رقم ( 8 )
ج 1 ب 1 ف 4 وحدة الوجود وصراع الفقهاءمع الصوفية في القرنين التاسع والعاشر الهجريين

الباب الأول :  مراحل العقيدة الصوفية وتطورها في مصر المملوكية من خلال الصراع السنى الصوفى           

 الفصل الرابع : وحدة الوجود وصراع الفقهاءمع الصوفية في القرنين التاسع والعاشر الهجريين .

  صراع الفقهاء والصوفية فى القرن التاسع قبل حركة البقاعى   

صوفية ايرانيون متطرفون قادمون لمصر           

1 ــ في بداية القرن التاسع توافد إلى مصر جماعات من أوباش الاتحادية من الشرق احترفت التسول في الطرقات. وكان صدى حركة ابن تيمية لا يزال في الأسماع فهب علاء الدين البخاري الصوفي يهاجم ابن عربي وابن الفارض والاتحاديين ويؤيده في ذلك السلطان ومنافقو القضاة الصوفية .وهكذا فإن الثلث الأول من القرن التاسع شهد خفوتاً في صوت الاتحادية مع كثرتهم العددية الوافدة إلى مصر ، ووصل الأمر إلى حد اضطهاد البارزين من أوباش الاتحادية فقيل في ترجمة إسماعيل الرومي ( ت 834 ) وقد أقام بالخانقاه البيبرسية أنه ( أُمتحن بمقالة ابن العربي ونُهي مرارا عن إقرائها .. وكان يُقرئ العربية والتصوف والحكمة ) [1]. في الخانقاه المذكورة ، وقيل نفس الكلام عن ابن الفنري ( ت 834 ) أنه ( قدم مصر وله عشرون سنة وكان يُعاب بنحلة ابن العربي وبأنه يُقريء الفصوص ويقرره ، وكان بعض من اعتنى به أوصاه ألا يتكلم في شيء من ذلك ) [2] . أى كان من عادة الأعاجم القادمين إلى مصر أن يقرروا عقائدهم في الخوانق كما كان يفعل نصر العجمي [3] ( ت 833) .

2 ــ إلا أن أساطين الصوفية تحرجوا من شدة الإنكار عليهم من تلاميذ ابن تيمية من ناحية وعلاء الدين البخاري من ناحية أخرى ، فطالبوا بعض الصوفية الاتحادية بالتخفيف ، خصوصاً دارسي عقائد الاتحاد من القادمين والعاملين في الخوانق الصوفية حتى أن بعضهم رجع عن عقيدة الاتحاد مثل الشاعر البشتكي [4] .

بل أن بعض الأمراء المماليك من معتنقي هذه العقيدة تأثر بهذا الجو المحيط فقيل قي ترجمة يلبغا السالمي الخاصكي ( ت 811 ) أنه " كان يبالغ في حب ابن العربي وغيره من أهل طريقته ولا يؤذي من ينكر عليه " [5]   . أي لا يؤذي خصوم ابن عربي مع أنه يبالغ في حب ابن عربي .

3 ــ وانفعل بعض الصوفية المصريين بهذا الجو فاستعاد نفاق الجنيد واقتصر في كلامه عن الاتحاد على خواص تلاميذه ، ومن أولئك أحمد الزاهد ( ت822) " وكان يقال له جنيد القوم ، وكان يتستر بالفقه ، لا تكاد تسمع منه كلمة واحدة من دقائق القوم " [6] . والتزم تلميذه الشيخ مدين الأشموني ( ت 781) بهذا الطريق – رغم تغير الأحوال في عهده – يقول فيه الشعراني ( تفرعت عنه السلسلة المتعلقة بطريقة أبي القاسم الجنيد ، وكان رضاعه على سيدي أحمد الزاهد ) [7]. ، وقال السخاوي في ترجمته( وأما في تحقيق مذهب القوم ( أى التصوف ) فهو حامل رايته والمخصوص بصريحه وإشاراته ، مع أنه لم يكن يتكلم فيه إلا بين خواصه ) [8]  . ومع ذلك فلم يسلما من الإنكار عليهما ، فقد أنكر ابن حجر والسراج البلقيني على أحمد الزاهد ، وأنكر على مدين ( أحد أعيان السادة المالكية ) [9]  .

إنكار المقريزى وابن حجر على الصوفية المتطرفين

1 ــ واتفق في هذا القرن ظهور كثير من أعلام العصر المملوكي ممن جمعوا بين الفقه والقضاء والتاريخ ، مع الإنكار على الصوفية الاتحاديين ، وقد تتلمذوا على مدرسة ابن تيمية ومصنفاته ..وأبرزهم المقريزي (ت845 ) ، وقد صنف رسالة في دحض مذهب الاتحاد خلص فيها إلى أن أتباع ابن عربي ليسوا بمسلمين [10] ، وهاجم صوفية عصره كلهم ، فقال فيهم (ذهب والله ما هنالك ، وصارت الصوفية كما قال الشيخ فتح الدين محمد بن محمد بن سيد الناس العمري :-

       ما شروط الصوفي في عصرنا اليوم           سـوى سـتة   بغـير زيــادة

        وهـى( نيك)  العلـوق و السكـر            والرقص والغنا و القيادة

        وإذا مـا هـذى وأبـدى اتحـاداً              وحلـولاً مـن جهـله وأعـاده

        واتى المنكـرات عقـلاً وشرعـاً              فهو شيخ الشيوخ ذو السجـادة

ويعقب المقريزي بقوله (ثم تلاشى الآن حال الصوفية ومشايخها ، حتى صاروا من سقط المتاع لا ينسبون إلى علم ولا ديانة ، وإلى الله المشتكي )[11].

2 ــ وكان ابن حجر العسقلانى  (ت852 ) يعبر عن كراهيته لأتباع ابن عربي في تراجمه يقول عن الصوفى الشاذلى : علي وفا (شعره ينعق بالاتحاد المفضي للإلحاد )[12]. وذكر نضال أبي عبد الله الكركي عن الاتحاديين فقال عنه ( اجتمعت به وسمعت كلامه ، وكنت أبغضه في الله تعالى )[13] . وامتدت كراهيته للصوفية جميعاً : يقول في ترجمته ابن مفلح ( اشتغل قليلاً وسمع من جماعته ، ثم انحرف وسلك طريق الصوفية )[14] .وقد شهد ابن حجر المتوفي سنة ( 852 ) ازدياد نفوذ بعض الاتحاديين ، وكان أحدهم مقرباً عند الظاهر برقوق  في عصر اشتدت فيه المغارم ، وتجادلا في ابن عربي فهدده الصوفي بالوقيعة فيه عند برقوق ، فخافه ابن حجر وأقنعه بالمباهلة ، فتباهلا ، ومات الصوفي بعدها  [15]..

3 ــ وعرضنا لدور فقهاء القرن الثامن في الرد على مصنفات ابن عربي والحكم بتكفيره ، وقد تابعهم بعض الفقهاء في القرن التاسع ،وأهمهم الشريف الجرجاني وأحمد بن الزين العراقي وابن الأهدل وابن الجزري وإبراهيم الرقي وتقي الدين الفاسي [16]..

علو نفوذ الصوفية المتطرفين والتمهيد لحركة البقاعى

1 ــ وتغيرت الأحوال في النصف الثاني من القرن التاسع بموت أعلام الفقهاء وعلاء الدين البخاري ..فتحمس أصحاب الاتحاد ، وقد ازدادوا كثرة وأصبحت لهم صلات بالسلاطين والأمراء  ، فقيل أن الأمير تمربغا ( ت 879 ) " يحب شياطين الصوفية حتى وصل إلى اعتقاد أهل الاتحاد فكان يقول : وماذا على الإنسان إذا قال أنا الله " [17]. أي أنهم أثروا عليه حتى جارهم في قول الشطح ..وبعضهم أخذ في الدعوة لمذهبه يجمع الناس على الذكر مثل خلف المشالي ( 874 ) " وكان ممّن يميل إلى ابن عربي وينظر في فتوحاته المكية ، والغالب عليه الإكثار ممن نقل كلامه " [18] . بل كان من الاتحاديين زكريا الأنصاري شيخ الإسلام في عهده – ويا لها من سخرية – وقد قال عنه السخاوي ( وهو أحد من عظّم ابن عربي واعتقده وسماه وليٌا ، وعذلته في ذلك مرة بعد أخرى فما كفّ ، بل تزايد إفصاحه بذلك بآخره ،وأودعه في شرحه للروض ) [19] .

2 ــ لذا لم يكن مستغرباً أن يتعود أتباع ابن الفارض إنشاد كلامه يوم الجمعة عند قبره [20] . وصارت لهم صولة وجولة استدعت أن يقوم البقاعي بحركته التي هزت التاريخ المملوكي في الربع الأخير من القرن التاسع الهجري.

 حركة البقاعى ضد الصوفية المتطرفين عام 875 هجرية فى سلطنة الأشرف قايتباى

مقدمة :

البقاعي ( 809 – 885 ) تلميذ متأخر لابن تيمية هب ينازع الصوفية الاتحادية بعد أن علا صوتهم في النصف الثاني من القرن التاسع .. ولم يكتف – كغيره – بالتصنيف [21] ، وإنما قرن القول بالعمل الحركى فيما رددته المصادر المملوكية لهذه الفترة تحت عنوان ( كائنة البقاعي وابن الفارض ) ..وقد ظهر تحامل المؤرخين على البقاعي ، لأنه جرؤ على تكفير ولي مقدس كابن الفارض في وقت سيطر فيه الصوفية على العصر دعاية وسياسة ، إلا أن البقاعي في تاريخه ( المخطوط ) عرض لتلك الحادثة بصورة يظهر فيها الصدق والترتيب المنطقي للحوادث ، واتفق في بعضها مع ما أورده المؤرخون الآخرون من خصومه الذين تجاهلوا سباق الحوادث وذكروا نهايتها مبتورة ومشفوعة بالتشنيع على البقاعي . وقد حدثت كائنة البقاعي سنة 875 في بداية حكم قايتباي ، وكان الأمير يشبك بن مهدي هو الداودار الكبير ، وكان كاتب السر هو ابن مزهر الأنصاري المتحالف مع الصوفية .ونلخص الوقائع فيما يلي حسبما أورد البقاعي نفسه في تاريخه :

أولا : أورد البقاعي في تاريخه الخطوات التي قام بها وما واجهه من خصومه على النحو التالي :-

1 ــ بعث البقاعي بخطاب مطول يثبت فيه كفر ابن الفارض بالأدلة .. وأرسله للقاضي ابن الديري يطلب رأيه حتى يُلزمه بالوقوف معه في الحق .لجأ الصوفية إلى المكر ، حاولوا الحصول على كتاب البقاعي من ابن الديري بحجة أن كاتب السر يطلبه ، ففشلوا .. ولكن البقاعي من ناحيته طلب منهم – وقد طالعوا الكتاب – أن يردوا عليه ..عجزوا عن الرد بالحجة فلجأوا إلى أساليبهم التي تفوقوا فيها – والتي يتحرج منها البقاعي وأصحابه الفقهاء – فنشروا الإشاعات وأثاروا الجماهير وأصحاب الجاه ، حتى صاروا يؤذونهم في الطرقات .اقترح زعيم الصوفية الفارضية – أتباع ابن الفارض – أن يعقد مجلس ذكر تسبقه مظاهر صوفية لإثارة الجماهير ، وتمر المظاهرة على بيت البقاعي لتنهبه الغوغاء ، وسقط الاقتراح خشية أن يتطور الأمر إلى غير صالحهم .لجأوا إلى طريقة أخرى ، استكتبوا أعوانهم ، وأذاعوا أن البقاعي قد كفّر المساعد لهم والساكت عنهم ليثيروا الفقهاء المحايدين على البقاعي ، ونجحوا في إثارة زين الدين الإقصرائي وحدثت بينهما مشادة كلامية نتجت عن سوء الفهم والوقيعة 2 ــ ضاقت الحال بالبقاعي ، فحاول الاتصال بالدوادار الكبير ليشرح له حقيقة الحال ، ثم أن البعض اجتمع بالدوادار وافهمه حقيقة الاتحادية ، فخفف ذلك عن البقاعي بعض الشيء إلا أن نفوذهم كان لا يزال غالباً ، وكاتب السر الصوفي يخيفه ويهدده ، إلا أن البقاعي ظل على سكينة ..

3 ــ ثم أرسل كاتب السر للبقاعي بعض أصدقائه يشير عليه بالرجوع عن رأيه لأن السلطان فمن دونه كلهم ضده ، ورفض البقاعي التراجع ، وعرض من جانبه أن يقبلوا منه أحد حلول ثلاثة : - المجادلة أو المباهلة أو المقاتلة بالسيف في حضرة السلطان والعلماء .. وقرأ البقاعي على الرسولين اللذين جاءا من طرف كاتب السر بعض كلام ابن عربي فاستمالهما إليه ووافقوا على تكفيره ..

4 ــ سأل الصوفية صاحبهم كاتب السر أن يكتب إليهم ضد البقاعي إلا أنه رفض متعللاً بوجوب أن يستمع إلى رأي البقاعي أولاً . فاشترط البقاعي أن يكون ذلك بخلوة ، فسعوا في عدم اجتماعهما خوفاً من أن يستميله البقاعي إلى صفه ..

