رقم ( 26 )
ج 3 ف 6 التصوف ونشر المساوىءالاجتماعية.

ج3 / ف 6  : التصوف والتطرف فى الكذب

   كتاب (التصوف والحياة الدينية فى مصر المملوكية )

الجزء الثالث : أثر التصوف فى الانحلال الأخلاقى فى مصر المملوكية 

الفصل السادس : التصوف ونشر المساوىءالاجتماعية. 

 مقدمة الفصل

   كانت الحياة الأجتماعية أكثر استجابة للتصوف وتعبيرا عنه بالقدر الذى كان فيه التصوف نفسه تعبيرا عن غرائز المجتمع واهوائه. وبين هذا التفاعل بين المجتمع والتصوف انتشرت قيم اجتماعية هابطة اعتادها الناس ولم يروها عيبا، ولاتزال آثارها ماثلة فى تصرفات المجتمعات الشرقية المسلمة حتى الآن من الكذب والقذارة والبذاءة.ونعرض لها فى هذا التقرير عن تأثر المجتمع المصرى المملوكى بالتصوف .

التصوف والتطرف فى الكذب

 الكذب فى الأديان الأرضية وتطرف التصوف فى الكذب :

1 ــ تتأسّس الأديان الأرضية عموما على أفظع أنواع الكذب ، وهو الافتراء على الله جل وعلا . ورب العزة أكّد فى آيات قرآنية كثيرة أنّ أظلم الناس هو من يفترى على الله جل وعلا كذبا ، ويُكذّب بآياته . وترى تلازم الافتراء على الله جل وعلا ورسوله وتكذيب آيات القرآن الكريم عادة سيئة فى أديان السّنّة والتشيع والتصوف .

فى السُّنة والتشيع يأتى الافتراء بأحاديث منسوبة للنبى ولله تعالى ولكبار الصحابة . أما التصوف فقد توسع بإختراع المنامات( رؤية الله جل وعلا ورؤية النبى فى المنام وفى اليقظة أيضا ) والعلم اللدنى والهاتف ، وبلا حاجة الى ان يقول أحدهم ( حدثنى فلان عن فلان ) بل ـ بجُرأة عجيبة ــ يزعمون الوحى الالهى المباشر لهم ، تبعا لعقيدتهم فى أن الله جل وعلا فى داخلهم ومُتّحد بهم ، تعالى رب العزة عن ذلك علوا كبيرا . وهذا الافتراء يتفوق به التصوف ليس فقط على دينى السُّنّة والتشيع ، بل على كل الأديان الأرضية الأخرى للمسيحيين وغيرهم .      

2 ــ بجانب هذا ، افترى أولئك الصوفية على الله كذبا حين ادعوا أنهم وحدهم من دون الناس أولياء الله وخاصته، وحين زكوا أنفسهم ، وبذلك استحقوا قول الله تعالى": (ألَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلْ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (49) انظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْماً مُبِيناً (50) النساء).

3 ــ ثم ازداد افتراء أولئك الصوفية حين ادعوا لأنفسهم مستلزمات الألوهية من علم الله وتحكمه فى الكون واتحادهم بالله وحلوله فيهم ورتبوا على ذلك حقوقا لهم على الناس فصدقوهم وقصدوهم بالعبادة والتقديس.

4 ــ ودين يقوم على التطرف فى الكذب على الله ويحظى بتقديس الناس لابد أن تتحول فيه الأكاذيب إلى فضائل طالما دارت على ألسنة الصوفية أو حول الأولياء، وعلى ذلك استشرت أكاذيب الكرامات حتى أصبح التصديق بها معلوما من الدين بالضرورة والاعتراض عليها مؤذنا بالأذى والإنكار.

5 ــ  ولسنا فى مجال التوقف مع مظاهر الكذب الدينى فى دين التصوف فقد ناقشنا عقائد التصوف ورسومه من قبل ، ولكننا نتتبع آثار ذلك الكذب الدينى فى نشر رذيلة الكذب وجعلها ظاهرة اجتماعية سيئة. فالكذب العادى لاينجو منه بشر ، بل قد يمكن القول أن الإنسان قد يعرف الكذب مع بداية معرفته نطق الكلمات ، ولكن يظل الكذب رذيلة ولايتخذ له مسميات أخرى من الكرامات والمنامات إلا فى عصور يسيطر عليها دين أرضى مؤسّس على الكذب ، خصوصا إذا كان هذا الدين الأرضى صوفيا متطرفا فى رذيلة الكذب يجعلها من أُسُس دينه وعقيدته وشريعته . التصوف والدجل الدينى.

أئمة التصوف هم أئمة الكذب من القشيرى الى الغزالى : 

1 ــ  وتاريخ التصوف هو تاريخ " الكذب الدينى" بادعاء المنامات والأساطير العاطفية والحديث مع الله والملائكة. والصفحات الأولى التى كتبت عن دين التصوف ملئت بمثل ذلك . 2 ــ وحتى من ادعى التصوف المعتدل وأنكر على الآخرين أكاذيبهم ودعاويهم فإنه وقع فيما وقعوا فيه ، فالقشيرى يروى عن ابن خفيف أحد معتدلى الصوفية قوله عن نفسه: ( ربما كنت أقرأ فى إبتداء أمرى فى ركعة واحدة عشرة آلاف مرة قل هو الله أحد، وربما كنت أقرأ فى ركعة واحدة القرآن كله، وربما كنت أصلى من الغداة إلى العصر ألف ركعة[1].

بل إن القشيرى الذى استكثر على أجلاف الصوفية فى عصره دعاويهم الكاذبة عن الاتحاد والشهود هو نفسه القائل يوجب تصديق أكاذيب زاعمى الحلول والاتحاد : (  لايصح لأحد منازلة مقام إلا بشهود إقامة الله تعالى إياه بذلك المقام ليصح بناء أمره على قاعدة صحيحة. ) [2]. أى أنه لإدعاء الصوفية فى الحلول والشهود قاعدة تتيح لأحدهم أن يدعى مايدعى ولايطالب ببينة أو دليل.

3 ــ  والغزالى فى " الاحياء" أتى بطائفة من الاساطير والمبالغات لم يكن ليجرؤ على ذكرها لولا أن العصر يتحملها ويقبلها، من ذلك قوله: (  روى أنه كان فى بنى إسرائيل رجل يتعبد فى صومعته ، فمكث كذلك زمانا طويلا، فأشرف ذات يوم فإذا بإمرأة فأفتتن بها، وهمَ فأخرج رجله لينزل إليها، فأدركه الله بسابقة . فقال: ماهذا الذى أريد أن أصنع؟ فرجعت إليه نفسه وعصمه الله تعالى، فلما أراد أن يعيد رجله إلى الصومعة ، قال : " هيهات رجل خرجت تريد أن تعصى الله تعود معى فى صومعتى؟ لايكون والله ذلك أبدا .!" ، فتركها معلقة فى الصومعة تصيبها الأمطار والرياح والثلج والشمس حتى تقطعت وسقطت ، فشكر الله له ذلك"[3].

 فكيف نصدق أن انسانا يترك رجله معلقة فى الهواء إلى أن تنقطع وتسقط؟ فكيف كان يتوضأ ويصلى ويأكل ويشرب ويذهب لدورة المياه ؟ هذه الرواية الكاذبة شأن أكاذيب الغزالى تحتاج الى بشر بلا عقول ليبتلعوا هذا الإفك المُضحك .

4 ــ  " والاحياء" محشو بأكاذيب منها ماصيغ أحاديث منسوبة للنبى أو لأنبياء سابقين معروفين أو غير معروفين ، أو لرب العزة ، أو ( لبعض الكتب المُنزّلة ) لا ندرى ما هى .   ومنها أقاصيص لايصدقها عقل طفل صغير مثل القصة السابقة عن الراهب الإسرائيلى وقدمه العاصية، ومثل هذه القصة التى يرويها عن بعضهم: ( دخلت على فتح الموصلى فرأيته قد مد كفيه يبكى حتى رأيت الدموع تنحدر من بين أصابعه، فدنوت منه فإذا دموعه قد خالطها صفرة ، فقلت ولماذا بالله يافتح بكيت الدم؟ قال : لولا أنك أحلفتنى بالله ما أخبرتك نعم بكيت دما. فقلت له: على ماذا بكيت الدموع؟ فقال على تخلفى عن واجب حق الله تعالى ، وبكيت الدم على الدموع لئلا يكون ماصحت لى الدموع، قال فرأيته عند موته فى المنام فقلت : ماصنع الله بك قال غفر لى فقلت له فما صنع فى دموعك ،قال قربنى ربى عز وجل وقال لى يافتح الدمع على ماذا قلت يارب على تخلفى عن واجب حقك قال والدم على ماذا قال على دموعى أن لاتصح لى فقال لى يافتح ما أردت بهذا كله وعزتى وجلالى لقد صعد حافظاك أربعين سنة بصحيفتك مافيها خطيئة؟[4].

الكذب فى مناقب الصوفية وفى مجالس ( الكرامات ) الصوفية

1 ــ وبازدياد التصوف ازدادت جرعة الأكاذيب الدينية وملئت بها كتب المناقب التى تخصصت فى تقديس الأشياخ الصوفية وتعداد مناقبهم ونشر كراماتهم ، وتمتعت كالعادة بتصديق الناس حتى أن بعض الحوليات التاريخية اقتبست منها الكثير من هذه الأكاذيب ورددتها معتقدة بصحتها خصوصا فى عصر الدولة البرجية .

2 ــ  ولم تكن كتب المناقب على كثرتها لتفى بإشباع شهية الصوفية فى اختلاق الأكاذيب وإنما دارت المجالسات والندوات حول أقاصيص الكرامات الصوفية وحكايات الصالحين، مما  دعا الفقيه الصوفى ابن الحاج فى القرن الثامن للإنكار على هذه الظاهرة ( مجالس الكذب الدينى ) ، فيقول: ( كثير من الناس يدعى الدين والصلاح وأنه من أهل الوصول ويأتى بحكايات من تقدم من الأكابر ويطرز بها كلامه ، وهو مع ذلك يشير إلى نفسه بلسان حاله وأن منها عنده طرفا، وبعضهم يزعم أنه حصل له من ذلك الأمر حاصل، ومنهم من له القدرة على تصنيف الحكايات والمراءى التى يختلقها من تلقاء نفسه ، ولاسيما ما ابتلى به بعضهم من دعواه رؤيا النبى عليه السلام فى المنام، وأنه أقبل عليه وخاطبه وأمره ونهاه، بل بعضهم يدعى رؤيته عليه السلام وهو فى اليقظة، وهذا باب ضيق، وقل من يقع له ذلك إلا من كان على صفة عزيز وجودها فى هذا الزمان، بل عدمت غالبا، مع أننا لاننكر من يقع له هذا من الأكابر الذين حفظهم الله تعالى فى ظواهرهم وبواطنهم.. ومنهم من يشير إلى نفسه بالكرامات وخرق العادات وهو عرى عنها بالاتصاف بضدها)"[5].

وابن الحاج ـ مثل فقهاء التصوف ــ يقرر المبدأ  ويستكثره على صوفية عصره، فلا يراهم مستحقين لدعوى رؤية النبى مناما أو يقظة ويجعلها شرفا لأشياخه، وكان شيخه  ممن يدعى رؤية الرسول يقظة، وعقدوا له مجلسا للمحاكمة بسبب ذلك [6].

 ومما قاله ابن الحاج يظهر أن الأشياخ الصوفية فى القرن الثامن كانوا يعقدون مجالس لقص أساطير الكرامات والمنامات ، ويحول الشيخ المجلس فى النهاية إلى حفل تكريم لنفسه، ثم كانت تلك الأكاذيب التى يرويها الشيخ عن نفسه تجد آذانا مصغية لا عقولا منتقدة مستنكرة.

تطرف الشعرانى فى الكذب

1 ــ   وبعد ابن الحاج وفى القرن العاشر حيث تعاظمت سيطرة التصوف وجدنا الشعرانى لايكتفى بحكاية الأكاذيب عن أشياخه وإنما يؤلفها عن نفسه فى معرض التفاخر حيث أفرد كتابا ضخما هو ( لطائف المنن ) يقول فى كل فقرة "  ومما من الله تعالى به على أن..." ومن ثنايا السطور تتكاثر أكاذيبه التى كانت تحظى بالتصديق فى عصره وإن كانت الصحوة العقلية الآن تستفظع أكاذيبه أو لا تستسيغ بلعها.. يقول مثلا :

( ومما أنعم الله تبارك وتعالى به على مساعدتى لأصحاب النوبة فى سائر أقطار الأرض فى حفظ إدراكهم من برارى وقفار ومدائن وبحار وقرى وجبال ، فأطوف بقلبى على جميع أقطار الأرض فى نحو ثلاث درج .. وصورة طوافى كل ليلة على مصر وجميع أقاليم الأرض أننى أشير بأصبعى إلى أزقة جميع المدائن والقرى والبرارى والبحار وأنا أقول الله الله الله ، فأبدأ بمصر العتيقة ثم بالقاهرة ثم بقراها حتى أصل الى مدينة غزة ، ثم إلى القدس ، ثم إلى الشام ، ثم إلى حلب ، ثم إلى بلاد العجم ، ثم إلى البلاد التركية ، ثم إلى بلاد الروم ، ثم اعدى من البحر المحيط إلى بلاد المغرب، فأطوف عليها بلدا بلدا حتى أجىء إلى الإسكندرية ، ثم أعطف منها إلى دمياط ، ثم منها إلى أقصى الصعيد ، ثم إلى بلاد الرجر وهى اقطاع جدى الخامس، ثم أعطف إلى بلاد التكرور وبلاد السكوت ، ومنها إلى بلاد النجاشى ، ثم إلى أقصى بلاد الحبشة ، وهى سفر عشر سنين ، ثم منها إلى بلاد الهند ثم إلى بلاد السند، ثم إلى بلاد الصين.  ثم ارجع إلى بلاد اليمن ثم إلى مكة ، ثم اخرج من باب العلى إلى الدرب الحجازى ،إلى بدر ، ثم إلى الصفراء، ثم إلى مدينة النبى صلى الله عليه وسلم ، فاستأذنه عند باب السورة ، ثم أدخل حتى أقف بين يديه صلى الله عليه وسلم فأصلى وأسلم عليه وعلى صاحبيه وأزور من فى البقيع .. وما أرجع إلى دارى بمصر إلا وأنا ألهث من شدة التعب كأنى كنت حاملا جبلا عظيما. ولا أعلم أحدا سبقنى إلى مثل هذا الطواف .وكان إبتداء حصول هذا المقام لى فى سنة ثلاث وثلاثين وتسعمائة فرأيت نفسى فى محفة طائرة ، فطافت بى سائر أقطار الأرض فى لحظة . وكانت تطوف بى على قبورالمشايخ من فوق أضرحتهم ، إلا ضريح سيدى أحمد البدوى وضريح سيدى إبراهيم الدسوقى .. فإن المحفة نزلت بى من تحت عتبة كل من أحدهما ومرت من تحت قبره ، ولم أعرف إلى الآن الحكمة فى تخصيص هذين الشيخين بذلك"[7]!!

2 ــ والشعرانى حين يفترى هذه الأكاذيب المضحكة كان يتيقن أن عصره لن يقابلها بالسخرية بل بالتصديق وزيادة الإعتقاد في كراماته وولايته . وذلك يؤكد الصلة الوثيقة بين الكذب والولاية الصوفية، كلما ازداد أحدهم جرأة في الكذب ومهارة فيه كلما انتشر صيته وازداد أتباعه . ومن ناحية أخرى فإن ذلك يعنى أن التصوف كرًس في عقائد الناس الإيمان بأكاذيب الصوفية بالغاً ما بلغت . والشعرانى حتى الآن – وبعد وفاته بنحو خمس قرون- لا يزال أستاذاً مقدساً عند الصوفية " وكهفهم الصمدانى وقطبهم الربانى".

 

 

 

 

 

ج3 / ف 6  : الصوفية  وتشريع ونشر الكذب 

   كتاب (التصوف والحياة الدينية فى مصر المملوكية )

الجزء الثالث : أثر التصوف فى الانحلال الأخلاقى فى مصر المملوكية 

الفصل السادس : التصوف ونشر المساوىءالاجتماعية.

الصوفية  وتشريع ونشر الكذب 

تشريع فرض الايمان بأكاذيب الصوفية

1ــ  وفي عصر الشعرانى خفت صوت العقل وعلا صوت الخرافة ومع ذلك فإن الشعرانى يحاول أن يجتث العقل من جذوره فيقول داعياً إلى تصديق أكاذيبه: ( ومما أنعم الله تبارك وتعالى به على تصديقى للصالحين في كل ما يخبرون به من الأمور التى تحيلها ( أى تُنكرها ) العقول عادة، ولم أزل أصدقهم في ذلك من حين كنت صغيراً، وكل شيئ لم أتعقله جعلته من جملة العلم الذى لم أعرفه، ولا أكذّب إلا ما خالف النصوص الصريحة أو خرق إجماع المسلمين .) ( وأجمع أهل الكشف – أى الصوفية- على أنه إذا أنكر شيئاً أخبره به أهل الكشف حرم ذلك الأمر الذى أنكره، ولو بلغ الغاية في السلوك فلا يعطى ذلك الأمر عقوبة له على إنكاره وتكذيبه أولياء الله تعالى، الذين هم آياته في الأرض ، وبهم يُرزق الناس وبهم يُمطرون وبهم يدفع الله البلاء عن عباده.) . هنا يقع الشعرانى فى أحطّ دركات الكفر حين يجعل الله جل وعلا واسطة ، أى ان الله جل وعلا يستعين بهؤلاء الصوفية فى رزق البشر و انزال المطر و دفع البلاء عن العباد . ويقع الشعرانى فى هذا الحضيض من الكفر العقيدى لكى يوجب الايمان بأكاذيب الصوفية بالغا ما بلغت .

2 ــ ويستمر الشعرانى فيحكى هذه الأكاذيب التى يوجب التصديق بها ، يقول : ( وقد جلس عندى مرة الأخ الصالح الشيخ أبو العباس الحريثى بين المغرب والعشاء في رمضان ، فقرأ بعد المغرب إلى مغيب الشفق الأحمر القرآن خمس مرات وأنا أسمعه . فلما دخلت أنا وإياه على سيدى على المرصفى حكيت له ذلك فقال : " قد وقع لى أنى قرأت القرآن في يوم وليلة ثلثمائة وستين ألف درجة كل درجة ألف ختمة " ، هذا بلفظه انتهى. ومما وقع لى أننى أحرمت بصلاة الصبح خلف الشيخ عمر الإمام بالزاوية فافتتح سورة المزمل فسبق لسانى فقرأت القرآن من أول سورة البقرة ولحقته في قراءة الركعة الأولى قبل أن يركع فأنصتُ له حتى ركع، هذا أمر شهدته من نفسى وآمنت بأنه كرامة لى من الله تعالى. ) ويصل الشعرانى الى الهدف ، فيقول : ( فإن الإيمان بكرامات الأولياء واجب حق ويجب على الولى أن يؤمن بكرامات نفسه كما يؤمن بكرامات غيره . ) [8].

أكاذيب المنامات والكرامات :

1 ــ وبالتصوف انتشرت أكاذيب المنامات تحظى بتصديق الناس ، وأصبح من العادات الإجتماعية الدينية أن من قتل مظلوماً رؤيت له منامات صالحة [9]. ومن اشتهر بالصلاح أو التصوف قيلت له منامات عن وقت مولده. وتكاثر الأمر حتى أصبح مثار السخرية، يقول السخاوى معلقًأ على حادثة من هذا النوع : (  ولم يعدم متهكماً عليه في هذا المنام حسداً وافتراءاً على عادة البطالين" [10].

