رقم ( 2 ) : جذور حرية الرأي في عقيدة الإسلام
القسم الأول :

جذور حرية الرأي في عقيدة الإسلام :







حرية الرأي للإنسان هي الأساس في وجوده في هذه الدنيا . بل هي الأساس في خلق الله تعالى للكون وهى الأساس في فكرة اليوم الآخر . إلى هذا الحد تمتد جذور حرية الرأي في عقيدة الإسلام .وذلك بالقطع ينهى كل الحجج التي يخترعها أنصار مصادرة الرأي باسم الدين .ونأتي إلى آيات القرآن الخاصة بذلك الموضوع وبالترتيب .









(1)







فالله تعالى أبدع هذا الكون بما فيه من كواكب ونجوم ومجرات . وتلك النجوم والمجرات مجرد مصابيح كما وصفها القرآن للسماء الدنيا ، فالسماوات السبع تقع فيما وراء الكون الذي نعجز عن مجرد تخيله . والله تعالى يقول "لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ : 40 /57".







ولكن هذا الكون وتلك السماوات مع عظمتها الهائلة فقد خلقها الله تعالى لهدف واحد هو اختبار ذلك المخلوق المسمى بالإنسان يقول تعالى " وَهُوَ الَّذِي خَلَق السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً " 11/7، إذن فخلق السماوات والأرض ليختبرنا الله أينا أحسن عملا ...







ونتيجة هذا الاختبار وموعده يكون يوم القيامة ، حيث يدمر الله تعالى ذلك الكون وتلك السماوات ويأتي بأرض جديدة وسماوات جديدة ويحاسب الناس على أعمالهم في الدنيا " يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُواْ للّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ " 14/48".لذا فالإنسان مأمور أن يتفكر في الحكمة من خلق السماوات والأرض :" الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ :3/191 ".







فالله تعالى لم يخلق السماوات والأرض عبثا "وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ: 21/16".بل خلقهما لهدف حق وجعل لهما أجلا معينا يلحقاهما التدمير بعده "مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مسمى: 46/3".







وكل إنسان له اختياره حين يوجد على هذه الأرض ويعيش فيها فترة عمره المقدرة له سلفا ، وبعد هذه الحياة يموت ويعود إلى البرزخ الذي منه جاء، ومطلوب من الإنسان في تلك الحياة أن يعرف أن الله أوجده في هذه الدنيا لاختبار موعده في الحياة الأخرى " الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا: 67/2".







وحين يقضى الإنسان حياته غافلا عن ذلك الهدف من وجوده يفشل في الاختبار ويكون مصيره إلى النار ، ويقول الله تعالى يذكره بالهدف من وجوده " أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ ؟ !!23/115". يقول له هذا في اليوم الآخر بعد أن ينتهي كل شيء!!







(2)







ويلاحظ أن الله تعالى قد جعل عناصر الاختبار متوازنة وعادلة ، فقد خلق الإنسان على الفطرة النقية أي الميزان الحساس الداخلي الذي يميز بين الخير والشر والذي يؤمن بالله وحده ، وفى مقابل هذه الفطرة سلط عليه الشيطان للغواية ، وأرسل له الرسل وأنزل معهم الكتب السماوية وفى مقابل ذلك زين له الدنيا وغرورها،وفوق ذلك كله خلقه حرا في أن يطيع وأن يعصى وفى أن يؤمن وأن يكفر ، وجعل له سريرة يحتفظ فيها بكل أسراره ونوازعه ومشاعره وهواجسه وأفكاره بعيدة عن متناول كل مخلوق سواه لتكون له ذاتيته المستقلة ، فإذا أراد أن يكون حرا كان حرا وإذا أراد بمحض اختياره أن يكون عبدا لغيره من البشر ومن الأفكار كان كذلك ، والمهم أن الاختيار في يده هو ، وعن طريق هذا الاختيار يستعمل الإنسان حريته كما شاء ، فإذا تسلط الآخرون عليه بقوانين غير إلهية وصادروا حقه في الكفر اختار هو في سريرته أن يكفر ، بل أن ينكر الفطرة في داخله وينكر جود الله الذي خلقه .. إلى هذا الحد خلق الله سبحانه وتعالى الإنسان حر الإرادة ، لدرجة أن الله سبحانه وتعالى سمح له أن يصل تفكيره الحر إلى إنكار وجود الخالق تعالى ذاته .







(3)







وفى مقابل هذه الحرية التي خلق الله الإنسان عليها في الدنيا فإن يوم الاختبار أو يوم القيامة – لا مجال فيه للحرية أو الاختيار ، فتلك الحرية الفردية الإنسانية في التفكير والعمل والتصرف تنتهي عند لحظة الاحتضار والموت ، وبعدها يتعين على الإنسان أن يواجه مسئوليته عن عمله الدنيوي ، لذلك فإن حديث القرآن عن يوم القيامة يأتي دائما بصيغة المبنى للمجهول ، يقول تعالى مثلا "وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُم قِيَامٌ يَنظُرُونَ وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاء وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا ...) (وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا )(: الزمر 69/ 73 ، فلم يقل وجاء النبيين والشهداء وإنما قال وجائ بالنبيين والشهداء ولم يقل وذهب الذين كفروا إلى جهنم وإنما قال (وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا ) وهكذا قال " وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا " .إذن كل منا يؤتى به يوم القيامة مقبوضا عليه : ( وَجَاءتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ )(: ق21) ، أو بالتعبير القرآني "وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ) (إِن كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ)( : 36/ 32، 53 ". وكلمة محضرون بضم الميم وسكون الحاء وفتح الضاد ، أي يتم إحضارهم حيث تنعدم لديهم حرية الإرادة وإمكانية الهرب .







