رقم ( 12 )
ج 1 ب2 ف 3 ملامح تأليه الولى الصوفى فى العصر المملوكى

 الفصل الثالث :ملامح تأليه الولى الصوفى فى العصر المملوكى

  معنى الدعوة إلى الإعتقاد فى الولي الصوفي:

1-   المسلم يؤمن بالله ورسله . وشهادة الاسلام تعنى الإيمان بالله تعالى والكفر بما عداه من آلهة. والإيمان برسل الله عليهم السلام هو إيمان بالرسالات السماوية التى تنزل كلاما من رب العزة لهداية البشر، ينطق بها أنبياء الله جل وعلا ورسله المُختارون من بين هؤلاء البشر . ليس الايمان بشخص الرسول البشرى ، بل بالرسالة السماوية التى نزلت عليه ، يقول جل وعلا عن محمد خاتم المرسلين:( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ (2) محمد). ولأن الكتب السماوية مصدرها واحد وتؤكد كلها على أنه ( لا إله إلا الله ) مهما إختلفت ألسنة البشر: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ (25) الأنبياء )  فإن التعبير عن هذه الكتب يأتى أحيانا بلفظ ( كتاب ) : (وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ ) (15) الشورى) ، وواجب الايمان بها جميعا بلا تفرقة (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (136) النساء ) والايمان بالكتب السماوية يعنى عدم التفريق بين الرسل ، لأنه لا أشخاص هنا ولكن رسالة سماوية تدعو الى أنه لا إله إلا الله جل وعلا :( آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285)البقرة ).

2-   ليس فى شهادة الاسلام إيمان بمخلوقات  وإنما بالله جل وعلا وكتبه أى رسالاته ، أى إسلام القلب والوجه لله جل وعلا ، لذا فلا تفريق بين الرسل ولا تفريق بين الله جل وعلا ورسالاته : ( قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136)  البقرة )، والذى يرفض هذا ويؤمن ببشر يكون قد إبتغى غير الاسلام دينا:( قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84) وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ (85)آل عمران ).

3-   والصوفية  بشر كباقى البشر ، وهم يطلبون من بقية البشر الايمان بهم كآلهة مع الله تعالى عن ذلك علوا كبيرا . ويتردد عنهم فى العصر المملوكى تعبير "الاعتقاد " فيهم . ومعنى الاعتقاد في صوفي ما أن نعتقد في تصريفه في ملك الله وفي نفوذه الإلهى ، أي نعتقد إلوهيته وذلك يتناقض مع شهادة لا إله إلا الله التي تقصر الألوهية على الله وحده، وتنفي وجود الشريك والمساعد للولي المقدس، وتثبت أن لله جل وعلا ــ وحده ـــ تمام التحكم والسيطرة على ملكه.

4-   وقبل نزول القرآن كان الإيمان بالأولياء شائعا واجبا فى قريش والعرب ، ولا يتناقض مع الإيمان بالله جل وعلا ، بل كان المشركون لا يؤمنون إيماناً خالصاً بالله وحده ، أى فإما إيمان بالله والاولياء معه  وإما الكفر . وسيقول الله تعالى مخاطباً أولئك يوم القيامة ( ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا ) غافر 12) وكانوا يعبدون الأولياء لتقربهم لله تعالى زلفى، فقال جل وعلا لهم يدعوهم إلى إخلاص الدين له جل وعلا وحده : ( أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى) الزمر3 ) .

5-    ثم جاء دين التصوف فيما بعد داعياً بالإيمان بالولي والاعتقاد في نفعه وضره، بنفس ما كان عليه العرب في الجاهلية.

 ثانيا : نماذج من الدعوة الى الايمان بالولى الصوفى

   أ) يقول الغزالي في ترتيب درجات الاعتقاد أن الاعتقاد يزداد (بما يسري إليه من مشاهدة الصالحين ومجالستهم وسيماهم وسماعهم وهيئاتهم في الخضوع والخوف والاستكانة)[1].ويقصد بالصالحين الأولياء الصوفية ، فهو القائل (من لا يقدر أن يكون من أولياء الله فليكن محباً لأولياء الله مؤمناً بهم ، فعسى أن يحشر مع من أحبهم )[2]. أي أنه قسم الفائزين إلى أولياء ومؤمنين بهم يحشرون معهم.

   ب) وفي العصر المملوكي حيث أصبح التصوف الدين الفعلي للدولة ، صار الاعتقاد في الأولياء هو الشهادة الرسمية للدخول في الإسلام ، حيث أضحى الإسلام مجرد رسم وشكل مظهري تمارس من خلاله شعائر التصوف ومعتقداته المضادة للإسلام . فعندما أسلم أحمد بن هولاكو بعث برسالة رسمية إلى المنصور قلاوون يُقرُّ فيها بالاعتراف( بوحدانية الله ، والشهادة بمحمد عليه أفضل الصلوات والسلام، بصدق نبوته ، وحسن الاعتقاد في أوليائه الصالحين)[3]. ولم يعرف المسكين – الذي دخل الإسلام زوراً – أن الاعتقاد في الأولياء الصالحين بزعمه ينفي إخلاص الدين لله تعالى. ولكنها ثقافة  العصر الذي سوغت هذا التناقض ، وصار على ذلك الناس ، وأسلم ابن هولاكو على أيديهم.

   ج) وترتب على الإيمان بالأولياء الصوفية الإيمان ببركاتهم وتصريفهم ، حتى لم تخل تحية الإسلام (السلام عليكم ورحمة الله وبركاته) من عبث التصوف فأدخل فيها الأولياء مع الله، وسجل ذلك كتاب رسمي بعثه النجاشي للسلطان جقمق سنة 847 فقال فيه ( ورحمته وبركاته عليكم أجمعين ، وبركات الأولياء الصالحين)[4].

ثالثا : الدعوة الى الايمان بمؤهلات الولى الصوفى الالهية

1 - وحرص الصوفية على دعوة الناس للإيمان بمؤهلاتهم الوهمية من علم لدني غيبي وخلافه . والغزالي أشهر الدعاة بهذا الإفك ، وهو يدعو المسلمين الذين بقوا على إسلامهم إلى الإيمان بالعلم اللدني الذي يعطاه الأولياء من لدن الله  ليكون لهم مشاركة فى ذلك العلم اللدنى المزعوم ، يقول ( أدنى نصيب من العلم اللدني التصديق به والتسليم لأهله)[5]. ويقول إن من لم تنكشف له حقائق العلم اللدني ( فلا ينبغي أن ينكر ظواهرها بل أقل درجات الإيمان التصديق بها )[6]. وهو يقول ( اعلم أن من انكشف له شئ ولو الشئ اليسير بطريق الإلهام والوقوع في القلب من حيث لا يدري فقد صار عارفاً بصحة الطريق، ومن لم يدرك ذلك في نفسه قط فينبغي أن يؤمن به)[7] ، وقال عن معرفة العارف بالقدر أو الغيب (.. فمن عرف السبب في هذا الأمر معرفة صادرة عن نور الهداية فهو من خصوص العارفين المطلعين على سر القدر ، ومن سمع هذا فآمن  به وصدق بمجرد السماع فهو من عموم المؤمنين)[8].  أي المؤمنين بالصوفية وإمكاناتهم الإلهية. والمنكر طبعاً من الكافرين عند الغزالي .

2 ـ وفي نهاية العصر المملوكي حيث عمّ الجهل والتخلف كان الخواص – الصوفي الأمي – يقول عن كلام (أهل الحال) (تمجُه العقول من حيث أفكارهم ولا تقبله إلا بالإيمان فقط )[9]. أى التسليم والايمان بكل ما يقوله الأولياء الصوفية مهما بلغت سماجته وجهله وضحالته .

رابعا : الإيمان بالصوفى أم الكفر به ( الانكار عليه )

1 ـ  ودعوة الصوفية الناس للإيمان بهم قوبلت بتسليم البعض فأصبحوا معتقدين، وبإنكار من الآخرين أو كفرهم بهم وانتقادهم. وقد اهتم المتصوفة بمجابهة أولئك المنكرين على ولايتهم والرافضين التسليم بألوهيتهم ، كما لو أن الله تعالى خلق لهم البشر ليكونوا لهم عبيداً ، وكما كان حقا لهم أن   يكون الناس لهم عبادا من دون الله الخالق جل وعلا . ولا يكاد يخلو كتاب صوفي من الرد على المنكرين. وقد يقترن تقديس الولي في بداية الكتاب الصوفي بالحط على المنكرين كما يقول ابن عطاء في مقدمة التنوير والشعراني في مقدمة الطبقات الكبرى:( الحمد لله الذي خلع على أوليائه خلع أنعامه .. واختصهم بمحبته – إلى أن يقول : وسترهم عن أعين الفجار لأنهم عرائس ولا يرى العرائس المجرمون، فإذا مر عليهم من أولياء الله تعالى ينسبونه إلى الزندقة والجنون – فمنهم المنكر لكراماتهم – ومنهم المنتقص لمقاماتهم ، وفيهم الثالب لأعراضهم ، ومنهم المعترضون، يعترضون على أحوالهم ويخوضون بجهلهم في مقالهم وبهم يستهزئون.. فسبحان من قرب أقواماً واصطفاهم لخدمته فهم على بابه لا يبرحون..  وسبحان من أباحهم حضرة قربه، والمنكرون عليهم عنها مبعدون ، فالأولياء في جنة القرب متنعمون، والمنكرون في نار الطرد والبعد معذبون).. ويرى الشعراني أن ( من أشد الحجاب عن معرفة أولياء الله شهود المماثلة والمشاكلة )[10]. أي أن المنكر لألوهية الولى الصوفي يرى أن الصوفي بشر مثله وعلى شاكلته فيكون هذا مانعا من الايمان بألوهية ذلك الولى الصوفي ، ويكون ذلك حجابا يمنع الايمان بذلك الولى الصوفى ، وعلى ذلك ( فإذا مر عليهم ولي من أولياء الله ينسبونه إلى الزندقة والجنون).. ومع إيمان العصر المملوكي بالتصوف إلا أن بعض أفراد الصوفية لقوا إنكاراً من بعض معاصريهم فلم يؤمنوا بهم ولم يصدقوا بولايتهم، يقول الشاذلي (ولقد ابتلى الله هذه الطائفة الشريفة بالخلق ، خصوصاً أهل الجدال ، فقلّ أن تجد منهم أحداً شرح الله صدره للتصديق بولي معين ، بل يقول لك : نعم نعلم أن لله تعالى أولياء وأصفياء موجودين ولكن أين هم ، فلا تذكر لهم أحداً إلا أخذ يدفعه ويرد خصوصية الله تعالى له ويطلق اللسان بالاحتجاج على كونه غير ولي الله تعالى)[11].. أي أنهم آمنوا بالتصوف كمبدأ ولم يؤمنوا بأشخاص الصوفية المعاصرين لهم .

2 ــ  وقارن الشاذلي بين الكفر بالله والكفر بالولي الصوفي ، فجعل المنكر على الأولياء كالكافر بربه وجعل الإيمان بالولي كالإيمان بالله ، ويتطرف فيزعم إن الله جل وعلا جعل بعض البشر يسيئون لرب العزة ليكون هذا تعزية للولى الصوفى إذا أنكر عليه بعض البشر . يقول ( لما علم الله عز وجل ما سيقال في هذه الطائفة ( أى الصوفية ) بدأ سبحانه وتعالى بنفسه فقضى على قوم أعرض عنهم بالشقاء، فنسبوا إليه زوجة وولداً وفقراً .. فإذا ضاق ذرع الولي أو الصديق لأجل كلام قيل فيه من كفر وزندقة وسحر وجنون وغير ذلك نادته هواتف الحق في سره : الذي قيل فيك هو وصفك الأصلي لولا فضلي عليك ، أما ترى إخوتك من بني آدم كيف وقعوا في جنابي ونسبوا إليّ ما لا ينبغي لي..)[12] .                         

 إضافة أسماء وصفات إلهية للولي الصوفي:

1- يقول الغزالي (إن سالك الطريق إلى الله تعالى قبل أن يقطع الطريق) يعني أن الصوفي في بدايته (تصير الأسماء التسعة والتسعون أوصافاً له)[13]. أي يوصف بأسماء الله الحسنى . وأسماء الله تعالى الحسنى اختص بها نفسه فهي أسماء وصفات إلهية لا تطلق ـــــ في دين الإسلام ــــ إلا على الله تعالى . أما في عقيدة الاتحاد الصوفية فالصوفي فى بدايته يتمتع بأسماء وصفات إلهية يشارك فيها الله تعالى( قبل أن يقطع الطريق)، وبعدها يكون الاتحاد الكامل في اعتقادهم.

2- وصار عادة الصوفية أن تبدأ ترجمة الصوفي بذكر (أسمائه الحسنى) فيقال عن الشيخ أبى السعود أنه( القطب الغوث الفرد الجامع )[14]. ويقول ابن عطاء في مقدمة لطائف المنن ( أما بعد : فإني قصدت في هذا الكتاب أن أذكر فيه جملة فضائل سيدنا ومولانا الإمام قطب العارفين، علم المهتدين، حجة الصوفية، مرشد السالكين، منقذ الهالكين، الجامع من علم الأسماء والحروف والدوائر، المتكلم بنور بصيرته،الكامل في السرائر، كهف الموقنين ونخبة الواصلين، مظهر شموس المعارف بعد غروبها، ومبدي أسرار اللطائف بعد غروبها، الواصل إلى الله ، والموصل إليه، أبى العباس المرسي)..

3- أ ) والشعراني ترجم في طبقاته لأعلام الصحابة وجعلهم ضمن  الصوفية، إلا أنه اقتصر في وصفهم على الصفات الإنسانية الجميلة ، فيقول مثلاً عن أبي بكر ( اسمه عبد الله بن أبي قحافة .. ومناقبه أكثر من أن تحصى وكان يقول كذا .. ) [15]. ويقول في ترجمة عمر ( واتفقوا على أنه أول من سمى أمير المؤمنين وأجمعوا على كثرة علمه ووفور عقله وفهمه وزهده .. ) [16] .

   ب) بينما خلع على أشياخه الصوفية كل ما يحلو له من الصفات الإلهية ، خاصة إذا كانوا له معاصرين فيقول في ترجمة أبي الفضل الأحمدي ( .. ومنهم أخي وصاحبي سيدي الشيخ أبو الفضل الأحمدي رضي الله عنه صاحب الكشوفات الربانية والاتفاقات السماوية والمواهب اللدنية ، سمعت الهواتف ( أى الوحى ) تقول في الأسحار ما صحبت مثل الشيخ أبي الفضل ولا تصحب مثله . كان رحمة الله عليه من أكابر الأولياء ، وما رأيت أعرف منه بطريق الله عز وجل ولا بأحوال الدنيا والآخرة ، له نفوذ البصر في كل شئ  ، لو أخذ يتكلم في أفراد الوجود لضاقت الدفاتر ، صحبته رضي الله عنه نحو خمسة عشرة سنة . ووقع بيني وبينه اتحاد ) [17]. والاتحاد صفة إلاهية عندهم ، ويقول في ترجمة محمد الجاولي ( ومنه الشيخ الإمام الكامل الراسخ الأمين على الأسرار ، العارف بالله تعالى ، الوارث الرباني ، النوراني الفرقاني العياني ...إلخ ) [18].

   ج) وترجم الشعرانى لأشياخ الطرق السابقين. وهم وإن ماتوا إلا أن أتباعهم والاعتقاد فيهم يملأ عصر الشعراني ، فقال في ترجمة عبد الرحيم القنائي ( هو من أجلاء مشايخ مصر المشهورين وعظماء العارفين، صاحب الكرامات الخارقة والأنفاس الصادقة ، له المحل الأرفع من مراتب القرب والمنهل العزب من مناهل الوصل ، وهو أحد ممن جمع الله له بين علمي الشريعة والحقيقة ، وأتاه مفتاحاً من علم السر المصون وكنزاً من معرفة الكتاب والحكمة .. ) [19]. ويقول في ترجمة الدسوقي (.. كان صاحب كرامات ظاهرة ،ومقامات فاخرة ، ومآثر ظاهرة ، وبصائر باهرة ، وأحوال خارقة ، وأنفاس صادقة ، وهمم عالية ، ورتب سنية ، ومناظر بهية ، وإشارات نورانية ، ونفحات روحانية ، وأسرار ملكوتية ، ومحاضرات قدسية, له المعراج الأعلى في المعارف , والمنهاج الأسمى في الحقائق , والطور الأرفع في المعالي, والقدم الراسخ في أحوال النهايات , واليد البيضاء في علوم الموارد , والباع الطويل في التصريف الناقد , والكشف الخارق, والفتح المضاعف في معنى المشاهدات , وهو أحد من أظهره الله عز و جل إلى الوجود ، وأبرزه رحمة إلى الخلق وصرفه في العالم , ومكنه في أحكام الولاية , وقلب له الأعيان , وخرق له العادات , وانطقه بالمغيبات , واظهر على يديه العجائب )[20].

4 –أ) والملاحظ أن صفات الولي تتزايد بعد موته إذ تزايد أتباعه وشاع الاعتقاد في ولايته وألوهيته وكتبت المناقب في مآثره ومحامده.. فقد ألف البتنوني في شيخه شمس الحنفي كتاب (السر الصفي في مناقب الحنفي ), وكان المؤلف من أصحاب الحنفي وقد وصفه بأنه ( كنز الراغبين , عمدة الطالبين ، قرة عين العابدين ..كهف الفقراء والمساكين، ذو العطاء والجود ، عين الوجود، قطب دائرة الكون)[21].

وقد توفى الحنفي 874هـ " وجاء الشعراني فترجم له في القرن العاشر معتمداً على كتاب مناقبه،  إلا أنه أفاض في وصفه تبعاً لزيادة الاعتقاد في الحنفي في القرن العاشر، يقول في ترجمته ( كان رضي الله عنه من أجلاء مشايخ مصر وسادات العارفين، صاحب الكرامات الظاهرة والأفعال الفاخرة ،  والأحوال الخارقة ، والمقامات السنية ، والهمم العلية، صاحب الفتح المؤنق، والكشف المحترق ، والتصدر في مواطن القدس، والرقي في معارج المعارف، والتعالي في مراقي الحقائق ، كان له الباع الطويل في التصريف النافذ، واليد البيضاء في أحكام الولاية،  والقدم الراسخ في درجات النهاية، والطود السامي في الثبات والتمكين، وهو أحد من ملك أسراره، وقهر أحواله وغلب على أمره ...، وهو أحد من أظهره الله تعالى إلى الوجود، وصرفه في الكون ، ومكنه في الأحوال ، وأنطقه بالمغيبات ، وخرق له العوائد، وقلب له الأعيان ، وأظهر على يديه العجائب، وأجرى على لسانه الفوائد، ونصبه قدوة للطالبين ..)[22]. ونرى الشعرانى يكرر بعض ما قاله سابقا فى مناقب ابراهيم الدسوقى .

 ب) وقد وصف ابن عطاء شيخه الشاذلي بأنه ( علم المهتدين ، زين العارفين ، أستاذ الأكابر ، المنفرد في زمنه بالمعارف السنية والمفاخر، والعالم بالله والدال على الله ، زمزم الأسرار ، ومعدن الأنوار ،القطب ، الغوث، الجامع) [23]. وانتشرت الطريقة الشاذلية وفروعها ونشرت الاعتقاد في الشاذلي فتضخمت صفاته فقيل عنه في كتاب (المفاخر المآثر العلية والمآثر الشاذلية) في العصر العثماني ( السيد، الأجل الكبير ، القطب الرباني ، العارف، الوارث، المحقق بالعلم، الحمداني، صاحب الإشارات العليا، والحقائق القدسية ، والأنوار المحمدية، والأسرار الربانية ، والمنازلات العرشية، الحامل في زمانه لواء العارفين ، والمقيم فيه دولة علوم المحققين، كهف الواصلين، وجلاء قلوب الغافلين، منشئ معالم الطريقة ، ومظهر أسرارها ، ومبدئ علوم الحقيقة بعد خفاء أنوارها، ومظهر عوارف المعارف بعد خفائها، الدال على الله ، أوحد أهل زمانه علماً وحالاً ومعرفة ومقالاً، الشريف ، الحسيب النسيب ، ذو النسبتين الطاهرتين الروحية والجسمية،  والسلالتين الطيبتين الغيبية والشاهدية، والوارثتين الكريميتين الملكية والملكوتية، المحمدي العلوي الحسني، الكريم العنصرين، فحل الفحول ، أدام السالكين، ومعراج الوارثين الذي تغنيك سمعته عن مدح أو قول منتحل، الأستاذ، المربي ، الكامل أبو الحسن الشاذلي)[24].

 5- أ) وقبل العصر المملوكي وضع الصوفية مفاهيم للولي العارف نابعة من عقيدة الاتحاد .. فقيل عنه أنه (داخل معهم ، بائن منهم ) أو ( عبد كان فبان)[25]. أي كان معهم بشراً ثم انقطع عن بشريته بالاتحاد بالله . أو ( هو الذي لا يكدره شئ، ويصفو به كل شئ)[26] أو ( الذي لا تقله الأرض ولا تظله السماء)[27]وهو بالنسبة لله تعالى( لون الماء لون إنائه إن صببته في إناء أبيض خلته أبيض، وإن صببته في إناء أسود خلته أسود .. وولي الأحوال وليه)[28]. وقال الجنيد عن العارفين ( ذهبوا عن وصف الواصفين )[29]. فهي صفات إلهية..

ب) وورد في الإحياء  أن ( من شرب كأس الرياسة فقد خرج عن إخلاص العبودية )[30] . وإن بعضهم – لم يحدد الغزالي اسمه – قال ( إني أقول يا رب يا الله فأجد ذلك على قلبي أثقل من الجبال، لأن النداء يكون من وراء حجاب وهل رأيت جليساً ينادي جليسه )[31] . وذلك تصريح بالألوهية .

وتلك الصفات الإلهية التي خلعوها على الولي الصوفي جعلت بعضهم يترفع عن بعض مصطلحات الصوفية ويتطرف فى إدعاء الألوهية الكامل يفضل نفسه عن بقية الصوفية ، فورد في الإحياء أنه ( قيل لبعض العارفين : إنك محب فقال : لست محباً ، إنما أنا محبوب والمحب متعوب، وقيل له أيضاً : الناس يقولون أنك واحد من السبعة فقال : أنا كل السبعة ، وقال بعضهم يعني نفسه : ليس العجب ممن يرى الخضر ولكن العجب ممن يريد الخضر أن يراه فيحتجب عنه)[32]. والغزالي لم يعرفنا بأصحاب هذه الأقوال ، والمهم أنه يعبر بها عن رأيه في ألوهية الولي الصوفي ، بل أكد ذلك شعراً يقول [33]. ( قيل في وصف العارف ) : -

                   قريب الوجـد  ذو مرمى بـعيد           عن الأحرار منهم والعبـيد

                  غريب الوجـد ذو عـلم غريب              كأن فؤاده زبر الحديــد

                  لقد عـزت معـانيه وجلــت                عن الأبصار إلا للشهيــد

                  يرى الأعياد في الأوقات تجري             له في كل يوم ألف عيــد 

 وهى أوصاف فوق البشرية . وأعتقد أن الغزالي كان يتخفى وراء كلمات ( قيل لبعض العارفين) أو ( قيل في وصف العارف ) .

6- وتلك الصفات الإلهية للولي الصوفي – وقد جاءت في كتب صوفية معتدلة كاللمع والإحياء – من شأنها أن تؤثر عملياً في وصف أشياخ التصوف في العصر المملوكي ، وتظهر في مفاهيمهم عن الولي .. يقول الشاذلي ( لكل ولي ستر أو أستار نظير السبعين حجاباً التي وردت في حق الحق تعالى حيث أنه لم يعرف إلا من ورائها، فكذلك الولى )[34] .  وقال على وفا ( زيارة العارف ( الولى الصوفى )  تُذكّر بالحي الذي لا يموت )[35]. فقد زاوجوا بين صفات الله والولي الصوفي وأثبتوا المساواة بينهما ، حتى لقد قال المرسي ( لو كُشِف عن حقيقة الولي لعُبِد (أي عبده الناس) لأن أوصافه (أي الولي ) من أوصافه (أي الله) ونعوته من نعوته)[36]. والمرسي متأثر بشيخه الشاذلي الذي جعل من الولي اسم الله الأعظم[37].. ثم كان التصريح بألوهيته للولي في قول كاتب مناقب الوفائية ( الفاحشة لا تصدر إلا  ممن هو في الصور البشرية . وأما سادتنا رضي الله عنا بهم فهم مقدسون عن صفات الأبشار (جمع بشر) ولم يرهم في صورة البشر إلا من هو بشر )[38]. وقال ( الوجود وما حوى ملك لسيدي)[39]. ونتمعن معنى التأليه فى قوله ( رضى الله عنا بهم ) ، وهى عبارة تتكرر فى كتب المناقب .