وأبو المحاسن احتج بدوره على أصحاب المنامات الكاذبة [11].

وقال ابن حجر في ترجمة الشهاب الباعونى ت 816 " كان لا يعاب إلا بالإعجاب والمزيد من الكلام  والمنامات [12]. ومما يدل على أكاذيب المنامات انتشرت من الصوفية إلى غيرهم وأثارت نوعاً من الإحتجاج والسخرية لعدم تمتع أصحابها بإحترام كافٍ .

2 ــ  أما الكرامات فقد كانت خصوصية يدعيها الأولياء الصوفية وأتباعهم والمرتزقة حولهم وسدنة المقابر المقدسة . وأسهم العصر المملوكى في روايتها سرداً وتزايداً واعتقاداً.

بل لقد أصبحت رواية أكاذيب الكرامات نوعا من الشعائر الدينية، وذلك ما نفهمه من الربط بين وصف أحدهم بالصلاح والتدين مع وصفه أيضاً بسرد " حكايات الصالحين".

يقول السخاوى في ترجمة عباس السندبسطى ت 888 " كان كثير العبادة تالياً للقرآن ذاكراً لنبذة من حكايات الصالحين ونحوها معتقداً بين كثير من العامة والخاصة" [13].  فصاحبنا كان تالياً للقرآن ذاكراً الأكاذيب والكرامات متمتعاً باعتقاد الناس فيه بسبب ذلك .

 وقيل في ترجمة الشيخ محمد المغربى الشاذلى ت 911 أن الغالب عليه كان " الإطراق " " وعدم الإطالة في الكلام" أما إذا تعلق الأمر بحكايات الصالحين عندئذ يكون " بارعا في استحضار حكايات الصالحين ونقلها مسارعاً" [14].

 والمريدون على وجه الخصوص كانوا أسرع الناس في نشر أساطير أشياخهم ، فالبدر القطى ت 878 " كان يكثر من حكايات كرامات شيخه يوسف الصفى " [15]. ويقول الدسوقى " مطالعة حكايات الأولياء جند من جنود الله " [16] ، أى شعيرة دينية.

والصوفى إذا وجد مريدين اتسع أمامه المجال للأكاذيب طالما بقى فيه رمق حتى لو كان على فراش الموت، كما قيل عن تاج الدين الذاكر أنه أخبر أصحابه ليلة وفاته أن له سبعاً وعشرين سنة ما وضع جنبه إلى الأرض [17]. أى ظل واقفاً أو جالساً إلى أن حضره الموت.

     أما إذا لم يتمتع الصوفي بالشهرة اللازمة فلا حظَ له في أكاذيبه وكراماته إلا السخرية فيقول الأدفوى عن الصوفي ابن سليمان " وكانت له ادعاءات مضحكة : مثل حصر دخان المعصرة كم يجئ من قنطار، والأردب السمسم يعرفه كم حبة ، وأنه تبول في النيل فزاد ، وأنه طلع إلى بربارة ادفو وكسر التتار " [18].

التفنن فى تأليف الأكاذيب :

1 ــ على أن دين التصوف ألهب خيال الشيوخ في اختراع شتى الحكايات والنوادر، وكان يمكن أن تظل في إطار الأقاصيص العادية التى تُقال للتسلية مثل قصص ( ألف ليلة ) لولا أن الشيخ القاص كان يرويها كشعيرة دينية ثم يدعى حدوثها لنفسه ويجعل من نفسه البطل أو الراوى الذى شهد وقوع الحادثة بحذافيرها، ثم يحظى بالتصديق مهما بلغت أكاذيبه، ومهما كان مفهوما أنه مخترع لهذه الأكاذيب ، بل ربما يُمدح على إختراعه الكذب ، وتُعدُّ موهبة له . فالشيخ النصيبى القوصى ت 707 " كانت له قدرة على ارتجال الحكاية المطولة" [19]. وكان ابن المبارك الأثارى ت 806 " كثير النوادر والحكايات العجيبة أعجوبة في وضعها " [20]. وكان بدر الدين العجمى ت 873 " حلو النادرة حسن المحاضرة والمفاكهة والمذاكرة .. وكان يروى لمن يحضر عنده ويذاكره عن أعاجيب، ما اطلَع عليه في البر والبحر والأسفار بالجملة والتفصيل " [21]. أما الشيخ الفنارى ت 903 فقد كان يغلب عليه الصمت " إلا إذا ذكر صحبة مع السلطان فعند ذلك يورد الحكايات العجيبة  واللطائف الغريبة " [22].

 وقال العيني عن ابن زقاعة الصوفي " كان أعجوبة في استحضار الحكايات والمجريات " [23]. أى ما جرى من أمور وحكايات.

ويقول الصيرفى في حوادث سنة 875 " وحدث في هذه الأيام أمور تؤذن باقتراب الساعة ، منها أن السيد الشريف الوفائى – نائب قاضى الحنفية – أخبرنى بحضوره أن الأمير تمر المحمودى حاجب الحجاب شاهد عنده بغلة ولدت وعاش الولد أياماً ومات بعد ذلك " [24].

أى أن مؤرخاً قاضياً مثل الصيرفى صدق هذه الأسطورة واعتبرها إيذاناً بقيام الساعة .

ويذكر ابن العراقى أن الشيخ ابن القارئ ت 776 كان يعلل صممه بأنه سمع عذاب القبر وهو صغير. ويبدو من أسلوب ابن العراقى أنه كان يصدق هذه الأكذوبة [25].

2 ــ كان التصديق بالأكاذيب متوقفا على مكانة الشيخ بين الناس ، فإذا حظى بالاعتقاد فيه فكل أكاذيبه مقبولة وهى جزء من دينهم الصوفى . ولهذا فالويل لمن لا يحظى باعتقاد عصره وأحترام الناس له ، عندها إذا بالغ فى الكذب لم تحظ أكاذيبه بالتصديق ، بل يوصف بما يستحق. يقول أبو المحاسن عن سودون القرمانى 863 " كان مهملاً مسرفاً على نفسه وعنده فشار كبير ومجازفات في كلامه " [26]. بل وصف بعضهم بالكذاب واشتهر به مثل الخالدى [27].

3 ــ  وبانتشار التصوف قدم كثيرون إلى مصر من صوفية المشرق والمغرب ، وكانت لبعضهم حصيلته الوافرة من الحكايات الخرافية التى لا ضابط عليه في روايتها ، خصوصاً وأن المبالغة محمودة في عرف الصوفية الباحثين عن الشهرة والقادمين من أجلها.

يقول ابن حجر في ترجمة الشيخ ابن سيرين الحنفى ت 809 نزيل القاهرة " حدث وخطب بالظاهرية البرقوقية وكان يحدث عن الهند بعجائب والله أعلم بصحتها " [28]

ويذكر ابن حجر الهيثمى أنه قدم إلى مصر رجل هندى "يزعم أن عمره مائتا سنة وخمسون سنة على ما يدعيه ، بل شواهد الحال تقطع بكذبه"[29].

 ربط التصوف بالكذب

ونورد نصوصا ثلاثة تربط بين التصوف والكذب .

أولها: من فقيه صوفى مشهور هو السيوطى القائل أن من ادعى التجريد ثم أخذ يذكر الأسباب فهو مدع كذاب [30] . وبداية الطريق الصوفى لكل شيخ هو التجرد ، وكلهم ذكر الأسباب وعاش بها ، فكلهم كذابون عند السيوطى .

وثانيها:  ما كانت تنص عليه وثائق الوقف على المؤسسات الصوفية " ألا يكون معروفاً بكثرة الكذب والإفتراء على الناس "[31]. أى كانت تشترط ألا يزيد حظه كثيراً من الكذب والإفتراء ..

وثالثها: ما ذكره السخاوى فى ترجمة ابن المغيربى ت 846 "كان لا يتوقى منه يمين يحلفها فيما لا قيمة له ، مع إظهار تحرى الصدق والديانة البالغة ، ويتوسع فى المأكل والملابس من غير مادة ، ويشكو الضيق"[32].

أى يبالغ فى القسم والحلف والأيمان على التوافه ، يحلف على أى شىء تافه مع التظاهر بالتدين والصدق ، وانعكس ذلك التناقض فكان مسرفاً فى المأكل والمظهر متبرماً من ضيق الأحوال ، والمعنى الواضح فى النص أنه تعود الكذب فى لسانه وسلوكه ودينه .وتلك جناية التصوف على العصر ..أن جعل الكذب شعيرة دينية .

شيوع شهادة الزور

1 ــ ومن الطبيعى وقد أصبح الكذب فضيلة أن ينتشر شهود الزور . وشهادة الزور أساس دين التصوف .

2 ــ وقرآنيا ؛ فإن شهادة الزور تعنى أساسا  قول الزور والأكاذيب فى الدين وحضور وزيارة الأوثان والأنصاب والقبور المقدسة . يقول جل وعلا فى إجتنابها: (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنْ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30) الحج ).ويقول جل وعلا : (و الَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً (72) الفرقان ) ـ

3 ــ ولقد عكف العصر المملوكى على الأولياء الصوفية أحياءا وأمواتا ، يشهدون الزور . ونطق العصر المملوكى بأقاويل الزور كذبا يردد كرامات ومنامات وحكايات الزور . لذا لا بد أن تتأثر المحاكم بشهادات الزور ، خصوصا مع فساد النظام القضائى وفساد أعمدته من قضاة وفقهاء وفساد السُّلطة المملوكية نفسها .

4 ــ يقول أبو المحاسن فى حوادث سنة 870 أنه كان من الممكن شراء الشهادات الزور علناً وتحت سمع وبصر القضاة[33] .

وفى حوادث سنة 872 " كثر الاطلاع على شهود الزور فضرب منهم جماعة وجرس أحدهم على ثور [34] .

وفى فتنة البقاعى انبث الصوفية فى البلد وهم كثير ومعهم الجاه وهم أهل مكر وكيد وكذب لا يتوقفون فى شئ ويقولون ما لا يقبله عقل [35]  . ومع أنها مقالة البقاعى عدو الصوفية ، إلا أن شواهد الأحوال تقطع بصدق رأيه فيهم .   

      

 

 

 

  

ج3 / ف 6  : بين طهارة الاسلام ورجس الشرك ( فى القرآن والعبادات )

التصوف ونشر المساوىءالاجتماعية :  القــذارة فى دين التصوف

   كتاب (التصوف والحياة الدينية فى مصر المملوكية )

الجزء الثالث : أثر التصوف فى الانحلال الأخلاقى فى مصر المملوكية 

 الفصل السادس : التصوف ونشر المساوىءالاجتماعية . القذارة فى دين التصوف

ليس مثل الاسلام دينا فيما يخص الطهارة ، وليس مثل التصوف دينا فيما يختصُّ بالقذارة . وكما أن الاسلام هو دين الطهارة المعنوية القلبية والطهارة الحسية الجسدية فإن الأديان الأرضية على النقيض ، تؤسس على الرجس المعنوى القلبى ، و إذا تسيدت عصرا ـ كالعصر المملوكى ــ جعلت القذارة الحسية فيه من شعائرها ، والتصوف بالذات لديه غرام بالقذارة لا مثيل له . ونعطى بعض التفاصيل

 بين طهارة الاسلام ورجس الشّرك ( فى القرآن والعبادات)

مقدمة :

 للقرآن الكريم مصطلحاته الخاصة ، ففى موضوعنا مثلا لا يستعمل رب العزة مصطلح ( النظافة ) ولكن يستعمل مصطلح ( الطهارة ). لأن النظافة تفيد الطهارة الخارجية الجسدية المادية الحسية فقط ، أما ( الطهارة ) فهى تفيد طهارة النفس بإخلاص الايمان بالله جل وعلا إلاها لا إله غيره ولا تقديس لسواه ، وطهارة الجسد الحسية المادية .

وليس من مصطلحات القرآن الكريم كلمتا ( قذارة ووساخة )، لأنهما أيضا تفيدان الاستعمال الحسى الجسدى المادى . الله جل وعلا يستعمل فى كتابه العزيز مصطلحا أعمق هو ( الرجس ) و ( النًجس ) بفتح النون وفتح الجيم . ولقد آثرنا أن نستعمل المصطلح الشائع وهو القذارة لتبسيط الموضوع ولنركّز على القذارة الحسية الجسدية المادية للتصوف . فقلنا ( القذارة فى دين التصوف ). وقد عرضنا من قبل لمفهوم التزكية فى الاسلام وهى تعنى التطهُّر 

القرآن والطهارة :

1 ــ يقول جل وعلا عن القرآن إنه صُحُف مطهرة :( رَسُولٌ مِنْ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً (2) البينة ). الطهارة هنا معنوية ، من يؤمن بالقرآن فعلا يتطهر به قلبه عقيديا وجوارحه سلوكيا. وتكرّر فى القرآن الكريم أن مهمة الرسول أنه يتلو عليهم آيات القرآن الكريم ليزكيهم ــ أى يطهرهم ـ وليعلمهم الكتاب والحكمة ( الجمعة 2 ، آل عمران 164 البقرة 129 ) .

2 ــ والهداية أو الضلال مشيئة شخصية لكل فرد ، والذى يريد تزكية نفسه بالهداية يهده الله جل وعلا فيزداد بالقرآن إيمانا ، والذى يرفض الهداية والتطهر والتزكية يزداد بالقرآن كفرا وطغيانا .

يتجلى هذا بالقرآن بالذات ، فهو الميزان . يقول جل وعلا عن بعض منافقى المدينة : (وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ (125) التوبة ). أى إزداد المنافق بالقرآن رجسا الى رجسه . فالمؤمن يزداد بالقرآن إيمانا ( الأنفال2 ) ، والمنافق يزداد به ( رجسا). ويقول جل وعلا عن بعض الكفرة من أهل الكتاب الذين إزدازدا بالقرآن طغيانا وكفرا :( وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً )(64) (68)المائدة ).

هم إختاروا الضلال ، وبناءا على إختيارهم فإن الله جل وعلا لم يُرد أن يُطهّر قلوبهم : ( أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (41)المائدة ).فطهارة القلب والجوارح مشيئة فردية شخصية ، وايضا فرجس القلوب إرادة فردية شخصية. 

3 ــ ولهذا يتحول القرآن الى شفاء ورحمة للمؤمن به أو الى خسارة تزيد الظالمين خسارة على خسارتهم الأصلية ، يقول جل وعلا : (وَنُنَزِّلُ مِنْ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَاراً (82) الاسراء )( قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (44) فصلت ) (يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ (26) الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ (27) البقرة ).

4 ــ وهذا الإعجاز القرآنى هنا تحقّق ويتحقق لدى المحمديين فى أديانهم الأرضية الذين إختاروا بمحض إرادتهم أن يزدادوا رجسا على رجسهم ، مع وجود القرآن معهم . إذا واجهتهم بعشرات الآيات القرآنية التى تؤكد عدم شفاعة النبى أعلنوا كفرهم بالقرآن وسلطوا عليك نفوذهم وشياطينهم يصدون عن سبيل الله وكتابه يبغونها عوجا:( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أُوْلَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الأَشْهَادُ هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (19) هود ). 

هم فى تقديسهم للبشر والحجر( يستخدمون ) القرآن الكريم فقط فى خدمة أديانهم الشيطانية ، يتبعون ما تشابه منه إبتغاء الفتنة وإبتغاء تأويله ، يلوون عُنُق الآية لتوافق أهواءهم ويتجاهلون آيات أخرى ليجعلوا لأديانهم الأرضية مُسوّغا قرآنيا بالتزييف والتحريف . وهذا قد نبّأ به رب العزة من قبل ، فى الحديث عن المتشابه والمُحكم من القرآن الكريم : ( هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ (7) آل عمران ).

وبالتأويل واسطورة النسخ ومزاعم ما يسمى بعلوم القرآن وإفتراء الأحاديث يتّخذ المحمديون القرآن الكريم مهجورا ، يكون موجودا فى كتبهم وحفلات أسمارهم ، وممنوعا من الاحتكام اليه فى الاصلاح . والاحتكام الى القرآن الكريمة فريضة إسلامية للتصحيح والاصلاح ، يقول جل وعلا فى سياق الحديث عن مُتّبعى الأحاديث الشيطانية ووجوب الاحتكام لرب العزة فى القرآن الحكيم : (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112) وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113) أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمْ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنْ الْمُمْتَرِينَ (114)  الأنعام ) .

ولكنّ المحمديين إذا قيل فى الاحتكام الى القرآن لهم: تعالوا الى ما أنزل الله ، قالوا مقالة الكافرين : حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (170) البقرة ) ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (21) لقمان) . وهى عادة سيئة للمشركين فى كل زمان ومكان: ( بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22) وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23) الزخرف ) 

5 ــ الذى ينجو من هذا هو المؤمن بالقرآن الكريم حقا، صاحب القلب الطاهر من تقديس البشر والحجر. الذى لا تقديس فى قلبه إلّا لله جل وعلا ، ولا تأخذه فى الحق القرآنى وحق الله جل وعلا لومة لائم . هذا المؤمن بالقرآن يدخل على القرآن الكريم بقلب سليم،  يتدبره ، بلا رأى مسبق ، بل بقلب يطلب الهداية ويسعى اليها ، وبهذا القلب المخلص تأتى هداية الرحمن تزيده هدى.

وبالتالى، فهناك فريقان اشار اليهما رب العزة فى سورة العنكبوت : ضالون مفترون مكذبون لآيات الله (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (68) العنكبوت )، وفريق يسعى للهداية مجاهدا فى سبيل الحق : ( وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)العنكبوت ).

هذا المؤمن طاهر القلب يمسّ القرآن قلبه ، فالقرآن لا يمسُّ ولا تصل أنوار هدايته إلا للمطهرين من رجس الشرك ورجس تقديس البشر ، والذين هم على إستعداد للتخلى عن أى فكرة أو عقيدة يظهر لهم أنها تعارض القرآن الكريم ، والذين هم على أتم إستعداد لقبول التضحيات تمسكا بالقرآن المجيد . هؤلاء هم المطهرون قلبيا الذين تمسُّهم أنوار القرآن الكريم . يقول جل وعلا  عن الفريقين فى سورة الواقعة : ( إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ (79) الواقعة ). أما غيرهم من المؤمنين بأحاديث مفتراة فهم يجعلون رزقهم التكذيب بالقرآن الكريم ، ويقول جل وعلا يخاطبهم فى كل زمان ومكان : (أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82)  الواقعة ).

العبادات والطهارة الحسية والقلبية المعنوية

1 ــ الإسلام دين الطهارة المعنوية فى العقيدة والسلوك، ودين الطهارة الحسية بمعنى نظافة المظهر والجسد. ويتجلى هذا فى العبادات الاسلامية .

2 ــ وكان فرض الوضوء جمعا للطهارة الحسية مع الطهارة المعنوية القلبية فى الصلاة خشوعا وتقوى . يقول سبحانه وتعالى :( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمْ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ ) هذا عن الطهارة الحسية بالاغتسال، ثم يأتى التذييل فى الآية الكريمة يشير الى الطهارة القلبية : ( مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6) المائدة ). فالآية الكريمة بينت أسلوب الطهارة للصلاة من الحدث الأصغر والأكبر بالماء أو بأى شىء طيب نظيف  عند تعذر وجود الماء أو استعماله، وتردد في الآية تين الحث على الطهارة الحسية: (وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا ) والطهارة القلبية المعنوية (وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ). 

