عائشة .

7 ـ وهناك رواية تشير الى أن طلحة تآمر مع الثوار ، وكان يتسلل اليهم يعطيهم الأوامر وهم قائمون على حصار عثمان فى بيته : ( .. قال وحدثني عبدالله بن عياش بن أبي ربيعة قال : دخلت على عثمان رضي الله عنه فتحدثت عنده ساعة ، فقال : " يا ابن عياش تعال فأخذ بيدي فأسمعني كلام من علي باب عثمان ."، فسمعنا كلاما ، منهم من يقول ما تنتظرون به ومنهم من يقول انظروا عسى أن يراجع.  فبينا أنا وهو واقفان إذ مر طلحة بن عبيد الله ، فوقف فقال : " أين ابن عديس ؟" فقيل : " ها هو ذا :. قال فجاءه ابن عديس ،  فناجاه بشيء ثم رجع ابن عديس ، فقال لأصحابه : " لا تتركوا أحدا يدخل على هذا الرجل ولا يخرج من عنده : . قال فقال لي عثمان : " هذا ما أمر به طلحة بن عبيد الله.! " .  ثم قال عثمان : " اللهم اكفني طلحة بن عبيد الله فإنه حمل عليّ هؤلاء وألّبهم . والله إني لأرجو أن يكون منها صفرا  وأن يسفك دمه .!. إنه انتهك مني ما لا يحل له." ...  قال ثم رجع عثمان . قال ابن عياش : فأردت أن أخرج فمنعوني ، حتى مر محمد بن أبي بكر فقال : " خلوه " ، فخلوني .) 

8 ـ وشارك الزبير فى التآمر على ( عثمان ) ، وإن تظاهر بغير ذلك ، إذ أمر ابنه عبد الله أن يدافع عن  عثمان مع الحسن والحسين ، ثم انسحبوا بأمر من عثمان . ولكن الزبير سارع بالخروج من المدينة عندما عرف بأنهم على وشك إقتحام بيت عثمان وقتله . تقول الرواية : ( وكان الزبير قد خرج من المدينة فأقام على طريق مكة لئلا يشهد مقتله ، فلما أتاه الخبر بمقتل عثمان وهو بحيث هو ، قال: إنا لله وإنا إليه راجعون. رحم الله عثمان وانتصر له .) بعد مقتل عثمان تأوهوا وأظهروا الحزن على قتله توطئة للمتاجرة بدمه ، كما فعلوا بخروجهم على خلافة على . وحتى ( طلحة ) تصنّع الحزن على مقتل عثمان ، تقول الرواية : ( وأتى الخبر طلحة فقال : رحم الله عثمان وانتصر له وللإسلام . وقيل له : إن القوم نادمون . فقال : تبا لهم . وقرأ فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون . )  .

9 ، وفى الفصل التالى ( الانتقام الالهى من عثمان  ) تفصيلات عن الثورة وقتل الثوار لعثمان وسلب أمواله والعبث بزوجته ومنع دفنه فى مدافن المسلمين .

 

الباب الرابع : مكر قريش فى الفتنة الكبرى 

الفصل الثانى   : الانتقام الالهى من عثمان        

أولا : تقرير موجز عن احداث الثورة على عثمان :

1 ـ كان عم عثمان ( الحكم بن أبى العاص ) منفيا بأمر النبى فأرجعه عثمان ، وجعل ابن عمه ( مروان ابن الحكم ) كاتم سرّ الخلافة ، أو السكرتير ، وهو الذى تسلط على عثمان وتسبب فى هلاكه . ومكّن أقاربه الأمويين ، فاطلق يد معاوية فى الشام ، وعزل عمرو بن العاص عن مصر وولى بدله عبد الله بن أبى السرح . وولى عبد الله بن عامر على البصرة وكانت تتبعها خراسان .

2 ـ وكان عثمان قد عيّن أخاه من الأم (الوليد بن عقبة بن معيط )على الكوفة ثم عزله لفساده وولى مكانه ابن عمه سعيد ابن العاص .عقبة بن معيط كان أحد أشهر من يؤذى النبى فى مكة ، ولكن عثمان ولّى إبنه الوليد على الكوفة . وكان الوليد بن عقبة مدمنا للخمر، وكان يصلى بالناس وهو سكران، وحدث أن صلّى بهم الفجر أربع ركعات وهو ثمل ، فلما فرغ من صلاته قال للناس : أتريدون أن أزيدكم ؟ . فقال الشاعر الحطيئة يتندر عليه :

شهد الحطيئة يوم يلقى ربه  أن الوليد أحقّ بالعذر 

نادى وقد تمت صلاتهم  أأزيدكم ؟! ثملا وما يدرى

ليزيدهم اخرى ولو قبلوا     لقرئت بين الشفع والوتر

حبسوا عنانك فى الصلاة ولو  خلّوا عنانك لم تزل تجرى .

وكان عتّاب بن غيلان الثقفى يصلى خلفه فسمعه يقول فى سجوده : إشرب واسقنى ، فقال عتّاب : " لا زادك الله من الخير ، والله لا أعجب إلّا ممّن بعثك الينا واليا وجعلك علينا أميرا ". وكرهه أهل الكوفة ، وحصبوه لأنه خطب الجمعة وهو سكران . وإنتشرت أنباء فسقه ومجونه فهجم عليه جماعة فى منزله فوجدوه سكرانا فوق سريره ولا يعقل ، فتقايأ عليهم مما شربه من الخمر. فانتزعوا خاتمه ، وجاء بالخاتم الى المدينة أبو زينب ابن عوف الأزدى وجندب بن زهير الأزدى يطلبان من عثمان عزله ، وشهدا أنه يشرب الخمر. فرفض عثمان وأهانهما وطردهما ، فأتيا ( على بن أبى طالب) . فنصح عثمان باستقدام الوليد بن عقبة ومواجهته والتحقيق معه . وجاء الوليد فلم تكن له حُجّة ، وحكم ( على ) بضربه بالسوط حدّا ، فقال عثمان ( ليس لك أن تفعل به هذا ).

3 ـ وعزله عثمان وولى مكانه سعيد بن العاص الذى رفض ان يصعد منبر الكوفة إلا بعد غسله وقال : " إن الوليد كان نجسا رجسا " .!. ثم ظهر فساد سعيد بن العاص الأموى فاستبد بالأموال ، وأعلن أن ( السواد ) أو ريف العراق هو ( بستان قريش ) أى ملك لقريش دون قبائل العرب، فقال له الأشتر النخعى : " اتجعل ما أفاء الله علينا به بسيوفنا ورماحنا بستانا لك ولقومك ؟. وجاء الأشتر الى المدينة ومعه سبعون من زعماء يشكونه لعثمان فرفض عثمان مقابلتهم . وامتدت إقامتهم بالمدينة بلا جدوى .

4 ـ وبعث عثمان لأقاربه الولاة يستشيرهم ، فجاء اليه معاوية وابن ابى السرح وعبد الله بن عامر . فقال له معاوية : "أما أنا فراض بى جندى ". وقال ابن عامر : " ليكفك إمرؤ ما قبله أكفك ما قبلى ". وقال ابن أبى السرح : " ليس بكثير عزل عامل للعامة وتولية غيره " ، فقال سعيد بن العاص :" إنك إن فعلت هذا كان أهل الكوفة هم الذين يولّون ويعزلون " . واقترح أن يرسل المعارضين للغزو ليتخلص منهم .

5 ـ وعرف عمرو بن العاص بما دار فى الاجتماع، وكان يكره عثمان لأنّ عثمان عزله عن مصر ، فأخبر الزبير وطلحة، واتصلوا بالأشتر زعيم معارضة الكوفة وأبلغوه بما دار وبأن عثمان ينوى إرسالهم فى الغزو ليتخلص منهم . وأعطوه وأصحابه مائة الف درهم لينظم المعارضة ضد عثمان فى الكوفة .

6 ـ ورجع الأشتر ورفاقه الى الكوفة قبل رجوع الوالى سعيد بن العاص ، ووصعد الأشتر المنبر وأخبر بما حدث ، فبايعه أهل الكوفة على منع الوالى سعيد من دخول الكوفة . وكتب الأشتر الى عثمان : " إنّا والله ما منعنا عاملك الدخول لنفسد علينا عملك ،ولكن لسوء سيرته فينا .. فابعث الى عملك ما أحببت ". فولى عليهم أبا موسى الأشعرى .

7 ـ ولكن تطورت المعارضة ضد عثمان ، بسبب تحكم مروان بن عبد الملك فيه ، وإغداق عثمان عليه الأموال .، و ضرب عثمان (عبد الله بن مسعود) أصبحت قبيلة هذيل ضد عثمان. وضرب عثمان (عمّار ابن ياسر) فكرهه بنو مخزوم ،لأن عمّار كان حليفا لهم . ثم نفى عثمان (أبا ذر) الى الربذة ، وأهانه لأنه إعترض على معاوية ، فتعاطف أهل المدينة مع أبى ذر ، وتخاصم ( على ) مع عثمان بسبب ذلك .

8 ـ وتفاقم الأمر بقيام عثمان بتسيير معارضيه ، وهى عقوبة تعنى الآن ( الكعب الدائر ) فى العُرف المصرى ، أة كان يُطاف بأولئك الناس فى الشام والعراق . وأدى هذا الى أتفاق المعارضين على الثورة الجماعية على ( عثمان ) . فثار أعراب من مصر بزعامة عبد الرحمن بن عديس البلوى ، وأعراب البصرة بزعامة حكيم بن جبلة العبدى ، واعراب الكوفة بقيادة مالك بن الحارث النخعى .وتواعد أولئك الثوّار على القدوم لعثمان فى المدينة للشكوى ، فجاءوا الى مكة بزعم الحج ، ومنها قدموا المدينة. فنزلوا مكانا قريبا منها اسمه ذو الخشب . وتوسط (على ) بين الثوار وعثمان ، ووافق عثمان على أن يستجيب لمطالب الثوار بعزل الولاة المفسدين وإقرار العدل . فرفعوا الحصار ، ورجعوا الى الكوفة والبصرة والفسطاط بمصر.

9 ـ و فى طريق العودة لمصر شكّ الثوار الأعراب ( المصريون ) فى غلام على بعير ، فإذا هو ( ورش ) غلام عثمان ، ففتشوه فوجدوا معه رسالة من عثمان الى عبد الله بن أبى السرح والى مصر يأمره فيها عثمان بقتل  وقطع أيدى الثوار إذا أتوا اليه. وكانت الرسالة بخطّ مروان بن الحكم . فرجعوا الى المدينة ومعهم بقية الثوار البصريين والكوفيين ، واحتلوها ووضعوا أهل المدينة تحت إرهاب سيوفهم، وحاصروا عثمان فى داره ، وتفاوضوا معه، فأنكر أن يكون هو الذى بعث الرسالة ، فطلبوا منه تسليم مروان بن الحكم فرفض. وخلال مدة الحصار تفاوض بين عثمان والثوار ( على ) ثم محمد بن مسلمة  ثم  الأشتر النخعى ، وفى كل مرة كان عثمان يتعهد بالاصلاح وعزل الولاة المفسدين  ثم يتراجع . وكان  يماطل الثوار إنتظارا لمجىء جيش ينقذه من الشام أو مصر أو العراق . وكرهه أهل المدينة لأنه السبب فى مجىء الثوار واحتلالهم المدينة وإهانة أهلها ، ثم بسبب رفضه الاصلاح . وقد طلب منه الثوار التنازل عن الحكم فقال : " لا أنزع قميصا كسانيه الله "، فاستمر حصاره 49 يوما ثم منعوه الماء . وحاول بعضهم ومنهم على بن أبى طالب بأبنائه الدفاع عنه ، ولكن عثمان رفض ان يتدخل أحد منتظرا وصول ( جيش الانقاذ ) . وعندما علم الثوار أن جيشا قادما لانقاذ عثمان بادروا باقتحام بيت عثمان وقتله.كان هذا موجز ما ورد فى تاريخ المسعودى ( مروج الذهب ) وتاريخ الطبرى .

ثانيا : الروايات فى قتل عثمان  ودفنه

1 ـ دور محمد بن أبى بكر : ويأتى ذكر محمد بن أبى بكر فى كيفية قتل عثمان ، وتتفق الروايات كلها على أنه كان البادىء بالهجوم ، ولكن بعضها يقول بانسحابه دون أن يشارك فى قتله:( قال أبو المعتمر فحدثنا الحسن أن محمد بن أبي بكر دخل عليه فأخذ بلحيته قال فقال له ( عثمان ): قد أخذت منا مأخذا وقعدت مني مقعدا ما كان أبو بكر ليقعده أو ليأخذه .! قال فخرج وتركه. ) (.. ودخل محمد بن أبي بكر على عثمان ، فأخذ بلحيته .فقال ( عثمان ) : "أرسل لحيتي فلم يكن أبوك ليتناولها "!. فأرسلها . )

وتقول رواية أخرى فى الطبرى أنه بدأ بطعن عثمان وتبعه آخرون : ( وذكر محمد بن عمر أن عبد الرحمن بن عبدالعزيز حدثه عن عبدالرحمن بن محمد: أن محمد بن أبي بكر تسوّر على عثمان من دار عمرو بن حزم ، ومعه كنانة بن بشر بن عتاب وسودان بن حمران وعمرو بن الحمق ، فوجدوا عثمان عند امرأته نائلة ، وهو يقرأ في المصحف في سورة البقرة . فتقدمهم محمد بن أبي بكر ، فأخذ بلحية عثمان فقال : "قد أخزاك الله يا نعثل .!" فقال عثمان : "لست بنعثل ولكني عبدالله وأمير المؤمنين ." قال محمد : "ما أغنى عنك معاوية وفلان وفلان."  فقال عثمان : "يابن أخي دع عنك لحيتي فما كان أبوك ليقبض على ما قبضت عليه." فقال محمد:" لو رآك أبي تعمل هذه الأعمال أنكرها عليك ، وما أريد بك أشد من قبضي على لحيتك " قال عثمان: "أستنصر الله عليك وأستعين به." ثم طعن جبينه بمشقص..) 

