رقم ( 18 )
ج 2 ف 4 أثر التصوف في الذِكر فى مصر المملوكية

ج 2 ف 4 أثر التصوف في الذِكر فى مصر المملوكية

 الفصل الرابع : أثر التصوف في الذِكر فى مصر المملوكية

فريضة ذكر الله جل وعلا فى الاسلام :

أولا : معنى ذكر الله جل وعلا ، وتعلقات فريضة ذكر الله جل وعلا :

1 ـ ذكر الله جل وعلا يعنى ذكره وحده جل وعلا  وحده جل وعلا بتعظيمه وتقديسه ، ولاشىء معه . وهذا يرفضه المشركون الذين يقدسون البشر ويذكرونهم مع الله جل وعلا كما يفعل المحمديون مع النبى محمد وغيره ، إذ كانوا لا يذكرون الله جل وعلا وحده بل لا بد أن يذكروا معه على سبيل التقديس أولياءهم وآلهتهم ، فإذا ذُكر الله جل وعلا وحده إشمأزّت قلوبهم ، بينما يستبشرون بذكر أوليائهم وآلهتهم . يقول جل وعلا :(  وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (45) الزمر ).

وأعظم ذكر لله جل وعلا هو ما يأتى من القرآن الكريم ، كلام رب العالمين ، وليس من تقوّلات البشر وأهوائهم ، وكانت للجاهليين نصوص فى الذكر والدعاء يتمسكون بها فى ذكرهم لرب العزة ، ومن أجلها كانوا يرفضون ذكر الرحمن من خلال القرآن وحده ، لذا قال جل وعلا عن إعراضهم عن ذكر الرحمن من خلال القرآن الكريم وحده : ( وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُوراً (46) الاسراء ). ونفس الحال فى المساجد التى جعلوها شركة بين الله جل وعلا وآلهتهم وأوليائهم ، وليست لعبادة الله جل وعلا وحده ، وتقديسه وحده ، وحين قام عليه السلام ينكر هذا كادوا يفتكون به : ( وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً (18) وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً (19) قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَ-بِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً (20) الجن ) .

هو ما يحدث فى أديان المحمديين الأرضية منذ العصر العباسى وحتى الآن ، لا يتخيلون ولا يتصورون أن يذكروا الله جل وعلا وحده ، ولا أن يعبدوه جل وعلا وحده . لا بد لهم من أولياء وآلهة تشارك الله جل وعلا فى حقوقه علينا من عبادة وتقديس وذكر وطاعة . ويوم القيامة ــ وهم فى النار ــ سيطلبون من رب العزة فرصة أخرى يخرجون بها من العذاب الأبدى فيقال لهم : ( ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (12) غافر ).

ولأن الذكر فى الاسلام هو لله جل وعلا وحده فإن معانى الذكر ومتعلقاته تأتى لتؤكّد أنه ( لا إله إلا الله )، إى إخلاص ( الذكر ) بكل معانيه وتعلقاته لله جل وعلا وحده بلا شريك من مخلوقاته ، سواء كان هذا المخلوق نبيا أو ملكا أو بشرا صالحا أو كافرا . لا ذكر لأى مخلوق بجانب الخالق جل وعلا فى أى من أنواع العبادة ، والذكر يتداخل فى كل العبادات كما يلى :

2 ـ جاء الذكر بمعنى :

2 / 1 :االدعوة للإسلام في قوله تعالى :( فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21)  الغاشية ) ( فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتْ الذِّكْرَى (9) الأعلى )  ، ( وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55) الذاريات 55)

2 / 2 ــ وجاء الذكر بمعنى القرآن :في قوله سبحانه و تعالى : ( فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (43) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ (44) الزخرف") ،( فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ (45)  ق45) ، ( ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1) ص ) ، ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9) الحجر) (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44) النحل )  (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1) مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2) (وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنكِرُونَ (50)  الأنبياء ) (أَؤُنزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ (8)  ص ) ( إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (87) ص )  ،( وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (69) يس ) (  وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ )( القمر 17 ، 22 ، 32 ، 40 )،(اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ )(23) الزمر )

 2 / 3  ـ وجاء ( ذكر) الله جل وعلا فيما يخص العبادة والشعائر فى المساجد من صلاة وأذان وتسبيح والتى يجب أن تكون خالصة لله جل وعلا وحده : ( وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَاباً صَعَداً (17) وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً (18) الجن ) . (  فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ (36) رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ (37) النور37). (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (114) البقرة 114 )  ولهذا فإن الجهاد الاسلامى له هدف أسمى هو حصانة بيوت العبادة للجميع من مساجد وغيرها ، يقول جل وعلا : (وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الحج   )  ،

2 / 4 : وجاء ( ذكر ) الله جل وعلا فى الصلاة عموما :(  إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمْ الصَّلاةَ لِذِكْرِي (14) طه )، ،وفى صلاة الجمعة خصوصا : ، ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ) (9)  الجمعة)  وقد تحولت صلاة الجمعة من العهد الأموى من الاقتصار على ذكر الله جل وحده الى خدمة السلطان القائم والدعاء له والدعاء على خصومه.

2 / 5 ــ  وفي الحج : ( لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ )(28) الحج ) ،(لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنْ الضَّالِّينَ (198)  (وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنْ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203) البقرة ).  

2 / 6 ــ  وفي الذبائح: ( فَكُلُوامِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ) المائدة 4 )، ( وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ) (121) الأنعام ) ( وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ)(36) الحج )

2 / 7 ــ وفي القتال الدفاعى فى سبيل الله جل وعلا : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45) الأنفال 45) ..

2 / 8 ــ وفى الذكر العادى باللسان والقلب، وهو الذى يُعرضُ عنه المشركون الذى لا يذكرون الله جل وعلا وحده ، وبالتالى فهم بذكر الرحمن كافرون : ( وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ (36) الانبياء ) وعنه ذكره جل وعلا معرضون :( بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (42) الأنبياء )، وينسون ذكر الله جل وعلا ويكون مصيرهم النار حيث يتبرأ منهم من إتخذوهم أولياء : (قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْماً بُوراً (18) الفرقان )

2 / 9 : ــ وهناك الذكر المنفرد بعد صلاة الجمعة (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (9) فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10) الجمعة ) وبعد صلاة الخوف  (فَإِذَا قَضَيْتُمْ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً (103) النساء )( حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238) فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً فَإِذَا أَمِنتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (239) ) البقرة )

 2/ 10 ـ  ويرتبط الذكر بالتسبيح والدعاء في قوله جل وعلا  : ( كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً (34)  طه  ). ولفريضة التسبيح أوقات فى الصباح وبالليل : ( فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ (55) غافر ) (  وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ (41) آ ل عمران ) ،

2 / 11 ـ كما يرتبط بنعم الله تعالى : (أَوَلا يَذْكُرُ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْئاً (67)  مريم ) ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (3) فاطر) (وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنْ الضَّالِّينَ (198) البقرة ) .

 2 / 12 ــ  كما يرتبط الذكر بالتفكر في عظمة الخالق جل وعلا ، وهذا هو ما يفعله المؤمنون ( أولو الألباب  (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ (269) البقرة ) (وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ (7) آل عمران ) (إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ (19) الرعد  )( وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ (52)ابراهيم ). ( إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ (9) الزمر ). 

 ووقت التفكر فى عظمة رب العزة مفتوح فى أى وقت وفى أى وضع :( الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِوَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191) آل عمران )

 

ثانيا : تشريع الذكر فى الاسلام:

1 ـ جاء الأمر بذكر الله جل وعلا كثيرا: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً (41) الاحزاب ) ووُصف المؤمنون والمؤمنات بالاكثار من ذكر الله جل وعلا كثيرا ( الاحزاب 35 )(الشعراء 227 ) وليس هنا أروع من قوله جل وعلا : (وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ ) (24) الكهف ).و شرحها يطول .

2 ــ وفيما عدا الفرائض فليس هناك وقت محدد للذكر ،ولكن هناك أوقات مفضلة للذكر أن يبدأ المؤمن يومه بذكر ربه جل وعلا ، ويُنهى يومه بذكر ربه جل وعلا : ( واذكر ربك كثيراً وسبح بالعشى والإبكار) ( آل عمران 41) ( وَاذْكُرْ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (25) وَمِنْ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً (26) الإنسان )( فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنْ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيّاً (11) مريم ).( وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (42)الأحزاب )( وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (9)الفتح ).

المؤمن الذى يبغى الدرجة العليا مقتديا بخاتم النبيين عليهم جميعا السلام ــ يقرن الصبر على الأذى فى جهاده ودعوته للحق مع استمرار التسبيح والحمد لرب العزة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها وفى آناء الليل وأطراف النهار ، فهذه هى أوامر  رب العزة جل وعلا : ( فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى (130) طه ) (فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39) وَمِنْ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ (40)  ق )( وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48) وَمِنْ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ (49) الطور ).

 

تشريع كيفية الذكر : بالتضرع والخوف والخفية وعدم الجهر بالقول

1 ــ ولأن الذكر عبادة كان لابد من تشريع لها ليجعله كالصلاة في خشوعها: ( قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) المؤمنون ). يقول جل وعلا عن التبتل والخشوع فى ذكر الله جل وعلا : (وَاذْكُرْ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً (8) المزمل  ) . والمؤمن الذاكر الله يتحرك قلبه خشوعا لله وخوفا إذا تذكر ذنوبه وعذاب الله : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانَاً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الانفال )(وَبَشِّرْ الْمُخْبِتِينَ (34) الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِ الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (35)  الحج ) .ثم إذا تذكر عفو الله اطمأن قلبه: (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28)  الرعد) " ويقول تعالى عن حالتي الخوف والإطمئنان: (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (23) )الزمر )

2 ـ والدعاء ضمن الذكر ، وهنا مفروض أن يقترن الدعاء بالصوت الخفى :( ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيّاً (3)  مريم ) ، وبالخشوع والتضرع، وإذن لا مجال في ذكر الله لرفع الصوت أو اللهو. وقد تحددت طريقة الذكر في قوله تعالى:( وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنْ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلا تَكُنْ مِنْ الْغَافِلِينَ (205) الاعراف ) . وخشوع الذاكر قد يجعله يخر لله  ساجداً حين يسمع القرآن ذكر الله : (إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً (58)  مريم )،( إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (15) تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنْ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (16) السجدة) . والدعاء بلا تضرع يكون إعتداءا على مقام رب العزة وسخرية منه جل وعلا ، يقول تعالى :( ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) الاعراف )  فالذي يرفع صوته أو يتغنى في دعائه قد اعتدى وطغى.وهو نفس الحال فى الاستماع الى ذكر الله ، والى القرآن : ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانَاً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الانفال ) ،(وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204) آلأعراف ) .

ثالثا : التقوى هى الهدف من ذكر الله جل وعلا

التقوى هى الهدف لكل العبادات الاسلامية : (  يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) البقرة ) ومنها الصلاة ، وهذا هو معنى إقامة الصلاة والهدف من ذكر الله جل وعلا بإعتباره أكبر ما يُعين على تجنب الفحشاء والمنكر :( وَأَقِمْ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (45) العنكبوت )  

والذكر بهذا الشكل الإسلامي فرض يحض على الطاعات ومداومتها ويزكي النفس: ( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15) الاعلى   )  فهذا الذى يتزكى ويتطهر بذكر الله جل وعلا يمنعه ذكر الله جل وعلا من الوقوع فى المعصية ، إذ يجتنب المعاصي إذا تذكر ربه : ( إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنْ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201)الاعراف )فإذا وقع فيها ذكر ربه فتاب واستغفر وأناب وعزم على ألا يعود للمعصية ، وهذه أيضا من صفات المتقين الذاكرين للرحمن جل وعلا :  (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) آل عمران )

رابعا : (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ )

إذا ذكرت الله جل وعلا ذكرك الله جل وعلا .أى ( أذكركم ) بالعون فى الدنيا والجنة فى الآخرة

بالعون فى الدنيا : وهذا وعد الاهى من الذى لا يخلف الوعد ولا يخلف الميعاد . يقول جل وعلا : ( فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ (152) البقرة ). بعدها يأتى الأمر بأن نستعين على كل شىء بالصبر والصلاة ليكون الله جل وعلا معنا لأنه جل وعلا مع الصابرين :  ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153) البقرة ) . وإذا كان قيوم السماوات والأرض معك أيها الصابر الذّاكر المتقى فلن تهاب أحدا من الخلق .

وحدث أن كان فرعون يحتكر كل أسباب القوة ويستخدمها ضد موسى وهارون وقومها المستضعفين . وبسبب التطرف الفرعونى فى الاضطهاد فقد إنفض معظم قوم موسى عنه رُعبا من الارهاب الفرعونى . فجاء الأمر الالهى لموسى وهارون بالصلاة فى بيوت سرية والتمسك بالصبر والصلاة والدعاء على فرعون . واستعان موسى وهارون ومن ثبت معهما من قومهما بالصبر والصلاة ، فتحقق وعد الله جل وعلا وأهلك فرعون ودولته ( يونس 83 : 93 ) . وتكرر هذا الأمر لبنى إسرائيل وأهل الكتاب فى القرآن الكريم فى خطاب مباشر لهم : (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ (45) البقرة ) كما قال جل وعلا لأهل القرآن فى نفس السورة :( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153) البقرة ) .

هذا فى الدنيا .  والله جل وعلا يذكر الذاكرين بالجنة فى الآخرة . وهو الفوز الأعظم .

هذا هو ذكر الله جل وعلا فى شريعة الاسلام وعقيدته . ولكن تحوّل ذكر الله جل وعلا عند المحمديين الى النقيض تماما . تحول الى لهو ولعب ومناسبات دينية للفحشاء والمنكر ، وتميز الصوفية فى مصر المملوكية بهذا الأفك .  

 المحمديون إتخذوا دينهم لهوا ولعبا

 مقدمة :

1 ــ عندما يذكر الخطيب إسم الله جل وعلا يصمت السامعون ( المحمديون ) مع إنه يجب تسبيح الله جل وعلا عند سماع إسمه العظيم . أما إذا ذكر الخطيب إسم النبى محمد فإن الجميع يجأرون بالصلاة والسلام عليه ، تقديسا وعبادة له . ومن لا ينطق بذلك ينظرون اليه شرزا كما لو إتضح لهم كفره . وأذكر فى التسعينيات أن أحد الأخوة من أهل القرآن خطب بمسجد بالاسكندرية ، ولم يذكر سوى آيات القرآن الكريم فإتهمه السنيون بإنكار السُّنة لأنه لم يذكر أحاديث نبوية على حد قولهم ، وبالتالى فخطبته عندهم باطلة. لا مانع لديهم من ذكر اسم الله جل وعلا ويسمعون إسمه ويسكتون ، ولا مانع لديهم من الاستشهاد بآيات من القرآن الكريم طالما لا تنفى معالم دينهم. ولكن الأساس هو ذكر آلهتهم مع رب العزة على سبيل التعظيم. وقد صنعوا لهم إلاها أكبر أسموه ( محمدا ) جعلوه يعلو عندهم على رب العزة الخالق جل وعلا. لهذا فإن ذكر المشركين لرب العزة بجانب إسم الاههم المصنوع هذا ليس هو الذكر الاسلامى على الاطلاق .

2 ــ ويضاف لهذا سبب آخر ، هو إن ذكر إسم الله عبادة اسلامية ترتبط بالخشوع والتقوى والتطهر ، ولكن ذكر إسم الله عندهم يرتبط بالسخرية واللهو واللعب والغرور بالدنيا ، والكفر بالآخرة . وفى سيطرة الاحتراف الدينى والتدين السطحى تجد إسم الله جل وعلا مستعملا فى اللهو واللعب بل وفى الجرائم . فى الأفراح الشعبية توجد كل مظاهر الانحلال الخلقى من مخدرات وخمرة ورقص جنسى وعاهرات ، والمغنى يشحذ همم المستمعين ويستجدى إعجابهم وهتافهم بذكر إسم رب العزة ، وهم يردون بترديد إسم رب العزة . وفى الأسواق حيث الغش والتدليس والخداع والبخس والتطفيف فى الميزان يتبادل البائع والمشترى الحلف باسم رب العزة يهلكون أنفسهم وهم لا يشعرون ، ونفس الحال فى التنافس السياسى أصبح إمتهان إسم رب العزة عادة سيئة بل تخصص فى ذلك الاخوان والسلفيون . بل إن القتل الارهابى يرتفع فيه ( الله أكبر ) ليكون رب العزة متهما بهذا .. سبحانك ربى هذا بهتان عظيم .. يذكرون إسمك العظيم إعلانا للحرب عليك يا من أرسلت رسولك الكريم بالقرآن الكريم رحمة للعالمين .. عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ..!!

3 ــ تقوم الأديان الأرضية للمحمديين على اللهو واللعب . وتختلف طرق اللهو واللعب .  فى الدين الصوفى  المُسالم يكون اللهو واللعب مرحا وفرحا وتسلية وانحلالا إخلاقيا . وحين سيطر الدين السنى الوهابى الدموى تحول اللهو واللعب الى ارهاب أسود ورايات سوداء تحترف الجدية جهادا فى القتل ولعبا بآيات الله جل وعلا القرآنية . يقتلون ويحرقون ويغتصبون ويفسدون فى الأرض وهم يهتفون ( الله أكبر ) وهم يحسبون أنهم يحسنون صُنعا !!.  

4 ــ هذه المأساة تستلزم تأصيلا قرآنيا نضيفه لهذا البحث بسبب ما يعانيه العالم من داعش وأخواتها من منتجات الشجرة الوهابية الخبيثة . نبدأ الموضوع خطوة خطوة :

أولا : إختبار الحياة الدنيا

يولد الانسان من بطن أمّه وهو يحمل وعاءين : وعاء الزمن المحدد له فى هذه الدنيا ، ووعاء العمل الذى يعمله فيها . وبمجرد ولادته يبدأ العدُّ التنازلى من عمره . يقول جل وعلا : ( وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (11) فاطر ). إذا كان مقدرا له أن يعيش سبعين عاما فبمجرد ولادته وقد مضى من عمره دقيقة يكون قد تناقصت نفس الدقيقة من عمره أى يبقى له سبعون عاما إلا دقيقة ثم إلا دقيقتان ثم إلا ساعة ثم إلا يوم ثم الى شهر ثم إلا عام وهكذا. يركب الانسان قطار الحياة المتحرك الى الامام فيتناقص عمره بسرعة 60 دقيقة فى الساعة ، ونفسه وهى فى جسدها الدنيوى تحمل وعاء العمر ووعاء العمل ، والدقيقة التى تمر من العمر تنزلق الى وعاء العمل ، أى يصب وعاء العمر فى وعاء العمل ، ويظل هذا باستمرار الى أن ينتهى العمر وينتهى وعاء العمر ويمتلىء وعاء العمل ، ويموت الانسان وقد تم حفظ وتسجيل عمره الزمنى فى وعاء عمله، ويأتى يوم القيامة الى لقاء ربه جل وعلا ، وهو يحمل عمله إن خيرا وإن شرا ، يدخل به الجنة أو النار .