5 ــ عمل البقاعي ميعاداً ( ندوة ) في الجامع الظاهري واستمال الحاضرين فضجوا في الدعاء على أعدائه ، وابتدأ الميزان يتحول لصالحه فقد حاول الصوفية استكتاب قاضي الحنابلة معهم ولكنه أفتى بتكفير ابن الفارض وتابعه في ذلك آخرون ..

6 ــ لما رأت العامة أن أمر الصوفية ابتدأ في التراجع وأن البقاعي لا يزال يقرر رأيه وأنهم عجزوا عن مقابلة حججه خف الهرج منهم ، وبدأ بعضهم في التعاطف معه . 

7 ــ حاول السلطان قايتباى عقد مجلس في مستهل سنة 875 بسبب ابن الفارض فسأله كاتب السر الصوفي أن يترك ذلك، وبذل همته لدى ال" name="_ftnref23" title="">[23]. وواضح أن البقاعي وإن ضم إليه بعض الفقهاء إلا أن الرأى العام يميل إلى تقديس ابن الفارض ويعتبر البقاعي معتدياً على حرمته وقداسته ، ويمثل هذا الرأى جمهرة من الصوفية والفقهاء المعبرين عنهم ، ولا ريب أن يتأثر بهم السلطان خاصة وأن كاتب السر ابن مزهر الأنصارى أقربهم إليه .

2 ــ يقول ابن إياس وهو قريب من هذه الفترة ( كثر القيل والقال بين العلماء بالقاهرة في أمر عمر بن الفارض ، وقد تعصب عليه جماعة من العلماء بسبب أبيات قالها في قصيدته التائية ، واعترضوا عليه في ذلك ، وصرحوا بفسقه ، بل وتكفيره ، ونسبوه إلى من يقول بالحلول والاتحاد ، وكان رأس المتعصبين عليه برهان الدين البقاعي وقاضي القضاة ابن الشحنة وولده عبد البر ونور الدين المحلي وقاضي القضاة عز الدين المحلي وتبعهم جماعة من العلماء يقولون بفسقه ..)[24] أي أن البقاعي استطاع أن يضم إليه هذا الرعيل من الفقهاء .

ويقول ابن إياس ( وأما من تعصب له – أي لابن الفارض – فهم الشيخ محي الدين الكافيجي الحنفي ، والشيخ قاسم بن قطلوبغا الحنفي ، وبدر الدين بن الغرس ، وابن حجي ، والجلال بن الكمال السيوطي ، وزكريا الأنصاري ، وتاج الدين بن شرف ، فلما زاد الرهج في هذه المسألة كتبت الفتاوى في أمر ابن الفارض التي ظاهرها الخروج عن قواعد الشريعة – أي أوولت عبارات ابن الفارض لتتمشى مع الإسلام – فكتب الشيخ الكافيجي على هذا السؤال ، وألف الجلال السيوطي كتاباً سماه ( قمع المعارض في الرد عن ابن الفارض ) ، وألف البدر بن الغرس في ذلك كتاباً شافياً ، وصنف بعضهم كتاباً سماه ( درياق الأفاعي في الرد على البقاعي ) .. ووقع في هذه المسألة مشاحنات بين العلماء يطول شرحها ، ثم هجوا البقاعي وابن الشحنة وغيرهما ممن تعصب على ابن الفارض ، وصاروا يكتبونها ويلصقونها في مزاره – أي ضريحه – فيقول الشهاب المنصوري في البقاعي :-

                 إن البقاعي بمـا       قد قاله مطالب

                 لا تحسبوه سالماً       فقـلبه يعـاقب  

ثم إن بعض الأمراء تعصب لابن الفارض وتعصب له السلطان أيضاً ، فكتب سؤالا وجهه للشيخ زكريا الأنصاري فيمن زعم فساد عقيدة ابن الفارض فامتنع الشيخ زكريا عن الكتابة غاية الامتناع ، فألح عليه أياماً ، حتى كتب بأنه يحمل كلام هذا العارف على اصطلاح أهل طريقته ، وإن ما قاله صدر عنه حين استغراقه وغيبته ، ولكن ينبغي كتم تلك العبارات عمن لم يدركها ، فما كل قلب يصلح للسر ، ولكل قوم مقال .. فلما كتب زكريا ذلك سكن الاضطراب الذي كان بين الناس بسبب ابن الفارض ، وعقيب ذلك عزل ابن الشحنة عن فضاء الحنفية ، وحصل له عقيب ذلك فالج وذهل وسلب منه العلم وحصلت  نكبات لوالده عبد البر. وأما البقاعى فكادت العوام ان تقتله ، وحصل له من الأمراء ما لا خير فيه ، واختفى حتى توجه الى مكة فمات هناك. وأما إمام ( الحانقاه ) الكاملية فخرج وهو مريض الى الحجاز فمات أثناء الطريق ..وقد جرى على من تعصّب على ابن الفارض ما لا خير فيه ، وظهرت بركته فى المتعصبين عليه شيئا فشيئا الى الآن . )( 25 )

ثالثا : دور زكريا الأنصاري ( شيخ الإسلام ) :

1 ـ ولعب زكريا الأنصاري دوراً كبيراً في إفشال حركة البقاعي. وقد سبقت الاشارة بأن رده على سؤال السلطان بشأن ابن الفارض قد سوغ إيقاع الاضطهاد بأتباع  البقاعي، مع أن زكريا الأنصاري امتنع غاية الامتناع حسب قول ابن إياس ، ثم بادر بالرد .. ويهمنا أن نذكر أن زكريا – شيخ الإسلام – لم يكن رأساً للصوفية في تلك الكائنة ، وإنما كان لهم تابعاً يسمع لهم ويطيع في وقت لم يتمتع فيه السلطان عنده بهذه الحظوة . ويكفي أنه استجاب لشيخ صوفي مجهول ، ولكنه كان صاحب تأثير في زكريا الأنصاري يفوق تأثير السلطان عليه ، أى كان ( شيخ الاسلام ) زكريا الأنصارى يعتقد فى ولاية هذا الشيخ الصوفى المجهول ـ وإسمه محمد الاصطمبولى ـ ويسمع له ويطيع . يقول الشعراني ( لما وقعت فتنة البقاعي في إنكاره على ابن الفارض أرسل السلطان إلى العلماء فكتبوا له بحسب ما ظهر لهم ، وامتنع الشيخ زكريا. ثم اجتمع بالشيخ محمد الاصطمبولي فقال له : أكتب وأنصر القوم ( أى الصوفية ) وبين في الجواب أنه لا يجوز لمن لا يعرف مصطلح القوم أن يتكلم في حقهم بشر ، لأن دائرة الولاية تبتدئ من وراء طور العقل لبنائها على الكشف ) [25] .

2 ــ وقد شارك زكريا في دعاية الصوفية الرامية للدفاع عن ابن الفارض والهجوم على البقاعى ، يقول المؤرخ ابن الصيرفي المعبر عن خصوم البقاعي ( وقع لي من وجه صحيح أخبرني به الشيخ العلامة الرباني شيخ الإسلام زكريا الشافعي أبقاه الله تعالى أن الجناب العلائي على بن خاص بك أنه ركب إلى جهة القرافة ورأى أمامه شخصاً عليه سمت وهيئة جميلة فصار يحبس لجام الفرس .. إذ وافى الرجل رجل عظيم الهيئة جداً فتحادثا وانصرف الرجل المذكور .. فسأله سيدي علي من هو هذا الرجل فقال له أنت ما تعرفه؟ ثلاث مرات ، وهو يقول لا . فقال : هذا عمر بن الفارض في كل يوم يصعد من هذا المكان وهو يسعى أن الله يكفيه فيمن تكلم فيه ) [26]. هنا منام يزعم ( شيخ الاسلام ) زكريا الأنصارى أنه رآه ، وحكاه للمؤرخ ابن الصيرفى ، وفيه أن عمر بن الفارض يدعو على يعترض عليه .

3 ــ والواقع أن زكريا الأنصاري يدين بشهرته إلى دعاية الصوفية الذي جعلت منه شيخاً للإسلام ، بينما وهو في حقيقة أمره مجرد مريد للصوفية في مجتمع الفقهاء. وقد اعتنق التصوف مذ كانا شاباً أو على حد تعبير الشعراني ( ومن حين كان شاباً كان يحب طريق الصوفية ويحضر مجالس ذكرهم حتى كان أقرانه يقولون : زكريا لا يجيء منه شيء في طريق الفقهاء ) [27] .إلا أنه استمر في سلك الفقهاء ليعمل لصالح الصوفية ، أو حسبما يقول عن نفسه ( فأشار على بعض الأولياء بالتستر بالفقه.. فلما أكد أتظاهر بشيء من أحوال القوم إلى وقتي هذا ) [28]. ويدين زكريا الأنصاري بعقيدة ابن عربي ويدافع عنها ويدخلها في شروحه ولم يلتفت لإنكار السخاوي عليه كما سبق ..

رابعا : موقف المؤرخ السخاوى

1 ــ إشتهر السخاوى فى هذا الوقت مؤرخا وفقيها ومحدثا . وموقف السخاوي كمؤرخ يتسم بالغرابة بالنسبة للبقاعي وحركته . فالسخاوي فقيه ينكر على الاتحادية . وسبق أن أوردنا إنكاره على زكريا الأنصاري لغصبه لابن عربي ، بل أن السخاوي ألمح إلى الإنكار على التصوف أكثر من مرة .. يقول عن معاصرة الإقصرائي ( انتمى إليه جماعة ووصفوه بالعارف ) [29]  ، وقال في حاجي فقيه شيخ التربة الظاهرية ( كان عريّا عن العلم إلا أن له اتصالاً بالتُّرب كدأب غيره ) [30] . وقال عن الفقيه ابن الصديق ( وقد كان من المشتغلين بالفقه .. وبلغني في هذه السنين أنه تحول عن طريقته فسلك التسليك والشياخة الصوفية ، وكأنه لمناسبة الوقت ) [31] . ونلاحظ نبرة السخرية ( السخاوية ) على عادة السخاوى فى إحتقار خصومه . ولم يبخل بها على الصوفية . ثم أن للسخاوي خصماً شهيراً هو الجلال السيوطي الذي اتخذ جانب الدفاع عن ابن عربي وابن الفارض مع زكريا الأنصاري وغيره . والخصومة بينهما وصلت الى حد المساجلة وتأليف الكتب فى هجاء مبادل بينهما .

2 ـ ..ومع ذلك فالسخاوي تحامل على البقاعي حين ترجم له في كتاب ( الضوء اللامع فى أعلام القرن التاسع )، وإن لم يمنعه ذلك من ذكر جهود البقاعى ضد الصوفية ، فيقول أن البقاعي لمح بالحط على الغزالي وقال ( إن قوله " ليس في الإمكان أبدع مما كان " كلام أهل الوحدة من الفلاسفة والصوفية ) ، وكذلك حط  البقاعى على ابن عطاء السكندري [32]. واعترف السخاوى بدور البقاعي في إبطال المولد الأحمدي بطنطا وإن لم يسند له الفضل كاملاً يقول عنه ( قام بإنكار المولد بطنتدا أو ساعد مع القائمين في إبطاله ) [33]. واعتبر إبطال المولد الأحمدي فتنة ، يقول ( كان للبقاعي دور في الفتنة التي انتهت بإبطال المولد الأحمدي ) [34].

3 ــ ويمكن تفسير موقف السخاوي في ضوء المنافسة التي تكون بين الفقهاء ، فلا نملك سوى هذا القول .. فالبقاعي خرج على تقاليد عصره وأنكر صراحة ما كان السخاوي يلمح به في ثنايا كلامه، بل وقرن القول بالعمل ، وهو ماعجز عنه السخاوى . وبسبب هذا التفوق من البقاعى على زميله السخاوى فلم يبق للسخاوي إلا التحامل على منافسه ومحاولته للتشكيك والتقبيح حتى فيما يضطر إليه من ذكر أعماله الحسنة . ثم أنه تجاهل صراعه الأساسي مع أتباع ابن الفارض .