2 ـ وتختلف الروايات فى تفاصيل قتل عثمان. يقول الطبرى: ( ودخل عليه رجل يقال له الموت الأسود .. فخنقه ثم خفقه..ثم خرج فقال :" والله ما رأيت شيئا قط ألين من حلقه .!.والله لقد خنقته حتى رأيت نفسه يتردد في جسده كنفس الجان ".) ، ( دخل على عثمان رجل فقال ( عثمان ) : " بيني وبينك كتاب الله " ..والمصحف بين يديه ..فهوي له بالسيف، فاتقاه بيده،  فقطعها .! ) ، (..فلما خرج محمد بن أبي بكر وعرفوا انكساره، ثار قتيرة وسودان بن حمران السكونيان والغافقي فضربه الغافقي بحديدة معه، وضرب المصحف برجله ، فاستدار المصحف فاستقر بين يديه ، وسالت عليه الدماء. ) ( ودخلوا عليه، فمنهم من يجؤه بنعل سيفه ، وآخر يلكزه ، وجاءه رجل بمشاقص معه، فوجأه في ترقوته، فسال الدم على المصحف . وهم في ذلك يهابون في قتله . وكان كبيرا وغشي عليه. ودخل آخرون فلما رأوه مغشيا عليه جروا برجله،  فصاحت نائلة وبناته . وجاء التجيبي مخترطا سيفه ليضعه في بطنه فوقته نائلة فقطع يدها ، واتكأ بالسيف عليه في صدره . )، ( ورفع كنانة بن بشر مشاقص كانت في يده فوجأ بها في أصل أذن عثمان فمضت حتى دخلت في حلقه ، ثم علاه بالسيف حتى قتله .) ( ..ضرب كنانة بن بشر جبينه ومقدم رأسه بعمود حديد فخرّ لجبينه ، فضربه سودان بن حمران المرادي بعد ما خرّ لجبينه فقتله .  وأما عمرو ابن الحمق فوثب على عثمان فجلس على صدره وبه رمق ، فطعنه تسع طعنات . قال عمرو : فأما ثلاث منهن فإني طعنتهن إياه لله ، وأما ست فإني طعنتهن إياه لما كان في صدري عليه .).

واخيرا يقول الطبرى: ( لما قتل عثمان رضي الله عنه أرادوا حز رأسه ، فوقعت عليه نائلة وأم البنين ،  فمنعنهم ، وصحن وضربن الوجوه وخرقن ثيابهن . فقال ابن عديس : اتركوه . فأخرج عثمان ولم يغسل إلى البقيع ، وأرادوا أن يصلوا عليه في موضع الجنائز فأبت الأنصار . وأقبل عمير بن ضابئ وعثمان موضوع على باب فنزا عليه، فكسر ضلعا من أضلاعه .وقال : سجنت ضابئا حتى مات في السجن . )

3 ـ انتهاك حُرمة امرأة عثمان . ( وأخذت ابنة الفرافصة حليها فوضعته في حجرها وذلك قبل أن يقتل ، قال فلما ..قُتل ناحت عليه. قال قال بعضهم : قاتلها الله ما أعظم عجيزتها .! ) أى مؤخرتها .!. ( وجاء سودان بن حمران ليضربه فانكبت عليه نائلة ابنة الفرافصة واتقت السيف بيدها فتعمدها ونفح أصابعها فأطن أصابع يدها وولت ، فغمز أوراكها وقال : إنها لكبيرة العجيزة ) .!

4 ـ سلب مال عثمان :  ( وانتهبوا ما في البيت وأخرجوا من فيه ثم أغلقوه على ثلاثة قتلى .. ودار القوم فأخذوا ما وجدوا ، حتى تناولوا ما على النساء . وأخذ رجل ملاءة نائلة  (زوجة عثمان ) والرجل يدعى كلثوم بن تجيب ، فتنحت نائلة فقال : ويح أمك من عجيزة، ما أتمك ...وتنادوا في الدار : " أدركوا بيت المال لا تسبقوا إليه."  وسمع أصحاب بيت المال أصواتهم وليس فيه إلا غرارتان فقالوا : النجاء ، فإن القوم إنما يحاولون الدنيا " ، فهربوا . وأتوا بيت المال فانتهبوه ، وماج الناس فيه . ) ( وقتل عثمان رضي الله عنه قبل غروب الشمس ونادى مناد : ما يحل دمه يحل ماله .؟ فانتهبوا كل شيء،  ثم تبادروا بيت المال ، فألقى الرجلان المفاتيح ، ونجوا وقالوا : الهرب الهرب هذا ما طلب القوم . ).

5 ـ ومنعوا دفن عثمان  فى مقابر المسلمين ، ودفنوه ليلا وسرأ فى ( الحش ) وهو مقبرة قديمة لليهود أصبحت فيما بعد موضعا  لقضاء الحاجة. و هذا هو معنى ( الحش ) يومئذ . ظل جثمان عثمان ثلاثة أيام بلا دفن ، الى أن دفنوه ليلا . وهذا يذكّرنا بدفن أبى بكر ليلا، ودور عثمان فى التآمر على حياته مع عمر . الجديد هنا أنهم فى حالة أبى بكر دفنوه بسرعة وفى حجرة عائشة بجوار النبى لاسترضاء أل أبى بكر . أما فى حالة عثمان فقد تأخروا فى دفنه خوفا ، واضطروا لدفنه فى موضع سور بستان أو حائط فى مكان إسمه ( الحش ) أى هو مكان التبول والتبرز وقضاء الحاجة كان من قبل مقبرة لليهود.

تقول الروايات : (  نبذ عثمان رضي الله عنه ثلاثة أيام لا يدفن . ثم إن حكم بن حزام القرشي ثم أحد بني أسد بن عبد العزي وجبير بن مطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف كلما عليا في دفنه ، وطلبا إليه أن يأذن لأهله في ذلك ففعل وأذن لهم علي. فلما سمع بذلك قعدوا له في الطريق بالحجارة وخرج به ناس يسير من أهله وهم يريدون به حائطا بالمدينة يقال له حش كوكب ، كانت اليهود تدفن فيه موتاهم ، فلما خرج به على الناس رجموا سريره ، وهموا بطرحه. فبلغ ذلك عليا فأرسل إليهم يعزم عليهم ليكفنّ عنه . ففعلوا . فانطلق حتى دفن رضي الله عنه في حش كوكب.  فلما ظهر معاوية بن أبي سفيان على الناس أمر بهدم ذلك الحائط حتى أفضى به إلى البقيع . فامر الناس أن يدفنوا موتاهم حول قبره حتى اتصل ذلك بمقابر المسلمين. )، ( دفن عثمان رضي الله عنه بين المغرب والعتمة ولم يشهد جنازته إلا مروان بن الحكم وثلاثة من مواليه وابنته الخامسة،  فناحت ابنته ورفعت صوتها تندبه . وأخذ الناس الحجارة ، وقالوا نعثل وكادت ترجم ، فقالوا الحائط الحائط فدفن في حائط خارجا . )، (  لبث عثمان بعد ما قتل ليلتين لا يستطيعون دفنه، ثم حمله أربعة حكيم بن حزام وجبير بن مطعم ونيار بن مكرم وأبو جهم بن حذيفة . فلما وضع ليصلى عليه جاء نفر من الأنصار يمنعونهم الصلاة عليه ، فيهم أسلم بن أوس بن بجرة الساعدي وأبو حية المازني في عدة ومنعوهم أن يدفن بالبقيع . فقال أبو جهم ادفنوه فقد صلى الله عليه وملائكته. فقالوا لا والله لا يدفن في مقابر المسلمين أبدا.  فدفنوه في حش كوكب . فلما ملكت بنو أمية أدخلوا ذلك الحش في البقيع فهو اليوم مقبرة بني أمية . ) ( حدثنا أبو بكر بن عبدالله بن أبي أويس قال حدثني عم جدي الربيع بن مالك بن أبي عامر عن أبيه قال كنت أحد حملة عثمان رضي الله عنه حين قتل حملناه على باب وإن رأسه لتقرع الباب لإسراعنا به وإن بنا من الخوف لأمرا عظيما حتى واريناه في قبره في حش كوكب . )   (  عثمان لما قتل أرسلت نائلة إلى عبدالرحمن بن عديس فقالت له إنك أمس القوم رحما وأولاهم بأن تقوم بأمري أغرب عني هؤلاء الأموات ..فشتمها وزجرها . حتى إذا كان في جوف الليل خرج مروان حتى أتى دار عثمان فأتاه زيد بن ثابت وطلحة بن عبيدالله وعلي والحسن وكعب بن مالك وعامة من ثم من صحابه فتوافى إلى موضع الجنائز صبيان ونساء ، فأخرجوا عثمان ، فصلى عليه مروان . ثم خرجوا به حتى انتهوا إلى البقيع فدفنوه فيه مما يلي حش كوكب .) .

6 ـ وعن يوم قنله يقول الطبرى : ( اختلف في ذلك ، بعد إجماع جميعهم على أنه قتل في ذي الحجة . ) كان قتله كان فى شهر ذى الحجة الحرام . لقد استمرت الفتوحات فى عهده خلال الأشهر الحرم فعاقبه رب العزة بقتله فى شهر حرام ، مثلما حدث مع رفيقه عمر.

أخيرا :  

1 ـ كان العرب فى الجاهلية يعرفون المواقيت بالسنة القمرية ، وبها كانوا يمارسون الشعائر من صلاة وحج واحترام للأشهر الحرم وفق المتوارث من ملة ابراهيم . وسُئل النبى عليه السلام عن ( الأهلّة ) أو التوقيت القمرى عسى أن يكون هناك شىء جديد يخصّه فى الاسلام ، وكالعادة ، انتظر النبى حتى نزل القرآن بالاجابة: (يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ ) (189)(البقرة). قال جل وعلا (هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ ) أى أنّ العرب وقتها كانوا يستعملون التوقيت القمرى فى حياتهم وفى تحديد أشهر الحج ، او الأشهر الحرم التى يمكن فى خلالها تأدية مناسك الحج ، وهى تبدأ بأول شهر فى السنة القمرية ( ذو الحجة ، ثم محرم ثم صفر ثم الرابع ربيع الأول ) وبعده تبدأ الأشهر غير الحرم بريبع ثانى وتنتهى السنة بذى القعدة. وفي بداية الأشهر الحرم يكون موسم إفتتاح فريضة الحج والتى يستمر بعدها الحج مدة الأشهر الأربعة . كان العرب يعلمون هذا ويتعاملون به لذا وصف رب العزة أشهر الحج الحرم بأنها اشهر معلومات : (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ )(197)البقرة).  

2 ـ بل كان اللسان العربى يسمى السنوات ( حجج )والسنة ( حجة ) بكسر الحاء، نسبة الى شهر ذى الحجة بداية السنة وبداية موسم الحج ،لأن التقويم القمرى تبدأ فيه السّنة بذى الحجة، وقد ساد فى الجزيرة العربية وخارجها استعمال كلمة ( حجة ) دليلا على العام أو السنة ، وفى قصة موسى عليه السلام قال له الرجل الصالح فى (مدين):(قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَةَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ )(27)(القصص).( ثَمَانِيَةَ حِجَجٍ ) أى ثمانية أعوام.

3 ـ ولكن الفتوحات التى انتهكت الأشهر الحرم سرعان ما بدأت إنتهاكا آخر يجعل ذا الحجة وهو بداية السنة القمرية هو آخر السنة القمرية . وكان هذا على الأرجح فى خلافة ( عمر ) الذى أجلى أهل الكتاب من الجزيرة العربية ، وجعل الهجرة بداية التأريخ للمسلمين . وفيها جعلوا المحرم بداية السنة وليس ذا الحجة .

4 ـ إشتدت كراهية الفرس لأبى بكر وعمر وعثمان لأنهم الذين أزالوا من الوجود الامبراطورية الفارسية والمجد الفارسى ، وتكونت حول تلك الكراهية دين التشيع القائم على التبرى من ابى بكر وعمر وعثمان ومعاوية والسيدة عائشة وأبى هريرة..الخ ، والتولى لعلى بن أبى طالب وبنيه . أما مصر فقد استراحت لدين التصوف السّنى الذى يقدس كبار الصحابة وعلى رأسهم الخلفاء الراشدون الأربعة ، وبدلا من مقت عمر بن الخطّاب فلا يزال المصريون يعبدون عمر بن الخطاب .!! هذا هو الفارق بين إعتزاز الفرس بلغتهم و بقوميتهم وشعوبيتهم وجعلها دينا يعتنقه ملايين غير الفرس ، وبين المصريين الذى يعبدون من إحتل بلادهم واسترق نساءهم وسلب أموالهم وطمس شخصيتهم ومحا لغتهم وأنهى ريادتهم وحقّر مجد حضارتهم .

6 ـ وبعلو الدين السلفى الوهابى الحنبلى السّنى أصبحت مصر منذ أكثر من أربعين  عاما تابعة للأسرة   السعودية التى أعادت فتح مصر بالريال ، وبه اشترت مبارك والاخوان ..ويهرف الاخوان باعادة فتح مصر ، أى بتكرار تجربة عمر بن الخطاب وعمرو بن العاص فى سلب ونهب مصر واسترقاق نسائها . وطبقا للدين السنى فولاء الاخوان والسلفيين ليس للوطن مصر بل للعقيدة الوهابية. مصر بالنسبة لهم كما كانت للصحابة أرباب الدين السنى ـ هى بقرة يمتصون لبنها ودماءها ..