يقول جل وعلا يخاطب الانسان : ( يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ (6)الانشقاق ) يعمل الانسان كدحا فى حياته الدنيا ، يملآ وعاء العمل كدحا يحمله على ظهره ، ويلقى بكدحه هذا رب العزة يوم القيامة مسجلا فى كتاب عمله : ( فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً (8) وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُوراً (9) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُوراً (11) وَيَصْلَى سَعِيراً (12)الانشقاق ).يعنى إنك الذى تُحمّل نفسك بعملك وبإختيارك ، وما تقدمه فهو مصيرك يوم القيامة . الانسان هو الذى يقرر مصيره يوم القيامة فى الجنة أو النار . إذا قرر دخول الجنة وعمل لها عملها وهو مؤمن فإن الله جل وعلا الذى لا يُضيع أجر من أحسن عملا والذى لا يُخلف الوعد والميعاد سيجعل الجنة جزاءا لهذا المؤمن . والعكس صحيح .

هو إختبار الموت والحياة ليبلونا الله جل وعلا أيُّنا أحسنُ عملا :( الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2) الملك ). من عناصر هذا الاحتبار فى الحياة الدنيا زينة هذه الأرض وما فيها من موارد تغُرُّ الانسان وتجذبه وتُغويه : ( إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً (7) الكهف ) وينهاية العالم يتم تدمير كل هذا :( وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً (8) الكهف)

ثانيا : النصائح

ومن هنا يأتى الوعظ القرآنى بالنصائح ليساعد من أراد الهدى كى يهتدى وينجح فى الاختبار ولا يقع فريسة لما فى الدنيا من لهو ولعب ، فالايمان والتقوى خير مما فى الدنيا من لهو ولعب : ( إِنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ (36) محمد) والآخرة هى خير من الدنيا للمتقين:( وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (32) الانعام ). إن الدنيا لهو ولعب وزينة وتفاخر وتكاثر وتنافس فى الحصول على حُطامها الزائل بينما ينبغى أن يكون التنافس فى الوصول الى الجنة :( اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ (20) سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21) الحديد )

 متاع الدنيا زائل والمال والبنون مجرد زينة وقتية عارضة ذاهبة ولكن الباقيات الصالحات هى الأنفع والأبقى :( وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنْ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً (45) الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً (46) الكهف ). وفى النهاية فالموت ينتظر الجميع ، وكل نفس لا بد أن تموت ، والأجر الحقيقى يوم القيامة ، والفائز هو من يدخل الجنة وما هذه الدنيا الا متاع خادع غرور : ( كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ (185) آل عمران )

ثالثا : معنى الدين لغويا وإصطلاحيا

1 ــ قد ينخدع الانسان بهذه الدنيا فلا يرى سواها ، وقد يتعقل ويراها إختبارا يعمل على النجاح فيه ليفوز بالجنة ونعيمها الدائم وينجو من الجحيم وعذابها الخالد . وفى كل الأحوال فالانسان هو الذى يختار ( طريق ) حياته .

2 ــ خلال حياته الدنيا يقطع الانسان ( مشوار ) هذه الحياة أو يشق ( طريقه ) فى حياته متعاملا مع الناس ومع رب الناس .  هذا ( المشوار ) أو هذا ( الطريق ) الذى يقطعه الانسان فى حياته الدنيا إسمه (الدين ). معنى ( الدين ) هو (الطريق ) و (الصراط ). بل يأتى الدين بمعنى الطريق المادى الحسّى فى قوله جل وعلا : ( وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122) التوبة ).

والأغلب أن يأتى ( الدين ) بمعنى الطريق المعنوى فى التعامل مع الناس ورب الناس , وبهذا يكون لكل إنسان طريقه أو ( دينه ) حسب إختياره . لذا فالمؤمن مأمور أن يقول للكافرين بالقرآن : ( قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدتُّمْ (4) وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6))أى لكم طريقكم ولى طريقى . والمؤمنون إختاروا ( دينهم ) المسالم بينما إختارالكافرون المعتدون (دينهم ) المعتدى يقاتلون المسالمين حتى يردوهم عن ( دينهم ) . يقول جل وعلا : ( وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217) البقرة ). وهكذا فكل إنسان يختار ( دينه ) الذى يتعامل به مع الناس ورب الناس .

3 ــ ومن الطبيعى أن يخسر معظم الناس فى هذا الاختبار ، فيختارون دين أو طريق ( اللهو واللعب ) إنخداعا بالدنيا وكفرا بالآخرة  وإستهزاءا بالله جل وعلا ورسله وآياته . وهذا هو ( دين ) أو ( طريق ) المحمديين ، وهم الذين يهمنا أمرهم .

رابعا : ملامح اللهو واللعب فى أديان المحمديين

1 ــ لا خلاف على أن كرة القدم ( لُعبة ) . ولكن لعبة كرة القدم يتم ممارستها بكل جدية أى مثل أى دين . لها مشجعوها المتعصبون لها المجاهدون فى سبيلها ، ولكل فرقة أتباع شأن الأديان الأرضية ، وهم فى تنافس وتنازع ، وهم على الجمهور والأموال يتنافسون بل ويتقاتلون . إى إتخذوا دينهم لعبا . وفى نفس الوقت فإن الدين الأرضى فى المسجد والكنيسة والمعبد تتم تأدية شعائره باللهو والغناء والرقص والمجون . أى إتخذوا دينهم لهوا ..ولعبا .

وعلى هامش اللهو واللعب تأتى ملامح أخرى نوجزها الآن آيات قرآنية كالآتى :

1 ــ دين اللهو واللعب + الغرور بالدنيا

 يقول جل وعلا : ( وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا)(70) الانعام )، وأيضا يقول جل وعلا: ( الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (51) الأعراف ) . والخطاب هنا عن المحمديين أساسا لأن الآية التالية يقول فيها رب العزة عن القرآن الكريم: ( وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) الاعراف ) .

2 ــ دين اللهو واللعب + الكفر باليوم الآخر + الاستهزاء بالحق

يقول جل وعلا عن عُبّاد القبور المقدسة والأولياء من البشر: ( أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلاً (102) قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً (104) أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً (105) ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُواً (106) الكهف ).

وعن مصيرهم يوم القيامة يقول جل وعلا ( وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون (33) وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمْ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (34) ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمْ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُواً وَغَرَّتْكُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (35) الجاثية)

3 ـ  دين اللهو واللعب + اللغو والهجر والتسامر بالقرآن

يقول جل وعلا ( حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ (64) لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنصَرُونَ (65) قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ (66) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِراً تَهْجُرُونَ (67) أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمْ الأَوَّلِينَ (68) المؤمنون )

وعن صخبهم وضوضائهم ولغوهم بالقرآن يقول جل وعلا (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26)  فصلت )

4 ــ دين اللهو واللعب + الخوض فى آيات الله

ومن معانى الخوض فى آيات الله جل وعلا التكذيب بها . يقول جل وعلا ( فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (11) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (12) الطور ). وتوعدهم رب العزة مرتين بعذاب يوم القيامة آمرا بالابتعاد عنهم :( فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمْ الَّذِي يُوعَدُونَ (83) الزخرف )( المعارج 42 ) .

وتكرر هذا فى القرآن الكريم بعدم حضور مجالسهم التى يخوضون فيها بآيات الله ، وقد كانوا يعقدون هذه المجالس فى مكة. يقول جل وعلا ( وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68) وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (69) وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (70) الانعام )

ثم أيضا فى المدينة ، يقول جل وعلا ( وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً (140) النساء )

وعن منافقى المدينة  يقول جل وعلا ( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (66) التوبة )

و يقول جل وعلا عنهم المجرمين يوم القيامة وهم فى النار يقال لهم : ( مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ (47) فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (48) المدثر )

أخيرا :

الشرح العملى لكل الآيات الكريمة السابقة يأتى فى هذا الفصل عن أثر دين التصوف فى جعل ذكر الله جل وعلا غناء ورقصا ولغوا ولهوا ولعبا .

 

الذكر ( السماع ) فى عقيدة التصوف

مقدمة

( ذكر ) الله جل وعلا فى الاسلام عبادة يتجلى فيها الخشوع وخفوت الصوت، بينما يتحول الذكر فى الدين الأرضى الى لهو ولعب وغناء وموسيقى . وهذا يظهر واضحا فى إطلاق الصوفية مصطلح ( السماع ) على ( الذكر ) وجعل ( السماع ) مجالا لتجلى العقيدة الصوفية وللدخول فى دين التصوف . ( السماع ) من ( سماع ) الأغنية أو النشيد الدينى ، وهذا يتضمن : صاحب الصوت المغنى ، والكلام الذى يقوله شعرا أو عبارات صوفية ، ويشمل السامع والسامعين سواء كان شخصا يتلقى العهد بالسماع او ( سمًيعة ) يحضرون حفلة السماع ، ويجمع المغنى المطرب والحاضرين ( الوجد ) بفتح الواو ، وهو الانفعال الذى لا بد أن يظهر على المغنى والسًميعة ، الوجد يعنى أن تعترى المتواجد حالة من الجذب العاطفى يصرخ ويرقص ويقول ما يشاء لكى يؤكد إخلاصه لدينه الصوفى . وبهذا يصبح ( الرقص ) وسيلة منظمة للوجد ، سواء كان رقصا فرديا أو جماعيا . وهذا ينطبق على الشيخ والمريدين . فالسماع هو استماع الغناء والتواجد أو ( الوجد ) أى الصراخ إعجابا وإندماجا عند السماع، أى حفلة غنائية راقصة صاخبة تجمع بين الغناء والرقص. هذه فكرة سريعة عن فريضة السماع الصوفية . وندخل فى التفصيلات :

    قيمة الذكر :

  يقول الجنيد " تتنزل الرحمة على هذه الطائفة في ثلاثة مواضع : عند الأكل لأنهم يأكلون إلا فاقة ( أى فقر وجوع ) وعند المذاكرة – أى التذكر – فإنهم لا يتحاورون إلا في مقام الصديقين،وعند السماع – أى الذكر – لأنهم يسمعون بوجد ، ويشهدون حقاً"[1]. فالجنيد أصدر قراراً باعتباره المشرع في دين التصوف بأن الرحمة الالاهية تتنزل على الصوفية عند الأكل وعند تذكر مناقب الأولياء والألهة الصوفية  , ثم عندما تعقد حفلات السماع ويتواجدون بالرقص والإنفعال والصراخ.

السماع والذكر :

   والغزالي في كتابه الإحياء أفرد كتاباً كاملاً للسماع والوجد بدأه بقوله " الحمد لله الذى أحرق قلوب أوليائه بنار محبته، واسترق هممهم وأرواحهم بالشوق إلى لقائه ومشاهدته،ووقف أبصارهم وبصائرهم على ملاحظة جمال حضرته،حتى أصبحوا من تنسم روح الوصال سكرى.." ومن ألفاظ المشاهدة والنار التي تحرق القلب وجمال الحضرة الربوبية والوصال والسكر نتعرف على أن الذكر أو السماع الصوفي إنما يجسد العقائد الصوفية في العشق والوحدة والحلول والاتحاد.

ولذلك احتل الذكر أو السماع الصوفي منزلته الهامة في دين التصوف ،حتى يقول الشعراني " جرّب جميع أشياخ الطريق سائر العبادات فما وجدوا عملاً أسرع في تنظيف القلب مما سوى الله من التوحيد ، فعليكم أيها الإخوان بكثرة ذكركم ربكم"[2]. أى أن هدف الذكر كما يقول الشعراني " تنظيف القلب مما سوى الله " ومعناه الصوفي ألا يرى الصوفي ساعة وجده وانفعاله سوى الله في كل الموجودات ،أى وحدة الوجود. والولي الصوفى بذلك يكثر من الذكر بقول الشعراني " وعلامة الولي التى لا شك فيها أن يكون مكثرا من ذكر الله ، ويؤيده قوله أبي على الدقاق : الذكر منشور الولاية " [3].

السماع والدخول في تدين التصوف:

   وكما كان العربي في عصر الرسول يسمع القرآن فيدخل في الإسلام بخشوع وإخبات ، فإن دخول دين التصوف كان عن طريق الذكر الصوفي أو السماع . وهذا ما رددته الأساطير الصوفية عن أناس تركوا حياتهم العادية واعتنقوا التصوف ، يروى الغزالي عن أحدهم قوله " كنت أنا وابن القوطي مارين على دجلة بين البصرة والأيلة ، فإذا بقصر حسن له منظرة وعليه رجل بين يديه جارية تغني وتقول : كل يوم تتلون ، غيرهذا بك هذا أحسن.فإذا شاب حسن تحت المنظرة وبيده ركوة وعليه مرقعة يستمع ،فقال:يا جارية بالله وبحياة مولاك إلا أعدت علىّ  هذا البيت ، فأعادت فكان الشاب يقول : هذا والله تلوني مع الحق في حالي ، فشهق شهقة ومات".  وتمضي القصة فتذكر أن صاحب القصر تأثر بموت الشاب الصوفي فاعتق جاريته وخرج عن أمواله وجواريه وثيابه وتصوف " وهام على وجهه لم يسمع له خبر"[4]

  ويروي محمد بن مسروق أنه سمع قائلاً يقول " وفي جهنم ماء ما تجرعه خلق فأبقى في الجوف أمعاء " يقول " فكان ذلك سبب توبتي واشتغالي بالعلم والعبادة ، ويعلق الغزالي على هذه الرواية " فانظر كيف أثر الغناء في تصفية قلبه حتى تمثل له حقيقة الحق في صفة جهنم في لفظ مفهوم موزون وقرع ذلك سمعه الظاهر " فدخول دين التصوف هنا كان بالغناء والشعر أى عن طريق السماع .

  وعن طريق السماع انتشر التصوف بعد الغزالي بعد أن أضفى عليه الغزالي المشروعية الدينية ، ولم يعد أحد يتحرج في حضور سماعات التصوف ، بل إنضم إليهم الكثير من العوام من محبي الغناء والرقص واللهو ، يقول ابن الجوزي" التصوف طريقة كان ابتداؤها الزهد الكلي ، ثم ترخص المنتسبون بالسماع والرقص ، فمال إليهم طلاب الآخرة من العوام لما يظهرونه من الزهد، ومال إليهم طلاب الدنيا لما يرون عندهم من الراحة واللعب [5].

تلقين الذكر الصوفي :

عندما يدخل أحدهم دين التصوف ويتوسم فيه شيخه الصلاحية يقول الغزالي " فإذا كان كذلك ألزمه الشيخ زاوية ينفرد بها ،ويوكّل بها من يقوم له بقدر يسير من القوت الحلال "، ثم يفصل الغزالي القول في تلقينه الذكر " وعندئذ يلقنه ذكراً من الأذكار حتى يشغل به لسانه وقلبه ، فيجلس ويقول مثلاً : الله الله أو سبحان الله سبحان الله،أو ما يراه الشيخ من الكلمات ، فلا يزال يواظب عليه حتى تسقط حركة اللسان وتكون الكلمة جارية على اللسان من غير تحريك ، ثم لا يزال يواظب عليه حتى يسقط الأثر عن اللسان وتبقى صورة اللفظ فى القلب ، ثم لا يزال ذلك حتى يمحى عن القلب حروف اللفظ وصورته وتبقى حقيقة معناه لازمة للقلب، حاضرة معه غالبة عليه قد فرغ عن كل ما سواه . لأن القلب إذا شغل بشيء خلا عن غيره أى شيء كان ، فإذا اشتغل بذكر الله تعالى وهو المقصود خلا لا محالة عن غيره" [6]. وبهذه الطريقة يتحول الذكر عند الغزالي إلى محاولة الاتحاد بالله وحلول الالوهية فى الصوفى بزعمهم .

   وفي العصر المملوكي كان تلقين الذكر يعنى ابتداء السلوك على يد الشيخ الصوفي . وأصبحت عبارة تلقين الذكر عن الشيخ فلان تعني سلوكه على يد ذلك الشيخ ، ويذكر ابن حجر في ترجمة أحمد بن تركان شاه (ت730) شيخ خانقاه بكتمر " أنه تلقن الذكر عن الشيخ عبد الله بن بدر المراغي " وصورته أن يغمض عينيه ويجمع همته ويقول لا إله إلا الله بإنزعاج " وذكر أن شيخه اخذ ذلك من الإسفرائيني سنة 630 عن " ابي النجيب السهروردي عن محمود الزنجاني عن أبي الفتوح الغزالي عن أبي العباس النهاوندي عن أبي حبيب عن رويم عن الجنيد عن السري السقطي عن معروف الكرخي "[7]. أى أن تلقين الذكر أصبح ضمن سلاسل التصوف، وأن كل شيخ يخترع الطريقة التى يراها في تلقين الذكر،ويدعي لها سلسلة تصله بالرواد الأوائل للتصوف.فكما يقوم دين السُّنة على الاسناد فى الأحاديث أى إسناد أقاويل للنبى بعد موته بقرون عبر العنعنة فكذلك قام دين التصوف على إسناد التلقين الصوفى فى كيفية السماع ، يزعم أحدهم انه تلقاها من فلان الى فلان الى الرواد الأوائل للتصوف فى القرن الثالث الهجرى .

تلقين الذكر ولبس الخرقة

   وكان يرتبط بتلقين الذكر لبس الخرقة الصوفية.  والخرقة الصوفية كما يقول  الحلبي " شيء يدفعه الشيخ لمريده من نحو ثوب أوطاقية أو عمامة أو رداء أو سجادة "[8]. وعن ارتباط لبس الخرقة مع تلقين الذكر يقول المؤرخ أبو المحاسن عن شيخه الفوى ت866 " ومنه تلقنت الذكر وأخذت عنه خرقة التصوف"[9].  ويذكر المؤرخ ابن حجر في ترجمة أحمد بن يحى الرواقي أنه " تلقن الذكر ولبس خرقة التصوف عن الشيخ يوسف الكوراني العجمي ، واسندها له عن الشيخ نجم الدين الأصفهاني عن نور الدين عبد الصمد عن شهاب الدين السهروردي ، وتعاني طريق التصوف [10].

 والشعراني يذكر أنه تلقن الذكر عن شيخه المرصفي (ت930)"ثلاث مرات بين الأولى والثانية سبع عشرة سنة، وذلك أني جئت وأنا أمرد وكنت أظن ان الطريق نقل كلام كغيرها، ثم قعدت بين يديه وقلت يا سيدي لقّني بحال ، فقال اجلس متربعاً وغمّض عينيك واسمع مني لا إله إلا الله ثلاثاً ثم اذكر انت ثلاثاً، ففعلت فما سمعت إلا المرة الأولى وغبت من العصر إلى المغرب [11]. والشعراني لا يملُّ من الكذب ولا ينسى ترصيع روايته بالكرامات.

كل شيخ له طريقة

وبانتشار التصوف في العصر المملوكي كان لكل شيخ طريقته في تلقين الذكر ، يقول المؤرخ ابن حجر أن ابن ظافر الأزدي ت 739 كان يحضر معه جماعة من الفقراء ( الصوفية ) يذكرون ذكراً رتَبه شيخهم صفي الدين يقال له الصفوية "[12]. وكان يحدث أحياناً تنازع بسبب اختلاف طرق الذكر.مما دعا الشعراني لأن يقول " اعلم يا أخي أن من اللين إذا دخلت على جماعة يذكرون الله تعالى على طريقة المغاربة أو العجم أو الصوفية أو المطاوعة او الشناوية أو الرفاعية أن تذكر كأحدهم في اللغة والصوت "[13].