3 ــ بل أن الإسلام حرصاً منه على الطهارة حرم الإتصال الجنسى بالزوجة الحائض لأن الحيض ( أذى ) : ( وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمْ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222) البقرة ) . قوله جل وعلا : (وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ ) تعنى الطهارة الحسية لموضع نزول الحيض الذى يجب إعتزال النساء  جنسيا بسببه ، وقوله جل وعلا : ( إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ) يعنى الطهارة القلبية المعنوية بالهداية وزكاة النفس بالتقوى .

4 ــ و( الماء ) هو أصل الحياة ( وَجَعَلْنَا مِنْ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ (30)الأنبياء) (وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ )(45) النور) ، والماء أيضا الوسيلة الأساسية للطهارة . وهو ينزل من الغلاف الجوى ماءا نقيا طهورا :( وَأَنزَلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً (48) الفرقان48 ) .

والماء وسيلة الطهارة الحسية :( إِذْ يُغَشِّيكُمْ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ ). وحين يتطهر المؤمن حسيا بالماء وقلبه مُهيا للطاعة فإن الطهارة المعنوية تُصاحب الطهارة الحسية . نفهم هذا من تكملة الآية الكريمة السابقة : (وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ (11) الأنفال )   . 

الماء هو الوسيلة الحسية للطهارة الحسية ( والمعنوية أيضا لأصحاب القلوب المؤمنة ) . و( القرآن ) هو السبيل للطهارة القلبية ، وهما ( الماء والقرآن ) يجتمعان فى الصلاة ، بما يُعرف بالوضوء والغسل قبل الصلاة وبالخشوع القلبى فى تأدية الصلاة و التقوى فيما بين الصلوات ، أو بالمصطلح القرآنى ( إقامة الصلاة ) و ( المحافظة على الصلاة ) و ( إيتاء الزكاة ) أى التزكية وتطهير القلب أى النفس ( القلب والنفس والفؤاد بمعنى واحد ).

ولأن الماء والقرآن هما معا للطهارة بنوعيها المادية والقلبية فإنّ من الروعة القرآنية أن الله جل وعلا يتحدث عن الماء والقرآن معا فى سورة الفرقان. قال جل وعلا عن الماء :( وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنزَلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً (48) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَاماً وَأَنَاسِيَّ كَثِيراً (49)) وقال بعدها عن القرآن : ( وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً (50) وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً (51) فَلا تُطِعْ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً (52)الفرقان). والفرقان من أسماء القرآن .

القرآن يُحيى القلوب والنفوس (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (122) الانعام ) ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ) (24) الأنفال ) والماء أصل الحياة : ( وَجَعَلْنَا مِنْ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ (30)الأنبياء) (وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ )(45) النور) .

 5 ــ والمساجد بيوت الصلاة هى نفسها بيوت التطهر والنظافة أى تجمع بين الطهارة المعنوية والطهارة الحسية ، يقول تعالى"( لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108) التوبة ). الطهارة هنا بالمعنى الحسى والقلبى الايمانى .

  ، ونزلت آيات الوضوء والطهارة في المدينة، وكان العرب قبلها فى تأديتهم لملة ابراهيم يصلون دون طهارة ، وفي الفترة المكية نزل للرسول في بدايات الوحى: ( وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) المدثر ) . ثم بعدها فى المدينة نزل تشريع الطهارة الحسية فى سورتى النساء والمائدة .

6 ــ ويقول جل وعلا لنساء النبى :( وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (33) وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفاً خَبِيراً (34) الاحزاب ). أى بإقامة الصلاة وتزكية النفس وطاعة الله جل وعلا ورسوله يتم التخلص من الرجس ويتم التطهير.

7 ــ ويقول جل وعلا عمّن خلط عملا صالحا وآخر سيئا ويريد التوبة والتطهر : ( وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (102) خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103) التوبة ). فالزكاة المالية من سُبُل الطهارة القلبية .

 

ج3 / ف 6  : بين طهارة الاسلام ورجس الشرك : ( فى الحج وعقوبة الرجز )

التصوف ونشر المساوىءالاجتماعية :  القــذارة فى دين التصوف

   كتاب (التصوف والحياة الدينية فى مصر المملوكية )

الجزء الثالث : أثر التصوف فى الانحلال الأخلاقى فى مصر المملوكية 

 الفصل السادس : التصوف ونشر المساوىءالاجتماعية . القذارة فى دين التصوف

بين طهارة الاسلام ورجس الشرك : ( فى الحج وعقوبة الرجز )

الحج والبيت الحرام :

1 ــ لله جل وعلا حرم زمانى هو الأشهر الحُرُم الأربعة فى كل عام ( ذو الحجة ، محرم ، صفر ، ربيع الأول )( التوبة 1 : 6). ويجب تفعيل التطهر فى هذا الحرم الزمانى بإجتناب الظلم (التوبة 36 : 37). ولله جل وعلا حرم مكانى هو البيت الحرام ، بيته جل وعلا الحرام . ولله جل وعلا فى داخل كل إنسان (حرم إنسانى ) هو القلب أو النفس التى يجب أن تتطهر من تقديس البشر والحجر . والحج هو إجتماع هذه ( الحُرُمات معا ) فالذى يحج يؤدى الحج أياما معدودات الى البيت الحرام ( الحرم المكانى ) خلال الأشهر الأربعة الحرم ،( الحرم الزمانى ) ويجب في تأديته للحج ان يتطهر قلبه أو نفسه ( الحرم الانسانى ) فلا رفث ولا فسوق ولا جدال فى الحج ، يقول جل وعلا ( الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِي يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ (197) فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِي يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ (197)  البقرة ). فى الآية الكريمة ذكر للحرم الزمانى وهو (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ ) وذكر للحرم الانسانى وهو تطهير النفس بالتقوى وتطهير الجوارح بالامتناع عن الرفث والفسوق والجدال : (فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِي يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ ).

وبهذا يكون الحج الاسلامى وسيلة للتطهر ، لمن أراد أن يتطهّر.

2 ـ ولكن هناك على المسلمين ــ إذا كانوا فعلا مسلمين يحبون أن يتطهروا ــ أن يقوموا لبيت الله الحرام بما يستحق . وهذا مع الأسف ما لم يحدث ، لأن المسلمين معظمهم محمديون تمتلىء قلوبهم بالرجس وليس بالتطهر القلبى .

2 / 1 : يجب تطهير البيت الحرام من رجس الأوثان . ويجب أن يكون مثابة للناس وأمنا . وهذه هى أوامر رب العزة لابراهيم واسماعيل : ( وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125) البقرة ) ( فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً )97) آل عمران ). هذا البيت الحرام هو للناس المُسالمين كافة ، لآنه جل وعلا هو رب الناس كافة . وله جل وعلا بيت وحيد فى هذه الكرة الأرضية هو الكعبة ، تقوم حوله مكة ( ام القرى ) مركز الكرة الأرضية . ومنها كانت بعثة خاتم النبيين عليه وعليهم السلام ، واليها يتوجه المؤمنون نحوها بالصلاة ، واليها يقصدها المؤمنون المسالمون فى الحج . وبالتالى فإنه يحرم صدُّ الناس المُسالمين عن الحج وزيارة المسجد الحرام ، يقول جل وعلا :( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِي وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (25) الحج ) . هنا التأكيد على أن بيت الله الحرام هو للناس جميعا كافة وسواء ، العاكف المقيم والباد اى الذى يقطع البوادى قادما اليه . وأن الذى يصدّ الناس المسالمين عن الحج لهذا البيت يرتكب ظُلما هائلا بشعا ، خصوصا وأن الله جل وعلا يعاقب على مجرد إرادة الظلم والالحاد فى الحرم (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ). والمُسالم يعنى الذى يكون بسلوكه مسالما ، ويجب أن يكون آمنا إذا دخل بيت الله الحرام ، لا يتعرض له أحد ، ولا يسأله أحد عن دينه وعقيدته ، لأن للدين يوما هو يوم الدين الذى سيحاسب فيه رب العزة الناس على إختيارهم الدينى . الذى يهمّ الناس فى التعامل بينهم أن يكونوا مُسالمين ، أى مسلمين بالاسلام الظاهرى الذى يعنى السلام . ومعنى الكفر والشرك فى التعامل بين الناس هو الاعتداء الحربى خصوصا بالتذرع بدين أرضى . كما حدث من كفار قريش ونزلت بسبب إعتدائهم سورة التوبة فى الجزء الأول منها ، من قوله جل وعلا ( بَرَاءَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ (1) فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ (2) وَأَذَانٌ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرْ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (3)) الى قوله جل وعلا ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28) التوبة ). وفى هذه الآيات الكريمة نتعرف على مظاهر الكفر السلوكى الذى به نعرف الكافرين الظالمين ونتعامل معهم على أساس انهم كفرة معتدون ظالمون ناكثون للعهد ، فإن تابوا عن ذلك توبة ظاهرية كانت تلك التوبة إقامة للصلاة وإيتاء للتزكية أى التطهر ( التوبة 5 ، 11 ). وسبق أن معنى إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة لا تعنى مجرد تأدية الصلاة أو إعطاء الزكاة المالية بل التقوى والتطهر .

وبعد هزيمة أولئك المعتدين ، وبعد دخول الناس فى دين الله ( السلام ) أفواجا ، أوجب رب العزة على المسلمين منع المشركين المعتدين من دخول البيت الحرام ، ووصفهم رب العزة بأنهم ( نجس ) بفتح النون وفتح الجيم : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28) التوبة ).

المحمديون السنيون يعتبرون الأسرة السعودية مُمثلة للاسلام والقائمة على رعاية البيت الحرام . بينما الواجب إسلاميا هو قتال هذه الأسرة وتحرير المسجد الحرام من سيطرتها ليكون مفتوحا للبشر المسالمين جميها ومثابة للناس وأمنا . إذ لا يصح لأرباب دين أرضى مشهور بالاعتداء والارهاب أن يسيطروا على بيت الله الحرام الذى جعله رب العزة مثابة للناس وأمنا ، وجعله للبشر جميعا سواء ، العاكف فيه والقادم اليه.. لا يصح لمن وصفهم رب العزة بأنهم ( نجس ) و ( رجس ) أن يتحكموا فى بيت الله الحرام منبع الطُّهر .

عدم طهارة المشرك

  إن الله جل وعلا يصف المنافقين بأنهم رجس : ( سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (95) التوبة ). وهذا ينطبق على كل من يزعم الاسلام وهو يطوى قلبه على أرجاس دينى أرضى .

والله جل وعلا يجعل الرجس على الذين لا يؤمنون والذين لا يعقلون ( كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (125)الانعام )( وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (100) يونس ). والمشرك الكافر عديم العقل لأنه يعبد البشر الأحياء الذين يتبرزون ويتبولون ويمرضون ، ويعبد بشرا موتى تحولوا الى (جيف ) قذرة نتنة ورماد وعظام نخرة . يعبد ترابا ، ويتبرك بأضرحة وأنصاب مقامة من طوب وحجر وأسمنت وزجاج وحديد وطلاء . هذا المشرك الكافر يمتلىء قلبه رجسا . هذا المشرك يختلق اسماءا ثم يعبدها ، وتصير لها فى قلبه مهابة لا يجرؤ على المساس بها ، مع أنها مجرد أسماء قام الأسلاف بتسميتها وما أنزل الله جل وعلا بها من سلطان . وقديما قال نبى الله هود لقومه ( عاد ) :( قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ (71) الاعراف ). والمحمديون يعبدون أسماء ما أنزل الله جل وعلا بها من سلطان . جرّب أن تقف وتلعن ( ابن برزويه ) فلن يلتفت اليك أحد . ولكن إذا رفعت صوتك تلعن ( البخارى ) فربما يقتلونك ، مع ان إسم البخارى مصطنع لمن كان إسمه الحقيقى ابن برزدويه المجوسى من مدينة بخارى فى أوزبكستان الحالية . فالمحمديون يقدسون إسم البخارى ويرتعبون من المساس به . وهذا هو رجس ما أنزل الله جل وعلا به من سلطان.

الله جل وعلا يصف كل الأوثان والأنصاب بأنها رجس ، ويأمر بإجتنابها : ( فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنْ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30) الحج )( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90)  المائدة ). والمحمديون على الأضرحة يعكفون . وفى مقدمتها القبور المقدسة عندهم المنسوبة للنبى ولعلى والحسين وزينب ومن يسمونهم آل البيت والأئمة والأولياء الصوفية . هى عند الله جل وعلا رجس من عمل الشيطان ، وهى عندهم قداسة . لذا فإن الله جل وعلا يجعل الرجس على الذين لا يعقلون والذين لا يؤمنون .

اخيرا : وماذا عن التصوف بالذات

أغلب الصوفية مُسالمون ، أى مُسلمون من حيث الظاهر ،أى السلام السلوكى . ولكنهم متطرفون فى الكفر القلبى العقيدى سواء فى عقائدهم أو فى إنحلالهم الخلقى أو فى تقديسهم للبشر والحجر والقبور المقدسة . وبالتالى فإن التصوف إذا سيطر على عصر أو قوم إنحدر بهم الى رجس عقيدى قلبى لا قاع له ، والى قذارة حسية لا مثيل لها . وسبق التعرض للتصوف وعقائده وعباداته وإنحلاله الخلقى ، وسنتوقف هنا مع نشره للقذارة تبعا لرجسه العقيدى الأخلاقى .

ولكن قبل ذلك ، وما دمنا مع القرآن الكريم وهديه الطاهر فإننا نضع بعض الملاحظات قبل أن نعانى القرف من قذارة التصوف والصوفية :

1 ـ إن ( الرجس ) الذى كان يقع فيه المشركون الكفرة كانت تأتى أحيانا عقوبته ب ( الرجز) .

هذا ( الرجز) قد يكون هلاكا مٌميتا كما حدث لقوم لوط أشهر الُصابين بالشذوذ الجنسى ، يقول جل وعلا فى قصصهم : ( إِنَّا مُنزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنْ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (34) وَلَقَد تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (35) العنكبوت ).

وقد يكون عذابا مؤقتا للإختبار ، كما حدث لفرعون وقومه : ( فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (133) وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمْ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (134) الأعراف ) كشف الله جل وعلا عنهم الرجز فعادوا الى عتوهم وكفرهم فكان الانتقام بالاغراق :( فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمْ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ (135) فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (136) الاعراف ). وحدث نفس العقاب بالرجز لبنى اسرائيل حين بدلوا الأمر الالهى لهم :( فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنْ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (59) البقرة ) ( وَإِذْ قِيلَ لَهُمْ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (161) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِنْ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ (162) الاعراف )

2 ــ وهذا الرجز عذاب يتوعّد الله جل وعلا أولئك الذين يسعون فى كتاب الله معاجزين ، كما يفعل السنيون الذين يتهمون القرآن بأنه مُبهم مُحتاج للتفسير ، وموجز محتاج للتفصيل ، وناقص محتاج للتكميل ، وأن سنتهم البخارية هى التى تفسّر وتكمل و تشرح وتفصّل القرآن الكريم . أولئك الذين يحملون هذا الرجس فى قلوبهم وتتحرّك به جوارحهم يتوعدهم رب العزة بعذاب دنيوى من رجز أليم ، يقول جل وعلا ( وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (5) سبأ ). ويقول جل وعلا عن الهدى القرآنى أنه ( هدى ) ويتوعد من يكفر به بعذاب من رجز أليم : ( هَذَا هُدًى وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (11) الجاثية ).

وانظر حولك لترى العذاب الرجزى يكتوى به المحمديون فى الشرق الأوسط وشمال أفريقيا .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

ج3 / ف 6  :  القذارة أصل فى دين التصوف

التصوف ونشر المساوىءالاجتماعية :  القــذارة فى دين التصوف

   كتاب (التصوف والحياة الدينية فى مصر المملوكية )

الجزء الثالث : أثر التصوف فى الانحلال الأخلاقى فى مصر المملوكية 

 الفصل السادس : التصوف ونشر المساوىءالاجتماعية . القذارة أصل فى دين التصوف

 القذارة أصل فى دين التصوف:ــ  

مقدمة

1 ــ التصوف هبط بمصر عن الطهارة الاسلامية والنظافة الفرعونية .

إذا كان المثل الأعلى للمسلم أن يكون من الرجال الذين يحبون أن يطهروا والله يحب المطهرين فإن المثل الأعلى للتصوف هو المجذوب بأسماله البالية وعورته الظاهرة ورائحته المزعجة والحشرات التى ترتع على جسده كما كان معهوداً في مصر إلى عهد قريب.    وعلى قدر عناية دين الإسلام بالطهارة اعتنى دين التصوف بالقذارة وجعلها من رسومه الدينية منذ بدأ التصوف في القرن الثالث الهجرى.

2 ـ التصوف هبط بمصر أيضا عما إعتادته فى تاريخها الفرعونى القديم من عناية بالنظافة .

 في كتابه (الحياة اليومية  في مصر في عهد الرعامسة) يقول بيير مونتير ( كان قدماء المصريين يعنون عناية كبيرة بالنظافة، ويهتمون بأبدانهم وملابسهم ومكانسهم....كان المصريون يغتسلون عدة مرات في اليوم، في الصباح عند الاستيقاظ من النوم، وقبل تناول الوجبات الرئيسية، وبعد الفراغ منها.... كانت أدوات الإغتسال تتكون من: طست وابريق ذي صنبور توضع عادة تحت دائرة مستديرة ذات ثلاثة أرجل محملة بألوان الطعام... ويعتقد انه كان يوضع ( ملح ) النطرون في مياه الأبريق... أما مياه مضمضة الفم، فكانت تعقم بنوعٍ أخر من الملح يسمى "بد" . وأطلق اسم "سوابو" المشتقة من كلمة "اواب"، بمعنى نظيف أو نقي على معجون جاف يختوي على مادة للترغية والتنظيف وإزالة الشحم... وبعد أول إغتسال، يتوجه الرجال إلى الحلاقين وإلى مقلمي أظافر الأيدي والأرجل، كذلك يتجه النساء الى محلات التزيين... وتولى الحلاق حلاقة الذقن ويقص الشعر مستعملا موسي منحني السلاح ذا كلابة... ويخرج الرجل من هناك نظيفا منتعشا.. ويأتي بعد ذلك دور الأخصائيين والصيادلة الذين كانوا يحملون الروائح العطرية والطيب في آوان مختومة من البللور أو المرمر أو  الزجاج الطبيعي، كما يحملون مساحيق خضراء وسوداء لتجميل العيون داخل اكياس صغيرة ربطت من أعلى بأشرطة. وكانت العيون الكحيلة المستطيلة تروق المصريين. كما كانت تلك المساحيق وسيلتهم لحماية العيون شديدة الحساسية من أنواع الرمد.. ولم تكن تنقصهم مواد التجميل... ولتفادي الرائحة الكريهة التي تنبعث من الجسم حين تشتد الحرارة، كانوا يدلكون أنفسهم عدة ايام متتالية بعطر اساسه زيت النفط ويسمى "سونتي".. ومن البخور المسمى "انتي" الذي كان يخلط بحبوب غير معروفة وبمادة عطرية أخرى... وكان لديهم منتجات للتجميل ولتجديد البشرة ولتقوية الجسم، وأخرى لإزالة البقع وحبوب الوجه. فكانوا يستعملون مثلا لتقوية البشرة مسحوق المرمر أو مسحوث النترون أو ملح الشمال ممزوجا بالعسل، كما توجد وصفات أخرى اساس تركيبها لبن الأتان. أما جلد الرأس، فقد كانوا يعنون به عناية كبيرة دائما، تتمثل تارة في انتزاع الشعر الأشيب أو تسرب الشيب الى شعر الحواجب، وتارة أخرى في العمل على تلافي الصلع أو إعادة نمو الشعر. وكانوا يعلمون ان زيت الخروع أحسن علاج لذلك. كما كانوا يعرفون كيف يصلون الى إزالة شعر الجسم .. كان أفراد الطبقة الفقيرة يذهبون الى حلاق يجلس تحت ظلال شجرة في العراء، وانظارا لدورهم، كانو يتحدثون أو يبقون جالسون دون ان يتمددوا، فيحنون ظهورهم ويضعون رؤوسهم بين أيديهم.. والعميل الذي يصيبه الدور يجلس على مقعد ذي ثلاثة أرجل ويسلم رأسه للخلاق فيجعله املس كحجر على شاطئ البحر. أما زينة المرأة الغنية كان حدثا هاما مثل زينة زوجها. وأما الزوجة المتوسطة الحال والتي كان زوجها فلاحا ومالكا صغيرا فكانت تقوم بعمل زينتها بنفسها.. وكانت إذا قامت لقضاء امر أفسد زينتها في الطريق، اضطرت إالى إعادة الكرة من جديد)- ( الحياة اليومية 93-97 بيير مونتيه . ترجمة عزيز مرقص منصور . الدار المصرية للتأليف والترجمة . 1965 ).