 وكان شيخه على وفا يقول عن مريديه ( لم أجد إلى الآن مريداً صادقاً يتقرب إلى حقيقة حقه عندي بالنوافل حتى أحبه، ولو وجدته لوافيته بحقه فأحببته فكنت هو )[40]. ويقول (لسان حال كل أستاذنا ناطق بالحق المبين ، يقول لكل مريد صادق تقرب إلىّ حتى أحبك ، فإذا أحببتك رأيتك أهلاً لي، فظهرت فيك بما أنت مستعد له . فافهم. ) فلم يكتف بإدعاء الألوهية الكاملة بل ودعا المريدين إلى حبه وعبادته حتى يمن عليهم بالاتحاد بهم شأن تصويرهم لله في عقيدة الصوفية..

7 –ومعلوم أن الأسماء الحسنى حق لله وحده لا يشاركه فيها أحد من خلقه.. وأسماء الله الحسنى ، وصفاته الإلهية يتعبد المسلم بترديدها في تسبيحه لربه: ( وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ)الأعراف 180 ) ،  (قُلِ ادْعُواْ اللّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَـنَ أَيّاً مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى )الإسراء 110) . ذلك شأن المسلم الذي يرفض أن تطلق صفة مقدسة أو اسم من أسماء الله الحسنى على غير الله تعالى .

 وبعد .. فقد توسع الصوفية في إسناد الفعل بعد الاسم والوصف، أي أنهم بعد أن أطلقوا على أنفسهم الأسماء والصفات الإلهية قاموا بإسناد أساطير لأوليائهم ليشاركوا الله تعالى في ملكه وتصريفه في ملكوته.

تعالى الله جل وعلا عما يقولون علواً كبيراً .

 

 الولي الصوفي ــ فى زعمهم ــ  بين السماء والأرض :

يقول تعالى عن تمام سيطرته على الأرض والسماء ( وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاء إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ ) الزخرف84) . وجاء بصوفية ينافسون الله في ملكه في الأرض والسماء. يقول الغزالي ( جميع أقطار ملكوت السماوات والأرض ميدان العارف يتبوأ منه حيث يشاء، من غير حاجة إلى أن يتحرك إليها بجسمه وشخصه، فهو من مطالعة جمال الملكوت في جنة عرضها السماوات والأرض ، وكل عارف له مثلها من غير أن يضيق بعضهم على بعض أصلاً ، إلا أنهم يتفاوتون في سعة منتزهاتهم بقدر تفاوتهم في اتساع نظرهم وسعة معارفهم .. ولا يدخل في الحصر تفاوت درجاتهم )[41]. الغزالى هنا ينتحل للولى العارف الصوفى بعض ما قاله رب العزة عن ذاته جل وعلا :( قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (88) المؤمنون )( فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83) يس) (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِوَالأَرْضَ وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255) البقرة  )( تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) المُلك ). المشكلة أن أولياء الصوفية ( العارفين ) كثيرون بالآلاف ، فكيف يتسع لهم الكون ليتصرفوا فيه ؟ ويأتى الغزالى بالحل السحرى ، وهو (وكل عارف له مثلها من غير أن يضيق بعضهم على بعض أصلاً ، إلا أنهم يتفاوتون في سعة منتزهاتهم بقدر تفاوتهم في اتساع نظرهم وسعة معارفهم .. ولا يدخل في الحصر تفاوت درجاتهم . )

 2- وذلك التفاوت  الذي أشار إليه الغزالي كان مبعث التنافس والتزايد بين صوفية العصر المملوكي ، كل منهم يسابق الآخر في إعلاء درجته في الأرض والسماء وما بينهما ..

 أ) الفرغل هو فلاح صوفي أمّى جاهل لا يحفظ القرآن الكريم من قرية أبى تيج فى الصعيد ، ومع ذلك إشتهر بالولاية ، وكتب بعضهم كتابا فى مناقبه ، نقل فيه عنه مزاعمه الخرافية ، ومنها أنه ( يعرف أزقة السماء كما تعرف أم حسن الدلالة أزقة أبي تيج)[42]. ( وأن السماء لم تحوه والأرض لم تطوه) [43]. ولا يزال هذا الفرغل يتمتع بالتقديس حتى الآن ، وينتشر بين المصريين إسم ( فرغلى ) نسبة اليه وتبركا به .!! ومعرفة ( أزقة السماء) ادعاها ابن عنان [44]. والنخال[45].

  ب) ويقول الدسوقي أن الدنيا صارت في قبضة يده وهو ابن ست سنين (واكتشفت على شجرة المنتهى وأنا ابن إحدى عشر سنة ، وجلست على الكرسي وأنا  ابن اثني عشر سنة[46] . لذا قال عنه المناوي ( إن قدمه لم تسعه الأرض .. وإن الدنيا جعلت في يده كالخاتم وأنه جاوز سدرة المنتهى ، وجالت نفسه في الملكوت)[47].

ج) وقيل عن الرفاعي : ( عروس الحضرة ، نائم والدنيا في رجله كفردة خلخال)[48]. ومعروف أن الخلخال حلية تلبسها النساء وليس الرجال.!!. وقال عنه الشعراني (كان قطب الأقطاب في الأرض، ثم انتقل إلى قطبية السماوات، ثم صارت السماوات السبع في رجله كالخلخال)[49].

 د) وتوحي بعض الروايات أن الشاذلي ( وإسمه الأصلى : على بن عبد الجبار )  كان في السماء ثم أهبطه الله ( تعالى عن ذلك علوا كبيرا ) إلى الأرض: ( قال الشاذلي : قيل لي : يا على اهبط إلى الناس ينتفعون بك فقلت : يا رب أقلني من الناس فلا طاقة لي بمخالطتهم فقيل لي : أنزل فقد أصحبناك السلامة ورفعنا عنك الملامة..)[50]. وحين ذهب المرسي للقاء الشاذلي (بعد أن هبط إلى الأرض طبقاً لتلك الأسطورة) ، أخبره الشاذلي ثم قال له : ( رُفعت إلىّ منذ عشرة أعوام)[51].

3-وكان بإمكان الولي الصوفي – بزعمهم – أن يطير بين السماء والأرض ربما لأتفه الأسباب ، فالمرسي طار في الهواء ليستوثق من أن خادمه يقول له كذباً أنه سقى له حصانه[52] .

وعرف في الكرامات الصوفية( الفقراء الطيارون) أو رواد الفضاء بالمصطلح الحديث، فقيل مثلاً أن الشيخ البسطامي أولم وليمة فاخرة للفقراء الطيارين، وجاءوا بالليل وتساقطوا من الهواء عليها والتهموها[53]. وكان الأولياء الفقراء الطيارون يطيرون إلى بغداد للقاء عبد القادر الجيلي[54]. وبعضهم كان ينقذ الأولياء الآخرين عند الحاجة كما حدث للشيخ حسن الطراوي الذي فقد ماء الوضوء فنزل عليه أحدهم من السماء( وفي عنقه قربة ماء مملوءة من بحر النيل)[55]. وهى كرامات مضحكة تنم عن جهل خارق .

4-وطمح الصوفية لمزاحمة الرحمن تعالى في عرشه، يقول الشعراني ( الأولياء تطمح أبصارهم حتى تحيط بالعرش) [56]. وأبو العباس المرسى الذي كان يطير في الهواء- وصل في تطوافه إلى العرش، يقول( جلت في ملكوت الله فرأيت أبا مدين متعلقاً بساق العرش، وهو رجل أشقر أزرق العينين)[57]. وأعلن المرسى أنه يعرف العرش أتم معرفة فيقول يحلف بالله جل وعلا كذبا ( والله أني لأعرف العرش كما أعرف كفي هذه)[58]. وحين أقسم بعض المنافقين كذبا بالله جل وعلا وصفهم رب العزة بأنهم يهلكون أنفسهم ــ لمجرد أنهم أقسموا كذبا فى موضوع التخلف عن الجهاد: (لَوْ كَانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قَاصِداً لاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمْ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوْ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (42)  ) التوبة ) ، فكيف بمن يقسم كذبا فى حق من حقوق الرحمن وفى معرفته بعرش الرحمن ؟

وأطلق المرسى على تلميذه ياقوت الحبشي لقب(العرشي) نسبة للعرش فاشتهر بهذا اللقب فقيل فيه (سماه المرسى بالعرشي لأن قلبه دائماً كان ينظر إلى العرش، وليس في الأرض إلا بدنه)[59].  وعرف الصوفية التزايد في الادعاءات حول العرش، فقد أعلن عبد القادر النقاد للشاذلي أنه رأى مقامه عند العرش، فقال الشاذلي – كأنه استقل ذلك – (هذه الطينة أرضية، والنفس سماوية، والقلب عرشي، والروح كرسي، والسر مع الله بلا أين، والأمر يتنزل فيما بين ذلك، ويتلوه الشاهد منه )[60]. فلم يدع الله مجالاً معه في عرش أو كرسي .

وكان الخضري- وهو صوفي مجهول(ت907 ) يقول ( لا يكمل الرجل عندنا حتى يكون مقامه تحت قوائم العرش دائماً، وتكون الأرض كلها بين يديه كالإناء الذي يأكل منه, وأجساد الخلق كالبلور يرى ما في بواطنها )[61].وما دام ذلك الخضري قد زعم احتلال قوائم العرش فبإمكانه حينئذ أن يدعى التحكم في الأرض وسكانها.

 وأراح الدسوقي نفسه من عناء المنافسة فأعلن ( أنا العرش أنا الكرسي أنا اللوح أنا القلم ) [62].ويقول الدسوقي إن الله تعالى قال عنه (يا أولياء الله أشهدكم بالله إن من زاره فقد زارني فإنه من نوري..) [63]..

   5-هذا .. والعرش الذي جعله الصوفية مجالاً لأهوائهم , هو عرش الرحمن الموصوف  بالعظمة والكرم شأن صاحبه تعالى  (اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْش الْعَظِيمِ ) .النمل26 )

( وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ) التوبة129 ) ، ( فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ ...المؤمنون 116) ووصف تعالى نفسه بأنه صاحب العرش (رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ)غافر15)، و رب العرش جل وعلا يتنزه عما يصفه به المشركون : ( فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ )  الأنبياء22).

   الولي الصوفي لا يأكل ولا ينام ولا يختلط بالبشر ، وكلامه مقدس كأنه قرآن :

 1- الأكل والشرب والنوم ضروريات بشرية.. وليس من صفات الخالق تعالى أن يأكل ( قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ.. الأنعام 14). وليس له أن ينام (..لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ.. البقرة 255), وزاد الصوفية على ذلك العزلة عن البشر واجتنابهم طالما يطمحون للسمو فوق البشرية إلى الأُلوهية..

وقد جعل الغزالي من صفات الولي : السهر والجوع والصمت والخلوة ليشابه الله أو على حد قوله ( ليسمع نداء الحق ويشاهد جلال الحضرة الربوبية )[64].ويقول عن قلة النوم (إذا كان النوم بقدر الضرورة يكون سبب المكاشفة بالأسرار ) يقصد العلم الإلهي اللدني. وعن الجوع يقول (مقصود المريد إصلاح قلبه ليشاهد ربه ويصلح لقربه .. أما الجوع فإنه ينقص دم القلب ويبيضه وفي بياضه نوره، ويذيب شحم الفؤاد وفى ذوبانه رقته، ورقته مفتاح المكاشفة)، ويقول عن الخلوة ( فائدتها دفع الشواغل وضبط السمع والبصر .. ففي مثل هذه الحالة يسمع نداء الحق ويشاهد جلال الحضرة الربوبية)  وفي العصر المملوكي طبقت تعاليم الغزالي فيما يخص الاعتقاد فيمن يدعي العزلة وعدم الأكل والشرب  مدة طويلة أو يشتهر عنه ذلك ، فقيل مثلاً في ترجمة أبي على حسين الصوفي 891 أنه ( مكث بخلوة في غيط خارج باب البحر أربعين سنة لا يأكل ولا يشرب  وباب الخلوة مسدود ليس له إلا طاقة يدخل منها الهواء، ثم خرج بعدها وأظهر الكرامات والخوارق )[68]. أي أنه بعد أن تخلص من (الحجاب) البشري (الكثيف) خرج للبشر إلاها بمؤهلات إلاهية وخوراق وتصريف في ملك الله تعالى ..

 2- وصار تقليداً صوفياً أن يدعى الشيخ أو يشتهر عنه أنه امتنع عن الأكل والشرب أو النوم أو هما معاً مدة طويلة من الزمن قد تصل إلى أشهر وسنوات تبعاً لكمية الكذب التي تفيض بها الأسطورة .. فمعلوم أن طاقة البشر في الامتناع عن ضرورات الأكل والشرب والنوم محدودة بزمن معين،ومعلوم – أيضاً – أن الصوفية بشر يسري عليهم ما يسري على البشر من خضوع لقوانين الله تعالى في خلقه. وبهذا فإننا نحكم على تلك الروايات – قبل سردها - بأنها كاذبة لمناقضتها لقوانين البشر وتحملهم . وقد قيل عن ابن خفيف أنه ( ظل أربعين يوماً بلا طعام ولا شراب)[69] . و(ابن خفيف)  هذا أمره (خفيف) فقد كان في بداية التصوف ولا يتحمل عصره أكذوبة أكثر من هذه .وبمرور الزمن وانتشار التصوف وازدياد نفوذه ازدادت الأكاذيب وإزدادت بها مدة الجوع فقيل عن ابن عمر التباعي ( ت702 ) أنه ( كان يمكث الأشهر لا يأكل ولا يشرب . وفي السنة التي توفى فيها أقام سبعة أشهر ما ذاق فيها طعاماً)[70]. وواضح أن هذه الأسطورة سبكها سدنة ضريحه بعد موته حتى يتضخم تأليهه ويتكاثر زوار ضريحه . وجاء القرن التاسع فعد من كرامات ابن عرب الصوفي ( ت 830) أنه ( أقام أكثر من عشرين سنة لا يشرب الماء أصلاً)[71]. .

   4- وعن النوم قيل في الإحياء أن الحريري ( مكث سنة بلا نوم ولا كلام)[72]. وأن ابن عياش مكث أربعين عاماً (لا يضع جنبه على فراش)[73]. أما في العصر المملوكي فقد تفاوتت الأرقام تفاوتاً عجيباً .. فيقال عن على ِالكازروني 960 أنه (ربما مكث الخمسة شهور أو أكثر لا يضع جنبه الأرض لا ليلاً ولا نهاراً)[74]. وقد سأل الشعراني شيخه الخواص عن قوله تعالى (لا تأخذه سنة ولا نوم ) هل خلع الله  هذه الصفة على أحد من عباده المقربين فأجاب ( نعم عيسى بن نجم الذي مكث سبعة عشر عاماً لم يغمض له جفن في ليل أو نهار )[75]. وقيل عن سلمان الحانوتي ( مكث نحو سبعة وثلاثين سنة لا يضع جنبه الأرض كما أخبر بذلك ..)[76]. وطبعاً أخبر بذلك فصدقوه .وابن المؤذن ( مكث أربعين سنة لا يضع جنبه على الأرض بالليل)[77]. وطبعا لا يضع جنبه الأرض بالنهار أيضاً .. أما علي العياشي فقد ( مكث نحو نيف وسبعين سنة لا يضع جنبه الأرض إلا من مرض شديد)[78]. وذلك المرض الشديد استثناء لطيف حتى نصدق أن إنساناً يظل أكثر من سبعين عاماً بلا نوم .ويمكن أن تقول أن الشيخ خلف من أصحاب البدو حطم كل تلك الأرقام القياسية فقد كان (لا يضع جنبه الأرض ليلاً ولا نهاراً طيلة حياته)[79] .

5 ــ وبعضهم جمع بين الجوع والسهر والعطش أو اثنين منها فقد قيل لأبي يزيد البسطامي ( حدثنا عن مشاهدتك من الله تعالى ، فصاح ، ثم قال : ويلكم .! لا يصح لكم أن تعلموا ذلك،) لا بد أن يصيح فيرتعبوا منه ويستعدون لتصديق أكاذيبه .! ( .. قيل فحدثنا بأشد مجاهدتك لنفسك فقال : وهذا أيضاً لا يجوز أن أطلعكم عليه ، قيل فحدثنا عن رياضة نفسك في بدايتك ، فقال : نعم، دعوت نفسي إلى الله فجمحت عليّ فعزمت عليها ألا أشرب الماء سنة ولا أذوق النوم سنة فوفت لي بذلك [80]. ) فالبسطامي في بدايته ترك الماء والنوم سنة ، فكيف به بعد أن وصل..؟؟

وقال اليافعي عن أحد أصحابه ( وله إلى تاريخ تأليف هذا الكتاب خمسة عشرة سنة لم يضع جنبه الأرض، ويمكث أياماً عديدة لا يأكل فيها شيئاً)[81].. وذكر في مناقب البدوي أنه كان يطوي أربعين يوماً لا يتناول طعاماً ولا شراباً وفي أكثر أوقاته يكون شاخصاً ببصره إلى السماء[82]. وعيسى بن نجم البرلسي قال المرصفي عنه أنه مكث سبعة عشر سنة ( لا يأكل ولا يشرب ولا ينام ، وهو على وضوء واحد)[83]. أي لا يتغوط ولا يتبول .. فماذا بقى للبشرية فيه ؟؟

  تقديس كلام الولي الصوفيكأنه قرآن  

عومل كلامه معاملة القرآن .. يقول الشعراني عن شيخه الخواص ، وكان أُمّيّا لا يقرأ ولا يكتب ولا يحفظ القرآن الكريم : ( لا يمكنني استحضار جميع ما سمعته منه من العلوم والمعارف لكثرة نسياني وضعف جناني، فمن سمع من إخواننا شيئاً من أجوبة الشيخ فليكتبه بلفظ الشيخ خاصة ،ولا يتصرف في عبارته فإنه لا مرقى إلى فهم كلامه إلا من السلم الذي صعد منه الشيخ ، وأنّى لأمثالنا ذلك ، وأسأل الله أن يحفظ لساني وقلبي عن الزيغ عن مراده)[84]. ويقول ( فإذا علمت أن الجواب لا يدرك إلا ذوقاً  ذكرت جوابه بلفظه ، من غير شرح لمعناه،  نظير الحروف أول سور القرآن )[85]. ويقول حسن شمة عن رموز الدسوقي في رسائله (ويمكن أن تكون سريانية وكل حرف منها يدل على أسماء على نمط فواتح السور )[86].  

 

 

 

  إسناد علم الغيب الالهى للولي الصوفي:

 أولا :

1 ــ علم الغيب ملك لله وحده ، استأثر به دون خلقه ، إلا أن بعض الأنبياء قد يعطى علم بعض الغيبيات تأييداً له من الله تعالى وإظهارا لبعض المعجزات. يقول سبحانه وتعالى للمؤمنين : ( وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاءُ ) آل عمران 179 ).. والآية ــ أو المعجزة ـــ لا يملكها الرسول ، ولا تأتي منه بدافع ذاتي ، وإنما هي أمر إلهي يظهره الله عليه لإثبات صدق تبليغه عن ربه، لذا فإن الرسول من جانبه لا يدعي علم الغيب إذا لم يعطه رب العزة العلم ببعض الغيب ، يقول نوح عليه السلام( وَلاَ أَعْلَمُ الْغَيْبَ )هود 31 ) ، ويقول محمد عليه السلام ( وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ )الأنعام 50)، ( وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ ) الأعراف 188 ). ولو كان محمد عليه السلام يعلم الغيب – مثلاً – لما أصيب في أُحد، ولما استشار أصحابه ، ولما وقع فيما استوجب عتابه في القرآن الكريم.  

2 ـ والله جل وعلا هو الذى يُخبر بالغيبيات ، وقد جاء فى القرآن الكريم بعضها فيما يخص الماضى والمستقبل ، ولكن أمرالله جل وعلا خاتم النبيين عليهم السلام أن يعلن أنه لا يعلم بعض الغيب الذي علمه بعض الرسل قبله ( قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً{25} عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً{26} إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ)  الجن). وإبراهيم عليه السلام بسبب جهله بالغيب  لم يتعرف على الرسل الملائكة الذين أتوا متجسدين فى صورة بشر ، وظنهم بشراً فقدم لهم الطعام (وَلَقَدْ جَاءتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُـشْرَى قَالُواْ سَلاَماً قَالَ سَلاَمٌ فَمَا لَبِثَ أَن جَاء بِعِجْلٍ حَنِيذٍ {69}  فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُواْ لاَ تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ{70} هود 69 ، 70 ). ونفس الحال مع لوط عليه السلام، ظنهم بشرا رجالا فخشى أن يتعرض لهم قومه المشهورون بالشذوذ الجنسى (وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ (77) وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِي فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (78) هود ).

3 ـ وحديث القرآن الكريم عن الغيب الالهى المسند لله جل وعلا يأتي بأسلوب القصر- وهو الأسلوب المتبع في الصفات الالاهية التي تخص الله وحده ، كالألوهية مثل (لا إله إلا الله ) ومستلزماتها من علم الغيب وتصرف في الملكوت. يقول تعالى ( قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ.) النمل 65 ). (وَلِلّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ )هود 123 ، النحل 77).( إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ  (20) يونس ).( لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ) الكهف 26 ). ولتعلق الغيب بالله تعالى وحده كان المؤمن مطالباً بالإيمان به تبعاً لإيمانه بالله تعالى، يقول تعالى (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ ) البقرة 3 ).

   4- وقد ندد القرآن الكريم بإسناد علم الغيب للأولياء والآلهة المعبودة عند المشركين،  حتى أن بعض آيات إسناد الغيب لله تعالى وحده جاءت في معرض هذا التنديد الموجه للمشركين ، يقول تعالى ( قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ ) النمل 65 ). فالجاهلون أسندوا علم الغيب للأولياء فأخبر الله تعالى بأنه لا يعلم أحد غيره الغيب ، وأن هذه الأولياء الموتى لا تعرف حتى ميعاد بعثها من القبور. ويقول سبحانه وتعالى ( لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً ) الكهف 26 ), وهو تعريض بالمشركين الذين اعتقدوا في أوليائهم التصريف ومشاركة الله جل وعلا فى حكمه وعلمه جل وعلا  الغيب. ومثل ذلك قوله تعالى ( وَلِلّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ ) هود122 ) وقوله تعالى (وَاللّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ{19} وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ{20} أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْيَاء وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ{21 .. النحل)..