  ويقول " من جملة لين الفقراء أن أحدهم إذا دخل عليه جماعة يذكرون الله تعالى كذكر الأعجام أو المغاربة أو الشناوية أوالمطاوعة أو الرفاعية مثلاً أن يذكر معهم كهيئتهم في الصورة بطريقة الشرعي، وكذلك يوافقهم في ذكرهم الذي لقنوه حين دخلوا في الطريق من نفي أو إثبات، ولا يقول أن هذه الكيفية ليست طريقة شيخنا كما يقع في ذلك كثير من الناس [14]. اى كان هناك تنازع فى هيئات الذكر وتنوع فى طرق الرقص وكل فريق يتعصب لمذهبه ، وأن الأمر إستشرى حتى إستدعى الشعرانى أن يضع تشريعا بموافقة القادم لمن يرقصون فلا يرقص منفردا عنهم بطريقته فيحدث ما لا تُحمدُ عُقباه .!

   وكان يقع أن يأخذ أحدهم الخرقة وتلقين الذكر عن أشياخ كثيرين ، فالشيخ يوسف العجمي الكوراني ت768 تلقى الذكر عن نجم الدين الأصفهاني وبدر الدين الشمشيري ولبس عنهما الخرقة [15]، والشهاب الحجازي تلقن الذكر من الشيخ الحافي وقبلها لبس الخرقة من الشهاب الناصح [16]، وابن شعبان ت916 تلقن الذكر من الشيخ الشبريس وابن نظام الشيرازي وغيرهما ولبس الخرقة القادرية والسهروردية والأحمدية[17].  ويقول الشعراني عن زكريا الأنصاري " وقد ألبسني خرقة الصوفية وأرخى لي العذبة ( أى طرف العمامة ) ولقنني الذكر، فبيني وبين سيدي أحمد الزاهد رجلان لأن الشيخ (زكريا) أخذ عن سيدي محمد الغمري عن سيدي أحمد الزاهد، ولا أعلم الآن في مصر أعلا من هذا السند ، فإن غالب الناس بينه وبين سيدي أحمد الزاهدأربع رجال أو ثلاثة "[18].هنا يقارن الشعرانى بين الاسناد فى الدين السنى والاسناد فى اخذ العهد فى الدين الصوفى .

  ولم يترك الصوفية النساء والأطفال من غير تلقين الذكر لإدخالهم دين التصوف ، فالشيخ محمد الشناوي  كان يلقن الرجال والنساء والأطفال في الغربية ويرتب لهم المجالس في البلاد، ولقن ابنة الخليفة العباسي وجواريها كذلك، يقول الشعراني عن طريقة ذكرهن " ووقعت عصائبهن من كثرة الإضطراب في الذكر [19].اى تساقط غطاء رءوسهن من شدة الرقص .

 وبعض الأشياخ المشهورين كان يضنّ بتلقين العهد ، فقد جاء جماعة إلى أبي العباس الغمري " يطلبون منه تلقين الذكر، فقال: حرروا نيتكم في طلب الطريق وإلا حصل لكم المقت فما تجرأ فقير أن يتقدم إليه ، وقال فيما يحكيه الشعراني " من لعب بالطريق لعبت به الطريق"[20]. أما أبو السعود الجارحي فكان لا يلقّن أحدا الذكر " إلا بعد أن يتردد إليه السنة وأكثر ويسوق عليه السياقات "[21]أى يرسل له الوساطات .

السماع أو تلقين الذكر وسيلة للشهرة الصوفية :

  يقول ابن حجر في ترجمة الشيخ أمين الخلوتي ت780 أنه قدم لمصر فشرع في عمل السماعات فانثال عليه التاس وكثر زائروه ومعتقدوه ، وقال عن الشيخ على القطباني ت747 أنه " كان مواظباً على عمل السماعات ومد الأسمطة فقصده الأكابر "[22].

  وكان الشيخ أحمد بن أبي وفا (ت814) " مغرماً بالرقص والسماع واجتماع الناس عنده خصوصا في ليالي الجمع ، وعندهم الوعاظ والمنشدون ولا يزالون يرقصون طوال الليل [23].  

 وبعضهم لم يكتف بالشهرة الصوفية وإنما ترجمها إلى مناصب، فالقاضي ابن فضل الله ت717 اشتهر في بدايته شيخاً صوفياً " يأكل الأطعمة الشهية  ويعمل السماعات " ثم تولى القضاء [24].

 ودار تنافس الأشياخ حول السماع ،وصيغ هذا فى أساطير كراماتهم ، فيحكي الشعراني أنه ظهر شخص وفي وسطه مئزر يذكر الله في زاوية في حارة قناطر السباع ، فهرع الناس إليه من أمراء والتجار وغيرهم ، فأرسل الشيخ شمس الدين الحنفي وراءه فاصفر لونه وتغير، وقال للقاصد خذ هذه القصة واعتقني من مقابلته ، وتمضي القصة فتحكي أن الحنفي زجر ذلك الصوفي الدخيل" وقال له اخرج ، فخرج فلا يدري أين يذهب ، وانطفأ اسمه ذلك اليوم ، وقال الشيخ ماهي مائدة يقعد عليها طفيلي"[25].

 

 تشريع فقه السماع :( فقه اللهو واللعب ) عند الصوفية.

قيمة السماع في دين التصوف :

   يقول الغزالي معبراً عن قيمة السماع في عقيدة التصوف :( سماع من أحب الله وعشقه واشتاق إلى لقائه فلا ينظر إلى شيء إلا رآه فيه سبحانه ، ولا يقرع سمعه قارع إلا سمعه منه أو فيه، فالسماع في حقه مهيج لشوقه ومؤكد لعشقه..) الغزالى يربط السماع بعقيدة التصوف فى وحدة الوجود. ( ومستخرج منه أحوالاً من المكاشفات والملاطفات لايحيط بها الوصف . ) ويجعله سببا فى الحصول على العلم اللدنى أو علم الغيب . ( يعرفها من مذاقها وينكرها من كلَ ( أى ضعف ) حسُّه عن ذوقها . ) أى يهاجم من لا يؤمن بالعلم اللدنى . (  وتسمى تلك الأحوال بلسان الصوفية الوجد) فالوجد عند الغزالى يعنى ( أحوال من المكاشفات والملاطفات ) اى من يصيح ويزعق ويصرخ خارجا عن حدود العقل وإحترام الذات ويصبح مجذوبا أو مجنونا يكون هو الذى قد وصل الى الاتحاد بالاله الصوفى واخذ منه العلم اللدنى : ( ثم يتبع الصفاء الحاصل به مشاهدات ومكاشفات، وهى غاية مطالب المحبين لله تعالى ، ونهاية ثمرة القربات كلها، فالمفضي إليها من جملة القربات لها من جملة المعاصي والمباحات. ) وكالعادة يهرب الغزالى من البرهنة على مزاعمه بالطريقة المعروفة وهى ان هذه من علوم المكاشفات الممنوع ذكرها وكشفها والتصريح بها ، يقول : ( وحصر هذه الأحوال للقلب بالسماع سببه سر الله تعالى في مناسبة النغمات الموزونة للأرواح وتسخير الأرواح لها ، وتأثرها بها شوقاً وفرحا وحزنا وانبساطا ، ومعرفة السبب في تأثر الأرواح بالأصوات من دقائق علوم المكاشفات. ) ثم يعود للهجوم على المنكرين فيقول : ( والبليد الجامد القاسي القلب المحروم من لذة السماع يتعجب من التذاذ المستمع ووجده واضطراب حاله تعجب البهيمة من لذة اللوزينج وتعجب العنين من لذة المباشرة ( الجنسية )، وتعجب الصبي من لذة الرياسة وتعجب الجاهل من لذة معرفة الله تعالى..) . ثم يختم الغزالى بهذا القول الفاحش : ( وما انزلت الكتب إلا ليطربوا بذكر الله تعالى. ) أى إن إنزال الكتب السماوية له هدف وحيد هو الطرب ، أى الغناء ، أى اللهو واللعب . ومهما بلغ كفر الغزالى فى قوله هذا فهو يُثبت إعجاز القرآن الكريم حين وصف المشركين بأنهم إتخذوا دينهم لهوا ولعبا . ولا يجد الغزالى دليلا من القرآن يبرهن به على مزاعمه فيفترى قائلا : ( قال بعضهم رأيت مكتوبا في الإنجيل غنينا لكم  فلم تطربوا وزمرنا لكم فلم ترقصوا " [26].). طبعا لا نعرف إسم هذا البعض القائل ، ولا نعرف أين توجد هذه العبارة الكافرة فى الانجيل الذى يتكلم عنه الغزالى . ولكنه كفر شنيع أن ينسب الغزالى لله جل وعلا قول : (  غنينا لكم  فلم تطربوا وزمرنا لكم فلم ترقصوا ).. وعلى أى حال فالغزالى هنا صادق فى التعبير عن دينه الصوفى المؤسس على اللهو واللعب والسخرية من الخالق جل وعلا.

تشريع فقه السّماع :

1 ــ   ولأن الطرب والرقص بهذه الأهمية في دين التصوف إذ يصل بالصوفي للإتحاد بالله وعلم الغيب فإن الغزالي شرَع فقها خاصا أسماه آداب السماع وضع له آداباً " الأدب الأول : مراعاة الزمان والمكان : قال الجنيد: السماع يحتاج إلى ثلاثة أشياء وإلا فلا تسمع : الزمان والمكان والإخوان. ومعناه أن الإشتغال به في وقت حضور طعام أو خصام أو صلاة أو صارف من الصوارف مع اضطراب القلب لا فائدة فيها ، فهذا معنى مراعاة الزمان.  فيراعى فراغ القلب له . وأما المكان فقد يكون شارعا مطروقا أو موضعا كريه الصورة أو فيه سبب يشغل القلب فيتجنب ذلك. وأما الإخوان فسببه أنه إذا حضر غير الجنس من منكر السماع متزهد الظاهر مفلس من لطائف القلوب كان مستثقلاً في المجلس واشتغل القلب به، وكذلك إذا حضر متكبر من أهل الدنيا يحتاج إلى مراقبته وإلى مراعاته أو متكلف متواجد من أهل التصوف يرائي بالوجد والرقص وتمزيق الثياب ، فكل ذلك مشوشات فترك السماع عند هذه الشروط أولى ".

   ويقول عن الأدب الثاني  : " هو نظر الحاضرين فلا يحضر المريدون الذين يضرهم السماع " وقسّم المريدين بالنسبة للسماع ، ثم يقول عن الأدب الثالث : " أن يكون مصغياً إلى ما يقوله القائل – أى المنشد – حاضر القلب قليل الإلتفات إلى الجوانب ، متحرزاً عن النظر إلى وجوه المستمعين وما يظهر عليهم من أحوال الوجد مشتغلاً بنفسه ومراعاة قلبه ومراقبة ما يفتح الله تعالى من رحمته في سره متحفظاً عن حركة تشوش على أصحابه قلوبهم ، بل يكون ساكن الظاهر هادىء الأطراف ، متحفظاً عن التنحنح والتثاؤب، ويجلس مطرقاً رأسه كجلوسه في فكر مستغرق لقلبه ،متماسكاً عن التصفيق والرقص وسائر الحركات على وجه التصنع والتكلف والمراءاة ساكناً عن النطق في أثناء القول بكل ما عنه بدا، فإن غلبه الوجد وحركَّه بغير اختيار فهو فيه معذور غير ملوم "[27]. والغزالي هنا يجعل الصوفي في حال الإستماع كأنه في صلاة، ثم إذا غلبه الوجد وقام ورقص فلا لوم عليه .

2 ــ   وكان للآخرين اجتهاداتهم في تشريع السماع وفرائضه ، وللشعراني كتاب في ذلك عنوانه " لبس الخرقة والتلقين " تعرض فيه لآداب الذكر قبل الذكر وأثناءه وبعده . فقبل الذكر التوبة والغسل والوضوء والسكوت والسكون " وأن يستمد بقلبه عند شروعه في الذكر بهمة شيخه. وأن ير استمداده من شيخه هو استمداده من النبي لأنه نائبه"، وفي حال الذكر يراعى" الجلوس على مكان طاهر كجلوسه في الصلاة "، وأن يضع إحدى راحتيه على فخذيه ، وتطيب مجالس الذكر بالرائحة الطيبة ، وكذا ثيابه وبدنه ، ولبس اللباس الطيب الحلال ،واختيار الموضع المظلم إن أمكن، وتغميض العينين لأنه بتغميض عينيه ينسد عليه طرق الحواس الظاهرة ، وسدها يكون سبباً لفتح حواس القلب " وأن يتخيل خيال شيخه بين عينيه هذا عندهم أكد الآداب " . ويلاحظ تركيز الشعراني على الشيخ في عصر اشتدت فيه عبادة الأولياء ، حتى أصبحت حفلات السماع في حقيقتها حلقات عبادة للأشياخ بينما كانت في عصر الغزالي مجالس للغوص في القلب لإحساس الصوفي بعقيدته الصوفية في الاتحاد بالله ووحدة الوجود .

ويقول الشعراني يؤكد على عبادة الشيخ في السماع " وبالصدق والإخلاص يصل الذاكر إلى درجة الصديقية ، بشرط أن يظهر جميع ما يخطر بقلبه من حسن أو قبيح لشيخه، وإن لم يظهر ذلك كان خائناً وحرم الفتح ،والله لا يحب الخائنين. ). والطريف أن الشعراني هنا يتناقض مع فكره الصوفي الذي يجعل الشيخ مطلعاً على سرائر المريدين ، فكيف يحتاج الشيخ للمريد لكي يفشي له خطرات قلبه ويلزمه بذلك وإلا اعتبره خائناً ؟.

   ونتابع الشعراني في تشريعه لآداب الذكر فيوجب على الذاكر أن يختار من صيغ الذكر لا إله إلا الله  أو يصِعد(لا إله إلا الله) من فوق السُرة من النفس التي بين الجنبين ، ويوصل(إلا الله) بالقلب اللحمي الكائن بين عظم الصدر والمعدة أو يميل رأسه إلى جانب الأيسر مع حضور القلب ، وإحضار معنى الذكر بقلبه على اختلاف درجاته في الترقي. ويعرض كلما ترقى فيه من الأدوات على شيخه ليعلم الآداب فيه " أى يجعل الشيخ حارساً على تلقي المريد بالذكر إلى الاتحاد الصوفي .

ثم يتحدث عن هيئة الرقص في الذكر الصوفي فيقول " ينبغي للرجل إذا قال لا إله إلا الله يهتز من فوق رأسه إلى أصبع قدميه،وهذه حالة يستدل بها على أنه سالك فيرجى له التفدم إلى أعلى منها". وهذا الاهتزاز من الرأس الى أصابع القدمين يشمل الأرداف والوسط والبطن والذراعين من الذاكرين والذاكرات . أى هو رقص مجاله مفتوح للإجتهاد .

   وبعد الفراغ من الذكر أو الرقص يقول الشعراني عن آداب ما بعد الذكر " أن يسكن إذا سكت، ويخشع ويحضر مع قلبه مترقياً لوارد الذكر ". أى الاحساس بالاستغراق في الذات الإلهية. ويقول الشعراني عنها فقد قالوا لعله يرد فيعمر وجوده في لحظة أعظم ما تعمره الرياضة والمجاهدة في ثلاثين سنة، وأن يزم نفسه نفسه مراراً، قالوا لأنه أسرع للتنوير في البصيرة وكشف الحجب وقطع خواطر النفس والشيطان ، ومنع شرب الماء عقبه لأن الذكر يورث حرقة واشتياقاً وتهيجاً إلى المذكور وهو المطلوب الأعظم من الذكر، وشرب الماء عقب الذكر يطفىء ذلك ، قال الشيوخ"  فليحرص الذاكر على هذه الآداب – التى بعد الذكر – فإن نتيجة الذكر إنما تظهر بها " [28].

3 ــ وفي مواضع أخرى من كتبه تحدث الشعراني عن الذكر ففي " الوصية المتبولية " أفرد نحو ربعها للذكر ، وقال إن أفضل صيغ الذكر قول لا إله إلا الله  ما دام له هوى ، فإذا فنيت أهويته – أى اتحد بالله في زعمهم – كان ذكر الجلالة له أنفع " وعن طريقة الذكر قال " وليكن الذكر جهراً، لأنه انفع لمن غلب عليه الجمعية " أى الاتحاد  " وقد اجمعوا على أنه يجب على المريد الجهر بالذكر،وأن ذكر السر لا يفيده رقياً ، وينبغي أن يجهر برفق حتى لا يتربى له فتاق في بطنه" [29].  ، ومعناه أن بعضهم كان يبالغ فى الصراخ ( أى الوجد ) فيحدث له فتاق فى بطنه .

وفي كتابه لطائف المنن يقسم الشعراني السماع إلى ثلاثة أقسام : محرم كالاستماع من أرباب الأهوية المحرمة من عشاق النسوان والفتيان بالآلات المحرمة فيدعوهم لارتكاب المحرمات، وواجب وهو استماع المحبين لله تعالى ، والمباح على أصله إذ لم ترد فيه آية في التحريم ولا حديث صحيح [30]، والشعراني باعتباره فقيهاً صوفياً وقف موقفاً متشدداً ضد أولئك الذين حولوا طقوس السماع إلى مناسبات انحلال خلقي ، وسنعرض لهم في حينه.

تشريع الوجد دينا للتصوف

  بين السماع والوجد :

1 ــ  نعرف معنى الوجد من وصف ابن الجوزى للصوفية حين ( وجدهم ).  يقول : ( هذه الطائفة إذا سمعت الغناء تواجدت وصفقت وصاحت ومزقت الثياب . ) (.. وقد مات خلق كثير في سماع الموعظة وغشى عليهم، وهذا التواجد الذي يتضمن حركات المتواجدين وقوة صياحهم وتخبطهم فظاهره أنه متفعل،والشيطان معين عليه... فإذا تمكن الطرب من الصوفية في حال رقصهم جذب أحدهم بعض الجلوس ليقوم معه ، ولا يجوز على مذهبهم أن يقعد ، فإذا قام قام الباقون تبعاً له، فإذا كشف أحدهم رأسه كشف الباقون رؤوسهم موافقة له ... فإذا اشتد طربهم رموا بثيابهم على المغني فمنهم من يرمي بها صحاحاً،ومنهم من يخرقها ثم يرمي بها )[31].  والفقرات السابقة عناوين لفصول في كتاب " تلبيس إبليس " وكان ابن الجوزي يورد حجج الصوفية في مشروعية هذه الأفعال ويرد عليها، ومعناه أنهم حاولوا أن يجدوا للوجد الصوفى أصلاً تشريعياً يربطه بالإسلام . وواضح أن الوجد هو الانفعال الصوفي بالصوت والحركة تأثراً بالغناء الديني، وهو أعم من الرقص الصوفي المتناسق .

