رقم ( 4 )
الفصل الثاني :الاخوان المسلمون فى مصر صناعة وهابية

 

لفصل الثانى

الاخوان المسلمون فى مصر صناعة وهابية

حاجة عبد العزيز لضم مصر للوهابية

    قامت الدولة السعودية الثالثة بقيادة عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود ، وخلال سنوات التأسيس هذه كانت لعبد العزيز رؤيته الواضحة فى إرساء دعائم الدولة الثالثة حتى تستمر ولا تسقط مثل الدولتين السابقتين . وتتلخص هذه الرؤية فى التمسك بالأيديولوجية الوهابية والتسلل بها إلى مصر لتكون مصر عمقاً استراتيجياً للدولة السعودية، وتستطيع من خلالها السيطرة على العالم الإسلامى. وكانت النتيجة نجاح عبد العزيز آل سعود فى تحويل التدين المصرى القائم على التسامح حتى فى العصور الوسطى إلى تدين وهابى متشدد فى عصر حقوق الإنسان. ونأتى للسؤال التالى، وهو: كيف؟ كيف تم هذا التحول؟

مقالات متعلقة :

    فى الوقت الذى كان فيه عبد العزيز وآله لاجئين تحت رعاية آل الصباح فى الكويت كان الإمام محمد عبده فى مصر يعلن تطليقه للسياسة والثورة وتفرغه للإصلاح الدينى والفكرى، واعتبر التصوف خرافة كما وقف موقفاً حازماً من الفقه والأحاديث، واعتبر الأحاديث كلها أحاديث آحاد، وأعاد للأذهان ما قاله الأئمة المجتهدون فى عصر الازدهار الفكرى. وكان محمد عبده يأمل فى تأسيس مدرسة فكرية للاجتهاد الدينى تقوم بإصلاح عقائد المسلمين وتسهم فى تطورهم العقلى والعصرى، وكان هذا اقتناعه بعد تطليق السياسة ولعنها.

    ولم يكن محمد عبده يدرى أن حركته سيقوم بإجهاضها تلميذه رشيد رضا لصالح السعوديين وأيديولوجيتهم السلفية الثورية.

مات محمد عبده سنة 1905، وفى ذلك الوقت كان عبد العزيز قد هرب من الكويت بأربعين من "إخوانه" وبهم استولى على الرياض سنة 1902 ثم سيطر على أواسط نجد سنة 1904. وبعد موت محمد عبده فى مصر ورثه رشيد رضا. وكانت الأنباء تأتى إلى مصر بانتصارات الشاب ابن سعود ونجاحه فى ضم الإحساء والمنطقة الشرقية، ثم نجح بعدها فى ضم عسير، وحاصر الشريف حسين فى الحجاز، ثم انتزع منه الحجاز سنة 1926 ليحتل ابن سعود بعدها موقعاً متميزاً جفف به دموع الملايين الذين حزنوا على إلغاء الخلافة العثمانية. ثم قام ابن سعود بإعطاء مملكته الوليدة اسم أسرته السعودية سنة 1932 بنفس المنهج السائد فى العصور الوسطى حين يطلق الحاكم على دولته اسمه أو اسم أسرته، كالدولة الأخشيدية والطولونية والفاطمية والعباسية.

    ومع هذا النجاح لابن سعود فقد كان يدرك أن توسعه فى شبه الجزيرة العربية قد أضاف ألغاماً كثيرة تحت عباءته، فأعدى أعدائه وهم الشيعة يرتكزون فى المنطقة الشرقية، كما أن الأشراف والصوفية فى الحجاز لا ينسون ثأرهم عنده بعد ما فعله بالحجاز وأسرة الشريف حسين، وفى الخارج يقف أعداؤه الشيعة الزيدية فى اليمن بعد أن استولى على عسير، وهناك شيعة إيران والعراق والخليج وهم لا ينسون ما فعله وما سيفعله بالمشاهد الشيعية فى العراق، علاوة على أن أبناء خصمه الشريف حسين كانوا يحكمون العراق والأردن، أى أن أعدءه يطوقونه من كل الاتجاهات، ولهم جماهير فى أهم منطقتين فى مملكته، المنطقة الشرقية بجوار نجد، والحجاز، وهم لا يغفرون له أنه محا وجودهم حين جعلهم سعوديين، أى موالى وعبيداً لأسرته . وهكذا لم يعد أمام ابن سعود إلا مصر يتكئ عليها فى صراع البقاء وفى أمل الاستقرار والاستمرار أيضاً. فمن مصر جاء الخطر الذى دمر الدولة السعودية الأولى، ومنها يمكن أن يأتى الخطر الذى سيقضى على الدولة السعودية الثالثة، خصوصاً وأن التصوف هو التدين المصرى الأساسى والدعاية ضد الوهابيين على أشدها فى مصر، ومن الممكن أن تتطور ثقافة الكراهية ضد الوهابية إلى تحالف عسكرى أو سياسى خصوصاً مع طموح ابن سعود للسيطرة على الحجاز والذى كان دائماً تحت السيطرة المصرية.

    ومن الممكن أن يتفادى ابن سعود هذا الخطر المصرى، بل يستغل مصر إلى جانبه إذا تحول التدين السنى الصوفى المصرى المعتدل إلى تدين سنى وهابى متطرف. وليس ذلك مستحيلاً، فالمهم هو العثور على الشخصية المناسبة التى تقوم بخلق هذا التحول، وكان سهلاً العثور على هذه الشخصية، وهنا بدأ دور الشيخ رشيد رضا تلميذ الشيخ محمد عبده والذى خان مسيرته الاصلاحية وعمل عميلا لابن سعود.وكانت الأحوال مناسبة لذلك التحول.