ثانيا :

1 ـ ثم جاء الصوفية  ــــ شأن المشركين السابقين ــ يسندون لأنفسهم علم الغيب مع بداية التصوف ، يقول الجنيد عن الولي الصوفي أنه ( من نطق عن سرك وأنت ساكت)[87]. أي يعلم سريرتك وما تخفيه الصدور. وعلم الغيب متصل بعقيدة الاتحاد الصوفية ، فالحجاب إذا زال عن قلب الصوفي واتحد بالله – في زعمهم – علم غيب الله وأدرك السر الإلهي.يقول الغزالي ( القلب قد يتصور أن يحصل فيه حقيقة العالم وصورته، تارة من الحواس وتارة من اللوح المحفوظ ، فمهما ارتفع الحجاب بينه وبين اللوح المحفوظ رأى الأشياء فيه وتفجر إليه العلم منه فاستغنى عن الاقتباس من داخل الحواس ، فإذا للقلب بابان.. باب مفتوح إلى عالم الملكوت وهو اللوح المحفوظ وعالم الملائكة، وباب مفتوح إلى الحواس الخمسة المتمسكة بعالم الملك والشهادة ، وعالم الشهادة والملك أيضاً يحاكي عالم الملكوت نوعاً من المحاكاة، فأما انفتاح باب القلب إلى الاقتباس من الحواس فلا يخفى عليك ، وإما انفتاح بابه الداخل  إلى عالم الملكوت ومطالعة اللوح المحفوظ فتعلمه علماً يقيناً بالتأمل من عجائب الرؤيا واطلاع القلب في النوم على ما سيكون المستقبل أو كان في الماضي من غير اقتباس من جهة الحواس، وإنما ينفتح ذلك الباب  لمن انفرد بذكر الله تعالى )[88]. ويقصد بهم الصوفية ، فهو القائل (إن البحث عن الأسرار الإلهية لم يستقل بها إلا الأنبياء والأولياء)[89]. وعن الحسنات والسيئات والعفو والتقوى يقول الغزالي ( وهذا كله قد انكشف لأرباب القلوب انكشافاً أوضح من المشاهدة بالبصر)[90] . وأسند الغزالي علم الغيب لأولياء الصوفية كالخراز والشبلي وغيرهما[91] . وكما أمر الله جل وعلا المؤمنين بالإيمان بالغيب طالب الغزالي الناس بالإيمان بغيب الأولياء وعلمهم اللدني كما سبق في مبحث الإيمان بالأولياء . ونقل اليافعي عن الغزالي وغيرهم علم أشياخ الصوفية الأوائل بالغيب بل وأسنده إلى صوفية مجهولين [92].

2 ـ وفي العصر المملوكي – حيث ازدهار التصوف – أصبح  علم الغيب أو الكشف – سمة لازمة للصوفي ، ويوصف بها الولي بحكم العادة. يقول الشعراني ببساطة (من كُشف حجابه من العارفين علم أحوال أهل الجنة علما لا شك فيه، لخروجه عن حجاب بشريته )[93] . أي أنه يعترف بأن الصوفي خرج عن بشريته – أي أصبح إلهاً – وعرف الغيب الذي لا يعرفه البشر العاديون .وقد كان بعض الصوفية يتحرج من إدعاء الغيب الذي أورده الله تعالى في سورة لقمان :( إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ) لقمان 34) على أساس أنها من خصائص الحق تعالى ، وقد حاول الشعراني خرق هذه القاعدة الصوفية المعتدلة بحجة أن النبي عليه السلام ربما أعطي علمها .وهذا كذب فالنبى لا يعلم الغيب . يقول الشعراني ( وقيل أن النبي أعطي علمها وأًمر بكتمها فإن صح ذلك جاز أن يكون لورثته من بعده ) [94]. ولم يقل لنا الشعرانى من قال هذا ، أى إنه هو القائل، والورثة هم الصوفية طبعاً ، ويستمر الشعرانى فى إفتراءاته :( وزعم بعض العارفين أن في الآية اضماراً للاستثناء فيطلع من اختصه)[95]. وعلى ذلك عرف الشاذلي أنه سيموت في حميثرا واستعد لذلك[96].

3 ــ  ومن دواعي ادعاء الكشف عند الصوفية ذلك الإنكار عليهم الذي لازمهم ، فالصوفي  يحس أو ينتظر بادرة الإنكار عليه التي قد تظهر على وجه المنكر أو تشي بها حركاته فيسارع الصوفي بإخبار المنكر بما دار في عقله ، فيقتنع صاحبنا بأن الصوفية على حق في معرفتهم الغيب وينسى حقائق القرآن الكريم. وتردد ذلك كثيراً في الأقاصيص الصوفية ، واتخذ منه الصوفية تكأة للادعاء بالاطلاع على مكنون الصدور والتحذير من الإنكار القلبي عليهم منذ بداية التصوف ، فيقول أحمد ابن الحواري ت230 ( احذر أيها المريد أن تجالس أحداً من الفقراء جواسيس القلوب، وربما دخلوا قلبك وخرجوا، فعرفوا ما فيه وأنت لا تعلم )[97]. وقد اتخذ العصر المملوكي من هذه الشهرة الصوفية بمعرفة السرائر حجة أخرى تضاف إلى رصيدهم في التعالي على الفقهاء السنيين ، وفي نفس الوقت يتحاشون بها الإنكار عليهم ، يقول الخواص الصوفي الأمي (عليكم بحفظ لسانكم مع علماء الشريعة، وعليكم بحفظ قلوبكم مع الأولياء)[98]. ويقول أفضل الدين الشعراني الأخ الأكبر لعبد الوهاب الشعرانى : (عليكم بحفظ لسانكم مع أهل الشرع فإنهم بوابون لحضرة الأسماء والصفات، وعليكم بحفظ قلوبكم من الإنكار على أحد من الأولياء فإنهم بوابون لحضرة الذات، وإياكم الانتقاد على عقائد الأولياء)[99]. أي أن العلماء مجالهم الظاهر أما الأولياء فهم أرباب القلوب ولا مجال للإنكار على عقائدهم..

4 ــ  وتسابق الأولياء الصوفية في دعوى مختلف الغيوب ، فأفضل الدين الشعراني السالف الذكر كان يقول( بواطن هذه الخلائق كالبللور الصافي أرى ما في بواطنهم كما أرى ما في ظواهرهم )[100].  أي أنه ينظر من مرتبته الإلهية إلى (بواطن هذه الخلائق) وهى (كالبللور الصافي) لا تخفى عليه، ومثله محمد الخضري وإن زاد عليه في نظرته للأرض جميعاً والخلائق معها يقول (الأرض بين يديّ كالإناء الذي آكل منه وأجساد الخلق كالقوارير أرى ما في بواطنهم )[101].   وإذا كان بعضهم قد تحرج من إدعاء الغيب الذي ورد في سورة لقمان فإن ( على وفا ) خرق هذه القاعدة وادعى أن الله كان يطلعه على ما في الأرحام أو على حسب تعبيره ( ما من نطفة توضع في رحم بيد ملك مخلقة أو غير مخلقة إلا وقد أطلعني الله عليها)[102]. ويلاحظ أنه استخدم أسلوب القصر المستخدم في قصر الغيب على الله تعالى في الآيات القرآنية، ثم أفاد العموم بتنكير (نطفة) و(رحم) فكل نطفة توضع في كل رحم (سواء كان بشراً أو حيواناً) لابد أن يطلع الشيخ على وفا عليها .. !!  . ويقول المتبولي( لا تنزل قطرة من السماء ولا يطلع نبت من الأرض إلا علمت به، وعزة ربى هذا أمر أعطيته وأنا طفل)[103].فهنا تجديد قال به المتبولي في دعواه، وهو معرفته الشاملة بكل قطرة مطر وكل نبتة شجر.. وإن ذلك العلم الإلهي قد حظي به مذ كان طفلاً يتبول على نفسه.. !!.  وقد تفوق على المتبولي صوفي آخر من الفقراء الطيارين (رواد الفضاء) يقول (أعطاني الله أنه لا يسقط حيوان من بطن أمه من جن أو إنس ووحش وطير وغيرها، ولا تخرج ورقة من نبات الأرض إلا ويعلمني بذلك قبل ظهوره .. وعزة ربى قد أعطاني الله هذا وأنا دون البلوغ )[104].وإذا كان ذلك دون البلوغ فكيف به وقد خط شاربه؟؟ وكيف وصل تحكمه وعلمه في ملك الله بعد أن بلغ من الكبر عتيا؟؟

 وسبق المرسي الجميع حين ارتفع فوق الأولياء يقول (والله الذي لا إله إلا هو ما من ولى لله كان أو هو كائن إلا وقد أطلعني الله عليه ..)[105].

  5- وكانت المبالغة الطابع السائد في وصف ولاية الصوفي بعد موته، وحينئذ ينال من العلم بالغيوب أعلى الدرجات. فقيل عن أبي السعود بن أبي العشائر( حدّث بإيضاح أحوال الملكوت، وأسماء الملك، وأحوال الآخرة، وتفاوت المنازل والدرجات، وأوزان الرجال، ومراتبهم من آدم عليه السلام إلى يوم القيامة، يذكر له الرجل في المغرب أو في مطلع الشمس فيذكر صورته ووزنه، وما من شيء طرق الأسماع خبره ولا من الغيوب إلا والشيخ أبو السعود يوضح كيف اطلع، وإنه في كل صباح يطلع على أرواح الخلائق، وأنه له نوبة كاسات تضرب له في الأرض وفى كل سماء وعلى العرش )[106].   فماذا بقى لله تعالى في الأرض والسماء والعرش والخلق وعلم الغيب !! ؟؟. .وواضح أن الصوفية السابقين يزاحمون الله تعالى في وصفه لذاته بقوله جل وعلا : ( وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ) الأنعام 59) .( اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ (8) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِي (9) سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ (10) الرعد )( يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنْ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2) سبأ ).

  6- بيد أن المبالغة في تضخيم مقدرة الولي على معرفة الغيب أوقعت الصوفية أحياناً فيما يستوجب السخرية ، ونقصد سخرية القارئ اليوم لا في العصر المملوكي حيث كان يُنظر بالتقديس إلى الولي الصوفي ومبالغاته مهما تضخمت ، فقيل مثلاً أن الفرغل كان يخبر بالمغيبات ويقول (والله لولا لسان الشريعة لأخبرتكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم )[107]. فالفرغل يحتج بحجة الشريعة حتى لا يثبت عليه الجهل بالغيب حين يخبر الناس بما يأكلون وما يدخرون فيحكموا على كذبه وادعائه .ثم أين الشريعة واحترامه لها حين يدعي لنفسه علم الغيب؟ ثم أين هو من الشريعة وقد كان جاهلاً لا يقرأ القرآن [108].

 وذكر في مناقب البدوي أن هلال مئذنته ينبئ بالأخبار فنقل عن الشعراني أنه قال (ومما رأيته أني كنت جالساً على سطح المقام (مقام البدوي) وقت الزوال فرأيت هلال قبة سيدي أحمد البدوي رضي الله عنه يدور يزعق كالحجر العظيم من حجارة المعصرة الذي ليس تحته حب , فدار نحو ثلاث دورات, ثم جاء الخبر بنصرة السلطان سليمان بن سليم من آل عثمان على أهل رودس في ذلك الوقت , وكذلك ما سمعنا تابوته يفرقع ويزعق إلا ويحدث في المملكة أمر  ) [109].أي أن الصوفية توسعوا في إسناد علم الغيب فجعلوا قطع الحديد والحجر تنبئ بالغيب طالما أقيمت على رفات ولي صوفي. ويقول الشعراني في ترجمة أحمد الزاهد أنه رأى اسمه في أهل النار , وبعد ثلاثين سنة حول اسمه في السعداء [110]..فكيف يكون ولياً يعلم الغيب وهو من أهل النار ؟

 وحفلت ترجمة الشعراني للمجاذيب بطرائف من علمهم الغيبي , ومن ذلك أن أحدهم أعطى التمييز بين الأشقياء والسعداء في هذه الدار [111].أو(أن الله أطلع شعبان المجذوب على ما يقع في كل سنة من رؤية هلالها, فكان إذا رأى الهلال عرف جميع ما فيه مكتوبا ًعلى العباد. وكان إذا طلع على موت البهائم يلبس صبيحة تلك الليلة جلد البهائم ،أو تسخير الجمال لجهة السلطنة يلبس الشال الليف فيقع الأمر كما نوه به)[112].ومعنى ذلك أن عصر الشعراني كان يتحسس علم المستقبل من ملاحظة المجاذيب المعتقدين بأعمالهم البالية وخرقهم الممزقة ..!!

7 ـــ ووصل ادعاؤهم إلى الإطلاع على ما فى  ( اللوح المحفوظ).. يقول الشعراني: ( نهاية كشف الولي أن يطلع على ما كتب في اللوح المحفوظ)[113]. وزعم ذلك كثير من الأولياء، فعبد الرحيم القنائي( نظر في اللوح المحفوظ)[114]. وكان شمس الدين الحنفي يقول لمن يسأله ( لو سألتني شيئاً لم يكن عندي أجبتك من اللوح المحفوظ)[115].وكان إسماعيل الإمبابى(يخبر أنه يرى اللوح المحفوظ، ويقول يقع كذا وكذا لفلان)[116]. ويقول الشعراني عن شيخه الخواص(كان محل كشفه اللوح المحفوظ عن المحو والإثبات، فكان إذا قال قولاً لابد أن يقع على الصفة التي قال . وكنت أرسل له الناس يشاورونه عن أحوالهم فما كان قط يحوجهم إلى كلام ، بل كان يخبر الشخص بواقعته التي أتى لأجلها قبل أن يتكلم )[117]. وفي طبقات الشرنوبي أن عبد القادر الجيلاني اطلع على اللوح المحفوظ ومثله في ذلك الرفاعي ، وفيها الزعم بأن الدسوقي قال عن نفسه ( وتكلمت بما في اللوح المحفوظ وأنا ابن شهر..) (وقرأت جميع ما في اللوح المحفوظ وأنا ابن خمس سنين)[118]. فكيف يكون (اللوح المحفوظ) محفوظاً إذا اطلع عليه أطفال الصوفية ..؟؟ وما وجه تسميته بالمحفوظ ووصفه بالحفظ إذا كان مباحاً لكل صوفي أو لطفل يتبول على نفسه؟!!

 

  الرد على زعم الصوفية ( الكرامات ) أو التصرف في ملك الله تعالى    

1-  الرسول – كل رسول – مطالب بمعجزة دالة على صدقه، ويُعطى الرسول معجزة  من لدن الله تعالى تشهد بصدق الرسول في إخباره عن ربه .ومع ذلك فالرسول – كل رسول – يؤكد  أنه بشر لا يملك لنفسه – فضلاً عن غيره – نفعاً ولا ضراً إلا ما شاء الله . وهذه مقالة كل إنسان. بل أن توقيت ظهور المعجزة على يد الرسول خارج عن إرادة الرسول . فكل ذلك مرجعه لله تعالى (وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الله ) الرعد 38 )(غافر 78 ).. ( قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ يَمُنُّ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَن نَّأْتِيَكُم بِسُلْطَانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ ) إبراهيم 11 ).  ذلك أن لله تمام التحكم  في مخلوقاته (مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا ) هود 56 ) فكل دابة من الجراثيم حتى الإنسان لا تخرج بأي حال من الأحوال عن سلطان الله ولا يد لها في الحتميات الخاصة بالميلاد والموت والرزق والمصائب. فالله تعالى لم يخلق الكون ثم يتركه، ، يقول تعالى (أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ ) الأعراف 54) وهنا أسلوب قصر بتقديم الجار والمجرور على المبتدأ ، ويعني أن عمليتي الخلق والتحكم في المخلوقات قصر على الله تعالى وحده لا يشركه في ذلك أحد غيره : ( مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً ) الكهف 26). أي لا شريك له تعالى في حكمه وفي ملكه .غاية ما هناك أن الله جل وعلا ترك للإنسان حرية الايمان والكفر والطاعة والمعصية. وحتى فى مجال هذه الحرية فإن الله جل وعلا يجعل الانسان مسئولا يوم القيامة على هذه الحرية ، لذا يسجل على كل إنسان ما يقول وما يفعل وما فى قلبه من إيمان أوكفر ومن خطرات ووساوس ليحاسبه يوم القيامة: (وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الآزِفَةِ إِذْ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ (18) يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ (19) وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (20) غافر ) . إنه جل وعلا الرقيب على كل شىء (وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً (52) الاحزاب ) ، وهو جل وعلا الشهيد على كل شىء:( إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (55) الاحزاب ) وهو جل وعلا القيوم القائم على كل نفس بما كسبت، برغم خرافات المشركين الذين جعلوا لله جل وعلا شركاء فى مُلكه ، يقول رب العزة ردا عليهم: ( أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي الأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنْ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنْ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33) الرعد) .

2-  وقد زعم الصوفية الكرامات أو التصريف في ملك الله ، وثار الجدل حول الكرامات فيما بعد القرن الثالث بين منكر ومؤيد ، حتى إذا أهلٍّ عصر الغزالي تقررت الكرامات ضمن التسليم بدين التصوف والايمان بأوليائه . وإنحصر الخلاف حول من يستحق الوصف بالكرامة لا في مبدأ الكرامة ذاتها . ومهما يكن من أمر فإنه قلّ أن تقرأ لمنكري الكرامة رأياً في أن دعاوى الكرامات أمر جديد في تاريخ المسلمين لم يعرف يقيناً في عصر الخلفاء الراشدين والأمويين والعصر العباسى الأول ، ولم تذكرها المؤلفات الأولى السابقة فى العصر العباسى الأول فى كتب السيرة وكتب التاريخ المعتمدة كطبقات ابن سعد وتاريخ الطبرى والمسعودى . بدأ الحديث عنها خجولا فى العصر العباسى الثانى عندما بدأ دين التصوف فى الانتشار . ومن المضحك أن رواد التصوف الذين أصبحوا مقدسين فى العصر المملوكى تعرضوا الى الاضطهاد فى العصر العباسى الثانى الذى وصل الى قتل الحجاج والسهرورى الاشراقى ، ولم تغن عنهم كراماتهم المزعومة شيئاً .

3 - والأهم من ذلك كله أن الآية الحسية أو المعجزة [119] الحسية قد انطوت صفحتها ببعثة النبي عليه السلام خاتماً للأنبياء ورسولاً عالمياً للبشر في كل زمان ومكان منذ عهده إلى أن تقوم الساعة، ومنطقي أن تكون معجزته على قدر مسئوليته. الأنبياء السابقون    كانوا محليين في زمن معين ومكان معين وقوم بعينهم، فكانت معجزاتهم حسية مُشاهدة ملموسة مادية مرئية ينتهي أثرها بانتهاء الرسول المرسل إليهم. وجاء خاتم النبيين رسولاً عالمياً ، فكان القرآن الآية أو المعجزة الوحيدة التى معه ، وهى معجزة عقلية علمية يتحدى بها الله البشر في كل زمان ومكان إلى قيام الساعة.

4 ـ وحاولت قريش جهدها أن تطلب آية حسية من الرسول فرفض الله تعالى . ويأتى الرد من رب العزة بأن يقول لهم إنه مجرد منذر: (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ (7)الرعد ) وأن من يشاء الهداية والإنابة يهده الله جل وعلا بلا معجزة حسية ، ومن يشأ الضلال يضله الله جل وعلا ، أى هى مشيئة البشر بلا حاجة لمعجزة :( وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ (27) الرعد ).  وكانت أسباب الرفض :

4 / 1 : الاكتفاء بالقرآن : ( وَقَالُوا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِندَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ{50} أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ{51 } إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ العنكبوت). كانوا يكرهون القرآن ، بل ويطلبون قرآنا آخر يسير على هواهم ، وطلبوا ذلك فعلا ونزلت الرد فى قوله جل وعلا : (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (16)  يونس ). أى إن كراهيتهم للقرآن دفعتهم الى طلب آية حسية على سبيل العناد .

ويأتى الرد عليهم فى رفض طلبهم الآية الحسية بالإشارة الى آية القرآن ومعجزته الخالد . يقول جل وعلا عن طلبهم الآية الحسية : (وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (37) ثم تأنى الآية التالية تشير الى حقيقة علمية فى القرآن الكريم : ( وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38) ) الانعام ) أو تشير الى أن القرآن الكريم جاء بالبينة عما كان فى الرسالات السماوية السابقة : ( وَقَالُوا لَوْلا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الأُولَى (133) طه ) وأن أهل العلم من الذين أوتوا الكتاب آمنوا بالقرآن حين سمعوه : ( وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنْ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنْ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) ) المائدة ) (أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ (197) الشعراء ) وأن أولئك العلماء كانوا يسجدون عند سماع القرآن : ( قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً (108) وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً (109)  الاسراء )

 4 / 2 : لقد اتهموه عليه السلام بأنه شاعر وإنه إفترى القرآن من عنده ، وأن القرآن أضغاث أحلام وطلبوا آية حسية كما كان يحدث فى عهد الأمم السابقة فقال جل وعلا يرد عليهم بأن الآيات السابقة لم تفلح فى هداية الأمم السابقة ، ولن تهدى الكافرين المعاندين فى عصر خاتم النبيين: ( بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ بَلْ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الأَوَّلُونَ (5) مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (6) الأنبياء ). وأقسموا بالله جل وعلا جهد أيمانهم انهم لو جاءءتهم آية فسيؤمنون، فأكد جل وعلا إنه لو أنزل آية فلن تجعلهم يؤمنون ( وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ (109) وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110) وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمْ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمْ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111) الانعام ) ، وأنه جل وعلا لو أصعدهم الى السماء فلن يؤمنوا وسيقولون إنه سحر أبصارهم : (وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً مِنْ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15) الحجر ). ولو أنزل الله جل وعلا من السماء كتابا ماديا حسيا لمسوه بأيديهم فلن يؤمنوا ، سيقولون إنه سحر : ( وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (7) الانعام ) .

4 / 3 : وقد كانت الآية الحسية أو المعجزة الحسية فيما مضى نذير إبادة القوم المنكرين فإما أن يؤمنوا بعدها وإما أن يهلكوا بالصاعقة أو الصيحة وغيرها . وجاء محمد عليه السلام  رسولاً عالمياً فأصبح الإهلاك التام للمنكرين أمراً غير وارد ، فأضيف سبب آخر لرفض المعجزة الحسية، يقول تعالى معللاً منع إرسال الآيات الحسية (وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُواْ بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً )الإسراء 59)..ومن هذا إنهم طلبوا أن يروا الملائكة . والبشر لا يرون الملائكة إلا عند الموت وعند قيام الساعة . وفى الحالتين فإن الكفار لن يروا الملائكة إلا عند إنقضاء الأمر والحكم عليهم بالخسران ، يقول جل وعلا : ( وَقَالُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَقُضِيَ الأَمْرُ ثُمَّ لا يُنظَرُونَ (8) الانعام  )( وَقَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدْ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوّاً كَبِيراً (21) يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً (22)) الفرقان ).

5 ـ وتنوعت الآيات الحسية التى يطلبونها ونزل الرفض الالهى : (وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنْ الأَرْضِ يَنْبُوعاً (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيراً (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَقْرَؤُه قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلاَّ بَشَراً رَسُولاً (93) الاسراء )(وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ لَوْلا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً (7) أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (8) انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (9) تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً (10) بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً (11) الفرقان ).

6 ـ : وكان عليه السلام يحزن بسبب إلحاح المشركين عليه طالبين آية حسية ، وعدم إستجابة ربه تعالى لإنزال آية حسية، بل قال له جل وعلا : ( قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ{33} وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ وَلَقدْ جَاءكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ{34} الانعام ) ثم قال له جل وعلا تأنبيا له إنه إذا إستعظم عليه إعراضهم وإلحاههم فى طلب آية حسية فليتصرف هو من نفسه يصعد الى السماء أو يتخذ نفقا فى الأرض، وحذره رب العزة أن يكون من الجاهلين : ( وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّمَاء فَتَأْتِيَهُم بِآيَةٍ ؟ وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ{35} الأنعام )..

7 ـ إن خاتم النبيين ـــ عليه وعليهم السلام ــ كان صاحب دعوة وهب حياته لها ، وكافح وناضل وأوذى وهاجر وجاهد وحارب فى سبيلها . وفى كل ذلك كان يتصرف بجهده البشرى ومعه أصحابه ، وكان يتعرض للهزيمة وللمكائد والمؤامرات ، ولم تكن لديه كرامات ومعجزات حسية يستعين بها فى كل معاناته . كان معه القرآن فقط ، ينزل عليه يخبره أحيانا ببعض مكائد أصحابه من المنافقين ، ويحكم رب العزة أحيانا بكفر بعضهم وما فى سرائرهم دون فرض عقوبة دنيوية عليهم إكتفاءا بما ينتظرهم من عذاب الآخرة إذا ماتوا بلا توبة صادقة. كان عليه السلام كان أحوج الى معجزة حين حوصر فى غزة الأحزاب ، وحين هُزم فى ( أُحُد ) ولكنه كان يتصرف بجهده البشرى ، وقد أمر الله جل وعلا أن يُعد المؤمنون كل ما يستطيعون من قوة مادية وبشرية للدفاع ضد المعتدين (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمْ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (60) ) الأنفال ) ولو كانت لديه إمكانات المعجزة الحسية ما إحتاج الى كل هذا العناء . هذا شأن الرسول صاحب الرسالة، وصاحب الآية الدالة على صدق نبوته . فما هو هدف من يزعم آيات ( الكرامات )؟ أهو صاحب رسالة بعد خاتم الرسل ؟ والجواب أنه ليس صاحب رسالة، وإنما هو مدعٍ للإلوهية ، فلابد أن يدعي مستلزمات الألوهية ومنها التحكم في ملك الله – تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً - ثم يسمى ذلك كرامة..