  معاناة البقاعى من الصوفية مع إيمانه بالتصوف السنى

1 ــ  والواقع أن البقاعي كان يناضل عصره بكل ما أوتي من عنف ، ويكفي أنه حين ساءت به الأمور قال لمن عرض عليه المهادنة ( إني والله قد وضعت بين عيني القتل بالسيف والضرب إلى أن أموت منه فرأيته أهون عندي من أن يجُهر بالكفر في بلد أنا فيه ، ويقال إنّ الصلاة حجاب والصوم حجاب والقرآن باطل أو شرك ، ويُراد خلع الشريعة المحمدية ، ويظهر دين الكفر على دين محمد صلى الله عليه وسلم. فإما يُعيننى الذين يريدون سكوتى بمال أو غيره أقدر به على الانتقال به من هذا البلد ، فإنه والله لو كان معى مال أتجهز به هاجرت منها . وإما أن يختاروا منى واحدة من ثلاث بحضرة السلطان والقضاة الأربعة وساير العلماء ، وهى : المجادلة ثم المباهلة ثم المقاتلة ، فيعطينى السلطان سيفا وترسا، ويعطى أشبّهم ( أى أكثرهم شبابا ) سيفا وترسا ، ويخلى بيننا قدامه فى حوش القلعة ، وينظر ما يكون منى على شيخوختى ، فإن قُتلت كنتُ شهيدا ، وإن قتلت خصمى عجلت به الى النار )[35]

2 ـ  وبعد إفشال حركة البقاعي لم ينقطع الصوفية عن إيذائه حتى مع وجود جماعة حول البقاعي تحميه . يقول ابن الصيرفي في أحداث  رمضان 875 : ( عمل البرهان البقاعي ميعاداً بالجامع الظاهري على عادته بعد العصر فحضر إليه جماعة قصداً من معتقدي ابن الفارض ، وأساءوا عليه ، فشكاهم لقصروه الحاجب ( الأمير المملوكى حاجب السلطان )، فطلبهم ورسم عليهم. ( أى أمر باعتقالهم )  ثم أن البقاعي طلب جماعة من جهته وأوقفهم في عدة مواضع ومفارق ومخارص من الطرقات وبأيديهم العصي والخشب ، وقرر معهم إذا مروا عليه فيضربونهم وينكلون بهم ،( أى أمر البقاعى أتباعه بإنتظار أولئك المقبوض عليهم من خصومه وضربهم ) فبلغ ذلك ابن مزهر الأنصاري كاتب السر ( خصم البقاعى ) فأرسل إليهم بداوداره بركات فأطلقوهم . ( اى أطلق خصوم البقاعى المعتقلين ) . ثم أصبح البقاعي وشكي خصومه لبيت الأمير تمر حاجب الحجاب ، فاجتمع الجمع الغفير وحضر من العلماء والفضلاء جماعات برزوا للبقاعي وطلبوه فحضر بين يدي الأمير وأراد الطلوع من المقعد فما مكنه خصومه . ووقف من تحت المقعد وجلس المشايخ المذكورون وادعى على جماعة ، منهم شخص شريف حضروا إليه في مسجده ليقتلوه ، فقال له الشيخ بدر الدين بن القطان ( لا تقل مسجدي فإن  المساجد لله ) ، وترضٌوا عن الشيخ عمر ابن الفارض ولعنوا وكفّروا من يكفره ، وحصل له بهدلة ما توصف ، وانفصلوا على غير طائل ، ولم يحصل للبقاعي مقصود ، فإنه مخذول ، سيما أنه يتعرض لجناب سيدي الأستاذ العارف بالله عمر ) [36].

3 ــ وتعرض أتباع البقاعي لاضطهاد مماثل من الصوفية وصنائغهم من القضاة . يقول البقاعي في تاريخه: ( تخاصم شخص من جماعة اهل السُّنّة يقال له : محمد الشغرى مع جماعة من الفارضين ( أى الصوفية من أتباع ابن الفارض ) من سويقة صفية ، فرفعوه الى ( إشتكوه الى ) قاضى المالكية البرهان اللقان، وإدّعوا عليه أنه كفّر إبن الفارض ، فأجاب ( محمد الشغرى ) بأنه قال بأن العلماء قالوا بكفره ، ، فضربه القاضى بالسياط ن وامر بتجريسه وبالمناداة عليه فى البلد : هذا جزاء من يقع فى الأولياء . ثم توسط القاضى الشافعى لدى المالكى حتى أطلقه . وقال ( القاضى ) الشافعى : أيُفعل بهذا هكذا ولم يقل إلا ما قال العلماء ، ويُرفع لهم حربى ( شخص أجنبى من دار الكفر بتعبير العصر وقتها ) إستعزأ بدين الاسلام فى جامع من جوامع المسلمين ولا يفعلون به مثل ما فعلوه بهذا ؟ مع إنه حصل اللوم فى أمره من السلطان ومن دونه ولم يؤثر شىء من ذلك ..) أى إستهزأ  رجل  أوربى بالاسلام فلم يعاقبوه بينما عوقب هذا الشخص السُّنى الذى كفّر ابن الفارض . وأن السلطان قايتباى لام القاضى المالكى فى حكمه على الشخص السنى ، ولم يؤثر هذا فى شىء. ويقول البقاعى : ( هذا كله ، والحال أن البرهان المذكور ( يعنى قاضى القضاة المالكى برهان الدين اللقان) قال لغير واحد ( أى لأكثر من شخص ) إن له أكثر من ثلاثين سنة يعتقد كفر ابن الفارض .! ) [37] . أى يؤمن بكفر عمر بن الفارض ، ومع هذا يعاقب من قام بتكفير ابن الفارض رعاية للنفوذ الصوفى.!

4 ــ ولاحقتهم الدعاية الصوفية بالويل والثبور ، يقول المناوي ( ورأى بعض المنكرين ( أى المنكرون على عمر بن الفارض )  في نومه جماعة وقفوا بين يدي عمر بن الفارض وقيل له : "هؤلاء المنكرون " ، فقطع ألسنتهم فانتبه مذعوراً ورجع عن إنكاره .. وروى بعضهم أن القيامة قامت وجيء بجماعة ألقوا في أوان غاية في الكبر حتى أنهى العظم واللحم ، فقال ما هؤلاء ؟ قال الذين ينكرون على ابن عربي وابن الفارض . وقالوا إن شيخ الإسلام ابن البالشي قاضي القضاة لما وصل مصر صار ينال من الشيخ وترصد زواره .. فابتلي بمرض فما شفي منه حتى رجع عن ذلك ، والحكايات في معنى ذلك كثيرة ) [38].

  إيمان البقاعى بالتصوف السُّنى

1 ــ  ومع حدة البقاعي في الإنكار على الصوفية الاتحادية إلى درجة تظهر في اختيار عنوان كتابيه ( تحذير العباد من أهل العناد ببدعة الاتحاد ) و ( تنبيه الغبي إلى تكفير ابن عربي ) إلا أن البقاعي كان يعتقد فى التصوف السُّنى ويدين باحترام شديد إلى أوائل الصوفية ويعتبرهم ( اهل الله ) تعالى الله جل وعلا عن ذلك علوا كبيرا . ويعتقد فيهم الولاية والنفع ، ويرجو النفع بكراماتهم ، ويتردد ذلك في ثنايا تاريخه في معرض إنكاره على الاتحادية يقول  مثلا ( .. وقد قال أهل الله كالجنيد وسري السقطي وأبي سعيد الخراز وغيرهم ممن هو على طرقهم نفعنا الله بهم ..) [39] . ويقول عنهم ( إن المحققين منهم بنوا طريقهم على الاقتداء بالكتاب والسنة ) ، واستدل ببعض أقوالهم المنافقة( [40] ) ، مخدوعاً بهم كشأن ابن تيمية وابن الجوزي .. وفي خطابه لكاتب السر استشهد ببعض تلك الأقوال وعلق عليها بقوله ( وإن قلتم مخالفين لهؤلاء الأئمة الذين هم القدوة إلى الله تعالى ..) [41].

2 ــ فالبقاعي أراد بإخلاص إصلاح  الطريق الصوفي وأن يربطه بالكتاب والسُّنة ، أوالإسلام  فى ذهنية السنيين ـ وهو الذي ادعى منافقو الصوفية الأوائل أنهم ملتزمون به . وكان نصيبه هذا العنت مما اضطره في نهاية الأمر إلى الرحيل عن مصر متمتعاً بكراهية أهلها لمجرد دعوته للحق ، بل اعتبر بعض من حاول الإنصاف – أن تلك هي سيئته الوحيدة . فيقول ابن إياس ( في رجب 885 جاءت الأخبار بموت برهان الدين البقاعي في دمشق ، وكان عالماً فاضلاً محدثاً ماهراً في الحديث ليس من مساويه سوى حطه على الشيخ عمر ابن الفارض ) [42] .

موت تأثير حركة البقاعى بعد موت البقاعي سنة 885 هـ

1 ــ كانت حركة البقاعي هزة في المجتمع المصري الراكد ، وبموته عاد الهدوء وكثر تحول باقي الفقهاء إلى عقيدة الصوفية، وشهدنا السخاوي ( ت 902 ) يقول عن ابن صديق أنه انتحل الشياخة الصوفية ( وكأنه لمناسبة الوقت ) .. واعترف زكريا الأنصاري للشعراني باعتناقه للتصوف منذ بدايته واستمرت مكانته حتى القرن العاشر تتزايد ليصبح شيخ الإسلام .. وعرضنا لموقف السيوطي من كائنة البقاعي وكيف أنه صنف في الرد عليه كتاباً يدافع فيه عن ابن الفارض ، وكرر السيوطي مقالته في كتابه ( تأييد الحقيقة العلية ) معتمداً على المبررات الصوفية المعتادة من السكر والوجد الصوفي والتأويل... الخ [43]. وعلى نفس المنوال قال الشعراني عن الفقيه نور الدين المحلي الشافعي ( كان لديه الاعتقاد الحسن في الصوفية عكس البقاعي ، وكان يعتقد حتى في ابن عربي وابن الفارض ، وكان يقول بأن الملاحدة قد دسوا كثيراً في كلام الأئمة بغير علمهم [44]...

2 ــ وقام الصوفية وأعوانهم بالقضاء على أي أثر لحركة البقاعي بعد رحليه باضطهاد تلاميذه وملاحقتهم بالمحاكمات المتعسفة . يقول ابن إياس في حوادث 888 [45] ( حضر شمس الدين الحلبي تركة يحي بن حجي فرأى بين كتبه كتاب الفصوص لابن عربي ، فقال : هذا الكتاب ينبغي أن يحرق ، وأن ابن عربي كان كافراً أشد من كفر اليهود والنصارى وعبدة الأوثان . فمسكوا عليه ذلك وأرادوا تكفيره .. وآل أمره إلى أن عزروه وكشفوا رأسه ثم حُكم بإسلامه وحقن دمه ، وقد قامت عليه الدائرة بسبب ذلك ، وفيه يقول أبو النجا القمني ( الصوفي ) ساخراً :                أقعدت يا حبيبي               بالصـفع في قفـاكـا

                لما ادعيت جهلاً              حرق الفصوص يا كا      فر

                وما خلصت حتى             أقمـت شاهـداكــا

وسأل الشيخ يونس بن الحسين الألوحي عن منشد ، أنشد على منارة مسجد أبياتاً منها :

         خمرة تركها على حرام             ليس فيها إثم ولا شبهات

         شربها آدام ونوح وشيث            وتحياتها غرات ذاكيات

        شربها عيسى فصار نبياً             وحبيبـا وزائد البركات 

وهي طويلة ، فأنكر عليه طالب ، فغضب واستفتى على الطالب فكتب له بعض الناس :إذا كان القصد بذلك خمرة التوحيد التي يهيم بها العارفون فليس في ذلك خطأ ولا يجب على المنشد شيء ويؤدب المعترض عليه ، وقد قال الشيخ ابن الفارض :- شربنا على ذكر الحبيب مدامة    سكرنا بها من قبل أن يخلق الكرم 46 .  فالصوفي غضب حين أنكر عليه طالب إنشاده أبيات العقيدة الصوفية فى الاتحاد على المئذنة ، وأفتى له البعض بأنه لم يخطئ طالما أن المقصود هو خمرة الأولياء العارفين واستشهد بابن الفارض .. وحكم على الطالب بالتعزير ، أي أنقلب الحال ، فصار المنكر منكراً عليه وأصبح الطالب مطلوباً . وقد ألمح إلى ذلك السخاوي ـــ على عادته في الإنكار الضمنى بلا تصريح – في معرض روايته لما حدث من القاضى سعد الدين الديري حين أمر بتعزير من وجدت عنده بعض تصانيف ابن عربي واعترف بكونها عنده وأنكر استفادة ما فيها ، يقول السخاوي يصف عصره معلقاً على الحادثة ( كيف لو أدركا هذا الزمن الذي حل به كثير من المحن والرزايا ) [46] .ويقول الشعراني إن الفقهاء في الجامع الأزهر عقدوا مجلساً لمحاكمة إبراهيم المواهبي ، فجاء إليهم محمد المغربي وهم في أثناء الكلام فقال : نحن أحق بتنزيه الحق  منكم معاشر الفقهاء ، وأخذ بيد المواهبي وقام معه فلم يتبعه أحد ، وقد لحقوا بالمغربي يترضونه فقال لهم ( الطريق ما هي كلام كطريقتكم إنما هي طريق ذوق ، فمن أراد منكم الذوق فليأت أخليه ( أي أجعله في خلوة ) ، وأجوعه حتى أقطع قلبه وأرقية حتى يذوق ، وإلا فليكف عن هذه الطائفة ( الصوفية ) فإن لحومهم سم قاتل ) [47] .