2 ـ وعن الصلة بين السماع والوجد يقول الغزالي عن الوجد:( عبارة عن حالة يثمرها السماع ، وهو وارد حق جديد عقيب السماع يجده المستمع من نفسه)" [32]، . ويقول عن ارتباط السماع بالوجد: ( وعدم ظهور أثره يكون تارة لضعف الوارد من الوجد ،فهو نقصان ، وتارة يكون مع قوة الوجد في الباطن ولكن لا يظهر لكمال القوة على ضبط الجوارح فهو كمال ، وتارة يكون لكل حال الوجد ملازماً ومصاحباً في الأحوال كلها فلا يتبين للسماع مزيد تأثير وهو غاية الكمال ،فإن صاحب الوجد في غالب الأحوال لا يدوم وجده ، فمن هو في وجد دائم؟ فهو المربط للحق والملازم لعين الشهود...فلا تظن أن الذي يضطرب بنفسه على الأرض أتم وجداً من الساكن باضطرابه، بل رب ساكن أتم وجداً من المضطرب، فقد كان الجنيد يتحرك في السماع في بدايته ثم صار لا يتحرك، قيل له في ذلك فقال " وترى الجبال تحسبها جامدة وهى تمر مر السحاب" إشارة إلى أن القلب مضطرب جائل في الملكوت والجوارح متأدبة في الظاهر ساكنة" [33].

أنواع الوجد عند الغزالي :

   وبعد أن ربط بين السماع وحركات الوجد الظاهرة والباطنة يقسم الغزالي الوجد إلى قسمين : ( وتلك الحالة التى لا تخلو عن قسمين ، فإما أنها ترجع إلى مكاشفات ومشاهدات هى من قبيل العلوم والتنبيهات. وأما أن ترجع إلى تغييرات وأحوال ليست من العلوم، بل هى كالشوق والحزن والقلق والسرور والأسف والندم والبسط والقبض، وهذه الأحوال يهيجها السماع ويقومها "[34]،. وفصَل القول في الناحيتين . ثم عاد يقسم الوجد إلى: ( هاجم ومتكلف،ويسمى التواجد، وهذا التواجد المتكلف فمنه مذموم وهو الذي يقصد به الرياء وإظهار الأحوال الشريفة مع الإفلاس منها ، ومنه ما هو محمود وهو التوصل إلى استدعاء الأحوال الشريفة واكتسابها واجتلابها بالحيلة . ) .وبعد أن جعل الرقص والصراخ من الأحوال الشريفة في دين التصوف حاول ربطها بالخشوع في قراءة القرآن وحب الله والشوق للقائه [35]، .

وفي موضع آخر من ( إحياء علوم الدين ) أسند الغزالي الوجد إلى داود وسليمان، والسند الذي يحتج به قوله" بلغني " أو " بلغنا " ثم يذكر قصصاً خرافية عن موت الحيوانات والهوام التى انتحرت تواجداً بسبب داود، ثم افترى أن جارية قصت مناماً على عمر بن عبد العزيز" فصاح عمر صيحة وخر مغشياً عليه، فقامت إليه فجعلت تنادي في أذنه وهو يصيح ويفحص برجليه" وقال مثل ذلك عن سلمان الفارسي[36].

حكايات عن الوجد:

   وكما ألف الغزالي تلك الروايات عن السابقين من أنبياء وخلفاء، فإنه حكى قصصاً أخرى لأشياخ التصوف السابقين تتخللها الشهقات والصراخ والدموع والإغماءات، وقد ملأ بها الجزء الرابع من الإحياء .. ومنها أن عتبة الغلام كان : ( يقطع الليل بثلاث صيحات . ) وفصَل القول في هذه العبادة الصوفية المزعجة، وقال أن أصحاب الحديث اجتمعوا على باب الفضيل بن عياض : (  فاطلع عليهم من كوة وهو يبكي ولحيته ترجف،فقال : عليكم بالقرآن عليكم بالصلاة ويحكم ليس هذا زمان حديث إنما هذا الزمان بكاء وتضرع .! ).  ولم ير الغزالي فيما فعله الفضيل رياء ولا تصنعاً .  ويروي الغزالى : (  قال صالح المرسي قدم علينا ابن السماك مرة ، فقال أرني شيئاً من بعض عجائب عُبّادكم ، فذهبت به إلى رجل في خصٍ له فاستأذنا عليه، فإذا رجل يعمل خوصاً فقرأت عليه " إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون" فشهق الرجل شهقة وخر مغشياً عليه، فخرجنا من عنده وتركناه على حاله وذهبنا إلى آخر، فدخلنا عليه، فقرأت عليه هذه الآية فشهق شهقة وخر مغشياً عليه ، فخرجنا من عنده وتركناه على حاله ، وذهبنا إلى آخر فقرأت عليه هذه الآية فشهق شهقة وخر مغشياً عليه، وتركناه على حاله وذهبنا إلى آخر فقرأت عليه هذه الآية شهق شهقة وخرجنا من عنده.. إلخ .." إلى أن يقول ثم أتيت به إلى السابع فاستأذنا فإذا إمرأة من داخل الخوص تقول ادخلوا، فدخلنا فإذا شيخ فانٍ جالس في مصلاة ، فسلمنا عليه فلم يشعر بسلامنا ، فقلت بصوت عال : ألا إن للخلق غداً مقاماً، فقال الشيخ : بين يدي من ويحك؟، ثم بقى مبهوتاً فاتحاً فاه شاخصاً بصره يصيح بصوت له ضعيف : أواه. أواه.. حتى انقطع ذلك الصوت، فقالت إمرأته اخرجوا فإنكم لا تنفعون به الساعة.. إلخ ..) . وذلك السيرك الذي حكاه الغزالي انتهى بموت بعض المتواجدين  في الأسطورة، ذلك أن الصياغة سترت المبالغات والتصنع بهذا الثوب العاطفي . ولكى تزيد جرعة العاطفة كانت بعض الروايات  تنتهى بموت البطل لتستدر المزيد من التآثروالدموع ، فالنورى سمع منشداً يقول :

          لا زلت أنزل من ودادك منزلاً          تتحير الألبـاب عند  نزوله

    يقول الغزالي: ( فلم يزل يعدو ( يجرى ) على أجمة قصب بقى أصلها حتى تشققت قدماه وتورمتا ومات من ذلك. )" وحكى أن صوفياً كان يتعشق جارية مغنية فغنت في مجلس طرب فقال لها:( أحسنت والله يا سيدتي أفتأذنين لي أن أموت؟  فقالت : مت رشداً . فوضع رأسه على الوسادة وأطبق فمه وغمض عينيه فحركناه فإذا هو ميت.!!. وقال صالح المري:  قرىء" على رجل متعبد: يوم تقلب وجوهم في النار..الآية " فصعق ثم أفاق،فقال زدني فقرأت " كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها " فخر ميتاً. وآخر قرأ في صلاته " فإذا نقر في الناقور" فخر مغشياً عليه ومات. )

الوجد دين التصوف:

   ولا يكتفي الغزالي بهذه الأمثلة بل يفتري حديثاً يتلخص فى أن حبشياً تاب على يد الرسول من الفواحش ثم سأل الرسول : أكان ربي يراني وأنا أعمل الفواحش فقال له نعم " فصاح الحبشي صيحة خرجت فيها روحه " ويقول العراقي الذي يُخرّج أحاديث الأحياء عن ذلك الحديث لم أجد له أصلاً[37]. أى أن الغزالي هو الذي اخترعه.  وواضح أن عناية الغزالي بالوجد إلى هذا الحد تجعل  منه ذروة السلوك الصوفي وشديد الإلتصاق بدين التصوف ، ويؤيد ذلك ما يرويه الطوسي " إن أصل المعرفة – أى الاتحاد الصوفي – موهبة، والمعرفة نار،والإيمان نور والمعرفة وجد ، والإيمان عطاء[38].

   والغزالي يعلق على أسطورة موت النوري حين تواجد جرياً على جذور القصب فيقول: ( فقد رؤى من غلب عليه الوجد فعدا على النار وعلى أصول القصب الجارحة للقدم وهو لا يحس به لفرط غلبة ما قلبه" [39].

   وتواجد الصوفية يظهر أثناء حديثهم العادي الذي يرتفع صياحاً بلا مبرر عقلي ، إلا إنهم أضفوا عليه  طابع الوجد ليكتسب قدسية عند المريدين ، من ذلك ما يرويه أحدهم " قلت لأبي يزيد البسطامي حدثناً عن مشاهدتك من الله تعالى ، فصاح ، ثم قال : ويلكم لا يصلح لكم أن تعلموا ذلك")أى لا بد أن يصيح ويزعق و ( يتواجد ) ليزداد الايمان بما يقول .  وحكى أبو يزيد عن تلك المشاهدات يقول الراوي : ( فهالتني ذلك وامتلأت به وعجبت منه فقلت يا سيدي لم لا سألته المعرفة به .. فصاح بي صيحة وقال : اسكت ويلك غرت عليه مني، حتى لا أحب أن يعرفه سواى " [40]. فالبسطامي يصيح ويتواجد ويصطنع الجذب والجنون كلما سئُل ليؤكد اسطورته.

 ويروي الغزالي أن أبا تراب النخشبي ( كان يخدم مريداً يقوم بمصالحه فقال له أبو تراب مرة : لو رأيت أبا يزيد فقال إني عنه مشغول " فلما أكثر عليه أبو تراب من قوله : لورأيت أبا يزيد،  هاج وجد المريد،فقال ويحك ما أصنع بأبي يزيد قد رأيت الله فأغناني عن أبي يزيد ،قال أبو تراب فهاج طبعي ولم أملك نفسي، فقلت ويلك تغتر بالله عزرجل لو رأيت أبا يزيد مرة واحدة كان أنفع لك من أن ترى الله سبعين مرة [41]والشاهد في النص هو هيجان المريد وهيجان شيخه وشطح كل منهما حين هاج.. والهياج هو الوجد، وهو دين التصوف.

ولأن الوجد دين عندهم فكانوا يزعمون أنهم لا يقبلون فيه رياء ولا تصنعاً مع أنه قائم عندهم على الرياء والتصنع. يروي الغزالي أن رجلاً صاح في مجلس الشبلي – وهو أحد رواد الوجد – ورمى الرجل بنفسه في دجلة فقال الشبلي عنه " إن كان صادقاً فالله تعالى ينجيه كما نجى موسى، وإن كان كاذباً فالله يغرقه كما أغرق فرعون"[42].

تواجد العوام

   والغزالي استنكف من انتشار الوجد بين العوام، وقيام بعض المنشدين بإثارة عواطفهم،فذكر أن بعضهم كان يتكسب: ( بالأشعار الغريبة " والكلام المنثور المسجع مع حسن الصوت ، والشعر الموزون أشد تأثيراً في النفس لا سيما إذا كان فيه تعصب يتعلق بالمذاهب كأشعار مناقب الصحابة، وفضائل أهل البيت،أو كالذي يحرك داعية العشق من أهل المجانة لصنعة البطالين في الأسواق ). وواضح أنه لم يشأ تصنيفهم ضمن الصوفية مع أنهم يمارسون ما يدعو إليه الغزالي .بل أنه يناقض نفسه حين يهاجم العوام المتواجدين فيقول ناسياً أقاويله السابقة عن الوجد : ( اغتر عوام الخلق وأرباب الأموال والفقراء بحضور مجالس الذكر، واعتقدوا أن ذلك يغنيهم ويكفيهم، واتخذوا ذلك عادة ،ويظنون أن لهم على مجرد سماع الوعظ دون العمل ودون الإتعاظ أجراً وربما يغتر بما يسمعه من الواعظ من فضل حضور المجلس وفضل البكاء،وربما تدخله رقة كرقة النساء فيبكى ولا غرم ، وربما يسمع كلاماً مخوفاً فلا يزيد على أن يصفق بيديه ، ويقول يا سلام سلم ، أو نعوذ بالله سبحان الله ، ويظن أنه قد أتى بالخير كله " [43].

 

 

  تشريع الرقص دينا للتصوف

   رفض الغناء العلمانى العادى وتأويله وتحويله الى سماع صوفى :

1 ــ   وحفلات الرقص الديني لا بد أن تحتاج إلى شعر وموسيقى حتى تتناسق حركات الرقص معهما .

   ويرى الغزالي أن العوام تستغرقهم الشهوات الحسية فلا يصلون إلى التجريد الصوفي ومحاولة الوصول للإتحاد بالله ، يقول : ( والمجلس لا يحوي إلا أجلاف العوام وبواطنهم مشحونة بالشهوات وقلوبهم غير منفكة عن الإلتفات إلى الصور المليحة ،فلا تحرك الأشعار من قلوبهم إلا ما مستكن فيها، فتشتعل فيها نيران الشهوات فيزعقون ويتواجدون. ). والغزالي لا يرضي عن ذلك التواجد العامي ( العلمانى ) لأنه يخلو من عقائد التصوف حين تتحول عبارات العشق البشري إلى اتحاد وحلول، يقول: (  ولو حوى المجلس الخواص الذين وقع الإطلاع على استغراق قلوبهم بحب الله تعالى ولم يكن معهم غيرهم فإن أولئك لا يضر معهم الشعر الذي يشير ظاهره إلى الخلق فإن المستمع ينزل كل ما يسمعه على ما يستوي على قلبه"[44]. أى أن الصوفية يؤولون كلمات العشق والحب لتنطبق عندهم على الله جل وعلا. العوام يفهمون عبارات الحب والعشق على أصلها وهى أنها عن المحبوب من البشر ، وهذا لا يُعجب الغزالى ، ولا يعتبره سماعا صوفيا إلا بحضور شيخ صوفة يقوم بتأويل المعانى والتفكر فيها لتنطبق على الخالق جل وعلا.!!.  وعلى ذلك تتحول عبارات العشق البشري للذات الإلهية على نحو ما صرح به ابن عربي وابن الفارض فيما بعد.

2 ــ وأسهب الغزالي في توضيح الصلة بين الذوق الصوفي والموسيقى في حفلات الرقص إلى أن يقول : (  وفي النفس أحوال غريبة هذا وصفها ، بل المعاني المشهورة من الخوف والحزن والسرور إنما تحصل في السماع عن غناء مفهوم ، وأما الأوتار وسائر النغمات التى ليست مفهومة فإنها تؤثر في النفس تأثيراً عجيباً ، ولا يمكن التعبير عن عجائب تلك الآثار ، وقد يعبر عنها بالشوق ولكن شوقه لا يعرف صاحبه المشتاق إليه فهو عجيب ، والذي اضطرب قلبه بسماع الأوتار . ليس يدرى إلى ماذا يشتاق ويجد في نفسه حالة كأنها تتقاضى أمراً ليس يدري ما هو حتى يقع ذلك للعوام.." [45].

تشريع الرقص الدينى فى السماع الصوفى

1 ــ  ويحاول الغزالي شرح فلسفة الرقص الصوفي المتأثر بالألحان فيقول: (  سئل بعضهم عن سبب حركة الأطراف بالطبع على وزن الألحان والإيقاعات ، فقال ذلك عشق عقلي ، والعاشق العقلي لا يحتاج إلى أن يناغي معشوقه بالمنطق الجرمي ( أى بالعضاء الجسدية ) ، بل يناغيه ويناجيه بالتبسم واللحظ والحركة اللطيفة بالحاجب والجفن والإشارة ، وهذه نواطق أجمع إلا أنها روحانية إلا أن العاشق البهيمي فإنه يستعمل المنطق الجرمي ليعبر به عن ثمرة ظاهر شوقه الضعيف وعشقه الزائف" [46].  ومعناه أن الرقص الصوفي عند الغزالي لا يقتصر على حركة الأطراف من أيدي وأقدام وإنما يمتد إلى الحواجب والأجفان والفم والإبتسام ، ومعلوم أن هذه الحركات مرفوضة في البيئات الشرقية لأنها تعبر عن الخلاعة والإثارة الجنسية ، وقد أحس الغزالي بهذا فحاول ان يبرىء الرقص الصوفي من هذه الخلاعة وان يلصقها فقط بالعوام ، إلا أنه لم يضع في كتابه فاصلا يميز بين شخص عامي وآخر صوفي ، اللهم إلا أننا نعرف أن الغزالي يتهم معاصريه بالعامية ويصف أشياخه بالقدسية والخصوصية .

2 ـ وقد جعل الغزالي الأدبين الرابع والخامس من آداب الوجد مختصين بالرقص . فالأدب الرابع: (  ألا يقوم ولا يرفع صوته بالبكاء وهو يقدر على ضبط نفسه ، ولكن إن رقص وتباكى فهو مباح إذا لم يقصد به المراءاة ، لأن التباكي استجلاب الحزن، والرقص سبب في تحريك السرور والنشاط، فكل سرور مباح فيجوز تحريكه، والرقص يكون لفرح أو شوق فحكمه حكم مهيجه، إن كان مذموماً فهو مذموم. ) . والغزالي هنا يستعمل أسلوب الفقهاء في التشريع من المباح والمذموم والجائز،ويخشى أن يختلط الرياء بعبادة الرقص فيحبط ثمرة هذه العبادة. ثم يحاول أن يفرق بين رقص العوام العلمانى ورقص الصوفية الدينى فيقول عن الرقص العلمانى من العوام : (  نعم لا يليق اعتياد الرقص بمناصب الأكابر وأهل القدوة ،لأنه في الأكثر يكون عن لهو ولعب ،وما له صورة اللهو واللعب في أعين الناس فينبغي أن يجتنبه المقتدى به لئلا يصغر في أعين الناس، فيترك الإقتداء به . ) .

3 ــ    وعن عادة الصوفية في الوجد بتمزيق الثياب عند الرقص يقول الغزالى : (  وأما تمزيق الثياب فلا رخصة فيه إلا عند خروج الأمر عن الإختيار ، ولا يبعد أن يغلب الوجد بحيث يمزق ثوبه وهو لا يدري لغلبة سُكر الوجد عليه ، أو يدري ولكن يكون كالمضطر الذي لا يقدر على ضبط نفسه،وتكون صورته صورة المكره ،إذ يكون له في الحركة والتمزيق متنفس فيضطر إليه اضطرار المريض إلى الأنين ، ولو كُلّف الصبر عنه لم يقدر. فإن قلت فما تقول في تمزيق الصوفية الثياب الجديدة بعد سكون الوجد والفراغ من السماع فإنهم يمزقونها قطعاً صغاراً ويفرقونها على القوم ويسمونها الخرقة؟ فاعلم أن ذلك مباح إذا قطع قطعاً مربعة تصلح لترقيع الثياب والسجادات. ) . والغزالي هنا يحاول الدفاع بأسلوب الفقهاء عن تمزيق الثياب وتخريقها حين يتصنع الصوفية الوجد. ثم يقول عن الأدب الخامس: (  موافقة القوم قي القيام إذا قام واحد منهم في وجد صادق من غير رياء وتكلف، أو قام باختيار من غير إظهار وجد، وقامت له الجماعة فلابد من الموافقة . فذلك من آداب الصحبة. وكذلك إن جرت عادة طائفة بتنحية العمامة على موافقة صاحب الوجد،إذا سقطت عمامته أو خلع الثياب إذا اسقط عنه ثوبه بالتمزيق ، فالموافقة في هذه الأمور من حسن الصحبة والعشرة، إذ المخالفة موحشة . ولكل قوم رسم ولابد من محالفة الناس بأخلاقهم. ) ،  أى إذا رمى الشيخ عمامته فلابد أن يرموا عمامتهم،وإذا خلع ثيابه فليخلعوا ثيابهم.