من مزاعم الكرامات الصوفية بالتصريف فى مُلك الله جل وعلا

  1- أشارت ألقاب كثيرة للصوفية إلى تصريفهم في ملك الله تعالى عن ذلك علوا كبيرا . وفي (طبقات الشاذلية) تتكرر عبارة ( أقامه الله في الكون، فتصرف في الوجود) في ترجمة الأولياء الشاذلية، ومن ذلك ما قيل في ترجمة النخال (تصرف في مخلوقات الله فقضى وعزل وولى ونصب وحكم[120]. ) وأن أبا العباس الخضري : ( كان في زمنه غوثاً متصرفاً في جميع الموجودات )[121]. وقال صاحب المفاخر العلية عن الجيلاني ( ولّى وعزل ، وهدى وخذل، وأحيا وقتل، وأمرض وأشفى، ومنع وأعطى، ووصل وقطع، حمى ودفع وسلب وحجب وأعطى المحب ما طلب)[122].

2 ــ وهذه مبالغة تكرم ابن عياد الشاذلي مؤلف المفاخر العلية في منحها للجيلاني وكان عصر ابن عياد يجيز هذه المبالغات في وصف تصريف الأولياء.. تبعا لازدياد نفوذ التصوف المضطرد ، ويجدر بالذكر أن الشطنوفي في القرن الثامن قال إن عبد القادر الجيلي قال لأصحابه( إني قد عهدت إليكم: أني قد سُلَّمت إلى العراق، والآن وقد سلمت إليَّ الأرض شرقها وغربها وقفرها وعمرانها وبرها وبحرها وسهلها وجبلها)[123]. وهو أقل مبالغة من وصف ابن عياد الشاذلي .

3 ــ وقال إبن عياد هذا عن شيخه الشاذلي أنه( ظهر بالخلافة الكبرى، والولاية الكثرى، والقطبية العظمى،  والغوثية الفردى، وخصه الله بعلوم الأسماء، ومنَّ عليه بأعلى مقامات الأولياء، وأخص خصوصيات الأصفياء، وانفرد في زمنه بالمقام الأكبر، والمدد الأكثر، والعطاء الأنفع، والنوال الأوسع، وتصرف في أحكام الأولياء ومددها بالإذن والتمكين، وانفرد بسؤددها حق اليقين، وأمد الأولياء أجمعين، وأمَّ بالصديقين، ونال مقام الفردانية الذي لا تجوز فيه المشاركة بين اثنين، وأجمع على ذلك من عاصره من العلماء العارفين والأولياء المقربين[124]. ) أي أن الشاذلي كان متصرفاً على الأولياء أو إلهاً يتحكم في آلهة أقل شأناً منه.. !!   وقال(أبو العزائم ماضي) أن الشاذلي قال :(حقيقة الشيخ مع أصحابه أن تكون يده عليهم تحفظهم حيثما كانوا غائبين أو حاضرين) ويقول(ماضي) أنه اعترض على الشاذلي في نفسه فحدثت له حادثة أذهبت اعتراضه وعرف صدق مقالة الشيخ[125].. هذه لمحات عن الطريقة الشاذلية الموصوفة بالاعتدال !!..

 4 ـــــ وقد ورد في روض الرياحين قصة اثنين من الأولياء( كان لهما مقام التولية والعزلة) في الحكام والملوك، يقول اليافعي (وقد بلغني أنهما سمعا خطاباً من قِبل الحق عز وجل وهو يقول لهما: إذا أردتما أن تفعلا شيئاً فافعلا ولا تسألاني، فإني أكره أن أرى ذل السؤال في وجوهكما )[126].أي أنهما يتصرفان بتفويض كامل من الله حرصاً على ألا يجرح إحساسهما , وأن الله – تعالى عن ذلك علواً كبيراً – أراح نفسه من مشاكل العالم وتركه لهما يتصرفان فيه بدون الرجوع إليه , ونحن بين موقفين إما أن نصدق اليافعي والصوفية في تصرف الأولياء في ملك الله ، وإما أن نصدق الله تعالى الذي ( َلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً ) ولا توسط بين الموقفين.. ( وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ سبأ24..).

   5- ووصل ادعاؤهم إلى التصريف في الملائكة لأنهم وقد ادعوا الألوهية ، فقد شاركوا الله تعالى في التحكم في ملائكته بزعمهم .. ويزعمون أن الشاذلي كان تحت إمرته ألوف الملائكة، فيحكي أبو العزائم ماضي أنه خرج في طريق موحش فتكفل بحراسته ثمانون ألفاً من الملائكة يحفظونه من أمر الله حتى وصل إلى الإسكندرية وكل ذلك ببركة الشاذلي[127].. وبعض الملائكة كانت تهبط على الشاذلي في هيئة طيور أربعة (نزلوا من السماء وساروا على رأسه صفاً ثم جاء إليه كل واحد منهم وحدثه ، ورأيت معهم طيور على قدر الخطاطيف، وهم يحفون به من الأرض إلى عنان السماء ، ويطوفون حوله ، ثم غابوا عنه ثم رجع إلىّ وقال : هل رأيت شيئاً ،قلت : نعم قال : أما الطيور الأربعة فهم من ملائكة السماء الرابعة أتوا ليسألوني عن علم فجاوبتهم عليه وأما الطيور الصغار فهم أرواح الأولياء أتوا إلينا ليتبركوا بنا )[128].

 وادعى بعضهم أن الملائكة تتشفع به فحكى أنه نزل يوماً في حلقة الشيخ عبد الرحيم القنائي (شبح من الجو لا يدري الحاضرون ما هو فأطرق الشيخ ساعة ثم أرتفع الشيخ إلى  السماء، فسألوه عنه فقال : هذا ملك وقع في هفوة فسقط علينا يستشفع بنا ، فقبل الله شفاعتنا فيه فارتفع )[129].وبعضهم كان عنيفاً مع الملائكة – بزعمه – فقد (هاجت الريح ) والزواوي المجذوب (ت835) في مركب ( فأشرفت على الغرق فقام وأمسك بالملك الموكل بالريح فسكن الريح وتحول )[130]..وطرد الشربيني ملك الموت حين أراد قبض (روح ابنه )[131]. وكان الشربيني (من أرباب الأحوال العظيمة ). وقد مرض شيخه مدين مرة ( أشرف فيها على الموت فوهبه من عمره عشرة سنين ثم مات في غيبة الشومي رضي الله عنه , فجاء وهو على المغتسل , فقال : كيف مت وعزة ربي لو كنت حاضرك ما خليتك تموت ) أي تحكم الشومي في ملك الموت وفى ميعاد الموت ، مع أن ذلك محدد بأجل لا يتقدم ولا يتأخر (فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ .. الأعراف آية 34:النحل 61 )،( إِذَا جَاء أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ) يونس49 ).( وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (11) المنافقون )

6- وقد جعل سبحانه وتعالى صيغة التصريف عنده لفظ ( كن) أي أنه تعالى يقول للشيء (كن) فسرعان (ما يكون ).  وهذه الكلمة لا يقولها قادراً على تجسيدها واقعاً حياً – إلا الله تعالى ،  لذا كان أسلوب القرآن الكريم في التعبير عنها أسلوب قصر بإنما (إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) النحل 40 ).(سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) مريم 35).(إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) يس 82)   ، ( إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ )غافر 68) فمنه الأمر وقول كن لا يشركه فيها أحدٍ ، لأنه ـــ جل وعلا ــ لا يشرك في حكمه أحداً .

 وعزّ على الصوفية أن يتركوا لله تعالى لفظة ( كن فيكون) فنافسوه فيها أيضاً ، فكان الولي يدعي أنه أعطى حرف (كن) كالجيلي [132]. بل تكرم الخواص فشمل البشر كلهم بعنايته فقال (إن لكل إنسان في باطنه قوة " كن")[133]. ومعنى ذلك أن لا فرق حقيقي بين الخلق والله الحق، وهو تعبير أصيل عن عقيدتي الاتحاد ووحدة الوجود. وقد وضعوا لذلك حديثهم الكاذب "عبدي أطعني تكن عبداً ربانياً تقول للشئ كن فيكون" . وارتبط لفظ (كن) بادعاء الصوفية خرق العادة (يكون للولي خرق العادة حين يعطى حرف كن)[134]. وهو  ما يعبر عنه حيناً (بقلب الأعيان)، ومن ذلك أن البدوي – على زعمهم – قلب الشعير قمحاً [135]. . و( قلب الأعيان ) تعبير صوفى عن كرامات التصريف فى الكائنات والمخلوقات .

 

زعم الصوفية أنهم يخلقون البشر ويُميتونهم ويحيونهم ويرزقونهم    

 بل قد يصل قلب الأعيان إلى خلق البشر فكان (محمد الشربيني يقول للعصا التي كانت معه كوني إنساناً فتكون إنساناً ويرسلها تقضي الحوائج ثم تعود كما كانت)[136].

   7- وترتيباً على ذلك كان بمقدرة الولي - بزعمهم  - أن يحي ويميت : وإحياء الميت أصعب من إماتة الحي . لذا كان اهتمام الصوفية بإحياء الموتى من البشر والحيوانات . يقول الشطنوفي أن منصور البطائحي أحيا رجلاً افترسه الأسد[137]. ومثله مفرج الدماميني الشاذلي الذي أحيا (قتيلاً لأسد ، وأنِّب الأسد ، وسلخه)[138]، وأحيا على وفا غريقاً كانت أمه تنتحب عند شاطئ الإسكندرية[139]. وقال الشعراني أن المتبولي نادى والد أحد المريدين فخرج الرجل من القبر ينفض التراب عن رأسه حين ناداه الشيخ[140].. وحدث أن مات جمل يركبه مريد ل (علي وفا) ، فأحيا (على وفا ) الجمل إلى أن حج عليه المريد ورجع عليه إلى مصر . يقول المريد وهو راوٍ لتلك الحكاية ( فمن وصوله – أي الجمل – إلى باب النصر وقع ميتاً فعلمت أن محيي الموتى أبقاه للخدمة )[141]. فجعل المريد من شيخه على وفا ( محيي الموتى) ..

 وفي رحلة البدوي للعراق تعرض له الأكراد في الطريق فقال لهم أخوه الحسن ( يا قوم ألزموا الأدب، فنحن من أهل الحسب وأعلى النسب، من قبل أن يقع عليكم الغضب  ويحل بكم العطب وتسكنوا التراب . ثم أومأ إليهم بيده وقال لهم : موتوا بإذن الله تعالى . فوقعوا على أديم الأرض كالقتلى ، قال ثم ألتفت إلىّ وقال يا أحمد هذا فعل الرجال بالرجال . قال فقلت يا أخي الفتوة الفتوة . فقال لي يا أحمد أنت أبو الفتيان ، ثم قال لهم قوموا بإذن من يحيي الموتى ويميت الأحياء قال : فقام الجميع، وقبلوا أقدامنا )[142].

   وفي أسطورة البدوي مع فاطمة بنت برّي عمل لها البدوي راعياً للجِمال، ولما رأته الإبل جاءت اليه ، يقول البدوى فى هذه الأسطورة : (جاءت إلىّ وكرفت رائحتي وقبلت أقدامي وحنت حنيناً وسكبت دموعاً غزاراً فأشرت إليها سيري إلى المرعى فسارت)( فكانت الجمال تنتشر ترعى في الليل وتأتي  بالنهار، وكان عدتها سبعة آلاف جمل.. وفي اليوم السابع قلت في خاطري : اقضي أربي من فاطمة بنت برّي، فالتفت إليّ الجمال وقلت لها موتي بإذن من يحيي الموتى ويميت الأحياء، فمات الجميع )[143]. ولا شك أنها قسوة من البدوي أن يميت سبعة آلاف جمل من معتقديه وأحبابه لكي يقضي أربه من فاطمة بنت برّي .. !!.

والله جل وعلا يرد مقدما على مزاعم الصوفية فى ( الخلق ) يقول جل وعلا : ( قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِوَالأَرْضِ قُلْ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لا يَمْلِكُونَ لأَنفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرّاً قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلْ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (16) الرعد ). هنا إستخدام للحُجّة العقلية : فالله جل وعلا وحده هو خالق السماوات والأرض . ولا يستطيع بشر أن يزعم أنه خالق السماوات والأرض . والله جل وعلا وحده هو خالق البشر ، ولا يستطيع أحد من البشر أن يزعم أنه الذى خلق البشر . وهذه الأولياء الصوفية وغيرهم من الأولياء المعبودة فى الأديان الأرضية هى مخلوقات لا تملك لنفسها ــ فضلا عن غيرها ــ نفعا ولا ضرا . والسؤال العقلى هنا : هل خلقت هذه الأولياء بشرا مثل البشر الذين خلقهم الله جل وعلا بحيث تشابه نوعا الخلق علينا ؟ أم أن الله جل وعلا وحده هو خالق كل شىء وهو الواحد القهار . أسئلة لا يملك العاقل إلا أن يجيب عليها بأن يقول : ( اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ  ).!!

8- والرزق بيد الله تعالى وحده ، وقد تكفل به لجميع الأحياء(وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللّهِ رِزْقُهَا) هود6). حتى لو كانت الدابة لا تستطيع السعي لرزقها فإن الله يرسله لها في مكانها أو ييسر لها الأسباب :( وَكَأَيِّن مِن دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ ) العنكبوت 60 ).

وكان الجاهليون يؤمنون بأن الرزق من عند الله وحده ، واتخذ القرآن الكريم من تسليمهم  بهذا حجة عليهم في رفض الآلهة التي يعبدونها ( قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ ؟ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ؟ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ ؟وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ؟ فَسَيَقُولُونَ اللّهُ فَقُلْ : أَفَلاَ تَتَّقُونَ.) يونس 31 ). إلا أن الصوفية ـــ فى تطرفهم فى الكفر ـــ جعلوا من أنفسهم شركاء لله في تدبير الرزق وتوزيعه على البشر ، فكان الشاذلي يقول (أن الولي إذا أراد أغنى) أى جعل فلانا غنيا بنفسه وبماله. بل ويقسم الشاذلى بالله جل وعلا  كذبا فيقول : ( والله ما بيني وبين الرجل إلا أن أنظر إليه نظرة وقد أغنيته)[144]. ولفظ (الغنى) هنا عام يشمل الجانبين المادي والمعنوي. وهما جميعاً في يد الولي حسب اعتقادهم..

  وفي بداية العصر المملوكي كانوا يعتقدون أن للولي الصوفي دخلاً في تقسيم الرزق فأشيع أن بعض الصيادين في البرلس أساء الأدب على الصوفي إبراهيم البرلسي 719 فقال له الشيخ (لا تظلم تنكسر في معاملتك فقال : عندي من السمك ما يوفي عني  والبحيرة مليئة بالسمك، فأصبح ليصطاد فلم يجد في البركة شيئاً فخضع للشيخ وذُل فعاد السمك)[145]. وهذه الرواية ذكرها الفقيه السنى ابن حجر العسقلانى ، ولم يكن صوفيا ، وإن خضع لمقتضيات عصره المتأثر بالتصوف . وأسندوا لبعضهم تقسيم الرزق بين الحيوانات والطيور في زمن القحط مثل أبي يعزى المغربي[146].. 

 وفي نهاية العصر المملوكي واشتداد تيار التصوف كان شرط المريد ( أن يرى جميع ما هو فيه من الخير ببركة شيخه، لأن كل مريد محبوس في دائرة شيخه لا يمكن أن يتجاوزها ، فلا يُمدّ بمدد إلا وشيخه واسطة له فيه)[147]. ( وإذا علم الشيخ من مريده أنه صار يرى جميع ما بيده إنما وصل إليه ببركة أستاذه وأنه هو وعياله إنما يأكلون من مال ذلك الأستاذ فلا حرج حينئذٍ في الأكل من طعام ذلك المريد)[148]. وكلمة ( المدد ) التى تشكل معلما هاما فى الثقافة الصوفية حتى الآن جاءت من إيمانهم بقدرة الولى الصوفى على أن ( يُمٍدّ ) المريد بالرزق والعطايا .

   وفي عصر الشعراني هذا – كان الناس جميعاً بين شيخ صوفي أو مريدين له، فالحديث عن المريدين يشمل كل المصريين المعتقدين في أشياخهم، بل يشمل الأمراء المملوكيين، وقد جعل الشعراني من أدب الأمير المملوكي مع شيخه ( أن يرى أن جميع النعم التي ترد عليه من بركة شيخه ولا يرى نفسه قد استغنى عن نعمه)[149]. والشعراني مع تظاهره بالتواضع وإخفاء ولايته إلا أنه لم يحرم نفسه من دعوى تصريفه في الرزق ، يقول عن بعض خصومه ( ربيت أنا جماعة فكانوا في أرغد عيشة، فتحركت نفوسهم لمحبة الدنيا فنقص رزقهم عما كان وكفروا بواسطتي لهم في الرزق ، فقلت لهم :إن الله تعالى كما جعل مفاتيح رزقكم بيدي كذلك ربما يجعل المنع بيدي عقوبة لكم..)[150].

 وإذا كان هذا شأن الشعراني الفقيه المتعلم والصوفي المعتدل فكيف بالآخرين ؟ لا نقول لهم إلا مقالة إبراهيم عليه السلام لقومه ( إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) العنكبوت17)

 زعم الصوفية أنهم يملكون الغفران ويتحكمون فى الجنة والنار .!!    

 9ـ و ( غفران الذنوب) أسمج ما ادعاه الصوفية ..

 يقول تاج الدين النخال ( من جاء لي عامداً متعمداً لا ينوي في نهاره إلا زيارتي غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر)[151].  وفي أحد المجالس قال عبد الظاهر الأخميمي لمن حوله ( إن الله قد غفر لكم أجمعين)[152]. وقد وضع الصوفية قواعد الغفران ، أهمها أن يعترف المخطئ بخطئه للشيخ لكي يغفر له أو يتوسط له عند الله ليغفر له بما يحظى به الشيخ – بزعمهم – عند الله من مكانة ، وكان الاعتراف بالذنب أمام الشيخ من أهم طقوس أخذ العهد الصوفي وقد اعترض على ذلك ابن الحاج وقال (إن في هذا تشبهاً بالقسيسين)[153].

   وفي عصر الشعراني ازداد الاعتقاد في قدرة الصوفية على غفران الذنوب تبعاً لاعتقاد العصر في ألوهيتهم . وتردد في القصص الصوفية مبادرة المريد لقوله : التوبة عند أي خطأ في القول أو القلب .. وفي كتب الشعراني اعترافات كثيرة حتى أنه عدّ من المنن كثرة رفقه ورحمته لمن شكا إليه كثرة محبته للمعاصي وغلبة وقوعه فيها [154]

   وقد جعل الشعراني من أهم آداب الذكر ( أن يظهر المريد جميع ما بقلبه من حسن أو قبح لشيخه حتى يصل إلى درجات الصديقية – وإن لم يظهر ذلك كان خائناً  وحرم الفتح)[155]. وكان ذلك عاماً لكل المريدين شمل كل الأمراء أيضاً إذا شاء سوء طالعهم أن يعتقدوا شيخاً صوفياً ، يقول الشعراني (من أدب الأمير  مع شيخه ألا يكتمه شيئاً من زلاته التي وقع فيها ولو لم يسأله الفقير( الفقير يعنى الشيخ الصوفى ) ، وذلك إذا ذكرها للشيخ فإما أن يرشده للتوبة أو يشفع له عند الله بأن يغفرها له ويؤخر عنه العقوبة والمؤاخذة.. وقال المرصفي لا ينبغي لأمير أن يستحي من ذكر نقائصه لشيخه ليداويه فيها بالتوبة والمغفرة)[156].

 وكان بعض الصوفية يستفيد من الاعتقاد فيه وفي شفاعته فكان يبيع الجنة للناس، فروى اليافعي قصة باع فيها أحدهم بستانه نظير قصر في الجنة، وكتب بذلك صكاً وضع في كفن البائع حين مات[157]. وقال الشعراني أن امرأة جاءت الشيخ مدين بثلاثين دينار ليضمن لها الجنة فقال لها : ما يكفي:  فقالت: لا أملك غيرها ، فضمن لها على الله دخول الجنة[158]

  وأسمج من ادعاء (غفران الذنوب) ادعاء التحكم في الآخرة والجنة والنار. والدسوقي  يقول في كتابه ( الجوهرة ) : ( أنا بيدي أبواب النار غلقتها بيديّ ، أنا بيدي جنة الفردوس فتحتها، من زارني أسكنته جنة الفردوس)[159]. وفي طبقات الشرنوبي تفاصيل أكبر.. تنسب الى الدسوقي قوله في معرض مقدرته على تفسير القرآن الكريم (.. وفكيت طلاسم سورة الزمر فسقت بها للجنة المتقين وإلى النار الكافرين.. وفكيت طلاسم سورة الرحمن وهى صفات الجنة فرأيت صفاتها فأدخلت أتباعي فيها .. وفكيت طلاسم سورة المنافقين فعرفتهم وأدخلتهم النيران.. وفكيت طلاسم سورة نوح فأدخلت قومه النار، وقلت هذا جزاء القوم الكافرين فقالوا من أنت قلت لهم أنا إبراهيم)، ويقول( من كراماتنا أني لما وردت على النار هربت خوفاً مني فرفصتها برجلي فصارت رماداً وصرخت عليها فغلقت أبوابها السبع.. ومنها أني سددت أبواب جهنم السبع بفوطتي وفتحتها لأعدائي وأدخلتهم فيها.. ومنها أني فتحت أبواب الجنة الثمانية بيدي وأدخلت أمة محمد صلى الله عليه وسلم فيها، ومنها أن صُنج الميزان بيدي أصير حسنات مريدي أثقل من سيئاته، ومسّيت عليها فصارت سيئات المنكرين علىّ أثقل من حسناتهم، ولو كانوا مطيعين . ومنها أني أدخل أتباعي يوم القيامة في الحشر أعلا مرتبة من أتباع غيري..)[160].

  وقال الشعراني في ترجمته ( وكان رضي الله عنه يقول أنا بيدي أبواب النار غلقتها وبيدي جنة الفردوس فتحتها ومن زارني أسكنته جنة الفردوس.. وأطال في معاني هذا الكلام ثم قال رضي الله عنه وما يعلم ما قلته إلا من انخلع من كثافة حجبه وصار مروحناً كالملائكة.. قلت: وهذا الكلام من مقام الاستطالة تعطي الرتبة صاحبها أن ينطق بما ينطق، وقد سبقه إلى نحو ذلك الشيخ عبد القادر الجيلي رضي الله عنه وغيره فلا ينبغي مخالفته إلا بنص صريح ، والسلام )[161]. فالشعراني يرى أنه لا ينبغي مخالفة الدسوقي إلا بنص صريح، ما دام الدسوقي يسير على منهاج الجيلي وغيره في الادعاء بالتحكم في الآخرة. وتهرب الشعراني من إيراد النصوص القرآنية الصريحة التي تهدم افتراءات الدسوقي والجيلي وغيرهما حتى لا يهدهم ركناً أساسياً في التصوف ، وهو تصريف الأولياء الصوفية في الدنيا والآخرة..

 ونود أن نذكر بنصوص قرآنية صريحة تجاهلها الشعرانى ، وهى تقطع بأن يوم الدين ملك لله وحده لا يشاركه فيه واحد من خلقه ملكاً أم رسولاً فكيف بأولياء الشيطان.