أخيرا : البقاعى المظلوم حيا وميتا

أرى إن البقاعى أكثر علما وفقها من إبن تيمية ، وأسوأ حظا منه . لم يترك البقاعى مؤلفات كثيرة ، ولكن مؤلفاته أظهرت عقلية سُنيّة مجتهدة  معتدلة لا نراها بنفس القدر فى ابن تيمية ومدرسته . هجوم البقاعى على ( ابن عربى وابن الفارض  ) فى كتابيه ( تحذير العباد ) و ( تنبيه الغبى ) أقوى مما كتبه ابن تيمية ومدرسته . كتاب البقاعى فى ( علم المناسبة القرآنية ) كان فتحا غير مسبوق فى علوم القرآن . وتعرض كتابه هذا الى السرقة ، سرق السيوطى أفكار هذا الكتاب وقام بتلخيصه ، وكتاب السيوطى منشور مشهور بعكس كتاب البقاعى وهو الأصل . حتى مخطوطة تاريخ البقاعى والتى عثرت عليها فى دار الكتب المصرية بخط اليقاعى نفسه تعرضت للعبث وشطب بعض سطورها و كشط بعض أسماء الصوفية الذين ذكرهم البقاعى فى ظلمهم له وتعديهم عليه ، واستلزم الأمر منى جهدا فى المراجعة للتعرف والتحقق مما ذكره البقاعى فى هذه المخطوطة. وكان من وسائل التحقق الرجوع الى تاريخ ابن الصيرفى ( إنباء الهصر بأبناء العصر ) فى نفس الأحداث ونفس السنوات ، وقد  كان ابن الصيرفى معاصرا للبقاعى وخصما له ، وذكر ( كائنة البقاعى ) فى تاريخه ( الهصر ) من وجهة نظر متحاملة على البقاعى . ولكن المفاجأة أن جزءا مما تم العبث به وحذفه فى مخطوطة تاريخ البقاعى عن معاناة البقاعى تم نزع صفحاته من كتاب الهصر أيضا . أى كانت مؤامرة للإنتقام من هذا الرجل وحصره فى دائرة النسيان . ولذلك انتهى البقاعى وحركتة الى النسيان بين سطور التاريخ ، عكس ابن تيمية الذى تم نشر رسائله وكتبه وشطحاته الفقهية . ونشعر بالفخر لأننا كشفنا الغطاء عن هذا الفقيه الثائر الذى لم تدفعه حدته فى الهجوم على شطحات الصوفية الى الوقوع فى الشطحات الفقهية الدموية مثلما حدث من ابن تيمية .

 

  في القرن العاشر :  الشعراني ممثل الفقه والتصوف :

 الشعراني الصوفى الفقيه يهاجم الصوفية فى عصره حماية لدين التصوف

مقدمة : ماهية الشعرانى بين التصوف والفقه : صوفى تسلح بالفقه ليخدم التصوف ..

1 ـ عبد الوهاب الشعراني  ( 898 : 973 ) صوفى فقيه مخضرم عاش فى أواخر العصر المملوكى وبداية العصر العثمانى ، وصار أكبر فقيه وأشهر صوفى فى القرن العاشر الهجرى وطيلة العصر العثمانى بسبب كثرة مؤلفاته فى التصوف والفقه والمناقب الصوفية . كان فقيها شافعيا  وشاذليا صوفيا وله كتب فى الحديث ، وعاصر أكابر الأولياء الصوفية فى نشأته ، وتتلمذ على يديه معظم من عاش بعده من الفقهاء والصوفية المشهورين فى القرن العاشر ، ولا يزال حتى الآن يتمتع لدى الصوفية بلقب ( القطب الربانى ) .

2 ــ والشعراني صوفي تسلح بالفقه ليخدم التصوف كشأن الغزالي في القرن الخامس . وتحت لواء التصوف السنى عرف العصر المملوكي أنواعا من الفقهاء والصوفية : هناك الفقيه الصٍّرف ( الحنبلى ) المؤمن بالتصوف السّنى المُنكر على صوفية عصره كابن تيمية والبقاعى . ويقابله الصوفى الصٍّرف الذى يُعلن عقيدة التصوف فى الاتحاد والحلول ووحدة الوجود مثل ابن عربى وابن الفارض وشيوخ الطرق الصوفية كأحمد البدوى والشاذلى والدسوقى والمرسى وابن سبعين . وهناك الصوفية الفقهاء الذين تخصصوا فى الفقه السّنّى لإخضاع السنيين لدين التصوف وكتبوا فى الفقه لخدمة التصوف كما فعل الغزالى قبل العصر المملوكى ، والشعرانى فى القرن العاشر بعد خمس قرون من عصر الغزالى . ثم بسيطرة التصوف وإزدياد عدد الداخلين فقيه تحول كثير من الفقهاء الى التصوف وظهر منهم نوع جديد هو الفقيه الصوفى . يبدأ فقيها سنيا ثم يتصوف ، أى فالفقيه الصوفى هو عكس الصوفى الفقيه من أمثال الغزالى والشعرانى .وانتشرت هذه الفئة فى عصر الشعرانى حيث تسيد التصوف وانتشر.

  3 ــ وقد رأى الشعراني فيهم خطراً على التصوف خوفا أن يظهر منهم أمثال ابن تيمية والبقاعى ، فولاؤهم للسنة ويمكن لهم بمعرفة التصوف أن يدركوا خطر عقائده وتناقضها مع دين السنة ومع القرآن الكريم ، وهكذا فالشعراني ( كصوفي فقيه) تخوف من ( الفقيه الصوفى ) خشية أن يكون منهم من يعمل لصالح الفقه كما يعمل الشعراني لصالح التصوف . لذا نرى الشعراني يفضل الفقيه الصرف الصريح – كابن تيمية رغم إنكاره على الصوفية – على الفقيه الصوفي لاحتمال أن يكون الأخير منافقاً في تصوفه وخطراً على الطريق الصوفي ، فيقول ( إن الفقيه الصٍّرف الذي لم يدخل طريق القوم مقدم على الفقيه المتفعٍّل فيها من غير إتقان علومها والمشي على طريقها ، لأن الفقيه الصٍّرف سالم من النفاق الذي وقع فيه المتفعٍّل مع زيادة  علمه بالعلوم الشرعية ) ، والشعرانى هنا من حيث لا يقصد يفضح نفسه لأنه صوفى يتلاعب بالسنة لصالح التصوف ، وينافق كى يحفظ دينه الصوفى من الانكار ، وهو لا يريد أن يحاربه السنيون بنفس الطريق . بل تطرف الشعراني فاعتبر العامي المعتقد في الصوفية خيراً من ذلك الفقيه الصوفي ( بل تقول العامي الذي يعبد الله تعالى ويسأل العلماء – يقصد الصوفية – عن كل شيء أشكل عليه في دينه ، أحسن حالاً من هؤلاء المتفعلين في طريق القوم ) [48]. ( مصطلح القوم مقصود به أرباب التصوف ). إلى هذا الحد بلغ حرص الشعراني على الطريق الصوفي الذي يدافع عنه بشتى الوسائل .

4 ــ وطبيعي أن تمثل صيانة العقيدة الصوفية أهم مشكلة تواجه الشعراني كصوفي فقيه يحاول ربط التصوف بعقيدة الإسلام ( لا إله إلا الله ). ومع التسليم بمهارة الشعراني فإنه لم يوفق – كالغزالي – في عملية  التوفيق بين الإسلام والتصوف ، إذ يستحيل ذلك التوافق بين عقيدتين متناقضتين ، وكلاهما يستعمل أسلوب القصر فى نفى العقيدة المخالفة ، عقيدة الاسلام ( لا إله إلا الله ) وعقيدة التصوف الكبرى ( لا موجود إلا الله ).ويعنينا أن الشعراني انتهى إلى النتيجة التي وصل إليها الغزالي قبلاً ، وهي نجاحه فى حصر الإنكار على المتطرفين الاتحاديين في أشخاص الصوفية المعاصرين ، مع تقرير المذهب الصوفي الاتحادي في نفس الوقت ، فلم ينج من التناقض مثله .. ونحلل موقف الشعراني من هذه القضية على النحو التالي :-

أولا : هجومه على معاصريه من الصوفية :

1 ــ فالشعراني يهاجم أوباش الاتحادية في عصره .. يقول فيهم ( استحكم في غالبيتهم الضلال والفساد .. ويعضهم رأى أن كل شيء في الوجود هو الإله ، وأن عين هذا الوجود الحادث هي عين الله من الجماد والنبات والعقارب والحيّات والجان والإنسان والملك والشيطان ، ويجعلون الخلق هو عين المخلوق من خسيس ونفيس ومرجوم وملعون ورائس ومرءوس حتى الأباليس ، وهذا كلام لا يرضاه أهل الجنون ولا من كان في حبه مجنون .. وقد نقلت هذا الكلام في زماننا عن جماعة بالصعيد ، فيعتقدون هذه الأمور فيما بينهم وبين أصحابهم من الملاحدة ، وينكرون ذلك في الظاهر خوف القتل ، كل الذي أقوله:  أن إبليس نفسه لو ظهر ونسب إليه هذا المعتقد لتبرأ منه واستحيا من الله تعالى ، وإن كان هو الذي يلقي إلى نفوسهم بذلك . وقد حكيت لسيدي على الخواص بعض صفات هؤلاء فقال : هؤلاء زنادقة وهم أنجس الطوائف لأنهم لا يرون حساباً ولا عقاباً ولا جنة ولا ناراً ولا حلالاً ولا حراماً ولا آخرة ، ولا لهم دين يرجعون إليه ، ولا معتقد يجتمعون عليه ، وهم أخس من أن يذكروا لأنهم خالفوا المعقولات والمنقولات والمعاني وسائر الأديان التي جاءت بها الرسل عن الله تعالى ، ولا نعلم أحداً من طوائف الكفار اعتقد اعتقاد هؤلاء ، فإن طائفة من النصارى قالت : المسيح ابن الله وكفرهم القوم الآخرون ، وطائفة من اليهود قالت العزير ابن الله وكفرهم القوم الآخرون ، فلم يجعلوا الوجود عين الله تعالى .. [49] .)

2 ــ وقال عنهم ( وكان أخي الشيخ أفضل الدين يقول : لو كنت حاكماً لضربت عنق كل من قال : لا موجود إلا الله ونحو ذلك من الألفاظ لأنه لم تأت بذلك شريعة ) [50] .. ويقول الشعراني أنه سمع بعض الاتحاديين يقول ( ما ثم موجود إلا الله ، فقلت له ايش أنت ؟ فقال كلاماً لو كان معي شاهد آخر يشهد لذهبت به إلى حكام الشريعة يضربون عنقه ) [51].

3 ــ وينصح الشعراني بعدم الاجتماع ( بهؤلاء الجماعة الذين تظاهروا بطريق القوم في النصف الثاني من القرن العاشر من غير إحكام قواعد الشريعة : فإنهم ضلوا وأضلوا بمطالعتهم كتب توحيد القوم من غير معرفة مرادهم ، وقد دخل علىّ منهم شخص وأنا مريض ولم يكن عندي أحد من الناس فقلت له : من تكون ؟ قال أنا الله .! فقلت له كذبت. فقال أنا محمد رسول الله فقلت له كذبت . فقال : أنا الشيطان وأنا اليهودي فقلت له صدقت ، فو الله لو كان عندي أحد يشهد عليه لرفعته إلى العلماء فضربوا عنقه بالشرع الشريف ..) [52]. فالشعراني يستعدي السلطة عليهم ، ولا شك أنهم يتمتعون بكراهية الشعراني وحقده لذا لم يترجم لأحد منهم في طبقاته الصغرى أو الكبرى ..

ثانيا : النهي عن مطالعة كتب الاتحاد الصوفية :

1 ــ وحين يقول الشعراني عن أصحاب الاتحاد في عصره ( أنهم ضلوا وأضلوا بمطالعتهم كتب توحيد القوم من غير معرفة مرادهم ) فهو بذلك يحقق غرضه بالهجوم على أوباش الاتحادية ، وفي نفس الوقت يبرئ فيه ابن عربي وغيره من مقالة الاتحاد ، وقد قال في ترجمة ابن عربي ( وما أنكر عليه من أنكر إلا لدقة كلامه،لا غير) ، وقرر أن مذهب الصوفية أنهم ينكرون ( على من يطالع كلامه من غير سلوك طريق الرياضة ، خوفاً من حصول شبهة في معتقده يموت عليها ولا يهتدي لتأويلها على مراد الشيخ ) [53] .

2 ــ ويقول الشعراني ( أخذ علينا العهود ألا نمكن أحداً من إخواننا يطالع في كتب الشيخ ابن عربي في التوحيد المطلق ، ولا في كتب غيره من غلاة الصوفية ، وذلك لعدم الفائدة وشدة الإنكار على من تفوه بما ذكروه فيها مما يخالف عقول الناس ، وما كل ما يُعلم يُقال ، وربما فهموا منها أموراً تخالف صريح السنة فيموتون على اعتقادها فيخسرون مع الخاسرين ) [54]. فهو مع اعترافه بأن ابن عربي من غلاة الصوفية وأن كلامه يقابل بشدة الإنكار إلا أنه يوحي بأنها لا تخالف صريح السنة ويلجأ إلى التهديد بالخسران لمن يجرؤ على مطالعة كتبه ..