3 ــ إعتنق المصريون التصوف وسيطر عليهم فى العصر المملوكى فتقدست لديهم القذارة .

الكرامات الصوفية فى الدفاع عن القذارة:

 اشتهر رواد التصوف الأوائل بقذارة المظهر،يحكى القشيرى في رسالته أن زيتونة كانت تخدم أبا الحسن النورى وأبا حمزة والجنيد، وفي يوم بارد حملت للنورى طعامه من خبز ولبن وكان النورى يقلب فحم الموقد بيده فأخذ يأكل واللبن يسيل على يديه مختلطاً بسواد الفحم ، فقالت الخادمة – في نفسها– حسبما تحكى القصة " ما أقذر أولياءك  يا رب ما فيهم أحد نظيف "  وتنهى الحكاية باتهام الخادمة ظلماً بالسرقة وتدخل النورى لإنقاذها ولا ينسى أن ينبها إلى أن ذلك عقوبة لها لأنها اعترضت على قذارته" وقال لها لا تقولين بعدها ما أقذر أولياءك ، فقالت تبت إلى الله " [36].

أى أن الصوفية منذ البداية ألفوا كرامات لتدافع عن اتهامهم بالقذارة .

القذارة دليل التدين الصوفى 

1 ــ ثم انتشر التصوف منذ عصر الغزالى لأنه يعنى اتباع الهوى في كل شئ والراحة من كل شئ ومنها العناية بالنظافة والطهارة . وبه تم قلب الموازين فبعد أن كانت طريقة الإسلام هى طهارة الباطن والظاهر أصبحت سمة التصوف قذارة المظهر والمخبر، بل أصبح في عصر الغزالى من مظاهر الرياء بالصلاح والتقوى أن يتقذر الإنسان في شكله وهيئته ؛ فالغزالى يعد من مظاهر الرياء الديني القذارة فى الهيئة والزى ، يقول :( أما الهيئة فتشعيث شعر الرأس وحلق الشارب.. وغلظ الثياب ولبس الصوف وتشميرها. وترك تنظيف الثوب وتركه مخرقًاً ، كل ذلك يرائى به ليظهر من نفسه أنه يتبع للسنة فيه ومقتد فيه بعباد الله الصالحين. ) ، فأتباع السنة والإقتداء بعباد الله الصالحين معناه عند الغزالى والتصوف تشعيث شعر الرأس وقذارة الثوب وتغليظه وتمزيقه.

 2 ــ ثم يقول الغزالى عن أولئك المرائين بالقذارة الصوفية: (  فمنهم من يطلب المنزلة عند أهل الصلاح بإظهار الزهد ،فيلبس الثياب الممزقة الوسخة القصيرة الغليظة ليرائى بغلظتها ووسخها وقصرها وتخريقها أنه غير مكترث بالدنيا  )" .

2 ــ  وأراد بعض المترفين الدخول في دين التصوف فإعتبرهم الغزالى ( مُرائين ) لأنهم لم يكونوا صادقين فى ( قذارتهم ) أى فى المظهر القذر الذى يجب أن يكون عليه الصوفى الصادق . وهم – على حد قول الغزالى – "(  شق عليهم الإقتداء بهم في بذاءة الثياب والرضا بالدون، فأرادوا أن يتظاهروا بالتصوف ولم يجدوا بداً من التزين بهم ، فتركوا الحرير والأبريسم وطلبوا المرقعات النفيسة والفوط الرقيقة والسجادات المصبغة ولبسوا من الثياب ما هو أرفع قيمة من الحرير والأبريسم ، وظن أحدهم مع ذلك أنه متصوف بمجرد لون الثوب وكونه مرقعا)  [37].   ويروى الغزالى أنه قيل للحسن البصرى : (  لم لا تغسل ثيابك؟ قال: الأمر أعجل من ذلك" وقيل لداوود الطائى " أو سرحت لحيتك؟ قال إنى إذن لفارغ " [38].

تشريع القذارة :

 1 ــ  وحتى ينشر الصوفية قذارتهم لتصبح سلوكاً عاماً بين المسلمين ينسيهم عادة الإسلام في الطهارة والنظافة فإن الصوفية لجأوا للأحاديث الموضوعة أو تحريف معانى القرآن، فالحسن البصرى الذى كان لا يغسل ثيابه تأول قوله تعالى" وثيابك فطهر" بأن معناها "( وخلقك فحسن") حسبما يروى القشيرى [39].

2 ــ أما الغزالى الذى أتخم الإحياء بالأحاديث الباطلة فقد أورد منها في الدعوة للقذارة حديثا يزعم  "( إن الله يحب المتبذل الذى لا يبالى ما لبس )" والعراقى في تخريجه لهذا الحديث قال عنه " (لم أجد له أصلاً")  أى لم يكن مكتوباً إلا في الإحياء أى اخترعه الغزالى . بل أن الغزالى حرّف حديث أنس القائل: "( إن الرسول كان يكثر دهن رأسه وتسريح لحيته حتى كأن ثوبه ثوب زيات")  فجعله الغزالى يؤدى عكس المعنى تماماً فرواه " ( كان قميص رسول الله كأنه قميص زيات)" وروى حديثاً آخر ينطبق على الصوفية وهو "( يكون في أمتى قوم شعث رؤسهم دنسة ثيابهم لو أقسموا على الله لأبرهم )"[40] .

3 ــ وهناك حديث مزور وضعه الصوفية ، وهو مشهور حتى الآن يحوى نفس المعنى ونفس اللفظ ، وهو ( رب أشعث أغبر لو أقسم على الله لأبرَه  ) ، فيجعل الصوفي الأشعث الأغبر صاحب دلال وسطوة على الله جل وعلا بحيث لو قال لله افعل كذا لأبر الله قسمه. أى لابد أن يكون أشعث أغبر حتى تكتمل في الحديث القذارة الحسية والقذارة المعنوية. ولو كان يقيم الصلاة ما أصبح أشعث أغبر .

4 ــ  وروج الصوفية لأحاديث كثيرة في القذارة ، منها أن الرسول كان يباشر نساءه في المحيض وأن عائشة كانت تقول أن النبى كان يتكئ في حجرها وهى حائض ويقرأ القرآن ، وأن الناس كانوا يتبركون ببقايا غسل الرسول ونخامته . وأن النبى دعا بقدح فيه ماء فغسل يديه ووجه منه ومجَ (بصق) فيه ثم قال لأصحابه اشربوا منه ، وأن النبى أمر أناساً من عكل أو عرينة يعيشون في المدينة بأن يشربوا من أبوال الإبل وألبانها، وكل هذه الأحاديث موجودة في البخارى في كتاب الطهارة وغيره، وكل هذه الأحاديث الصوفية لا تزال تحظى حتى الآن بتقديس السنيون من عُبّاد السنة وصحيح البخارى تعبيراً عن التأثر بالصوفية، ودليلاً على تأثر السلفية والحنابلة بالتصوف الذى يهاجمون أولياءه.

القذارة في ولاية العهد الصوفي:

1 ــ وبالتصوف سادت شهرة البخاري وكتابه في العصر المملوكى حتى كانت له تعقد المواعيد فى شهر رمضان  وتختم قراءته في كل عام، بديلا عن قراءة وتلاوة القرآن . ولذلك لم يكن مستغرباً أن تعبر القذارة عن نفسها في طقوس التصوف ترديداً للأحاديث التى ذكرها البخارى.

2 ـ فمن مراسيم ولاية العهد من البدوى لعبد العال أن جعله البدوى يمصُّ دُمّلاً في ذراعه قد ملئ قيحاً وصديداً حتى يمتزج الدم بالدم. 

وتقول أسطورة أن البدوى تقايأ ، وشرب قمر الدولة ما تقايأه البدوى ، فجعل البدوى قمر الدولة ( قمر أصحابه)  وبعثه إلىّ نفياً خوفاً عليه من عبد العال ، ولكن عبد العال علم فحاول أن يدرك قمر الدولة ليغتصب منه ما شربه من قيئ البدوى [41] .

3 ــ  وعهد أحمد الرفاعى للواسطى ، لأن الواسطى وقف يوضئه وحين تنخم الرفاعى تناولها الواسطى وازدردها وابتلعها ، وكافأه الرفاعى ــ بزعمهم ــ بأن كشف له عما بالمشرق والمغرب وصارت كالقصعة بين عينيه [42].

4 ــ  ولما حضرت الوفاة تاج الدين النخال الشاذلى ت 824 استدعى ابنته وقال لها أن أخاه تفل في فمه عندما كان يحتضر، فأخذ من هذه التفلة العهد والبركة ، ونكمل الرواية وهو يقول عن أخيه  : (  لما حضرته الوفاة استدعانى إليه وقال لى افتح فمك يا أخى ففتحت فمى فتفل لى فيه، فأعطانى الله تعالى خير الدنيا والآخرة‘ وأنتِ يا عائشة افتحى فمك ففتحت فمها فتفل لها فيه ، وقال لها هذه التفلة ما هى لكِ ، هى زخيرة عندكِ "[43] .

أى تستطيع أن تنقلها  لغيرها، لأن البركة في (التفلة) .

 

ج3 / ف 6  : قذارة الصوفية فى التطهر بالبول ومعايشة الذباب والقمل 

   كتاب (التصوف والحياة الدينية فى مصر المملوكية )

الجزء الثالث : أثر التصوف فى الانحلال الأخلاقى فى مصر المملوكية 

 الفصل السادس : التصوف ونشر المساوىءالاجتماعية : القذارة

قذارة الصوفية فى التطهر بالبول ومعايشة الذباب والقمل 

الذباب :

1 ــ  وكان من طقوس التصوف في بدايته أن يتكاثر الذباب على وجه العارف الصوفي.

يحكى القشيري في رسالته عن بعضهم : (  رأيت فقيراً يجود بنفسه غريباً ، والذباب على وجهه فجلست أذبُّ الذباب عن وجهه ، ففتح عينيه وقال من هذا،أنا من كذا سنة في طلب وقت يصفو لى فلم يبقى إلا الآن. جئت أنت توقع نفسك فيه؟ مر عفاك الله " [44] .

فصاحبنا عاش هادئا ً في ملكوت التصوف متمتعا بالذباب يتكاثر على وجهه حتى استيقظ من أحلامه الصوفية على من يهشّ الذباب عنه فاحتج عليه. 

2 ــ وبذلك احتل الذباب مكانته السامية على وجه الصوفي ، لذا يقول الشعرانى : (  العارف يجب ألا يدفع عن وجهه الذباب، وإلا فقد طلب النعيم المعجل له في الدنيا. )" [45] .  وهنا نتذكر حديث البخارى عن الذبابة وتغميسها في الإناء إذا وقعت فيه .

3 ــ وإذا كان الغزالى قد احتج على أولئك المرائين فى دين التصوف الذين يتصنعون القذارة تشبهاً بالأولياء الصوفية ، وهم أقل من أن يكونوا في مستواهم في القذارة ، فإن العصر المملوكى – عصر تسيد التصوف – لم يكتف بالإستنكار وإنما أتى بسلوك إيجابى عبر عنه الشيخ أبو الحمائل السروى حين جاءه الشيخ على الحديدى يطلب الطريق فرآه متلفتاً لنظافة ثيابه فقال له: ( إن كنت تطلب الطريق فاجعل ثيابك ممسحة لأيدى الفقراء. فكان كل من أكل سمكاً أو زفراً يمسح في ثوبه يده مدة سنة وسبعة شهور ، حتى صارت ثيابه كثياب الزبالين أو السماكين . )  فلما رأى ثيابه لقنه الذكر وأخذ منه الطريق [46] .

الوضوء الصوفي والتطهر بالنجاسات :

1 ــ وإذا كان الوضوء الإسلامى يهدف إلى تطهير المسلم من القاذورات فإن للصوفية وضوءهم الذى يهدف إلى التجمل بهذه القاذورات ، خصوصاً وقد أهملوا الوضوء الإسلامى والصلاة طبقاً لعقيدتهم في إسقاط التكاليف الإسلامية كما سبق بيانه .

2 ــ والبول كان من أهم عناصر الوضوء الصوفي في مقابل الماء الطهور في الوضوء الإسلامى.

وفي بداية التصوف يحكى الرائد الصوفي إبراهيم بن أدهم طبقاً لما جاء فى الرسالة القشيرية: ( ما سررت لشئ كسرورى أنى كنت يوماً جالساً فجاء رجل  وبال على.! ) "[47]. اى حصل له السرور العظيم لأن رجلا تبول عليه .

وفى القرن السابع الذى شهد منتصفه بداية العصر المملوكى كان الشيخ يوسف القمينى الموله ت 657 : (  يتنجس ببوله،  ويمشى حافياً ، ويأوى إلى قمين حمام ولا يصلى . )".  فوضوؤه التنجس بالبول ومسجده الذى يأوى إليه هو الحمام، إلا أنه لا يصلى ، ويعلق الذهبى قائلاً:  "وقد كثر هذا فى عصرنا والله المستعان " "[48] .

 إذن كثر ذلك منذ بداية العصر المملوكى ، وطبيعى أن يسود ذلك بسيادة التصوف بمرور الزمن .

مناقب البدوى فى تبوله

1 ـ  ــ والبدوى أشهر الأولياء الصوفية  فى مصر حتى الآن . وقد عاش فى القرن السابع ، ولم يكن يصلى – كما أسلفنا فى موضعه- ، ولكن كان يتحاور ببوله إذا أعيته الحجه ، فمن ذلك أنه تبول وهو على السطح على طائفة من الفقهاء السنيين أتوا إليه للمحاورة. وهى قصة مشهورة عن البدوى تقول : ( إن الشيخ النحوى كان كثير الإنكار عليه ، فراح إلى طندتا هو وجماعة من أصحابه الطلبة ، فجلسوا تحت حائط السطح الذى هو عليه ، فطلً عليهم الشيخ أحمد البدوى وبال عليهم، فقالوا :ما هذا البول على طلبة العلم ؟ فقال ما يؤكل لحمه فبوله طاهر ، رضى الله تعالى عنه ونفعنا به"[49] .!!

2 ــ   وتوسع البدوى فى التعبير عن رأيه ببوله حتى وصل ببوله إلى المسجد وقت صلاة الجمعة والناس قيام للصلاة حين الآذان ، يروى المؤرخ المملوكى أبوالمحاسن : (  قال أحدهم بسنده : ألزمنى الأمير ناصر الدين محمد بن جنكلى بن البابا بالمسير معه لزيارة الشيخ أحمد البدوى بناحية طندتا، فوافيناه يوم الجمعة، فإذا به رجل طوال عليه ثوب جوخ غال وعمامته صوف رفيع ، والناس تأتيه أفواجا ، منهم من يقول : ياسيدى خاطرك مع بقرى ، ومنهم من يقول : زرعى، إلى أن حان وقت صلاة الجمعة ، فنزلنا معه إلى الجامع بطندتا، وجلسنا فى انتظار الصلاة . فلما فرغ الخطيب من خطبة الجمعة وأقيمت الصلاة وضع الشيخ أحمد رأسه فى طوقه بعد ماقام قائما وكشف عن عورته بحضرة الناس، وبال على ثيابه وعلى حصير المسجد ، واستمر ورأسه فى طوق ثوبه وهو جالس حتى انقضت الصلاة ، ولم يصل. "[50].

مقتطفات فى تطهرهم بالنجاسات

 1 ــ  وبعد القرن السابع ابتكر الصوفية تنويعات قذرة فى وضوئهم بالنجاسات ، خصوصا مع كثرة المجاذيب وتفننهم فى كل غريب وقذر، ونأتى بمقتطفات سريعة نعتذر عنها ونمسك عن التعليق عليها.

2 ـ يقول العينى فى ترجمة الشيخ أبى بكر البجائى المغربى : " كان لايتوضأ، ويتغوط فى مجلسه"[51].

3 ــ ويقول الشعرانى فى ترجمة الشيخ إبراهيم العريان "كان يخرج الريح بحضرة الأكابر ثم يقول هذه ضرطة فلان، ويحلف على ذلك فيخجل ذلك الكبير منه"[52].

4 ــ ويقول الشعرانى فى ترجمة الشيخ بركات الخياط " أخبرنى الشيخ عبد الواحد.. أحد جماعة سيدى أبو السعود الجارحى.. قال مدحته للشيخ جمال الدين الصائغ مفتى الجامع الأزهر وجماعة، فقالوا امضوا بنا نزوره، وكان يوم جمعه، فسلم المؤذن على المنارة فقالوا له : نصلى الجمعة، فقال : مالى عادة بذلك، فأنكروا عليه، فقال نصلى اليوم لأجلكم، فخرج إلى جامع الماردانى ، فوجد فى الطريق مسقاة الكلاب فتطهّر منها ، ثم وقع فى مشخة حمير ، ففارقوه ، وصاروا يوبخون الشيخ عبدالواحد الذى جاء بهم إلى هذا الرجل[53].

5 ــ وقال عن الشيخ مدين الأشمونى "كان يوما يتوضأ فى البالوعة التى فى رباط الزاوية[54].

6 ــ وقال عن بعضهم أنه " تضمخ يوم الجمعة بغائط كلب فى جميع بدنه[55].

شهرة المجاذيب بإدمان القذارة

1 ــ من سمات المجذوب قذارة المظهر الى درجة يمكن بها تمييزه ووصفه بالجذبة الالهية ، وهى مرتبة عليا فى الدين الصوفى المؤسّس على القذارة .  وفى هذا العصر المملوكى كان المجذوب الذى يصلى ويتطهر نادرة.يقول أبوالمحاسن عن المجذوب عمر البياتى " كانت جذبته غير مطبقة لأنه كان لايُخلُ بالمكتوبة ، بل يغتسل فى الغالب لكل صلاة"[56].      

2 ــ وكان من عوامل انتشار القذارة أيضا ما أشاعه التصوف من انحلال خلقى وشذوذ، وفى طيف الخيال قصص عن العشق المحرم والأحاديث الخرافية الملوثة بنجاسات البول والبراز[57]. تعكس ذلك التردى الخلقى فى العصر المملوكى.

3 ـ وتفنن المجاذيب الصوفية فى قذارة الزى والمظهر.

3 / 1 : والعرى كان أهم مظهر للقذارة تفنن فيه المجاذيب أمثال الشيخ خليل[58].

ويقول الشعرانى عن شعبان المجذوب: (  وكان رضى الله عنه عريانا لايلبس إلا قطعة جلد أو بساط أو حصير أو لباد يغطى قُبله ودبره فقط .  وكانت الخلائق تعتقده، ويعدون رؤيته عيدا) "[59].