4 ــ    ويقول عن الرقص الفاتر الذي لا حماس فيه والذى يخلو من ( الوجد ) : (  ومن الأدب ألا يقوم للرقص مع القوم إن كان يستثقل رقصه، ولا يشوش عليهم أحوالهم،إذ الرقص من غير إظهار التواجد مباح، والمتواجد ( أى المتظاهر بالوجد ) هو الذى يلوح للجميع منه أثر التكلف.  سئل بعصهم عن الوجد الصحيح، فقال صحته قبول قلوب الحاضرين له إذا كانوا أشكالاً غير أضداد " ، واستدل الغزالي على إباحة الرقص بما ورد في أن عائشة كانت تنظر للحبشة في لعبهم، وأن علياً حجل ومثله جعفر ويزيد بن حارثة، وقال أن الحجل هو الرقص [47]. ونسى أن الرقص الذي يدعو إليه رقص ديني يعتقد أصحابه أنه يقربهم لله زلفى. أى أنه عندهم ذكر الله واتحاد به في زعم عقائدهم .

السماع والرقص ودين التصوف وعلمه اللدنى :

1 ــ الرقص هو حركات الجسد  المتناسقة مع الأنغام والأشعار في حفلات السماع. وقد سبق الإشارة إلى أن هدف السماع الصوفي هو الإحساس بالإتحاد بالله ، والغزالي يجعل الحالة الرابعة من السماع : (  سماع من جاوز الأحوال والمقامات، فغرب عن فهم ما سوى الله تعالى حتى غرب عن نفسه وأحوالها ومعاملاتها ، وكان كالمدهوش الغائب في بحر عين الشهود،الذي يضاهي حاله حال النسوة اللآتي قطعن أيديهن في مشاهدة جمال يوسف، وعن مثل هذه الحالة تعبر الصوفية بأنه قد فنى عن نفسه،ومهما فنى عن نفسه فهو عن غيره أفنى، فكأنه غنى عن كل شيء إلا عن الواحد المشهود . ) .  ثم يقول مشيراً للحلاج الذي أعلن الإتحاد فكان سبب مقتله: (  وهذا مقام عن مقامات علوم المكاشفة، منه نشأ خيال من ادعى الحلول والاتحاد وقال أنا الحق . وحوله يدور كلام النصارى في دعوى اتحاد اللاهوت بالناسوت أو تدرعها بها، أو حلولها فيها على ما اختلف فهم عباراتهم [48].) وهنا يربط الغزالي بين السماع والهدف منه ، وهو الحلول والإتحاد، والسماع عندهم مرتبط بالعشق الإلهي ، وقد حاول الغزالي أن يقرب هذه الفكرة فقال : (  ولعلك تقول كيف يتصور العشق في حق الله تعالى حتى يكون السماع محركاً له؟ فاعلم أن من عرف الله أحبه لا محالة،ومتى تأكدت معرفته تأكدت محبته. والمحبة إذا تأكدت سميت عشقاً..) .

2 ــ  ثم يقول يصل العشق الصوفي بالجمال : ( واعلم أن كل جمال محبوب عند مدرك ذلك الجمال ، والله تعالى جميل يحب الجمال ، ولكن الجمال إذا كان بتناسب الخلق وصفات اللون أُدرك بحاسة البصر ، وإذا كان الجمال بالجلال والعظمة وعلو الرتبة وحسن الصفات والأخلاق وإرادة الخيرات لكافة الخلق وإفاضتها عليهم على الدوام إلى غير ذلك من الصفات الباطنة أُدرك بحاسة القلب. ) . ثم يصل بعد هذه المقدمة إلى اعتبار كل جمال في الكون هو جمال الله ليؤكد فكرة وحدة الوجود[49]..ويزعم أن الصوفي يحس بهذه المعاني في غمرة  وجده وانفعاله الراقص في حفلة السماع ، لذا يقول الغزالي في مقدمة هذا الكلام: ( ولعلك تقول كيف يتصور العشق في حق الله تعالى حتى يكون السماع محركاً له؟".).

3 ــ  ومن أجل ذلك كان الرقص وسيلة صوفية لاستمداد الكشف والعلم اللدني ، يقول الغزالي (  والسماع سبب لصفاء القلب ، وهو شبكة للحق بواسطة الصفاء ، وعلى هذا يدل ما روى عن أن ذا النون المصري دخل بغداد فاجتمع إليه القوم من الصوفية ، ومعهم قوَال ( مُغنّى ) فاستأذنوه في أن يقول شيئاً لهم، فأذن لهم ، فأنشأ يقول:

      صغير هواك عذبني    فكيف به إذا احتنكا

      وأنت جمعت في قلبي  هوى قد كان مشتركا

      أما ترثى لمكتئب؟  إذا ضحك الخلي بكى؟

فقام ذا النون وسقط على وجهه ثم قام رجل آخر،فقال له ذا النون : الذى يراك حين تقوم،فجلس ذلك الرجل،وكان ذلك إطلاعاً من ذى النون على قلبه أنه متكلف متواجد. فإذن قد رجع حاصل الوجد إلى مكاشفات وإلى حالات" [50]. . أى أن الوجد والرقص الصوفي يثمر العلم بالغيب لدى الصوفي الراقص .

 وفى العصر المملوكى

كان الاعتقاد سائداً بأن المغنى الصوفى فى السماع يأتيه الوحى، يقول ابن الحاج" وبعضهم يزعم أنه خوطب بأشياء فى سره"[51]،.  ويذكر الشعرانى أن للسماع أثراً كبيراً فى ورود الحقائق[52]، أى العلم اللدنى الغيبى .

كما ارتبط الرقص الصوفى بالكرامات فى العصر المملوكى، حيث شاع الاعتقاد فيها، ففى روض الرياحين أن بعض الأولياء أظهر كراماته أمام بعض السلاطين – الذي لا نعرف اسمه – وذلك بأن أقام السماع وأمر الفقراء بالدخول في النار ،وأقام سماعاً آخر وشرب فيه كأساً مسمومة[53]، وكان السمك في البحر يتراقص مع جماعة ابراهيم الدسوقي مما جعل بعض المنكرين يغمى عليه عندما شاهد ذلك [54]. وكان الرقص أحد الأسلحة السرية في أساطير الكرامات ففي مناقب الحنفي أنه عاقب أحد المنكرين عليه بأن مروا أمامه وهم يرقصون "فأخذ ذلك الفقير يتقايأ ، والناس ينظرون إلى ما يخرج من فمه قطعاً قطعاً وما زال على تلك الحالة حتى مات " [55].

 

 وصف الرقص كعبادة دينية فى مصر المملوكية  

حكايات عن الرقص قبل العصر المملوكي :

1 ــ وفي الإحياء أقاصيص عن الرقص يظهر فيها أن الصوفية كانوا يرقصون لأى شيء وفي أى مكان وبلا سبب منطقي سوى أنهم إتخذوا دينهم لهوا ولعبا طبقا لدينهم الصوفى . يروي الغزالي أن بعض الشيوخ مر في السوق فسمع واحداً يقول : " الخيار عشرة بحبة ، فغلبه الوجد  فسئل عن ذلك ، فقال : إذا كان الخيار عشرة بحبة فما قيمة الأشرار ".!!.. وكأنها نكتة..

واجتاز بعضهم السوق فسمع قائلاً يقول يا سعتريري،  فغلبه الوجد فقيل له على ماذا كان وجدك؟ فقال سمعته كان يقول : إسمع تربري. وسمع أعجمي بعضهم ينشد: وما زارني في الليل إلا خياله.. فتواجد، فسئل فقال أنه يقول : مازاريم وهوكا . فإن لفظ زار يدل على المشرف على الهلاك فتوهم أنه يقول  كلنا مشرفون على الهلاك[56].

   وفي اجتماعات الصوفية كان أى بيت من الشعر كفيلاً بأن يجعلهم يتراقصون، فقد أنشد بعضهم:

       واقف في الماء عطشان  ...     ولكن ليس يُسقى ..

    فقام القوم وتواجدوا [57]. وكان النوري في مجلس في دعوى فجرى بينهم مسألة في العلم والنوري

ساكت ،ثم رفع رأسه وأنشدهم :

       رب ورقاء هفوف في الضحى     ذات شجون صدحت في فنى

       ذكرت إلفُاً ودهراً صالحاً    وبكت حزناً فهاجت حزني

       فبكائى ربما أرقها         وبكاها    ربما   أرقني

     ولقد أشكوا فما أفهمها    ولقد  أشكو فما   تفهمني

    غير أني بالجوى أعرفها    وهى أيضاً بالجوى تعرفني

   يقول الغزالي " فما بقى أحد من القوم  إلا قام وتواجد، ولم يحصل هذا الوجد من العلم الذي خاضوا فيه"[58].

ولكى يستدر الغزالي عطف القارىءعلى هذا الرقص المستمر بسبب ودون سبب حكى هذه الأسطورة أن شاباً كان يصحب الجنيد فكان إذا سمع شيئاً من الذكر يزعق، فقال له الجنيد يوماً إن فعلت ذلك مرة أخرى لم تصحبني ، فكان بعد ذلك يضبط نفسه، حتى يقطر من كل شعرة منه قطرة ولا يزعق، فحكى أنه إختنق يوماً لشدة ضبطه ، فشهق شهقة وتلفت نفسه" [59]. ,, وإذن فمن المسموح لهم أن يرقصوا ويتواجدوا خوفاً عليهم من الهلاك .

2 ــ   وقبيل العصر المملوكي كان الصوفي المصري ابن الفارض" إذا سمع موعظة تواجد وغاب عن الوجود، وربما نزع ثيابه وألقاها وسمع قصاراً يقول : قطع قلبي هذا المقطع .. فما زال يصرخ ويبكي حتى ظن الحاضرون أنه مات "[60].

وحكى أنه كان ماشياً بالقاهرة " فمر على جماعة من الجرسية ( أى يحملون الجرس يدقون عليه ) يضربون بالناقوس ويغنون بهذين البيتين:

مولاى سهرنا نبتغي منك وصال    مولاى فلم تسمح فبتنا بخيال

مولاى فلم بطرف فلا شك بأن    ما نحن إذا عندك مولاى ببال

وهما من الشعر العامي الردىء ، ولكن يقول ابن الزيات راوى الحكاية" فلما سمع الشيخ صرخ صرخة عظيمة، ورقص في وسط السوق ورقص معه أناس كثيرون، وتواجد الناس إلى أن سقط أكثرهم على الأرض ، وخلع الشيخ كل ما كان عليه ورمى به إليهم ، وخلع الناس ثيابهم ،  وحُمل إلى الجامع الأزهر وهو عريان مكشوف الرأس "[61]!! أليس الولى بهؤلاء مستشفى المجانين ؟ ..!!

السماع والرقص في العصر المملوكي

1 ــ  أصبح الرقص لازمة من لوازم التصوف وشعيرة دينية للصوفية،يقول عنهم الجويني إمام الحرمين وأستاذ الغزالي : (  ما شُغل هؤلاء إلا الأكل والشرب والرقص )" [62]، ويقول الغزالي معترضاً على خصومه الصوفية الذين إعتبرهم منافقين وممن ادعى التصوف أنهم تشبهوا بأولياء التصوف فى السماع والرقص : ( في زيهم وهيئتهم وفي ألفاظهم وآدابهم ومراسمهم وإصطلاحاتهم ، وفي أحوالهم الظاهرة في السماع والرقص ..)" [63].  وعشنا مع الغزالي وهو يُشَرِع السماع ويُقعِد الوجد والتصوف ، وحين بدأ العصر المملوكي بدأ معه التصوف العملي الذى طبق النظريات السابقة التى أرساها فلاسفة التصوف بدءاً من الجنيد إلى الغزالي إلى ابن عربي.

2 ــ   وبعض الإجتهادات الصوفية في مجال السماع استلهمت أفكار الغزالي ولم تضف إليها جديداً يُذكر، حتى ابن خلدون نفسه يقول فى المقدمة متأثراً بالغزالي: ( يعين الشيخ للمريد ذكراً يشغل به لسانه وقلبه فيجلس ويقول : الله الله الله أو لا إله إلا الله .. ولا يزال يواظب عليه حتى تسقط حركة اللسان ويبقى تخيلها، حتى يسقط أثر تخيلها على اللسان،وتبقى صورة اللفظ في القلب ، حتى تنمحي صورة اللفظ من القلب ، ويبقى معناه ملازماً حاضراً قد فرغ عن كل ما سواه..)" [64].

3 ــ  ولكن اجتهد صوفية العصر المملوكي في مجال التطبيق فتوسعوا في استعمال الشبابة وهى ما يعرف الآن بالمزمار البلدي ولأهميتها مع "الطار" أو الدف فقد وصفها ابن خلدون بقوله " الشبابة قصبة جوفاء بأنجاش في جوانبها معدودة، ينفخ فيها فتصوت فيخرج الصوت من جوفها على سدادة من تلك الأنجاش ، وتقطع الصوت بوضع الأصابع على تلك الأنجاش ، وضعاً متعارف حتى تحدث النسب بين تلك الأصوات" [65].

وصف السماع والرقص :

1 ــ  وأصبحت حفلات السماع  الصوفية من معالم الحياة الاجتماعية في العصر المملوكي دليلاً على تأثر المجتمع بدين التصوف، يقول ابن الحاج يصف بعضها : ( إجتماعهم حلقات ، كل حلقة لها كبير يقتدون به في الذكر والقراءة ، والذاكر منهم في الغالب لا يقول لا إله إلا الله  بل يقول لا يلاه يلل، فيجعلون عوض الهمزة ياء وهى ألف قطع جعلوها وصلاً ، وإذا قالوا سبحان الله يحططونها ويرجعونها حتى لا تكاد تفهم" أى يحولون شهادة الإسلام إلى غناء . ويقول " وفي الجامع الأعظم يجتمع النساء والرجال في تلك الليلة الشريفة – 27 رجب – مختلطين بالليل مع خروجهن من بيوتهن على ما يعلم من الزينة والكسوة والتحلي" [66].

 2 ــ   ويصف ابن الحاج هيئة المنشد الصوفي: (  والمغني إذا غني تجد له من الهيبة والوقار وحُسن الهيئة والسمت، ويقتدي به أهل الإشارات والعبارات والعلوم والخبرات كلهم يسكت له وينصت . ).  ثم يتحدث عن هيئته حين ينهمك ويغني ويدخل فى ( الوجد ): (  فإذا دب معه الطرب قليلا حرّك رأسه كما يفعل أهل الخمرة سواء بسواء .. ثم إذا تمكن منه الطرب ذهب حياؤه ووقاره كما سبق في الخمرة ، فيقوم ، ويرقص ، ويعيط ، وينادي ، ويبكي ، ويتباكي ، ويتخشع ، ويدخل ، ويخرج ، ويبسط يده ، ويرفع رأسه نحو السماء كأنه جاءه المدد منها، ويخرج الرغوة أى الزبد من فيه، وربما مزق بعض ثيابه ، وعبث بلحيته ، فخرج بذلك عن حد العقلاء ، ويزعم أنه سلب عقله ، ولو صدق في دعواه لبقي علي تلك الحالة مدة طويلة ، لكنه يسكت سكوت المغني ، ويرجع إلي هيئته ويلبس ثيابه) "[67].

3 ــ ويقول ابن الحاج أن الغالب علي الصوفية في عصره حضور السماع والرقص فيه: ( حتي كأن ذلك شرط السلوك ، وبعضهم يدعي أنه يفتح عليهم في حال رقصهم ، وتأخذهم الأحوال. ) . ولأنه رقص ديني كانوا يمارسونه في دور العبادة يقول ابن الحاج: ( وبعضهم يتعاطي السماع في المسجد ، ويرقصون فيه ، وكذلك يفعلونه في الرُّبط )(جمع رباط) والمدارس"[68].

4 ــ   ويصف ابن الحاج كيفية الرقص الدينى في عصره: ( والرقص بضرب الأرض بالأقدام ، أو بالأكمام عند سماع الأصوات الحسان من المُرد والنسوان. ).  ومعناه أن بعض المنشدين كانوا من النساء والصبيان والشباب والمردان المفوم إتخاذهم للشذوذ الجنسى ( ولا يزال هذا سائدا فى أفغانستان ).

ويقول ابن الحاج عن الآلات الموسيقية في ذلك الرقص الديني: (  وضرب الكار والشبابة ، ويسجد الفقير ( الصوفى ) للشيخ حين قيامه للرقص وبعده كعادة في السماع [69]. . وذلك يصلنا بما سبقت الإشارة إليها من تحول السماع في العصر المملوكي إلى عبادة للشيخ. وهذا الرقص لا يزال مُتّبعا حتى الآن فى بعض بلدان المحمديين الصوفية .

5 ـ وطبقا لما أورده الشعرانى ، فقد كان لأشياخ التصوف في العصر المملوكي حريتهم في إبتداع ما يشاءون في الذكر والرقص ، ومن قواعد الصوفية أن المسلوب أو المجذوب عند السماع : (  مع ما يرد عليه من الأسرار، فقد يجري على لسانه الله الله الله ، أو هو هو هو ، لا لا لا ، أو آه آه آه ، أو عا عا عا عا عا ، آ آ آ آ ، هـ هـ هـ هـ أو ها ها ها  أو صوت يغير حرف أو تخبيط )  [70]. يعني يغني ويصرخ بأى كيفية حتى لو قلد الحيوانات أو النساء .

    ويذكر العيني في ترجمة  أحمد بن أبو الوفا ت  814 أنه " كان يذكر مع طائفته عقيب كل صلاة بذكر ابتدعه هو ووالده من قبله"  [71]. أى تميز بطريقته  الصوفية بلحن خاص ورقص معين . ومثله شمس الدين الحنفى الذى كان "إذا ركب يذكر الله بين يده جماعة كطريقة مشايخ العجم ، وكان يجعل من حلقة جماعة كذلك ، يذكرون الله تعالى بالتوبة ،ويقول: هو شعارنا فى الدين ويوم القيامة ، وكان الناس إذا سمعوا حسهم من المساجد أو الدور يخرجون ينظرون إليهم"[72].  أى لم يكتفوا بالمؤسسات الدينية وإنما كانوا يطوفون بالشوارع راقصين ولا يزال ذلك سائداً حتى الآن فى مناسبات الموالد. ويقول الشعرانى عن الحنفى "وكان سيدى محمد يأمر أصحابه برفع الصوت بالذكر فى الأسواق والشوارع والمواضع الخربة المهجورة " [73].

   واستمرت حلقات الذكر بالسماع الصوفى وملحقاته من وجد ورقص ، يقول كلوت بك فى العصر العثمانى: ( ومن أغرب حفلاتهم حفلة الذكر ،الذى يتلخص فى تكرارهم لفظ الجلالة مع تحريك الرأس والجسم تحريكاً متصلاًغير منقطع،وهذه الحركات المترادفة تؤثر فيهم فلا يلبثون أن يقعوا على الأرض ،وفى هذه الأثناء التى يبلغ الهياج في نفوسهم أثناءها مبلغه الأقصى ويرون فيه الدليل المحسوس على ولايتهم يعتدون على بعضهم البعض بصنوف الأذى والتمثيل،وربما نجم عن أفعالهم موت البعض منهم فيذهب فريسة الجهل والضلال"[74]. أى كان يبلغ الوجد به درجة الإقتتال.