3 ــ ثم يلجأ الشعراني إلى تعميم تحذيره لتشتمل مواضع التصوف في المصنفات القديمة الشهيرة لمعتدلي الصوفية ( وليحذر من العمل بمواضع من كتاب الإحياء ، ومن كتاب النفخ والتسوية له وغير ذلك من كتب الفقه فإنها إما مدسوسة عليه أو وضعها أوائل أمره ثم رجع عنها ، وكذلك يحذر من مواضع في كتاب قوت القلوب لأبي طالب المكي نحو قوله ( الله تعالى قوت العالم ) ومن مواضع في تفسير المكي ، ومن مواضع كثيرة من كلام ابن ميسرة الحنبلي ، وقد صنف الناس في الرد عليه ، وليحذر من مطالعة كلام منذر بن سعيد ، وكذلك يحذر من مطالعة كتاب خلع النعلين لابن قسي .. وكذلك تائية سيدي محمد وفا .. وليحذر أيضاً من مطالعة كتب الشيخ محيي الدين بن العربي رضي الله عنه لعلو مراقيها ولما فيها من الكلام المدسوس على الشيخ لا سيما الفصوص والفتوحات المكية ) [55]. ( وأخذ علينا العهود ألا نمكن أحداً من إخواننا يشتغل قط بأسماء السهروردي ولا سماه البوني ولا علم الحرف الأعلى ..)  [56].   

 ثالثا : الشعرانى و تأويل عبارات الاتحاد للصوفية السابقين :

1 ــ وقرن الشعراني كلامه بالدفاع عن ابن عربي بدعوى أن ما كتب في مصنفاته مدسوس عليه أو أن ابن عربي قام بالرد على أهل الحلول والاتحاد [57] . ثم شمل شيوخ الاتحاد الباقين برعايته وأضفى عليهم حمايته يقول ( ومما منّ الله تبارك وتعالى به علىّ :  عدم إصغائي بأذني إلى وقتي هذا إلى من يقول بكفر الحلاج أو غيره من القوم المذكورين في كتب الرقائق ، ولم أزل أؤول للقوم ما صح عنهم ، وأنفي ما لم يصح ) [58]. أي أنه يؤول ما صح نقله من كفرهم ويخفي ما لم يصح ..

2 ــ وقد وقع الشعراني في المحظور وهو يؤول إحدى شطحات أبي يزيد البسطامي يقول – مسنداً الكلام لشيخه الخواص- في تبرير قول البسطامي ( سبحاني ما أعظم شاني ) ( إن أبا يزيد لما نزّه الحق وقدسه قيل له في سٍرٍّه : هل فينا عيب تنزهنا عنه قال : لا يا رب ، قال له الحق  : إذن نزه نفسك عن النقائص ، فلما جاهد نفسه ونزهها عن الرذائل قال : سبحاني قولاً ذاتياً ضرورياً حقاً لا دعوى فيه .. قال الخواص – أو الشعراني- وعجبت ممن يؤول أخبار الصفات كيف لم يؤول كلام العارفين مع كونهم أولى بالتأويل من الرسل لنقصهم في الفصاحة عنهم ) [59]. فالشعراني أسند لنفسه  في البداية علم الغيب حين علم بحديث البسطامي لنفسه ، ثم أسند الوحي للبسطامي وجعله يحاور ربه ، ثم بعد ذلك لم يتخل عن دعوى الاتحاد فاعتبر تنزيه نفس البسطامي عن النقائص والرذائل مبرراً لقوله ( سبحاني ) .وجاءت القاصمة حين طالب بتأويل كلام الصوفية قياساً على تأويل صفات الله تعالى فى القرآن والتي قد تفيد مشابهة البشر كالاستواء على العرش:( الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) طه ) والوجه في (وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ (27) الرحمن ) أو اليد (يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ  ) الفتح 10 ) فاعترف ضمنياً بألوهيتهم واعتبرهم أولى من الرسل بالرعاية ..

3 ــ وفي موضع آخر يفتخر الشعراني بتأويله لكلام الصوفية ( وحمل كلامهم على أحسن الوجوه ، وكذلك كلام أتباعهم ، فأحمله على محامل حسنة ) [60] . ( وأما الجواب عن السادة الصوفية رضي الله تعالى عنهم فغالب مؤلفاتي جواب عنهم )، وبعد أن أسهب في الدفاع عن الصوفية ضد إنكار الفقهاء قال ( فإن أردت يا أخي عدم الإنكار فأجلُ مرآة قلبك فإنك تشهد الصوفية من خيار الناس .. إذا علمت ذلك فما نقل عن الشيخ أبي يزيد البسطامي قوله ( طاعتك لي يا رب أعظم من طاعتي لك ) ، أي إجابتك لي يا رب دعائي .. أعظم من إجابتي أنا لامتثال أمرك واجتناب نهيك .. ومما نقل عن أبي يزيد أيضاً أنه قال ( بطشي أشد من بطش الله بي ، لما سمع قارئاً يقرأ " إن بطش ربك لشديد " فصاح حتى طار الدم من أنفه وقال ( بطشي أشد من بطشه بي ) ومراده رضي الله تعالى عنه : إن بطش الله عز وجل بي لا يكون إلا مخلوطاً بالرحمة لأن رحمته غلبت غضبه عليه .. ولا هكذا بطش أبي يزيد فإنه محض انتقام لا يشوبه رحمة .. ومما نقل عنه أيضاً أنه قال لبعض مريديه ( لأن تراني مرة خير لك من أن ترى ربك ألف مرة )، ومراده أن المريد ليس له قدم في معرفة الله جل وعلا فإذا رآه فإنه يراه ولا يعلم أنه هو ، فلا يعرف يأخذ عنه علماً ولا أدباً ، بخلاف أبي يزيد فإنه ينتفع به ويعلمه الأدب ..ومما نقل عنه أيضاً ( سافرت من الله إلى الله ) ولعل مراده : سافرت في طريق الله إلى أن عرفته ، أو سافرت في حب الله من باب قوله تعالى (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا  .. العنكبوت 69 ) وقوله (وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ .. الحج 78 ) وليس مراده رضي الله تعالى عنه بذلك مسافة .. ويصح أن يكون مراده : ابتداء سفري إلى انتهائه بحول الله وقوته لا بحولي ولا قوتي .. ومما نقل عن الجنيد رضي الله تعالى عنه قوله ( العارفون لا يموتون وإنما ينقلون من دار إلى دار ) أنكر ذلك بعضهم وقال قد قال الله تعالى (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ) الأنبياء 35 ) أي تذوق الموت عند انتهاء أجلها في الدنيا فكيف الحال ؟. والجواب كما قال بعضهم : إن مراد الجنيد أن العارفين لما جاهدوا نفوسهم في حال سلوكهم حتى ماتت عنهم جميع تصرفاتهم وشهدت التصرف لله وحده فكأنها ماتت في حال حياتها ، ولأن حكمها  إذ ذاك حكم الأموات في عدم إضافتها الفعل إلى نفسها ..ومما نقل عن الشبلي رضي الله تعالى عنه أنه كان يقول ( إن ذلي عطل ذل اليهود ) ولعل مراده رضي الله تعالى عنه أن ذلي لله تبارك وتعالى أعظم من ذل اليهود له تعالى .. والله سبحانه وتعالى أعلم بمراده ، ومما نقل عنه ( الشبلي) أيضاً أنه قال ( ما في الجبة إلا الله ) .. ولعل مراده رضي الله تعالى عنه ما ثم في جسدي فاعل إلا الله تبارك وتعالى نظير قول بعضهم ( ما في الكونين إلا الله تعالى ) ، فليس مراده نفي  الكونين ولا أن الله سبحانه وتعالى يحل في خلقه لأنه أثبت وجودهما كما نرى ، ولكن جعل الله تعالى خالقاً لهم ولأفعالهم ، وكم في الكتاب والسنة من كلام يحتاج إلى تقدير كما في قوله تعالى (وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ .. البقرة 93 ) أي اشربوا حب العجل .. ومما نقل عن الإمام الغزالي رضي الله تعالى عنه أنه قال ( ليس في الإمكان أبدع مما كان ) ، ولعل مراده رضي الله عنه أن جميع الكائنات أبرزها الله تعالى على صورة ما كانت في علمه تعالى القديم ، وعلمه القديم لا يقبل الزيادة وفي القرآن العظيم (أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ..طه 50 ) .. وهذا هو معنى قول الشيخ محيي الدين بن العربي رضي الله تعالى عنه في تأويل ذلك ( أن كلام حجة الإسلام في غاية التحقيق لأنه ما ثم لنا إلا رتبتان قدم وحدوث ، فالحق تعالى له رتبة القدم ، والحادث له رتبة الحدوث ، فلو خلق تعالى ما خلق إلى ما لا يتناهى عقلا فلا يرقى عن رتبة الحدوث إلى رتبة القدم أبداً ) ..ومما نقل عن الشيخ محيي الدين بن العربي رضي الله تعالى عنه أنه قال ( حدثني قلبي عن ربي أو حدثني ربي عن قلبي أو حدثني ربي عن نفسه تعالى بارتفاع الوسائط ) ليس مراده أن الله تعالى كلمه كما كلم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، وإنما مراده أن الله تعالى   يلهمه على لسان ملك الإلهام بتعريف ببعض أحوال ، فهو من باب قوله صلى الله عليه وسلم ( إن يكن في أمتي محدثون – بقتح الدال المشددة – فعمر ) .. ومما نقل عن القوم رضي الله تعالى عنهم قولهم ( اللوح المحفوظ هو قلب العارف ) ليس مرادهم نفي اللوح المحفوظ وإنما مرادهم أن قلب العارف إذا انجلى ارتسم فيه كل ما كتب في اللوح المحفوظ نظير المرآة إذا قابلها لوح مكتوب. فافهم . ومما نقل عن القوم (أى شيوخ الصوفية ) رضي الله تعالى عنهم قولهم ( دخلنا حضرة الله ، وخرجنا من حضرة الله ) ليس مرادهم بحضرة الله عز وجل مكاناً خاصاً معيناً فإن ذلك ربما يفهم منه التحيز للحق ، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً وإنما مرادهم بالحضرة حيث اطلقوها شهود أحدهم أنه بين يدي الله عز وجل ، فما دام يشهد أنه بين يدي ربه جل وعلا فهو في حضرته ، فإذا احتجب عن هذا خرج من حضرة الله تعالى ..ومما لا يصح نقله عن الإمام الغزالي رضي الله تعالى عنه وإشاعة بعضهم عنه قوله أنه قال ( إن لله عباداً لو سألوه أن يقيم الساعة الآن لأقامها ) ، فإن مثل ذلك كذب وزور على الإمام حجة الإسلام رضي الله تعالى عنه وأرضاه ، يجب على كل عاقل تنزيه الإمام عنه لأنه يرد النصوص القاطعة الواردة في مقدمات الساعة ، فيؤدي ذلك إلى تكذيب الشارع فيما أخبر ، وإن وجد ذلك في بعض مؤلفات الإمام ، فذلك مدسوس عليه من بعض الملاحدة .. وكذلك مما لم يصح عن الشيخ أبي يزيد رضي الله تعالى عنه ما نقله بعضهم من أنه قال ( أن آدم عليه السلام باع حضرة ربه بلقمة ) ، فإن الشيخ أبا يزيد من جملة مشايخ رسالة القشيري الجامعين بين الشريعة والحقيقة فكيف يصدر عنه مثل هذا الكلام الجافي في حق سيدنا آدم  عليه السلام فأفهم ..وكذلك مما لا يصح نقله عنه رضي الله تعالى عنه ما نقله بعضهم من أنه قال ( لو شفعني الله تعالى في الأولين والآخرين لم يكن ذلك عندي بكبير ، غاية الأمر أنه شفعني في قطعة طين ) فإن ذلك كلام من لم يشم رائحة الأدب ، فإنه يبطل خصوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم ) [61].

 رابعا : الرد على الشعرانى فى تأويله كفر وشطح أئمة التصوف     

والشعراني كصوفي فقيه يتخذ علمه بالفقه سلاحاً ينافح به عن دين التصوف، إلا أنه ناقض نفسه بتأويله لأشياخه الصوفية بما يتنافى مع شريعة الفقه ، وكان تأويه هذا على حساب دين الاسلام ورب العزة جل وعلا . ثم أنه تناقض مع نفسه ككاتب ومفكر حين هاجم صوفية عصره في الوقت الذي نهى فيه عن مطالعة كتب الصوفية السابقين وأوّل لهم كلامهم بعذر هو أقبح من الذنب . ويحلو لنا أن نناقش الشعراني في تأويله لكفر الصوفية وفي مبدأ التأويل بصفة عامة :ونبدأ بتقرير الحقائق القرآنية الآتية :-

1 ــ إن الإنسان مؤاخذ يوم القيامة بما يلفظه لسانه يقول تعالى (مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ..ق18) ، وقد أعظم الإسلام من مسئولية اللسان، فالإنسان يدخل الإسلام بكلمة (إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ..البقرة131) (فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللّهِ آمَنَّا بِاللّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ..آل عمران52). والمسلم المؤمن مطالب بالإعراض عن مجرد اللغو الذي لا يستوجب عقاباً دنيوياً (وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ ..المؤمنون3 ). والمسلم يتزوج بمجرد كلمة ، إلا أنها كلمة مسئولة أو بتعبير القرآن الكريم عنها (وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً ..النساء21) .. ويطلق زوجته بمجرد لفظ الطلاق أمام شاهدي عدل ، بل قد يوقعه لسانه في عقوبة القذف، وما أسهل جريانه على اللسان (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ ..النور15) ، وذلك أن حد القذف ثمانون جلدة يُعاقب بها من يسبق لسانه بلفظ السب لإحدى المؤمنات ، وحينئذ إما أن يعاقب وإما أن يثبت حقيقة كلامه بأربعة شهداء ( وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ..النور4) . فمن قذف إحدى المحصنات يواجه إلى جانب العقوبة الجسدية عقوبة إضافية وهي : فقدان أهليته للشهادة وإعلان فسقه لأنه خرج عن دائرة الالتزام.. إلى هذا الحد بلغ اهتمام الإسلام بمسئولية اللسان وأهمية الكلمة واللفظ والنطق . بل إن المسلم كما يدخل الإسلام بكلمة قد يخرج منه إلى دائرة الكفر بكلمة عند الله جل وعلا. هى مجرد كلمة ، ولكنه حق الله ، وحق الله أولى بالرعاية، ودينه الحق هو الأحق بالنصرة والولاء. وقد عرف تاريخ الإسلام طائفة دخلت في الإسلام نفاقاً ، قالوا لا إله إلا الله فاعتبروا مسلمين بمجرد نطقهم إياها (   قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ .. الحجرات 14 ) ، ومن شأن المنافق أن يفضحه لسانه وينم على مكنون قلبه .. فكما دخل في الإسلام بكلمة فمصيره أن يخرج منه أيضاً بكلمة، وهذا ما حدث وسجله القرآن الكريم واعتبرهم رب العزة كفرة لمجرد نطقهم بكلمة الكفر ولم يأبه بحلفهم وقسمهم ( يَحْلِفُونَ بِاللّهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ ) التوبة 74 ) فلا عبرة هنا بأي اعتذار مهما كان، وقد إعتذر بعض المنافقين فلم يأبه رب العزة لاعتذارهم :( وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ ؟ لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ)التوبة 65، 66) .ولكن العقوبة على الكفر مؤجلة إلى يوم القيامة، والله تعالى هو الذي يحكم بالكفر على من يموت بكفره، وتلك قضية أخرى إلا أننا نفهم من القرآن خطورة ما ينطقه اللسان، لذا يبادر المؤمن بالاستغفار باستمرار.