7 ـ نكتفى بهذا ، ونترك بقية التفاصيل عن (عثمان ) لتأتى فى بحث قادم بعونه جل وعلا، بعنوان :(عثمان: خليفة فاسد قتله عصره ).

  

 

 

 

  

الباب الرابع : مكر قريش والفتنة الكبرى  

الفصل الثالث  ( خلافة على والانتقام الالهى فى موقعة الجمل )

 مقدمة  :هذه الفتنة الكبرى التى لازلنا نعيش فى ظلامها

1  ـنبّا بها رب العزّة مقدما بما سيحدث من قوم النبى محمد ، من تكذيب عملى بالقرآن بالفتوحات ، ثم ما سيليها من فتنة كبرى ينقسمون فيها شيعا وأحزابا وحروب أهلية يذيق فيها بعضهم بأس بعض . فى سورة مكية قال جل وعلا يخاطب خاتم المرسلين:( قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65) وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (66) لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (67) ( الأنعام). هذه الآيات الكريمة  صيحة تحذير قبل الهاوية، والهاوية هى حرب أهلية تفتح أفواهها لتلتهم مصر وغيرها . فليس هذا خطابا محددا بقريش حين كذّبت بالقرآن وجاءها التهديد من الرحمن بل هو تهديد يتخطى الزمان والمكان ، وهو إنذار لكل كذّب بآيات الله فى القرآن ، وعاند وصدّ عن سبيل الله جل وعلا. التهديد هنا بقدرة الخالق جل وعلا على أن يبعث عليهم عذابا من فوقهم أو من تحت أرجلهم ، مثل الأوبئة والتلوث والفساد فى البر والبحر بما كسبت أيديهم ، أو أن تقع بينهم الحروب وحمامات الدم ، ويذيق بعضهم بأس بعض. هذا ما جاء فى قوله جل وعلا : (قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ .). ولم يفقهها الملأ الأموى القرشى ، ولم يفقها أتباعهم وأنصارهم ممن سار على سنّتهم ، فتقول الآية التالية:(وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُل لَّسْتُ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ ). أى كذّبوا بالقرآن ـ وهو الحق ـ

2 ـ والردّ على تكذيبهم يأتى من الله جل وعلا ، وهو من جزئين :

ـ الجزءالأول هو: (قُل لَّسْتُ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ )، أى أمر الاهى لخاتم المرسلين أن يعلن لهم أنه ليس مسئولا عنهم ،وتكرر هذا كثيرا فى القرآن الكريم ،ومنه قوله جل وعلا له عليه السلام: (فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ إِلاَّ مَن تَوَلَّى وَكَفَرَ فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الأَكْبَرَ إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ)(الغاشية21: 26 ) . أى هو مجرد (مُذَكِّرٌ ) أو ( مبلّغ ) ليس عليه سوى البلاغ ،فلا إكراه فى الدين ، وليس له السيطرة على أحد ( لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ). ومرجعهم الى الله جل وعلا وحده ، وهو الذى يتولى حسابهم وعذابهم ، ومن عذابهم ما سيأتى فى الدنيا والآخرة :(إِلاَّ مَن تَوَلَّى وَكَفَرَ فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الأَكْبَرَ)، ومرجعهم الى الله جل وعلا وحده ، وهو الذى يتولى بعثهم وحسابهم (إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ ).أى ليس للنبى من الأمر شىء: ( آل عمران : 128) بل لله جل وعلا الأمر كله، لذا قال له ربه جل وعلا:(وَقُل لِّلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ وَانتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ) ( هود 121 : 123 ).

ـ الجزء الثانى من الرّد هو قوله جل وعلا مهددا مرة أخرى منن يكذّب بكلام رب العالمين :( لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ).أى يحمل لهم المستقبل أنباء سيئة آتية لا محالة جزاء تكذيبهم. لم يكن كل قوم النبى مكذبين ، فقوله جل وعلا (وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ ) يتحدث عن الأغلبية المسيطرة،أى الأمويين .وتتميز سورة الأنفال بأن معظم حديثها ينصبّ على قريش ، من آمن منهم ومن كفر ، فقد نزلت تعقّب على الانتصار فى معركة بدر على قريش الكافرة. وبعد الحديث عن مشركى قريش جاء التحذير للقرشيين المهاجرين هائلا: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ إِنَّ شَرَّ الدَّوَابَّ عِندَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَّأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَّهُم مُّعْرِضُونَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ)(الأنفال 20 : 28). نقول أنه خطاب موجّه فى الأساس للصحابة المهاجرين بدليل قوله جل وعلا لهم يذكّرهم بالاضطهاد السابق : (وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ). والمستفاد منه أن هناك من القرشيين المهاجرين المشاركين فى بدر ،أو ( البدريين ) من جاء فى حقه هذا التقريع لأفعال بدرت منه منها معصية الرسول والتولى عنه ومتابعة الكافرين المعاندين من قومهم القرشيين الذين كانوا يتندرون على النبى بقولهم (وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ )، بل أكثر من ذلك هو تحذيرهم من خيانة الله جل وعلا والرسول  مع علمهم بما يفعلون :( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ). والمستفاد بكل أسف إن هذه القلة المؤمنة من البدريين القرشيين لم تسلم من التكذيب ، وإلا ما قال رب العزة فيهم هذا الكلام . محل الاستشهاد هنا هو أن منهم من بلغ به التكذيب درجة أن يقول فيهم رب العزة : (وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ )، أى فهناك منهم من هو عريق فى الظلم ، وهناك منهم من يسمع ويطيع لأولئك الظالمين ، والله جل وعلا يحذّر مقدما من طاعة أولئك الظالمين حتى لا يأتى العذاب ليشمل الجميع ، ونعيد قراءة هذا التحذير الخطير: (وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) وبعده يذكّرهم باضطهاد قومهم لهم : ( وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) ثم يحذرهم من الخيانة : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ) . الذى أنزل هذا التحذير هو ربّ العزة الذى يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور. وهو جل وعلا يتحدث عن غيب وسرائر السابقين زمنا فى الاسلام من المهاجرين القرشيين . وهذا الغيب وتلك السرائر التى فضحها رب العزة تتناقض مع الشكل السطحى والمظهر الخارجى لأولئك السابقين زمنا فى الاسلام ، وهذا يؤكد صدق قوله جل وعلا للنبى وهو فى مكة عن أغلبية قومه:(وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ ).

3 ـ والذى حذّر منه رب العزة مقدما وهو قوله جل وعلا :(وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ) وقع فيه القرشيون بعد موت خاتم المرسلين ، وانتهاء القرآن نزولا ، وبعد أن اجتمعت قريش معا وتزعمت العرب . عندها توحّد المهاجرون الذين نزلت فيهم الآيات السابقة من سورة الأنفال مع الأمويين وبقية القرشيين الذين دخلوا فى الاسلام بعد طول عداء وحروب وخصام . أى إن من تحدثت عنهم سورة الأنفال وتحاربوا مع بعضهم انتهى بهم الأمر لأن يتحدوا مع بعضهم ، وأن يهمّشوا الأنصار الذين (آووا ونصروا ) والذين مدحهم رب العزة فى نهاية سورة الأنفال نفسها . خالف القرشيون المهاجرون وصية رب العزة بالانصار وتحذير رب العزة من التحالف مع الكفار ( الأنفال 72 75 ). وأتيح للأمويين تصدر الموقف بعد موت خاتم النبيين ، مما سهّل عليهم قيادة المسلمين الى الفتوحات العربية باستغلال إسم الاسلام ، وتلك جريمة كبرى فى حق شريعة الاسلام لأنها اعتداء على شعوب لم تبدأ المسلمين بالاعتداء ، ولأنها سلب ونهب واسترقاق وسبى واستعمار واحتلال لأمم لم تقدم سيئة للعرب أو المسلمين . ولأن الأمويين كانوا هم القادة فى هذا الظلم ـ من وراء ستار فى عهد أبى بكر وعمر وعثمان ـ وعلنا بعد أن أقاموا دولتهم ـ فقد تسببوا فى الحرب الأهلية الى قتلت قادة المهاجرين ، فمات أبو بكر بالسّم ، ومات عمر بالاغتيال ، وقتل الثوار الأعراب عثمان ، وقتلوا عليا ، وفى الحرب الأهلية فى معركة الجمل قتل الزبير وطلحة ـ وهما من رءوس الفتنة . وقتل آلاف من الجانبين كل منهما يهتف ( الله أكبر ) ، وكانت موقعة الجمل ـ موضوعنا الآن ـ أكبر دليل على تجسد اللعنة التى حاقت بالصحابة ، ثم تكررت المذابح فى صفين والنهروان فى خلافة ( على ) ، وتطورت فى حروب مستمرة بين الخوارج ومعاوية ، ثم فى عهد ابنه يزيد حدثت المآسى الثلاث : كربلاء واقتحام المدينة واستباحة دماء الأنصار وأعراضهم ، ثم حصار الكعبة وضربها بالمجانيق .

أولا : خلافة ( على ) فى سطور من ( الطبقات الكبرى ) لابن سعد  :

1 ـ ( لما قتل عثمان يوم الجمعة لثماني عشرة ليلة مضتمن ذي الحجة سنة خمس وثلاثين وبويع لعلي بن أبي طالب بالمدينة الغد منيوم قتل عثمان بالخلافة، بايعه طلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد بن عمروبن نفيل وعمار بن ياسر..وجميع من كان بالمدينة من أصحاب رسول الله صلىالله عليه وسلم وغيرهم. )

2 ـ ( ثم ذكر طلحة والزبير أنهما بايعا كارهين غير طائعين وخرجاإلى مكة وبها عائشة. ثم خرجا من مكة ومعهما عائشة إلى البصرة يطلبون بدم عثمان . وبلغعليا ذلك فخرج من المدينة إلى العراق . ) ، أى حنث الزبير وطلحة ببيعتهما لعلى ، وخرجا ومعهما السيدة عائشة الى البصرة للطلب بالثأر لعثمان .!! فخرج (على) وراءهم الى العراق. ( فنزل ذا قار.وبعث عمار بن ياسروالحسن بن علي إلى أهل الكوفة يستنفرهم للمسير معه، فقدموا عليه ، فسار بهم إلى البصرة. ) وحدثت موقعة الجمل (فلقي طلحة والزبير وعائشة ومن كان معهم من أهل البصرة وغيرهم يوم الجمل في جماديالآخرة سنة ست وثلاثين ، وظفر بهم . وقتل يومئذ طلحة والزبير وغيرهما . وبلغت القتلىثلاثة عشر ألف قتيل . وأقام علي بالبصرة خمس عشرة ليلة ثم انصرف إلى الكوفة ‏.‏).

3 ـ وبعدها كانت موقعة (صفّين ): ( ثم خرج يريد معاوية بن أبي سفيان ومن معه بالشام فبلغ ذلك معاويةفخرج فيمن معه من أهل الشام والتقوا بصفين في صفر سنة سبع وثلاثين فلم يزالوايقتتلون بها أياما ..وقتل بصفين عمار بن ياسر وخزيمة بن ثابت وأبو عمرة المازنيوكانوا مع علي ...ورفع أهل الشام المصاحف يدعون إلى ما فيها ، مكيدة من عمرو بن العاص،أشار بذلك على معاوية وهو معه،  فكره الناس الحرب ، وتداعوا إلى الصلح. وحكّموا الحكمين، فحكّم علي أبا موسى الأشعري وحكّم معاوية عمرو بن العاص ، وكتبوا بينهم كتابا ؛ أن يوافوارأس الحول بأذرح فينظروا في أمر هذه الأمة . فافترق الناس . فرجع معاوية بالألفة من أهلالشام ، وانصرف علي إلى الكوفة بالاختلاف والدغل . )

4 ـ وأدى التحكيم الذى فرضه الأعراب التابعون لعلى الى خروجهم على (على ) وأصبحوا ( الخوارج ) وقد أفنى (على ) معظمهم فى موقعة ( النهروان ) : ( فخرجت عليه الخوارج من أصحابه ومنكان معه وقالوا : لا حكم إلا الله وعسكروا بحروراء .فبذلك سموا الحرورية . فبعث إليهمعلي عبد الله بن عباس وغيره فخاصمهم وحاجّهم،  فرجع منهم قوم كثير. وثبت قوم على رأيهم،وساروا إلى النهروان فعرضوا للسبيل وقتلوا عبد الله بن خباب بن الأرت . فسار إليهمعلي فقتلهم بالنهروان..وذلك سنة ثمان وثلاثين. ثم انصرف علي إلىالكوفة فلم يزل بها يخافون عليه الخوارج من يومئذ إلى أن قتل رحمه الله . )

5 ـ وجاءت نتيجة التحكيم لصالح معاوية بسبب خداع عمرو لأبى موسى الأشعرى :( واجتمعالناس بأذرح في شعبان سنة ثمان وثلاثين ، وحضرها سعد بن أبي وقاص وابن عمر وغيرهما منأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقدم عمرو أبا موسى فتكلم فخلع عليا وتكلم عمروفأقر معاوية وبايع له، فتفرق الناس على هذا‏.‏).