 

حفلات الرقص والسماع فى مصر المملوكية   

 كانت حفلات السماع أكبر تطبيق عملى لعبادة السماع فى العصر المملوكى

 حفلات سماع أقامها المماليك:

1 ـ وكانت حفلات السماع شيئا عاديا لا يستحوذ على إهتمام المؤرخين إلا إذا إرتبط بحدث هام ، كأن يقيمه السلطان بنفسه، فقد ذكرت الحوليات التاريخية بعض حفلات السماع المملوكية الرسمية، ففي حوادث سنة 790": ( وفيه عمل السلطان ـ برقوق ـ المولد النبوى بالقصر على العادة، وأقيم السماع بابراهيم بن الجمال وأخيه يشبب.) أو أن تحدث فاجعة ، ففى نفس العام 790 كان مقتل أشهر مطربى السماعات وقتها ( ابراهيم بن الجمال وأخوه شبيب ) : ( وفي ليلة الأربعاء ثانى عشرة حضر ابنا الجمال المذكورين عند بعض أهل مصر مولداً، فلما أقيم السماع سقط البيت بمن فيه فمات ابنا الجمال مع ستة أنفس وسلم من عداهم . )"[75].

2 ـ    وفي حوادث سنة 818"ركب السلطان ـ المؤيد شيخ ـ في ليلة الجمعة إلى الخانكاه ـ سرياقوس ـ وعمل مجتمعاً حضره عشر جوق من قراء القرآن وعدة من المنشدين،ومدت لهم أسمطة جليلة،ثم أقيم السماع بعد فراغ القراء والمنشدين طول الليل، فكانت ليلة غراء مدت فيها أنواع الأطعمة وأنواع الحلاوات، وطيف على الحاضرين بالمشروب من السكر المذاب ، وأنعم السلطان على القراء والمنشدين وصوفية الخانكاه بمائة ألف درهم"[76].

3 ــ وبعض الأمراء أقام سماعات تكريماً لأشياخ التصوف ففي حوادث سنة 740"وفيها قدمت طائفة من العجم لهم زى غريب على رءوسهم أقباع طوال جداً من فوقها عمائم مضلعة كهيئة الطرطور، ولهم شيخ يعرف بالشيخ زاده، فاحتفل به الأمير قوصون وأنزلهم بخانقاته( خانقاة قوصون ولا تزال باقية )، وعمل لهم فيها عدة أوقات، ثم تحدث قوصون مع السلطان ـ الناصر محمد ـ في أمرهم ، فولى زاده مشيخة الخانقاه الركنية بيبرس فباشرها، وعمل بها في كل ليلة جمعة سماعاً قام به الأمير قوصون. )"[77]. أى إن شهرة هذه الصوفى الايرانى فى عمل الحفلات سبقته فحاز على استقبال رائع ، وأصبح شيخ الخانقاة الركنية بيبرس ، وأصبح يقيم حفلا اسبوعيا تحت رعاية الأمير قوصون . 

حفلات سماع أقامها الصوفية:

1 ــ  كان الشيخ العينتابى يقيم سماعا ًفي زاويته كل ليلة جمعة[78].   واعتاد الكثيرون المبيت في زاوية شمس الدين الحنفى لحضور السماع فيها [79]. وكانت"الأوقات" أى السماعات تقام في زاوية الشيخ الحلاوى. وبعد موته استمر أولاده في عملها واشتهروا بها[80]. وجمع الشيخ أسلم الأصفهانى في خانقاه سرياقوس ( أراذل الناس وأصحاب المغانى والملاهى ) وكان يعمل السماع بهم[81]. . وكان المازرونى يعمل السماع في ضريح عمر بن الفارض بالآلات الموسيقية[82].   وواظب الناس على الحضور عند أحمد وفا خصوصاً في ليالى الجمع حيث كان يعقد السماع: ( وكانوا يجتمعون ، وعندهم الوعاظ والمنشدون ، ولا يزالون يرقصون طوال الليل. ) [83].

2 ــ وكان عمل السماع إحدى الطرق الصوفية في الشهرة بين الناس، يقول المؤرخ ابن حجر أن الشيخ أمين الخلوتى قدم مصر سنة 780 ( فشرع في عمل السماعات وإنفاق ما يدخل عليه من الفتوح على إقامة السماعات فانثال عليه الزائرون والمعتقدون واشتهر حاله ) [84]  . وعن طريق السماع وصل بعضهم للقضاء فالقاضى ابن فضل الله كان في مبدأ أمره يلبس القماش الفاخر "ويعمل السماعات"[85].

أقاصيص عن السماعات المملوكية:

1 ــ   وترددت قصص في المصادر التاريخية عن حفلات شهيرة للسماع، فالشيخ عمر السنجارى مات رقصاً، وسبب موته أن الفقراء اجتمعوا في زاوية الشيخ الحضارى ( فأنشد القوّال ..فتواجد الشيخ السنجارى ، وقام، وقعد ، ووقع إلى الأرض ، فانقطع حسُّه ، فحركوه فإذا هو ميت.! ) [86].

   وأقيم سماع لوفاة أحد الأشياخ ، واستدعوا الشيخ فخر الدين الفارسى ليحضر بزاوية الغرابلى وأحضروا مغنياً مشهوراً يقال له الفصيح ،فاجتمع غالب  الناس لسماعه ، ثم حضر فخر الدين الفارسى: ( وكانت له حُرمة عظيمة ومعه أصحابه بين يديه، فأشار الشيخ بإبطال الفصيح ، وأنكر وجوده ، فهرب الفصيح هربا ًمن الشيخ ، فاستاء الناس لذلك، وعلم الشيخ منهم الإستياء لذهاب الفصيح ،فقال لفقير من أتباعه : " قُم فطيب القوم" ، فقام وأنشد، فقام الشيخ فخر الدين ووضع عمامته على الأرض، وحجل بهيبته وحرمته بوجد واستغراق ، فلم يبق في المجل س إلا من طاب ،وكشف الخلائق رءوسهم ، وصاروا صارخين متعجبين من صنع الله تعالى ،وكيف عوضهم الله أفضل مما فاتهم. )"[87].

وواضح الأثر الدينى في السماع الذى عقد في مناسبة وفاة أحد الأشياخ، ورقص الشيخ فخر الدين فرقصوا وراءه جماعة. ولقد كان كشف الرأس وقتها عند الحزن الشديد أو فى التجريس و التعذيب ، وبالتالى فإن كشف الرأس دليلا على الوجد من شيخ صوفى ( له حُرمة ــ أى محترم ) عندهم له دلالة على التأثر بالمطرب .

محبو السماع والرقص من الصوفية فى العصر المملوكى :

1 ــ روى أن الشاذلى سمع رجل يقول لصاحبه: يا فلان رأيت فلاناً يسىء معك العشرة وأنت له محسن ، فقال هو من بلدى وأقول ما قاله مجنون ليلى :

    رأى المجنون في البيداء كلباً          فجر له من الإحسان ذيلاً

     فلاموه على ما   كان   منه          وقالوا كم أنلت الكلب نيلاً

    فقال دعوا الملامة أن عينى           رأته مرة في حىّ ليلى

   وكان الشيخ في محارة أى مركب فلما سمع الشعر أخرج رأسه منها وقال : أعد يا بنى ما قلت ،فأعاد فتحرك الشيخ في المحارة وقال :دعوا الملامة أن عينى .. وجعل يكررها ورمى له بغفارته[88]" واعتبر ابن عياد هذه الواقعة من مفاخر الشاذلى.

2 ــ وقد وصف الكثيرين بحب السماع وحضوره ،ومنهم الشيخ المدلجى الذى "كان زاهداً متصوفاً يحب السماع ويحضره"[89]. والشيخ بهاء الدين الكارزونى الذى" أوصى أن يخرجوا به إلى قبره بالدف والشبابة "[90]أى يرقصون في جنازته. ورددت المصادر التاريخية شهرة الشيخ قنبر العجمى (ت801)"بحب السماع والرقص مع إعراضه عن الدنيا وزهده"[91]. وكان يحيى الصنافيرى "يجتمع على السماع ويأمر أصحابه بالحضور فيه"[92]. وتسلل أحدهم من خلف شيخه لسماع مغنيه، فلما عرف شيخه سبب غيابه قال"أمرها عندى خفيف"[93]قياساً على السماع الصوفى، وكان الشيخ ابراهيم المجذوب "كلما حصل فلوساً يعطيها للمطبلين ويقول : ( طبلوا لى زمروا لى )[94].

3 ــ واشتهر الكثيرون من الأولياء في مجال الرقص. "والمطاوعة ( طائفة صوفية مشهورة وقتها ) يرون الرقص في المساجد والتصفيق قربة عظيمة( أى عبادة عظيمة )  ويعتقدون حل ذلك" "ويجتمعون على ضرب الدف في المساجد ويطربون عليه" على حد قول المؤرخ السخاوى[95]. ويرى أبو العباس المرسى العجب من ذلك الذى يمسك حاله في السماع يقول: ( قيل لبعضهم : مالك لا تتحرك في السماع أمس؟ فقال أنه كان في الجمع الكبير فاحتشمت منه ولو أنى خلوت وحدى لأرسلت وجدى وتواجدت ،فانظر كيف كان زمام حاله بيده يمسكه إذا شاء ويطلقه إذا شاء"[96].

4 ــ  والرقص كان في العصر المملوكى هو الحركة المنتظمة للوجد مع الموسيقى والمتأثرة بإنشاء المغنى ، وحتى من ارتدى زى الفقهاء من الصوفية كالشعرانى قال يشرع الرقص في الذكر: ( ينبغى للرجل إذا قال لا إله إلا الله يهتز من فوق رأسه إلى إصبع قدميه، وهذه حال يستدل بها على أنه سالك فيرجى له التقدم إلى أعلى منها. ) .وقد سبق إيراد ذلك في عرضنا كتابه "لبس الخرقة والتلقين".

5 ــ وبعض المصادر وصفت كيفية سماع بعضهم ،فالشيخ اسحق الرقى ت703" ربما حضر السماع مع الفقراء بأدب وحسن قصد"[97]والشيخ خلف أحد أصحاب البدوى "كان إذا استمع ملخ الشجرة الكبيرة بيده"[98]. وابن عبد الظاهر الأخميمى"كان يحضر السماع ويقع له فيه أحوال عجيبة"[99]. والشيخ شهاب الدين الجوهرى "كان يحب التواجد في السماع"[100].

كما وصفت بعض المصادر كيفية رقص بعضهم ،فالشيخ أبو المواهب الشاذلى "كان يغلب عليه سُكر الحال فينزل يتمشى ويتمايل ــ كالسكران ــ في الجامع الأزهر ،وكان كلامه ينشد في الموالد والإجتماعات والمساجد على رءوس العلماء والصالحين فيتمايلون طرباً من حلاوته"[101].

ووُصف بعضهم بحُسن رقصه ،فقيل عن بعضهم: ( لرقصه في السماع خفر ، ولأخيه ابراهيم الرياسة فيه ، ولم يعد بعدهما ما يدانيهما في الموسيقى والرقص وعمل الأوقات وجمع الفقراء . )" ، ( كان على رقصه في السماع خضر وهيبة، وأما أخوه ابراهيم فانتهت إليه الرئاسة في الرقص. )"[102]

بينما ذموا رقص البعض الأخر ،فالشيخ ضياء قال للشيخ القصار وهو يرقص في السماع: ( يا شيخ محمد أبخست الخرقة") [103].و( الخرقة ) تعنى الطائفة الصوفية التى ينتمى اليها.

محبوا السماع والرقص من غير الصوفية في العصر المملوكى:

1 ــ وانتشر السماع ورقصه الدينى في العصر المملوكى وأدمنه الكثيرون من غير الصوفية ،"وسلطان العلماء" فى العصر المملوكى عز الدين بن عبد السلام "كان يحضر السماع والرقص"[104]. وإذا كان سلطان العلماء يرقص في السماع فلا حرج على غيره من سلاطين الدنيا؟.

2 ــ والسلطان المؤيد شيخ كان مغرماً بحضور السماعات يحضرها بنفسه: ( وتقوم الصوفية تتراقص وتتواجد بين يديه،  والقوَال يقول وهو يسمعه،ويكرر منه ما يعجبه من الأشعار الدقيقة )"[105].

وكان يحدث تنافس بين المغنيين ويتدخل فيه السلطان إذا كان متعصباً لأحدهم ضد الآخر ،فابن رحاب المغنى "عمل سماعاً في باب الوزير ،فقامت في تلك الليلة هرجة حصل فيها قتيل،فرسم السلطان بنفى ابن رحاب، فشفع فيه القاضى ابن جلود فعاد، وكان السلطان يميز ابن الجندى المغنى عن ابن رحاب في الغناء"[106].

3 ــ والأمراء المماليك اشتهر بعضهم بحضور السماعات مثل يونس النوروزى الذى ( كان محبا للفقراء ويحضر السماع ويشغف به)  "[107]. ومنكلى بغا ت836 أحد الحجاب ( كان يحضر مجالس الفقراء ويرقص في السماع ويميل إلى التصوف) [108]. والقواس "كان يصحب الفقراء ويسافر البلاد ويدخل الزوايا ويتواجد في سماعات الفقراء "[109]. واشتهر بعض الأمراء في مجال الرقص الصوفى مثل الأمير الحجازى الذى "كان خفيف الحركة في الرقص"[110].

بل إن المصادر التاريخية أشارت إلى كيفية رقصهم ، فالأمير متكلى بغا كان ( يحضر السماعات ويرقص فيها داخلاً على قاعدة القوم) [111]. أى ملتزماً بطقوس التصوف في الرقص .أما الأمير طاجار الناصرى فيقول عنه المؤرخ المملوكى أبو المحاسن ـ وهو لصيق بالمماليك ـ أنه "كان يحضر السماع ولا يملُّ من الرقص ، حتى أنه كان ينزل من الخدمة فيعمل سماعاً ويرقص إلى أن يجىء وقت الخدمة فيطلع إلى القلعة ، وقيل أنه كان يركب البريد في الأمر المهم، فإذا نزل ليستريح قام يرقص إلى أن يركب"[112].

  والتصوف هو الذى جعل جندياً مثل طاجار الناصرى يدمن الرقص إلى هذا الحد حتى يظل في حالة رقص مستمر لا يهدأ.

أخيرا

ومسئولية التصوف في أنه ربط الغناء والرقص بالدين وسماه سماعاً.. لذا ازدهر ما يعرف بالغناء الدينى في مصر والبلاد الإسلامية، ولم ير المتدينون فيه حرجا ، بينما إستنكروا الغناء العلمانى العادى ، وهو مباح . بل إن الرقص العارى الفاحش والغناء العادى الفاحش يظل فى دائرة اللمم ، أى صغار السيئات التى لا يخلو من الوقوع فيها بشر ، والتى يغفرها رب العزة لمن يجتنب الكبائر  .يقول جل وعلا : (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً (31) النساء ) (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُمْ مِنْ الأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ اتَّقَى (32) النجم )

أما الغناء الدينى الصوفى منه وغير الصوفى فهو عداء صريح للرحمن وإعتداء على جلاله ، ومن يموت به فهو ممّن سيقال لهم وهو فى النار يوم القيامة : (وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنْ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمْ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ (50) الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (51) وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) الاعراف ) .

جاءهم رب العزة بالقرآن الكريم مفصلا على علم ليكون هدى ورحمة لقوم يؤمنون فاتخذوا القرآن مادة للغناء . وندخل بهذا على ( جريمة التغنى بالقرآن الكريم فى مصر المملوكية ).

 

 جريمة التغنى بالقرآن الكريم فى مصر المملوكية.

 مقدمة: 

1 ـ أضافت الفتوحات العربية ملايين الخصوم الى الاسلام من أبناء الأمم المفتوحة . وما لبث بها أن تأسست أديان أرضية للمسلمين أصبحوا بها محمديين يفترون أحاديث شيطانية ينسبونها للنبى على أنها أحاديث نبوية . ووجهوا سهامهم للقرآن الكريم فيما يعرف بعلوم القرآن ومزاعم النسخ والتأويل والتفسير. وتطور الإستهزاء بآيات الله من بساطة العرب المشركين حين كانوا"يتخذون آيات الله هزواً" إلى اختراع ما يسمى بعلم التجويد والتنغيم وتحويل القرآن إلى نص شعرى يمكن التغنى به والتراقص عليه سخرية وهزوا . وهذا هو مجال التصوف الأساسى..

2 ـ   ومنذ بدأ التصوف في القرن الثالث الهجرى راجت آحاديث تشرع التغنى بالقرآن لصرف ذهن السامع عن التدبر في الآيات وليركز على صوت القارىء وتلاحين صوته وطريقة آدائه. ووجدت طريقها مبكرا منذ القرن الثالث الهجرى الى كتب الدين السنى نفسه . وفي "صحيح البخاري" أكثر كتب الآحاديث تقديساً عند السنيين وردت طائفة من هذه الآحاديث .ومنها "ما أذن الله لشىء ما أذن لنبى حسن الصوت بالقرآن يجهر به" ، "سمعت النبى يقرأ في العشاء والتين والزيتون فما سمعت أحداً أحسن صوتاً منه" ،" رأيت رسول الله يوم الفتح على ناقة له يقرأ سورة الفتح فرجًع فيها وقال الراوى: لولا أن يجتمع الناس عليكم لرجعت كما رجًع قيل له كيف كان ترجيعه قال آ آ آ ثلاث مرات " ثم حديث : " ليس منا من لم يتغنى بالقرآن.."[113].

3 ــ وإذا كان أولئك قد افتروا أن الرسول نفى عن الإسلام من لم يحوله إلى أغنية فإن القرآن الكريم ــ وهو الكتاب الوحيد الواجب اتباعه- نفى عن الإسلام من لم يتلو القرآن حق تلاوته، يقول سبحانه تعالى(الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ (121) البقرة ) .  وتلاوة القرآن حق تلاوته هى الخشوع عند تلاوته : (  أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنْ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمْ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (16) الحديد ) . ولكن أبناء أهل الكتاب الذين أسلموا هم الذين واصلوا مسيرة الآباء مع الكتب السماوية ، فحولوا الخشوع إلى لهو وغناء وسخرية بآيات الله. والخشوع عند الاستماع الى القرآن يكون بالانصات الخاشع ليتدبر السامع كلام رب جل وعلا ويفوز برحمته جل وعلا : ( وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204)  الأعراف )

   لقد نزل القرآن بلاغاً للناس وإنذارا للناس : (هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ (52)ابراهيم 52) (  إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عَابِدِينَ (106)  الأنبياء) . والبلاغ الذى فيه إنذار ينبغى أن يقرأ بخشوع وتدبر لا بلهو ومجون وغناء . وتخيل أن حاكماً أرسل لك بلاغاً وبياناً هل ستجعله أغنية؟ لو فعلت لاعتبرك مستهزئاً به . فكيف بالله جبار السماوات والأرض؟

إن طريقة التعامل مع قراءة القرآن الكريم والاستماع اليه تُحدّد إيمان الشخص أو كفره . المؤمن يزداد به إيمانا والكافرا يزداد به طغيانا وكفرا ( الانفال 2 ، التوبة 124 : 125 ، المائدة 64 ، 68 ). المؤمن يزداد به خشوعا والكافر يتخذه لهوا ولعبا وسخرية وإستهزاءا، ينطبق على الصوفية قول الله جل وعلا : ( وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُواً (56) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً (57) الكهف ) (أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلاً (102) قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً (104) أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً (105) ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُواً (106) الكهف ) .