2 ـ وقد عرف تاريخ المسلمين حركات متلاحقة للردة ولم تعرف وقتها محاولات التبرير والتأويل والاعتذار مع أن أولئك لم يدعوا اتحاداً بالله وتأليهاً للبشر وكل الموجودات ، كما يقول أصحاب وحدة الوجود ، فلما تسيد الصوفية وتحكموا ، عرفنا لأول مرة أن القول الكافر الفظيع فى كُفره وإساءته لرب العزة هو مجرد ( الشطح ) . وإن ذلك الشطح يمكن تأويله ليوافق الشريعة السنية لينجو من تلك الشريعة التى تعاقب المرتد بالقتل ( خلافا للإسلام )، ثم سنّ القشيرى والغزالى والشعرانى للتأويل قوانين أبرزها أن يتمتع به السابقون من الصوفية دون اللاحقين المعاصرين للشيخ المؤوٍّل فيلسوف التأويل ، لأنه لا يرى في أهل عصره من يستحق أن يعمل له مؤولاً ومدافعاً ومحامياً ، وكيف ذلك وهم ينافسونه على المريدين والصيت والنذور والهدايا ؟؟..  

3 ــ وما أسهل الرد على تأويلات الشعراني وغيره .. إذ أن العبارات الواضحة تستعصي على التبرير والتأويل ، وبل قد يؤكدها التأويل ويفضحها التبرير. كما قال الشعراني في تأويل مقالة الجنيد ( العارفون لا يموتون ..) فإنه أجاب بتأويل اتحادي جعل العارفين يتحدون بالله بإماتة التصرفات البشرية وصيرورتهم جسداً تصرفه روح الله أو حسب تعبيره ( إن العارفين لما جاهدوا نفوسهم في حال سلوكهم حتى ماتت عنهم جميع تصرفاتهم وشهدت التصريف لله وحده.. إلخ ) وقوله في تأويل عبارة الشبلي ( ما في الجبة إلا الله ) أثبت عقيدة الاتحاد حين حاول نفيها فقال ( ولعل مراده .. ما ثم في جسدي فاعل إلا الله نظير قول بعضهم ما في الكونيين إلا الله تعالى )..

4 ــ وبعض تأويلات الشعراني تستدعي الرثاء لضحالتها وتفاهتها ، وذلك في تبريره لمقالات البسطامي التي يفضل فيها نفسه على الله تعالى عن ذلك علواً كبيراً وهي ( طاعتك لي يا رب أعظم من طاعتي لك – بطشي أشد من بطشك – لأن تراني مرة خير لك من أن ترى ربك ألف مرة )..فقد أوّل طاعة الله لأبي يزيد بأنها إجابته لدعائه أي أن الله يطيع أمر أبي يزيد فيستجيب لدعائه وإن هذه الطاعة الإلهية لأبي يزيد أعظم من قيام أبي يزيد بطاعة الله.!. فالشعراني رغم هذا التخريج المبتذل لقول البسطامي أثبت تفضيل البسطامي على الله أيضاً ..ثم فسر الشعراني ( بطش أبي يزيد بالله تعالى) بأنه انتقام لا رحمة فيه، بينما جعل بطش الله بأبي يزيد مخلوطاً بالرحمة.. فكيف يتصور أي عقل أن يبطش البسطامي بالله بطشاً لا رحمة فيه بينما يبطش الله بأبي يزيد بطشاً هيناً ؟؟

5 ــ واستدل الشعراني بآيات قرآنية في معرض التأويل والتبرير فى جُرأة لا تقل عن ( شطح ) أشياخه ، يقول ( وكم في الكتاب والسنة من كلام يحتاج إلى تقدير ) أي أنه طالما وجدت بالقرآن آيات تحتاج إلى تأويل وتفسير ـــ  طبقا لمقولات الدين السُّنّى ــ فكذلك يحتاج كلام الأولياء إلى تأويل وتفسير. والشعراني بذلك يعتبر كلامهم في منزلة القرآن ، هذا مع أن القرآن الكريم لم يرد فيه قول كفر يحتاج إلى تأويل ، فليس  من القياس المنطقي أن يؤول كلام الصوفية حملاً على ما ورد في القرآن الكريم من استعارات وصور بيانية تعبر عن ذات الله تعالى وصفاته التى لا يمكن لأى لسان بشرى أن ينطق بها ، ولا يمكن لقلب بشرى أن يتخيل الخالق جل وعلا ، فجاء التعبير القرآنى عن صفاته جل وعلا بالمجاز حسب مداركنا . وجاء الشعرانى يعامل أشياخه أصحاب الشطحات بإعتبارهم آلهة مع الله جل وعلا و يتمتعون بنفس مكانة الله تعالى .

6 ــ ومن ناحية أخرى فتأليه شيوخ الصوفية يعني تفضيلهم على الرسل .. وتفضيل الوليّ الصوفى على النبي أمر مقرر في العقيدة الصوفية يتجلي في نواح شتى في التفكير الصوفي حتى في معرض التأويل ..فالنبي في عقيدة الإسلام بشر يوحى إليه، وهو مكلف محاسب على ما كسبت يداه ولسانه كباقي البشر ، بل مسئوليته أكبر بحكم الرسالة .وفي القرآن الكريم مواقف تعرض فيها النبي عليه السلام لللوم والتأنيب لمجرد كلمة قالها ربما لو قيلت من إنسان عادي لكان اللوم أقل.. ومن ذلك قوله عليه السلام لزيد بن حارثة (أمسك عليك زوجك ) حين أراد تطليق زينب بنت جحش ، فتعرّض عليه السلام بسبب هذه الكلمة لتأنيب شديد من ربه جل وعلا : ( وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ ..الأحزاب37 ) .ويعنينا من هذه القصة أن الرسول عليه السلام عوتب على كلمة نطق بها. وشطح الصوفية قول فظيع فيه افتراء على الله ما بعده افتراء. ويستحيل على الرسول الوقوع في التقول على الله جل وعلا. ومع ذلك فإن القرآن الكريم لم يغفل عن هذه الناحية الافتراضية فأثبتها وبين عقوبتها بالتفصيل ، يقول تعالى عن محمد صلى الله عليه وسلم (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ ،لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ،ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ ،فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ ..الحاقة 44: 47 )..

7 ــ ولا ننسى وجود الفرق الهائل بين شطح الصوفية المغرق في البذاءة والسّب لرب العزة جل وعلا وبين الافتراء العادي الذي وقع فيه بعض المتنبئين مثل مسيلمة الكذاب وسجاح والأسود العنسي ، فلم يقل أحد قبل أولئك الصوفية مثل هذه البذاءة سبّا فى رب العزة ، ثم يقوم القشيرى و الغزالى والشعرانى وغيرهم بتأويل بذاءتهم والدفاع عنهم ، فى خصومة واضحة لرب العزة الذى يتعرض للشتم والسّب .!!..هنا خصومة فيها ظالم ومظلوم . والذى وقع عليه الظلم والسّب هو رب العزة . ولا بد من تحديد المواقف ، هل نقف مع المعتدى الظالم أم مع الذى وقع عليه الاعتداء ؟ وإختار الشعرانى و الغزالى والقشيرى مناصرة أئمتهم المعتدين الظالمين .

8) ومما سبق نستدل من أسلوب الشعراني في التأويل أن عقيدة الاتحاد أحكمت سيطرتها على عصره ، حتى كان يؤول بعض العبارات بأسلوب اتحادي كما مر ، ومعنى ذلك أن أسلوب الاتحاد انتشر في عصر الشعراني وأصبح عادياً مألوفاً بحيث يستدل به في التأويل .. ومن ذلك تأويله بكلمات ابن عربي ( حدثني قلبي عن ربي أو حدثني ربي عن قلبي أو حدثني ربي عن نفسه ..) بأن مراده أن الله تعالى يلهمه على لسان ملك الإلهام ثم أفاض في توضيح الفرق بين وحي النبي ووحي الأولياء الذي شاع في هذا العصر الإيمان به وتناسى ما في أسلوب ابن عربي من مساواة مرفوضة بينه وبين الله . ومن ذلك أيضاً تأويله لقولهم ( اللوح المحفوظ هو قلب العارف ) والقائلون لذلك من صوفية العصر المملوكي ، تطرفوا في إدعاء الاتحاد وعلم الغيب حتى اعتبروا أن قلب العارف الصوفي هو محل اللوح المحفوظ ، وبرر الشعراني ذلك بما قاله الغزالي عن المرآة واللوح.ومن ذلك تأويل الشعراني لقول الصوفية ( دخلنا حضرة الله ) بالشهود ، والشهود من أوصاف عقيدة الاتحاد في العقيدة الصوفية ..

9 ــ  ثم أورد الشعراني طائفة من الأقوال ادعى أنها لم تصح ،وأنها ألصقت بقائليها الصوفية كذباً ، واعتذر بحجج واهية لجأ فيها إلى ما شاع في عصره من وجوب تقديس وتنزيه أولئك الأشياخ ، كقوله مثلا عن الغزالي ( فإن مثل ذلك كذب وزور على الإمام حجة الإسلام يجب على كل عاقل تنزيه الإمام عنه... وإن وجد ذلك في بعض مؤلفات الإمام فذلك مدسوس عليه.) ، واعتذر عن مقالة للبسطامي أساء فيها الأدب على آدم عليه السلام بأن ذلك مما لم يصح عن أبي يزيد ( فإن الشيخ أبا يزيد من جملة مشايخ رسالة القشيري .. فكيف يصدر عنه مثل هذا الكلام الجافي في حق السيد آدم ).ورسالة القشيري ليست قرآنا يُحتكم إليه، ولكنها أصبحت كذلك في العصر المملوكي عصر السيطرة الصوفية. وإذا كان البسطامي قد شطح في حق آدم واستنكر الشعراني حدوث ذلك وحاول تنزيه البسطامي عنه فكيف به وهو يفضل نفسه على الله ويقول ( طاعتك لي يا رب أعظم من طاعتي لك .. بطشي أشد من بطش الله بي .. إلخ ) أيعتبر حق الله أقل شأناً من ( حق السيد آدم ) ؟؟.

10 ــ على أن تلك العبارات ــ التي يشكك الشعراني في صدق نسبتها لأصحابها – هى متواترة في كتب الصوفية ومثبتة على لسان أصحابها .ويعنينا من ذلك أن الشعراني الذي أنكر أن يكون أبو يزيد البسطامي هو القائل ( لو شفعني الله تعالى في الأولين والآخرين لم يكن ذلك عندي بكبير ..إلخ) .. هو نفسه الشعراني الذي أثبت تلك المقالة نفسها للبسطامي في ترجمته له في الطبقات الكبرى يقول ( دخل الهروي يوماً على أبي يزيد فقال له أبو يزيد : وقع في خاطري أني أشفع لك إلى ربي عز وجل ، فقال : يا أبا يزيد لو شفعك الله في جميع المخلوقين لم يكن ذلك كثيراً إنما هم قطعة طين .. ) [62] . وقال في الأنوار القدسية ( ومن هذا المقام قال أبو يزيد رضي الله عنه لو شفعني الله يوم القيامة في جميع الخلائق لم يكن عندي بعظيم لأنه ما شفعني إلا في قطعة طين ) [63] .