3 / 2 : وقال عن الشيخ نصر المجذوب " كان يركب الفيل بمصر أيام الغورى وكان ملامتيا عريانا"[60].

3 / 3 : وقبل الشعرانى وفى القرن الثامن كان الشيخ عبدالله أيبك الموله ت 729" لايكلم أحدا ولايستر عورته وحين مات فجأة شيعته خلائق من الناس[61]،

4 : وواضح أن الناس كانوا يعتقدون صلاح أولئك المجاذيب ويربطون بين قذارة مظهرهم وولايتهم طبقا لدين التصوف القائم على القذارة . وابن الحاج الفقيه الصوفى أنكر ذلك الوضع فقال: (  بعضهم يظهر للناس الزهد فى الدنيا وترك المبالاة بها حتى أنه ليجلس مكشوف العورة، وليس العجب منهم ، بل العجب ممن يعتقدهم مع ماهم فيه من مخالفةالشرع") [62].

 5 ــ وبعضهم إذا ارتدى ثيابا حافظ على قذارة المظهر .

5 / 1 : فالشيخ سويدان المجذوب ت919  : (  كان مكشوف الرأس أبدا ، وله شعر طويل ملبد ، كث اللحية ، وكان أكثر كلامه إشارات لايفهمها عنه إلا الفقراء الصادقون. )"[63].. كشف الرأس كان عيبا كبيرا وقتها . وكان عقوبة مخزية توقعها السلطة المملوكية بمن تقوم بتجريسهم . وعند المصائب الهائلة يقوم المُصاب بكشف رأسه . ولكن هذا المجذوب كان مكشوف الرأس ولا يعتنى بشعر رأسه أو لحيته . وبهذا المظهر القذر حظى بالتقديس بحيث أنه كان إذا هذى فلا يفهم هذيانه إلا الصوفية الصادقون فى دينهم الصوفى .!

5 / 2 :  وكان الشيخ أبوالفضل الأحمدى يقول " والله أنى لاستحى من لبس الثوب النظيف على ذاتى  هذه القذرة"[64]. وهو يتحدث هنا عن نفسه.

6 ــ وذكر الشعرانى بعض مظاهر القذارة للمجاذيب :

6 / 1 : فالشيخ عبيد البلقينى " حصل له جذب فى أول عمره فمكث نحو الخمس عشرة سنة بلباس جلده مكشوف الرأس والبدن، لايلتفت إلى تدبير بدنه حتى صار الدود يتساقط من تحت قلنسوته من محل الزيق، ولم يزل أثره ظاهرا فى ناحية قفاه رضى الله عنه"[65].أى إستعمر الدود قفاه ، فوصل الى التألق فى الدين الصوفى الى درجة قول الشعرانى عنه : ( رضى الله عنه ).!!

6 / 2 : وبركات الخياط كان يقول لزبائنه الوافدين لحانوته فى الخياطة : ( هات معك فوطة وإلا يتسخ قماشك من ثيابى )"[66].

6 / 3 : والشيخ أبو لحاف " كان حافيا مكشوف الرأس ملتحفا بملاءة حمراء وبيده عصا غليظة"[67]. وبهذا اللحاف إشتهر بأنه أبو لحاف .

6 / 4 : والشيخ سليمان الحانوتى تميز بأنه كان رث الثياب مع تغييره فى الزى : (  كانت ثيابه تارة رثة وتارة كثياب القضاة والتجار ولونه تارة تجده أحمر القرمزى وتارة أصفر متحولا )"[70]. كان يمكنه ان يحمل نعالهم بيده تواضعا وفقط ، لولا أن القذارة تستوجب أن يحملها فى عنقه ليستمتع بشم روائحها العطرة .

6 / 7 : وكان من كرامات شعبان المجذوب أنه كان بزعمهم : (  إذا رأى الهلال عرف جميع مافيه مكتوبا على العباد، وكان إذا إطلع على موت البهائم يلبس صبيحة تلك الليلة جلد البهائم البقر أو الغنم، أو تسخير الجمال لجهة السلطنة يلبس الشيف الليف فيقع الأمر كما نوُه به) "[71]. أى كانت كرامته المزعومة فى القذارة فى المظهر.

7 ــ  والصوفية الأعاجم القادمون لمصر من الشرق اشتهروا بقذارة المظهر أكثر من الصوفية المصريين .

7 / 1 : حتى أنه يقال في ترجمة المجذوب على الدميري ت 924 : (  كان مكشوف الرأس ملتفاً في بزه بحيث أن من يراه يظنه أعجمياً") [72].

7 / 2 : ويقال في ترجمة الفقيه ابن جماعة ت 819: (  كان يعاب بالتزيي بزى العجم من طول الشارب وعدم السواك) "[73]. أى أن التأثر بالقذارة الصوفية للأعاجم وصل للفقهاء المشاهير. 

7 / 3 : ومثل ابن جماعة الشيخ برهان الدين العثمانى ت 852 يقول فيه أبو المحاسن " عُدّ من الفضلاء إلا أنه كان دنس الثياب غير ضوي الهيئة" [74].

الصوفية والكلاب

1 ــ وبعض المجاذيب لم يكتف بقذارته الذاتية وإنما أضاف إليها الرتوش مثل أن يصحب معه كلاباً تفوقه في القذارة، فالشيخ مسعود المجذوب كان له كلب قدر الحمار لم يزل واضعاً بوزه على كتفه " .

2 ــ وتلقب بعضهم بالكليباتى نسبة لكلابه مثل الشيخ أبو الخير الكليباتى ، وقد أشاعوا أن الكلاب التى كانت تسير معه من الجن، يقول عنه الشعرانى : (  وكان أغلب أوقاته واضعاً وجهه في حلق الخلاء في ميضأة جامع الحاكم) أى يضع وجهه فى موضع البراز فى الميضأة ، معتكفا . وتستمر الرواية تقول : ( ويدخل الجامع بالكلاب.. وكان رجلاً قصيراً في يده عصا فيها حلق وشخاشيخ. ) " [75].

3 ــ  وبعد العصر المملوكى يقول كلوت بك عن المجاذيب " ويعرف المجاذيب بقذارة أبدانهم وما يتشحون به من أطمار بالية " [76].

تحريم غسل الثياب

1 ــ     ومن مظاهر قذارة الصوفية أن بعضهم كان يظل يرتدى الزى دون أن يغسله، ويظل هكذا حتى يذوب ، فيقوم الآخرون بتجريده منه ويبدلونه له بغيره .

2 ــ فالبدوى: ( كان إذا لبس ثوباً أو عمامة لا يخلعها لغسل ولا لغيره حتى تذوب فيبدلونها له بغيرها )" [77]. . لا يُبدلها هو ، بل هم الذين يبدلونها له حين تذوب من القذارة .

3  ــ والشيخ المنوفى كان أهون حالا : (  كان الغالب إذا توسخ ما عليه لا يكون له ما يبدله به وكانت أخته إذا توسخت ثيابه تنزع ثيابه لغسلها وإلا فهو ما كان يفكر في ذلك . ) [78].

4 ــ وكان الشيخ الدميري مكشوف الرأس ملفوفاً في بردة كلما تنقطع يبدلونها له بأخرى ،وأقام على هذه الحالة نحو عشرين سنة " [79]. أى حقّق رقما قياسيا فى قذارة الثياب ، فعدُّا ذلك من مناقبه وعُلُّوه فى الدين الصوفى .

5 ـ وكان  الشيخ عمر المجذوب: ( " كان إذا لبس القميص لا ينزعه حتى يذوب " [80].

6 ــ والشيخ المعتزل الذى كان الأكابر تتردد إليه: ( وكان يلبس العمامة أو الثوب لايخلعها حتى تذوب "[81] .

 القمل والتصوف:

1 ــ  بسبب تلك القذارة كان للقمل دوراً في تاريخ التصوف والصوفية.

يقول الرائد الصوفي ابراهيم بن أدهم : ( ما سررت في إسلامى إلا ثلاث مرات كنت في سفينة وفيها رجل مضحاك كان يقول : كنا نأخذ العلج في بلاد الترك هكذا وكان يأخذ بشعر رأسي ويهزنى فيسرنى ذلك لأنه لم يكن في تلك السفينة أحقر في عينه منى ، والأخرى كنت عليلاً في مسجد فدخل المؤذن وقال أخرج فلم أطق فأخذ برجلى وجرنى إلى خارج المسجد ، والثالثة كنت بالشام وعلىّ فرو فنظرت فيه فلم أميز بين شعره وبين القمل لكثرته ، وسرنى ذلك. ) [82]. أى من ضمن مناقبه التى يفخر بها أن القمل غزا الفرو الذى يلبسه بحث غطّى عليه .

2 ــ  ولأهمية القمل في حياة الصوفية فقد اخترعوا له الأحاديث.

وتطوع الغزالى بهذه المهمة فيفترى أن نبياً من الأنبياء – لا نعرف  اسمه – " شكا إلى ربه الجوع والفقر والقمل عشر سنين فما أجيب إلى ذلك ثم أوحى إليه : لم تشكو ؟ هكذا كان بدؤك عندى في أم الكتاب قبل أن أخلق السموات والأرض وهكذا سبق لك منى وهكذا قضيت عليك قبل أن أخلق الدنيا أفتريد أن أعيد خلق الدنيا من أجلك؟ أم تريد أن أبدل ما قدرته عليك فيكون ما تحب فوق ما أحب  ويكون ما تريد فوق ما أريد  ؟ وعزتى وجلالى لإن تلجلج هذا في صدرك مرة أخرى أمحونك من ديوان النبوة" [83].

فالغزالى يفترى هذه الحكاية ويكذب على الله لكى يضخم من موضوع الإعتراض على القمل والفقر، ولايكتفى الغزالى بذلك بل يفترى حديثاً عن خاتم المرسلين هو ( لقد كان الأنبياء قبلى يبتلى أحدهم بالفقر فلا يلبس العباءة، وإن كان أحدهم ليبتلى بالقمل حتى يقتله القمل ، وكان ذلك أحب إليهم من العطاء إليكم " [84] .

3 ــ  وبسبب غزو القمل وإستعماره لأجساد الصوفية فقد احتاجوا إلى وظيفة دينية هي تفلية الفقراء، وكالعادة اصطنعوا لها فى دينهم حديثاً مفترى ، يرويه القشيري : (  قيل أوحى الله تعالى إلى موسى : أتريد أن تكون لك يوم القيامة مثل حسنات الناس أجمعين ؟ قال نعم ، قال : عُد المريض وكن لثياب الفقراء فالياً، فجعل موسى على نفسه في كل شهر سبعة أيام يطوف على الفقراء يفلي ثيابهم " [85]

  4 ــ  وفقراء المطاوعة في العصر المملوكى جعلوا من وظيفة (البدوات) أى (الصبيان المفعول فيهم ) تفلية ثياب الفقراء ، كما سبق بيانه في موضعه.

5 – ويقول الشعرانى أن من آداب العبودية": ( أن يجالس الفقراء أصحاب القمل ويفلي ثيابهم )" .[86] .     6 ــ وقبل العصر المملوكى كان السهروردى الصوفى المقتول : ( دنئ الهمة زرى الخلقة ، دنس الثياب ، وسخ البدن لا يغسل له ثوباً ولا جسماً ولا يداً، ولا يقص ظفراً ولا شعراً، وكان القمل يتناثر على وجهه ويسعى على ثيابه ، وكان من رآه يهرب منه) [87].

7 ــ  أما القمل ( المملوكى الصوفى ) فقد كان له شأن.

7 / 1 : فالبدوى الذي كان يحتفظ بملابسه إلى أن تذوب على جسده كان من أهم مخلفاته التى لا تزال موجودة حتى الآن" المهراش" الذى يتعامل به مع القمل .    

7 / 2 : ويقول العينى في حوادث سنة 792 "وتسلط على الفقراء ـ أى الصوفية ـ قمل عظيم [88] . أى وصل غزو القمل لأجساد الأولياء الصوفية الى درجة أن يكون خبرا يسجله المؤرخون .!!

8 ــ والصوفي يحاول أن يوظف القمل السارح على جسده في أساطير الكرامات .

فالشيخ شمس الدين الحنفي دعا الله في مرض موته أن يبتليه الله بالقمل – كما لو كان محروماً منه قبل ذلك – ويقول الشعرانى معلقاً: (  وحصل له ذلك قبل موته فتزايد عليه القمل حتى صار يمشى على فراشه.) . ويعلل الشعرانى هذه الأمنية المزعومة : (  وإنما يتمنى ذلك ليكون له أسوة حسنة بالأنبياء الذين ماتوا بالجوع والقمل. ) " [89]. أى أنه افترى على أنبياء الله بهذه التهمة القذرة .

  9 ــ  ولأن القمل يعايش الصوفية إلى هذا الحد الذى جعلهم يلصقونه بالأنبياء ظلماً وافتراءاً فإن بعضهم وجد فيه مجالاً للتخصص في الكرامات ، فالشيخ ابن عنان: (  كان إذا غضب على أحد قال للقمل : رح إليه"، فيمتلئ قملاً ، ويعجز عن تنقيته ولا يكاد ينام ، فيمضى إليه ويقول : ما رأيت إلا تعمل شيخ القمل ، فيأخذه بيده ويرميه في الهواء " [90] .فينقشع القمل عنه .

   10 ــ  وظل القمل عادة قذرة سيئة مصرية ، تعبر عن القذارة الصوفية التى انتشرت في المجتمع حتى بعد العصر المملوكى . وما أروع قول كلوت بك : (  وبالرغم من أن الدين الإسلامى قد فرض النظافة فإن الأغنياء ــ كالفقراء ــ كثيراً ما تحوى ثيابهم القمل ولا يخجلهم وجوده، ولا يعنون بإبادته وتطهير أجسامهم منه، بل يقتصرون بما جبلوا عليه من الدعة والخمول على إمساكه بأطراف الأنامل وطرحه على الأرض بعيداً عنهم ، ولدى أرباب اليسار أداة خاصة من الخشب في شكل المغرفة يحكون بها ظهورهم ليخففوا عن أنفسهم آلام وخزها ولسعها "[91].

 وهكذا أتى إنصاف الإسلام من هذه القذارة على يد مؤرخ أجنبي هو كلوت بك ، وأوضح دون أن يدرى دور التصوف في نشر هذه القذارة بين الأغنياء والفقراء الذين وحّد ما بينهم الاستكانة للقمل في كسل وخمول. أى إن القمل الصوفى أزال الفوارق بين الطبقات .  وكل ما هنالك أن بعض الأغنياء كان يحتفظ بالمهراش الشعار الرسمى للبدوى أشهر الأولياء الصوفية  يحُكُّ به جلده من أثر القمل .

 

ج3 / ف 6  : التصوف ونشر القذارة فى مصر المملوكية 

   كتاب (التصوف والحياة الدينية فى مصر المملوكية )

الجزء الثالث : أثر التصوف فى الانحلال الأخلاقى فى مصر المملوكية 

 الفصل السادس : التصوف ونشر المساوىءالاجتماعية : القذارة

التصوف ونشر القذارة فى مصر المملوكية 

1 ــ لم يكن من إهتمامات مؤرخى العصور الوسطى ذكر حالة الشارع وما فيه من نظافة أو قذارة . قد يعرضون لذلك بين السطور إذا قفز الأمر الى دائرة إهتمام السلطة ، أو حدثت حادثة تُجبر المؤرخ الذى يطوف بالسلطان على أن يلتفت الى الشارع وما يجرى فيه ، وحتى لو إلتفت فهو الى الناس أبطال الحدث وليس لحال الشارع نفسه من نظافة أو قذارة . لهذا فنحن نبحث عن ( إبرة ) فى أكوام من القش ..

وقد وجدنا بعض الإبر المؤلمة عن تأثير التصوف فى نشر القذارة فى الشارع المملوكى بالقاهرة المملوكية ، وهى المثال لنا لنتخيل حال بقية العمران المصرى بل وبقية الأقطار التى كانت تابعة للدولة المملوكية فى العصر المملوكى .

 فإذا كان هذا هو حال أكبر عاصمة لأكبر دولة وقتئذ ، فما البال بغيرها ؟ وما هو حال بقية المدن المصرية القابعة تحت ستار النسيان ؟ وما هو حال الريف والفلاحين الذين كانوا يتعايشون مع حيواناتهم الأليفة لا فارق بين غرفة النوم وحظيرة الحيوانات ؟

نشر الصوفية معايشة القاذورات فى الشارع المصرى المملوكى:

فى الموالد

1 ــ وطالما عايش الصوفية القاذورات على أجسامهم دون تحرج – كما رأينا في القمل – فإن من السهل عليهم التعود على معايشة القاذورات إلى جانبهم ونشرها في الشوارع والمساكن ، ولا تزال الموالد حتى الآن المناسبات المتجددة في الجمع بين الجماهير وقاذوراتها في مكان واحد. ومرّ من قبل قول المؤرخ الجبرتى : (( أقيم ضريح للشيخ عبدالوهاب بن عبد السلام ، وصيروه مزارا عظيما يقصد للزيارة وتختلط به الرجال والنساء ، ثم أنهم ابتدعوا له مولدا وعيدا ، وكل سنة يدعون إليه الناس من البلاد القبلية والبحرية ، فينصبون خياما كثيرة وحدادين وصواوين ومطابخ وقهاوى ، ويجتمع العالم الأكبر من اختلاط الناس وخواصهم وعوامهم وفلاحى الأرياف وأرباب الملاهى والملاعيب والغوازى والبغايا والقرادين والحواة ، فيملأون الصحراء والبساتين، فيطأون القبور ويوقدون عليها النيران ويضعون عليها القاذروات ويبولون ويتغوطون ويزنون ويلوطون ، ويلعبون ويرقصون  ويضربون بالطبول والزمور ليلا ونهارا ، ويستمر ذلك نحو عشرة أيام أو أكثر ، ويجتمع لذلك الفقهاء والعلماء وينصبون لهم خياما، ويقتدى بهم الأكابر من الأمراء والتجار والعامة من غير إنكار ، بل ويعتقدون أن ذلك قربة وعبادة ، ولو لم يكن كذلك لأنكره العلماء ، فضلا عن كونهم يفعلونه ، فالله يتولى هدايتنا جميعا ) .( تاريخ الجبرتى جـ 2/142   )

المجاذيب يجمعون الناس عند القاذورات

2 ــ  والمجاذيب الصوفية كان لهم دور الريادة في معايشة القاذورات والنجاسات ، والتف الناس حولهم منبهرين بشهرتهم وولايتهم منذ القرن الثامن، حيث بدأ تواجد المجاذيب بجانب القاذورات والتفاف الناس حولهم.

2 / 1 : فالشيخ سليمان التركمانى ت 713 " كان شخصاً صالحاً مولّهاً أى مجذوبا – وللناس فيه اعتقاد حسن زائد، وكان يجلس عند باب البريد وعليه عباءة نجسة ووسخ بين يده ، وهو ساكن قليل الكلام، وكان يأكل في شهر رمضان ولا يصوم ولا يصلى " [92].

2 / 2 : ويذكر ابن كثير قصة الشيخ ابراهيم المولَه ت 725 الذى كان يخالط القاذورات ويجمع الرجال والنساء عنده حولها [93] .

2 / 3 : والشيخ عبد الله أيبك ت 729 "كان لا يتقى النجاسات ولا يستر عورته " [94].     

2  / 4 ــ وفي القرن التاسع انتشرت هذه الظاهرة وسمى الموله بالمجذوب ، واتسعت شهرة المجاذيب وسعى الناس لرؤيتهم .والمؤرخ الارستقراطى أبو المحاسن كان يسعى لزيارة الشيخ المجذوب محمد المغربى ت 859 ، ولكن يبقى بعيداً عنه خوفاً مما كان حوله من النجاسات [95] .  

