رقم ( 21 ) : الباب الثانى : الدين السّنى وصناعة تشريع الحج .
الفصل التاسع : قريش تجعل الانحلال الخلقى دينا

الباب الثانى : الدين السّنى وصناعة تشريع الحج .

الفصل التاسع :  قريش تجعل الانحلال الخلقى دينا

أولا : الدين الأرضى مؤسس على الهوى

1 ـ إن العادة السيئة للناس أنهم يُخضعون دين الله جل وعلا لأهوائهم فى تقديس البشر والحجر وفى غرائزهم الجنسية ، وإذا عبدوا ربهم جل وعلا عبدوه حسب الهوى ، يجعلون دينهم لهوا ولعبا وغرورا بالحياة الدنيا ، ويقومون بتشريعه بوحى مزيف تتحوّل به هذه الأهواء الى دين أرضى ، يسود ويقود الى التهلكة ، حيث يتدين الناس بدين مزيف مغشوش ، يموتون عليه وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا كما يقول عنهم رب العزّة : (أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلاً (102) قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً (104) أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً (105)( الكهف ). أعمالهم التى ضاع ثوابها سيرونها حسرات عليهم وهم مخلدون فى النار: ( كَذَلِكَ يُرِيهِمْ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْ النَّارِ (167)( البقرة ).   

2 ـ يجب أن نعبد الله جل وعلا وفق ما شرع الله جلّ وعلا لكي يقبل عبادتنا . وإذا عبدنا الله بغير ما شرع الله جلّ وعلا فقد حاق بنا غضب الله في الوقت الذي نظن فيه أّنّنا نرضيه ، وحين نقوم بالحج إلى بيت الله فلا بد من تحري مرضاة الله وإلا أحبط الله أعمالنا . هذه تذكرة لنا قبل أن نصمم على مناسك فى الحج ليس لها أصل في كتاب الله ـ بل لها نصيب في تواتر قريش المخالف لملة ابراهيم عليه السلام .

3 ـ والتواتر القرشى الباطل فى الحج تركّز حول الاستغلال القرشى للبيت الحرام واستغلال الحجاج ، لذا إمتلأ بيت الله الحرام بالأوثان والأصنام ، وساد الانحلال الخلقى مناسك الحج ، وحرّفت قريش فى المناسك لتتيح لها أكبر قدر من استنزاف الحجاج ماليا، وتضمن توافدهم حيث يجدون المتعة الحرام والغفران معا.  

4 ـ وبعد موت النبى عليه السلام دخلت قريش بالعرب والعالم أحداثا هائلة متتابعة ، نتخيل فيها العالم وقتها وقد كتم أنفاسه وهو يرى هذا التتابع المذهل فى الأحداث المحلية والعالمية ؛من حرب الردة الى حروب الفتوحات وتوسعها فى قارات العالم الثلاث ( آسيا وأفريقيا وأوربا ) حتى تصل من تخوم الهند والصين شرقا الى جنوب فرنسا غربا ، وفيها تمّ تدمير الامبراطورية الفارسية وتجاوزها شرقا فى أواسط آسيا ، وفى نفس الوقت هزيمة الامبراطورية الرومانية برا وبحرا ومحاولة غزو القسطنطينية واحتلال جزر البحر المتوسط ، واحتلال الاندلس ،أى غزو أوربا شرقا وجنوبا وغربا. وخلالها مقتل عمر ثم مقتل عثمان ثم الحرب الأهلية ومقتل على ثم مقتل الحسين وانتهاك المدينة ومكة والبيت الحرام ، ثم الصراع بين الأمويين والزبيريين فى موجة ثانية من الحروب الأهلية ، مع تتابع الثورات من الخوارج العرب والشيعة والموالى والأقباط والأمازيغ. وسط هذا الضجيج الهائل لم يحدث إلا تغيير طفيف فى مناسك الحج ( القرشى ) تركز فى هدم الأوثان وإلغاء طواف العُرى ، وإن لم يقض هذا على الانحلال الخلقى داخل وخارج الحرم لأنه كان ثقافة سائدة ، لذا ما لبث التواتر القرشى أن أعاد رمى الجمرات وزى الاحرام المفضوح بديلا عن طواف العُرى . ثم ما لبث أن عادت الأوثان للبيت الحرام بتقديس الحجر الأسود وإعتبار جدران الكعبة نفسها مقدسة. ثم تأكد الشرك بتقديس ما يعرف بقبر النبى والحج اليه واعتبار المدينة حرما يضاهىء بيت الله الحرام طبقا لطقوس تأليه النبى.  إنّ تأليه شخص النبى محمد هو عداء للنبى محمد والاسلام ، فهو مأمور بأن يعلن بأنّه بشر يوحى اليه بأنه لا اله إلا الله :(قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً (110)الكهف )، ويستحيل أن يزعم لنفسه تقديسا: (مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ (79) وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَإِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80)(آل عمران). ولكنّ أعداء النبى هم الذين قدّسوه وعبدوه عصيانا لله جل وعلا ولرسوله .