    جاء الشيخ رضا إلى مصر يحمل بين جوانحه الفكر السلفى مع كراهية موروثة للمسيحيين استقاها من بيئته الشامية، ولكنه كتم هذه الثقافة الشامية داخله أثناء تبعيته لشيخه الإمام محمد عبده. وبعد موت الإمام لم يكن رشيد رضا مؤهلاً للسير فى طريق شيخه فى معاداته لشيوخ الأزهر، إذا كان محمد عبده بفكره ومصريته وأزهريته وتاريخه ومكانته وشخصيته أقدر على الصدام مع شيوخ الأزهر، فهو منهم وهم منه، وهو أعلاهم قدراً وأرجحهم عقلاً وأكبرهم علماً وأكثرهم شهرة، ومع ذلك فقد عانى منهم ما عانى فى جهاده الإصلاحى، فكيف بتلميذه الوافد من الشام إذا كان فعلاً يريد السير فى طريق شيخه الإمام؟

    على أن رشيد رضا قد يوافق فكر الإمام محمد عبده فى الهجوم على التصوف وأوليائه إلا أنه لا يوافقه فى انتقاد الأحاديث وفى انتقاده لتحجر الفكر الوهابى . وعندما مات شيخه الإمام وجد فرصته فى الزعامة ميسورة إذا تحالف مع ابن سعود، خصوصاً وقد جرت مياه كثيرة فى النهر، إذا علا نفوذ ابن سعود فى شبه الجزيرة العربية وبدأت الأحلام تتجمع حوله خصوصاً مع استقلاليته وشبابه ومقدرته، ثم بدأ تيار الشيوخ يميل إلى التعصب بعد إلغاء الخلافة وشدة التيار العلمانى فى تركيا ثم فى مصر والشام، وارتفع صوت الإلحاد متشجعاً بالليبرالية الفكرية والنفوذ الاستعمارى، وكل ذلك أثار حفيظة الشيوخ العاديين والصوفيين والسلفيين وقرب المسافة بينهم . خصوصاً وقد كان أئمة العلمانيين فى مصر من مثقفى الشوام المسيحيين والذين هاجروا لمصر بعد المذابح الطائفية في لبنان . وكان لابد أن تشتعل المعركة بين رشيد رضا وبينهم، وفى هذا الجو أتيح لرشيد رضا أن يثمر تحالفه مع ابن سعود فى نشر الفكر الوهابى بعد أن سيطر عبد العزيز على الحجاز وجعل من مناسبة الحج منبراً لنشر الدعوة وتجميع الأمصار وإعداد الكوادر وإعداد الخطط وتنفيذها. ودليلنا على ذلك أن عام 1926 الذى شهد أول موسم للحج بعد سقوط الحجاز هو أنشط الأعوام فى نشر الفكر السلفى فى مصر وخارجها.

نبذة عن أحوال مصر الثقافية فى النصف الأول من القرن العشرين

كانت التصوف هو التدين السائد تحت شعار السنة في العالم الاسلامي السني، وكانت الوهابية السنية هي الاستثناء في هذه القاعدة مع وجود انصار لها في مصر وشمال افريقيا، وكان الوهابيون ينقمون علي الشيعة والصوفية عبادتهم للأضرحة وتقديسهم للبشر ،وكان الوهابيون علي حق في ذلك ،وكان الشيعة والصوفية ينقمون علي الوهابيين استحلالهم لدماء المسلمين المسالمين وهدمهم لما يعتبرونه مقدسات ،وكانوا علي حق في ذلك.

وبين هؤلاء واولئك برز صوت مجتهد لم يلبث ان ضاع في الزحام ،هو صوت الامام محمد عبده( ت 1905 )الذي انتقد الصوفية في تخلفهم العقلي كما انتقد الوهابية في تزمتهم وتشددهم، ووضع اصولا للاسلام تخالف الايدولوجية الوهابية ،هي:

1-  قيام الايمان علي العقل.

2- تقديم العقل علي ظاهر الشرع عند التعارض بينهما .

3- الابتعاد عن التكفير .

4- التفكر بسنن الله في الخلق ،أي الاستدلال العلمي .

5- هدم السلطة الدينية والدولة الدينية  فليس في الاسلام سلطة دينية .وانما دولة مدنية ،ولم يجعل الاسلام لأي فرد او جماعة سلطة علي العقائد وتقرير الاحكام .

6- حماية الدعوة لمنع الفتنة ،فالقتال في الاسلام لرد الاعتداء وليس في التكفير والاكراه في الدين .

7- ومودة المخالفين في العقيدة .

  8- والجمع بين مصالح الدنيا والاخرة ،والنبي لم يقل بع ما تملك واتبعني ،ونهي عن الغلو في الدين ،واباح الزينة والطيبات . [الامام محمد عبده :الاسلام بين العلم والمدنية :2/124:101.سلسلة التنوير .مصر: الهيئة العامة للكتاب :1993 .]

ومع علو مكانة الامام محمد عبده الدينية والسياسية ووجوده في مصر الاكثر انفتاحا الا ان المناخ العام السائد اجهض دعوته ،فمات يلعن الشيوخ الذين اضاعوا الاسلام .

ومن عجب ان يحاط عبد العزيز باثنين من اصدقائه كلاهما ادرك هذه الحقائق الاسلامية التي ارساها محمد عبده في مطلع القرن العشرين ،والاثنان وهما حافظ وهبة و الصحفي النمساوي المسلم محمد اسد ، وقد حاولا معا اختراق حاجز المستحيل الذي اعجز الامام محمد عبده .