يقول سبحانه وتعالى عن يوم الدين ( وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ ..البقرة48 )، (وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ ..البقرة123 ). (يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ .. الانفطار19). (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ...لقمان33) .. وكل إنسان  – والأنبياء منهم – إما والد وإما مولود .. فلن يجزي أحد عن أحدٍ شيئاً.. بل يقول تعالى للرسول الخاتم عليه السلام ( لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذَّبَهُمْ ..آل عمران 128).. بل في ساعة العرض على الله تعالى.. يقف البشر جميعاً مؤمنون وأنبياء ومشركون وكفرة  أمام الله تعالى لا يستطيع أن يبدأ أحدهم كلاماً إلا بعد أن يأذن له الواحد القهار فيقول تعالى عن اليوم الآخر (... ذَلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ{103} وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لِأَجَلٍ مَّعْدُودٍ{104} يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ{105} هود ). فلا يستطيع السعيد أو الشقي  أن يتحدث إلا بإذن في يوم الدين . الكل أمام جبروت الله تعالى سواسية.. كل منهم خائف مرتعب من هيبة الله تعالى. كل منهم محاسب أمام الله تعالى رسولاً كان أم مرسلاً إليه (فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ ..الأعراف66) . كل منهم يدافع عن نفسه عند الحساب بكل ما يستطيع ( يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ..النحل111)، يوم رهيب على الجميع، فكل إنسان لا هم له إلا إنقاذ نفسه والنجاة بها من عذاب الله والذنوب التي وقع فيها .. كل إنسان يفر من أقرب الناس إليه ( ْيومَ تَكُونُ السَّمَاء كَالْمُهْلِ{8} وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ{9} وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً{10} يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ{11} وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ{12} وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْويهِ{13} وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنجِيهِ{14} كَلَّا إِنَّهَا لَظَى{15} المعارج).. (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ{34} وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ{35} وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ{36} لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ{37}عبس).. وكل البشر – وكل إنسان بما في ذلك الأنبياء – امرؤ له أخ وأم وأب وزوجة وأبناء، سيفر منهم من رهبة الموقف العظيم..

   هذه نصوص قرآنية قاطعة .. ولا اجتهاد مع وجود نص واحد صريح.. فكيف بنصوص عديدة ؟؟ لو كانوا يعقلون..

  ملامح تأليه الولى الصوفى فى العصر المملوكى فى علاقة المريد بشيخه :

 المريد يحبُّ شيخه حُب تأليه

مقدمة:

   1- (المريد) هو اصطلاح الصوفية عن (العابد) لإلاهه الشيخ، (المطيع) له – طاعة المؤمن لربه، (المحب له) حب العبد الصالح لربه القادر، وتتجلى ملامح تأليه الولي كاملة في تقعيد الصوفية لعلاقة المريد بشيخه.. فلن نجد لوصف تلك العلاقة إلا عبودية المريد وتأليه الشيخ. فعلاقة المريد بشيخه أكبر من علاقته بأبيه وحاكمه بل وجعلها الصوفية فوق علاقة المسلم بالنبى المرسل .

   فالقاعدة الشرعية التي تحكم علاقة الإنسان بالإنسان في إطار الإسلام هي أنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق  والإحسان للوالدين واجب ، إلا أن طاعتهما لا تكون إلا في إطار طاعة الله تعالى، فإذا أرادا صد الولد عن طريق الله فطاعتهما لاغية وإن كان ذلك لا يمنع من برهما، يقول تعالى ( وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ... لقمان 15) ، فالطاعة لله والإتباع لرسله ومن يسلك طريقهم، وللوالدين في هذه الحالة مجرد الصحبة بالمعروف.

   وطاعة الرسول هي طاعة لله .. فالرسول مبلغ عن ربه الأوامر والنواهي، فمن يأتمر بأمر الله فقد أطاع الله وأطاع الرسول في نفس الوقت. إلا أن طاعة الرسول لا تعني عبادته : أولاً : لأن تلك الطاعة ليست له بالشخص ولكن بالوصف.. فالله تعالى لم يقل لنا أطيعوا محمداً ، وإنما قال (  مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ ...النساء80) فطاعة الرسول مقصورة على شئون الرسالة المبلغة إليه من القرآن، وكل رسول يطلب الطاعة من أتباعه فيما يخص أوامر الله ونواهيه وشرعه ودينه، وحتى إذا جد أمر لم ينزل فيه وحي وأستشير الرسول بشأنه توقف حتى ينزل فيه وحي.. ثانياً: النبي بعد ذلك هو أول المؤمنين وأول المسلمين( قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ .. الأنعام 162 ، 163) فهو مأمور وملتزم بما يوحى به إليه شأن كل مسلم، وهو القدوة في تنفيذ أوامر الله ، يبدأ بنفسه في الطاعة لله ويحذو المسلمون حذوه. 

 وهكذا فالله وحده هو الحاكم وهو المطاع لأنه لا إله إلا هو، لذا جاء إسناد الحكم لله تعالى بأسلوب القصر المتبع في الأمور الإلهية المقصورة على الله تعالى .. يقول ( .. إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ.. الأنعام57) (.. إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ.. يوسف40 ، 67 ) .. (إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ..الأنعام 62 ) ( َلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ القصص..70، 88) .. (فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ.. غافر12) . أما التصوف فله شأن آخر.. فقد وضع الأشياخ ما أسموه بآداب المريد مع شيخه.. وهى آداب لازمة الطاعة.. وقد كفلوا فيها للشيخ حقوق الله على البشر فأصبح المريد مطالباً بعبادة الشيخ وتقديسه.. على النحو التالي

أولاً: حب المريد لشيخه حب تأليه:

   أ) طالبوا المريد بحب شيخه حباً يخرج عن إطار المحبة المتعارف عليها بين إنسان وإنسان، تلك المحبة القائمة على المساواة ووصلوا بها إلى المحبة التي ينبغي أن يتوجه بها المسلم لله تعالى .وحجة الصوفية في هذا أن الشيخ واسطة بين الله والمريد فحب الشيخ من حب الله . ومعلوم أن الواسطة بين العبد والرب لا تكون إلا في عقائد الشرك.. إذ بها يخلعون على الواسطة المزعومة كل تقديس واجب لله وحده وينتزعون حقوق الله ويضيفونها لذلك الإله الواسطة، ومن ذلك الحب ، فيحبون الواسطة حبهم لله تعالى ويجعلون من تلك الآلهة أنداداً لله تعالى ، يقول تعالى(وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً لِّلّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ البقرة 165) . فقوله تعالى (يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ ) مقصود به أن حب الله تعالى متفرد عن حب البشر للبشر ، فحب الله فيه تقديس وإجلال وتعظيم وإخبات وإنابة ورهبة وخشية وتقوى ورجاء وأمل ، وحب الله تعالى مستمر حين النعمة ووقت الشدة والكرب ، ويتجلى حب العبد لله أكثر في التقوى ، وطاعته لأوامر ربه واجتنابه لنواهيه ، يقول تعالى (وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً لِّلّهِ..) والإيمان عقيدة صحيحة وعمل صالح وطاعة لله وللرسول، وهذا هو الحب الحقيقى لله سبحانه وتعالى ( قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي  ..آل عمران 31) ..

 والمشركون يحبون آلهتهم هذا الحب الذي يجب أن ينفرد به الله وحده دون واسطة أو شريك.. يقول الشعراني ( من لم يحكم مقام السهر بين يدي شيخه لا يصح له مقام السهر بين يدي الله عز وجل ، وقبيح على المريد أن ينام وشيخه جالس.. بل ذلك علامة على كذبه في محبة الله عز وجل فضلاً عن محبته للشيخ، فإنه لو كان يحب الشيخ لاستغنم أوقات الخلوة به، كما أنه لو كان يحب الله عز وجل المحبة المعروفة بين القوم لما أخذه نوم)[162]. وافتخر الشعراني بمراعاة ذلك مع شيخه محمد الشناوي ونور الدين الشوني يقول ( فلا أتذكر أني نمت في وقت يكون أحدهما مستيقظاً فيه، وذلك من أكبر نعم الله تعالى عليّ لكونه وسيلة إلى دوام السهر بين يدي الله عز وجل )[163].

إن من علامات حب المؤمن لله تعالى أن المؤمن المحب لربه تعالى ينأى عن مضجعه حيناً من الوقت في هدأة الليل ليدعو ربه خوفا من عذابه وطمعا فى جنته ورحمته ، يقول جل وعلا عن المتقين :( تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً ).{16} السجدة) فجعل الصوفية من الشيخ شريكاً لله تعالى في وجوب السهر بين يديه..

 ب) وفي (قواعد الصوفية ) عقد الشعراني باباً عن آداب المريد مع شيخه، وبدأها بحب المريد لشيخه، ووصل بهذا الحب إلى درجة الحب الإلهي، ونقتطف من كلامه هذه العبارات ( من تلطخ بالذنوب وادّعى محبة شيخه فهو كاذب، وكما أنه لا يحب شيخه فكذلك شيخه لا يحبه، وأجمعوا أن من شرط المحبة لشيخه أن يصم أذنيه عن سماع كلام في الطريق غير شيخه ( يعني لا يشرك بمحبة شيخه محبة شيخ آخر) فلا يقبل عذل عاذل حتى ولو قام أهل مصر كلهم في صعيد واحد لم يقدروا أن ينفروه من شيخه، ولو غاب عنه الطعام والشراب أياماً لاستغنى عنها بالنظر إلى شيخه لتخيله في باله، وبلغنا عن بعضهم أنه لما دخل هذا المقام سمن وعبل من نظره إلى أستاذه ) أى إن حب المريد لشيخه يُغنيه عن الطعام والشراب ، وأن مريدا وصل الى هذا المقام فى حب شيخه فأصبح   ( عبلا )أى سمينا. وهذا التوصيف لمحبة المريد لشيخه يفوق  حب المؤمن التقى لربه جل وعلا .  ونتابع الشعرانى وهو ينقل عن أخيه الأكبر  أفضل الدين الشعراني : (من ألطف سكرات الحب الشغل بالحب عن متعلقه) واستشهد بمجنون ليلى الذي أعرض عن محبوبته لاشتغاله عنها بحبه لها، ويلاحظ أن هذا المثل بالذات يستعمله الصوفية في وصفهم للحب الإلهي فجعله الشعراني مثلاً لحب الشيخ.  

وقال أفضل الدين الشعراني أيضاً يقرن حب المريد لشيخه بحب المؤمن لربه جل وعلا ( حقيقة حب الشيخ أن يحب الأشياء من أجله ويكرهها من أجله كما هو الشأن في محبة ربنا عز وجل) واستشهد الشعراني بأقوال ابن عربي في المحبة في الفتوحات المكية ( باب 178) وحكي عنه أن محباً دخل على شيخ يتكلم في المحبة فما زال المحب ينحل ويذوب من سماعه لكلام المحبة حتى تحلل جسمه كله على الحصير بين يدي الشيخ وصار بركة ماء .. وذكر أبيات ابن عربي التي يقول فيها :    

            ما حرمة الشيخ إلا حرمة الله        فقـم بـها أدب  بـالله لله  

 وذكر قول شيخه المرصفي ( أن المريد يترقى في محبة شيخه إلى حد يصير يتلذذ بكلام شيخه له كما يتلذذ بالجماع ، فمن لم يعمل إلى هذه الحالة ، فما أعطى الشيخ حقه من المحبة)[164]. أى (يتلذذ بكلام شيخه له كما يتلذذ بالجماع ،) ..الجنسى .!! ولكن لا ندرى هل المريد هنا هو الذكر وشيخه الانثى ، أم إنه الأنثى وشيخه الذكر ؟

   ج) وعقيدة الاتحاد الصوفية هي الأصل في حب الشيخ الصوفي حباً  إلهياً . وقد سبق إيراد قول الغزالي عن بعضهم وقد قيل له ( إنك محب فقال : لست محباً إنما أنا محبوب )[165]. أي أنه كالله يُحبُ حباً إلهياً من مريديه .ونظير ذلك ما رواه الغزالي عن جماعة دخلوا على الشبلي ، وقد كان محبوساً في مارستان ، فقال لهم من أنتم (فقالوا : مُحبُّوك ، فأقبل عليهم يرميهم بالحجارة ، فتهاربوا فقال : ما بالكم ادعيتم محبتي، إن صدقتم فاصبروا على بلائي )[166]. أي جعل نفسه إلاهاً مع الله تعالى .أى فكما يصبر المؤمن على بلاء ربه محبة لربه جل وعلا فكذلك يجب على مُحبّى الشبلى أن يصبروا على رميه إياهم بالحجارة .!!

تحريم ( إشراك المريد بشيخه ): الولى الصوفى لا شريك له فى عقيدة المريد

أ‌)       والشقاق والاختلاف والمشاحنة من سمات الشرك إذ تتحكم الأهواء والأذواق وتتصارع العواطف ويكون التنافس والتحاسد . يقول تعالى عن المشركين ( وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ ) البقرة 137) ويقول لهم بصيغة ( وَالسَّمَاء ذَاتِ الْحُبُكِ، إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ.) الذاريات7 : 8) .وأُمر المسلمون بألا يختلفوا كالمشركين (وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ ) آل عمران 105) ذلك أن الإسلام مبني على الاتفاق على صراط مستقيم (وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ) ( إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ) (الأنعام 153 ، 159).

ب‌)   ، ومبنى التصوف على الذوق، أى الهوى،  والصوفي ابن وقته ،  ولا زال الصوفية بخير – كما قال رويم – ما اختلفوا ( فإذا اصطلحوا فلا خير فيهم)[167].. وبازدهار التصوف وتسيده للعصر المملوكي تشعبت الطرق الصوفية وتشعبت معها مناحي الاختلاف بين الأشياخ الصوفية ، وكثرة تنافسهم على المريدين والهدايا والفتوحات ، حتى أن الشعراني ألف كتباً خاصة في الهجوم على أقرانه من الأشياخ وتردد في مواضع كثيرة من مؤلفاته حنقه عليهم وشكواه منهم .

ت‌)  وقد انعكس هذا الوضع على المريد ،  فطولب بالإخلاص لشيخه وألا يكون له إلا شيخ واحد . ومر بنا قول الشعراني في محبة الشيخ ( وأجمعوا أن من شرط المحبة لشيخه أن يصم أذنيه عن سماع كلام في الطريق غير شيخه)، وعجيب أن يكون هنا إجماع على ضرورة التفرق والتحزب وأن يكون لكل شيخ شرعه وطريقته ورسومه وذوقه ، مع أن الاختلافات بين الأشياخ الصوفية المملوكيين اختلافات شكلية مظهرية فى لون العمامة وشكلها ولون وشكل المرقعات الصوفية ، والأوراد وطرق الذكر والرقص فى حفلات السماع . والمهم أن التأكيد على المريد بالإخلاص لشيخ واحد أتخذ صورة دينية إذ أن التصوف هو الدين السائد وهو العقيدة التي يلتزم بها المريد ، فجعلوا من الخروج عن الإخلاص للشيخ (شركاً بالشيخ) قياساً على الشرك بالله تعالى .

ث‌)  ولعل من الأفضل أن نستشهد بكلامهم فهو أوضح وأبين في الاستدلال. يقول(علي وفا) (كما لم يكن للعالم إلاهان ولا للرجل قلبان ولا للمرأة زوجان كذلك لا يكون للمريد شيخان) ،وقال(كما أن الله تعالى لا يغفر أن يشرك به فكذلك الأشياخ لا يسامحون المريد في شركته معهم غيره، ومتى سامحوه كان غشاً منهم )، وقال : ( تأمل قوله تعالى:" تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا أن دعوا للرحمن ولدا وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولداً". فما جعل السماوات والأرض تنشق وتنفطر الجبال وتنهدم إلا الشرك بالله، وكذلك الشيخ لا يزيل قلبه عن حفظ المريد وتربيته ترك إحسان ولا خدمة، وإنما يزيله أن يشرك به المريد غيره)[168].

ج‌)    وأهتم الشعراني بأقوال (علي وفا) فرددها في الطبقات الكبرى[169]. والبحر المورود، وعلق على ذلك بقوله( إذ الشيخ كالسلم يترقى المريد بالأدب معه إلى الأدب مع الله تعالى، فمن لم يحكم باب الأدب مع شيخه لا يشم من الأدب مع الله رائحة أبداً)[170].

  د ) وأصبح كلام (علي وفا) دستوراً للصوفية اللاحقين، خاصة وأن أشياخ التصوف في ازدياد مضطرد، والحاجة في ازدياد للمريدين والطلب عليهم لا ينقطع، والخوف قائم من تقلبهم بين يدي أكثر من شيخ، يقول الشيخ أبو مدين في رسالته كما يحكي الشعراني ( ليس للقلب إلا وجهة واحدة متى توجه إليها حجب عن غيرها، فأشهد كمال شيخك ثم اطلب منه حاجتك، فإن الأشياخ على الأخلاق الإلهية، فكما أن الحق جل وعلا لا يغفر يشرك به يعني في الميل إلى سواء بغير إذنه، فكذلك الأشياخ)[171].وقال المرصفي (من طلب من فقير حاجة مع شركته أحداً معه في الانقياد فقد كلف الشيخ شططاً، فقد قالوا تقيد على شيخك ثم اطلب منه حاجتك)[172] .وقال أفضل الدين الشعراني( قد بني لله عز وجل الأمور على التوحيد، فكما لم يكن للعالم إلهان ولا للرجل قلبان ولا للمرأة زوجان، كذلك لا يكون للمريد شيخان)[173].ويقول الشعراني(وقد جرب الأشياخ والمريدون فوجدوا الشرك في محبة الشيخ توقفهم عن السير ، عكس حالهم حال توحيدهم للشيخ) [174]. ويقول (ومن شأن المريد ألا يشرك مع شيخه أحداً في المحبة من سائر من لم يأمره الله تعالى بمحبته )[175]. أي أن كمال توحيد الشيخ ألا يجتمع في قلب المريد حب آخر مع حبه للشيخ.. ويقول ( ومن شأنه ألا يكون له إلا شيخ واحد فلا يجعل له قط شيخين لأن مبنى طريق القوم (الصوفية) على التوحيد الخالص)[176].

 ه) وقد كان المريدون عند حُسن ظن الأشياخ بهم خاصة أتباع (على وفا) وقد قال كاتب مناقبه ( قال لي يا سيدي يوماً :"خدمة بيت سيدي وحدانية ما تحتمل الشركة") فهو يعبر عنه بلفظ(سيدي) حتى فيما ينقله عنه من خطابه، ويتردد في حديثه عنهم لفظ (الحضرة الشريفة).. وروى كاتب المناقب أن (على وفا) قال لأحدهم ( أخشى عليك أن تبني لك زاوية وتجعل شيخاً ، فتشرك حزيناً بوظيفة العجمي فتحصل الغيرة ) وحدث ما توقعه (على وفا) وانتهت الحادثة بموت ذلك الذي تمشيخ ، وعلق الكاتب قائلاً( الحمد لله الذي عافنا من بلاء المشركين وجعلنا موحدين .. والله ما نعرف سوى سيدي )[177]. وقال أحد مريدي الشيخ مدين (لا أشرك في محبة شيخي أمراً آخر)، وذلك لأنه أقام بزاويته مدة طويلة لا يذوق فيها طعاماً ولا شراباً [178]. واعتبر من كمال توحيده ألا يأكل ولا يشرب في زاوية شيخه اكتفاءاً بحبه وقربه..

 و ) هذا .ويلاحظ اكتمال السيطرة الصوفية على الحياة الدينية في مطلب الأشياخ بتوحيد المريدين لهم . فقد بدأ التصوف ورجاله في اضطهاد ثم حصل على الاعتراف به .وبعد ذلك كان السيطرة الكاملة وطلب التوحيد وعدم الشرك بهم .وتلك ذروة السيادة للدين الصوفي في العصر المملوكي إذ استحوذ كل شيخ على طائفة من المريدين وألزمهم بتوحيده وعدم الإشراك بتقديسه شيخاً آخر. وإذا تخيلنا كثرة الأشياخ في العصر المملوكي وكثرة المريدين عرفنا إلى أي حد كان العصر المملوكي أسير العقيدة الصوفية وأصحابها ، وأن تلك الكثرة في الأولياء مدعي الألوهية لم تمنع من مطلب التوحيد الديني لكل شيخ من مريديه.

 ز) ولكن ماذا يحدث للمريد بعد أن يتقيد بشيخ واحد لا يشرك به شيخاً آخر ..؟  - أنه ببساطة - يكون له عبداً فاقدا لكل إرادة وشعور، مجرد امتداد مهمل لشيخه المسيطر عليه المتحكم فيه.

   عبودية المريد لشيخه:

بالغوا في طلب الطاعة من المريد إلى حد أنهم أفقدوه ذاته وحياته. وأمروه بأكثر مما يأمر الله تعالى من العباد.

  1 ـ ـ يقول الدسوقي (المريد مع شيخه على صورة الميت لا حركة ولا كلام، ولا يقدر أن يتحدث بين يديه إلا بإذنه، ولا يعمل شيئاً إلا بإذنه من زواج أو سفر أو خروج أو دخول أو عزلة أو مخالطة أو اشتغال بعلم أو قرآن أو ذكر أو خدمة في الزاوية أو غير ذلك)[179]. ولا يكتفي بذلك بل يقول ( يجب على المريد ألا يتكلم قط إلا بدستور شيخه إن كان جسمه حاضراً، وإن كان غائباً يستأذنه بالقلب حتى يترقى إلى الوصول إلى هذا المقام )[180]. وقد جعل الشعراني من مقالة الدسوقي إحدى قواعد الصوفية فيقول ( المريد الصادق مع شيخه كالميت مع من يغسله لا كلام ولا حركة ولا يقدر ينطق بين يديه من هيبته ولا يدخل ولا يخرج ولا يخالط أحداً ولا يشتغل بعلم ولا قرآن ولا ذكر إلا بإذنه، لأنه أمين على المريد فيما يرقيه)[181].  وقد طبق الشعراني هذه القاعدة على نفسه حتى كان لا يمد رجليه إلا بعد أن يستأذن بقلبه الأولياء ، يقول ( ومما منّ الله تبارك به عليّ كراهتي لمد رجلي في ساعة من ليل أو نهار إلا بعد قولي دستور يا الله أمد رجلي.. وكذلك الحكم في مدها نحو المدينة المشرفة أو نحو ولي من الأولياء ، لا أمدها ناحية أحد منهم حتى أقول: دستور يا سيد المرسلين أو دستور يا سيدي عبد القادر يا جيلاني أو يا سيدي أحمد يا ابن الرفاعي أو يا سيدي أحمد يا بدوي أو يا سيدي إبراهيم يا دسوقي ونحوهم من الأولياء الأحياء .. والأموات .. فإن لم يكن ذلك كشفاً كان إيماناً[182].  فالشعراني يتمسح بقوله( دستور يا الله أمد رجلي) كي يعطي نفس الحق للأولياء الصوفية باعتبارهم واسطة – عندهم بين الله والمريد – وفي ذلك يقول (الأدب مع الشيخ سلم للأدب مع الله .. وإقبال شيخ الإنسان عليه عنوان لرضا الحق عنه ، وأقل مراتب الشيخ أن يكون كالبواب للملك ، فمن كان البواب يكرهه فبعيد أن تقضى له حاجة عند الملك لأنه لا يستطيع الوصول للسلطان من غير الباب، ومن قال من المريدين أنه يقدر على قضاء حاجته عند الله من غير واسطة فقد افترى على الله تعالى.. وأجمع أشياخ الطريق على أن من لم يقدر على ملاحظة شيخه ومراقبته حال العمل لا يصح له مراقبة الحق في طاعته أبداً[183]. والمهم أن الشعراني جعل عقيدة الإسلام في منع الواسطة افتراءاً على الله فقال "ومن قال من المريدين أنه يقدر على قضاء حاجته عند الله من غير واسطة فقد افترى على الله تعالى "!! .