4 ــ وندخل على تشريع الصوفية إتخاذ القرآن الكريم لهوا وغناءا ووجدا وهزوا :

الغزالى وتشريع الوجد بالقرآن:

1 ــ يربط الغزالى بين قراءة القرآن والوجد الصوفى على أساس أن الوجد الحق هو ما ينشأ من فرط حب الله تعالى والشوق إليه وذلك يهيج بسماع القرآن، ويرى الغزالى أن الوجل والخشوع وجد" من قبيل الأحوال، واستشهد بآحاديث مثل "زينوا القرآن بأصواتكم" كما لو كان القرآن المعجز في فصاحته للبشر محتاجاً للبشر لكى يزينوه.ومثل "شيبتنى "هود"واخواتها" وأنه (ص) كان يصلى ولصدره أزيز كالمرجل،وتلك الأقاويل اتخذ منها دليلاً على الوجد الصوفى الذى أورد عليه أخباراً صوفية ، منها أن الشبلى صرخ وهو يصلى حين قرأ الإمام "ولئن شئنا لنذهبن بالذى أوحينا إليك " وإن رجلاً غشى عليه عند السرى السقطى فاقترح الجنيد أن تقرأ عليه نفس الآية التى أغمى عليه عند سماعها، وتليت عليه فأفاق، وإن بعضهم ردد آية "كل نفس ذائقة الموت " فسمع هاتفاً يقول له أنه قتل أربعة من الجن حين سمعوه ، وأن بعضهم غشى عليه عند سماع"وأنذرهم يوم الآزفة " وإن ابراهيم بن أدهم  اضطربت أوصاله وارتعدت حين سمع " إذا السماء انشقت ". وأن آخر مات حين مر عليه رجل يقرأ" وامتازوا اليوم أيها المجرمون.."

2 ــ   وتفضيل الصوفية واضح بين تلك الأساطير على النبى عليه السلام والمؤمنين الصادقين معه ، فقد كانوا أكثرحباً للقرآن وتدبراً له وخشوعاً عند قراءته،ومع ذلك فلم يحدث أن صعق أحدهم إذا قرأ عليه القرآن .مما يشير إلى أن أولئك الصوفية – لو حدث منهم ذلك الصراخ والإغماء- كانوا مرائين أو مستهزئين.

3 ــ ويكتفى الغزالى بتشريع الوجد ويجعل السماع بالألحان مكروهاً يقول "وقراءة القرآن مع التمديد والألحان على وجه يغير نظم القرآن ويجاوز حدّ التنزيل منكر مكروه شديد الكراهية "[114]. ويجعل من آداب التلاوة "تحسين القراءة وترتيلها بترديد الصوت من غير تمطيط مفرط يغير النظم " ومعناه أنه يجيز ترديد الصوت وتمطيطه بغير إفراط .خصوصاً وأنه يعيد الإستشهاد بأحاديث"زينوا القرآن بأصواتكم" "ما أذن الله لشىء أذنه لحسن الصوت..إلخ"..وغيرها..

وواضح أنه يقف موقفاً متوسطاً في موضوع التغنى بالقرآن. ويبدو هنا تساؤل لماذاحرص إذن على ربط قراءة القرآن بالوجد الصوفى المشهور بالغناء والموسيقى؟.

الوجد بالقرآن وعقيدة الاتحاد الصوفية :

1 ــ   إن هدف الغزالى هو ربط الوجد الصوفى بعقيدة الصوفية في الإتحاد، وقد عبر عن ذلك صراحة، يقول: ( أن يُرى في الكلام المتكلم( أى الله جل وعلا بزعمه )، وفي الكلمات الصفات( أى أسماء الله جل وعلا بزعم الغزالى ) ، فلا ينظر إلى نفسه، ولا إلى قراءته ولا إلى تعلق الأنغام به من حيث أنه منغم عليه، بل يكون مقصوراً لهم على المتكلم، موقوف الفكر عليه، كأنه مستغرق بمشاهدة المتكلم عن غيره، وهذه درجة المقربين، وما قبله درجة أصحاب اليمين وما خرج عن هذا فهو درجات الغافلين".

 و ذلك التقسيم يذكرنا بالتقسيم السابق للغزالى في درجات العقيدة الصوفية حيث وضع على قمتها الصوفية الذين يرون الله في كل الوجود،وهو هنا يضع رؤية الله في أحرف القرآن وألفاظه قراءة المقربين. ويستشهد بمقالة أحدهم "والله لقد تجلى الله عز وجل لخلقه في كلامه ولكنهم لا يبصرون" وقول بعضهم أنه أصبح يقرأ القرآن حتى يسمعه من الله المتكلم به، ويقول ثابت البنانى "كابدت القرآن عشرين سنة وتنغمت به عشرين سنة". ثم يصل الغزالي إلى هدفه في تقريرعقيدة وحدة الوجود. فيقول لعنه الله : ( ومشاهدة المتكلم دون ما سواه يكون العبد متمثلاً لقوله عز وجل: ففروا إلى الله ، ولقوله تعالى :"ولا تجعلوا مع الله إلهاً آخر ، فمن لم يره في كل شىء فقد رأى غيره . وكل ما التفت إليه العبد سوى الله تعالى تضمن التفاته شيئاً من الشرك الخفى، بل التوحيد الخالص أن لايرى في كل شئ إلا الله عز وجل .. فإذا جاوز حد الإلتفات إلى نفسه ولم يشاهد إلا الله تعالى في قراءته كشف له سر  الملكوت ) "[115]،

هذا هو هدف الغزالي إلا أن العصر المملوكي إهتم أساساً بتحويل القرآن والأذان لأغنية ولهو..                              اللهو والغناء في الآذان والصلاة والقرآن في العصر المملوكى

1 ـ  يقول ابن الحاج العبدرى فى كتابه ( المدخل ) : ( وكان الغالب فى صفة الإمام في قيام رمضان أن يكون حسن الصوت) "[116]. وعن طريق الصوت الحسن تتحول الصلاة في رمضان إلى لهو.

2 ــ وعكست وثائق الوقف ذلك فكانت تشترط في قراء القرآن في المؤسسات الصوفية أن يكونوا حسنى الصوت . ففي وثيقة وقف برسباي: ( ويُصرف لأربعة نفر حسنى الأصوات يجلسون مع الصوفية ويقرءون ما شرط على كل من الصوفية . ) ، ووصفتهم بالجوقة :( ويُصرف لخمس جوق كل جوقة ثلاث نفرمن حفاظ القرآن العظيم تقرأ كل جوقة بعد كل صلاة جزبين من القرآن العظيم على العادة ألف درهم "[117]. فوصف القُرّاء بأنهم ( جوقة ) تعنى الفرقة الموسيقية من مطربين وتابعيهم. وفي وثيقة وقف قراقجا الحسني: ( يُصرف لخمسة عشر نفراً من حملة  كتاب  الله العزيز عن ظهر قلب بالسوية بينهم ..على أن يكونوا خمسة جُوق لكل جوقة منهم  مائتا درهم ،على أن تقرأ جوقه منهم بعد صلاة الصبح بالجامع المذكور حزباً واحداً من تجزئة ستين حزباً من القرآن العظيم .. ويجتمعون قراءتهم بالصلاة على النبى (ص) ويدعوا أحسنهم صوتاً) "[118].

  وفي وثيقة وقف الغورى "تصرف لرجل من أهل العلم الشريف حافظاً لكتاب الله.. مشهور بالخير والدين حسن الصوت"واشترطت ذلك للخطيب والمؤذن " وعند القراءة والدعاء للواقف يتولى ذلك "من يكون أحسنهم صوتاً وأطربهم نغمة"[119].  ولاحظ ابن بطوطة في رحلته أن المصريين في القرافة "يرتبون القرآن ،يقرءون القرآن ليلاً ونهاراً بالأصوات الحسان"[120].

 3 ــ   ونفس الشرط اشترطته حجج الوقوف للمؤذن والإمام في الصلاة . ففي وثيقة قراقجا الحسنى ( يُصرف لتسعة نفر من المؤذنين حسان الأصوات على أن يكونوا ثلاث جوق) "[121]. وفي حجة قايتباى ( ويُصرف لتسعة نفر رجالاً مؤذنين.. يكون كل منهم حسن الصوت وفي ليلة الجمعة ينشد أحسنهم صوتاً ما تيسر له من مدح النبى عند آذان الفجر ) "[122]. وفي حجة برسباى: ( ..فيصرف لستة مؤذنين حسنى الأصوات مبلغ ألف درهم.) ."[123].. وفي حجة مغلطاى الجمالى: ( ويرتب معه قارئ ميعاد حسن الصوت من حملة الفقرا العشرة المذكورين .. ويرتب بها أيضاً مؤذنين حسنى الصوت عارفين بالمواقيت. )"[124]. 4 ــ وكان المؤذنون ينشدون القصائد والمواعظ والسحريات والفجريات . وتكاد تجمع وثائق الوقف على اشتراط كون المؤذن حسن الصوت [125].

5 ــ وبعضهم كان( أمرد ) أى شابا مطلوبا في عصر انتشر فيه الشذوذ الجنسى. وقد احتج على هذا الوضع الفقيه ابن الحاج يقول: ( ما أحدثوه من صعود الشبان على المنابر للآذان  ولهم أصوات حسنة  ونغمات تشبه الغناء) ("فيرفعون عقيرتهم بذلك ، فكل من له غرض خسيس يصدر منه في وقت سماعه مالا ينبغى ،. وقد يكون ذلك سبباً إلى تعلق قلب من لا خير فيه بالشاب الذى يسمعونه ، ويترتب على ذلك من الفتن أشياء لا تنحصر) "[126]. أى صار النداء الإسلامى للصلاة " الله أكبر" نداء للفتنة والشذوذ الجنسى.

مؤذنون مطربون:

  واشتهر بعض المؤذنين في مجال الغناء والطرب .منهم نجم الدين الصوفي ت731 رئيس المؤذنين بجامع الحاكم "وكان بارعاً في فنه له أوضاع عجيبة وآلات غريبة"[127]. وكان المازونى ت 862  "أحد الأفراد في إنشاد القصيد وعمل السماع،وكان من عجائب الدنيا في فنونه، كان صوته كاملاً.. مع شجاوة ونداوة وحلاوة،وكان رأساً في إنشاء القصيد على الضروب والممدود.. وكان له تسبيح هائل على المآذن.. وكان يشارك فى الموسيقى ويعظ في عقود الأنكحة"[128].    وكان البدر الفيشى ت879 "أمام المؤيدية " "أتقن القراءات،وازدحم العامة علي سماعه ،خصوصاً في ليالى رمضان"[129]. وكان المحلاوى مؤذن السلطان الغورى"وكان حسن الصوت مطبوعاً في فنه"[130].

 الصوفية وتلحين القرآن

1 ــ يقول ابن خلدون في ذلك : ( وكثير من القُرّاء بهذه المثابة يقرأون القرآن فيجيدون في تلاحين أصواتهم كأنها المزامير فيطربون بحسن مساقهم وتناسب نغماتهم.. وهذا هو التلحين الذي يتكفل به علم الموسيقى..والظاهر تنزيه القرآن عن هذا كله..لأن القرآن يحل الخشوع بذكر الموت وما بعده وليس مقام التذاذ بإدراك الحسن من الأصوات " [131].

2 ــ أما ابن الحاج فيجعل من البدع المخالفة للشرع في الجنازات ما يفعله القراء للقرآن في قراءتهم: ( من شبه الهنوك والترجيعات كترجيع الغناء،حتى أنك إذا لم تكن حاضراً معهم في موضع وتسمعهم لا تفرق بينهم وبين الأغانى ، وهذا مُشاهد منهم مرئىُّ من فعلهم . )، أى كانوا يتغنون بالقرآن حتى في مناسبة الجنازات.  ويقول عن قراءتهم للقرآن في حفلات السماع: ( والقارئ يقرأ القرآن فيزيدون فيه بحسب تلك النغمات والترجيعات التى تشبه الغناء والهنوك التى اصطلحوا عليها ، وقد يبتدئ القارئ بقراءة القرآن فينشد الآخر شعراً أو يتهيأ لإنشاده فيسكتون القارئ،أو يهمون بذلك،أو يتركون المنشد في شعره، والقارئ في قراءته لأجل تشوق بعضهم لسماع الشعر وتلك النغمات الموضوعة أكثر. ). وفي الموالد : ( يبدأ المولد بقراءة القرآن وينظرون إلى من هو أكثر معرفة بالهنوك والطرق المهيجة لطرب النفوس فيقرأ عشراً بما في قراءته من ترجيع كترجيع الغناء"،والهنوك هو التطريب.)

  وفى ختم القرآن في شهر رمضان : ( تُقرأ القصائد والكلام المسجع بما يشبه الغناء لما فيه من التطريب) "[132]. وواضح من تلك النصوص أنهم عاملوا القرآن كقصيدة شعر بل فضلوا الشعر عليه أحياناً في الغناء.

3 ــ  وللصوفية راى آخر يعبر عنه الشعرانى بقوله: ( أُخذ علينا العهد العام من رسول الله(ص) أن نتعاهد القرآن بالتلاوة ولنحسن به أصواتنا جهدنا طلباً لميل الناس إلى سماعه) "[133]. وكان من عادة الحنفى في ليلة ميعاده أن يحضر عنده جماعة من المقرئين يقرأون القرآن: (  وكانوا جوقتين لكل جوقة رجل معين.. وكان كل من سمعها غاب عن حسه .. من حسن أصواتهما ) "[134]. وروى الشعرانى كرامات لصوت الشيخ شهاب الدين القسطلانى والشيخ امين الدين الصوفى الامام بجامع الغمرى [135]. وذكروا أن جد الشعرانى شهاب الدين الشعرانى كان مقرئا له صوت شجى فى قراءة القرآن " [136].

 4 ــ  وذكرت المصادر التاريخية إشتهار بعضهم بتلحين القرآن في القراءة ، فالأمير قطلوا بغا الكركى ( حفظ القرآن وكان يحسن القراءة بالألحان )"[137]. وكان الإمام فخر الدين التركى: ( تالياً للقرآن حسن النغمة به) "[138]. ولإرتباط القرآن عنده بالموسيقى فإن جمال الدين الأذرعى: ( قرأ القرآن وبرع في الموسيقى" )  [139].

التغنى بالقرآن بالفرقة الموسيقية ( الجوقة ) :  قُرّاء القرآن أصحاب الأجواق:

1 ــ  الجوقة هم الفرقة الموسيقية . وقد سبق أن الحجج في الوقف كانت تعين جوقات للتغنى بالقرآن.

وقد تكاثر عدد قراء الجوق في العصر المملوكى ، واشتهر الكثيرين منهم فذكرتهم المصادر التاريخية، ومنهم سويدان ت832 الذى": (  حفظ القرآن وقرأ مع الأجواق فأعجب الظاهر برقوق صوته فجعله أحد أئمته ، وولاه الناصر فرج حسبة القاهرة ، ثم عزله فعاد كما كان يقرأ الأجواق عند الناس ، ويأخذ الأجرة على ذلك، وصار رئيس جوقة". )  ويقول عنه المؤرخ أبو المحاسن : ( واستقرأته أنا كثيراً") [140].

وكان أحمد اليمنى ت825 أحد القراء بالجوق تلميذ الشيخ شمس الدين بن الطباخ، ( وقرأ معه وحاكاه فى الغناء ، وكان للناس في سماعه رغبة زائدة ولم يخلف بعده من يقرأعلى طريقته)  "[141].

وكان ابن المحب "أحد قراء الجوق وكان تلميذ الشيخ شمس الدين الرزازى رفيق ابن الطباخ"[142]. وكان أحمد الخواص "أحد رؤساء الأجواق ويعمل الموالد ويتكسب بذلك"[143].

2 ــ  واشتهر قراء الأجواق بزيادة التغنى بالقرآن أكثر من القراء العاديين ليطربوا الناس ، فقصدهم الجمهور ويقال في ترجمة الشهاب الحجازى ( أنه تدرب بوالده في قراءة الجوق ومعرفة الأنغام، بحيث كان يُقصد لسماع قراءته في حال صغره من الأماكن النائية ) "[144]. وأصبح الفارق شاسعاً بين تغنى المقرئين العاديين والتغنى المفرط لقراء الجوقة الذين أصبحت طريقتهم معروفة، فالشيخ النحاس وصف بأنه: ( يحفظ القرآن على طريقة قراء الأجواق ) "[145]. وفي موضع آخر يقال عنه : ( أنه كان يحفظ القرآن على طريقة قراء الأجواق لا على طريقة القراء) "[146].

3 ـ وحاز قُرّاء الجوق شهرة زادت على شهرة القُرّاء العاديين ، وهددتهم فى رزقهم ، فكان من المنتظر أن ينقم القراء على أولئك الجوقية،وكان أشهر القراء في عصر برقوق هو خليل المشبب الذى تمتع بالخطوة عند السلطان برقوق ، ويقال عنه": ( كان يرتل الفاتحة ويرسل في السورة ومن تلامذته المشهورين بحسن القراءة الرزازى وابن الطباخ وغيرهما ،وكانت طريقته في القراءة معروفة ، وكان ينكر على قراء الأجواق بحيث أنه كان إذا مر بهم وهم يقرءون يسد أذنيه) "[147].  وبتأثيره أصدر برقوق أومره سنة790 بمنع قراء الأجواق من التهتك ،ويقول المؤرخ  الصيرفى : ( والعجب ثم العجب أنهم أبطلوا قراءة القرآن بالأجواق لأجل التهتيك، وعملوا في المولد في ليلة الأربعاء السماع بإبراهيم بن جمال وأخيه شبيب وأعوانه بالدف) "[148].

   وكان الشعرانى باعتباره فقيهاً صوفياً ينكر على قراء الأجواق، يقول أنه أخذت عليه العهود ألا يمكن أحد من إخوانه المنقادين له "من القراءة بالأنغام الخارجة عن قواعد السلف ومثل القراءة في ذلك الآذان والتبليغ خلف الإمام والصوت الحلو إنما هو أمر خلقى، وأما التلحينات التى يفعلها قراء الأجواق ويمططون الحرف ويمدونه في غير المد فذلك حرام كما أفتى به بعضهم"[149].

   ومع ذلك فقد كان الناس مشدودين لقراء الجوق وامتلأت بهم المؤسسات الصوفية إذ كان عصر التصوف عصرهم،وكانت عبادتهم في ذكر الله هى في الغناء والرقص والوجد والتغنى بالقرآن الكريم.. وهذا تأثير التصوف في عبادة الذًكر .