حافظ وهبة هو مستشار عبد العزيز آل سعود والذى رسم له سياسته من الألف الى الياء. وقد تجاهل حافظ وهبة التناقض بين منهج محمد عبده والمنهج الوهابي ،وزعم ان الامام محمد عبده كان يشيد بابن عبد الوهاب ،وقد كانت مشورة حافظ وهبة ضرورية لعبد العزيز، واقامت فجوة بين عبد العزيز والمستوى الفقهي لعلماء الوهابية المشهورين بتزمتهم وجمودهم، وحافظ وهبة بذلك حقق بدهائه بعض ما كان الامام محمد عبده يدعو اليه من نبذ الجمود والتخلص منه [الامام محمد عبده :نفس المرجع :2/174:151.].واعان عبد العزيز علي مواجهة جريئة لاحد اهم المستحيلات في عصره وهو المناخ السياسي السائد .

اما محمد اسد فقد عرف الاسلام عن طريق القرآن ،وبالفهم المباشر للايات ادرك من حقائق الاسلام ما لم يدركه علماء الاسلام في القرون الوسطي والعصر الحديث ،ومع انه لم ير الامام محمد عبده ،ولم يظهر في كتابه (الطريق الي مكة )انه قرأ شيئا من مؤلفاته الا ان الاتفاق بينهما واضح لأن منهجهما اتفق في الرجوع الي القرآن والاحتكام اليه واعتبار سنة النبي  تطبيقا للقرآن وليس مختلفة عنه او مناقضة له .

وفيما بعد قابل محمد اسد الشيخ المراغي قبل ان يكون شيخا للازهر بعدة سنوات،وننقل من كتاب محمد اسد وصفه للحركة العلمية في الازهر وتعليق الشيخ المراغي وقتها عليها ،يقول محمد اسد :

( وفي اجتهادي لأخذ صورة أكمل عما كان الاسلام يعنيه في الحق،اخذت فائدة كبري من الايضاحات والتفسيرات التي تمكن من تزويدي بها اخواني المسلمون القاهريون .وكان من ابرزهم الشيخ مصطفي المراغي ،وهو من اشهر علماء الاسلام في ذلك الوقت ،والمع علماء الجامغ الازهر ،بما لا يقبل الشك (وقد قدر له ان يصبح شيخه بعد ذلك ببضع سنوات ).ولابد انه كان في منتصف العقد الخامس من العمر في ذلك الحين ،الا ان جسمه الممتلئ العضلي كانت له خفة ابن العشرين وحيويته .وبالرغم من علمه وسعة اطلاعه ووقاره فانه كان دائما فكها بشوشا .واذا كان الشيخ المراغي تلميذا للمصلح المصري العظيم محمد عبده ،ورافق في صباه تلك الجذوة المتقدة ،جمال الدين الافغاني ،فقد كان هو نفسه مفكرا وناقدا ثاقب الرأي. انه لم يتواني قط عن ان يشعرني بأن المسلمين في العصر الحديث قد قصروا في الحق تقصيرا كبيرا عن مثل دينهم ..

دخلنا الي صحن الجامع فوجدت التلاميذ،وكانوا يرتدون الجبات الطويلة السوداء ويضعون العمامة البيضاء فوق رؤوسهم ،جالسين علي حصر من قش ،يقرأون في اصوات منخفضة في كتبهم ومخطوطاتهم ،وكانت المحاضرات تلقي في قاعة المجلس الكبري حيث كان عدد من المدرسين يجلسون ،علي حصر كذلك تحت الدعامات التي كانت تقطع القاعة في صفوف طويلة .وفي شبه دائرة امام كل مدرس كان فريق من الطلبة يجلسون القرفصاء .ولم يكن المدرس ليرفع من صوته ابدا ،وهكذا فقد كان واضحا ان الانتباه والتركيز الي اقصي الحدود كانا ضروريين بسبيل التقاط كل كلمة تخرج من فمه ،وكان لابد لي من الاعتقاد ان مثل هذا الاستغراق من شأنه ان يفضي الي المعرفة الحقيقية ،ولكن الشيخ المراغي سرعان ما بدد اوهامي حين قال : (هل تري الي هؤلاء العلماء هناك ؟انهم مثل تلك البقرات المقدسة في الهند ،التي تلتهم ،كما قيل لي ،كل ما تستطيع العثور عليه في الشوارع من اوراق مطبوعة ..اجل انهم يزدردون كل الصفحات المطبوعة من الكتب التي كتبت منذ قرون عدة ،ولكنهم لا يهضمونها .انهم لم يعودوا يفكرون لأنفسهم .انهم يقرأون ويرددون ،يقرأون ويرددون – والتلاميذ الذين يصغون اليهم لا يتعلمون الا ان يقرأوا ويرددوا ،جيلا بعد جيل .)وقاطعته قائلا : (ولكن الازهر ،يا شيخ مصطفي ،علي كل حال ،مركز العلوم الاسلامية واقدم جامعة في العالم !، ان المرء لتقع عينيه علي اسمه كل صفحة تقريبا من التاريخ الاسلامي الثقافي .وما قولك بالمفكرين ورجال الدين والفلاسفة والمؤرخين والرياضيين العظام الذين اخرجهم الازهر خلال القرون العشرة الاخيرة ؟)

فأجابني بمرارة : (لقد انقطع عن اخراجهم منذ عدة قرون .لربما كان في ذلك بعض المبالغة، ذلك ان مفكرا مستقلا كان يظهر من الازهر بين الحين والحين حتي في الازمنة الحديثة .ولكن الازهر ،بصورة عامة ،اصيب بالعقم الذي يشكو منه العالم الاسلامي كله اليوم ،وانطفأت جذوته المتقدة .ان اولئك المفكرين المسلمين المتقدمين الذين ذكرتهم لم يحلموا قط بأن افكارهم ،بعد هذه القرون العديدة ،بدلا من ان تستمر وتنمو وتتطور ،يقدر لها ان تعاد وتعاد ،كأنما هي حقائق الاسلام غير القابلة للخطأ .فلو اردنا ان نبدل حالتنا بأحسن منها ،فان علينا ان نشجع التفكير الحي بدلا من تقليد ما سبق من افكار ..)