2ــ   ويجدر بالذكر أن مقالة الدسوقي عن المريد أمام شيخه أنه (كالميت أمام مغسَّله) مستقاة من وصف الغزالي لإحدى درجات التصوف وهى أن يكون الصوفي بين يدي الله تعالى كالميت تجري عليه أحكام القضاء .. يقول عما أسماه بالدرجة الثالثة من التوكل (وهى أعلاها: أن يكون بين يدي الله تعالى في حركاته وسكناته مثل الميت بين يدي الغاسل لا يفارقه إلا في أنه يرى نفسه ميتاً تحركه القدرة الأزلية كما تحرك يد الغسل الميت)[184].. وطبقاً لعقيدة الاتحاد الصوفية التي لا ترى فارقاً نوعياً بين الله والخلق فقد أعطى الشيخ الصوفي وصف الله بالنسبة للمريد العابد له ، إلى أن يترقى المريد برعاية شيخه له ويصبح شيخاً في نهاية الأمر يمارس نفس اللعبة مع مريد آخر ، يقول (على وفا) (لم أجد إلى الآن – سنة 804 هـ - مريداً صادقاً معي يعترف لي بأني أعرف منه بخواطره وصفاته الباطنة، ولو وجدته لأفرغت فيه جميع ما عندي من العلوم والأسرار)[185]. ويقول على وفا لكل مريد ( إن وجدت أستاذك المحقق وجدت حقيقتك وإذا وجدت حقيقتك وجدت الله تعالى فوجدت كل شيء )[186]. فوجود الشيخ فضلاً عن كونه يحقق عملياً عقيدة الاتحاد الصوفية فإنه – يجعل من الشيخ عنواناً لله أمام المريد الصوفي يستغني به عن الله ويتوجه له بكل ما يجب عليه أن يتقدم لله تعالى به، وهكذا صرحوا بأن وجود الشيخ ضرورة وإلا فالمريد ضائع بلا شيخ فيقول علي وفا (من ليس له أستاذ فليس له مولى ومن ليس له مولى فالشيطان أولى به )[187]. وصار مثلا شعبيا بين الصوفية حتى الآن : ( من ليس له شيخ فشيخه السلطان ). ولم يخترع علي وفا هذا القول اختراعاً وإنما أخذه عن الغزالي القائل (لكي يصل المريد للمكاشفة (أي يصبح ولياً مكاشفاً عالماً بالغيب) لابد له من شيخ فإن سبيل الدين غامض وطرق الشيطان كثيرة ظاهرة، فمن لم يكن له شيخ يهديه قاده الشيطان إلى طريقه لا محالة، فمُعتَصم المريد شيخه ، فليتمسك به بحيث يفوض أمره إليه بالكلية ولا يخالفه في ورده ولا صده ولا يبقي في متابعته شيئاً وليعلم أن نفعه في خطأ شيخه – لو أخطأ – أكثر من نفعه في صواب نفسه لو أصاب)[188]. فأرسى الغزالي عبودية المريد لشيخه قبل العصر المملوكي. فعقيدة الاتحاد الصوفية هي التي جعلت من الشيخ جسداً خامداً تسيطر عليه إرادة الله أو مشيئة الله أو تحل فيه ذات الله، جعلت في نفس الوقت من المريد كالميت أمام مغسٍّله ، وحتمت وجود شيخ لكل مريد وكفلت لذلك الشيخ على مريده كل الحقوق الإلهية في الطاعة والتقديس بحجة أنه واسطة لله أو مُتّحٍد به.. ومنها ألا يكتم على شيخه شيئاً (وما كتم مريد عن شيخه شيئا ًإلا خان الله ورسوله وخان نفسه وشيخه ، وربما مات برأيه مع تلبسه بصورة النفاق)[189]. على حد قول الخواص.

3   والنهي عن كتمان السر عن الشيخ مطلب قديم يتفق مع النظرة الصوفية في سلب إرادة المريد وجعله جسداً يتحرك بشيخه. يقول القشيري في القرن الخامس: ( لو كتم نفس من أنفاسه عن شيخه فقد خانه في حق صحبته)[190]. ويقول الخواص : ( وإذا غضب الشيخ على إنسان يجتنبه المريدون ، وإلا يغضب عليهم الله ، ولا ينبغي لهم البحث عن سبب غضب الشيخ عليه بل يسلموا للشيخ لأنه لا يغضب إلا بحق  ) .[191] .  وإذا غضب الشيخ على مريده فهي الطامة الكبرى، يقول المرصفي (من شقاء المريد في الدنيا وعنوان شقاوته في الآخرة تهاونه بغضب شيخه عليه وعدم رؤيته نفسه وجوب المبادرة إلى صلحه والدخول في طاعته )[192]. فإذا كان الله يرحم فالشيخ لا يرحم .

4 ــ ولم ترد حقوق للمريد في كتابات الصوفية فقد  سيطرت عليهم  كفالة حقوق الشيخ ونسوا أن للمريد حقوقاً نظير تلك الواجبات المطالب بها ، ونسوا أيضاً أن الله تعالى – الذي يتمسحون به كذباً وافتراءاً – قد أوجب على نفسه جزاء للعبد الصالح المتقي - فجعل حقاً للعبد مقابل قيامه بواجبه.. أما الصوفية فيعبر عنهم قول المرسي للمريدين: ( لا تطالبوا الشيخ بأن تكونوا في خاطره بل طالبوا أنفسكم أن يكون الشيخ في خاطركم) [193]. فحرم عليهم مجرد التمني أن يكونوا في خاطر الشيخ واهتمامه وجعل عليهم الواجبات دون أي حق .

  5) ومع ذلك فالمريدون مخلصون لأشياخهم .. يقول ابن باشا في مدح المرسي كأنما يمدح الله تعالى

شيخي أبو العباس واحد وقتـه       خضر الزمان ورب عين الأعين

وما كنت إلا حائداً فرددتنـي       وإلى الطريق المستقيم هديتنـي

وسقيت لي ماء الحياة وكنت لي     كالخضر لما أن رويت سقيتني[194]  

 ويقول الشعراني ( كان المريدون عند الشيخ الغزي يرون أنفسهم ملكاً للشيخ يفعل فيهم ما شاء وهم أوصياء على أجسامهم[195]. ) أي أن ولايتهم على الجسد فقط وأما التصريف فمرجعه إلى الشيخ، ويقول المرصفي عن نفسه حين كان مريداً( لما أخذ عليّ شيخي العهد بأني لا أخالفه ولا أكتم عنه شيئاً من أمري كنت لا آكل ولا أشرب ولا أنام ولا أقرب من زوجتي حتى أقول بقلبي .. دستور يا سيدي)[196]. أي كما كان الشعراني يفعل.

 

 

 

 

 

 

 في تفضيل الولي الصوفي على الأنبياء:

 1 ــ  الأنبياء هم صفوة الله بين البشر،اصطفاهم الله وأوحى إليهم وعلمهم وجعلهم أئمة للبشر، وهم مع ذلك بشر كسائر البشر عباد الله يخافونه ولا يملك أحدهم لنفسه نفعاً ولا ضراً إلا بمشيئة الله تعالى كباقي الناس .  والقرآن يصف خاتم الأنبياء بأنه رجل من العرب وأن الأنبياء قبله كانوا أيضاً رجالاً كباقي الناس في عصرهم ولكن يوحي الله إليهم (أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ النَّاسَ) يونس2) (وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ{7} وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَداً لَّا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ{8} الأنبياء ) ، (وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ{34}كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ).35الأنبياء) (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ{30} ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ{31} الزمر..) (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ{44} الزخرف).( فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ{6} الأعراف)(قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ )(188 الأعراف) (وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ ){20} الفرقان) . وفي الآيات السابقة ملامح لبشرية الأنبياء من الأكل والموت والاحتياج والمسئولية والحساب أمام الله تعالى . وكلها تأكيد لعبودية الرسول لله تعالى..

  أما الولي الصوفي الذي يؤمن بأنه جزء من الله فلابد أن يجعل نفسه فوق الأنبياء طالما أن القرآن المحفوظ من لدن الله تعالى قد أكد على بشرية الأنبياء في عشرات الآيات. لذا رأينا ابن عربي يعلنها صريحة في تفضيله للولي على الرسول فيقول: -

            مقام النبــــوة في برزخ        فــوق الرسـول ودون الولي

والموضوع طويل. ولكن نكتفي منه بملامح قليلة لبعض مظاهر تفضيل الولي الصوفي على النبي ..

       أ) العصمـــة :

إن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يدّعٍ العصمة، فعصمته فيما يخص رسالته وعداها فهو بشر عادي وفي القرآن آيات كثيرة تلوم الأنبياء بل وتصرح بمعصيتهم ، "وفكرة العصمة لم تعرف في صدر الإسلام ولم ترد في القرآن ولا في الكتب المنزلة ولا في السنة الصحيحة " في رأي بعض الباحثين[197].

   أما الصوفية فلهم شأن آخر، قال الشاذلي "رأيت كأني بين العرش فقلت يا رب يا رب فقال لبيك لبيك ، فقلت يا رب فاهتز العرش، فقلت يا رب فاهتز اللوح المحفوظ والقلم، فقلت أسألك العصمة فقيل لي لك ذلك " [198] ، وفي حزب البحر عند الشاذلية .. " نسألك العصمة في الحركات والسكنات والكلمات والإيرادات"، وفي حزب البر يقول " واكسنا من نورك جلاليب العصمة"[199]. وروى الشعراني عن عبد القادر الجيلي قوله "من لم يعتقد في شيخه الكمال لا يفلح على يديه أبداً"[200]. ويرى الخواص أن الخواطر القبيحة لا تقع للكُمَّل[201] من العارفين ، وحتى لا يلام الصوفية أسندوا العصمة للأنبياء وسموا عصمتهم الحفظ وجعلوهما متساويين[202].

 وقد أخذ العلماء المتأخرون عنهم عصمة الأنبياء وحاولوا تأويل ما ورد في القرآن منافياً لذلك، فحققوا غرضاً حيوياً للصوفية حين أبيح لهم تأويل افتراءاتهم على الله ورسله أو ما يسمى بالشطحات الصوفية .

وقد وقع البقاعي في هذا الشرك وهو من أكبر أعداء الصوفية فاحتج على تأويل شطحات ابن الفارض محتجاً بأنه لا يؤول إلا كلام المعصوم[203]. وتجلى خطؤه هذا حين عدّ أقران الحلاج من صالحي الصوفية[204].

ب) الشفاعة:

ليس للنبي أن يشفع في أحد فينجيه من النار أو يدخله الجنة يقول سبحانه وتعالى للنبى عليه السلام :( لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ )آل عمران128 )..(أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن فِي النَّارِ ){19} الزمر) ولا يجرؤ النبي على ادعاء ذلك فمرجعه لله وحده ..( لَيْسَ لَهُم مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ .. {51} الأنعام) ..( يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ{19} الانفطار).

أما الصوفية فينطبق عليه قوله تعالى:(وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَـؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ ...{18} يونس) ..(أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ شُفَعَاء ؟ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلَا يَعْقِلُونَ{43} قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً ...َ{44} الزمر  ). ولقد تبارى الصوفية في ادعائهم الشفاعة عند الله ، لأنهم اعتبروا أنفسهم – على أقل تقدير- واسطة بين الله وخلقه، وجعل الشعراني من أخلاق العارفين يوم القيامة بدءهم بالشفاعة فيمن كان يؤذيهم في الدنيا قبل الشفاعة في المحسن إليهم[205]. وفي طبقات الشرنوبي أن الله أدخل أتباع الدسوقي الجنة كرامة لأجله، وجعلهم أعلى مرتبة يوم الحشر من أتباع غيره [206]. وروى حسن شمة أن الله قال للدسوقي" .. فو عزتي وجلالي لأشفعنك في سبعين ألفاً، كل منهم يشفع في سبعين ألفاً ،كل منهم وجبت عليه النار"[207]. أما البدوي فإن الرسول (يهنئه يوم القيامة بالعلَم الذي وضع فوق رأسه وتحته خلق كثيرون، منهم من يعرفه ومنهم من لم يعرفه، ومكتوب على العلَم " نصر من  الله وفتح قريب لأحمد البدوي ومن معه من المريدين والفقراء الصادقين"، وقد مشى وخلفه ما لا يحصى من الخلائق حتى دخل بهم الجنة)[208].

  أما الشاذلي ، فقد جعله مكين الدين الأسمر يدخل الناس على الله بينما يدعو غيره الناس إلى باب الله[209]. وشفع ياقوت العرشي حتى في الحيوانات[210]، وضمن شمس الدين الحنفي الجنة لأصحابه، وأصحاب أصحابه، وأصحاب أصحاب أصحابه، أربعين مرة، وبشرهم بذلك [211]. أما علي وفا فيشفع في أولياء جميع الأزمنة[212]، وليس المريدين فقط، ونصح أبو المواهب الشاذلي بصحبة الفقراء(.. فإنه لو لم يكن إلاّ أخذهم بيدك يوم القيامة.. لكان في ذلك كفاية )[213].  وشفع محمد بن عنان في ميت كان يعذب في قبره [214]، واشترط أحمد الزاهد – وقد زعم أنه شفعه الله في جميع أهل عصره على طالب شفاعته أن يصلي ركعتين له في مسجده[215]. وكان الواحد من أصحاب الشيخ أبي السعادات " يشفع يوم القيامة في سابع جار من جيران داره"[216]، أما الغمري فكان لا ينام حتى يعتق لأجله آلاف من الخلائق من النار[217]، وشفع بعض الأولياء فيمن يُشيع من الأموات[218] . وتخصص الشيخ علي وحيش(ت 917) في الشفاعة فيمن يتردد على بيوت العاهرات" وكل من خرج يقول له قف حتى أشفع فيك" ، وحسب تعبير الشعراني " كان يقيم في خان بنات الخطأ " ولأجل شفاعته "كان يحبس بعضهم اليوم واليومين ولا يمكنه من الخروج حتى يجاب في شفاعته[219] .إلى هذا الحد بلغت ادّعاءاتهم في الشفاعة عند الله ، وقد قال البهاء زهير هاجياً : أرحـني منك حتى لا  أرى منـظرك الوعرا

        فما تنفع في الدنــيا ولا تـشفع في الأخرى[220]

أي أن الشفاعة صارت حقاً مباحاً للجميع .

 

 

 

الصوفية يفضلون الولي الصوفي على الله تعالى

 

 هو موضوع خطير بلا شك، بيد أن خطورته لا ينبغي أن تكون عائقاً عن البحث فيه، بل على العكس، فحق الله تعالى على الباحث المسلم يفرض عليه – إذا استطاع – أن يفضح العقائد المخالفة بالغاً ما بلغت، سيما إذا انتسبت للإسلام زوراً وبهتاناً فإحقاق الحق واجب، وخاصة إذا تعلق هذا الحق بالله تعالى وبدينه، وعلى أمل أن تتضح الحقائق أمام مسلمي اليوم ليتعظوا.

التفضيل الضمنى

  1- ومظاهر تفضيل الصوفية للولي الصوفي على الله تعالى كثيرة متعددة، بعضها مظاهر خفية غير مباشرة تكمن في هامش الشعور الصوفي وتتجلى في مواقف شتى.. منها ما يتصل بإحقاق الحق الخاص بالله تعالى والذي أشرنا إليه والذي اعتدى عليه الصوفية بافتراءاتهم .ونقصد بذلك قضية التأويل للشطحات الصوفية .وقد عرضنا للشطح الصوفي، وأقل ما يقال فيه أنه اعتداء أثيم على الله تعالى بالقول المفزع. فهنا قضية فيها(ظالم) وهو الصوفي صاحب الشطحات و(مظلوم) وهو الله تعالى الذي أُهين بأقوال الصوفية وشطحاتهم .. وهو ظلم عظيم ( إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ{13} لقمان) ،وعلى ذلك فقيام الصوفية بتأويل الشطحات وتبريرها تعني نصرة الظالم على المظلوم أو نصرة أوليائهم على الله تعالى . وإلى جانب ذلك تعبر عن إحساس خفي في شعورهم هو تفضيلهم لذلك الولي الصوفي على الله تعالى، ورعاية أكثر لحقه عليهم جعلتهم يفضلون هذا الحق المزعوم على حق الله تعالى وهو – جل وعلا- الذي وقع عليه الاعتداء القولي .

 وقد يحس القارئ العادي الذي يحسن الظن بالصوفية ببعض التحرج من الكشف عن حقيقة الصوفية وكلامهم ، ويتهيب عن الخوض فيها مراعاة لما درج عليه الناس من تقديس للتصوف ورجاله .وهذا الموقف العام يعتبر امتداداً لذلك الشعور الخفي الذي يجعل الشعراني وغيره يؤولون كلام الصوفية ويدافعون عنهم إنحيازاً إليهم على حساب الله تعالى وتفضيلاً لهم على الله تعالى. أما المؤمن الحق فلا يعنيه إلا حق الله تعالى ينصره ويدافع عنه، وهو بهذا يوالي الله تعالى وينصره ويحظى في المقابل بتأييد الله تعالى ونصرته طالما كان تقياً. وهذا هو الفارق الأساسي بين ولاية الله تعالى وولاية الشيطان..

2- ومن المظاهر الخفية لتفضيل الولي الصوفي على الله تعالى – ما ينم عليه معنى اختيارهم أنفسهم كأولياء لله تعالى من دون الله ومن دون الناس. وقد سبق أن عالجنا هذه النقطة وقلنا كأنهم بذلك وصفوا الله تعالى بالعجز عن الاختيار فقاموا هم بمهمة الاختيار، ووصفوه تعالى بالجهل بأصلح عباده للقيام بمهمة الولي  فقاموا باختيار الأصلح من بين البشر كأنهم أعرف من الله تعالى بخلقه. ويعني ذلك أنهم وصفوا أنفسهم بنقيض ما أسندوا لله تعالى – بطريق غير مباشر – من صفات الجهل والعجز. أي أنهم فضلوا أنفسهم على الله بحيث قاموا هم بالاختيار وفرضوا ذلك الاختيار على الله تعالى عن ذلك علواً كبيراً . وهو ظلم عظيم آخر وقع على الله تعالى ، وخطورة التفضيل هنا تكمن في أن أحداً من الصوفية – بل ومن البشر – لا يرضى لنفسه بذلك الموقف الذي جعلوا الله تعالى فيه حين فرضوا عليه أنفسهم أولياء . ولنضرب لذلك مثلاً :  ( زيد ) – مثلاً – قام بشراء طفل رباه وأعاله وكفله. وبعد أن استوى الطفل رجلاً فتياً ادعى أن صاحب الفضل عليه هو(عمرو) وجعل من (عمرو) متحدثاً باسم (زيد) ممثلاً له . مشاركاً له في استحقاق التعظيم، وادعى افتراء أن تلك هي رغبة (زيد) وأن في ذلك رضاءه . فهل يرضى أحدنا أن يسلب منه الفضل وحق الاختيار فيختار له الآخرون الأصدقاء والأصفياء ويقصدونهم بحق يجب أن يكون له من دون أولئك الأصدقاء المزعومين الذين لا يد له في اختيارهم؟  وتزيد المأساة إذا كان ذلك المظلوم هو العلي الجبار الذي خلق فسوى ورزق وهدى.! وتكتمل المأساة حين يرسل الرسل تنهى عن اتخاذ البشر للوسائط والأولياء من دون اختيار الله تعالى ثم يسجل ذلك في خاتم الرسالات بقرآن مبين مؤيد بحفظ إلهي حتى قيام الساعة .ولعل الله تعالى كان يشير في كتابه العزيز إلى ذلك حين قال( ضَرَبَ لَكُم مَّثَلاً مِنْ أَنفُسِكُمْ هَل لَّكُم مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن شُرَكَاء فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَاء تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ{28} بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَن يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ ؟..{29} (الروم) ..

 3- وقد عرضنا لأقاويل الصوفية في علاقة المريد بشيخه وفيها ما يفضح تفضيلهم للشيخ على الله تعالى ومنها أن المريد لو غاب عنه الطعام والشراب أياماً لاستغنى عنهما بالنظر إلى شيخه لتخيله لذلك الشيخ في باله وأن المريد يتلذذ بكلام شيخه كما يتلذذ بالجماع، وأن بعض المريدين اعتبر أكله في زاوية الشيخ شركاً بالشيخ فرفض الأكل والشرب في الزاوية اكتفاء بتقديس شيخه. وذلك الحب المأمور به المريد فوق الحب الذي يطالب الله تعالى به عبيده، وأعظم المحبين لله تعالى هم رسله الكرام وما سمعنا عنهم أمثال هذا التطرف في المحبة .. وغاية ما هنالك أن المسلم المحب لله تعالى يعبر عن حبه لخالقه الرازق بالشكر حين يأكل الطيبات (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ لِلّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ{172} البقرة). فهنا أكل للطيبات وشكر لله تعالى صاحب النعمة. لا أن يعرض عن الطعام استغناء بحبه لله تعالى. وإذا كان المريد الصوفي مأمورا بالتلذذ بكلام شيخه كأنه في حالة جماع فإن المؤمن لا يؤمر بأكثر من الإنصات والاستماع الحسن لكلام الله العزيز( وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ{204} الأعراف)..

4- وبالغ الأشياخ الصوفية في طلب الطاعة من المريد إلى أن نزعوا عنه الاختيار والإرادة، حتى لا يتكلم ولا يتحرك إلا بإذنهم ، ورأينا كيف أن الشعراني لا يحرك قدمه إلا بعد استئذان الأولياء .وهذا الشطط في طلب الطاعة والشطط في امتثال المريد للشيخ يعنى تفضيلاً للشيخ على الله تعالى فالمريد يقدم طاعته للشيخ على طاعته لله تعالى – على فرض أن الإسلام يجيز طاعة الشيخ الصوفي أو أن ذلك الولي يمتثل لأحكام الله – ثم إن هذا الشطط في التكليف لا يوجد بتاتاً في شرع الله ، فالله تعالى لا يكلف نفساً إلا وسعها وفي حدود إمكاناتها ( لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا ){7} الطلاق) . ومع أن الله تعالى قائم على كل نفس بما كسبت فقد ترك مجالاً للاختيار البشري به يحاسب المرء وعلى ذلك فشخصية الإنسان مرعية الجانب في التكليف الإسلامي فيقول سبحانه وتعالى للمشركين: (.. اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ{40} فصلت40)..

  5- ومن ألوان التفضيل للولي أنه بعد مبالغته في طلب حب المريد وطاعته فليس للمريد من حقوق لديه، والمريد مع ذلك متدله في حب الشيخ مستميت في طاعته بلا مقابل – أما الله تعالى فقد سنّ الجزاء على العمل في الدنيا والآخرة. ومع ذلك فحظه من المريد الصوفي الإعراض والإهمال والدرجة الدنيا، والطريف أن الدافع للمريد في هذا الحب وتلك الطاعة للشيخ هو ما للشيخ عند الله من مكانة يتمكن بها من رفع شأن المريد في الدنيا والآخرة في زعمهم، أي أن الله  في الاعتقاد الصوفي ما عليه إلا أن يعطي للأشياخ الصوفية ما يريدون لمريديهم كي يفرضوا على المريدين ما يشاءون من أوامر ونواهي لا شأن لله بها ، ويمتثل المريدون للأشياخ ، ويظل الشيخ في بؤرة الشعور لدى المريد ، وليس لله  من مجال عند الاثنين .. أبعد ذلك افتراء وتضليل وتفضيل؟؟..

   وقد تنبه بعض الباحثين لحقيقة التفضيل في الفكر الصوفي فيما يخص علاقة المريد بشيخه فقال(أضحى الولي في عرفهم أعظم من الله تعالى، وقد حملهم ذلك على أن يكفلوا للولي من الحقوق على أتباعه ما لله على عباده ، فطالبوا المريد والتابع بالامتثال دون اعتراض أو إنكار مهما بلغ شطط أوامر الشيخ)[221].

التفضيل الصريح المباشر

1 – وقبل الاستشهاد بعبارات صوفية صريحة في تفضيل الولي الصوفي على الله تعالى نؤكد أن هذا الاتجاه ليس وليد العصر المملوكي – عصر الازدهار الصوفي – وإنما تمتد جذوره إلى بداية التصوف في القرن الثالث الهجري .البسطامي كان رائداً في هذا المجال، ومقالته الشطحية مشهورة وهى قوله لله تعالى ( بطشي أشد من بطشك ، طاعتك لي أعظم من طاعتي لك ..إلخ) .وقد أغرم القاشاني شارح الفصوص بإحدى عبارات البسطامي فشرحها يقول في مقالته( ملكي أعظم من ملكك أي لكونك لي وأنا لك فأنا ملكك وأنت ملكي وأنت العظيم الأعظم وملكي أنت فأنت أعظم من ملكك)[222].