 خامسا : الشعراني يقول بعقائد التصوف

1 ــ الشعراني يشيد بأساتذته الاتحاديين :

وفي الوقت الذي هاجم فيه الشعراني معاصريه من الاتحاديين فإنه أشاد بأساتذته منهم وأوسع لهم في طبقاته مشيداً ومفاخراً بعلمهم بعقائد الاتحاد ، كما يقول عن محمد الصوفي ( أنه كان يحل مشكلات ابن عربي بأفصح  عبارة ، ومن كلامه رضي الله عنه : أعلم أن السير في الطريق سيران ، سير إلى الله وسير في الله ، فما دام السالك في المسالك الفانية التي هي طريق العدم فهو في السير إلى الله ، فإذا قطع كرة الوجود صار إلى المعبود ، ولم تكن هذه الرتبة إلا من طريق الأسماء ، كما أشار إلى ذلك سيدي عمر ابن الفارض بقوله :-

      على سمة الأسماء تجري أمورهم         وإن لم تكن أفعالهم بالسديدة

ففي البداية أنت أنت والاسم الاسم ، وفي وسط الطريق تارة أنت وتارة الاسم ، وفي النهاية أنت ولا اسم فإن التخلق به يظهر فعله على ناسوتك لقوته فلا يرى منك إلا فعل الاسم ، فالمرئي أنت لا الاسم ، لقصور نظر الرائين ، وأما الناقد البصر فهو يعرف قوة الإكسير .. وأطال في ذلك بكلام يدق على العقل رضي الله عنه ) [64]. ويقول الشعراني عن (سيده) الشيخ دمرداش المحمدي أنه رتب على فقراء زاويته كل يوم ختماً يتناوبونه ( ويهدونه في صحائف سيدي الشيخ محيي الدين بن العربي ..) [65].

2 ــ  الشعرانى ينقل عبارات الاتحاد فى كتبه

وتتردد عبارات الاتحاد في تراجم أعيان الصوفية قبل وأثناء العصر المملوكي حتى أن كتاب (الطبقات الكبرى ) للشعراني أصدق مصدر يعبر عن العقيدة الصوفية. ومعنى ذلك أن الشعراني – كمعبٍّر عن عصره وشاهد على عصره – لم يجد في ذلك تحرجاً لأنه منطق العصر وعقليته التى تشرّبت عقيدة الاتحاد ، وكل ما هنالك أن القاعدة الصوفية في الإنكار مرعية تماماً ، وهي تقديس الأشياخ القدامى وقبول كلامهم وتأويل شطحهم بعبارات اتحادية أهدأ ، هذا مع قصر الإنكار على المعاصرين ، وهم بطبيعة الحال أقل شأناً من الشعرانى نفسه ، فلا يستحق الشيوخ المعاصرون للشعرانى الذين هم دون الشعرانى فى المكانة إلا إحتقار الشعرانى ، خصوصا وهم يزاحمونه على النذور وينافسونه على المريدين ، وينافسونه في ادعاء الولاية وهم – حسب اعتقاده – لا يستحقونها؟  ثم كيف يتشبهون بالأكابر السابقين من أئمة الشعرانى فى قول الشطحات ؟ .

وقد واجه الشعراني " قضية ابن عربي " باختصار مؤلفاته ، وتأويل كلامه ، وما استعصى على التأويل ادعى أنه مدسوس عليه ، ثم دعا إلى عدم مطالعة كلامه جملة وتفصيلا .. ولا ريب أن شخصية الشعراني – كصوفي فقيه يهدف للتقريب والتلفيق – قد أملت عليه هذا الطريق ، وجعلته في نفس الوقت يسلك طريق الاعتدال أو النفاق والتقية في تقريره لعقيدة الاتحاد الصوفية التي يؤمن بها ويدعو لها .

3 ــ تقية الشعراني فى موضوع الاتحاد الصوفي :

أ )  بالغ الشعراني في التقية والنفاق متابعة لأشياخه أحمد الزاهد ومدين الأشموني والغمري مع قيامه بالتوفيق بين الإسلام والتصوف . وقد حاول الشعراني – على عادته- أن يسبغ المشروعية على كتمانه لعقيدة الاتحاد بشتى السبل ، كالتعلق بأهداب السلف الصالح والخلط بين الفقه والتصوف والعلم والاتحاد ، كقوله ( ومما منّ الله تبارك وتعالى به على اقتدائي بالسلف الصالح في كتمان الأسرار التي مُنْحتُها بفضل الله تعالى ، فأعرف في كل آية أو حديث أو أثر من الأسرار ما لا يسطر في كتاب ) ، ويقول مستشهداً بروايات سابقة كاذبة ( وقد كان الإمام على رضي الله تعالى عنه يقول : آه ، بعد أن يضرب على صدره – إن هنا لعلوماً جمة ، لو وجدنا من يحملها ؟ وكان رضي الله عنه يقول : علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم علماً لو أفشيته لخضبت هذه من هذه ، وأشار إلى لحيته وعنقه ، وكان أبو هريرة يقول : أخذت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم جرابين من علم فأما واحد فبثثته لكم ، وأما الآخر فلو بثثته لقطع مني هذا البلعوم ) [66] .ومعلوم أن الرسول عليه الصلاة والسلام يستحيل عليه إخفاء شيء من رسالته وعلمه ، ومعلوم أن الإسلام قد تم وأكتمل بانتهاء الوحي ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً .. المائدة 3 ) .وتلك الروايات الكاذبة تتهم النبي بإخفاء جزء من الرسالة ، وعدم تبليغ الرسالة كلها ، وذلك ما يرفضه المؤمن بالله ورسله . إلا أن الصوفية حين عجزوا عن إثبات أصل لعقيدتهم في القرآن الكريم لجأوا إلى الإيهام بأن التصوف هو العلم الخفي الذي اختص به الرسول على الصوفية ، واستشهدوا بأحاديث كاذبة .

ب – ثم يلجأ الشعراني إلى القصص التي وجدت لها السوق الرائجة في عصره ليثبت بها مشروعية التقية .. يقول ( ونقل الشيخ عبد الغفار القوصي عن الشريف الكليمي أنه أخبره أنه كان ذاهباً في طريق العمرة ومعه فقير أعجمي ، فتكلم بشيء من الأسرار ، فقلعت رأسه من بين كتفيه فخفت أنهم يطالبونني به فهرولت وتركته ) [67]. ( وقد حكى الشيخ عبد العزيز المنوفي وكان من أصحاب الشيخ إلى عبد الله القرشي أنهم قالوا للقرشي مرة يا سيدي : لم لا تحدثنا بشيء من الحقائق . فقال لهم : كم أصحاب اليوم ؟ فقالوا : ستمائة رجل فقال : استخلصوا منهم  مائة فاستخلصوا ثم قال : فاستخلصوا منهم عشرين ، ثم قال : استخلصوا منهم أربعة فاستخلصوا له الشيخ قطب الدين العسقلاني والشيخ عماد الدين وابن الصابوني والقرطبي وكانوا أهل مكاشفات وخوارق فقال الشيخ : والله لو تكلمت بشيء من الأسرار والحقائق لكان أول من يفتي بقتلي هؤلاء الأربعة .. ) [68].ولا شك أن قصة الاضطهاد التي لازمت التصوف في بدايته ترسبت في عقل الصوفية اللاحقين، وظهرت في أقاصيصهم وكرامتهم حتى في عصر تمتعوا فيه بالحرية بل وسيطروا عليه ..

ج ــ  ثم وصل الشعراني إلى غرضه وهو فلسفة الإخفاء وتقعيد التقية ، وإسباغها بالمشروعية الفقهية يقول ( ووجه ذلك أن علم الحقائق والأسرار من علم سر القدرة والجبروت ، وإفشاء ذلك كفر بالله عز وجل ، ويجب على العلماء أن يفتوا بكفره ، لأن ذلك بما تعبدهم الله تعالى به ظاهراً صيانة للشريعة المطهرة .. وأيضا فإن الأسرار الإلهية المودعة في قلوب العارفين هي من أمانة الله عندهم ، وهي العهد والعقد وهم مطلوبون بالوفاء بالعهود والعقود وأداء الأمانات إلى أهلها دون غيرهم ، فلو قطع صاحب الأسرار إرباً إرباً لما أظهرها ، لكن إن أعطى الله تعالى عبداً قوة على التلويح دون التصريح كسيدي محمد البكري حفظه الله تعالى من عيون الحاسدين .. فعلم أن كُمّل العارفين لا يقع منهم إفشاء لسر الربوبية ، ثم لو تصور وقوع ذلك منهم في حضور أو غيبة أو غلبة حال حصل القتل ، إذ الغيرة الإلهية تقتضي ذلك كما مر في أسرار الملوك وفي رمزه تعالى فواتح بعض سور القرآن العظيم مع قدرته على إظهار تلك .. ) [69] .أي أن الشعراني وصل في فقهه إلى اعتبار أسرار التصوف كإحدى معجزات القرآن الكريم في فواتح السور...

د ــ والشعراني يعتبر نفسه من ( كُمّل العارفين ) الذين  ( لا يقع منهم إفشاء لسر الربوبية ) مخافة ( القتل ) .. فقد عد من منن الله تعالى عليه ( عدم إفشائي الأسرار المتعلقة بالتوحيد ودقائق الشريعة الشريفة لأحد من الخلق إلا بعد طول امتحانه وكثرة التنكرات – أي الاختبارات – والتغريات عليه ، وإغضابه المرة بعد المرة ، وسبّه بين من يُستحي منهم عادة ، المرة بعد المرة .. وقد جاءني مرة شخص من دهاة فحول الرجال من معلمي دار الضرب بالقلعة يطلب مني أن أطلعه على شيء من أسرار الطريق وألح في ذلك فتنكرت عليه وتغربت مدة وصرت أكلمه بالكلام المؤذن بنقص مرتبته .. فزهقت نفسه مني ونفرت .. وتقدم في هذه المنن أن شخصاً دخل على أبي عبد الله القرشي فرآه يتكلم في الأسرار فلما شعر به قطع الكلام فقال له الشخص: أنا من المعتقدين في أهل الطريق لا تخافوا منّى .. ) [70] . ففي عصر الشعراني اكتملت سيطرة التصوف على الحياة الدينية عقيدة وسلوكاً وشريعة .. ومع ذلك أضحت ( دقائق الشريعة ) من الأمور الملحقة بالعقيدة الصوفية في وجوب إخفائها عمن هم خارج الإطار الصوفي ، ليس خشية من الفقهاء ، ولكن لإظهار تميز الأشياخ الصوفية عن غيرهم من الأوباش ، أو من الفقهاء الملتحقين بالتصوف ، الذين يتمتعون بكراهية الشعراني وعدم ثقته فيهم ..                                                                                                                                 

4 ــ  من أقوال الشعراني في الاتحاد :

ومع شدة تمسك الشعراني بالتقية كما مر فإن لسانه سبقه فأورد عن نفسه بعض عبارات الاتحاد ، ومعلوم أن عبارات الاتحاد التي أوردها الشعراني لأشياخ التصوف السابقين تحظى برضى الشعراني بل وتقديسه ، وإلا فما الذي دعاه للإتيان بها في معرض الفخر بأولئك الأشياخ وتعداد مناقبهم .. إلا أننا نقصر القول عما قال به الشعراني عن عقيدته وآرائه الشخصية لتكتمل الصورة ..وقد أوردنا بعض عبارات الاتحاد التي قالها محمد الصوفي المعاصر للشعراني والجديد هنا أن ذلك الصوفي الذي ( كان يحل مشكلات ابن عربي بأفصح عبارة ) كان في نفس الوقت أستاذاً ومعلماً للشعراني أخذ عنه دقائق عقيدة ابن عربي يقول الشعراني في ترجمته لمحمد الصوفي ( .. صحبته نحو خمس وثلاثين سنة وانتفعت بكلامه وإشاراته ..) [71].

يقول الشعراني مفتخرا جاعلا سجوده فى الصلاة إتحادا بالله جل وعلا عن ذلك علوا كبيرا :( ومما منّ الله تبارك وتعالى به على : شهودي لقرب الحق تبارك وتعالى مني في حال سجودي كحال قيامي على حد سواء ، بالنسبة إليه سبحانه وتعالى ،لأن الله تعالى يقول (واسجد واقترب ) لم يقل قم واقترب )[72] . أي أن الشعراني يشهد الله في قيامه كما في سجوده – ويمتاز بذلك عن بقية البشر ومعروف أن عبارة الشهود إحدى صفات الصوفي المتحد بالله .. فالشعراني يعلن بطريق غير مباشر – أن اتحاده بالله ليس قصراً على السجود وإنما يشمل القيام أيضاً ، ولا يكتفي بتفضيل نفسه على النبي الذي قال له ربه (وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19) العلق ) ولكنه أيضاً يجعل الاقتراب شهوداً للحق بالمفهوم الاتحادي للعقيدة الصوفية .

وجعل الشعراني من الذكر الصوفي طريقاً آخر للاتحاد يقول أن غرض الذكر ( هو نفي كل موجود من القلب سوى الله تعالى)[73] . وقد فصل مراحل الاتحاد حال الذكر الصوفي بقوله (الذاكر ينسى أفراد العالم شيئاً بعد شئ إلى أن يحجب عن شهوده ويصير لا يرى إلا الله ، ثم أنه يحجب عن شهود نفسه كذلك بأن يرق ويدق حتى يصير كالذرة ثم يغيب ، فإذا تحقق بالمقام قيل له ارجع إلى شهود أفراد العالم وانظر إلى ما انطوت عليه من الحقائق فإنها كلها دلائل على ذلك ،فإنك حجبت عن معرفتي بقدر ما حجبت عن شهود العالم ، ثم يرجع بعد معرفة الله إلى أفراد العالم له،  شيئاً بعد شئ إلى أن لا يغيب عنه من العالم ذرة إلا ما كان فوق دائرته ) [74] .