أخيرا :  لعنة التجويد

يقولون إن تجويد القرآن الكريم هو تحسين صوت القراءة به. وهذا يشمل التنوين والادغام و الاظهار و تحديد مخارج الأصوات وما يستتبعه من أشياء أقرب الى علم الموسيقى. وهذا ما كنا ندرسه فى الاعدادى الأزهرى فى مادة التجويد ، والتى كان شعارها الحديث الكاذب القائل ( حسنوا القرآن بأصواتكم ).التجويد يتعامل مع القرآن كأغنية أو قطعة أدبية تحتاج الى فن فى التمثيل و الغناء أو الانشاد ، ولذلك كان مدرس التجويد يصاحب شرحه لنا بعصا معه يدق بها على النغمة التى يقرأ بها القرآن الكريم ، و مثل علم العروض الذى يقيس بحور الشعر ويحسب نغماته و قوافيه كان علم التجويد يتعامل مع القرآن الكريم.
القرآن الكريم ليس أغنية مطلوب تلحينها و التغنى بها لاطراب الجمهور. القرآن الكريم كتاب انذار وبيان من الله تعالى للناس يحذرهم من اقتراب الساعة ، ومن السخرية بهذا الانذار الالهى أن نتعامل معه بهذا الاستخفاف ونحن نحسب أننا نحسن صنعا
يقول تعالى ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ) ( الأنفال 2 ) ان المؤمن الحق اذا تذكر اسم الله تعالى ارتعش قلبه وجلا ـ لا أن تترقص أردافه طربا ـ واذا تليت عليه آيات القرآن ازداد ايمانا.، ولم يزدد بها ظلما وعدوانا. المشركون اللاهون فقط هم الذين يكذبون بآيات الرحمن و ما فيها من انذار وتبشير ويتخذونها هزوا (وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنذِرُوا هُزُوًا ) الكهف 56) 
هؤلاء المشركون اليوم يغضب أحدهم أشد الغضب اذا تغنيت بالبخارى وباحاديثة الكاذبة المنسوبة كذبا للرسول محمد عليه السلام. ادخل عليهم واقرأ عليهم حديثا للبخارى ـ بطريقة غنائية وانت تتطوح وتتمايل كما يفعل المغنون بالقرآن ، لن يطربوا ولن يفرحوا بل سيثورون لأنك سخرت بدينهم الحقيقى . هذا طبعا إذا عرفوا انك تقرأ لهم من البخارى لأنهم يعبدون ما يجهلون كالأنعام وأضل سبيلا
ان قراءة القرآن عبادة والاستماع اليه عبادة ، وتدبره ودراسته عبادة. وليس فى العبادة هزل أو طرب . إن الله تعالى المهيمن الجبار يقسم بالسماء والأرض أن القرآن الكريم لا مجال فيه للهزل ، بل هو القول الفصل : ( وَالسَّمَاء ذَاتِ الرَّجْعِ وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ )( الطارق 11 )
ولكن المشركين كما يقول الرحمن جل وعلا يتخذون دائما دينهم لهوا ولعبا. مطلوب من المؤمن الاعراض عنهم فى الدنيا (وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا) ( الأنعام 70 ) وهم فى الأخرة كافرون فى عذاب الجحيم (الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَاء يَوْمِهِمْ هَـذَا وَمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ ) (الأعراف 51
المؤمن يتلو القرآن ويرتل القرآن
والتلاوة والترتيل معناهما واحد فى اللغة العربية. وهو القراءة المتتالية أو الأحداث التى يتلو بعضها بعضا. كلمة ( تلا ) تفيد القراءة المتتابعة لكلام متتابع ، كما تفيد مجىء شىء تلو او بعد شىء سابق. وهكذا كلمة( رتل ) تقول : جاء رتل السيارات ، اى سيارات متتابعة يتلو بعضها بعضا
التلاوة فى القرآن لا تعنى مجرد التتابع اللفظى فقط فى آيات القرآن الكريم التى يتلو بالفعل بعضها بعضا ، ولكن التلاوة والترتيل فى القرآن الكريم يعنى أن تكون طريقة القراءة موضحة للمعنى القرآنى. وهذا معنى قول الله سبحانه وتعالى ( الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ أُوْلَـئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمن يَكْفُرْ بِهِ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ)( البقرة 121 ) فهناك من يتلو الكتاب ( حق تلاوته ) وهذا هو المؤمن بالكتاب ، ومنهم من تتحول عنده القراءة و التلاوة والترتيل الى أغنية و لهو ولعب وطرب ، وهذا هو الكافر به والخاسر بتلاوته. وتعجب هنا من اثنين كلاهما يقرأ القرآن ولكن أحدهما كافر بقراءته والآخر مؤمن بقراءته. أى إن قراءة القرآن من المفاصل الهامة التى يتحدد بها الايمان أو الكفر فى الحساب الالهى
ولأنها قضية خطيرة فهى تستحق مزيدا من الايضاح
ان فى القرآن الكريم أنواعا مختلفة من الخطاب ؛ فيه الخطاب التشريعى باسلوب علمى تقريرى قانونى و فيه القصص بالحوار والأقوال و الأفعال والعظة والعبرة ، وفيه الحوار من رب العزة للبشر، وفيه الانذاروالتخويف،وفيهالتبشير.  وفي هذا كله تنوع من الاسلوب التقريرى العلمى الى الاسلوب العاطفى والاسلوب العقلى المنطقى الجدلى ، وفيه التكفير من الله تعالى و اللعن لمن يستحق ذلك ، وفيه الدعوة للتفكير وفيه وصف نعيم الجنة و فيه عذاب النار ، وفيه السخرية

.هل نتعامل مع كل هذه الأنواع المختلفة بطريقة قراءة واحدة ـ حتى على فرض اننا نقرأ القرآن دون غناء ودون اتخاذه لهوا ولعبا كما يفعل الغافلون ؟ 
بالطبع لا بد أن تختلف القراءة حسب المعنى الذى تتضمنه الآية وكل آية. فاذا كان فى الآية سؤال فلا بد أن تقرأها بصيغة السؤال ، واذا كان فيها تعجب فلا بد ان يظهر التعجب فى طريقة قراءتك للآية ، وهكذا فى السخرية وفى الترهيب وفى الوعيد. بهذه الطريقة تتلو القرآن حق تلاوته. لآن تلاوتك هذه تسمح لبيان القرآن و معناه الواضح ان يظهر ويتضح أكثر طالما تلوت القرآن حق تلاوته
اما تحويل القرآن الكريم الى أغنية و لها نوتة موسيقية تسمى التجويد فهى تغييب كامل لبيان القرآن الكريم لأن الذى يستاثر بالانتباه هو صوت المغنى أو ( المقرىء ) أما المحتوى القرآنى للصوت فقد ضاع بين آهات المقرىء و تهليل المستمعين ، و يتحول كلام العزيز الجبار فى الوعيد والانذار و التشريع الى جلسات أنس وفرفشة و انبساط ومزاج عال العال.. 
فيما مضى من زمان ـ أرجو من الله تعالى غفرانه ـ كنت أضطر لحضور مناسبات عزاء وأضطر لسماع ذلك اللهو والمجون بالقرآن الكريم ، وأعجب من تخلف المستمعين العقلى و الحجاب الموضوع على قلوبهم وهم يهيجون بالصراخ والاعجاب من صوت القارىء وهو يتغنى بآية فيها الوعد والوعيد ، معظمها ينطبق عليهم وهم لا يشعرون ولا يعقلون ولكن فقط يرقصون و يتماجنون . وكنت أحيانا أبتسم من الغيظ حين يقرأ المقرىء بطريقته الغنائية حوارا دار بين الله تعالى ورسوله موسى عليه السلام فى سورة طه ،، وأسأل نفسى هل كان الله تعالى يخاطب موسى عليه السلام بهذه الطريقة الغنائية فيرد عليه موسى بنفس اللحن ؟ وهل هو كتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه و قول فصل وما هو بالهزل أم هو أوبريت غنائى وعرض مسرحى ؟؟ 
لا عجب أن اتخذنا القرآن الكريم مهجورا
لم نهجره بالفعل بحيث تم نسيانه نهائيا ، ولكن اتخذناه مهجورا ، بمعنى أنه أصبح موجودا وغائبا فى نفس الوقت. غيبنا القرآن فى مجتمع المتعلمين بأن وضعنا فوقه أطنانا مما يسمى بالتفسير والحديث و التاويل والنسخ ، وغيبنا القرآن الكريم فى حياتنا العامة حين حولناه الى أغنية دينية فى مواسم العزاء وفى ساحات المقابر. وبهذا الهجر والتغييب للقرآن أصبحنا أعداء النبى محمد. ويوم القيامة سيتبرأ النبى محمد منا باعتبارنا أعداءه المجرمين
إقرأ الآيات الآتية وتدبرها بعقلك وقلبك، دون ان تحولها لأغنية : ( وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولًا وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِّنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا ) ( الفرقان 30 ـ )

ودائما : صدق الله العظيم .!! 

 



[1]
الإحياء جـ2/ 238 ،236 .

[2] لطائف المنن للشعرانى 102 ، 103 .

[3] البحر المورود 227 .

[4] الأحياء جـ2/ 254 ،258 .

[5] تلبس ابليس 155 .

[6] الاحياء جـ 3 / 66 : 67 .

[7] الدرر الكامنة جـ 1/ 124 : 125 .

[8]  النصيحة العلوية : مخطوط ورقة 19 .

[9] حوادث الدهور جـ 3 / 565 .

[10] انباء الغمر جـ 3 / 368 .

[11] شذرات الذهب جـ 8 / 175 ، الطبقات الكبرى للشعرانى جـ2 / 116 .

[12] الدرر الكامنة جـ 1/ 300 .

[13] الحر المورود 17 ، 18 .

[14]  تنبيه الغترين 88 .

[15] الطبقات الكبرى للشعرانى جـ 2 / 60 .

[16] الضوء اللامع جـ 2 / 147 .

[17] شذرات الذهب جـ 8 / 73 .

[18] الطبقات الصغرى 45 .

[19] الطبقات الكبرى للشعرانى جـ 2 / 120 .

[20] لطائف المنن 227 ، 278 .

[21] انباء الغمر جـ / 167 .

[22] الدرر الكامامنة جـ 3 /122 .

[23] عقد الجمان لوخة 345 وفيات 814 .

[24] الصفدى فوات الوفيات جـ 2 / 47 .

[25] الطبقات الكبرى للشعرانى جـ2 / 89 : 90 .

[26] الاحياء جـ 2 / 246 ، 247 ، 248 .

[27] الاحياء حـ 1 / 265 : 266 .

[28] لبس الخرقة والتلقين 9 ، 10 ن 11، 12 ، 13 ، 14 .

[29] الوصية المتبولية 36 : 48 ، 39 : 40 ، 46

[30] لطائف المنن 431 .

[31] تلبيس ابليس 242 ، 248 ، 249 ، 351 ، 252 .

[32] الاحياء جـ 2 / 258 .

[33] الاحياء جـ1 / 266 : 267 .

[34] الاحياء جـ 2 / 258 ، 260 .

[35] الاحياء جـ 4 / 158 : 159 ، 162 ، 161 .

[36] الاحياء جـ 4 / 352 ، 161 ، 162 ، 290 ، 299 ، 263 ، 300 ، 161 ، 160 .

[37] الاحياء جـ 4 / 12 .

[38] اللمع 63 .

[39] الاحياء جـ 4 / 22

[40] الاحياء جـ4 / 304 ، 305 ، 330 .

[41] الاحياء جـ4 / 304 ، 305 ، 330 .

[42] الاحياء جـ 4 /304 ، 305 ، 330 .

[43] الاحياء جـ 3 / 197 : 198 ، 349 .

[44] الاحياء جـ 1 / 32 .

[45] الاحياء جـ2/259 : 260 ، 258 .

[46] الاحياء جـ 2/ 259 : 260 ،258 .

[47] الاحياء جـ 2 / 267 ،268 ، 269 .

[48] الاحياء جـ 256 : 257 .

[49] الإحياء جـ2/ 247 .

[50] إحياء جـ2/ 259 .

[51] المدخل جـ1/ 155 .

[52] لطائف المنن 430 .

[53] روض الرياحين 228 .

[54] لسان التعريف 63، 64

[55] مناقب الحنفى 424 :426 .

[56] الإحياء جـ2/ 249 ،255 ،263 ،266 .

[57] الإحياء جـ2/ 249 ،255 ،263 ،266 .

[58] الإحياء جـ2/ 249 ،255 ،263 ،266 .

[59] الإحياء جـ2/ 249 ،255 ،263 ،266 .

[60] تحفة الأحباب 435 .

[61] الكواكب السيارة 300 .

[62] روض الرياحين 14 .

[63] إحياء جـ3/ 344 .

[64] شفاء السائل 40 .

[65] المقدمة 423 .

[66] المدخل جـ1/145 ،155 ،151 ،152 ,154 .

[67] المدخل جـ1/145 ،155 ،151 ،152 ,154.

[68] المدخل جـ1/145 ،155 ،151 ،152 ,154.

[69] المدخل جـ1/145 ،155 ،151 ،152 ,154.

[70] الشعرانى قواعد الصوفية جـ1/ 39 .

[71] عقد الجمان . وفيات 814 لوحة 345 .

[72] الطبقات الكبرى للشعرانى جـ2/ 90 .

[73] الوصية المتبولية 181 .

[74] لمحة عامة إلى مصر جـ2/ 87 .

[75] السلوك جـ3/2/ 575 ،جـ4 /1 /337 ،جـ2 /2 /494 .

[76] السلوك جـ3/2/ 575 ،جـ4 /1 /337 ،جـ2 /2 /494 .

[77] السلوك جـ3/2/ 575 ،جـ4 /1 /337 ،جـ2 /2 /494 .

[78] إنباء الغمر جـ2/ 33 .

[79] مناقب الحنفى مخطوط 165 .

[80] تحفة الأحباب 75 :76 .

[81] نزهة النفوس جـ2/69 .

[82] الطبقات الكبرى للشعرانى جـ2/91 .

[83] عقد الجمان للعينى وفيات 814 لوحة 345 .

[84] إنباء الغمر جـ1/ 176 .

[85] فوات الوفيات جـ2/47 .

[86] بيبرس الداودارى : زبدة الفكرة : جـ9/103 (أ) مخطوط .

[87] الكواكب السيارة 109 ،تحفة الأحباب 249 : 250 .

[88] المفاخر العلية : 23 .

[89] شذرات الذهب جـ6/ 44.

[90] الدرر الكامنة جـ4/ 108 .

[91] النجوم جـ13 /4 .إنباء الغمر جـ2/80 :81 .

[92] تحفة الأحباب 472 .

[93] الأدفوى : الطالع السعيد جـ1/66 .

[94] الطبقات الكبرى للشعرانى جـ2/128 .

[95] التبر المسبوك 102 ،105 .

[96] الطبقات الكبرى للشعرانى جـ2/17 .

[97] المنهل الصافى جـ1/20 .

[98] الجواهر السنية لعبد الصمد 28 .

[99] الطبقات الكبرى للمناوى 296 .

[100] إنباء الغمر جـ2/361 .

[101] الطبقات الكبرى للشعرانى جـ2/62 .

[102] الضوء اللمع جـ3/169 ،105 .

[103] الدررالكامنة جـ2/213 .

[104] الذهبى .العبر فى خبر من غبر جـ5 /260 .

[105] النجوم الزاهرة جـ14 /22 .

[106] تاريخ ابن إياس جـ2/ 441 .

[107] خطط المقريزى جـ4 /291 .

[108] النجوم الزاهرة جـ15 /179 ،جـ9/258 :259 .

[109] النجوم الزاهرة جـ15 /179 ،جـ9/258 :259 .

 

[110] المنهل الصافى جـ5 /391 ،403 ،جـ3 /434 .

[111] المنهل الصافى جـ5 /391 ،403 ،جـ3 /434 .

[112] المنهل الصافى جـ5 /391 ،403 ،جـ3 /434 .

 

[113] البخارى جـ9 /173 ، 192 ،193 ،194 .

[114] الإحياء جـ2/261 :262 ، 295 .

[115] الحياء جـ1/ 251 ،258 :259 .

[116] المدخل جـ / 86 .

[117] حجة وقف برسباى نشر أحمد دراج ص3

[118] وثيقة قراقجا الحسنى . ص 210 . نشر عبداللطيف ابراهيم ، سطر 126 ، 131 . دوريات جامعة القاهرة

[119] وثيقة وقف الغورى : 43 ، 44 نشر عبداللطيف ابراهيم .

[120]  رحلة ابن بطوطه جـ 1 / 21 .

[121] وثيقة قراقجا الحسنى . ص 208 سطر 114 .نشر عبداللطيف ابراهيم .  دوريات جامعة القاهرة .

[122]  حجة قايتباى ص65 .

[123]  حجة برسباى 2 .

[124] حجة مغلطاى الجمالى .

[125] محمد أمين : الأوقاف 234 ، عبداللطيف ابراهيم دوريات القاهرة 241 .

[126]  المدخل جـ 2 / 67 .

[127] تاريخ ابن الوردى جـ 2 / 295 .

[128] النجوم الزاهرة جـ 16 / 192 : 193 .

[132] المدخل جـ 3 / 13 ، جـ 1 / 145 ، 154 .

[133] لواقح الأنوار 110 .

[134]  مناقب الحنفى 164 : 165 .

[135] الطبقات الصغرى للشعرانى 75 ، 59 ، 60 .

[136] شذرات الذهب جـ 8 / 34 .

[137] انباء الغمر جـ 2 / 372 .

[138] المنهل الصافى جـ 5 / 279 .

[139] التبر المسبوك 53 .

[140] النجوم الزاهرة جـ 15 / 154 .

[141] انباء الغمر جـ 3 / 285 ، 295 .

[142] انباء الغمر جـ 3 / 285 ، 295

[143] الضوء اللامع جـ 2 / 262

[144]  الضوء اللامع جـ 2 / 148 .

[145]  النجوم الزاهرة جـ 16 / 211 .

[146]  حوادث الدهور جـ 2 / 192 .

[147] الضوء اللامع جـ 3 / 200 .

[148]  نزهة النفوس جـ 1 / 168 .

[149]  البحر المورود 156 .

كتاب ( التصوف والحياة الدينية فى مصر المملوكية
يقع فى ثلاثة أجزاء تتناول بعد التمهيد أثر التصوف فى العقائد الدينية والعبادات الدينية والحياة الأخلاقية فى مصر العصر المملوكى . تعطى مقدمة الكتاب لمحة عن أصل هذا الكتاب ، وأنه كان ضمن الأجزاء المحذوفة من رسالة الدكتوراة التى قدمها المؤلف للمناقشة حين كان مدرسا مساعدا فى قسم التاريخ الاسلامى بجامعة الأزهر عام ذ977 ، ورفضوها وبعد إضطهاد دام ثلاث سنوات تم الاتفاق على حذف ثلثى الرسالة ، ونوقش ثلثها فقط ، وحصل به الباحث على درجة الدكتوراة بمرتبة الشرق الأولى فى اكتوبر 1980 . من الأجزاء المحذوفة من الرسالة ينشر المؤلف هذا الكتاب بأجزائه الثلاثة ، يوضخ فيه أثر التصوف فى مصر المملوكية ويعرض فيه عقائد التصوف
more