5 ـ بعدها إغتال الخارجى عبد الرحمن بن ملجم عليا وهو على وشك أن يصلى الفجر ، يقول الطبرى : ( فلما خرج من الباب نادى أيها الناسالصلاة الصلاة كذلك كان يفعل في كل يوم يخرج ومعه درته يوقظ الناس فاعترضه الرجلانفقال بعض من حضر ذلك فرأيت بريق السيف وسمعت قائلا يقول لله الحكم يا علي لا لك ثمرأيت سيفا ثانيا فضربا جميعا فأما سيف عبد الرحمن بن ملجم فأصاب جبهته إلى قرنهووصل إلى دماغه وأما سيف شبيب فوقع في الطاق وسمعت عليا يقول : لا يفوتنكم الرجل . وشدّالناس عليهما من كل جانب ، فأما شبيب فأفلت ، وأخذ عبد الرحمن بن ملجم فأدخل على عليفقال:  أطيبوا طعامه وألينوا فراشه فإن أعش فأنا أولى بدمه عفوا وقصاصا وإن أمتفألحقوه بي أخاصمه عند رب العالمين )  ( ومكث علي يوم الجمعةوليلة السبت وتوفي رحمة الله عليه وبركاته ليلة الأحد لأحدى عشرة ليلة بقيت من شهررمضان سنة أربعين ) . ووصل خبر مقتل ( على ) الى عائشة فشمتت فى (على )،يقول الطبرى:( وذهب بقتل علي عليه السلام إلى الحجاز سفيان بن أمية بن أبي سفيان بن أمية ابنعبد شمس فبلغ ذلك عائشة فقالت‏:‏

فألقت عصاها واستقرت بها النوى ** كما قر عينا بالإياب المسافر). لم تقل ( يرحمه الله ).! . إنه الفصل الأول من ليل الفتنة الكبرى، وكان فيها إنتهاك ألشهر الحرم والبيت الحرام . ولا يزال.!

ثانيا : تحليل معركة الجمل كلعنة الاهية  :

1 ـ إستمرت موقعة الجمل يوما واحدا فقط ، هو الخميس العاشر من شهر جمادى الأولى عام 36 . كان القتلى فيه خمسة آلاف من جيش ( على ) و 13 ألفا من جيش عائشة. ضاعت حياتهم فى معركة غبية ملعونة وكعقوبة الاهية . كان محكوما عليها مقدما بالفشل ، لأن القائمين بها ليسوا أصحاب ثقل فى قريش ، فليسوا من بنى هاشم أو من بنى أمية، وهو نفس السبب تقريبا الذى أفشل ثورة عبد الله بن الزبير . وهناك أسباب فرعية للفشل ترجع للشخصيات الثلاثة القادة ، إذ يجمعهم الحقد الشديد على بنى هاشم والأمويين، مع التنافس الواضح بين الزبير و طلحة،فقد إختلفا فيمن يؤّم الناس بالصلاة، يقول المسعودى فى ( مروج الذهب ): ( وتشّاحّ طلحة والزبير فى الصلاة بالناس ، ثم إتفقوا على ان يصلى عبد الله بن الزبير يوما ، ومحمد بن طلحة يوما .زفى خطب طويل كان بين طلحة والزبير الى أن إتفقا .) . هو غباء منقطع النظير من الناحية السياسية، لأنهم حتى لو هزموا ( عليا ) فلن يهزموا معاوية،ولو هزموا معاوية فلن يتفقا على من يتولى منهما الخلافة .

2 ـ هبط الزبير وطلحة الى مستوى منحطّ فى الكذب والقتل، فقد إستأذنا عليا فى الذهاب لمكة لأداء العُمرة ، فقال لهما ( على ): " لعلكما تريدان البصرة أو الشام ؟. " فأقسما أنهما لا يقصدان غير مكة . وحنثا باليمين وحنثا ببيعتهما لعلى . ثم زحفوا بجيشهم للبصرة ، وكان واليها يتبع ( عليا ) ، وهو عثمان ابن حنيف فقاومهم فهزموه وأسروه وعّذّبوه ونتفوا لحيته ، ومنعهم من قتله خوفهم من أخيه سهل بن حنيف وقومه الأنصار . وأرادوا سلب بيت المال فى البصرة فقاومهم امناء بيت المال ، وهم السبابجة ، فقتلوا منهم سبعين رجلا ، وأسروا خمسين ، قتلوهم صبرا ، أى تعذيبا حتى الموت ، وكان أرحم بهم لو ضربوا أعناقهم، يقول المسعودى:(وهؤلاء أول من قُتل ظلما فى الاسلام وصبرا. ).وقبل المواجهة بينهم وبين ( على ) وقف عمّار بن ياسر يعظهم فرموه بالسهام فأفلت منها. ثم بدءوا القتال.

3 ـ كانت هذه المعركة فى الأصل تخطيطا أمويا ، فقد أراد معاوية إنهاك جيش ( على ) بأن يشغله فى معركة مفاجئة لم يتحسّب لها ، واستغل غباء طلحة والزبير وعائشة وكراهيتهم لعلى والهاشميين ، فتم دفعهم للخروج على ( على ) بزعم المطالبة بدم عثمان ، مع أنهم كانوا المحرّضين على قتل عثمان ، ومع أنهم ليسوا أولياء دم عثمان . ومن الطريف أن محمدا بن أبى بكر أخ عائشة والذى شارك فى قتل عثمان التحق بجيش (على ) ضد جيش أخته عائشة التى تطالب بالثأر من قتلة عثمان ، أى من أخيها محمد بن أبى بكر ،وقد كانت له بمثابة ( الأم ) فى خشيتها عليه .!

4 ـ ولم يكتف الأمويون بمجرد التحريض ، بل قاموا بتمويل قادة الثورة . كان ( يعلى بن أمية ) والى عثمان السابق على ( اليمن ) .وهو فى نفس الوقت صهر عتبة بن أبى سفيان . جاء ( يعلى ) الى مكة ، وقابل عائشة وطلحة والزبير ومروان بن الحكم ولآخرين ، فأعطاهم 400 الف درهم وخيلا وسلاحا، وأهدى عائشة ( الجمل ) الذى حملها ، والذى دارت حوله المعركة ، وقُتل حوله آلاف المسلمين كل منهم يهتف ( الله أكبر ) .!. وإقترح عليهم عبد الله بن عامر ( والى البصرة من قبل عثمان سابقا ) أن يتجهوا للبصرة ، وقال لهم إن له فيها أنصارا وأموالا وسلاحا ، وأعطاهم مليون درهم ومائة من الابل وغير ذلك ، حسبما يذكر المسعودى فى (مروج الذهب ).

5 ـ وظل الأمويون يشعرون بالامتنان لقادة حرب الجمل اعداء ( على ) . يروى ابن عبد ربه فى ( العقد الفريد) عن العتبى عن أبيه أنه :‏ ( قدم زيد بن أمية  من البصرة على معاوية - وهو أخو يعلى بن أمية  صاحب جمل عائشة رضي الله عنها ومتولي تلك الحروب ورأس أهل البصرة . وكانت ابنة يعلى عند عتبة بن أبي سفيان - فلما دخل على معاوية شكا دينه ، فقال‏:‏ يا كعب أعطه ثلاثين ألفاً‏.‏ فلما ولى قال ( معاوية ) ‏:‏ وليوم الجمل ثلاثين ألفاً أخرى‏.‏ ثم قال له‏:‏ الحق بصهرك - يعني عتبة - فقدم عليه مصر... فأعطاه ستين ألفاً كما أعطاه معاوية‏.‏ ).

6 ـ ومن الطريف أن مروان بن الحكم صحب جيش عائشة ، وقد استغلها مروان فرصة لإغتيال طلحة ثأرا لعثمان . يقول المسعودى:( فلما قتل عثمان وسار طلحةوالزبير وعائشة إلى البصرة يطلبون بدم عثمان خرج معهم مروان بن الحكم ، فقاتل يومئذأيضا قتالا شديدا. فلما رأى انكشاف الناس نظر إلى طلحة بن عبيد الله واقفا ، فقال: "والله إن دم عثمان إلا عند هذا ، هو كان أشد الناس عليه وما أطلب أثرا بعد عين ." ففوّقله بسهم ، فرماه به، فقتله. ). وهرب الزبير فلقى حتفه على يد ابن جرموز   .

7 ـ وقبل المعركة قال لهم على : علام تقاتلوننى ؟ فأبوا إلا الحرب . فبعث لهم برجل يقال له "مسلم"  معه مصحف يدعوهم الى الله ، فرموه بسهم فقتلوه ، وقالت أمه :

يا رب أنّ مسلما أتاهم   يتلو كتاب الله لا يخشاهم

فخضبوا من دمه لحاهم    وأمّه   قائمة   تراهم 

 تقصد أن أم المؤمنين السيدة عائشة تراهم يقتلونه راضية بما يحدث .

وكانت عائشة على جمل فى هودج محمى باللبود والمسوح وجلود البقر ، فاقترب منها عمّار وناداها : ماذا تدعين ؟ فقالت : الى الطلب بدم عثمان . قال : قاتل الله الباغى والطالب بغير الحق ، ثم نادى : أيها الناس ، أنكم لتعلمون أينا الممالىء فى قتل عثمان ، فرشقوه بالنبل فأفلت منها وهو يقول لعائشة :

فمنك البكاء ومنك العويل   ومنك الرياح ومنك المطر

وأنت أمرت بقتل الامام         وقاتله  عندنا من أمر

ورجع  فقال لعلى : ماذا تنتظر يا امير المؤمنين وليس لك عند القوم الا الحرب .

وكان ( على ) قد أمر جنده ألّا يبدأوا بالقتال ، فجاء عبد الله بن بديل بأخ له مقتول ، وجاء قوم آخرون برجل مقتول بسهم ، فأمر ( على ) بالقتال.  وحميت المعركة ، وقاد ( على ) بنفسه الهجوم بدل إبنه محمد ( ابن الحنفية ) ،وانكشف جيش عائشة ، ولكن تفانى بنوضبة فى حماية جمل عائشة ، وكل من يأخذ منهم خطام الجمل تُقطع يده ويُقتل ، وبلغ عددهم سبعون رجلا ، وتكاثرت السهام على الجمل وصار الهودج كالقنفذ من كثرة السهام ، ووقع الجمل ، وحوله مئات القتلى . وأخيرا وصل الى الهودج محمد بن أبى بكر فكشف الهودج فصرخت عائشة : من انت ؟ فقال : أنا أقرب الناس اليك وأبغضهم اليك ، أنا محمد اخوك ، يقول لك أمير المؤمنين  هل أصابك شىء ؟ قالت : لا ، إلا سهم لم يضرنى . فجاء ( على ) وضرب الهودج بقضيب وقال لها : يا حميراء .! أرسول الله أمرك بهذا ؟ ألم يأمرك أن تقرى فى بيتك ؟ والله ما أنصفك الذين أخرجوك إذ صانوا عقائلهم وأبرزوك .! ثم أرسلها الى المدينة فى قوة حراسة يقودها أخوها محمد بن أبى بكر. وبعد إنتصاره دخل ( على ) البصرة ، وكانت أياما حزينة كئيبة ملعونة .عمّت الكآبة الجميع المنتصر والمنهزم  . وقد قيل لأبى لبيد الجهضى الأزدى : أتحب عليا ؟ فقال : كيف أحب رجلا قتل من قومى فى بعض يوم الفين وخمسمائة ، وقتل الناس حتى لم يكن أحد يعزى أحدا ؟ واشتغل اهل كل بيت بمن لهم من القتلى .؟

أخيرا

1 ـ  قام جيل الصحابة فى الفتوحات بمذابح لأمم لم تبدأهم بعدوان، فيما بين فارس الى شمال افريقيا. ولما اختلفوا على تقسيم الغنائم والمسروقات اقتتلوا فيما بينهم وقتلوا قادتهم وقتلوا أنفسهم ,اذاق بعضهم بأس بعض. وحق فيهم تحذير رب العزّة فى المدينة بعد معركة بدر : (وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ). وتحقق فيهم ما نبّأ به من قبلها رب العزة حين فضح مكنون الأغلبية من قوم النبى فقال جلّ وعلا:(وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ)، وجاء تفسير النبأ (لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ ) فى الحروب الأهلية التى خاضها الصحابة يقتلون أنفسهم بأنفسهم ، وتحقق ما حذّر منه رب العزة:( قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ).

2 ـ ولكن لم يتحقق فيهم وفينا قوله جل وعلا:( انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ ) . فلم يفقهوا الآيات القرآنية ..ولم نفقهها نحن أيضا . لذا بدأ ما يعرف بالفتنة الكبرى بمقتل عثمان وما تلاه من حروب اهلية ولا يزال المسلمون يعيشون نفس المشهد ، فاقتتالهم فيما بينهم مستمر مستقر ، بل وتأسست على هامش هذه (الفتنة الكبرى ) دين السّنة ودين الشيعة ، ولا يزال الشيعة يعيشون ملاحم الفتنة الكبرى بدءا من بيعة السقيفة الى مذبحة كربلاء . ولا يزال العداء مستحكما بين السّنة والشيعة حول كبار الصحابة ، يقدّس الشيعة عليا وذريته ويلعنون أبا بكر وعمر وعثمان والزبير وطلحة والسيدة عائشة ومعاوية وأبا هريرة ويزيد ..الخ ، بينما يقدس دين السّنة كل الصحابة ويجعلهم دواتا معصومة من الخطا ، أو (عدول ) و أنهم كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم . ويجعلون مكانة (على ) بنفس ترتيبه فى الخلافة ،أى الأفضلية لأبى بكر ثم عمر ثم عثمان ثم على. وهذا يسبب للشيعة آلاما نفسية وربما فسيولوجية أيضا. وهذا وثيق الصلة بواقعنا اليوم ، ويكفى متابعة سريعة لشريط الأخبار . ومع الألم مما يحدث فأنّه إعجاز وآية للقرآن الكريم ، فما حذّر منه رب العزة تراه بأعيننا رأى العين . ولا حول ولا قوة إلّا بالله العلىّ العظيم .