وروى الشعراني حكاية مشهورة عن البسطامي وهى أن النخشبي وشقيقه البلخي زاراه ، فلما قدم الخادم الطعام قالا له : كل معنا يا فتى فقال: لا، إني صائم ، فقال له أبو تراب النخشبي : كل ولك أجر صوم شهر فقال لا، فقال له شقيق البلخي كل ولك أجر صوم سنة فقال لا، فقال أبو يزيد دعوا من سقط من عين رعاية الله عز وجل، فسرق ذلك الشاب بعد سنه فقطعت يده عقوبة له على سوء أدبه مع الأشياخ[223]..أي أن طاعة أولئك الأشياخ مقدمة على طاعة الله تعالى ، ومن يعصهم فمصيره قطع يده . وليس مهماً أن أولئك الأشياخ يدعون لأنفسهم حق تقدير الثواب للصائم بأجر شهر أو أجر سنة في نظير إطاعته لأوامرهم بقطع الصوم لله ..

  ومن ذلك ما رواه الغزالي عن أبي تراب النخشبي سالف الذكر من أنه كان معجباً ببعض المريدين فكان دائماً يقول له( لو رأيت أبا يزيد) فقال له المريد لما أكثر عليه (ويحك ما أصنع بأبي يزيد .. قد رأيت الله تعالى فأغناني عن أبي يزيد (قال أبو تراب فهاج طبعي ولم أملك نفسي فقلت : ويلك تغتر بالله عز وجل، لو رأيت أبا يزيد مرة واحدة كان أنفع لك من أن ترى الله سبعين مرة)[224]. فصاحبنا حين هاج طبعه ولم يملك نفسه، صرح بمكنون عقيدته وهو أن رؤية أبي يزيد البسطامي أنفع من رؤية الله سبعين مرة، لأن البسطامي ملكه أعظم من ملك الله وبطشه أشد من بطش الله وطاعة الله له أكبر من طاعته لله في اعتقادهم . 

  2- ومن مظاهر تفضيل الصوفية أنفسهم على الله تعالى أن جعلوا أولياءهم المتصرفين ليس في الكون فقط بل وفي الله تعالى عن ذلك علواً كبيراً . كما يقول اليافعي عن بعضهم أنه سأل أصحابه ( هل منكم من إذا أراد الحق سبحانه وتعالى أن يحدث في المملكة حدث أعلمه قبل أن يبديه ؟ فقال أصحابه: لا قال: ابكوا على قلوب لا تجد شيئاً من الله تعالى )[225]. أي أن الولي إذا تمكن وصل بتصريفه إلي السيطرة على الله تعالى فلا يبرم الله في العالم أمراً إلا بعد إعلام ذلك الولي به..

    ونحو ذلك ما قاله الشطنوفي في مناقب الجيلاني(كان الشيخ حياة بن قيس يقول إن الله يدر الضرع في وقتنا هذا وينزل الغيث ويدفع البلاء ببركة الشيخ عبد القادر)[226]. ومعنى ذلك أنه لولا بركة عبد القادر الجيلاني ما استطاع الله أن يدر ضرعاً أو ينزل غيثاً أو يدفع بلاءاً ..تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً ..

   والشعراني أشار إلى تفضيل أعيان المملكة الصوفية من القطب والأبدال على الله تعالى حين قال( إن الله تعالى إذا أراد إنزال بلاء شديد مثلاً فأول من يتلقى ذلك القطب، فيتلقاه بالقبول والخوف، ثم ينتظر ما يظهره الله تعالى في لوح المحو والإثبات والخصيصين بالإطلاق والسراح، فإن ظهر له المحو والتبديل نفذه وأمضاه في العالم بواسطة أهل التسليك الذين هم سدنة ذلك ، فينفذون ذلك وهم لا يعلمون أن الأمر مفاض عليهم، وإن ظهر له الثبوت دفعه إلى أقرب عدد ونسبة منه ، وهما الإمامان فيتحملان به، ثم يدفعانه إن لم يرتفع إلى أقرب نسبة منه كذلك، حتى يتنازل إلى أصحاب دائرته جميعاً، حتى يرفعه الله عز وجل، ولو لم يحمل هؤلاء ذلك من العالم لتلاشى في طرفة عين)[227]. فالقطب وأعوانه يتحكمون في ملك الله تعالى ولولاهم لتلاشى العالم. والله تعالى – مع ذلك الاحتياج  للقطب وأعوانه – ينزل بالبلاء على العباد ، ويتكرم القطب وأعوانه بتحمل ذلك البلاء عن العالم : - أي أن الله تعالى جبار على العالم منزوع السلطات في نفس الوقت..وهذا تناقض لا نظير له إلا في الدين الصوفي..

  وبعض الأولياء الصوفية المتصرفين في الكون – بزعمهم – تجرأ على مخالفة أمر الله تعالى ورد قضائه بالموت وطرد عزرائيل، كما فعل محمد الشربيني والشويحي، وتعرضنا لذلك في تأليه الولي وسيطرته على الملائكة..

  3- وفي مجال التوسل فضلوا الولي على الله تعالى. يقول الشعراني مثلاً أن الحنفي (شمس الدين الحنفي) (كان .. يعٍّدي من مصر إلى الروضة ماشياً على الماء وهو وجماعته، فكان يقول لهم : قولوا يا حنفي وامشوا خلفي وإياكم أن تقولوا يا ألله، فخالف شخص منهم وقال يا الله فزلقت رجله فنزل إلى لحيته في الماء..)[228]. ففي هذه الأسطورة كان التوسل بالحنفي مجدياً في المشي على الماء، أما من يتوسل بالله فالمصير هو الغرق، فهنا تفضيل مهما كان التعليل..

   واشتهر البدوي في الأساطير الصوفية بإحياء الموتى يقول عبد الصمد الأحمدي (ومن كراماته. أن امرأة مات لها ولد صغير، فجاءت إلى سيدي أحمد البدوي، وهى باكية، وقالت: يا سيدي ما أعرف ولدي إلا منك ، وقام الفقراء ليمنعوها فلم يقدروا، وهى تقول: توسلت إليك بالله ورسوله، فمد سيدي أحمد البدوي يده إليه، ودعا له، فأحياه الله ببركة دعائه.. نفعنا الله تعالى ببركاته)[229].  فالمرأة توسلت للبدوي بالله ورسوله.. أي جعلت الله والرسول وسيلة وواسطة للبدوي، وعلى ذلك فالبدوي عندهم أعلى شأناً من الله .. فالبدوي هو المُتوسل إليه والله هو المتوسِل به، ثم كان الإحياء المزعوم ببركة دعاء البدوي – لا بقدرة الله تعالى .

ويتكرر في الكتب الصوفية وكتب المناقب على الأخص .. تعبير( نفعنا الله ببركاته) كما في النص السابق. ومعناه أن بركة الصوفي هي الأصل وعن طريقها يتمكن الله تعالى من النفع بها ، ولولاها لما كان هناك نفع ، ومعلوم أن البركة عندهم هي سر الولي وقدرته على التصريف، فجعلوا بركة الولي وسيلة لله يجري بها النفع للعباد، كما سبق في القول السابق عن الجيلاني من أن الله يدر الضرع وينزل الغيث ويدفع البلاء ببركته..

   4- وللمدرسة الشاذلية نزعة غريبة في تفضيل الولي على الله تعالى – لا أجد لها تعبيراً مناسباً – ولعل من الأفضل أن نتفهم النصوص المعبرة عن ذلك.. يقول الشاذلي (لما علم الله عز وجل ما سيقال في هذه الطائفة على حسب ما سبق به العلم القديم، بدأ سبحانه وتعالى بنفسه، فقضى على قوم أعرض عنهم بالشقاء، فنسبوا إليه زوجة وولداً وفقراً وجعلوه مغلول اليدين، فإذا ضاق ذرع الولي أو الصديق لأجل كلام قيل فيه من كفر وزندقة وسحر وجنون وغير ذلك ، نادته هواتف الحق في سره .. أما ترى إخوتك من بني آدم كيف وقعوا في جنابي ونسبوا لي ما لا ينبغي لي ، فإن لم ينشرح لما قيل نادته هواتف الحق أيضاَ أما لك بي أسوة فقد قيل فيّ ما لا يليق بجلالي)[230]. أي أن الله – تعالى – ارتضى لنفسه أن يكفر به الناس وما لا يليق من وصف وكل ذلك ليكون أمثولة وعبرة للولي الصوفي، فإذا سبّ الناس الولي الصوفي قال له الله ألا تتأسى بي فإنهم يقولون فيِّ أيضاً كذا وكذا.. فهي طريقة شاذلية فريدة في تفضيل شأن الولي على الله ، إذ استخدموا الله تعالى في حربهم للمنكرين وقاسوا الإنكار عليهم بالكفر على الله تعالى ، وجعلوا الله تعالى يجعل الناس يكفرون بألوهيته تعالى ويتقولون عليه رعاية لجناب ذلك الولي الصوفي وحتى لا يضيق بأي نقد.

 ويقول المرسي لمريديه (ما سمعتموه مني ففهمتموه  فاستودعوه الله يرده عليكم وقت الحاجة، وما لم تفهموه فكلوه إلى الله بتولي بيانه، واسعوا في جلاء مرآة قلوبكم يتضح لكم كل شئ)[231]. فالمرسي لا يُفهم أحد شيئاً . بل يدع الله يتولى بيان كلامه للمريدين ويطلب منهم أن يطهروا قلوبهم ليستحقوا فهم كل شئ من مراده .أما إذا حدث وفهم المريد فمطلوب منه أن يستودع الله ما فهمه من المرسي . أي أن الله تعالى واسطة بين المرسي ومريديه. يستخدم في حفظ المعلومات المفهومة وتوضيح المعلومات المبهمة .

 وفي ذلك بعض الشبه أو التأثير بالحياة التعليمية في العصر المملوكي التي قامت على أستاذ وعريف وطالب .. ووظيفة العريف( أو المعيد) أن يعيد للطلبة كلام الشيخ ويفهمهم ما عجزوا عنه .فأنظر إلى أي درجة نظر المرسي لله تعالى ، وفي أية مكانة وضعه فيها في حلقة درسه..          

 

ج1 ب2 ف 3 : الصوفية أولياء الشيطان

   كتاب (التصوف والحياة الدينية فى مصر المملوكية )

 الجزء الأول : العقائد الدينية فى مصر المملوكية بين الاسلام والتصوف .

  الباب الثانى :  تقديس الولي الصوفي في مصر المملوكية

الفصل الثالث :ملامح تأليه الولى الصوفى فى العصر المملوكى

                         الصوفية أولياء الشيطان :

 أولا : المقصود بالعبادة والتقديس  هو الله جلا وعلا وهو الولي ولا ولي سواه                        

1-   رأينا كيف انزلق الصوفية بعد تزكية أنفسهم إلى تأليه ذواتهم واعتبارها شركاء لله  في ملكه وحكمه ، مع أنه تعالى لا يشرك في حكمه أحداً ولا واسطة بينه وبين عباده .والواقع أن الولي المقصود بالعبادة والتقديس لا يكون سوى الله تعالى .فقد وصف تعالى نفسه بصفة الولي المقدس المعبود في معرض الاحتجاج على المشركين الذين اتخذوا لأنفسهم أولياء غير الله .. يقول تعالى ( أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِي المَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ الشورى 9 ) .. وفي الآية الكريمة إشارة إلى أن الله هو الولي الحقيقي ، فهو الذي يحيي الأموات ومنهم أولئك المقبورون الذين يعتقد المشركون في ألوهيتهم ، مع أنهم لا يقدرون على شئ ، والله هو القدير على كل شئ سبحانه وتعالى عما يشركون . ويقول تعالى ( قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ ؟ قُلْ إِنِّيَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكَينَ :الأنعام14 ). فالرسول عليه السلام أمره ربه أن يقول للمشركين أيمكن أن يتخذ ولياً سوى الله تعالى ، وهو الذي خلق السماوات والأرض وهو الذي يطعم الخلق ولا يطعمه الخلق . . وفي ذلك تعريض بأولياء الشرك التي لا تقدر على أن تخلق بل هي مخلوقة ، بل وتعيش عالة على رزق يأتيها ممن يعبدونها .

2-ومن سمات الإسلام أن يكتفي المسلم بالله ولياً (وَكَفَى بِاللّهِ وَلِيّاً وَكَفَى بِاللّهِ نَصِيراً :النساء 45)، ذلك أن الولاية الحقيقية لله تعالى وحده  (هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ :الكهف44) ..فقد وصف تعالى نفسه بالولي ( وهو الولي الحميد .. الشورى 28 ) فلا ولي للعالمين غيره (مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ: السجدة 4)..  (مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا  يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً: الكهف 26 )..

4-ولأن الصوفية لم يؤمنوا بالله تعالى ولياً فإنهم بالغوا في تقديس أوليائهم وتأليههم على حساب الله تعالى ، ولم يكتفوا بذلك بل ألمحوا إلى تفضيل هذه الأولياء على الله تعالى عن ذلك علواً كبيراً ، ولا ريب أن الشيطان هو  الذي أوقعهم في هذا الشطط ، فهو الولي للمشركين ، سواء كانوا معتدلين أم متطرفين .

ثانيا : الشيطان ولى الصوفية

   1-   بدأنا مبحث الولي بتفصيل عن الولي في القرآن الكريم وانتهينا منه إلى أنه مجموعة صفات من الإيمان والصلاح والتقوى ، صفات عامة ولا يعلم حقيقتها إلا الله ، وطالما كان الإنسان  حيا فهو في صراع مستمر مع الشيطان ، فتتغير تلك الصفات الحسنة فيه بالزيادة والنقص ، وفي نهاية حياته تكون المحصلة النهائية ، وبها يعرف مكانته أهو ولي لله تعالى مصيره للجنة أم ولي للشيطان مصيره للجحيم . ثم عشنا مع ولي التصوف الذي يزكي نفسه وتزكيه طائفته وتصل به إلى مرتبة الألوهية وتزيد . وإذا كان أولئك الصوفية خرجوا على حدود الالتزام الإسلامي حين قاموا بتزكية أنفسهم فإنهم قد تطرفوا حين ألهوا أولياءهم من دون الله ، وبذلك تنطبق عليهم سمات ولي  الشيطان التي أوردها الله تعالى في القرآن الكريم ..

   2- وقضية تقسيم الولاية بين الله والشيطان قضية عقيدة لا تحتمل التوسط عند الله ، فأما أن يكون المرء عند موته مؤمناً أو مشركاً ، أى إما أن يكون من حزب الله أو من حزب الشيطان، ولا مجال للتوسط . ({اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ :البقرة 257}). فالمؤمنون لا يتخذون لهم ولياً إلا الله ، فالله يخرجهم من ظلمات الشرك والاضطهاد إلى نور الإسلام ، أما أولئك الذين يتخذون لأنفسهم أولياء من دون الله فالشيطان وليهم يخرجهم من نور الفطرة السليمة إلى ظلمات الشرك والجحيم .. وليس بين الفرقتين طائفة ثالثة ..

3-وأصابع الشيطان وراء كل مظهر شركي وقع فيه أولئك الصوفية .يشمل ذلك  بداية خروجهم على الالتزام الإسلامي حين زكوا أنفسهم وتمنوا على الله تعالى الأماني . فالشيطان هو الذي وسوس لهم بذلك حسبما يذكر الله تعالى عن دور الشيطان . فقد أعلن إبليس منذ البداية خطته للإيقاع ببني آدم (وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ ) النساء 119)..التمني على الله من وساوس الشيطان ( يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً ..النساء120 ) .. وقد فعل ذلك بالمنافقين (..وَلَكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاء أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ).الحديد14 )  والغرور( بفتح الغين ) هو الشيطان ،  سمى بذلك لأنه يغرر بالإنسان ويزين له تزكية النفس على الله تعالى .

ثالثا : مزاعم الصوفية فى أن ابليس يزكيهم  

1 ــ ونلمح تزكية الشيطان للصوفية في ادعاءات الصوفية أنفسهم .. فإبليس قد يزكي أفراداً من الصوفية .

يزعم  قيس بن الحجاج ( قال لي شيطاني : دخلت فيك وأنا مثل الجزور وأنا الآن مثل العصفور ) [232].

 فهنا تزكية مباشرة ومدح واضح واعتراف صريح من الشيطان لابن الحجاج بأنه عجز عن إفساده ، ومطلوب منا أن نصفق لابن الحجاج الذي أرهق شيطانه بتقواه وبدّله من بعد السمنة نحولاً .

وقد تكون التزكية الشيطانية للصوفي ملتوية وغير مباشرة – وهي أبعد أثراً كما يروي الغزالي من أنه ( كانت لمحمد بن واسع استعاذة من الشيطان ، فقابله إبليس يوماً فقال له :هل تعرفني يا ابن واسع ؟ قال : ومن أنت ؟ قال : أنا إبليس فقال : وما تريد ؟ فقال له : أريد ألا تعلم أحداً هذه الاستعاذة ولا أتعرض لك ..)[233] . فلابن واسع تعويذة رهيبة – لا نعرفها مع شدة الأسف – وهذه التعويذة المجهولة فعلت فعل السحر بإبليس فعقد صلحا مع ابن واسع ينص على أن يتعهد ابن واسع بعدم تعليمها لأحد حتى لا تضيع  جهود إبليس هباء ،وذلك في نظير ألا يتعرض إبليس لابن واسع بسوء ، فيضمن ابن واسع لنفسه العصمة من إبليس ،  ويتفرغ إبليس لمهمته في إفساد  البشر جميعا سوى ابن واسع . ولا ريب أن تلك الاستعاذة المجهولة أبعد أثرا مما أورده القرآن الكريم في المعوذتين ومن قوله تعالى لرسوله {وَقُل رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ ،وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ المؤمنون 98:97}.. فالتزكية لابن واسع هنا وإن كانت ضمنية إلا أنها متطرفة ، فقد رفعته فوق مستوى البشر بل والرسل .

 2 ــ وقد تكون التزكية لطائفة الصوفية بأسرها على لسان إبليس يرويها أعيان الصوفية كالجنيد القائل ( رأيت إبليس في المنام عرياناً فقلت ألا تستحي من الناس ؟ فقال إبليس : وهؤلاء ناس ؟ الناس أقوام في مسجد الشونيزيه قد أحرقوا كبدي .. قال الجنيد فلما انتهيت غدوت إلى المسجد فرأيت جماعة قد وضعوا رءوسهم على ركبهم يتفكرون ، فلما رأوني قالوا : لا يغرنك حديث الخبيث .. )[234] . أى إن صوفية مسجد ذلك المسجد أحرقوا كبد ابليس وجعلوه يسير عريانا ، فيشفق عليه الجنيد من الفضيحة ومن شدة البرد، ويعترف ابليس له بالسبب ، وأن صوفية هذا المسجد هم السبب ، فيذهب اليهم الجنيد فيقولون له ألّا يصدق ابليس الخبيث.!

     ويكرر المسوحي هذه الاسطورة فيقول :( رأيت إبليس يمشي عرياناً فقلت ألا تستحي ؟ فقال يا الله هؤلاء ناس .. لو كانوا من الناس ما كنت العب بهم طرفي النهار كما يتلاعب الصبيان بالكرة بل الناس قوم غير هؤلاء قد أسقموا جسمي . وأشار بيده إلى أصحابنا الصوفية )[235].

رابعا : الصوفية أولياء الشيطان :

    1- ويفهم من النصين السابقين الود القائم بين الجنيد والمسوحي من ناحية وإبليس من ناحية أخرى .. حتى أنهما يعتبان عليه المشي عرياناً في السوق خشية الإنكار عليه من الناس الآخرين ، وذلك الود يشي بالولاء بين إبليس  والصوفية ، وهذا يناقض الاسلام ، ذلك أن المسلم مطالب باتخاذ إبليس عدواً أبدياً  ( وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ ، إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ :فاطر 5، 6).. وذلك الرد الذي تظهره كلمات الصوفية المعتدلين كالجنيد والغزالي يعبر عنه بوضوح القرآن الكريم بالموالاة بين إبليس وحزبه ، وقد أبرز القرآن الكريم نواحي شتى للموالاة بين الجانبين .

    2- فالصوفية يقيمون الأضرحة على قبورهم ، ويتقرب الناس لهذه الأضرحة بالتقديس والتبرك والنذور ، والأضرحة هي الأنصاب المذكورة في القرآن الكريم والتي كان يتقرب إليها الجاهليون بالذبائح والنذور ويحاولون من خلالها معرفة الغيب الإلهي. وذلك كله من عمل الشيطان ،يقول تعالى :(.. إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ :المائدة 9) . والعقل البشري العادي يرفض فكرة عبادة الأحجار سواء كانت أصناماً أم قبوراً وأنصاباً . ولا فارق بين حجارة عادية وحجارة مقامة على قبر مقدس ، إلا أن الشيطان يزين لأتباعه تقديس هذه الأحجار والتبرك بها رعاية للصوفي المدفون تحتها ، حتى أن ذلك الصوفي المقبور ـــ والذي أضحى جيفة يتقزز الإنسان من لمسها ويفزع من مجرد رؤيتها ـــ ذلك الصوفي المقبور لا شأن لجسده المتحلل بأي من هذا التقديس . فقد بلى وتحلل وأصبح رماداً . فالمعبود في الحقيقة هو الشيطان ، الذي زين للناس  مخالفة عقولهم ودينهم ، يقول تعالى عن المشركين السابقين وعقائدهم وأفعالهم : ( وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ.. :الأنعام 43).. (تَاللّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ: النحل63)..( وَعَاداً وَثَمُودَ ،وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم مِّن مَّسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ: العنكبوت:38) .. 

3 ــ وقد قال تعالى للبشر(يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ.. الأعراف 27).  وأدنى عبادة للشيطان هي امتثال أمره والإعراض عن أوامر الله .وتكتمل عبادة الشيطان بالشرك واتخاذ الأولياء من الإنس والجن . لذا يقول تعالى بأسلوب القصر ( إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثاً وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَاناً مَّرِيداً، لَّعَنَهُ اللّهُ.. النساء 117، 118). فالمعبودون من دون الله إما ملائكة عبدت رغم أنفها ، وإما شياطين غرروا بالناس وجعلوهم يعبدون الأحجار والأولياء وجثث الموتى المتحللة ، وهي لا تعدو أن تكون وسائط يعبدون الشيطان من خلالها . وهكذا كان النهي الإلهي صريحاً للبشر بألا يعبدوا الشيطان من خلالها . وهكذا كان النهي الإلهي صريحا للبشر بألا يعبدوا الشيطان ( أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ ، وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ ، وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنكُمْ جِبِلّاً كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ ) يس 60: 62).أى فإما أن تعبد الله وحده وإما أن تكون عابداً للشيطان دون أن تدري ، وكان إبراهيم صريحاً مع أبيه حين قال له  ( يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيّاً .. مريم44) ..

4 ــ  هذا .. ولقد قال الغزالي ( .. فإما معرفة ذاته وصفاته وحقيقته فذلك ميدان العارفين المتغلغلين في علوم المكاشفات )[236] ومن يقرأ هذه العبارة يعتقد أن المقصود بمعرفة ذاته وصفاته هو الله تعالى ، فذلك كثيراً ما يتردد في كتب الصوفية عن الله تعالى وأن الأولياء هم وحدهم العارفون به وبأسراره وبعلمه اللدني .ولكن الغزالي يقصد بتلك العبارة إبليس .ويرى أن العارفين المُكاشفين العالمين بالغيب هم الذين يعرفون ذاته وحقيقته وصفاته . فهنا نوع من المشاكلة يشي بتقديس إبليس . ومع أن الكذب واضح في تلك الجملة – فإبليس بذاته وصفاته سمعيات لا يعلمها إلا الله تعالى – فإن تعمد الكذب والإقدام عليه يفضح نفسية الصوفية في الاهتمام بإبليس ورعاية شأنه .

5-ويفتري الصوفية على الله كذباً فيدعون الوحي عن طريق ملك الإلهام أو بلا واسطة بالعلم اللدني والصوفية هم أصحاب الهاتف والمنام ومخاطبة الحق جل وعلا . وهذا الإفك المفترى على الله من سمات الشرك الأساسية ، ومرجعها للشيطان . فإذا كان الله تعالى هو الذي يوحى  إلى أنبيائه وهم صفوة خلقه فإن الشيطان يوحي إلى أعوانه بزخرف القول . يقول تعالى عن أعداء الأنبياء (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ ، وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ .. الأنعام112، 113)..     فقد بلغت الموالاة بين رءوس الشرك من الإنس والجن مبلغ المساواة ، وعبر عنها القرآن بقوله (شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ ) فقد أصبح رءوس الشرك شياطين يوحون للشياطين ويوحي إليهم الشياطين . وقد قال تعالى عن القرآن الكريم  ( وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ ، وَمَا يَنبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ) الشعراء210، 211}.. وقال عن أفك المشركين وادعاءاتهم ( هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ ، تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ ، يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ ..الشعراء 221: 223} ..