فقوله ( الذاكر ينسى أفراد العالم شيئاً بعد شئ ) تدرج في الاتحاد ، وقوله ( إلى أن يحجب عن شهوده ) اتحاد بالله وفناء عن الطبيعة البشرية ، وقوله ( ويصير لا يرى إلا الله ) يعني وحدة الوجود فقد أصبح الشاهد والمشهود هو الله تعالى عن ذلك علواً كبيراً .. ثم أكد ذلك بقوله ( ثم إنه يحجب عن شهود نفسه كذلك بأن يرق ويدق حتى يصير كالذرة ثم يغيب ) ومعنى ذلك أن الوجود قد أصبح واحداً كاملاً بتحقيق فناء غير الله في الله .. ( فإذا تحقق بالمقام ) أي إذا عرف حقيقة الأمر وهو وحدة الوجود الإلهي المتمثلة في كل الأعيان الموجودة ( قيل له ارجع إلى شهود أفراد العالم وانظر ما انطوت عليه من الحقائق فإنها كلها دلائل على ذلك ) ، أي إذا عرف أن الحقيقة الكبرى هي وحدة الوجود عاد يتمثل إلهه في كل أفراد العالم من شجر وحجر وحيوان فكلها انطوت على الحقائق الدالة على ذلك ، بل وأصبحت دليلاً على معرفته بإلهه ( فإنك حجبت عن معرفتي بقدر ما حجبت عن شهود العالم ) ثم يرى ألهه في كل أفراد العالم ( .. ثم يرجع بعد معرفة الله إلى أفراد العالم له شيئاً بعد شئ ، إلا أن لا يغيب عنه من العالم ذرة إلا ما كان فوق دائرته ) ..

فابتدأ الشعراني بأن الذاكر ينسى أفراد العالم شيئاً فشيئاً إلى أن يتحد بالله ، وحينئذ يعرف الحقيقة الكبرى عندهم وهي أن الله عين العالم ، فيرجع إلى تذكر أفراد العالم حتى لا يغيب عنه منه شيئاً ففي الحالة الأولى نسى كل شئ عن نفسه وعن العالم حتى صار ( كالذرة ) ثم غاب في الحقيقة الإلهية ، وفي الحالة الأخيرة عاد يتذكر كل شئ بعد أن عرف أن العالم هو الله فلم تغب عنه أي ( ذرة ) من العالم وقد قال أيضاً ( لا يزال العبد إذا وصل إلى شهود الوجود في عينه كالذرة ، فتكبر عنده أفراد الوجود شيئاً فشيئاً ، حتى يرجع إلى الحالة الأولى التي كانت له قبل الترقي ، ويصير يعظم الوجود بتعظيم الله تبارك وتعالى )[75].لأن الوجود عنده هو الله جل وعلا عن ذلك علوا كبيرا.!!.

ومن خلال  وحدة الوجود ــ  الحقيقة الكبرى عند الشعراني والصوفية والتي تنتظم في إطارها عقيدة الاتحاد – نظر الشعراني إلى الولي الصوفي فجعله متمتعاً بصفات الله تعالى أو على حد قوله ( أعلى مراتب التقليد من قلد ربه ) [76] . وفي العصر المملوكي وعصر الشعراني على الأخص كان التطبيق العملي لعقيدة الاتحاد حيث تقديس الولي الصوفي وكانت مصنفات الشعراني وكتب المناقب خير دليل على ذلك .وهكذا وقع الشعراني بلسانه فأبان عن عقيدة الاتحاد ووحدة الوجود وأثبت إخلاصه لأشياخه محمد الصوفي وابن عربي والغزالي وغيرهم .. وقد يكون المستحسن أن تسترجع وصف الشعراني للاتحاديين ( .. وبعضهم رأى أن كل شئ في الوجود هو الإله ، وأن عين هذا الوجود الحادث هي عين الله من الجماد والنبات والعقارب والحيّات والجان والأنس والملك والشيطان ، ويجعلون الخلق هو عين المخلوق من خسيس ونفيس ومرجوم وملعون ورائس ومرءوس حتى الأباليس ، وهذا كلام لا يرضاه أهل الجنون ولا من كان في حبه مجنون ، وقد نقلت هذا الكلام في زماننا عن جماعة بالصعيد ، فيعقدون هذه الأمور في ما بينهم وبين أصحابهم من الملاحدة وينكرون ذلك في الظاهر خوف القتل ، بل الذي أقوله أن أبليس نفسه لو ظهر ونسب إليه هذا المعتقد لتبرأ منه واستحيا من الله تعالى، وإن كان هو الذي يلقي إلى نفوسهم بذلك .. وقد حكيت لسيدي على الخواص عن بعض صفات هؤلاء فقال : هؤلاء زنادقة وهم أنجس الطوائف لأنهم لا يرون حساباً ولا عقاباً ولا جنة ولا ناراً ولا حلالاً ولا حراماً ولا آخرة ، ولا لهم دين يرجعون إليه ولا معتقد يجتمعون عليه وهم أخس من أن يذكروا لأنهم خالفوا المعقولات والمنقولات والمعاني وسائر الأديان التي جاءت بها الرسل عن الله تعالى ، ولا نعلم أحداً من طوائف الكفار اعتقد اعتقاد هؤلاء ) [77] .

أخيرا :

1 ــ لا أدل على تسيد التصوف وعقيدته في هذا القرن من انعدام ثورة من الفقهاء على مثال حركتي البقاعي وابن تيمية .. بل حدث العكس وهو تصوف الفقهاء أو نفاقهم للتصوف ، وذلك ما أخاف الشعراني – خير من يفطن لخطورة النفاق - وهو سيد هذا الميدان ..ويعنينا أن التاريخ يعيد نفسه وأن الكراسي قد تبدلت .. فالجنيد كان يتستر بالفقه في زمن كان فيه الفقه هو المسيطر والصوفية مضطهدون في القرن الثالث ثم أصبح بعض الفقهاء في القرن العاشر ينافقون التصوف وينتحلون عقائد الصوفية ويواجهون الإنكار من الشعراني لأنهم غير مخلصين في تصوفهم أو بتعبيره ( متفعلون) .

2 ــ وعرف هذا القرن طوائف شتى من الاتحادية .. المبتدئون الذين تمتعوا بكراهية الشعراني وطالب برءوسهم ، والمعلمون الذين تلقى عنهم الشعراني عقائد الاتحاد ، والمنافقون الموفٍّقون الملفٍّقون الذين جمعوا بين الفقه والتصوف لخدمة التصوف ويتزعمهم الشعراني . وأولئك أسهبوا في تأويل عبارات الاتحاد للسابقين وأحياناً كانوا يشرحونها بأسلوب اتحادي أخف وقعاً من سابقه . ثم هم جميعاً أخلصوا لعقائدهم ودافعوا عنها رغم سطحية الإنكار الفقهي وتفاهته .

 



[1]
إنباء الغمر جـ3/ 465 .

[2] إنباء الغمر جـ3/ 465 .

[3] النجوم جـ15 / 165 : 166 .

[4] إنباء الغمر جـ3/ 392 : 392 .

[5] شذرات الذهب جـ7 / 95 : 96 .

[6].لطبقات الكبرى للشعراني جـ2/ 75 ط صبيح .

[7]الطبقات الكبرى للشعراني جـ2/ 92  ط صبيح .

[8] ترجمته في الضوء اللامع.

[9] الطبقات الكبرى المرجع السابق جـ2/ 75، 93 .

[10] ذكرها جورج قنواني في أبحاث الندوة الألفية للقاهرة  جـ1 /359 : 360 .

[11] الخطط المقريزي جـ 3 / 401 ط دار التحرير .

[12] إنباء الغمر جـ2 / 309 ، 30  ،  496 بالترتيب

[13] إنباء الغمر جـ2 / 309 ، 30   ، 496 بالترتيب

[14]. إنباء الغمر جـ2 / 309 ، 30   ، 496 بالترتيب

[15] تنبيه الغبي 150 للبقاعي

[16] تنبيه الغبي 79 ،80 ،135، 151 ، 196، 152 ،180 ،157 ، 180 ،190 .

[17] تاريخ البقاعي : مخطوط ورقة 153 ب .

[18] الضوء اللامع جـ3/ 186 .

[19] الضوء اللامع جـ3/ 234 .

[20] الطبقات الكبرى للمناوي 99 ب .

[21] ألف البقاعي : تنبيه الغبي في تكفير ابن عربي وتحذير العباد من أهل العناد ببدعة الاتحاد ، وقد حققها الشيخ عبد الرحمن الوكيل في كتاب واحد حمل عنوان ( مصرع التصوف ) .

[22] تاريخ البقاعي مخطوط ورقة 8، 9 .

[23] أبناء الهصر 176 .

[24] تاريخ ابن إياس جـ2/ 119 ط بولاق .

[27] الطبقات الصغرى 39 .

[28] الطبقات الكبرى للشعراني جـ2/ 107 .

[29] الضوء اللامع جـ1/ 171 ، جـ3/ 87 ، 144 : 145 .

[30] الضوء اللامع جـ1/ 171 ، جـ3/ 87 ، 144 : 145 .

[31] الضوء اللامع جـ1/ 171 ، جـ3/ 87 ، 144 : 145.

[32] الضوء اللامع جـ1/ 107 .

[33] الضوء اللامع جـ1/ 108 .

[34] التبر المسبوك 177 . وورد ذلك في الجواهر السنية في مناقب البدوي : 65 .

[35] تاريخ البقاعي : 54 .

[36] أبناء الهصر 256 : 257 .

[37] تاريخ البقاعي 134 : 135مخطوط .

[38] الطبقات الكبرى للمناوي . مخطوط 299 ب .

[39] تاريخ البقاعي : 8 مخطوط .

[40] تحذير العباد 209 وما بعدها .

[41] تاريخ البقاعي : مخطوط 8 أ .

[42] تاريخ ابن إياس جـ2/ 197 ط بولاق .

[43] تأييد الحقيقة العلية 71، 72 ، 73 .

[44] الطبقات الكبرى 64 .

[45] تاريخ ابن إياس جـ2/ 219 : ط بولاق .

[46] الذيل على رفع الأصر 133 .

[47] الطبقات الكبرى جـ2/ 105 .

[48] لطائف المنن 606 – مكتبة عالم الفكر .

[49] لطائف المنن 486 : 487 . ط. قديمة .

[50] لطائف المنن 486 : 487 . ط. قديمة .

 

[51] لواقح الأنوار 71 .

[52] لطائف المنن 395 .

[53] الطبقات الكبرى جـ1/ 163 ط . صبيح .

[54] البحر المورود 274 .

[55] لطائف المنن 294 .

[56] البحر المورود 278 .

[57] لطائف المنن 487 .

[58] لطائف المنن 479 .

[59] درر الغواص : 91 .

[60] لطائف المنن 185 : 195 .

[61] لطائف المنن 197 : 201 .

[62] الطبقات الكبرى جـ1/ 66 .

[63] الأنوار القدسية في بيان آداب العبودية جـ2/ 168 : 169 على هامش الطبقات الكبرى  ط. صبيح .

[64] الطبقات الكبرى جـ2/ 168 .

[65] الطبقات الكبرى جـ2/ 133 .

[66] لطاف المنن 488 .

[67] لطائف المنن 488 : 489 .

[68] لطائف المنن 488 : 489 .

[69] لطائف المنن  448 : 489 .

[70] لطائف المنن 545 : 546 .

[71] الطبقات الكبرى جـ2/ 168 .

[72] لطائف المنن 543 .

[73] لبس الخرقة : مخطوط ورقة 12 .

[74] لواقح الأنوار 113 .

[75]  لطائف المنن 276 :  277 ) .

[76] الجواهر والدرر 170 .

[77] لطائف المنن 486 : 487 .

كتاب ( التصوف والحياة الدينية فى مصر المملوكية
يقع فى ثلاثة أجزاء تتناول بعد التمهيد أثر التصوف فى العقائد الدينية والعبادات الدينية والحياة الأخلاقية فى مصر العصر المملوكى . تعطى مقدمة الكتاب لمحة عن أصل هذا الكتاب ، وأنه كان ضمن الأجزاء المحذوفة من رسالة الدكتوراة التى قدمها المؤلف للمناقشة حين كان مدرسا مساعدا فى قسم التاريخ الاسلامى بجامعة الأزهر عام ذ977 ، ورفضوها وبعد إضطهاد دام ثلاث سنوات تم الاتفاق على حذف ثلثى الرسالة ، ونوقش ثلثها فقط ، وحصل به الباحث على درجة الدكتوراة بمرتبة الشرق الأولى فى اكتوبر 1980 . من الأجزاء المحذوفة من الرسالة ينشر المؤلف هذا الكتاب بأجزائه الثلاثة ، يوضخ فيه أثر التصوف فى مصر المملوكية ويعرض فيه عقائد التصوف
more