5 ـ ـوقد تركّز فى مكة الجاه والثروة حيث كانت مركز التجارة العالمية ورحلة الشتاء والصيف التى من أجلها إمتلكت قريش البيت الحرام وتحكمت فى الحجّاج . ولأنّ قريش كانت تحترف التجارة بالدين فقد تمسحت بالدين لتبرّر به سلوكها . وهى العادة فى أى مجتمع يسيطر عليه الدين الأرضى ، إذ يتحول القتل والقتال العادى الى جهاد ، ويتحوّل الزنا الى طقس دينى ، والاغتصاب الى سبى مشروع ويتحوّل التسلط على الناس بالظلم الى ( أمر بالمعروف ونهى عن المنكر ) . والانحلال الخلقى فى مكة إزدهر بكونها عاصمة عالمية للتجارة العالمية تفتح أبوابها للتجارة والتجّار كما تفتح أبوابها للحجّاج ، وللجميع تعطى تسهيلات المتعة الحرام بأن تجعلها ( ليس فقط حلالا ) بل فرضا دينيا . وردّا على هذا التواتر القرشى الباطل المتأثر بالانحلال الخلقى نتذكر أن رب العزة يحرّم مجرد الرفث مع الزوجة على من يقوم بالاحرام: ( الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِي يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ (197) البقرة)، كما يحرّم جلّ وعلا مجرد النيّة والارادة بالظلم والالحاد فى الحرم (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (25)(الحج ) ،  كما أنه جل وعلا يتوعّد أيضا بعذاب أليم فى الدنيا والآخرة ذلك الذى ( يحب ) أن تشيع الفاحشة فى مجتمع مؤمن: ( إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (19) النور) . ، فكيف بمن يحب أن يشيع ذلك فى البيت الحرام ؟؟!!

6 ـ وتعرضنا للإنحلال الخلقى فى مجتمع الجزيرة العربية قبل وبعد موت النبى عليه السلام ، وهذه الأرضية الاجتماعية للإنحلال الخلقى أضفت عليها قريش تشريعا دينيا يخدم مصالحها التجارية بما ترتب عليه التحريف فى مناسك الحج ، ولأن الانحلال الخلقى إستمر فقد أعاد التحريف بصورة أبشع لأنه هنا ظل محميا باسم الاسلام مع مخالفته للاسلام .  وهو ما فعلته قريش حين جعلت الانحلال الخلقى دينا .!

ثانيا  : الأسس الدينية للإنحلال الخلقى لدى قريش

إتّخاذه دينا أرضيا بأحاديث شيطانية منسوبة كذبا لله جل وعلا :

1 ـ  نكتشف من خلال القرآن الكريم أن قريش قد جعلت الفاحشة دينا وعادة اجتماعية متوارثة ونزل القرآن الكريم يردّ عليهم يندّد بتشريع هذه الفاحشة والتشويه لدين الله والافتراء عليه ، يقول جل وعلا عنهم : ( وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا ) ويرد عليهم : ( قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ (28) الأعراف )

2 ـ ويلفت النظر قوله جل وعلا فى الرد عليهم : (أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُون ). أى كانوا يتقوّلون على الله جل وعلا ( أحاديث ) تفترى بأن الله جل وعلا أمرهم بالفاحشة ، وأن هذه الفاحشة هى تراث ( سلفى ) وجدوا عليه آباءهم . لذا يكمل رب العزة الرد عليهم بالتوضيح لحقائق الاسلام :( قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ.. )(29)، ومع وجود مهتدين فقد ضلّ آخرون بالأحاديث الشيطانية ، وبسببها كانوا يحسبون أنهم مهتدون ،بينما هم أولياء الشيطان :( فَرِيقاً هَدَى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمْ الضَّلالَةُ إِنَّهُمْ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (30) الاعراف ). فالشيطان يأمر بالفحشاء والمنكر لذا تكرّر تحذير المؤمنين من مكره وخطواته وسوسته : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ (21) النور) (يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168)  إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ (169) البقرة )، (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمْ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (268)( البقرة ).