ولقد ساعدني وصف الشيخ المراغي الحاسم للازهر علي ان ادرك سببا من اعمق اسباب الانحطاط الثقافي الذي يبهر المرء في كل مكان في العالم الاسلامي .الم يكن هذا التحجر العلمي لهذه الجامعة القديمة منعكسا ، الي درجات مختلفة في العقم الاجتماعي للحاضر الاسلامي ).[ محمد اسد :المرجع السابق :233:231]

وتولي الشيخ المراغي مشيخة الازهر وظلت المناهج العقيمة كما هي ،ولم يفلح في تغييرها لأن المناخ لم يسمح ..وعندما حاول شيخ الازهر الحالي في اواخر القرن العشرين تخفيف بعض المقررات الدراسية في الازهر ثار عليه الجميع واتهموه بما يشبه الكفر حتي اضطر في مجلس الشعب الي ان يقسم انه يفعل ذلك لمصلحة الاسلام . 

جيل الاحتجاج المصرى فى النصف الأول من القرن العشرين 

تمتع المصريون بنوع من الليبرالية السياسية بدأت مع عصر اسماعيل وتطورت بعد دستور 1923 فى قيام حركة حزبية نشطة وبرلمان نشط وانتخابات وحرية صحافة لم يعرفها العالم العربى وقتها، بل ربما حتى الآن.  الا ان هذه الليبرالية المصرية الفوقية فى دنيا السياسة حصرت العمل السياسى فى الطبقة العليا من المجتمع ومعها بعض الشرائح العليا من الطبقة الوسطى. وجاء الجيل الجديد المتعلم من أبناء الطبقة الوسطى فلم يجد له متسعا فى التوظيف أو العمل السياسى . وبجانب هذا القصور عن استيعاب الأجيال الصاعدة الطموحة كانت هناك ظاهرة أخطر هى انعدام العدل الاجتماعى ووجود فجوة هائلة بين الأغنياء والفقراء ، قيل عنه ( مجتمع النصف فى المائة ) حيث كان يملك الثروة فى مصر نصف المائة من عدد السكان. ( وهو نفس الحال الآن ). اسهم القصور الليبرالى والظلم الاجتماعى عن ظهور جيل جديد متنمر متمرد ساخط ، استغل الليبرالية السياسية وقتها فى اثراء حركات التطرف بكل أنواعها، الشيوعية ، ومصر الفتاة والاخوان المسلمين.

أى ان التخلف الثقافى فى الفكر الدينى مع حركات الاحتجاج الشبابية جهزت مناخا ملائما لنجاح الوهابية فى غزو مصر دينيا لتغير تاريخها وتاريخ العالم. كانت تلك البيئة المريضة هى المناسبة لنمو حركة الاخوان المسلمين وتطورها وتوسعها.وهى نفس البيئة التى نعيشها الآن. 

نشأة حركة الاخوان المسلمين فى مصر بين حافظ وهبة ورشيد رضا:  

وقد كان حافظ وهبة مهتما بتوثيق العلاقات بين الملك عبد العزيز ومصر ،يقول مثلا في تاريخه لأحداث الصراع بين الملك عبد العزيز والشريف حسين (وفي سبتمبر سنة 1925 وصل فضيلة الشيخ المراغي وكان رئيسا للمحكمة العليا الشرعية ومعه عبد الوهاب بك طلعت من موظفي السرايا ومعهما كتاب رقيق من جلالة ملك مصر جوابا لكتاب سلطان نجد بمناسبة عزمه علي زيارة مكة ،ويقول حافظ وهبة معبرا عن مشاعره (انه ظرف ملائم جدا وفرصة نادرة لتوثيق العلائق بين مصر ونجد ،وسلطان نجد كان ولا يزال معترفا بزعامة مصر من وجهة الثقافة والمدنية ويجب ان توطد العلائق بينه وبين مصر) [حافظ وهبة :المرجع السابق :268] .

ومصر في حد ذاتها هي المشكلة الكبري لعبد العزيز، فهي التي كانت تسيطر علي الحجاز في العصر المملوكي ،واستمر نفوذها الادبي فيه الي ان اصطدم بأخوان عبد العزيز في حادث المحمل،ومن الطبيعي ان يقوم بتطبيع العلاقات معها بعد استيلائه علي الحجاز ،ونلاحظ حرصا زائدا من  عبد العزيز ومستشاره حافظ وهبة علي استمالة مصر بكل طريقة الي السلطة الجديدة .كما ان مصر هي التي اسقطت الدولة السعودية الاولي واسهمت بالايجاب والسلب في سقوط الدولة الثانية ،وبالتالي فان مصير الدولة السعودية الثالثة لابد ان يرتبط بمصر ايجابا وسلبا ،فمصر هي اقدم دولة في المنطقة وكانت دولة عبد العزيز وقتئذ احدث دولة في المنطقة (قبل قيام اسرائيل ) ومن الممكن ان يكون العمق المصري رصيدا للكراهية والحرب ضد الدولة الجديدة يتعامل ضدها مع الاردن والعراق حيث الاشراف (فيصل وعبد الله )،وفي اليمن بالاضافة الي الشيعة في الاحساء وفي الحجاز ،فيتم بمصر ذلك الحصار وتختنق دولة عبد العزيز.