فالله تعالى أعطانا حرية الإرادة في الدنيا ليختبرنا، وأنزل الدين كتبا سماوية ولم ينزل معها سيفا وملائكة تأمر الناس بإتباع ذلك الدين ، ولم يجعل الجحيم في هذه الدنيا بحيث أن من يكفر ويعصى يؤتى به ليلقى في الجحيم أمام أعين البقية من البشر ، ولو فعل هذا ما كان هناك اختبار أو امتحان ، وإنما أنزل الدين مجردا عن ذلك وترك الحرية لمن يؤمن ولمن يكفر وجعل الامتحان مؤجلا ليوم سماه يوم الدين أو يوم (الحساب) وقال أنه سيأتي في ذلك اليوم وسيحكم فيه بين الناس بذاته ، وحين يأتي الله تعالى يوم الدين وحين تشرق الأرض بنور ربها فقد انتهت إلى الأبد حرية البشر في الإرادة وتعين عليهم أن يواجهوا نتيجة عملهم الذى كان .







( 4)







والله تعالى لم يعط سلطته في الدنيا لبعض الناس ليعاقبوا باسمه من أختلف معهم في الرأي أو من كفر بالله . والذين يدعون لأنفسهم هذا الحق المزعوم إنما يفسدون القضية من جذورها ويتقمصون دور الإله حيث لا إله إلا الله، ويتحكمون فيما رغب عن التحكم فيه رب العزة حين ترك العقل الإنساني حرا بلا قيد يفكر بلا حدود ويؤمن إذا شاء ويكفر إذا أراد ويعلن ذلك بجوارحه كيف أراد . هذه الفئة من البشر علاوة على أنها تزيف دين الله وتغتصب سلطاته التي ادخرها لذاته يوم الدين فإنها أيضا تعطى الحجة لمن ينكر حساب الآخرة وعذاب النار .وحجتهم أنه إذا كان هناك إرغام على الإيمان . وإذا كان هناك إكراه في الدين ، فلا مجال حينئذ لأن يكون هناك حساب وعقاب يوم الدين . بل أنهم يعطون دين الله تعالى وجها قبيحا متشددا دمويا متحجرا متأخرا . ويسهمون في إبعاد أغلبية الناس عنه . وهذا الوجه القبيح لا علاقة له بدين الله تعالى بل هو وجههم هم . وهو دينهم هم . الذي يناقض دين الله تعالى جملة وتفصيلا .







حقيقة الأمر إنهم لا يرغمون الناس على إتباع الدين السماوى الحق ، بل يرغمونهم على إتباع الدين الأرضى الذين يزيفونه و ينسبونه لله تعالى ظلما وعدوانا ، و من خلاله يتسلطون على الناس ـ باسم الله ـ يزعمزن انهم المتحدثون باسمه والوكلاء عنه فى الأرض.







ولأنهم الأعداء الحقيقيون لدين الله فإن الله تعالى شرع القتال والجهاد ضدهم هم .. وشرع القتال والجهاد لا لإرغام الناس على دخول الإسلام وإنما لتقرير حق الناس في الإيمان أو في الكفر وفى رفع وصاية الكهنوت عليهم . والكهنوت هم ، أولئك الذين يدعون التكلم باسم الله ويتحكمون باسمه في عقول الناس وأفكارهم .. حاربهم الإسلام بالجهاد وتشريع القتال ، ولكن أفلح الكهنوت العباسي والشيعي في قلب المفاهيم وتحريف الإسلام عن مواضعه وتفصيل ذلك سنورده فيما بعد.







( 5 )







والله تعالى أوضح في أكثر من موضع في القرآن الكريم بأنه سيحكم بين الناس في اختلافاتهم الدينية يوم القيامة ، ولذا سماه يوم الدين .







وقد كان المشركون يأتون للنبي ليجادلوه عنادا فأمره ربه بأن يعرض عنهم وأن يعلن لهم تأجيل الحكم إلى يوم الدين حيث يحكم الله تعالى بينه وبينهم "وَإِن جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ .اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ : 22/68 : 69 "ويقول تعالى عن حال الكافرين في عدم الإيمان بالقرآن " وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ. الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِّلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ : 22/55: 56 "







وحين انتقل النبي للمدينة وأصبح حاكما لدولة ، وقائدا لأمة ، لم تسمح له نصوص القرآن بإكراه المنافقين على الإيمان والطاعة ، بل كانت لهم حرية الرأي مطلقة ، فقد كانوا يتربصون بالمؤمنين في أوقات الحرب ،وتلك خيانة عظمى في القوانين الوضعية ، ولكن الله تعالى جعل العقوبة عليها مؤجلة إلى يوم الدين حيث سيحكم فيه بين المؤمنين والمنافقين ، يقول تعالى " الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ اللّهِ قَالُواْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُواْ أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُم مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً : 4/141 " .







إن الدين لله وحده ، وقد شاء أن يختبرنا فخلق السماوات والأرض ، ثم خلقنا أحرارا؛ نؤمن إذا شئنا ، ونكفر إذا أردنا ، ولم يجعل سلطة للأنبياء ـ صفوة البشر ـ على إكراه أحد على الإيمان. وكل منا ينتهي اختياره بلحظة وفاته ، وبعد قيام الساعة سيواجه كل منا مصيره في يوم اسمه يوم الحساب أو يوم الدين

حرية الرأى بين الاسلام والمسلمين
يتناول هذا الكتاب حريةالرأى المطلقة التى كفلها الاسلام، ثم كيف صادرها المسلمون بالتدريج خلال تاريخهم .
more