3 ــ ثم أصبح أغلب الصوفية مجاذيب في القرن العاشر ، فاتسعت دائرة القاذورات وتفننوا في الإلتصاق بها .

3 / 1 : فالشيخ أبو الخير الكليباتى ت 912 " كان يجلس بالكلاب في جامع الأزهر وكان يجلس في الخلاء في ميضأة جامع الحاكم الأيام المتتابعة لا يرفع رأسه " أى يظل ناظراً إلى الفضلات البشرية في الميضأة متأملا فيها . وذكرنا هذا من قبل . ونضيف ما قاله العيدروس عنه: (  وقد تغوط في طبق وقدمه لأصحابه على أنه عسل نحل )" [96].

3 / 2 : والشيخ بركات المصرى المجذوب ت 915 وصفوه أيضا بأنه كان يحب الإقامة في الأخلية ( أى مكان قضاء الحاجة )، وكان أكثر إقامته بميضأة الكاملية بمصر أو بميضأة الحجازية" [97]. أى كان معبده هناك ، لذا قيل فى مناقبه العليا أنه : ( الشيخ المستغرق في محل إقامته في بيوت الأخلية ) " [98]، يعنى شيخ ال ....

3 / 3 : والشيخ حسن المجذوب تميّز بأنه : (" كان يقعد بجانب قعاوى الكلاب )" [99] .

3 / 4 : وبعضهم التزم بدكانه وعز عليه أن يحرم نفسه من الإقامة في بيوت الأخلية وقعاوى الكلاب فأتى بالقاذورات إلى دكانه مثل الشيخ بركات الخياط ، والذى سبق ذكره ، يقول عنه الشعرانى يمدحه ويفتخر به : (  وكان رضى الله عنه يقول لمن يخيط له هات معك فوطة وإلا يتسخ قماشك من ثيابى ، وكان دكانه منتناً قذراً ، لأن كل كلب وجده ميتاً أو قطاً أو خروفاً يأتى به فيضعه داخل الدكان ، فكان لا يستطيع أحد أن يجلس عنده. ) " [100] . هذا تفوق فى القذارة ومعايشتها وعبادتها يستحق من الشعرانى أن يقول عنه ( وكان رضى الله عنه ). وبركات الشيخ بركات لا تزال موجودة فيه ، وفى الشارع المصري الذى يحتفظ بجثث الحيوانات النافقة التى تظل مكانها حتى تندثر وتنتهى وتنشر المرض والروائح الكريهة ولا تجد من يتطوع بدفنها إلا بإلقائها في النيل لتزيد من تلوثه ..

قذارة البيوت والشوارع:

1 ــ  إذا تقذر البشر تقذرت بالتالى بيوتهم وشوارعهم.

وقد قال من دخل بيت الشيخ طاهر المدلجى ت 685  : ( رأينا بيتاً لم يكنس قط وتحته حصير رثة سوداء ) "[101]. والشيخ المنوفى لم يره أحد يكنس بيته أو ينفضه ، وكان لا يأبه بنظافة ما يأكله، وكان ذلك بعض ما جاء في مناقبه [102].

 2 ــ وكانت الشوارع في أسوأ حالات القذارة، وحاولت السلطات دفع الناس لتنظيفها دون جدوى ، ففي المحرم سنة 846   يذكر السخاوى أن السلطان جقمق أمر بإصلاح الطرق وتنظيفها وبيوتها ، يقول السخاوي معلقاً "فأساءو التصرف في ذلك فإنه ألزم كل من له حانوت أو بيت بإصلاح ما أمامه وأوجع كثيراً منهم بالضرب المؤلم وتهدد من لم يفعل ، فبادر إلى ذلك من ضرب أو حضر الضرب أو سمع الوعيد وتأخر عنه من غاب .. فلزم من ذلك أن الطرقات كلها صارت موعرة لقطع بعضها دون بعض ، وقاسى الناس من ذلك شدة شديدة خصوصاً من يمشى بالليل وهو ضعيف البصر ، ثم بطل ذلك في اليوم التالى ،وبقى الضرر يسببه إلى أن تساوت الأرض"[103]. أى كعادة المصريين هوجة تحدث ثم ينسى الأمر وكل شيئ فيها ينسى بعد حين .

3 ــ ويقول الصيرفى أن والى القاهرة أمر السوقة وأهل الطرقات بكنس الشوارع وتنظيفها ورشها بالماء وعاقبه على ذلك فامتثلوا ثم عاد الأمر بعد حين لما كان عليه[104]. لأن الخطأ في البشر وليس في الشوارع ..

4 ــ  وحتى الآن فإن آثار القذارة لا تظهر في الشوارع صارخة إلا وقت الأمطار ، ومع قلة الأمطار كمية وأياماً فإنها توقع المصريين في حيرة ، ومع أن لها مواعيد شبه ثابتة فى فصل الشتاء ، إلّا إن المصريين يُفاجأون بها كل شتاء فى نفس الموعد السنوى، وليس لديهم أى إستعداد لقدومها ، لذا يسعدون بما تصنعه الأمطار من طين وقاذورات ... وحوادث .

5 ــ وليس ذلك وليد اليوم وإنما كان في عصرنا المملوكى ففي حوادث سنة 874 "أمطرت القاهرة مطراً غزيراً جعل أزقتها مثل الخلجان واستمر الناس في آثار ذلك أياماً دون أن ينزحوا المياه أو أن يسووا الطرقات"[105].

6 ـ والقاهرة الآن 2015 ميلادية هى أكبر عاصمة لأهرامات الزبالة فى العالم . وبها أكبر نسبة للتلوث فى الهواء والماء . وبسب التلوث تنتشر فيها أمراض الكبد بكل أنواعه وبما يشبه الوباء ، وبينما إختفت أمراض معينة فى العالم المتقدم فإن هذه الأمراض لا تزال تحظى بالرعاية والانتشار فى أجساد المصريين شأنها شأن القمل والذباب والبعوض . وفى القذارة تتضاءل الفوارق بين دينى السُّنّة والتصوف ، وشعارهما معا الحديث المفترى المُقرف الذى يزعم : ( رُبّ أشعث أغبر لو أقسم على الله لأبرّه ) .

وفى رعاية دينى التصوف والسّنة يتخصّص شيوخ الأزهر قديما وحديثا .

فماذا عن تاريخ الأزهر فى القذارة ؟

الأزهر:

1 ــ  العصر المملوكى تعبير حضارى لا يرتبط بفترة زمنية ،ففي العصر المملوكى تسيد التصوف السُّنّى  بكل تلك  المؤثرات لتصبح  علماً علي هذا العصر . وبقاؤها بقاء للعصر حتى مع إنهيار السلطة المملوكية بالفتح العثمانى سنة921. ومن آثار العصر المملوكى القذرة ما ألمحنا إليه في سلوك الناس وتصرفاتهم وعقائدهم فى العصر العثمانى . وإذا كان للعصر المملوكى سمة معينة من السلوك والعقائد فإن بعض المناطق في عصرنا – يتفاوت حظها من سلوكيات العصر المملوكى وعقائده .  

2 ــ والأزهر بما اتسم به من محافظة على التقاليد وبعادة الأسلاف احتفظ – ولا يزال – بمؤثرات العصر المملوكى في عقيدته وسلوكياته ، ويكفى أن مناهجه التقليدية مؤلفة في العصر العثمانى ربيب العصر المملوكى والأكثر منه تخلفاً وجموداً.

3 ـ  لذا كان حظ الأزهر والأزهريين من القذارة وافراً.

يقول أحمد أمين عنه في بداية القرن العشرين عن الطلبة الأزهريين المقيمين فى داخل الأزهر ( المجاورين ) : ( "المجاورون في الأزهر قلّ أن يتعهدوا بيوتهم بالتنظيف ، ومن الأمثال التى كانت منتشرة بين الأزهريين قولهم :" العلم زبال" ، يعنون به أن العلم لا يلائم المظاهر (النظيفة ) ، وإنما يذهب إلى القذرين الذين يشبهون في قذارتهم الزبالين.  وشاع بين القاهريين أن من الأزهر ينتشر الجرب . ) . ومعناه أن الأزهر حافظ على القذارة الصوفية المملوكية ضمن ما حافظ عليه من جمود وتصوف وسلوكيات، وبينما بدأت القاهرة في  فى القرن العشرين تنظف وجهها ظل الأزهر قابعاً قذارته فأشاعوا أنه سبب نشر الجرب .

وتكرر ذلك في موضع آخر من كتاب أحمد أمين يقول : ( وقد كان شائعاً عند القاهريين أن منشأ مرض الجرب هو الجامع الأزهر لكثرة ما فيه من الأتربة والقمل والبق ) [106]".    

4 ــ وكان الأزهرى التقليدي معروفاً بمظهره الذي لا يتفق مع النظام والنظافة، والتصوف هو المسئول على ذلك. وارتبطت محاولات تطوير الأزهر وإيقاظه بالهجوم على التصوف والصوفية في داخله . وظل التصوف مسيطراً على مستعمرات أخرى غير الأزهر ومنها المساجد ، التى كان معظمها في أوائل القرن الحالى يضم ضريحا أو أكثر، والضريح هو المثل المعبر عن رجس  العقيدة كما جاء فى القرآن الكريم  : ( المائدة 90") ( الحج 30 ). 

5 ــ وارتبط رجس العقيدة ونجسها بنجاسة المؤسسات الصوفية  الدينية . وظل ذلك موجودا حتى أوائل القرن العشرين .

يقول أحمد أمين فى قصة حياته وهو طفل: (  وحدثت مرة أن أخذنى والدى إلى المسجد بجوار بيتنا ليصلى ولم يكن بالمسجد غيرنا، وذهب إلى الميضأة ليتوضأ، والميضأة حوض ماء نحو ثلاثة فى ثلاثة ، يملأ  بالماء من حين لآخر ، وفى العادة يُملأ من بئر بجانبه، عليه بكرة وعلق فيها حبل فى طرفيه دلوان ، ينزل أحدهما فارغا ويصعد الآخر ملآن. ومن أراد أن يتوضأ من الميضأة جمع الماء بين كفيه وغسل وجهه ويديه إلخ. ثم يعود الماء إلى الميضأة بعد الغسل كما أخذ.  وكانت هذه الميضأة مصدر بلاء كبير ، فقد يتوضأ المريض بمرض معد كالرمد ونحوه فيتلوث الماء ويعدى الصحيح، هذا إلى قذارته ، فالمتوضىء يغسل وجهه بعد أن غسل من قبله رجليه.  ولكن الإعتقاد الدينى يغطى كل هذه العيوب والأخطار . فلما دخل القاهرة نظام جرى الماء فى الأنابيب والحنفيات لم تعد حاجة إلى الميضأة، ولذلك كان مما أُخُذ على الشيخ محمد عبده وعيب عليه أن أبطل ميضأة الأزهر وأحل محلها الحنفيات ، وهكذا يألف الناس القديم الضار ويكرهون الجديد النافع ويدخلون فى الدين ماليس فى الدين )"[107].

 إذن  كان من أسباب ثورة الأزهريين على الشيخ محمد عبده أنه حرمهم من الميضأة التى اكتسبت بقذارتها مظهرا دينيا .

6 ــ ويقول أحمد أمين عن النظافة عند المصريين : ( ومما يؤسف له أن النظافة لم تنل من المصريين العناية الكاملة.. وقد رتبت الأمم الشرقية فى النظافة فكان الأتراك أولا ثم اللبنانيون والسوريون ثم المصريون ثم الإيرانيون ثم الهنود )"[108]. وهذا الترتيب يتناسب مع انتشار التصوف وتأثر تلك الدول به.

الوحدة الوطنية بين الأقباط والمحمديين فى ميدان القذارة 

1 ــ لمجرد الانصاف ، نذكر أن القذارة ( الدينية ) لم تكن مقتصرة على المحمديين فى مصر المملوكية بل ضمت الأقباط أيضا . يذكر المؤرخ ابن أيبك الصفدى فى موسوعته ( الوافى فى الوفيات : 30 جزءا ) فى ترجمة القبطى سعد بن السديد المستوفى ت 695 ، وكان صاحب جاه . وعند موته احضروا له الجواهر والعطور، فأعرض عنها وأشار الى خادمه وأسرّ اليه أن يُحضر له ( حُقّا ) مغلقا ، فأحضره الخادم اليه ، فأخذ يستنشقه تبركا الى أن مات . وبعد موته سألوا الخادم عمّا كان فى ذلك ( الحُقّ ) فقال لهم إن فيه ( شعرة من إست الراهب الفلانى الذى كان له كذا سنة وسنة ما لمس الماء ولا قاربه )( الوافى 9 / 45 : 46 ).

2 ــ ورفاعة الطهطاوى ذهب الى فرنسا يحمل فى داخله الثقافة المصرية فأدهشته نظافة الفرنسيين ، فقال : ( ومما يُستحسن فى طبائع الفرنج دون عداهم من النصارى حب النظافة الظاهرية ، فإن جميع ما ابتلى الله سبحانه وتعالى به قبط مصر من الوخم والوسخ أعطاه للإفرنج من النظافة ، ولو على سطح البحر، فإن أهل المركب التى كنا فيها يحافظون على تنظيفها وذهاب الوسخ منها ما أمكن ..مع ان النظافة من الايمان ، وليس عندهم منه ذرة. ومع ما عند الفرنساوية من النظافة الغريبة بالنسبة لبلادنا فإنهم لا يعدون أنفسهم من الأمم كثيرة العناية بالنظافة...ومن الأمم من هى كثيرة الاتساخ وكثيرة القمل ، بل تجد بعض أناسها يأكلون القمل ولا يُبالون .! ) .

الطهطاوى يحمل فى داخله التعصب ضد النصارى ، فعنده أن الفرنسيين النصارى ليس لديهم من الايمان ذرة . وهو يُصرّح بقذارة الأقباط المصريين ويقارن ( الوخم والوسخ ) لدي الأقباط بنظافة الفرنسيين . وينسى أن المسلمين المصريين شركاء الأقباط فى وحدة وطنية مع القذارة . بل إن الطهطاوى حين أشار معايشة القمل وأكله لم يُصرّح بأنهم المصريين المسلمين ، بل قال ( ومن الأمم من هى كثيرة الاتساخ وكثيرة القمل ، بل تجد بعض أناسها يأكلون القمل ولا يبالون ).

والطهطاوى يكرر المقارنة بين نظافة الفرنسيين وقذارة الأقباط المصريين ، فقال ( ومما يُمدح به الفرنساوية نظافة بيوتهن من سائر الأوساخ ، وإن كانت بالنسبة الى بيوت الفلمنك كلاشىء . فإن أهل الفلمنك أشد جميع الأمم نظافة ظاهرية . كما أن أهل مصر كانوا أيضا اعظم أهل الدنيا نظافة ، ولم يقلدهم ذراريهم وهم القبطة فى ذلك ) ( تخليص الابريز فى تلخيص باريز :1 / 106 : 107 ،  2 / 199 ) .

 

 

 

       ج3 / ف 6  : التصوف ونشر المساوىءالاجتماعية :  البذاءة

   كتاب (التصوف والحياة الدينية فى مصر المملوكية )

الجزء الثالث : أثر التصوف فى الانحلال الأخلاقى فى مصر المملوكية 

 الفصل السادس : التصوف ونشر المساوىءالاجتماعية :  البذاءة 

  الإسلام دين الإحسان فى القول والعمل : ( وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ) البقرة 83") والمسلم لايكتفى بالإعراض عن البذاءة بل يعرض عن أصحابها ، يقول لهم ( سلاما ) : (  وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمْ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً )  الفرقان ) 63")(  وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ) (  القصص 55) . وفى إعطاء الصدقة لا يقبلها رب العزة جل وعلا حين يصاحبها منُّ وأذى قولى : ( الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنّاً وَلا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (262) قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِوَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (264)  البقرة ).

أما التصوف فله شأن آخر . هو البذاءة .

بين التصوف والبذاءة :

 1 ـ بدأ  التصوف بالبذاءة مع الله تعالى فيما عرف بالشطح أو إعلان الصوفى عقيدته فى الله افتراء على الله وجرأة عليه ، وبغض النظر عن الشطح ــ وهو من لوازم التصوف ــ فإن أهون مظاهر التصوف فيها إساءة لله تعالى، من ذلك ادعاؤهم أن الله تعالى اختارهم وحدهم من دون البشر جميعا لولايته وحكَمهم فى ملكه وفضلهم على ذاته بدون أى مبرر ، فكأنهم وصفوا الله تعالى بالظلم والضعف والجهل، تعالى الله عما يصفون عُلُوّا كبيرا .وأى صوفى معاصر إذا دافع عن افتراءات الصوفية فقد أوقع نفسه فى اتهام الله تعالى وسبه، ولذلك أمر القرآن بعدم جدال المشركين لأنهم فى دفاعهم عن عقيدتهم الضالة يقعون فى سب الله تعالى دون أن يدروا، يقول  سبحانه وتعالى : ( وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ ) (108) الأنعام108".).

2 ـ وبعد سب الله تعالى بالشطح أجترأ الصوفية على البذاءة فى حق الناس، بدأوا بالدين والعقيدة وانتهوا بالسلوك ، والشيخ نصر المجذوب ت922 " كان يشتم السلطان  فمن دونه ويحتمله الناس"[109]. ويشتم من كلَمه ويستر حاله"[110].

  بل كانت الجرأة على السلطان دليلا على الولاية حتى لو كان صاحبها غير مستحق  لها فى عرف الناس، والجرأة هنا مقصود بها البذاءة، أو الشطح فى حق السلطات وفى حوادث سنة 854" اشتهر عبد أسود بالولاية، وذلك لأنه عارض الإستادار وأفحش فى خطابه ، ولم يستطع الإستادار مسكه فتحاكى العوام عنه مايدل عندهم على الصلاح على أنحاء مختلفة ، وفشا أمره جدا"[111].

وقبيل العصر المملوكى إشتهر بعض محققى التصوف بالبذاءة . فالشيخ الفخر الصفدى ( ت 622 ) نزيل مصر كان شيخا مشهورا بعلمه بمقالات التصوف ، ويقول عنه المؤرخ ابن أيبك الصفدى ( وله تصانيف فى الطريقة . وكان بذىء اللسان كثير الوقيعة فى الناس ) ( الوافى بالوفيات 2 / 9 ) .

  3 ـ وبدأت البذاءة ببداية التصوف تحت اسم عدم الاحتشام وترك التكلف يقول الجنيد : ( صحبت أربع طبقات كل طبقة ثلاثون رجلا.. فما تآخى اثنان فى الله واحتشم أحدهما من صاحبه . ) .

 وجعل الغزالى من حق الصحبة : (  التخفيف وترك التكلف والتكليف ).  ويقول : (  وتمام التخفيف طى بساط التكليف حتى لا يُستحى منه فيما لايستحى من نفسه ، وقال بعض الصوفية لاتعاشر من الناس إلا من لاتزيد عنه ببر ولاتنقص عنه بإثم ، يكون ذلك لك وعليك وأنت عنده سواء، وقال بعضهم: كن مع أبناء الدنيا بالأدب ومع أبناء الآخرة بالعلم ، ومع العارفين كيف شئت ) "[112].