ومن الممكن ايضا ان يكون العمق المصري رصيدا لدولة عبد العزيز ترتكز عليه في مواجهة اولئك الخصوم المتربصين بها في الشرق والشمال والجنوب . ومن هنا كان لابد من كسب مصر الي جانبهم بكل وسيلة ،وقد حاول عبد العزيز ومعه مستشاره الداهية حافظ وهبة ونجح ..علي المستوي الرسمي امكن تفادي حادث المحمل ،وعلي المستوي الشعبي والثقافي بدأ انقلاب خطير منذ سنة 1926 تمثل في بداية تحويل التدين المصري السني الصوفي الي تدين سني وهابي ،ليكون العمق المصري الشعبي والحضاري امتدادا للدعوة النجدية والدولة السعودية الثالثة وكان سمسار هذا التحول في مصر اثنين من الشيوخ الشوام وهما محب الدين الخطيب ورشيد رضا وعن طريق رشيد رضا ، بالذات تسلل الفقه الوهابي الي مصر عبر الطرق الاتية .

  1. الجمعية الشرعية ،أسسها الشيخ محمود خطاب السبكي سنة 1913 علي اساس الولاء المطلق للتصوف ،وفي اخضاع الفقه للتصوف كتب الشيخ محمود السبكي اولي مؤلفاته : اغلب المسالك المحمودية في التصوف والاحكام الفقهية .في اربعة اجزاء .ولكن في 1926 اتخذت مؤلفاته طابعا جديدا تحت شعار الدفاع عن السنة ،وبالطريقة الوهابية اخذ يهاجم التصوف تحت هذا الشعار ،وفي هذا الاتجاه الجديد كتب 26 كتابا الي ان مات سنة 1931 وعلي طريقه سار ابنه امين السبكي فقد كتب في الدعوة الوهابية تسعة من الكتب وتوفي سنة 1968 ،وهكذا .

وبالنفوذ السعودي الذي ارساه رشيد رضا انتشرت مساجد الجمعية الشرعية ،وهي الان اضخم جمعية في مصر ،تسيطر على اكثر من الفي مسجد والوف الائمة الوعاظ ،وملايين الاتباع ،وكانت ولا تزال الاحتياط الاستراتيجي للاخوان المسلمين ، وهم – أي الجمعية الشرعية والاخوان المسلمون-هم مادة الفكر السلفي وحركته في المجتمع المصري

  1. جمعية انصار السنة في نفس العام 1926 اقامها الشيخ حامد الفقي احد الازهريين ،وقد انشأ له عبد العزيز آل سعود منزلا في حي عابدين كان مقرا للدعوة الوهابية ،وتخصصت هذه الجمعية في نشر الفكر الوهابي ومؤلفات ابن تيمية وابن القيم ،كما انشأ مجلة الهدي النبوي سنة1936 ولا تزال تصدر .
  2. جمعية الشبان المسلمين :أنشئت سنة 1927 بتخطيط محب الدين الخطيب رفيق الشيخ رشيد رضا الشامي في الدعوة السلفية ،وتولي رئاستها د.عبد الحميد سعيد ،والاتجاه الحركي يغلب علي هذه الجمعية وانتشرت وسط الشباب ،وكان حسن البنا هو اهم الشباب فيها ،ومع انه انشا الاخوان المسلمين علي غرار جماعة الاخوان التي انشأها عبد العزيز آل سعود،الا ان حسن البنا كان دائم التردد علي جمعية الشبان المسلمين ،وقد قتل امام ابوابها سنة 1948.
  3. جماعة الاخوان المسلمين :سنة 1928 وهي الاتجاه الحركي السياسي المسلح ،وكان انشاؤها بعناية رشيد رضا وتوجيهاته . ورشيد رضا هو الذي قام بتقديم الشاب حسن البنا الي اعيان السعودية واعمدة الدعوة الوهابية،ومنهم حافظ وهبة مستشار الملك عبد العزيز ،ومحمد نصيف اشهر اعيان جدة ،وابنه عبد الله نصيف هو الذي يتزعم رابطة العالم الاسلامي ،والتي يتغلغل من خلالها النفوذ السعودي الى العالم الاسلامي حتي اليوم ،وهي التي لعبت دورا في تجنيد الشبان للذهاب الي افغانستان وتدريبهم هناك .

ونعود الي الشيخ رشيد رضا وجهوده خارج نطاق الجمعيات لنلمح الي تأسيسه مدرسة الدعوة والارشاد لتخريج الدعاة في جزيرة الروضة سنة 1912 وكانت تجاوره مؤسسة الزهراء للسلفي الشامي محب الدين الخطيب في نفس المنطقة ،كما كانت مجلته (المنار)ذائعة الصيت متخصصة في الدعوة الوهابية والسعودية ،هذا بالإضافة الي مؤلفاته المتخصصة (كالخلافة والسنة والشيعة ) ،وفيها يدعو الي الخلافة الاسلامية، ويري في ابن سعود المؤهل الوحيد للخلافة .وعن طريق مطبعة المنار نشر رشيد رضا الكثير من مؤلفات ابن حنبل وابن تيمية وابن القيم وابن عبد الوهاب ،وتوفي رشيد رضا بعد ان قام بتوديع الامير سعود ولي العهد في ميناء السويس سنة 1935 وترك الراية يحملها وراءه تلميذه حسن البنا مؤسس الاخوان . .( د. محمد أبو الإسعاد: السعودية والإخوان المسلمون: نشر مركز الدراسات والمعلومات القانونية: 27، 41.) 