3 ـ وحتى الآن لا يفهم المسلمون أن موقعة الجمل كانت أول  لعنة الهية دامية حاقت بالصحابة فى مسلسل الحروب الأهلية بينهم ، وأنها كانت تجسيدا صريحا لقوله جل وعلا :( قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65) وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (66) لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (67) ( الأنعام).

4 ـ ولهذا تتكرر أمثال معارك الجمل وصفين والنهروان حتى يومنا هذا.وستظلّ اللعنة تحيق بالمسلمين طالما يتخذون القرآن مهجورا .

 

الباب الرابع : مكر قريش والفتنة الكبرى

الفصل الرابع  إنتهاك الأشهر الحرم فى معركة صفين فى خلافة (على ) 

( مقدمة : أولا : معركة صفين ، ثانيا : التحكيم ، ثالثا : بعد صفين ، رابعا  : استحلال ( على ومعاوية ) الأشهر الحرم فى صفين ، خامسا: مقتل محمد بن أبى بكر فى مصر فى شهر صفر الحرام عام  38

 مقدمة :

 نسترجع قوله جل وعلا مهددا الصحابة ومن يسير على طريقهم : :( قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65) وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (66) لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (67) ( الأنعام). حلّ بالصحابة العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم فى طاعون عمواس وفى عام الرمادة فى عام 18 هجرية ، ومن نجا منهم من عذاب هذا العام حلّ به عذاب آخر ، هو أن يتحولوا الى  شيع وفرق وأحزاب ويذيق بعضهم بأس بعض فى الفتنة الكبرى التى دخلها المسلمون بحرب الجمل عام 36 هجرية ، ثم فى حرب صفين عام 37 ، فى انتهاك صريح للأشهر الحُرُم فى هذا العام ، التى نتعرض لها هنا ، وقد كانت حربا ملعونة بكل أبعادها .

 ولا يزال مسلسل الحروب الأهلية الملعونة واقعا يوميا للمسلمين تهون الى جانبه مآسى مواقع الجمل وصفين والنهروان ...

 أولا : معركة صفين

    1 ـ بعد قتل عثمان أسرعت السيدة ( أم المؤمنين ) حبيبة بنت أبى سفيان بارسال قميص عثمان الملوث بدمائه وأصابع زوجته نائلة المقطوعة الى أخيها معاوية فى دمشق . إذن تم ترتيب كل شىء ، والهدف لم يكن إنقاذ عثمان بل الحصول على ( قميص عثمان ) بعد مقتل عثمان .!. ورفع معاوية قميص عثمان فى المسجد داعيا للثأر من ( على ) متهما إياه بالمشاركة فى قتل عثمان أو بالتستر على قتلة عثمان ، وهم عماد جيش (على ) . وانضم ( عمرو ) الى معاوية ، وبايعه عمرو مقابل أن تكون مصر طعمة لعمرو إذا أنتزعها من والى (على ) . وأصبح عمرو المستشار الخاص بمعاوية .

 رفض معاوية بيعة ( على ) وأعلن العصيان ، واستعد بجيشه ، وقبلها بعث معاوية ( بالريموت كنترول ) جيش الجمل وهزمه ( على ) ، ثم إتجه  لقتال معاوية فى صفين . ولكى يتفرغ معاوية لحرب ( على ) فقد كفّ عن غزو الروم فى البر والبحر وعقد هدنة مع الروم ودفع لهم الجزية...

  2 ـ واستمرت موقعة صفين 110 يوما درات خلالها 70 جولة من القتال . وكان جيش (على ) على  الأصح 90 ألفا ، بينما بلغ جيش معاوية 85 ألفا. وفقد فيها معاوية 45 ألفا ، وقُتل فيها من أصحاب ( على ) 25 ألفا . الى أن توقفت الحرب باقتراح عمرو بالتحكيم .

 وسبق معاوية الى موقع المعركة ، فعسكر فى سهل فسيح على ماء الفرات، وتأخر (على ) فكان بينه وبين الفرات جيش معاوية . وبات جيش ( على ) فى عطش ، فتصح عمرو معاوية أن يسمح لهم بالشرب خشية أن يستميتوا فى الوصول الى الماء ، فرفض معاوية. وأمر ( على ) اربعة آلاف من جنده فاقتحموا عسكر معاوية وتبعهم الأشتر بجيش آخر ، ثم خلفهم ( على ) ببقية الجيش ، فأزالوا جيش معاوية واحتلوا مكانهم على الماء. وعطش جيش معاوية ، فسمح لهم ( على ) بالشرب.

 وفى أول ذى الحجة ( بداية الأشهر الحرم )  بعد يومين من النزول فى صفين ارسل ( على ) يدعوه للدخول فى الجماعة ، فرفض فاشتعلت الحرب ، وكانت جولات ، ثم اتفقوا فيما بعد على هدنة فى شهر محرم ، وبعدها عاد القتال ، وقال حابس بن سعد  الطائى صاحب راية معاوية

فما دون المنايا غير سبع    بقين من المحرم أو ثمان.

  3 ـ وفى أخر يوم من شهر محرم بعث ( على ) الى معاوية يقول : ( إنى قد احتججت عليكم بكتاب الله ، ودعوتكم اليه ، وإنى قد نبذت اليكم على سواء، إن الله لا يهدى كيد الخائنين ) فردوا عليه ( السيف بيننا وبينك ،أو يهلك الأعجز منا ).  فعادت الحرب أول صفر.

4 ـ وبعد قتل ( عمار بن ياسر ) إختار ( على ) عشرة ألاف فارس من ربيعة وغيرهم وقال لهم : أنتم درعى ورمحى ، وزحف بهم وهاجم جيش معاوية ففروا ، فقال ( على ) وهو يرتجز شعرا:

أضربهم ولا أرى معاوية   الأخزر العين العظيم الحاوية   تهوى به فى النار أم الهاوية .

( الحاوية يعنى مؤخرة الرجل ) .

 ثم نادى ( على ) معاوية يدعوه للمبارزة ، فرفض معاوية ، فحرّضه عمرو على البروز لمبارزة (على ) فقال له معاوية : ( طمعت فيها بعدى ) ، وألزم معاوية عمرا على أن يخرج لمبارزة ( على ) . فخرج عمرو مكرها ، وعندما واجه عليا أسرع فكشف عورته أمام ( على ) وقال ( مكره أخاك لا بطل . ) فحوّل ( على ) وجهه عنه وتركه قائلا : ( قُبُّحت)) .!

  5 ـ وكانت ليلة الهرير أشد أوقات القتال . استمر القتال فيها من النهار الى الليل ، وتصادم الجيشان وتقصفت الرماح ووتصارع الفرسان بالايدى بعد فقدان السيوف ، وباشر على القتال بنفسه وسط المعمعة فكان لايصمد له أحد حسبما يروى المسعودى . وطلع صباح اليوم التالى وقد ذهل القوم من مواعيد الصلاة وارتفع الغبار وتقطعت الألوية وأذاق بعضهم بأس بعض كما قال جل وعلا.

6 ــ وأشرف الأشتر النخعى قائد مقدمة جيش (على ) على الفتح ، ونادى مشيخة أهل الشام قادة جيش معاوية  يستغيثون " يا معشر العرب، الله الله فى الحرمات والنساء والبنات " ، يخشون على نسائهم من السبى ، أى أن يسبيهم جيش (على ) وهم أهراب أجلاف ، وسبق لهم قتل عثمان وانتهاك حرمة بيته.  فى هذا الموقف العصيب إستنجد معاوية بدهاء عمرو بن العاص ، وقال :( هلم مخبئتك يا ابن العاص ) فنصح برفع المصاحف فوق الرماح . ونادى عمرو : " أيها الناس ، من كان معه مصحف فليرفعه على رمحه "، فكثر فى جيشهم رفع المصاحف ، ونادوا " بيننا وبينكم كتاب الله . من لثغور الشام بعد أهل الشام؟ من لثغور العراق بعد أهل العراق ؟ ومن لجهاد الروم ومن لجهاد الترك ؟ "( الثغور يعنى أماكن المواجهة الحربية على التخوم بينهم وبين الروم والترك وغيرهم ) . ورفعوا نحو 500 مصحف ، وفى ذلك يقول النجاشى بن الحارث:

فأصبح أهل الشام قد رفعوا القنا    عليها كتاب الله خير قران

ونادوا عليا : يا ابن عم محمد     أما تتقى أن يهلك الثقلان

ثانيا : التحكيم

  1 ـ رفض ( على ) التحكيم ، وقال : (  أيها الناس ، أنه لم يزل من امركم ما أُحبّ حتى قرحتكم الحرب، وقد ـ والله ـ أخذت منكم وتركت ، وإنى بالأمس كنت أميرا فأصبحت اليوم مأمورا .) وأيده الأشتر وقال : ( إن معاوية لا خلف له من رجاله ، ولك بحمد الله الخلف ، ولو كان له مثل رجالك لما كان له مثل صبرك ولا نصرك ، فاقرع الحديد بالحديد ، واستعن بالله .) ووافق وجوه القوم مقالة الأشتر ، إلّا إن الأشعث بن قيس عارض عليا ، وقال ( إنّا لك اليوم على ما كنا الأمس ، ولسنا ندرى ما يكون الغد ، وقد ـ والله ـ فلّ الحديد وكلت البصائر ).فقال (على ) ( ويحكم ، أنهم ما رفعوها لكم إلا خديعة ودهاء ومكيدة ) فقال الأشعث ومن معه:  أنه ما يسعنا أن نُدعى الى كتاب الله فنأبى أن نقبله  )، فقال ( على ) :( ويحكم ، إنما قاتلناهم ليدينوا بحكم الله ، فقد عصوا الله فيما أمرهم به، ونبذوا كتابه ..فإن معاوية وسعيد بن العاص وابن النابغة ( عمرو ) وابن ابى معيط وحبيب بن مسلمة ..ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن ، وأنا أعرف بهم منكم ، صحبتهم أطفالا ورجالا ، فهم شر أطفال، ورجال.) . فهدده الأشعث ومن معه إن لم يستجب لهم سيفعلون به ما فعلوا بعثمان ، او ان يسلموه الى معاوية . فسكت الأشتر خوفا على ( على ) أن يقتلوه كما قتلوا عثمان . ووافق ( على ) مُكرها . فقال الأشعث : ( إن شئت أتيت معاوية فسألته ما يريد ) .

2 ـ واجتمع الأشعث بمعاوية ، فاقترح معاوية أن يختار كل فريق رجلا ويؤخذ عليهما العهد والميثاق على العمل بكتاب الله ، ووافق قوم ( على ) . واختار معاوية عمرو بن العاص ، واختار الأشعث وجماعته ابا موسى الأشعرى ، فقال لهم (على ) : ( قد عصيتمونى فى اول الأمر فلا تعصونى الآن ، إنى لا أرى أن أولّى أبا موسى الأشعرى )، فقال ألأشعث : ( لا نرضى إلا بأبى موسى الأشعرى ) ، فقال ( على ) : ( ويحكم ، هو ليس بثقة ، فقد فارقنى وخذل الناس منى ، وفعل كذا وكذا ) وذكر أشياء فعلها أبو موسى ( ثم أنه هرب شهورا حتى أمّنته ) واقترح ( على ) إختيار ( عبد الله بن عباس ) فقال الأشعث وأصحابه:( والله لا يحكم فيها مضريان ) أى من قريش التى تنتمى الى مضر . قال(على) :( فالأشتر ) فرفضوا الأشتر ، وهو ليس من قريش ولا من مضر، وقال الأشعث : ( وهل أهاج هذا الأمر إلا الأشتر ؟ ).

  3 ـ وكتبوا صحيفة التحكيم فى شهر صفر عام 37 ، وجعلوا أجل إجتماع الحكمين فى شهر رمضان . وسار الأشعث بصحيفة التحكيم مسرورا يعرضها على جيش ( على ) فوصل الى مجلس بنى تميم فقرأها عليهم فثار عليه جماعة على رأسهم ( عروة بن أدية ) الذى قال ( أتحكّمون فى دين الله الرجال ؟ لاحكم إلا لله ) وصارت كلمته هذه شعارا للخوارج . وتشاجروا مع الأشعث . وتفرق جيش ( على ) وصاروا شيعا وأحزابا ، وووقعت بينهم المشاحنات وجعل بعضهم يتبرأ من بعض ، يتبرأ الآب من إبنه والأخ من أخيه ، ويتضاربون بالمقارع ونعال السيوف ويلوم هذا ذاك.

  4 ـ على أن شعار ( لا حكم إلا لله ) صادف هوى من الأعراب الكارهين للهيمنة القرشية ، ورأوا أنفسهم جنودا يتصارع بهم جناحا قريش من الهاشميين والأمويين ، ورأوا إن شعار ( لا حكم إلا لله ) يحررهم من التبعية للسيادة القرشية ، ويجعلهم والقرشيين سواء، لذا إقتنع به كثيرون .

ولما دخل (على ) الكوفة فارقه 12 ألفا، قالوا إنهم كفروا بقبول تحكيم البشر فى كتاب الله ، وطالبوا عليا أن يقرّ مثلهم بالكفر فرفض فلحقوا بقرية اسمها الحرورية ، فأصبح اسمهم الخوارج أو الحرورية نسبة لهذه القرية . وقد عاثوا فى الأرض فسادا فقاتلهم وقضى عليهم فى النهروان . ولكن ظلت فكرة الخوارج حيّة لأنها تعنى التحرر من سلطان قريش.

