رقم ( 4 )
خاتمة كتاب الميراث : تشريع الميراث الاسلامى صمام أمن للمجتمع

أولا :

1 ـ  (الفرد ) هو أساس المجتمع الغربى ، ويحرص التشريع الغربى على حق الفرد فى تحقيق سعادته  مهما تعارضت مع سعادة الآخرين ، لذا تنهار الأُسر ، وينشأ الأفراد فى ظل أسر بديلة أو بلا أب أو أب ليس هو الأب الحقيقى ، ويبادر الشاب على الاعتماد على نفسه سريعا ، يدخل فى صراع لا يهدأ ولا يتوقف فى مجتمع تتركّز فيه الأنانية والتنافس والتكالب والصراع  ، ويظل الفرد فى حمأة هذا الصراع الى أن تدركه الشيخوخة فيجد نفسه ـ إن نجح وصار من أصحاب الملايين ـ وحيدا . ويفتقد الفرد الغربى دفء الأسرة فيعوّض هذا بالانتماء الى النوادى والمنظمات والجمعيات والجماعات تعويضا عن الأسرة الى فقدها .

مقالات متعلقة :

( الأسرة ) هى أساس المجتمع ( الشرقى العربى ) لذا تنمحى شخصية الفرد لصالح الأكبر سِنّا الذى ليس هو بالضرورة الأعقل أو الأعلم ، وتسود قيمة ( الأب ) و ( الأخ الأكبر ) وقيم المجتمع الذكورى من إستبداد وإضطهاد للمرأة وتخلف وتغييب لدور العقل والابداع لصالح ما وجدنا عليه آباءنا .

فى الاسلام توازن رائع بين ( الفرد ) و ( الأسرة ) لصالح المجتمع الذى تمثله سُلطة تخدم هذا المجتمع ولا تحكمه . من ملامح هذا التوازن مسئولية الفرد الشخصية عن دينه يوم القيامة أمام رب العزة جل وعلا ، ومسئوليته عن مشاركته فى مجتمعه تفاعلا بالخير، فهناك حق لله جل وعلا مؤجل الحساب عليه يوم القيامة ، وهناك حق للمجتمع يؤاخذ به الفرد فى الآخرة ، وأيضا فى الدنيا أمام السُّلطة المجتمعية رعاية لحق هذا المجتمع فى الأمن والعدل . ويتجلى هذا التوازن أكثر فى تشريعات الاسلام الاقتصادية ، وخصوصا تشريع الميراث .

ثانيا :

1 ـ فى تشريع الميراث تجد العناصر الثلاث : الفرد ، والأقارب ، والسلطة الاجتماعية . الفرد هو المأمور قبيل موته وهو يودّع الدنيا أن يترك خيرا وهو الوصية لأقرب الناس اليه مع الوالدين ، حرصا على تحقيق العدل ، ويكون المجتمع رقيبا وحارسا على الوصية وعلى رعاية مال اليتيم . الأهمية العُظمى هى فى ( الأقربين وذى القربى ) وهم الحلقة الوسطى بين الفرد والمجتمع ، وسلطته المسئولة ، وهم يحصلون على حقهم فى الميراث :( النساء 7 ، 8 ) وحقهم المالى فى الوصية : (البقرة 180 ).

2 ـ وتشريعات القرآن منظومة متكاملة تؤخذ جميعا ، وبهذا الخصوص نرى الأمر بإعطاء الأقارب (   النحل 90 )، ويُضاف اليهم المساكين وابن السبيل :( الاسراء 26) ( الروم 38) واليتامى فى الصدقة الفردية ( البقرة 215)، والسائلون : (البقرة 177) والمهاجرون :(   النور22 ). كل هذا يدخل فى الانفاق أو التصدق الفردى ، فكل فرد عليه أن يعطى الحقوق المالية للوالدين والأقربين والأقارب واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين والمهاجرين، هذا بالاضافة الى التوزيع الرسمى للصدقات (التوبة 60) والغنائم : (الانفال 41 ) ، وما يدخل الى خزينة الدولة من ( فىء ) أو دخل ( ضرائب) يجب إعطاؤه لذوى القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل : (الحشر 7 ).