     والشيخ حسن البنا اعترف في مذكراته(الدعوة والداعية) بصلته بالشيخ حافظ وهبة والدوائر السعودية، والاستاذ جمال البنا شقيق حسن البنا يعترف بتلك الصلة بين شقيقه الاكبر ووالده والسلطات السعودية ،في كتابه (خطابات حسن البنا الشاب الي ابيه )والدكتور محمد حسين هيكل في مذكراته عن السياسة المصرية يشير الي معرفته بالشاب حسن البنا في موسم الحج سنة 1936 ،وكيف ان حسن البنا كان وثيق الصلة بالسعودية ويتلقي منها المعونة، وكان البنا يمسك بيد من حديد بميزانية الجماعة، ولذلك فان الانشقاقات عن الاخوان ارتبطت باتهام الشيخ حسن البنا بالتلاعب المالي واخفاء مصادر تمويل الجماعة عن الاعضاء الكبار في مجلس الارشاد (جمال البنا: خطابات حسن البنا الشاب إلى أبيه: 62، دار الفكر الإسلامى.د. محمد أبو الأسعاد: السعودية الإخوان المسلمون 67: 79.)

    وعن طريق الدعم السعودى استطاع البنا، وهو المدرس الإلزامى البسيط، أن ينشئ خمسين ألف شعبة للإخوان فى العمران المصرى من الإسكندرية إلى أسوان، واستطاع ألى جانب ذلك أن ينشئ التنظيم الدولى للإخوان عن طريق الفضيل الورتلانى الجزائرى المساعد الغامض لحسن البنا، وهو الذى فجر ثورة الميثاق فى اليمن لقلب الموازين فيها لصالح السعودية، وقد نجحت الثورة فى قتل الإمام يحيى، ولكن سرعان ما فشلت وتنصلت منها السعودية، ورفضت استقبال الفضيل الورتلانى بعد هربه من اليمن وظل الورتلانى فى سفينة فى البحر ترفض الموانئ العربية استقباله كراهية لدوره فى اليمن، إلى أن استطاع بعض الإخوان تهريبه فى أحد موانى لبنان، وانتقل منها إلى تركيا، ثم ظهر بعد ذلك كالرجل الثانى فى قائمة جبهة التحرير الجزائرية حين توقيع ميثاقها فى القاهرة سنة 1955 وكان بن بيلا فى ذيل القائمة. واكتشفت الحكومة المصرية بعد ما حدث فى ثورة اليمن سنة 1948 خطورة حسن البنا وتنظيمه السرى وكيف استطاع حسن البنا إجراء ثورة فى اليمن بالريموت كنترول. ولذلك كان التخلص من حسن البنا سياسياً بكشف أسرار التنظيم وما جرى إبان ذلك من حوادث عنف متبادلة.

ومعروف بعدها موقف الإخوان من تعضيد الثورة والخلاف بينهم وبين عبد الناصر، وتحالف السادات مع الإخوان، وعودة التيار الدينى السياسى للسيطرة على أجهزة الدولة فى التعليم والثقافة والإعلام مع عصر الثورة النفطية، ثم خلافهم مع السادات، وقتلهم له، واستمرار سيطرتهم فى عصر مبارك الذى آثر مطاردة الإرهاب المسلح مع التصالح مع الفكر السلفى الذى أصبح يقدم نفسه على أنه الإسلام. ..[ د.احمد  صبحي منصور :التدين المصري والتدين النجدي: 28:26.منشور في (الانسان والتطور العدد 61/ابريل مايو ويونية /1998.)].

اذا استعاض عبد العزيز آل سعود عن الاخوان البدو المشاكسين بإخوان اخرين مصريين يدينون له بالولاء ويعملون في نشر الايدولوجية الوهابية في اكبر عمق عربي واسلامي يلاصقه ،وينتظر منهم ان ينشروا هذه الدعوة الي افاق ارحب في العالم العربي –وهذا ما حدث –وينتظر منهم ايضا ان يحولوا دعوتهم الدينية الي حركة سياسية في المستقبل –وهذا ما حدث –وربما ينجحون في الوصول الي الحكم ،وبذلك تعود الدولة الاسلامية الاولي ليحكمها آل سعود بدون الفتح العسكري الذي تمنعه الدول الكبري

ومع المنهج الوهابي انطلق به الي آفاق ارحب ،حين ركز علي مصر فانطلق به الاخوان المسلمون المصريون من خلال سيطرتهم على الأزهر ومناهجه الدينية الي العالم العربي والاسلامي ،وتحول التدين المصري من التصوف الي الوهابية علي مهل خلال النصف الثاني من القرن العشرين ،خصوصا بعد أن سقطت الأيدولوجية القومية والأيدولوجية اليسارية .

باختصار صدر عبد العزيز مشكلته في المنهج الايدولوجي الوهابي الي مصر في نفس الوقت الذي قام فيه بتحجيم دور الفقهاء السعوديين مع الانفتاح علي الغرب ،وجاء البترول وعوائده الضخمة فانشغلت مملكته باستهلاك المنتجات الغربية التي لم تعد رجسا من عمل الشيطان ،بينما تسلل الفكر الوهابي الي مصر المنفتحة بطبيعتها علي الغرب ،فاصبح للفقهاء السعوديين مجال مصري وعربي اوسع يسمع لهم خارج المملكة ،واستعاضوا به عما كان لهم من نفوذ سابق داخل المملكة ،وظهر اثر ذلك التطرف والتعصب والتزمت الوهابي خارج السعودية منذ السبعينات من القرن العشرين ،حين اخذ الاخوان الجدد ( الاخوان المسلمون المصريون ) يكررون-بعد نصف قرن- ما كان يفعله اخوان نجد من قبائل مطير وعتيبة والعجمان…

رحلة داخل عقل الاخوان المسلمين

عن طريق مصر انتقلت الوهابية والنفوذ السعودى إلى شمال أفريقيا غرباً وإلى الشام واليمن والهند شرقا، ولا ينبغى هنا نسيان دور الحج بطبيعة الحال، وعزز من هذا الانتشار أن حجة الوهابيين قوية وحقيقية فى الهجوم على عبادة الأنصاب والقبور، وأن منهجهم يعتمد أساساً على الأحاديث المنسوبة للنبى عليه السلام، وأنه يقوم على عموميات لا يختلف عليها اثنان مثل صلاحية الإسلام لكل زمان ومكان وإخلاص العقيدة لله تعالى.