  5 ـ والتقى الحكمان فى دومة الجندل عام 38 . وانتهت مباحثاتهما بالاتفاق معا على عزل ( على ) و( معاوية ) معا ، وأن يختار المسلمون خليفة آخر . ثم أمام الملأ قام الأشعرى طبقا للإتفاق بخلع ( على ) وجاء الدور على ( عمرو ) فأعلن عمرو خلع ( على ) وتثبيت معاوية.

ثالثا : بعد صفين   

1 ــ وتحت عنوان ( تفرق  أصحاب على وردّتهم ) يقول المسعودى فى مروج الذهب أن أصحاب ( على ) جعلوا يتسللون من حوله ويعودون الى اوطانهم فلم يبق معه إلا نفريسير . ثم إن الحارث بن راشد الناجى ومعه 300 من أصحاب ( على ) إرتدوا وتنصروا ، وهم من العرب من ذرية سامة بن لؤى بن غالب ، نسل اسماعيل . فأرسل لهم ( على ) معقل بن قيس الرياحى فقتلهم جميعا وسبى عيالهم وذراريهم ، وذلك بساحل البحرين.

 ثم واصل معقل بن قيس الاغارة والسبى متوغلا فى الأهواز بالعراق ، وكان هناك وال لعلى اسمه مصقلة بن هبيرة الشيبانى فاستجارت به النسوة السبيات العربيات وصرخن ( امنن علينا ) فاشتراهن مصقلة بثلثمائة الف درهم واعتقهن  ، وأدى من المال مائتى الف ، وهرب والتحق بمعاوية . فقال (على): قبّح الله مصقلة، فعل فعل السيد وفرّ فرار العبد ) . ومن أجل هذا إشتهر بنو سامة بكراهة ( على).

رابعا  : استحلال ( على ومعاوية ) الأشهر الحرم فى صفين

  1ـ وفى صفين لم يحسّ (على ) بحُرمة الشهر الحرام ، كان القتال على مراحل دون إشتباك عام ، وذلك خوفا من ان يستأصل بعضهم بعضا ، أو كما يقول الطبرى:( . فأخذ (علي)  يأمر الرجل ذا الشرف فيخرج معه جماعة ويخرج إليه من أصحاب معاوية آخر معه جماعة فيقتتلان في خيلهما ورجالهما ثم ينصرفان وأخذوا يكرهون أن يلقوا بجمع أهل العراق أهل الشام لما يتخوفون أن يكون في ذلك من الاستئصال والهلاك .. ).ويقول الطبرى عن إحتدام القتال فى شهر ذى الحجة الحرام : (فاقتتلوا من ( ذي الحجة ) كلها ، وربما اقتتلوا في اليوم الواحد مرتين أوله وآخره ).

2 2 ـ وأتعبهم وأرهقهم ذلك القتال فى شهر ذى الحجة ، فأرادوا بعض الراحة فى شهر ( محرم ) الحرام ، يقول الطبرى :( واقتتل الناس ( ذا الحجة) كله فلما انقضى ذو الحجة تداعى الناس إلى أن يكف بعضهم عن بعض ( المحرم ) ولعل الله أن يجري صلحا أو اجتماعا فكف بعضهم . وحج بالناس في هذه السنة عبدالله بن العباس بن عبدالمطلب بأمر علي إياه بذلك .  ). أى إنّ القتال فى صفين بدأ بذى الحجة واستمر متقطّعا 110 يوما  طيلة الأشهر الحرم التالية ، وقد جعلوا القتال على مراحل خشية أن يستأصل بعضهم بعضا ، أى إن التوقف عن القتال لم يكن إحتراما للشهر الحرام ، فقد بدءوا بالقتال فى مفتتح الأشهر الحرم وبدء الحج الأكبر واستمروا فيه الى أن انتهى بخدعة التحكيم

خامسا: مقتل محمد بن أبى بكر فى مصر فى شهر صفر الحرام عام 38

  1 ـ  فى سنة 38 ارسل معاوية عمرا لاسترداد مصر ومعه 4 آلاف لتكون له مصر طعمة له . وكان والى مصر من قبل ( على ) هو محمد بن ابى بكر .  . يقول الطبرى ( أن عمرو بن العاص خرج في أربعة آلاف ، فيهم معاوية بن حديج وأبو الأعور السلمي ، فالتقوا بالمسناة ، فاقتتلوا قتالا شديدا ..ولم يجد محمد بن أبي بكر مقاتلا فانهزم ، فاختبأ عند جبلة بن مسروق ، فدل عليه معاوية بن حديج،  فأحاط به ، فخرج محمد فقاتل حتى قتل. ) . وبعد قتله أدخل معاوية بن حديج جثته فى حمار ميت وأحرقه . ويقال أن السيدة عائشة ظلت بعدها تكره رائحة الشواء لأنها تذكرها بما حدث لأخيها محمد بن أبى بكر.  يقول المسعودى عن مصير جثة محمد بن أبى بكر بعد قتله : ( فأخذه معاوية بن حديج وعمرو بن العاص وغيرهما فجعلوه فى جلد حمار وأضرموه بالنار ، وذلك بموضع بمصر يقال له : كوم شريك . وقيل أنه فعل به ذلك ، وبه شىء من الحياة .!)  ويقول ابن الجوزى فى المنتظم عن محمد بن أبي بكر: ( وقد ذكرنا صفة قتله وإن معاوية بن حديج أحرقه بالنار وكان قتله في صفر من هذه السنة‏.‏).

  2  ـ وولى (على ) الأشتر وأنفذه الى مصر فى جيش .فأوصى معاوية ( دهقانا ) أى صاحب خان بالعريش على أن يقوم بدس السّم للأشتر إذا نزل عنده مقابل أن يعفيه من الخراج عشرين عاما ، ونفّذ الدهقان المؤامرة ووضع للأشتر السم فى  العسل فقتل الأشتر ، فقام جند الأشتر بقتل الدهقان . وقال معاوية ( إن لله جندا من العسل ) . وأصبحت مصر تابعة لمعاوية وتحت حكم عمرو.

 

 

الباب الرابع : مكر قريش والفتنة الكبرى

الفصل الخامس  : (على : خليفة فاشل ، قهره عصره )    

 مقدمة  :  تقييم (على  بن أبى طالب )

1 ـ  ( على ) ليس جزءا من عقيدة الاسلام ، وليس ركنا من ( إسلامنا ) . هو شخصية تاريخية نبحثها بمنهج البحث التاريخى ونقيّمه سياسيا وتاريخيا . ليس عندنا مخلوقات مقدسة ، لأن التقديس هو لله جل وعلا وحده ، وما عداه جل وعلا من إنس وجنّ وملائكة هم مخلوقات للواحد القهّار ، سيأتون أمامه يوم القيامة للحساب ، أفرادا : (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِوَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً (95) ( مريم ) لا يجرؤ أحدهم على الكلام إلا بإذن الرحمن جل وعلا ورضاه : (رَبِّ السَّمَوَاتِوَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَاباً (37) يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفّاً لا يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً (38)( النبأ ) بهذا نعظ من يؤلهون عليا ، ويقتطعون جزءا من التقديس الواجب لله جل وعلا وحده ليجعلوه لعلى وذريته .

2 ـ وكالعادة نحن نستشهد بروايات تاريخية عن ( على ) من تاريخ الطبرى ومروج الذهب للمسعودى والطبقات الكبرى لابن سعد ، وكلها مصادر سنية معتمدة وتبالغ فى إحترام ( على ) .ورواياتها معروفة ومتداولة ، ولكن نعيد قراءتها وبحثها ، لتجلية شخصية ( على ) وفشله فى خلافته . وهو مسئول مسئولية كبرى عن هذا الفشل وما نجم عنه من قتل آلاف الناس . نحن نقيّمه كسياسى مسئول ، وهو نفس التقييم لخصمه معاوية ، وبالتالى فالمقارنة ورادة بل ضرورية ، لأن الخصمين معا أتفقا على أن الفتوحات جهاد اسلامى ، وإستحلّا معا ظلم الأمم المفتوحة واستباحة دمائها وأموالها وأعراضها ، بل إعتبر (على ) غنائم الفتوحات ( تراث محمد ) وأنه الأولى به. فوق أرضية هذا الاتفاق بينهما تنازعا سياسيا وحربيا، ونعقد مقارنة بينهما بالميزان التاريخى وليس الأخلاقى الاسلامى .

أولا : بين معاوية ( العلمانى ) و( على ) الذى يخلط السياسة بالدين

1 ـ كان الهدف الدنيوى واضحا لدى معاوية واتباعه . عمرو بن العاص قال له معاوية : " بايعنى " ، فقال عمرو : لا. والله لا أعطيك من دينى حتى تعطينى من دنياك ." فاتفقا على أن ينضم عمرو اليه مقابل أن يعطيه معلوية ( مصر ) طُعمة له . وقال فى ذلك لمعاوية

معاوى لا أعطيك دينى ولم أنل   به منك دنيا ، فانظرن كيف تصنع

فإن تعطنى مصر فأربح بصفقة          أخذت بها شيخا يضر وينفع

أى يعترف عمرو بأنه باع الآخرة واشترى بها الدنيا . وهذه صراحة مريحة . وفى موقعة صفين وبّخ معاوية النعمان بن جبلة التنوخى على تراخيه فى القتال ، فقال له النعمان:" والله لقد نصحتك على نفسى ، وآثرت مُلكك على دينى ، وحدتُ عن الحق وأنا أبصره ، وما وُفقتُ لرشد حين أقاتل على مُلكك ابن عم رسول الله وأول مؤمن به وأول مهاجر معه . ولو أعطيناه ما أعطيناك لكان أرأف منك بالرعية وأجزل فى العطية ، ولكن قد بذلنا لك الأمر ، ولا بد من إتمامه كان غيا أو رشدا . وحاشا أن يكون رشدا . وسنقاتل عن تين الغوطة وزيتونها إذ حُرمنا ثمار الجنة وأنهارها . ".أى إن القتال هنا بصراحة صراع فى سبيل الثروة، وهذا يذكرنا بتحريض خالد جنوده بما فى العراق وفارس من خيرات تستحق القتال فى سبيلها.

2 ــ هو نفس حالة ( على ). كان يصارع خصومه فى سبيل الدنيا ، وفى أواخر حياته كان يتنازع مع ولاته فى فارس على الدرهم والدينار ، وهو يعرف أنه أرض مُحتلة قسرا وظُلما . بل حتى فى قتاله فى صفين لم يراع الأشهر الحّرم . وهو فى كل ذلك يطلب بيعتهم ليكون حاكما لهذه الإمبراطورية التى تأسست بالغزو والقهر والظلم لملايين الأبرياء . وبالتالى يكون الوعظ بالتقوى والتحلّى بالورع هواستغلال الدين فى غرض دنيوى ، أى هو أكثر جُرما من الهدف الدنيوى الواضح الصريح لدى معاوية وعمرو وأتباعهما .

هذا علاوة على أن خطاب ( على ) هذا كان يرفضه منطق العصر وقتها ، فقد ملّ الناس حزم ( عمرو ) ثم إستغرقوا فى نعيم الدنيا فى خلافة عثمان وفى سبيل التنافس فيه قتلوا عثمان ، وبهذا يكون ( على ) فى خطابه الطوباوى الوعظى يغنّى لهم سيموفونية لم تعد صالحة لوقتها ، بل هى تشوّش على أتباع ( على )  فى حيرة بين الدنيا ( وهى المطلوب الوحيد ) والدين والآخرة ( وهى مجرد شعار عبثى نفعى ) . أكثر من هذا فإن هذا الخطاب الدينى أتاح لأتباع ( على ) المزايدة عليه بل وتكفيره ، كما حدث من الخوارج .وهى عادة سيئة فى كل دولة دينية تخلط السياسة بالدين وتستغل الدين فى الحصول على الدنيا. كان (على ) أبرز ضحايا هذا الخلط . وتتابع بعده الضحايا حتى عصرنا البائس .

3 ـ فشل (على ) لأنه لم يكن متسقا مع نفسه ، زعم أنه يريد الآخرة وهو منشغل بالدنيا ، بينما كان معاوية صادقا مع حبه للدنيا وجهاده فى سبيلها.  أى إنّ أساس الفشل لدى ( على ) أنه كما يقول المثل المصرى ( رقص على السُّلّم ) لم يهبط الى الأسفل كالخلفاء ابى بكر وعمر وعثمان ولم يصعد الى الأعلى متمسكا بشرع الاسلام والسّنة الحقيقية للنبى عليه السلام . فهو لم يعترض على الفتوحات المخالفة للاسلام ، بل على العكس شارك فيها بالرأى واستمتع بما جلبته من سلب وسبى . وفى نفس الوقت لم يشترك فيها مقاتلا برغم أنه وقتها كان لا يزال فى شبابه ، وكان مشهورا بمهارته الحربية والفروسية .  بل أكثر من ذلك كان حريصا على أن ينال ما يستطيع من غنائم الفتوحات وأُعطيات الولاة الأمويين. ففى عهد عثمان اشتهر (عبد الله بن عامر) والى البصرة بكرمه ، وكان يوزع هدايا ممّا كان يسلبه من حروبه فى فارس . يذكر ابن سعد فى ترجمة ابن عامر هذا أنه زار المدينة وغمر أهلها بعطاياه .وقد أرسل  إلى ( علي بن أبي طالب ) بثلاثة آلاف درهم وكسوة ، فاستقلّها: ( وقال:" الحمد لله ، إنا نرى تراث محمد يأكله غيرنا . " فبلغ ذلك عثمان ، فقال لابن عامر: "  قبح الله رأيك أترسل إلى علي بثلاثة آلاف درهم ؟ .. فبعث إليه بعشرين ألف درهم وما يتبعها. ..فراح علي إلى المسجدفانتهى إلى حلقته وهم يتذاكرون صلات بن عامر ..فقال علي : "هو سيدفتيان قريش غير مدافع" ). أى كان ( على ) يرى فى أسلاب الفتوحات تراثا لمحمد ، وأنه الأولى به من الأمويين .