دور الأولياء فى الشفاعة :

1 ـ جدير بالذكر أن سورة الأعراف التى جاء فيها الرد على إتّخاذ قريش الفاحشة دينا ، قد بدأت بالتحذير من عبادة الأولياء فقال جل وعلا  يخاطب النبى والمؤمنين : (كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2))أى لا يتحرّج هو والمؤمنون من الدعوة بالقرآن . ثم قال جل وعلا فى الآية التالية :(اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ (3)الاعراف ) ،  فهنا أمر باتباع القرآن وحده ، يعزّزه نهى عن إتّباع غير القرآن من أحاديث إفتراها أولياء الشيطان بزعم أنها وحى الاهى . وهو التى تأسست عليها أديان المسلمين الأرضية من أحاديث شيطانية . ولذا قال جل وعلا فى ختام الآية (قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ). وفعلا ..سرعان ما نسى الصحابة ، وعادوا لملة قريش .

2 ـ والمُعادل الموضوعى لدي قريش فى تشريع الانحلال الخلقى هو شفاعة الأولياء لهم عند الله جل وعلا ، أى ينغمسون فى العصيان ويتكفّل الأولياء بالشفاعة فيهم، ومن هنا كانت عبادتهم للأولياء وقبورهم المقدسة ، أو ( الأنصاب أو النّصُب ) فى اللسان القرآنى . وهذا ينافى إخلاص الدين عقيدة وعبادة لله جل وعلا وحده القائل للنبى عليه السلام :( إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدْ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (2) أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ ) ثم قال بعدها عن قومه من قريش وغيرهم : (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ )(3) الزمر).كان دور الأولياء أن تقرّبهم لله زلفى مهما أرتكبوا من عصيان، وبالتالى يضمنون تحقيق هواهم ، وهو الجمع بين العصيان ودخول الجنة، ويأتى الرد الالهى عليهم (إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ (3) لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (4) ( الزمر )

3 ـ ولنشر هذا الإفك صنعت قريش أحاديث فى الشفاعة تفترى بها على الله جل وعلا كذبا ، ومن أجلها رفضوا القرآن الكريم وطالبوا بتبديله ليوافق أحاديثهم الضالة المفتراة : (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ ) فأمر الله جل وعلا رسوله أن يقول لهم : ( قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (16) يونس) ويعلّق  رب العزة يصفهم بالظلم العظيم وبالاجرام والافتراء وعدم الفلاح:(فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (17) يونس) . وكان ضمن تلك الأحاديث المفتراة أحاديث الشفاعة للبشر الذين كانت قريش تحيطهم بالعبادة والتقديس، لذا قال جل وعلا فى الآية التالية عنهم: ( وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ). ولأن هذا إفتراء على الله جل وعلا ، فإنه جل وعلا ـ وهو صاحب الشأن هنا ـ يأمر النبى بأن يقول مندّدا بافترائهم : ( قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَوَاتِوَلا فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18)( يونس).

 حقيقة الأمر أنهم هم الذين إختاروا بأنفسهم أشخاصا من البشر جعلوهم (الأولياء )، وبعد إتّخاذهم هؤلاء الأولياء قرّروا أن يكون أولياؤهم شفعاء عند الله جل وعلا إفتراءا عليه جلّ وعلا ، لذا يرد عليهم رب العزة بأنهم لا يملكون شيئا فى ملك الله جل وعلا ، وهم أيضا لا يعقلون:(أَمْ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ (43) الزمر ) وأن الشفاعة هى لله جل وعلا وحده وليست لبشر : ( قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِوَالأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (44) ( الزمر )، فهو وحده الولى المقصود وحده بالتقديس والعبادة ، وهو وحده الشفيع لأنه وحده خالق السماوات والأرض وما بينهما من مجرات ونجوم وكواكب وثقوب سوداء وبيضاء يحار فيها عقل الانسان :( اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِوَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (4)(السجدة ) . وقاله ربّ العزّة جل وعلا للنبى عليه السلام  فى تعامله مع عصره ومع المؤمنين أنه لا شفيع ولا ولىّ سواه جل وعلا : (وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ ..)(51)، ونرجو تدبّر الآية التالية التى تساوى بين النبى وأصحابه فى المساءلة يوم الحساب ( وَلا تَطْرُدْ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنْ الظَّالِمِينَ (52) الانعام ).