    وبانتقال الدعوة الوهابية إلى مصر وإجهاضها المشروع الإصلاحى التنويرى لمحمد عبده فقد تم قطع خط الرجعة على الدعوة، بحيث كان عليها أن تسير فى اتجاه واحد يمحو الاتجاه القديم للإصلاح والتنوير وبدلا منه يقوم بتجميع المسلمين نحو هدف واحد هو الحكم الاسلامى – فى الظاهر – والوهابى فى الواقع. وبدأ حسن البنا فى رفع لواء التجميع لكل المسلمين من صوفية وسنيين وقال كلمته المشهورة "هى رسالة سلفية وطرق سنية صوفية" وإذا كان مستحيلاً الجمع بين عقائد السنة والصوفية فإن البنا خرج من هذا المأزق بتأجيل البحث فى الخلافات على أساس تربية القيادات على المنهج السنى الوهابى وأثناء ذلك تظل الرايات مرفوعة عن شمولية الدعوة لكل الطوائف فى اتجاه هدف واحد هو الحكم بطبيعة الحال.

    ومن طبيعة الحركات الدينية السياسية التقية، وأهم وسائل التقية رفع الشعارات المقدسة، فكذلك فعلت الدعوة الدينية السياسية التى تمخضت عن قيام الدولة العباسية، إذ كان شعارها "الرضى من آل محمد" وكذلك فعل ويفعل الإخوان حين يرفعون شعارات سياسية مقدسة مثل "القرآن دستورنا والرسول زعيمنا" ومثل "تطبيق الشريعة" ثم "الإسلام هو الحل" وبعد هذه الشعارات التى لا خلاف عليها ليس لديهم اجتهاد فقهى يناسب العصر وليس لديهم منهج فكرى للحكم أو برنامج سياسى لعلاج المشاكل السياسية والاجتماعية لأنهم طالما أجهضوا حركة الاجتهاد الفكرى والإصلاح الدينى فى سبيل الوصول للحكم فلم يعد أمامهم إلا استرجاع الفقه التراثى ومحاولة إخضاع العصر لمقولاته، بينما ينبغى أن يكون العكس هو الصحيح،أى الاجتهاد الفقهى لمقتضيات العصر بمثل ما اجتهد الفقهاء السابقون لعصرهم. ولو كانت تلك الحركة الدينية السياسية مصرية فى جذورها لأثمرت اجتهاداً فقهياً يناسب العصر حتى مع تركيزها على الثورة والهدف السياسى، فتلك هى الطبيعة المصرية التى ترغم بعض العناصر فى الأزهر على الإتيان بجديد، مع كون الأزهر أعرق مدرسة فى الجمود العقلى.

    ولكن لأن جذور تلك الحركة ترجع إلى نجد فإنه ليس أمامها إلا اتباع الفقه الحنبلى التيمى الذى لم يجد ابن عبد الوهاب غيره أقرب إلى منهجه وإلى طبيعته المتشددة . صحيح أن هناك بعض التعديلات بين السطور كالذى نراه لدى محمد الغزالى والقرضاوى والشعراوى، ولكن هذه التعديلات القشرية لا تصل إلى المنهج الفكرى نفسه. والمنهج الفكرى للدعوة السلفية وحركتها السياسية هو تحويل الفكر إلى دين عن طريق التأويل، وهذه هى أولى الملامح الفكرية للحركة السلفية بالإضافة إلى الملمح الآخر وهو الثورية العنيفة الدموية. وبذلك يمكن أن نوجز ملامح تلك الحركة فى كلمتين، إنها "حركة ثورية معصومة" أو هكذا يعتقدون. ونتوقف قليلاً مع التأويل الذى جعل الحركة معصومة وجعل إطارها الفكرى ديناً يعاقب من يخرج عليه أو يناقشه بالقتل.

    وهذا هو التراث الحنبلى الذى تحمله الدعوة الوهابية، ويضاف إليه تراث ابن تيمية الفقهى والحركى فى الهجوم على خصومه من الصوفية والشيعة، مع أنهم كانوا فى عهده أصحاب سطوة ونفوذ، خصوصاً الصوفية. ومع ذلك فإن عنف ابن تيمية تجلى فى فتاويه التى تبيح قتل الزنديق بدون محاكمة، والزنديق ليس هو المرتد ولكنه المسلم الذى يؤمن بالله ورسوله والكتاب والسنة ولكنه يخالف المذهب السلفى فى بعض آرائه. وقد نقل هذه الآراء فقهاء الاخوان المسلمين المشهورين بالاعتدال مثل أبى بكر الجزائرى فى السعودية وسيد سابق فى مصر. (ابو بكر الجزائرى: منهاج المسلم 537،سيد سابق: فقه السنة 2، 391.) وعليه فكل من أنكر أو ناقش مقولة سلفية أو شعاراً أساسياً للاخوان المسلمين مثل تطبيق الشريعة أو الشعار الغامض "المعلوم من الدين بالضرورة" فجزاؤه القتل بدون محاكمة وبدون استتابة عندهم. والتفاصيل فى كتابنا: ( حد الردة: دراسة أصولية تاريخية ) ، وبالتالى فإن الحديث عن تداول السلطة إذا وصلوا للحكم ليس له محل من الإعراب.