4 ـ كان من الممكن أن يكون (على )على الحق ، لو وقف ضد الفتوحات ، معلنا رأيه فيها بقوة معتزلا لها ولقومه ، ثم إذا أختاروه فيما بعد خليفة ، بادر بالانسحاب من هذه البلاد وإنهاء إحتلالها ، وترك أهلها أحرارا وما يختارونه لأنفسهم ، وعاد بالعرب الى جزيرتهم ، ولو كلفه هذا أن يدخل فى حرب ضد  الظالمين الطغاة من صحابة الفتوحات . لو فعل هذا لكان متمسكا  فعلا بسنّة النبى عليه السلام . فالمفترض فى ( علي) بمكانته وعلمه بالاسلام وصحبته لابن عمه النبى محمد عليه السلام أن يقف بقوة ضد الفتوحات ، وأن يعتزل الناس ، كما فعل من وصفهم رب العزة بالسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار ، الذين تواروا عن الأنظار فرارا بدينهم فكسبوا رضوان الله جل وعلا ، وأهملهم التاريخ ،لأنهم إبتعدوا عن مهرجانات الظلم التى حملت اسم الفتوحات والتصارع حول غنائمها السُّحت . لم يفعل ( على ) هذا واختار أن ( يرقص على السُّلم ) لم يشارك قتالا فى الفتوحات ، ورضى أن يأكل منها وأن يتمتع بسباياها ، وأن يشارك فى الحياة السياسية منافسا فى قيادة المسلمين كالآخرين من أبى بكر الى عثمان ، ثم حين أصبح خليفة حاول أن يسير بالعدل فى دولة قامت على الظلم ففشل ورفضه عصره . فهو خليفة فاشل قهره عصره . 

ثانيا : بين عبقرية ( على ) الجنسية وعبقرية معاوية السياسية

1 ـ يبدو من سيرة معاوية أنه لم يكن فارسا فى الفراش ونكاح النساء ، وقد كرهته زوجته ميسون بنت بحدل بنت زعيم كلب . وهي ام ولده يزيد. وقد نقلها معاويه من الباديه واسكنها قصراً منيفا  فى دمشق ، وألبسها الحرير. وعلى الرغم من كل ماهيأ لها من أسباب النعيم فإنها كرهت كل شىء بسبب كراهيتها لمعاوية ، وظلت تحن إلى الباديه حتى بعد أن ولدت ابنها يزيد، جلست تندب حظها مع معاوية وتنشد هذا الابيات :-

لبيـت تخفـق الأرواح فيـه   أحب إليّ من قصـر منيـف
ولبس عبـاءة وتقـرّ عينـي  أحب اليّ من لبس الشفـوف
وأكل كسيرة فـي كسربيتـي  أحب إليّ من أكـل الرغيـف
وأصوات الريـاح بكـل فـج  أحب إلى من نقـر الدفـوف
وكلب ينبـح الطـراق دونـي  أحب إلـي مـن قـط أليـف
وبكر يتبع الأظعـان صعـب  أحب الي مـن بعـل زفـوف
وخرق من بني عمي نحيـف  أحب الي من علـج عنـوف
 فلما دخل معاويه عرفته احدى الوصيفات بما قالت ميسون فقال: ما رضيت ابنة بحدل حتى جعلتني علجا عنوفا؟ هي طالق ثلاثا. ثم سيرها الى اهلها .

وساءت حالة معاوية الجنسية بعدها فى خلافته . وقد روى ابن عساكر في ترجمة خديج الخصي مولى معاوية قال‏:‏ ( اشترى معاوية جارية بيضاء جميلة فأدخلتها عليه مجردة، وبيده قضيب، فجعل يهوي به إلى متاعها - يعني‏:‏ فرجها - ويقول‏:‏ هذا المتاع لو كان لي متاع.) !. ومقابل هذا العجز الجنسى كان معاوية عبقرية سياسية تسير على قدمين ، ورثها عن أبيه الذى كان مكره تزول منه الجبال .

2 ـ وعلى النقيض منه ، كان ( على ) عبقرية جنسية لا يعدلها إلا فشله السياسى . تمتع (على ) بفحولته الجنسية . نستخلص هذا مما ذكره ابن سعد فى الطبقات عن أولاد ( على ) وزوجاته ونسائه من السبايا . فقد أنجب من زوجته السيدة فاطمة الزهراء أربعة فقط هم ( الحسن والحسين وزينب الكبرى وأم كلثوم الكبرى ). وماتت ، فإنهمك ( على ) فى الزواج والتسرّى بالسبايا ، وأنجب منهن بقية أبنائه وبناته ، يقول ابن سعد : ( فجميع ولد علي بن أبي طالب لصُلبه أربعة عشر ذكرا وتسع عشرة امرأة . )، أى أنجب من أولئك النسوة( 29 ) :( 12 ولدا و 17 بنتا ) في 30 عاما ، بعد موت السيدة فاطمة عام 10 الى إغتياله عام 40 هجرية . أى تفرّغ صحابة الفتوحات للقتال ظلما وعدوانا بينما تفرّغ على للنكاح ، وكما قام صحابة الفتوحات بغزوات قتالية قام ( على ) بغزوات نسائية إقتحم فيها أنواعا مختلفة من نساء العرب والعجم ، وبنجاح باهر أسفر عن 29 ولدا وبنتا .!! وهذا هو ( جهاده ) و ( تمامه ).!!.

ومن كثرة أبنائه وبناته فلم تكن الأسماء المتداولة لديه تكفيهم لذا كان يكرر التسميات . فمن إبنائه ( محمد ) الأكبر ، المشهور بمحمد بن الحنفية ، أكبر ابنائه من غير فاطمة الزهراء، يقول عنه ابن سعد: ( ومحمد بن علي الأكبر وهو ابن الحنفية وأمه خولة بنت جعفر .. ). وهناك ( محمد الأوسط بن علي ، وأمه أمامة بنت أبي العاص) ومحمد الأصغر : ( ومحمد الأصغر بن علي قتل مع الحسين وأمه أم ولد .) ومنهم العباس الأكبر ، و عمر الأكبر ..مما يدل على وجود عباس الأصغر والأوسط ، وعمر الأصغر والأوسط لم يعرفهم محمد بن سعد ، إذ يعترف بعدم إحاطته بكل ابناء (على) وبناته ، يقول : (قال محمد ابن سعد : لم يصح لنا من ولد علي رضي الله تعالى عنه غير هؤلاء‏.‏ ). وربما كان السبب قتل كثير من ابنائه فى مذبحة كربلاء ، يقول ابن سعد عمّن بقى من ذرية (على ) وصار له نسل معروف : (وكان النسل من ولده لخمسة : الحسن والحسين ومحمد بن الحنفية والعباس بن الكلابية وعمر بن التغلبية ).

وبالمخالفة لشرع الرحمن كان من بين نسائه سبايا من الفتوحات، وأنجب منهن، فمن ابنائه:( عمر الأكبر بن علي ــ ورقية بنت علي. وأمهما الصهباء. وهي أم حبيب بنت ربيعة ...وكانت سبية أصابها خالد بن الوليد حين أغار على بني تغلب بناحية عين التمر.). أى كانت من سبية عربية من قبيلة تغلب ، لذا كانت معروفة النسب دون غيرها من السبايا غير العربيات  . ومن كثرة السبايا من غير العرب لدى ( على ) فلم يكنّ معروفات الاسم ، حتى من أنجب منهن . يقول ابن سعد عن إبنه ( محمد الأصغر بن علي قتل مع الحسين وأمه أم ولد .) ولم يعرف إسمها ، ويقول عن بناته الأخريات (وأم هانئ بنت علي وميمونة وزينب الصغرى ورملة الصغرى وأم كلثوم الصغرى وفاطمة وأمامة وخديجة وأم الكرام وأم سلمة وأم جعفر وجمانة ونفيسة بنات علي وهن لأمهات أولاد شتى . )، أى أنجب إبنا واحدا و13 بنتا من سبايا يملكهن مجهولات الأسم . ولا نعرف عدد السبابا الأخريات اللائى لم ينجبن منه . بورك فيك يا أبا الحسن وفى جهادك الجنسى .!..وملعون ابو الفياجرا .!

3 ـ هذا النبوغ الجنسى لدى ( على ) يذكّرنا بما ساد فى عصر ( على ) واستمر فى العصر الأموى ، وهو كراهية الانجاب من السبايا  من غير العربيات ، واعتبار ابن الأعجمية غير العربية أقل شأنا من إخوته الذين لهم أمهات عربيات . لذا شاع وقتئذ ( العزل ) ، وهو عدم الانزال وقت اللقاء الجنسى مع الجارية المملوكة منعا للإنجاب منها . وربما لم يفلح ( العزل ) مع ( على ) بفحولته فأنجب من جواريه السبايا . ولقد افتى الفقهاء فى العصر العباسى بأن ( العزل مكروه ) . ومن طرائف النوادر العباسية أن رجلا كان يزنى بجارية فقام بالعزل ، فسألته لماذا ؟ فقال : سمعت أن العزل مكروه ، فقالت له : ألم تسمع أيضا أن الزنا حرام ؟ . لا نذكر هذا لمجرد التسلية ، ولكن لتحليل موقف ( على ) . فقد عاش يأكل السُّحت من غنائم الفتوحات وينكح السبايا معتقدا بأن هذا هو ( تراث محمد )، وأنه الأحق به أكثر من غيره ، دون أن يعطى نفسه فرصة لأن يتدبر القرآن الكريم . هو بهذا أراد الدنيا وكفر بالآخرة . وصار فى نفس حزب من سبقه ومن تلاه من الخلفاء ، وإن كان أقل منهم سوءا . وبالتالى فإن ورعه وهو خليفة لا محلّ له من الاعراب . ولا يمكن قبوله لأنه مؤسّس على أرضية من الظلم من أكل السُّحت والنكاح القائم على القهر والسبى . ( على ) مثل ذلك الرجل الذى كان يزنى بالجارية ويرفض العزل تورعا لأن العزل مكروه ، وهو لا يدرى أن الزنا حرام . !

  ثالثا : نموذج للمقارنة السياسية بين ( على ) ومعاوية

1 ـ كانت عين معاوية على مصر لأن السيطرة على مصر تحمى ظهره فى الشام . لقد فهم (معاوية ) استراتيجية المنطقة وأيقن أن مصيره في الشام مرتبط بسيطرته على مصر ، وأكد له ذلك الرأي حليفه ( عمرو بن العاص ) الذي بايعه على الخلافة . لذا عمل معاوية على شغل ( على ) بحرب الجمل فى العراق ليتفرغ معاوية لأخذ مصر .وأثناء انشغال (علي ) بأهل الجمل الثائرين عليه كان (معاوية ) في الشام يعد العدة للاستيلاء على مصر , فتعاون عمرو  مع معاوية في قتل ( ابن أبى حذيفة ) الناقم على الخليفة ( عثمان ) والذي أخرج من مصر والي عثمان عليها وهو عبد الله بن أبى السرح ، في الوقت الذي تولى فيه ( على ) الخلافة . ولم يتريث  معاوية  وعمرو بل أسرعا  فحاولا دخول مصر للاستيلاء عليها ، فلم يتمكنا فلجأ  عمرو  للخديعة وما زال بابن حذيفة  يخادعه حتى أخرجه إلى العريش في ألف رجل وتحصن بها ، وحاصره فيها عمرو و معاوية ونصبا عليه المنجنيق حتى نزل في ثلاثين من أصحابه فقتلوهم .

2 ـ وأسرع ( على ) فبعث واليا من قبله على مصر هو ( قيس بن سعد بن عبادة ) زعيم الأنصار و المشهور بالدهاء فدخل مصر , واستقام له أمر الناس . ولكن كان في مصر جماعات من أتباع ( عثمان ومعاوية ) منهم فرقة اعتصمت بقرية يقال لها ( خربتا ) . ورأى ( قيس ) مهادنتهم ، فاستجابوا له قائلين ( إنا لا نقاتلك فابعث عمالك ، فالأرض أرضك . لكن أقرنا على حالنا حتى ننظر إلى ما يصير أمر الناس ) . ولكن فرقة أخرى من مناصرى معاوية بزعامة مسلمة بن مخلد الانصارى تنادت للآخذ بثأر عثمان ، فبعث إليه ( قيس بن سعد ) وهو أنصارى مثله – يقول له ( ويحك؟! أعلىّ أنا تثب ؟ فوالله ما أحب أن لي ملك الشام ومصر وأنى قتلتك ) . اى خاطبه بالانتماء القبلى وأنه لا يصح لهما أن يقتتلا ، فاستجاب إليه مسلمة ، وبعث يقول له: ( أنى كاف عنك ما دمت أنت في مصر ).