ليس هناك بشر يشفع فى بشر، لأنّ الشفاعة يوم القيامة لملائكة حفظ الأعمال ، أى أن صاحب العمل الصالح يكون عمله الصالح شفيعا له يوم القيامة ، يحمله الملكان اللذان كانا يسجلان عمله فى الدنيا، وذلك بعد إذن الرحمن ورضاه:( يونس 3)( طه 108 : 110)( مريم 87 )( الأنبياء 27 : 28 )(النجم  26) ( الزخرف 86 )( ق  17 : 22). وبمكر الشيطان فإنّ أديان المسلمين الأرضية أعادت نفس ضلالات الشفاعة البشرية عبر أحاديث كاذبة تضيف الشفاعات للنبى وللأولياء والأئمة،وبنفس الهدف القرشى ؛أن تشجّع هذه الشفاعة على الانحلال الخلقى. 

 التمسح بالمشيئة الالهية

1 ـ راج فى العصر الأموى ـ حيث حكمت قريش بدينها وثقافتها الجاهلية ـ عقيدة الجبرية السياسية ، أى إن ما يقع من شرور وظلم إنّما هو إرادة الله جل وعلا ومن يعترض على الظلم فقد إعترض على مشيئة الرحمن ، وواجه الثوار الأحرار المسلمون هذا الإفك بما كان يعرف ب ( القدرية ) أى قالوا ( لا قدر وإنّما الأمر أنف ) أى إن الظلم ليس قدرا الاهيا لا فكاك منه ولا إعتراض عليه ، بل هو فعل بشرى يجرى رغم أنوف الناس وبقهرالظالمين لهم  . وفيما بعد قام الغزالى فى ( إحياء علوم الدين ) بتقعيد هذا الإفك القرشى الأموى تحت عنوان ( وحدة الفاعل ) حيث زعم أن الله جل وعلا هو الفاعل الحقيقى لكل أفعال البشر من ظلم وعدل ومعصية وطاعة . وقد قلنا بأن هناك حتميات أربع هى مجال القضاء والقدر الالهى ، وهذه الحتميات لا مفر لكل إنسان من مواجهتها وليس مسئولا عنها يوم القيامة ، وهى تخصّ الميلاد والموت والرزق والمصائب،  . وما عداها فهو مجال حرية البشر المطلقة فى الايمان والكفر والطاعة والمعصية والرضى أو العصيان والحب والكراهية ، وسيكون كل بشرى مسئولا عن هذا يوم الحساب .

2 ـ وقد بررت قريش وقوعها فى الشرك وتحريف ملة ابراهيم والانحلال الخلقى والعصيان بأنه مشيئة الله جل وعلا ، وردّ رب العزة إفتراء قريش ( وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (35)( النحل ). أى إنها عادة سيئة للمشركين فى كل عصر قبل وبعد نزول القرآن الكريم .

3 ـ بل نبّأ رب العزة مقدما بما سيقوله الغزالى وغيره من التحجّج بالمشيئة الالهية فى تبرير العصيان والشّرك ، كما قال السابقون الضّالون ، فقال جلّ وعلا :( سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ (148) الأنعام). نلاحظ قوله جل وعلا بصيغة المضارع التى تدل على الحاضر والمستقبل :( سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا ) لذا ردّ عليهم رب العزة يتحداهم مقدما : (قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (149) قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمْ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (150)الأنعام ) ثم أورد رب العزة بعدها الوصايا العشر لتكون حجة على البشر بعد نزول القرآن الكريم : ( قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151) وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152) وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153) الانعام ) . جدير بالذكر أن المسلمين فى أديانهم الأرضية عصوا كل تلك الوصايا ، وكان ذللك منهم إتّباعا منهم لسنّة قريش فى تمسحها فى المشية الالهية تشريعا للإنحلال داخل مكة وخارجها . وبهذا رجعت مناسك الحج الجاهلية بعد موت النبى عليه السلام .

كتاب الحج بين الاسلام والمسلمين
يوضح كيفية الحج فى الاسلام وكيف زيفت قريش والمحمديون شعيرة الحج للبيت الحرام ، ويقع الكتاب فى ثلاثة أبواب تتضمن 34 فصلا .
more