 4 ـ والصوفية كانوا فى بداية الأمر من أصحاب الحرف وأبناء الطبقات الشعبية التى يختلط لديها مفهوم الصراحة بالبذاءة، وأغلبيتهم كانوا أميين لم يلتزموا بفلسفة الغزالى التى تخفف من مفهوم البذاءة، لذا كان لأوباش الصوفية منذ بدأ التصوف فلاسفتهم الذين توسعوا فى مفهوم البذاءة ضمن ماتوسعوا فيه فى كل ما تهواه نفوسهم.  وكان من الطبيعى أن ينقم مثقفو الصوفية على أولئك الأوباش صراحتهم واستعمالهم مصطلحات شأن الكبار والتوسع فيها ، يقول الواسطى فيهم : (  نقضوا أركان التصوف وهدموا سبيلها وغيروا معانيها بأسامى أحدثوها، سموا الطمع زيادة وسوء الأدب أخلاصا . ) ، أى أصبحت البذاءة أخلاصا، يقول الواسطى : (  جعلوا سوء أدبهم إخلاصا وشره نفوسهم انبساطا ) [113].

البذاءة فى رسوم التصوف ومؤسساته الدينية:

1 ــ وحين انتشر التصوف فى العصر المملوكى وتكاثرت طوائفهم ، وكان من بينها طائفة القلندرية وكان من رسومهم مايعبر عن البذاءة وهى : (  طرح التقيد بآداب المجالسات والمخاطبات ) "[114].

2 ــ  وحين أقيمت لهم فى العصر المملوكى المؤسسات الصوفية أصبح من طقوسهم الدينية استقبال الضيف ـ لا بالإكرام ـ ولكن بالشتم والسب والإهانة ، وبعد موشح الإساءة للضيف يأمرونه عند إرادة دخول الرباط  : ( أن يقف على الباب ثم يخرج إليه من فى الرباط فيوذونه بالشتم، ويقلون الأدب عليه ، ويخرقون حرمته ، ويكسرون الإبريق الذى معه ، ويفعلون ذلك به مرة بعد أخرى حتى ييأسون من غضبه، ويعللون ذلك بأن يقفوا على حسن خلقه وحمله للأذى، ثم يخرج إليه الخادم فيأخذ السجادة عن كتفه وهو ساكت لايسلم أحدهما على الآخر ويدخل الخادم والوارد يتبعه . ).

3 ــ  وداخل المؤسسة الصوفية كانوا يتشاتمون ، وانتقل ذلك منهم للناس كالعدوى ، وما أسهل وما أسرع إنتشار الفساد القولى والفعلى . ، يقول ابن الحاج عن بذاءتهم مع بعضهم : (  وقد جاوزوا الحد فى ذلك، يشتم بعضهم بعضا دون أجنبى بينهم يكفهم . ولو نبههم أحد على ماهم فيه من شدة القبح المجمع على منعه ، فمنهم من يسخر منه ويقول : "إن هذا بسط"">[116].اى ظل هذا الصوفى يسيء الأدب على ( ابن حجر العسقلانى ) شيخ السخاوى حتى إضطر ابن حجر لترك المجلس .

 وبعض مؤسسى الخوانق حاول أن يسمو بمستوى خانقاته ؛ فجمال الدين الاستادار جعل من شروط السكنى فى خانقاته : ألا يكون الصوفى معروفا بالسلاطة والإفتراء على الناس "[117].

ومن الصعب العثور على هذا الصنف من الصوفية طالما أن دينهم قائم على ارضاء هوى الأنفس فى كل ماتريد.لذا كان الشرط مُخففا ، ألا يكون معروفا بالبذاءة . أى يكون متصفا بها ولكن ليس مشهورا بها .

شيوخ البذاءة

1 ــ  وبعض الصوفية تعرض للمساءلة بسبب بذاءته ، مثل أبى الخير  الذى استقبل أحد الأشراف بقوله: ( أهلا بالكلب ابن الكلب ، وكرر ذلك ثلاثا ).! ولكونه شريفا حسب تقاليد العصر فقد ادعى الشريف عليه[118]

2 ــ ونفى الشيخ ابن العطار أحد أعيان الصوفية فى الشيخونية بسبب بذاءته فى حق الأشياخ[119].          3 ــ وحتى فى الوعظ كان بعض الصوفية لايستطيع التحكم فى لسانه مثل الشيخ الجعبرى الذى كان " يشتم فى الوعظ "[120].

 4 ــ  وفى خصومة الصوفية مع الفقهاء كان السب أهم أسلحتهم فى الجدال.

يقول ابن تيمية عن خصومه الصوفية فى القرن الثامن : (  انقلبوا فينا بالسب القبيح والشتم . ) "[121].

ويقول البقاعى  عن خصومه بعدها فى القرن التاسع : (  فعُلم من تركهم الكتابة على شدة الخصومة والمشاورة والانتقال إلى الفحش أن المراد أن يغلبوا بالباطل . )"[122].

5 ــ وفى المجادلات فيما بينهم كان اللسان ينزع دائما للبذاءة حتى أن الشعرانى عد من المنن إقامته": ( العذر باطنا للإخوان إذا أخرجوا أخلاقهم الرديئة على بعضهم ، فكان لا يبادر  لعتاب أحد منهم " إذا خرج فى سوء  الخلق عن الحد ) "[123]. يعنى مقبول منهم سوء الأدب العادى أما إذا تطور وزاد عن الحدّ ، فالشعرانى أيضا يجد لهم العذر .

 6 ــ  ويذكر أبو المحاسن أن الولى الصوفى محمد السنارى ت 855 " أفحش فى الجواب للوالى حين أراد أخذ بعض أتباعه بسبب تهمة" [124].

القضاة والبذاءة :

1 ــ  وامتد وباء البذاءة للقضاة وهم صوفية بالدين وأعداء الفقهاء المنكرين على الصوفية.

2 ــ والسخاوى يذكر فى ترجمة الشيخ عبدالباسط بن النقرى أنه كان يصرح بالإنكار على بذاءة الفقهاء ولكن يحكى عنه السخاوى حكايتين تمتلئان  بالسب القبيح .  أما القاضى عبدالبر بن الشحنة وهو شيخ الحديث والتصوف فى الشيخونية وقاضى قضاة الحنفية ، فقد قال عنه السخاوى : (  لم يضبط لسانه من الوقيعة فى الأكابر ولم يسلم من آذاه أحد ) "[125].

ويقول أبوالمحاسن فى ترجمة " الإمام المحقق الفقه " المحلى الشافعى ىت 864  ( وكان فى طباعه حدة مع عدم التكلف، بحيث أن كان من لايعرفه يظنه من جملة العوام ) [126].

3 ــ وقاضى القضاة السفطى ت 854 كان نموذجا حيا لتأثر القضاة بالتصوف يقول عنه أبوالمحاسن " : ( كان ذا أوراد هائلة وصلاة وخشوع وصوم وعبادة ، مع بذاءة لسان وفُحش فى لفظه. )  فذلك القاضى الصوفى لم ير تعارضا بين أوراده وصلاته وبين بذاءته وفحشه .

وفى موضع آخر يتحدث عنه أبو المحاسن فيقول معبرا عن ذلك التناقض فى شخصية قاضى القضاة السفطى : ( أظهرفى ولايته من شراسة الخلق وحدة المزاج والبطش وبذاءة اللسان أمور يستقبح ذكرها، هذا مع التعبد والاجتهاد فى العبادة ليلا ونهارا من تلاوة القرآن وقيام الليل والتعفف عن المنكرات والفروج حتى أنه كان فى شهر رمضان يختتم القرآن الكريم كل ليلة فى ركعتين، أما سجوده وتضرعه فكان إليه المنتهى، وكانت له أوراد هائلة دوما فكان بمجرد فراغه من ورده يعود إلى تسليطه على خلق الله وعباده ) [127]. فذلك القاضى صريع التصوف جعل من أوراده وعبادته طريقا للغلو فى الظلم والبذاءة على الخلق.

 4 ــ وفي خصومات القضاة ومناقشاتهم كان الأمر يتطور سريعا إلى الفحش والسب العنيف حتى لو كان في حضرة السلطان.. ويذكر المقريزي في حوادث سنة 821 أنه حدث تنافس بين القاضيين الهروى والديري أمام السلطان" ( وخرجا عن الحد حتى تسابا سبابا قبيحاً بحضرة السلطان. )(  وقد اجتمع من طوائف الناس خلق كثير يقول المقريزي: (  فكان هذا مما لايليق. ). " وفي مجلس آخر بحضرة السلطان أيضا تسابا وعدّد الديري مساوئ الهروى وأنه كان من أتباع تيمور لنك وحجر عليه وعلى الفتوى، ونفذ القاضيان الآخران حكمه في الهروى يقول المقريزي: (  فكان مجلسا غاية في القبح . )"[128].

5 ــ ويذكر الصيرفي في حوادث سنة 821 أيضاً ما وقع من الاستادار وناظر الخاص من كلام فاحش أمام السلطان المؤيد شيخ ، يقول الصيرفي : ( وانفتح القاضي – ناظر الخاص – على فخر الدين – الاستادار- ورماه بأمور عظيمة ولم يلتفت السلطان إلى ذلك، وأصلح بينهما . ).

وفي حوادث 822  تشاجر الوزير والاستادار: ( وافحشا الكلام ، وآخر ذا أخلع عليهما السلطان ، وألزمهما بحمل مائة ألف دينار. )"[129].   

 ويذكر العينى في حوادث 822 ( أفحش كل من الهروى وابن المغلى في حق بعضهما". ) ، و ( "أفحش الديري في حق الهروى . )"[130] .

6 ــ وكلمة ( أفحش فلان ) ومرادفاتها تتكرر كثيرا فى التاريخ الملوكى وحولياته التاريخية .

وفي قراءة سريعة لبعض صفحات من كتاب ( إنباء الغمر ..)  لابن حجر نرى الآتى :

( وفيه تشاجر الوزير والاستادار وتفاحشا". ) (  وتقاول القاضيان الشافعى والحنفى حتى تسابا وأفحش الديري في أمر الهروى. ) ، ( وتحامى كثير من النواب الركوب مع الهروى خوفا من البلقينى ومما يقاسونه من السب الصريح من أتباعه. ) ، (  وحضر السلطان في خاصته في الجامع بباب زويلة واجتمع عنده القضاة فتنافس كل من القاضيين الهروى والديري ، وخرجا عن الحد في السباب والفحش في القول ثم سكن السلطان ما بينهما فسكنا . ) ، (  وعظم الشر بين فخر الدين الاستادار وبدر الدين بن نصر الله وتفاحشا بحضرة السلطان . ) ، ( وفي مجلس السلطان واجه الشيخ ابن المغربي صدر الدين العجمى بأنه يتمنى ورث السلطان ويدعو عليه ، وتفاحشا في القول . ) ، ( وعقد مجلس بسبب زيادة الجوامك لمدرسي المنصورية ، وقام في ذلك القمنى ، وحصل بينه وبين المحتسب كلام سيئ ، وتساقطا ً ، فقام السلطان وتركهم . ) [131]  ".

 وفي تاريخ ابن إياس يكثر قوله " أفحش فلان " كما لو كان الكلام المتداول بين خواص الناس كله فحشاً، ويقول في حوادث سنة 912 أنه وقع تشاجر بين قاضى القضاة الشافعى ابن النقيب والحنفى عبد البر بن أبى الشحنة : ( حتى خرجوا في ذلك عن الحد . )" ( وأمر هذه الواقعة اشتهر بين الناس. ) " ( وعندما ذهب لتهنئة السلطان بالشهر "ربيع أول" أصلح بينهما )[132].

 وفي حوادث 922 ": ( وقع بين القاضيين الشهاب الرملى والقارئ بسبب إمامة الجامع الأموى كلمات قبيحة لاتصدر من مثلهما ولا من أقل منهما يؤدى أمرها إلى شئ عظيم حتى بقى جماعات من الترك ( المماليك ) وغيرهم يستهزئون بأهل الشرع . فلما كثر ذلك عزلهما موليهما ) "[133]. . هذا ما يذكره ابن طولون عن قضاة دمشق.

المماليك :

1 ــ  ومن الطبيعي أن يمتد الأمر للمماليك وقد امتاز برسباى عن غيره من السلاطين بعفة لسانه، يقول فيه أبو المحاسن: ( كان برسباى يعيب على المؤيد – شيخ – سفه لسانه.  أما الأشرف – برسباى – فإنه كان لايسفه على أحد من مماليك ولاخدمه..فكان أعظم ما شتم به أحداً أن يقول له حمار، وكان ذلك في الغالب مزحاً.  ولقد داومت خدمته من أوائل سلطنته إلى أن مات فما سمعته أفحش في سب واحد بعينه كائن من كان. )".

وفي نفس الوقت يصف أبو المحاسن الكثيرين من الأمراء المماليك بالفحش والبذاءة ، ومنهم الأمير تمر باى ت 853 الذى وصفه بحدة الخلق وبذاءة اللسان.

وذكر أن ابن العطار ت853 خدم عند الزيني عبد الباسط ناظر الجيش "( فملأه سباً وتوبيخاً عند مباشرته إلى أن ملَ ذلك وترك التوقيع") . 

أما الأمير سيف الدين ايتمش فقد وصفه أبو المحاسن بكثرة الكلام فيما لا يعنيه ومخاطبة الرجل بما يكره وتوبيخ الشخص بما فيه من المعايب بلا عداوة بينهما مع البادرة والجرأة والإفحاش في اللفظ"[134] .

2 ــ وامتدت البذاءة إلى نساء المماليك . ويذكر المقدسي أنه لما مات السعيد ناصر الدين بركة ت678 "خرجت الخواندات حاسرات ، واسمعن المنصور قلاوون الكلام القبيح من سب وغيره وهو لا يتكلم"[135].

العوام :

1 ــ  وتوارث المصريون حتى الآن من التصوف بذاءته ، فالعوام يحتفظون بالآثار السيئة ويحافظون عليها، وفي إحدى موجات الغلاء في القرن التاسع اجتمع جمهور من العامة": ( من داخل باب زويلة إلى تحت القلعة ، وأكثروا من الاستغاثة والصياح والشنعة مع السب واللعن والتهديد والتصريح بالعيب الذي له من مزيد ، من غير إفصاح بمراد ولا إيضاح شيئ مستقر في الفؤاد، لكثرة غوغائهم ولغطهم ودعائهم إلى أن اجتاز بهم المحتسب .. فأخذوه بتلك الألسنة وأوسعوه من الإساءة المعلنة ولم يتحاشوا عن القذف بالتصريح والإيماء..إلى أن طلع القلعة بعد أن ملأ من السوء سمعه) "[136]

2 ــ والمثل الشعبي يشير إلى الأصل الصوفي الذي تعتمد عليه البذاءة عند المصريين وهو: ( البساط أحمدى") ، ويضرب في طرح التكليف والإحتشام بين الحاضرين"[137].

3 ــ وفي العصر العثمانى يصور كلوت بك ذلك الملمح  في الحياة الإجتماعية المصرية يقول : (  تثور المنازعات بأسباب تافهة ، وتتبادل فيها ألفاظ السب والشتم واللعنات ، ويتراشق الفريقان بالمخازى والمعاير ، فيتبادر للذهن أن الشجار لسوف يفضي إلى أوخم العواقب ، إلا أنه قلما ينقلب الشجار بين المصريين من التنابذ بالقول إلى التضارب بالأيدي، بل أنه سرعان ما تهدأ النفوس وتسكن ثورة الغضب فيها بعد تنازل أحد الخصمين عن حقه بقوله للآخر: الحق علىّ .. وقد يتعانقان  تعانق الوئام والوداد". ) أى أن الشجار في معظمه سباب وبذاءة لا حد لها دون تضارب.

4 ــ  ويقول كلوت بك عن معجم السباب عند المصريين ": ( ومعجم الشتائم عندهم غني بكثرة الألفاظ ، ومنها ما يندى الجبين خجلاً.. وهم يتظاهرون أحيانا بالبصق على الذين يشتمونهم لأن البصق في نظرهم أبلغ فى الإهانة والتحقير"[138].

وفي العصر الحديث يقول أحمد أمين: ( معجم المصريين في السباب معجم وافٍ ذو ألفاظ متعددة ، وكلما مضى زمن زيدت هذه الألفاظ ، وكثيراً ما يستعملون في السباب أسماء  بعض الحيوانات كالخنزير والكلب والحمار، وربما كان أشنع السباب عندهم السباب بالدين كابن النصرانى وابن اليهودى ويا كافر. ) [139].

5 ــ وأقول أن "سب الدين" انتشر حتى لم يعد عيباً . ومع سب الدين انتشر سب الأم في كرامتها وشرفها بألفاظ واضحة مكشوفة .

والمفجع في الأمر أن سب الدين أو سب الأم لا يستعمل دائماً عند الغضب ، بل تعدى إلى مناسبات الفرح والمداعبة بل والإعجاب ..

وهذا يذكرنا بمدح الشعرانى لأشياخه بأنهم أصحاب شطح عظيم..

وهكذا عندما يسود الفساد لا يصبح عيباً..بل قد يكون مسوغاً للمدح والإعجاب ..

 

  ج3 / ف 6:التصوف ونشر المساوىءالاجتماعية :الغيبة والنميمة..والمقاريض

   كتاب (التصوف والحياة الدينية فى مصر المملوكية )

الجزء الثالث : أثر التصوف فى الانحلال الأخلاقى فى مصر المملوكية 

 الفصل السادس : التصوف ونشر المساوىءالاجتماعية

" الغيبة والنميمة"

  من المنهى عنه إسلاميا الغيبة والنميمة ضمن رذائل أخرى حددها رب العزة جل وعلا فى القرآن الكريم : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ (11) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12)   الحجرات )،  هذا فى الاسلام . أما التصوف فله شأن آخر .

بين التصوف والغيبة والنميمة:

1ـ  الصوفية لم يكن في حياتهم ما يشغلها بخطير الأمور ، وإنما عاشوا في فراغ عالة على الناس،  وفي تنافس مستمر فيما بينهم على المريدين والنذور ، مما جعل عملهم وتسليتهم الأساسية في الغيبة والنميمة.

2 ــ  ومنذ بدأ التصوف بدأت معه دولة الغيبة والنميمة ، حتى لقد نصح بعض الأشياخ بأن ينشغل الصوفية عن الغيبة بمطرب أو منشد مُغنّى أو ( قوّال ) . يقول أبوالقاسم النصراباذى: (  أنا أقول إذا اجتمع القوم فيكون معهم قوَال يقول، خيرا لهم من أن  يغتابوا . )"[140].

وانتشر التصوف فتعاظمت دولة الغيبة والنميمة حتى يقول الدلجى إن من آفات الفلاكة ـ أى الفقر والتصوف ـ "( الغيبة والطعن فى أعراض الناس والغض منهم) "[141]. ويقول السيوطى عنهم: ( ومنهم من تراه يتتبع عيوب الخلق فيذكرها ) "[142].

فى المؤسسات الصوفية :

1 ــ وكانت مؤسساتهم مراكز أساسية لهذا النشاط حتى يقول الشعرانى : (  وقبيح على شيخ الزاوية مثلا أن يجلس فى مجالس الغيبة والنميمة أو يُقرّ أحدا على ذلك ، فإنه يصير فاسقا، وهذا أمر قد استهان به الناس ، مع أنه أقبح من بيع الحشيش، ومع ذلك فلا يكاد أحد أن يستقبحه كل القبح"[143].  أى فقط بعض القبح ، أى صار عادة شائعة لاتستوجب إنكارا.

 بل كانوا يمارسون الغيبة والنميمة أثناء قراءة القرآن، فى تلك المؤسسات ،  يقول السبكى عن القُرّاء : (  القراء قد يتحدثون مع بعضهم البعض أثناء قراءة الجزء من الربعة، فلا هم يقرأون القرآن ولاهم يسكتون من اللغو فى الكلام، فإن انضم إلى ذلك أن قراءة الجزء شرط الواقف وأن حديثهم فى النميمة فقد جمعوا حراما ) "[144]. ذلك أن من أقام للصوفية الخوانق والربط والزاوية كان يشترط فى حجج الوقف أن يقرأوا القرآن ، وماكان يدرى أنها ستتحول إلى دروس للغيبة والنميمة.