3 ـ ولم يكن ( معاوية ) ليهدأ وهو يرى ( عليا ) ينتصر في الجمل ويرى قيس بن سعد بن عبادة والى ( على ) في مصر يمهد أمرها  له ، فأيقن بالهلاك أن لم يسيطر على مصر لأنه إن لم يفعل فأمامه (على) في العراق وخلفه( قيس بن سعد بن عبادة) في مصر وسيحاصرانه بينهما . فحاول بالدهاء والتهديد أن يسبر  حال ( قيس ) ويعده ويمنّيه لينضم اليه ، فكتب إليه ( قيس) بنفس الدهاء يلاطفه ويباعده ليكسب وقتا حتى تقع المواجهة بين ( على ) ومعاوية فيكون قيس شوكة فى ظهر معاوية. ولم يقتنع معاوية إذ كان فى عجلة يريد أن يستوثق من ولاء قيس له وخروجه على ( على )  فكتب لقيس : (أما بعد . فقد قرأت كتابك فلم أرك تدنو فـأعدك سلما ولم أرك تباعد فأعدك حربا . ليس مثلي يصانع المخادع ولا يتنزع للمكايد ومعه عدد الرجال وبيده أعنة الخيل . ) .فلما  قرأ  قيس كتاب معاوية ورأى أنه لا يقبل المهادنة والملاطفة كتب إليه بموقفه الصريح في الولاء ( لعلى ) والخصومة له ومن معه .

4 ـ ولما لم يفلح ( معاوية ) مع ( قيس ) عزم على الإيقاع بينه وبين ( على ) ليعزله ( على ) عن مصر . فقال ( معاوية ) لأهل الشام ( لا تسبوا قيس بن سعد ولا تدعوا إلى غزوه فإنه لنا شيعة ، يأتينا كيّس نصحه سرا , ألا ترون ما يفعل بإخوانكم الذين عنده من أهل خربتا يجرى عليهم اعطياتهم .. ويؤمن سربهم ويحسن إلى كل راكب قدم عليه منكم ) . أى يريد معاوية أن يقتنع ( على ) بأنّ قيس بن سعد يخونه . وهذا ما حدث فعلا بسبب سذاجة ( على ) . إذ أبلغ جواسيس ( على ) بالشام مقالة معاوية وأوصلوا الحديث ( لعلى ) . ولم يكتف معاوية بذلك بل اختلق كتابا زعم أنه من ( قيس بن سعد ) وادعى أن ( قيسا ) كتبه إليه ، فقرأه على أهل الشام فيه التأييد( لمعاوية ). أقتنع ( علي) بأن قيس بن سعد يماليء معاوية , وبادر ( على ) ليختبر ولاء قيس فأرسل (علي ) إليه يطالبه بقتل أهل خربتا ، ولكن (قيس بن سعد) رفض قائلا ( أتأمرني بقتال قوم كافين عنك مفرغيك لقتال عدوك؟ وانك متى حاربتهم ساعدوا عليك عدوك ) .وهكذا أفلحت خدعة معاوية ، فجعل عليا يعزل قيسا عن مصر . ويستريح معاوية من وال حازم داهية كان شوكة في جنبه بمصر .    

5 ـ وأرسل (علي) واليا آخر على مصر هو (محمد بن أبي بكر الصديق ) وهو متهم بقتل عثمان ، أى إن عليا باختياره لهذا الشاب إنما يريد إشعال حرب فى مصر . هذا علاوة على إن هذا الشاب كان متهورا ويفتقر للحنكة السياسية . وقد بادر (محمد بن أبي بكر ) بالهجوم علي أتباع معاوية ونهب دورهم فشبت بينهم الحرب ،  وعقد صلح بينهم وسمح لهم بمقتضاه محمد بن أبى بكر أن يلحقوا  بمعاوية في الشام . وبذلك أدت سياسة (محمد بن أبي بكر) إلى تعضيد معاوية في حربه ضد(علي) بإرسال مقاتلين جددا هم أصحاب (خربتا ) .  وبعد ( صفين ) وإنشغال (على ) بمتاعبه مع جنده فى العراق رأى معاوية بأن الأحوال مناسبة له لينتزع مصر من ( محمد بن أبى بكر ) فأرسل إليه من يفوقه دهاء ومقدرة حربية ودراية بأحوال مصر , وهو فاتحها الول ( عمرو بن العاص ) وانتهى الأمر بهزيمة ساحقة لابن أبى بكر وقتله وحرق جثته . وأصبحت مصر تابعة لمعاوية تحت حكم عمرو بن العاص . أضاعها ( على ) بسذاجته وسوء سياسته . وكان يمكن ( لعلى ) أن يستغل مصر فى القضاء على ( معاوية ).

رابعا : من مظاهر الفشل السياسى لعلى :

ألف باء السياسة أن تقوم بتحييد عدوك ما إستطعت ، وأن تحوّل المحايدين الى أنصار ، وألا تدخل فى حرب إلا للضرورة . وهذا نقيض ما سار عليه ( على ) . تحرّش بخصومه وأعطاهم الفرصة ليحاربوه ، بل و إختلق لنفسه خصوما من المحايدين بلا داع ، وهؤلاء المحايدون الذين جعلهم (على ) خصوما له إستحضرهم ( على ) الى جانبه وأعطاهم الفرصة ليتآمروا عليه وليقوموا بتدميره . سياسة  رائعة فى الفشل . ونعطى أمثلة : 

1 ـ رفض نصيحة المغيرة بن أبى شعبة ، أحد دُهاة العرب . جاء المغيرة لعلى بعد خلافته ونصحه ألّا يبادر بعزل معاوية وعبد الله بن عامر وعبد الله بن سعد بن أبى السرح وسائر ولاة عثمان ، وهم يحكمون الشام والعراق وخراسان ومصر وليبيا ، ونصحه المغيرة أن ينتظر حتى يأخذ منهم البيعة له بالخلافة ، وأن يضمن ولاء جنودهم له ، وبعد أن يستوثق من أستتباب نفوذه يقوم بعزلهم أو يقرر بقاءهم الى حين . هو الرأى الصواب ، ولكن رفضه ( على ) مصمما على المبادرة بعزلهم . فترجّاه المغيرة أن يعزل من يشاء ويستبقى معاوية الى حين ، فرفض (على ) مصمما على عزل معاوية والجميع . فانصرف المغيرة وأتى المغيرة لعلى فى اليوم التالى وأعلن له أنه موافق على رأى ( على ) وأن الصواب هو ما رآه ( على ) من المبادرة بعزلهم . وخرج المغيرة يقول ( نصحته فلم يقبل فغششته ) ، وصاغ ذلك شعرا وتحالف مع معاوية .

2 ـ ودخل عبد الله بن عباس على ( على ) وسأله عما قال له المغيره فحكى له ( على ) ما حدث ، فقال له ابن عباس: "أنه نصحك أولا ثم غشّك ثانيا .".وأكّد ابن عباس لابن عمه ( على ) نفس ما قاله المغيرة ، أن ينتظر دون المبادرة بعزل ولاة عثمان الى أن يضمن تثبيت سلطانه ، بل قال له : ( كان الرأى أن تخرج حين قُتل عثمان أو قبل ذلك الى مكة ، فتغلق عليك باب دارك ، فإن كانت العرب مائلة مضطرة فى أثرك فلا تجد غيرك . فأما اليوم فإن بنى أمية سيحسنون الطلب بأن يلزموك تبعة هذا الأمر ، ويشبّهون فيك على الناس . ). وهذا ما حدث فعلا . ولم يأخذ ( على ) بنصيحة ابن عباس والمغيرة فجعل من معاوية ندّا له .!!

3 ـ وفى تحويله المحايدين الى خصوم ثم الاستعانة بهم بعد أن اكتسب عداءهم نعطى مثالا بما فعله بجرير بن عبد الله البجلى . كان جرير هذا واليا لعثمان على ( همدان ) فى فارس ، وبادر ( على ) بعزله بلا مبرّر ، فاكتسب عداوته . الغريب أن ( عليا ) إستدعاه وبعثه رسولا من لدنه ليقنع معاوية بأن يبايع ( عليا ) بالخلافة ويترك إمارته . وقد حذّر الأشتر ( عليا ) من مغبّة إختيار ( جرير ) بالذات لهذه المهمة ، ولكن كان ( على ) عنيدا كالعادة فرفض النصيحة. وأرسل بجرير رسولا الى معاوية، فانضمّ جرير الى معاوية ، ممّا رفع من معنويات جُند معاوية .

4 ـ الكارثة الكبرى هى ما فعله ( على ) مع الأشعث بن قيس . أى عزل الأشعث بن قيس ثم إستجلابه اليه ليكيد له الأشعث ، فكان ( على ) مثل من يقوم بطعن نفسه بسكين ليهزم نفسه أمام معاوية . الأشعث بن قيس هذا ، كان أحد زعماء قبائل كندة اليمنية . وقد فشل فى أن يكون ملكا عليها ، ورأى فى الاسلام  فرصة لتحقيق طموحاته السياسية فأسلم  . ولكن سيطرة قريش على الأمور بعد موت النبى أضاع طموحاته فارتد ، ثم عاد الى الاسلام ، وتزوج اخت ابى بكر طمعا فى أن يأخذ دورا قياديا ، لذا شارك فى الفتوحات وقاتل فى اليرموك والقادسية ، وفى فتح أصفهان مع النعمان بن مقرن وفتح المدائن وجلولاء ونهاوند. وبسبب خطورته وزعامته وسُرعته الى الفتنة إرتعب عمر بن الخطاب حين علم أن خالد بن الوليد أجزل العطاء للأشعث بن قيس ، وخاف عمر من تحالف بين ( خالد ) و( الأشعث ) ومعهما جند الفتوحات من عرب قحطان وعرب ( ربيعة ومُضر ) وكان هذا من أسباب التعجيل بعزل خالد . وفهم الأمويون خطورة الأشعث بن قيس وعرفوا مكانته بين قومه ومهارته القيادية والحربية فولاّه عثمان على  ولاية أذربيجان ، وأطلق فيها يده . وحين تولى ( على ) الخلافة اسرع فعزل الأشعث وحقّق معه فى تصرفاته المالية فاكتسب عدوا خطير الشأن . ولم يكتف (على ) بذلك ، بل إستحضر الأشعث الى جانبه ليحارب معه . وانتهز الأشعث الفرصة ليكيد لعلى ، فأرغم عليا على الموافقة على التحكيم ، وهدد بأن يقوم بتسليم ( على ) الى معاوية إن لم يوافق . وترك ( على ) الحبل على غاربه للأشعث فجعل معظم جُند ( على ) يرغبون فى الهدنة ويوافقون على التحكيم ، وذهب الأشعث الى معاوية ليوافقه على التحكيم ، ثم  رفض الأشعث أن يكون عبد الله بن عباس ممثلا (لعلى) فى التحكيم لأنه يريد حكما من القبائل القحطانية وهو ابو موسى الأشعرى العدو الصريح ( لعلى) ، فرشّح (على ) الأشتر فرفض الأشعث . أى أدت سياسة ( على ) الى ان صار هو المأمور وصار الأشعث هو صاحب الأمر والنهى ، وإنتقم الأشعث من ( على ) شر إنتقام . 

5 ـ فشل آخر وقع فيه ( على ) ،هو استسلامه لأتباعه من الأعراب المُشاغبين.أولئك الأعراب لم يكونوا معظم جيش ( على ) بدليل أنهم حين خرجوا عليه كانوا عدة ألوف فقط من جيشه الذى جاوز مائة ألف ، وبدليل أنه إستأصلهم فى ساعات قليلة وبسهولة تامة فى موقعة النهروان .ومن هنا نفهم فشله السياسى فى تعامله معهم من البداية . كان يجب أن يأخذهم بالشدة ويستعين عليهم بقبائلهم وبزعمائهم ، ويقوم بتحجيم المتمردين من زعمائهم ، وأن يحتج عليهم بالطاعة العمياء التى يتمتع بها معاوية من جنده أهل الشام . بهذا الحزم كان يمكنه أن يسيطر عليهم ، ولكنه تردّد وضعف ، فأتاح لهم أن يتطوّر نفوذهم ، وأن يكونوا أكبر سبب فى فشله وفى فوز معاوية بالخلافة .

6 ـ وفى عام 40 وقبيل قتل (على ) أتفق ( على ) ومعاوية على توقف الحرب بينهما وأن يحتفظ كل منهما بما يسيطر عليه .  وفى تفس العام إنفضّ عن ( على ) معظم أنصاره بسبب فشله الذريع . وكان آخر من هجره وإنفض عنه ابن عمّه عبد الله بن عباس . ويبدو أن إبن عباس قد ملّ من عناد ( على ) ورفضه للنصائح ، وتدهور حاله ، وكان ابن عباس واليا على البصرة ، فهرب منها ومعه بيت المال . 

  أخيرا  :

فشل ( على ) السياسى أضاع معظم ما حصل عليه من غنائم الفتوحات ، أنفق فى خلافته الشاقة العسيرة التي استمرت حوالى 5 سنوات كل مدخرته . ومات قتيلا ، وكانت تركته 700 درهم فقط ويقال 600 ويقال 250 درهما . رقص المسكين على السّلم ، فلم ينجح فى دنيا السياسة مثل عمر وعمرو ومعاوية ، وطبقا لما نعرفه من تاريخه فقد عاش يأكل السُّحت من دماء وأموال ونكاح نساء الأمم المفتوحة المنهوبة. 

( المسكوت عنه من تاريخ الخلفاء ( الراشدين ))
هذا الكتاب : ( المسكوت عنه من تاريخ الخلفاء ( الراشدين ))
من يقرأ هذا الكتاب لن ينساه . ربما يلعن المؤلف ، وربما يمدحه ، ولكن لن يكون نفس الشخص بعد قراءة هذا الكتاب الذى يفضح الخلفاء ( الراشدين ) من خلال المكتوب عنهم فى التاريخ المعتمد لدى السنيين أنفسهم .
more