    ان نفى الآخر ( المسلم غير الاخوانى وغير الوهابى ) يأتى ضمنيا فىتسمية أنفسهم بالاخوان المسلمين، فمن عداهم وليس منهم لا يكون عندهم من المسلمين ، وقد جعلوا أنفسهم ( اسلاميين ) وتجاهلوا نسبتهم للوهابية ، وبذلك فالمسلم المخالف لهم هو زنديق وليس اسلاميا. والمشكلة ان العصر يوافقهم على كونهم ( اسلاميين ) فيظلم الاسلام ويظلم الحقيقة أيضا. ولو أنصف المعاصرون لوصفوهم بوصفهم الحقيقى وهو أنهم وهابيون ، وأنهم ضد الاسلام فى فكرهم وسلوكهم وفى خلط الدين بالسياسة وفى استغلال الاسلام مطية لوصولهم للحكم، وفى تآمرهم ونفاقهم.

    وحتى فى عملهم السياسى فهم يمارسون أردأ انواع السياسة التى لا تتورع عن التآمر على الخصم والحليف معا ، ويصل التآمر الى القتل ، وقد قتلوا كل من قدروا على قتله ممن تعاون معهم ، ونآمروا على كل أحسن اليهم. تآمر الاخوان على الدولةالسعودية نفسها. استضافت السعودية الاخوان بعد أن انقلب عليهم عبد الناصر، فوفرت لهم المأوى والعمل داخل المملكة وخارجها شريطة ألا يمارسوا العمل السرى داخل المملكة ـ طبقا لسياسة عبد العزيز مؤسس الدولة السعودية. ولكن مالبث الاخوان أن أقاموا لهم بدعوى التثقيف حركة معارضة قوية للسلطة السعودية من بين أبناء الممللكة السعودية، وقد عبرت هذه الحركة عن نفسها بعد حرب الخليج ، وقابلتها السلطات السعودية بالعنف فهرب بعض زعمائها للخارج ومنهم المسعرى والفقيه، ومن رحم تلك المعارضة السعودية خرج أسامة بن لادن أكبر ارهابى فى هذا العصر.

    ضحايا الاخوان من السياسيين بدأ بأحمد ماهر والنقراشى ، ولم ينته بالسادات وأحمد شاه مسعود والملك يحيى فى اليمن. ومؤامراتهم الفاشلة ضمت كثيرين من الملوك والرؤساء ، من حسنى مبارك وأعمدة دولته ، وحتى الأمير عبد الله ـ ملك السعودية الآن، حيث تآمر على قتله الدكتور عبد الرحمن العمودى ، واحد من أكبر عملاء السعودية فى أمريكا ، ولكنه فى الخفاء تآمر على اغتيال عبد الله باتفاق مع معمر القذافى ، ويقضى الآن العمودى عقوبة السجن مدى الحياة فى أمريكا.

وهل ننسر الراحل فرج فودة الذى واجههم بالقلم فأسكتوه بالمدفع الرشاش ؟؟!!

ضحايا الاخوان المسلمين من الأقباط والمصريين والسياح يصل الى الآلاف . صحيح ان من يقوم بالقتل هم من جماعات مختلفة من الجهاد الى الجماعة الاسلامية وغيرها، الا انه توزيع أدوار أرساه حسن البنا الذى جعل له جهازا سريا للاغتيال ، وكان يسارع بالتبرؤ من الجناة اذا اكتشف أمرهم.فالاخوان يمثلون واجهة الاعتدال بينما يمثل الشباب الارهابى العصا التى تخيف النظام وتحمى بطريق غير مباشر شسوخ الحركة من الاعتقال أو أن يغتالهم النظام. وتلك الجماعات مع وجود اختلاف ظاهرى بينها الا انه لا يصل الى العقائد والأهداف ، فقد خرجت تلك الجماعات من عباءة الاخوان ، ونشأوا على تربيتها. والخلاف طبيعى داخل تلك النوعية من الحركات ، وقد اختلف الأخوان النجديون مع سيدهم ومنشىء حركتهم عبد العزيز وحاربوه . وتلك الجماعات بشبابها وعملياتها الارهابية تؤدى دورا محسوبا بدقة فى حركة الاخوان السياسية فى اللعب مع النظام فىالداخل والقوى السياسية الأخرى فى الخارج.

لو جاءت الانتخابات بعرش السلطة للاخوان اليوم ما رضوا به. معنى وصولهم بالديمقراطية للحكم انهم سيكونون عرضة للمساءلة الديمقراطية ، وهذا يوقعهم فى مأزق حاد لا يستطيعون معه الا الفشل ، فليسوا مؤهلين للحكم والمساءلة ، وليست لديهم حلول للمشاكل ، بل مجرد شعارات براقة دون مضمون واقعى أو خطة علمية عملية للاصلاح.بل هم ضد  الاصلاح أساسا. لذا يركز الاخوان على التربية لاعداد المجتمع للايمان بالحاكمية التى تعنى البيعة للحاكم بالسمع والطاعة المطلقة ، حتى يحكم باسم الله تعالى دون أن يكون مسئولا أمام (الرعية ) بل فقط أمام الله تعالى يوم القيامة. وهذه هى أسوأ أنواع الديكتاتورية.

يحتاج الاخوان الى حوالى عشرة سنوات ليصلوا بالشعب المصرى الى هذه الحالة من الغيبوبة العقلية حتى يركع لهم طائعا ليركبوا ظهره باسم الحاكمية.

عندها قل على الديمقراطية وحقوق الانسان والأقباط .. ومصر  .. السلام.

السؤال الأخير : الى متى ننتظر؟

المفجع أن الزمن يعمل لصالحهم طالما نظل ساكتين متفرقين ..