3 ـ إعطاء الحقوق المالية لا يكفى ، فقد يكون هناك أقارب لا يحتاجون الى المال ، ولكن بلا شك يهتمون بالحنان والرعاية والاهتمام ، أو بالتعبير القرآنى ( الاحسان ) . إنّ الأمر بالاحسان للوالدين والأقارب واليتامى والمساكين وأن نقول للناس حُسنا جاء ضمن الأوامر الالهية ( البقرة 83 ) ، وبالاحسان تكون الصدقة نابعة من شعور المتصدق أنه يعطى حقا عليه للمستحق للصدقة ، ولا بد أن يعطيه هذا الحق بلا منّ ولا أذى ، بل بما يحفظ على المستحقّ كرامته . ويشمل هذا الاحسان ـ  بالاضافة للوالدين والأقارب واليتامى والمساكين وابن السبيل ـ الجيران والأصحاب ( النساء 36 ). هو مجتمع المودة الذى يشمل الأهل والأقارب ، فالرسول لا يسأل أجرا سوى المودة لذوى القربى :( قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (23) الشورى ).

ثالثا :

1 ـ المستفاد مما سبق : الارتباط بين العطاء المادى والمودة والاحسان فى تعامل الفرد مع والديه وأقاربه ، وأن يشمل هذا دوائر متداخلة ومحيطة بالفرد وأسرته من الفقراء والمساكين واليتامى وابن السبيل والسائلين والجيران والأصحاب . كما يشمل هذا تعامل الفرد وتعامل الدولة فى الصدقات الرسمية وفى الغنائم والفىء أو الدخل الذى يفىء أو يدخل الى خزينة الدولة . هذه الدوائر تتداخل وتتسع لتشمل المجتمع كله ، بمختلف طوائفه ، من الأسرة الى المجتمع كله . هذا التداخل يحمل فى داخله العطاء المالى والعطاء المعنوى من تعاطف وبرّ وإحسان .

2 ـ فى التطبيق لهذا ، نتصور مجتمعا يتكون من مليون أسرة ، أو عشرة ملايين فرد . فى داخل كل أسرة عدة أفراد مُطالبون بإيتاء الصدقة والميراث والوصية وبالاحسان والرعاية للأسرة . أى لدينا عدة ملايين من الأفراد يُعطون حقوق ذوى القربى وغيرهم ، أى لدينا أغلبية من السكان تقوم مع الدولة على رعاية المستضعفين والمحتاجين ، بحيث يجد الفقير والمسكين والأقارب والجيران والأصحاب وحتى الغرباء ( ابناء السبيل ) حقوقهم فى الرعاية والكفالة الاجتماعية . مجتمع مترابط متماسك متكافل كهذا لا خوف عليه من الانفجار الداخلى أو السقوط أمام عدو معتدى .

3 ـ فى هذا المجتمع يأمن الأب والأم فى شيخوختهما ، ويأمن الطفل اليتيم على حقوقه ، ويأمن الأقارب والجيران والفقراء والمساكين وحتى أبناء السبيل . وحين يقترب الفرد المؤمن من الموت يوصى بجزء من ثروته للأقربين لاتمام العدل ، وقد يكتب بعض حقوق لأقاربه على أنها ديون عليه ، ويتم تنفيذ الوصية وسداد الديون قبل توزيع التركة ، وقبلها إذا حضر أقاربه من غير الورثة توزيع التركة يأخذون صدقة ويسمعون قولا معروفا وإحسانا فى التعامل . وفى مجتمع يسوده الحب والتعاطف والعدل والاحسان لا بد للسلطة الاجتماعية فيه أن تُعبّر عن هذا المجتمع لأنها منه ولأنها تخدمه ولا تحكمه .

4 ـ وهذا مجرد ملمح من ملامح المجتمع الاسلامى . ولقد إقتصرنا على دور تشريع الميراث ضمن تشريعات الصدقة فى بناء مجتمع سعيد وصحّى ونظيف . أما عن دور التشريع السنى فى الميراث وغيره فى تكوين طبقة أقلية من المترفين تدمّر المجتمع وتُلقى به الى التهلكة ، فقد تكلمنا فى هذا كثيرا .

كتاب الميراث
يتناول هذا الكتاب ـ ولأول مرة ، التناقض بين تشريع الميراث فى القرآن وفى الفقه السُّنى ، وأثر التشريع القرآنى فى سلامة المجتمع وتماسكه .
more