6-   هذا .. ولقد عرض الغزالي صراحة لمكاشفة إبليس أو وحيه للصوفية .وقد ارتفع بإبليس إلى منزلة الملائكة يقول ( إن الملك والشيطان لهما صورتان هي حقيقة صورتهما ولا تدرك حقيقة صورتها إلا بالمشاهدة بأنوار النبوة ..) [237]. ويقول عن إبليس ( والأكثر أنه يكاشف أهل المكاشفة  من أرباب القلوب (يعني الصوفية ) بمثال صورته فيتمثل الشيطان له في اليقظة فيراه بعينه ويسمع كلامه بإذنه فيقوم ذلك مقام حقيقة صورته ، كما ينكشف في المنام لأكثر الصالحين ، وإنما المكاشف في اليقظة هو الذي انتهى إلى رتبة لا يمنعه اشتغال بالحواس بالدنيا عن المكاشفة التي تكون في المنام فيرى في اليقظة ما يراه غيره في المنام )[238]. أي أن تجلي إبليس في  اليقظة لا يكون إلا لمن انتهى إلى أكبر رتبة بينهم وغيره لا يحظى برؤيته إلا مناماً . وهكذا يتضح أن الصوفية يقولون في إبليس ورؤيته نفس ما يقولونه عن الله تعالى وعلمه اللدني . فالغزالي يعقب على مقالته السابقة بقوله ( فإن القلب لابد وأن تظهر فيه حقيقة من الوجه الذي يقابل عالم الملكوت وعند ذلك يشرق أثره على وجهه الذي يقابل به عالم الملك والشهادة ، لأن أحدهما متصل بالآخر ، وقد بينا أن القلب له وجهان : وجه إلى عالم الغيب وهو مدخل الإلهام والوحي ووجه إلى عالم الشهادة ..) وهكذا إلى أن يقول ( وهذه أسرار عجيبة من أسرار عجائب القلب ، والمقصود أن تصدق بأن الشيطان ينكشف لأرباب القلوب وكذلك الملك تارة بطريق التمثيل والمحاكاة كما يكون ذلك في النوم وتارة بطريق الحقيقة والأكثر هو التمثيل بصورة محاكية للمعنى ..)[239]. ولذا كان الصوفية يعرفون ذاته وصفاته وحقيقته معرفتهم بالله وذاته .. وتناسى الغزالي أن رؤية إبليس يقظة ومشافهة بالشخص مستحيلة فقد قال تعالى ( إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ.. الأعراف27).. إلا أن عدم رؤيته يقظة لا تمنع موالاته فالشيطان خلف نفس ابن آدم ويحركه بالوسوسة والتلبيس والتغرير وبشتى الحيل حتى يملك عليه أقطاره ويستحوذ عليه  (اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ .. المجادلة19)..

7-   وحينئذ يكونون أولياء الشيطان معبرين عنه ، يتلقون وحيه الشيطانى وينسبونه لله تعالى إفتراءاً عليه ، وإذا تطرفت العلاقة بين الشيطان وأوليائه قام أولياء الشيطان بنشر وحى الشيطان علانية ينسبونه علانية إلى الشيطان دون تحرج ، كما ورد في الكتابات الصوفية . وقد رأينا طرفاً من ذلك ، فالوحى الشيطانى للصوفية يأتى مباشرا مٌعلنا عنه كما يأتى ضمنيا . وهذا الوحي الشيطاني الضمنى هو المصدر الأساسي لدين التصوف وكل ادعاءاته ، وهو أيضا المصدر الأساس والوحيد لكل الأديان الأرضية .

    8- وبعض كبار الصوفية المشرعين في الدين الصوفي أعلن صراحة نسبة كلامه وآرائه إلى وحي إبليس ، ولم ينس أن يصبغ ذلك حيناً ببطولة وهمية له كقول أبي سعيد الخراز ( رأيت في المنام كأن إبليس وثب على فأخذت العصا لأضربه فلم يفزع منها فهتف بي هاتف : إن هذا لا يخاف من هذه وإنما يخاف من نور يكون في القلب )[240] . والقلب عند الصوفية كل الأسرار والأنوار الإلهية . وقد ارتدى إبليس في وحي آخر عمامة التصوف يقرر لهم ما يجوز كما حكى الجنيد من أنه رأي إبليس في النوم ( فقلت له هل تظفر من أصحابنا بشيء قال : نعم ، في وقتين : وقت السماع ووقت النظر فإني أدخل عليهم به) [241] . وعجيب أن يفشي إبليس أسرار مهنته للجنيد ويفضح طريقته في إغواء الصوفية ، ولكن يزول العجب إذا علمنا أن مقصد الجنيد أو إبليس هو التشريع  للصوفية في السماع وفي النظر . وتلك أمور صوفية خالصة لا شأن للإسلام بها إذ هي خارجة عن منهاجه وتستلزم نوعاً من التوجيه ولن يأتي التوجه والوحي إلا من إبليس .      وبعض الوحي الشيطاني الصوفي يحمل في داخله دعوة ضمنية للانحراف والانخراط فيه بدافع اليأس من مجاهدة الشيطان وذلك كقول خيثمة بن عبد الرحمن ( إن الشيطان يقول : ما غلبني ابن آدم فلن يغلبني على ثلاث : أن آمره فيأخذ المال من غير حقه وإنفاقه في غير حقه ومنعه من حقه )[242]. ويقول الغزالي ( وقيل إن الشيطان يقول : كيف يغلبني ابن آدم وإذا رضي جئت حتى أكون في قلبه وإذا غضب طرت حتى أكون في رأسه )[243].

    9- ولقد أبرز الله تعالى الصورة الحقيقية لإبليس كعدو أبدي لابن آدم ووصفه بما يستحق من صفات ذميمة كالكفر والحسد والكبر والإضلال وغيرها .. وكأنما عز على  الصوفية أن تشوه صورة إبليس إلى هذا الحد ، فحاولوا القيام بعملية تجميل لوجه إبليس ، وأظهروه بمظهر النبي المصلح ، الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر ، يقول الغزالي ( روى صفوان بن سليم أن الشيطان تمثل بعبد الله بن حنظله فقال له : يا ابن حنظله أحفظ عني شيئاً أعلمك به : يا ابن حنظله لا تسال أحداً غير الله سؤال رغبة ، وانظر كيف تكون إذا غضبت فإني أملكك إذا غضبت )[244]. وبعض هذه النصائح المزعومة كانت تفضح وسائل إبليس في الإغواء رغبة في إتمام عملية التجميل والتحسين وأنه يحذر بني آدم من خطورته وإن لم يفعلوا بوصاياه الجميلة فهو مضطر لإغوائهم كأن يقول لبعض الأولياء – وقد سأله كيف تغلب ابن آدم – ( آخذه عند الغضب  وعند الهوى )[245]. أو كقوله في النص السابق ( .. وأنظر كيف تكون إذا غضب فإني أملكك إذا أغضبت )..

  10- ونحن إما أن نصدق هذه الصورة الجميلة التي رسمها الصوفية لإبليس لعنه الله وإما أن نؤمن بما أورده القرآن الكريم عن إبليس اللعين الرجيم الذي بلغ حقده على آدم وحواء وهما في محنتهما حين  أخرجهما من  الجنة أن كان يتشفى فيهما فينزع عنهما لباس الجنة ليريهما عوراتهما . يقول جل وعلا يحذرنا :( يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ .. الأعراف27).إن الله سبحانه وتعالى يقول لنا ( إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِير ..ِ فاطر6).. والتأمل في هذه الآية الكريمة فيه الرد على الأقاويل الصوفية السابقة. وفيه الإشارة للعلاقة ببين الشيطان وأتباعه . ومراجعة المنامات الصوفية وما يزعمونه عن الهاتف والعلم اللدني والأحاديث المزيفة كلها تدخل في باب الوحي الشيطاني في التشريع وفي الغيوب .

 

 

 



[1]
- إحياء جـ1 / 83 .

[2] - إحياء جـ4/ 305.

[3] - سيرة المنصور . مخطوط مجلد 1 لوحة 10 .

[4] - التبر المسبوك 68 .

[5] - إحياء جـ1/ 18 .

[6] - إحياء جـ 4 / 421 .

[7] - إحياء جـ3 / 30 .

[8] - إحياء جـ4/ 147 .

[9] - الجواهر والدرر 264

[10] - الطبقات الكبرى للشعراني جـ1/ 6

[11] - الطبقات الكبرى للشعراني جـ 1/ 6.   

[12] لطبقات الكبرى للشعراني جـ1/ 9 .

[13] إحياء جـ4/176.

[14] تحفة الأحباب 465.

[15] - الطبقات الكبرى على الترتيب جـ1/ 15. 16 . جـ2 / 156 . 164 .

[16] - الطبقات الكبرى على الترتيب جـ1/ 15 . 16 جـ2 / 156 . 164 .

[17] -  الطبقات الكبرى على الترتيب جـ1 / 15 . 16 جـ2 / 156. 164.

[18] - الطبقات الكبرى  على الترتيب جـ1/ 15 . 16 جـ2 / 156 . 164.

[19] - نفس المرجع جـ 1 /135.

[20] -الطبقات الكبرىجـ1/143

[21] - مناقب الحنفي مخطوط3.

[22] - الطبقات الكبرى جـ 2/ 81.

[23] - لطائف المنن لأبن عطاء71.

[24] - المفاخر العلية 3 :4 .

[25] - اللمع 58.

[26] -اللمع  على الترتيب 56 ، 48 ، 57.

[27] - اللمع  على الترتيب 56 ، 48 ، 57.

[28] - اللمع على الترتيب56، 48 ، 57 .

[29] - اللمع  على الترتيب 56 ، 48 ، 57 .

[30] - إحياء جـ 4 / 306 ، 267 .

[31] - إحياء جـ 4 / 306 ، 267 .

[32] - إحياء جـ 4 / 304 .

[36] - الطبقات الكبرى للشعراني جـ 2/ 12 ، تعطير الأنفاس 308 .

[37] - تعطير الأنفاس 28 . ولطائف المنن لابن عطاء 88.

[38] - مناقب الوفائية 55 .

[39] - مناقب الوفائية 70 .

[40] - الطبقات الكبرى للشعراني جـ 2 / 55 .

[41] - إحياء جـ 4 / 265 :266 .

[42] -  مناقب الفرغل مخطوط 34 ، 21 .

 

[43] - مناقب الفرغل مخطوط 34، 21 .

[44] - أخبار القرن العاشر مخطوط 175 .

[45] - طبقات الشاذلية 118 .

[46] - طبقات الشرنوبي مخطوط 2 .

[47] - الطبقات الكبرى للمناوي 254  ب مخطوط .

[48] - عبد الصمد . الجواهر السنية 49 .

[49] - لطائف المنن 411 ط .

[50] - تعطير الأنفاس 37 ، المفاخر العلية 19 .

[51] - تعطير الأنفاس 70.

[52] - تعطير الأنفاس 241 .

[53] مناقب الحنفي 389 مخطوط .

[54] بهجة الأسرار جـ1/21 مخطوط.

[55] الطبقات الكبرى للمناوى 386 مخطوط.

[56] الجواهر والدرر 166 .

[57] المفاخر العلية 15 .

[58] تعطير الأنفاس 273 .

[59] عيون الأخبار مخطوط جـ2/442 . الطبقات الكبرى للمناوى333 .

[60] لطائف المنن لابن عطاء75 .

[61] أخبار القرن العاشر 63 مخطوط ,الطبقات الكبرى للشعراني جـ2/98.

[62] شمة- مسرة العين10مخطوط

[63]   جوهرة الدسوقي103

[64] - إحياء جـ3/65 :66

[65] إحياء جـ3/ 65: 66 .

[66] إحياء جـ2/ 201: 202 .

[67] - إحياء جـ 3 / 78 .

[68] - شذرات الذهب جـ 7 / 350 .

[69] - روض الرياحين 58 .

[70] -  النبهاني كرامات الأولياء جـ 1 / 137 .

[71] - الضوء اللامع جـ 1/ 201

[72] - إحياء جـ4 / 350 .

[73] -  إحياء جـ4 / 35.

[74] - الطبقات الكبرى للشعراني جـ 2/ 163 .

[75] - الجواهر والدرر 140 , 141 ، 142 .

[76] - الطبقات الكبرى للشعراني جـ2 / 169 .

[77] - الشعراني صحبة الأخيار 136 .

[78] - الطبقات الكبرى للشعراني جـ2 / 169 .

[79] عبد الصمد. الجواهر السنية  28 .

[80] - إحياء جـ4 /304 .

[81] - روض الرياحين 179.

[82] - الجواهر السنية 6، 7 ,  10 .

[83] - الشعراني : تنبيه المغترين 130 .

[84] - الشعراني . درر الغواص 3 .

[85] - الشعراني درر الغواص 2 .

[86] - مسرة العينين مخطوط ورقة 74 ب .

[87] - الرسالة القشيرية 31.

[88] - إحياء جـ3/ 18 .

[89] - إحياء جـ1 / 27 .

[90] - إحياء جـ 4/ 27 .

[91] - إحياء جـ2/ 259 . جـ3 / 21. 58 .

[92] - روض الرياحين: 57، 58 ، 59 ، 60 ، 64 .

[93] - درر الغواص 11 ,

[94] - لطائف المنن 429 . 430 .

[95] - لطائف المنن 429 ، 430 .

[96] - الإلمام للنويري مخطوط جـ 2 / 79 .

[97] - الشعراني  قواعد الصوفية جـ 1/ 158 .

[98] - درر الغواص 81 .

[99] - الطبقات الكبرى للشعراني جـ 2 / 158 .

[100] - الطبقات الكبرى للشعراني جـ 2 / 158 .

[101] - الطبقات الكبرى للشعراني جـ 2/ 158 .

[102] - مناقب الوفائية . مخطوط 43.

[103] - الطبقات الكبرى للمناوى مخطوط 237ب، 339 .

[104] - الطبقات الكبرى للمناوى مخطوط 237 ب،239 .

[105] لطائف المنن 95 .

[106] - ابن الزيات.. الكواكب السارة فى ترتيب الزيارة 316: 317 .

[107]- مناقب الفرغل مخطوط 3.

[108] -الطبقات الكبرى للشعراني جـ2/96

[109] - عبد الصمد الأحمدي..الجواهر السنية 76.

[110] الطبقات الكبرى جـ2/75.

[111] الطبقات الكبرى جـ1/135.

[112] الطبقات الكبرى جـ2/167 .

[113] الجواهر والدرر195 .

[114] مناقب عبد الرحيم القنائى 15 مخطوط .

[115] الطبقات الكبرى للشعراني جـ2/89 .

[116] الطبقات الكبرى للشعراني جـ2/ 160 .

[117] الطبقات الكبرى للشعراني جـ2/ 135 .

[118] - طبقات الشرنوبي مخطوط 3 ، 4 , 7 ، 8.

[119] - المقصود بالمعجزة هي الخارقة التي يتحدى بها الرسول قومه ويدلل بها على صدق دعواه، فالتحدي هو الفارق بين (المعجزة) الموجهة للمشركين (والاختصاص) وهو الخارق الذي يمن الله به على رسله كالإسراء وغيره حيث لا تحدٍ فيه.

[120] - طبقات الشاذلية للكوهن 115 ، 119 .

[121] - طبقات الشاذلية للكوهن 115 ، 119 .

[122] - المفاخر العلية 5 .

[123] بهجة الأسرار ج1/27 مخطوط .

[124] - المفاخر العلية: 5 .

[125] - تعطير الأنفاس 51 مخطوط .

[126] - روض الرياحين 204 .

[127] - تعطير الأنفاس 54 .

[128] - المفاخر العلية 18 .

[129] - مناقب عبد الرحيم القنائي 10 .11  مخطوط الطبقات الكبرى للشعراني جـ 1 / 135 .

[130] -الطبقات الكبرى للمناوي 351مخطوط .

[131] -الطبقات الكبرى للشعراني جـ2 /123, 94.

[132] - لطائف المنن 188 .

[133] - الجواهر والدرر 122 .

[134] - الجواهر والدرر 161.

[135] - عبد الصمد .. الجواهر السنية 37 : 38 .

[136] - الطبقات الكبرى للشعراني جـ2/ 123 .

[137] - بهجة الأسرار جـ2/ 19 : 20  مخطوط.

[138] - الإلمام للنويري مجلد 2 لوحة 74 مخطوط مصور.

[139] - مناقب الوفائية مخطوط 15 : 16 .

[140] - الطبقات الكبرى جـ2/ 78 .

[141] - مناقب الوفائية 77 : 78 .

[142] - الجواهر السنية لعبد الصمد الأحمدي: 47 .

[143] - الجواهر السنية لعبد الصمد الأحمدي 51 .

[144] - لطائف المنن لابن عطاء 96 .

[145] - الدرر الكامنة جـ1/ 21 .

[146] - بهجة الأسرار جـ2/ 28 مخطوط.

[147] - لطائف المنن 187 : 188 ط 1288  الطبعة القديمة.

[148] - لطائف المنن 251 : 252 .

[149] - إرشاد المغفلين 265 مخطوط.

[150] - لواقح الأنوار 126 .

[151] - طبقات الشاذلية 118 .

[152] - الطبقات الكبرى للمناوي 296 مخطوط .

[153] - المدخل جـ 2/ 209 .

[154] - لطائف المنن 438 .

[155] - لبس الخرقة 11 مخطوط  .

[156] - إرشاد المغفلين 254 .

[157] - روض الرياحين 215 .

[158] -  الطبقات الكبرى جـ2/ 93 .

[159] - جوهرة الدسوقي 99 . مكتبة الجمهورية .

[160] - طبقات الشرنوبي مخطوط 3، 4 ، 5 ، 6 ، 7 ، : 12 متفرقات..

[161] - الطبقات الكبرى جـ2 / 157 .

[162] - لطائف المنن 142 ، 143 .

[163] - لطائف المنن 142 ، 143 .

[164] - قواعد الصوفية جـ1 / 167 : 173.

[165] - إحياء جـ4 / 288 .

[166] - إحياء جـ4 / 299.

[167] - الرسالة القشيرية 218 .

[168] -لطائف المنن للشعراني 280 .

[169] جـ2/24 .

[170] -البحر المورود 26 هامش .

[171] الشعراني: إرشاد المغفلين 239 ،240

[172] - الشعراني: إرشاد المغفلين 239 ،240

[173] - الشعراني : إرشاد المغفلين 239 ،240

[174] - إرشاد المغفلي240.

[175] - قواعد الصوفية جـ1/ 187 .

[176] - قواعد الصوفية جـ1/ 64

[177] - مناقب الوفائية : مخطوط 73، 74 : 75 .

[178] - الطبقات الكبرى للمناوي 350 ب مخطوط .

[179] - الطبقات الكبرى للشعراني جـ1 / 153 الطبعة القديمة .

[180] - الطبقات الكبرى للشعراني جـ1/ 143 .

[181] - قواعد الصوفية جـ 1/ 189 .

[182] - لطائف المنن 166 مكتبة عالم الفكر.

[183] - لطائف المنن 278 : 279 الطبعة القديمة.

[184] - إحياء جـ 4/ 225 .

[185] - قواعد الصوفية جـ1/ 188 .

[186] - الطبقات الكبرى للشعراني جـ2/ 37 الطبعة القديمة.

[187] - الطبقات الكبرى للشعراني جـ 2/ 30 الطبعة القديمة.

[188] - إحياء جـ3/ 65 .

[189] - درر الغواص 68 .

[190] - الرسالة 316.

[191] - درر الغواص 83

[192] - لطائف المنن 278 :279 الطبعة القديمة .

[193] - لطائف المنن لابن عطاء 115 تعطير الأنفاس مخطوط 243 .

[194] - لطائف المنن لابن عطاء 238.

[195] - الطبقات الكبرى للشعراني جـ2/ 78 الطبعة القديمة .

[196] - قواعد الصوفية جـ1/ 185: 186 .

[197] - الشيبي الصلة بين التصوف والتشيع جـ 1/ 149, جـ 2/ 62 .

[198] - مناقب الحنفي 147 – 148 مخطوط .

[199] - أورد الدكتور عبد الحليم محمود نص الحزبين في كتابه عن الشاذلي ص 176 , 188 .

[200] - قواعد الصوفية جـ1/ 174 .

[201] - درر الغواص الشعراني ص 4.

[202] - لواقح الأنوار 48 .

[203] - تاريخ البقاعي مخطوط 8 .

[204] - تاريخ البقاعي مخطوط 9 .

[205] -لطائف المنن 545.

[206] - طبقات الشرنوبي مخطوط 1، 4 .

[207] - حسن شمة 55 .

[208] - عبد الصمد . الجواهر 43 ، النفخات الأحمدية 238 .

[209] - لطائف المنن لابن عطاء 44 .

[210] - ياقوت العرشي الطبقات الكبرى 2 / 18 .

[211] - مناقب الحنفي 100 مخطوط.

[212] - مناقب الوفائية 13 مخطوط.

[213] - الشعراني .. صحبة الأخيار 39 .

[214] - الشعراني ، الطبقات الكبرى جـ2/ 103 .، الجواهر والدرر ص 107 .

[215] - الشعراني، الطبقات الكبرى جـ2/ 73 .

[216] - ابن أيبك الداوداري 153 .

[217] - الكواكب السيارة 270 وهناك قصة أخرى عن الشفاعة في نصراني ص 252 ، 253 .

[218] - لطائف المنن للشعراني 299 .

[219] - الشعراني .. الطبقات الكبرى جـ2 / 129 .

 

[220] - ديوان البهاء زهير47 .

[221] - توفيق الطويل : التصوف في مصرفي العصر العثماني 197 .

[222] - شرح القاشاني لفصوص الحكم 53 .

[223] قواعد الصوفية ج1/175 .

[224] - إحياء ج4/ 305 .

[225] روض الرياحين 69 .

[226] - بهجة الأسرار ج2/73 مخطوط

[227] - الطبقات الكبرى جـ2/ 146 ، درر الغواص 14.

[228] - لواقح الأنوار 245.

[229] - الجواهر السنية 43 .

[230] - الطبقات الكبرى للشعراني جـ1/ 29 البحر المورود 15: 16 .

[231] - لطائف المنن 134 .

[232] - إحياء جـ 3/26.

[233] - إحياء جـ3/23

[234] -  إحياء جـ4/433

[235] - إحياء جـ/4 / 432

[236]- إحياء جـ3/25.6

[237] - إحياء جـ3/34: 35 .

[238] - إحياء جـ3/34: 35.

[239] - إحياء جـ3/34: 35.

[240] - إحياء جـ4/432.

[241] -إحياء جـ2/266

[242] -إحياء جـ3/ 29.

[243] -إحياء جـ3/29.

[244] -إحياء جـ3/28

[245] - إحياء جـ3/28

كتاب ( التصوف والحياة الدينية فى مصر المملوكية
يقع فى ثلاثة أجزاء تتناول بعد التمهيد أثر التصوف فى العقائد الدينية والعبادات الدينية والحياة الأخلاقية فى مصر العصر المملوكى . تعطى مقدمة الكتاب لمحة عن أصل هذا الكتاب ، وأنه كان ضمن الأجزاء المحذوفة من رسالة الدكتوراة التى قدمها المؤلف للمناقشة حين كان مدرسا مساعدا فى قسم التاريخ الاسلامى بجامعة الأزهر عام ذ977 ، ورفضوها وبعد إضطهاد دام ثلاث سنوات تم الاتفاق على حذف ثلثى الرسالة ، ونوقش ثلثها فقط ، وحصل به الباحث على درجة الدكتوراة بمرتبة الشرق الأولى فى اكتوبر 1980 . من الأجزاء المحذوفة من الرسالة ينشر المؤلف هذا الكتاب بأجزائه الثلاثة ، يوضخ فيه أثر التصوف فى مصر المملوكية ويعرض فيه عقائد التصوف
more