شيوخ الغيبة والنميمة

 1 ــ  واشتهر كثيرون من الأشياخ الصوفية فى مجال الغيبة والنميمة، مثل الفخر الصوفى ت622" الذى ( كان بذىء اللسان كثير الوقيعة فى الناس"[145]. على حد قول الصفدى الذى يمدح صوفيا آخر هو ابن الفخر ت731 بأنه " كان متعبدا ممتنعا من الغيبة وسماعها"[146]. أى أن الغيبة والنميمة من عادات الصوفية ، ومن نجا منهما مدحوه بذلك .

2 ــ والقضاة ــ كالعادة ـ شاركوا فى الميدان . فقاضى قضاة حلب " شهاب الدين بن أبى الرضا ت791 ( كان مولعا بسلب أعراض الناس مستهزئا بأقوال الأكابر من العلماء والصالحين مواظبا على النفاق وإساءة الأدب والإساءة لمن أحسن إليه) [147].

والشيخ تقى الدين المصرى ت834  ( تفقه وتكسب بالشهادة واشتهر بمعرفة الملح ) أى الطرائف ، (  وسلب أعراض الناس خصوصا الأكابر فكان بعض الأكابر يقربه لذلك )"[148]. أى كانوا يطلبونه لأنه متخصص فى الغيبة ونشر أخبار الناس صحيحة أو مُلفّقة ، أى كان بتعبير عصرنا جريدة صفراء للفضائح تسير على قدمين ، ويُقبل عليها الناس .

فى القرن العاشر

1 ــ  وفى القرن العاشر سادت دولة الغيبة والنميمة إلى حد أكلت أعراض الأشياخ الصوفية أنفسهم، وإلى حد شارك فيها المريدون فى الوقيعة بين الأشياخ الذين تكاثروا عددا، وتعاظم التنافس والحقد بينهم ، ولم يعد لهم من عمل إلا أكل لحوم بعضهم البعض.

2 ــ والشعرانى أبرز الأشياخ فى عصره افتخر بحفظه لمقام أصحابه ( ومن أكل معه عيشا وملحا مع أن هذا خلق غريب) فى أيامه . ، يقول": (  ومما أنعم الله تبارك وتعالى به على حفظى لمقام صاحبى ومن أكلت معه لقمة ملح فى وقت من الأ" title="">[150].

ويقول الشعرانى : ( وقد رأيت شخصا عاد (أى زار ) مريضا فلما مرض هو لم يأت إليه، فمزق عرضه فى الآفاق.  وقد مرض شخص من مشايخ العصر فطلب من سيدى على المرصفى أن يعوده فلم يجبه إلى ذلك وقال إنما يطلب عيادتى طلبا للشهرة عند الأمراء الذين يعتقدونه ويقول الناس أن المرصفى زار سيدى الشيخ اليوم، ثم أن ذلك الشيخ صار ينقض عرض الشيخ المرصفى".)

المقاريض :

1 ــ هم مريدون تخصصوا فى إبتزاز شيوخ الصوفية باستعمال الغيبة والنميمة . ووجدوا لهم سوقا رائجة فى جلسات الشيوخ الصوفية أنفسهم ، ينقلون الأخبار و الوقائع والخصومات والفضائح .

2 ــ ويحكى الشعرانى عنهم ضمن كلامه عن  مجالس الغيبة والنميمة فيقول عن الأشياخ : (  بل رأيت بعض المشايخ يستجلب كلام اللغو من الداخلين عليه، يقول لهم : إيش أخبار الناس اليوم ؟ فينفتح الزائر كأنه جسر وانقطع ، ويحكى له ماجمعه فى تلك الغيبة كلها من غيبة ونميمة وقذف عرض وذكر نقائص الناس من سائر أصناف الخلائق. ثم يقول للزائر: والله ماأنت إلا حكيت لى، إيش بقى معك أيضا ؟ كأنه ماكفاه ماوقع فيه من الإثم حيث لم ينكر عليه شيئا مما قاله فى الناس من الغيبة لاسيما غيبة العلماء والمشايخ، وكيف ينكر عليه وهو الذى استجلب منه ذلك.!! )".

3 ــ وأولئك الأشياخ تربى عليهم جيل من المريدين يرتزق بالوقيعة بين الأشياخ بنقل الأخبار أو يصنعها. هم مريدون بلا إخلاص لأى من الأشياخ ولا يعتقدون فى ولايتهم فأرادوا إبتزازهم بالغيبة والنميمة. عرفوا طبيعة الأشياخ على حقيقتهم وأسرارهم  ومخازيهم وأنهم منتحلون منحلُّون يتكسبون بالدين ،وبالتالى فلن تكون الغيبة والنميمة مجرد إفتراء ، بل فيها حقائق . هؤلاء المريدون كانوا خطرا على هيبة الشيوخ الذين تقوم أرزاقهم ومكانتهم على الاعتقاد فيهم . وإذا تلاعب هؤلاء بالأشياخ فمن الطبيعى أن تضيع هيبة الأشياخ ويزول الاعتقاد فى كرامتهم . أى كان أولئك المريدون أشبه بمن يمارس الابتزاز فى عصرنا ، أو كانوا مثل بعض وسائل الاعلام التى تحترف مطاردة الأثرياء لتتكسّب منهم .

والشعرانى كان يتخوف من هذا الصنف من المريدين فى عهده ، ويسميهم ( مقاريض ) أى يقرضون الأعراض بألسنتهم ،وكان يتودد اليهم وينافقهم لينجو من ألسنتهم ، يقول أن من المنن: ( حُسن سياستى للمقاريض الذين يقرضون فى أعراض الناس بغير حق، فأقدم لأحدهم الطعام إذا ورد على ، وأبشُّ له فى وجهه وأباسطه ، وكثيرا ماأعطيه ردائى وقميص أو شيئا من الدنيا ، ونحو ذلك مما يحبّبه فىَ . ).

4 ــ ومن براعة الشعرانى فى اكتشاف طبيعة هذا الصنف أنه كان أثناء مباسطته معه يأخذ منه الأخبار دون أن يعطيه من أخباره شيئا، ثم يقول الشعرانى عن سياسته تلك مع المقاريض : ( وهذا الخُلق قلّ من يفعله من الناس ، فإنهم إماينكروا على ذلك المقراض ويعبسوا فى وجهه فيخرج مقراضا فيهم كذلك ، وإما أنهم يشاركونه فى الغيبة فى الناس وإما أن يسكتوا على تلك الغيبة. )".

5 ــ ويحذر الشعرانى الأشياخ من هذا الصنف من المريدين : (  فإياك ياأخى أن تذكر أحدا ممن يبايعك على النصح بسوء تنقصه به فى المجالس فإنه ربما عاملك بنظير ذلك وصار يقطع فى عرضك وينقصك فى أعين الناس كما نقصته، وكثيرا مايبلغ الشيخ الكبير القدر أن فلانا يقطع  فى عرضك فيتكدر لذلك. وغالب مريدى هذا الزمان غير صادقين مع أشياخهم. ).

ومعناه أن أغلبية المريدين تحولوا فى عصر الشعرانى إلى مقاريض فى  أعراض الأشياخ باعتراف الشعرانى الذى يقول : ( فربما عاهد أحدهم شيخه على أنه ينصحه سرا وجهرا أى من ورائه لمن يبلغه ومواجهته وهو كاذب، فليحذر الشيخ من التهور فى ذلك وعدم التفتيش ، فربما ظن أن مريده مقيم على العهد ولا غير ولا بدل ، والحال أنه غيّر وبدّل فيفجُر على الشيخ ، كما وقع لى ذلك كثيرا مع أصحابى ، وصار بعضهم يمزق فى عرضى فى أى مكان حل فيه، وبعضهم يصرخ فى وجهى أنه ليس من جماعتى ثم أنه إذا احتاج إلى حاجة عند الولاة يكُبّر فىّ غاية التكبر ( أى يُعظّمنى نفاقا ) ويجعل نفسه من جملة المريدين حتى تقضى حاجته.  ويبلغنى عنه ذلك وأُقرُّه عليه غصبا على، فتارة يجعلنى متفعّلا ـــ أى منتحلا مدعيا ـــ وتارة يجعلنى قطبا ) "[151].

6 ــ وتجربة الشعرانى تثبت أن الصوفية أداروا رحى الغيبة والنميمة  فما لبث أن طحنت أعراضهم.

 

 

 



[1]
ـ الرسالة القشيرية 49،54.

[2]ـ الرسالة القشيرية 54، 49

[3]ـ. ـالاحياء جـ4/347، 350.

[4]ـ المدخل جـ2/201: 202

[5]ـ المدخل ج2/201: 202.

[6]ـالطبقات الكبرى للشعرانى ج1/138، 177.

[7]ـ لطائف المنن 173، 351 ط عالم الفكر.

[8]- لطائف المنن 173 ، 351 ط عالم الفكر .  

[9]- أبو المحاسن : حوادث الدهور ج3 / 591 .

[10]- التبر المسبوك 203 ، 204 .

[11]- حوادث الدهور ج3 / 594 .

[12]- إنباء الغمر ج3 / 21 .

[13]- الضوء اللامع ج4 / 19 .

[14]- العيدروس : أخبار القرن العاشر 74 .

[15]- الضوء اللامع ج3 / 135 .

[16]- المناوى . الطيقات الكبرى 255 ، مخطوط .

[17]- الشعرانى . تنبيه المغترين 108 .

[18]- الطالع السعيد 428 .

[19]- الوافي يالوفيات جـ1 / 164 .

[20]- إنباء الغمر جـ2 / 285 .

[21]- إنباء الهصر 82 .

[22]- أخبار القرن العاشر 29 .

[23]- عقد الجمان 387 .

[24]- إنباء الهصر 248 .

[25]- ذيل ابن العراقى 158 .

[26]- النجوم الزاهرة جـ 16 / 207 .

[27]-  التبر المسبوك 287 .

[28]- إنباء الغمر ج2 / 368 .

[29]- تاريخ الخلفاء 135 .

[30]- تأييد الحقيقة العلية47 .

[31]- وثيقة وقف جمال الدين الاستادار .

[32]- التبر المسبوك 48 .

[33]- حوادث الدهور جـ 3 / 519

[34]تاريخ البقاعى 53 ، 59 .

[35]ـ تاريخ البقاعى 53 ، 59

[36]- الرسالة 297 .

[37]- الاحياء جـ3 / 257 ، 344 .

[38]- الاحياء ج4 / 194 ، 350 .

[39]- الرسالة القشيرية 189 .

[40]- إحياء ج4 / 200 ،292 .

[41]- الجواهر السنية ، 32 ، 33 ، 34 .

[42]- المناوى . الطبقات الصغرى 89 .

[43]- الكوهن . طبقات الشاذلية 115 : 116 .

[44]- الرسالة القشيرية 237 : 238 .

[45]- الجواهر والدرر 112 .

[46]- الطبقات الكبرى للشعراني ج2 / 115 .

[47]- الرسالة القشيرية 119 .

[48]- العبر فى خبر من غبر ج5/ 240 .عقد الجمان للعين 54 /422.

[49]- عبد الصمد الأحمدى 38 الجواهر السنية .العلوى النصيحة العلوية 300 .

[50]ـ المنهل الصافى. مخطوط جـ15/191.

[51]ـ عقد الجمان وفيات 797.

[52]ـالطبقات الكبرى جـ2/129 ،130 ،93 .

[53]ـ الطبقات الكبرى جـ2/129 ،130 ،93.

[54]ـ الطبقات الكبرى جـ2/   129 ، 130 ،93 .

[55]ـ الشعرانى. آداب العبودية 31.

[56]ـ النجوم الزاهرة جـ15/328: 329.

[57]ـ طيف الخيال161. تحقيق ابراهيم حمادة.

[58]ـالطبقات الكبرى للشعرانى جـ2/168،167.

[59]ـ الطبقات الكبرى للشعرانى جـ2/167، 168.

[60]ـ الغزى. الكوكب السائرة جـ1/311.

[61]ـ تاريخ ابن الوردى جـ2/291.

[62]ـ المدخل جـ2/202.

[63]ـ الكواكب السائرة جـ1/213.

[64]ـ الشعرانى. الطبقات الكبرى ج2ـ/157، 132، 130، 134، 169، 157، 167.

[65]ـ الشعرانى  الطبقات الكبرى جـ2/157، 132، 130، 134، 169، 157، 167.

[66]ـ الشعرانى . الطبقات الكبرىجـ2/157، 132، 130، 134، 169، 157، 167.

[67]ـ الشعرانى. الطبقات الكبرىجـ2/ 157 ، 132، 130، 134، 169، 157، 167.

[68]ـ الشعرانى . الطبقات الكبرىجـ2/157، 132، 130، 134، 169، 157، 167.

[69]ـ الشعرانى. الطبقات الكبرى جـ2/157، 132، 130، 134، 169، 157، 167.

[70]ـ الشعرانى. الطبقات الكبرى جـ2/157، 132، 130، 134، 169، 157، 167.

[71]ـ الشعرانى. الطبقات الكبرىجـ2/157، 132، 130، 134، 169، 157، 167.

[72]- الكواكب السائرة جـ1 / 283 .

[73]- البدر الطالع جـ2 /149 .

[74]- النجوم الزاهرة جـ15 / 525 .

[75]- الطبقات الكبرى جـ2/ 130 ، 129 .

[76]- لمحة عامة إلى مصر جـ2 / 82 .

[77]- عبدالصمد. الجواهر 12 .

[78]- مناقب المنوفى 16 .

[79]- الطيقات الكبرى للشعرانى جـ2 / 135 . ، 169 ،168 .

[80]- الطبقات الكبرى للشعرانى جـ2 / 135 ، 169، 168 .

[81]- الطبقات الكبرى للشعرانى جـ2 / 135 ، 169 ، 168 .

[82]- الرسالة القشيرية 119.

[83]- الإحياء جـ4 / 296 .

[84]- الإحياء جـ4 / 192.

[85]- الرسالة القشيرية 211 ، 212 .

[86]- آداب العبودية 34.

[87]- الوافي بالوفيات .جـ2 / 320 ، 321 .

[88]- عقد الجمان حوادث سنة 792 .لوحة 410 .

[89]- الطبقات الكبرى للشعرانى جـ2 / 92 .

[90]- العيدروس : أخبار القرن العاشر 177 .

[91]- كلوت بك . لمحة عامة إلى مصر جـ1 / 581 .

[92]- أبو المحاسن: المنهل الصافي ج3ـ / 249 .

[93]- تاريخ ابن كثير جـ14 / 119 .

[94]- تاريخ الجذرى. مخطوط 369 .

[95]- النجوم الزاهرة جـ16 / 178 .

[96]- العيدروس. أخبار القرن العاشر 101 .

[97]- الغزى . الكواكب السائرة جـ1 / 167 .

[98]- المناوى . الطبقات الكبرى 384 أ ، 386 ب .

[99]- المناوى . الطبقات الكبرى 384 أ، 386 ب .

[100]- الطبقات الكبرى للشعرانى جـ2 / 130.

[101]- تاريخ الذهبى 31. ،47 .

[102]- مناقب المنوفى 16، 17 .

[103]- التبر المسبوك 36 .

[104]- نزهة النفوس . مخطوط 835 .

[105]- تاريخ البقاعى : 7 .

[106]- أحمد أمين. قاموس العادات والتقاليد 32، 135 .

[107]ـ أحمد أمين . حياتى : 31، 32، مكتبة النهضة المصرية .

[108]ـ قاموس العادات 397: 398.

[109]ـ الغزى . الكواكب ج1/311.

[110]ـ أخبار القرن العاشر 185.

[111]ـالتبر المسبوك،30.

[112]ـاحياء ج2/166.

[113]ـ الرسالة القشيرية 50، 41.

[114]ـ خطط المقريزى 3، 430، 431.

[115]ـ المدخل ج2/198.

[116]ـ التبر المسبوك 227.

[117]ـ وثيقة وقف خانقاه ، جمال الاستادار.

[118]ـ التبر المسبوك 315، 316، 90.

[119]ـ الطبقات الكبرى للمناوى 258، 259.

[120]ـالطبقات الكبرى للمناوى 258، 259.

[121]ـ تكسير الأحجار : 155.

[122]ـ تاريخ البقاعى 9ب .

[123]ـ لطائف المنن 348.

[124]ـ النجوم الزاهرة جـ16/5.

[125]ـ الضوء اللامع جـ14/31: 32، 34.

[126]ـ النجوم الزاهرة جـ16/5،209

[127]ـ حوادث الدهور جـ1/ 157، النجوم الزاهرة ج15/557.

[128]- السوك جـ4 / 1 / 471 ، 479 : 480 .

[129]- نزهة النفوس جـ2/ 428 : 429 ، 446 .

[130]-  عقد الجمان حوادث 821 ، 822 لوحة 469 ، 480 .

[131]- إنباء الغمر جـ3 / 165 ، 190 ، 192 ، 174 ، 214 ، 217 .

[132]- تاريخ ابن اياس ج4 / 95 ، 96 .

[133]- تاريخ ابن طولون ج2/ 10: 11 .

[134]- النجوم الزاهرة ج15/ 109 ،543 ،545 ، 499 .

[135]- تاريخ المقدسي 40 .

[136]- السخاوى. التبر المسبوك 260 .

[137]-  تيمور .الأمثال الشعبية 140 ،141 .

[138]- لمحة عامة إلى مصر : ج1 /556 ،597 : 598 .

[139]- قاموس العادات والتقاليد 227 .

[140]ـ احياء ج2/266.

[141]ـ الدلجى. الفلاكة والمفلوكون16

[142]ـ تأييد الحققةالعلية 47.

[143]ـ تنبيه المغتربين 215.

[144]ـ السبكى . معيد النعم 144: 145.

[145]ـ الوافى بالوفيات ج2/9، ج3/139.

[146]ـ الوافى بالوفيات ج2/9، ج3/139.

[147]ـ العينى . عقد الجمان لوحة 378.وفيات 791.

[148]ـ إنباء الغمر ج3/465: 466.

[149]ـ لطائف المنن ط. دار الفكر: 378، 407: 408، 313، 361، 256، 310.

[150]ـ لطائف المنن ط. دار الفكر : 378، 407: 408، 313، 361، 256، 310.

[151]ـ لطائف المننط. دار الفكر: 378، 407: 408، 313، 361، 256، 310.

كتاب ( التصوف والحياة الدينية فى مصر المملوكية
يقع فى ثلاثة أجزاء تتناول بعد التمهيد أثر التصوف فى العقائد الدينية والعبادات الدينية والحياة الأخلاقية فى مصر العصر المملوكى . تعطى مقدمة الكتاب لمحة عن أصل هذا الكتاب ، وأنه كان ضمن الأجزاء المحذوفة من رسالة الدكتوراة التى قدمها المؤلف للمناقشة حين كان مدرسا مساعدا فى قسم التاريخ الاسلامى بجامعة الأزهر عام ذ977 ، ورفضوها وبعد إضطهاد دام ثلاث سنوات تم الاتفاق على حذف ثلثى الرسالة ، ونوقش ثلثها فقط ، وحصل به الباحث على درجة الدكتوراة بمرتبة الشرق الأولى فى اكتوبر 1980 . من الأجزاء المحذوفة من الرسالة ينشر المؤلف هذا الكتاب بأجزائه الثلاثة ، يوضخ فيه أثر التصوف فى مصر المملوكية ويعرض فيه عقائد التصوف
more