رقم ( 3 )
الباب الأول : الشفاعة فى الاسلام

 

  الباب الأول : الشفاعة فى الاسلام

الفصل الأول : عرض تمهيدى للشفاعة فى الاسلام 

أولا :

القرآن يؤكد على أن النبى لا يعلم الغيب وليس له أن يتكلم عن السعة وما يحدث فيها ولذلك فإن كل أحاديث الشفاعة لم يقلها النبى ولا يمكن أن يجتمع الإيمان بالقرآن والرسول مع الإيمان بتلك الأحاديث الكاذبة التى تخالف كتاب الله. والله تعالى هو وحده "مالك يوم الدين" وهو وحده تعالى الذى يملك الأمر كله يوم القيامة، والنبى نفس بشرية ينطبق عليها قوله تعالى ﴿يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالأمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلّهِ﴾ (الإنفطار 19). لذا قال تعالى للنبى ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ﴾ (آل عمران 128). وإذا أصدر مالك يوم الدين قراراً يوم القيامة فلا مجال لتبديل كلمته، وسيقول تعالى حينئذ ﴿مَا يُبَدّلُ الْقَوْلُ لَدَيّ وَمَآ أَنَاْ بِظَلاّمٍ لّلْعَبِيدِ﴾ (ق 29). ومن التكذيب بآيات الله تعالى أن يؤمن بعضنا بأن الله تعالى يصدر قراراً بأن يدخل بعض الناس النار فيتشفع فيهم النبى ويتراجع الله تعالى عن قراره، لأنه ليس فى إمكان النبى أن يتدخل فى إخراج أحد من النار، فالله تعالى يقول له ﴿أَفَمَنْ حَقّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن فِي النّارِ﴾ (الزمر 19).

والإيمان بأحاديث الشفاعة تلك ليس فقط تكذيباً لآيات الله تعالى الصريحة الواضحة ولكنه أيضاً تأليه للنبى محمد عليه السلام بل وتطرف فى تأليهه إلى درجة الادعاء بأنه هو صاحب الأمر يوم القيامة وأنه مالك يوم الدين، وهو الادعاء ضمناً بأن النبى هو أرحم الراحمين لأنه ينقذ الناس من النار بعد أن يحكم الله تعالى بدخولهم فيها.. وهو الادعاء ضمناً بأن النبى هو الأعلم بحال البشر من الله ولذلك فهو يتدخل لدى الله لإنقاذ بعضهم، ولا يملك الله تعالى إلا الموافقة.. فهل ذلك يتفق عقلاً مع الإيمان بالله تعالى مالك يوم الدين الذى لا شريك له فى ملكه وحكمه؟ . والإيمان بالحديث الكاذب الذى يدعى أن النبى يشفع فى البشر جميعاً شفاعة عظمى معناه التكذيب الصريح بالقرآن الذى لا يجعل للنبى أى ميزة يوم القيامة، بل يؤكد أنه مثل كل نفس بشرية يتعرض للحساب والمساءلة ويحاول أن ينجو بنفسه من هول الموقف.. فالنبى نفس بشرية ينطبق عليها قوله تعالى ﴿يَوْمَ يَفِرّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ. وَأُمّهِ وَأَبِيهِ. وَصَاحِبَتِهُ وَبَنِيهِ. لِكُلّ امْرِىءٍ مّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ﴾ (عبس 34: 37) أى سيفر الجميع فى ذلك الوقت ولن يجد النبى أو غيره وقتاً لكى يفكر فى غيره، فكيف سيتصدر للشفاعة فى البشر جميعاً؟

ثم كيف سيتدخل النبى فى حساب البشر ليتوسط فى إدخال بعضهم الجنة، والله تعالى يقول للبشر جميعاً قال تعالى﴿يَأَيّهَا النّاسُ اتّقُواْ رَبّكُمْ وَاخْشَوْاْ يَوْماً لاّ يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً إِنّ وَعْدَ اللّهِ حَقّ فَلاَ تَغُرّنّكُمُ الْحَيَاةُ الدّنْيَا وَلاَ يَغُرّنّكُم بِاللّهِ الْغَرُورُ. إِنّ اللّهَ عِندَهُ عِلْمُ السّاعَةِ﴾ (لقمان 33،34). وصدق الله العظيم. فالله تعالى هو وحده الذى عنده علم الساعة، وقد أخبرنا ببعض غيب الساعة فى القرآن، ومنه أن النبى وهو والد ومولود لا يملك أن ينفع والده ولا يستطيع أن ينفع ابنه.. وإذا كان لا ينفع ابنته فاطمة فكيف سينفع الآخرين؟. ثم كيف سيتدخل النبى فى حساب البشر ويشفع فيهم وهو نفسه يتعرض للحساب والمساءلة.. إن الله تعالى يؤكد على حساب الأنبياء يوم القيامة حين يجعل الحديث عن حسابهم وهم أفراد مساوياً للحديث عن باقى البشر، والبشر ملايين البلايين، يقول تعالى ﴿فَلَنَسْأَلَنّ الّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنّ الْمُرْسَلِينَ﴾ (الأعراف 6) وبالنسبة لخاتم النبيين فإن الله تعالى يتحدث عن حسابه وهو شخص واحد ويقرن ذلك بحساب الذين معه وهم آلاف الناس، يقول تعالى ﴿وَإِنّهُ لَذِكْرٌ لّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ﴾ (الزخرف 44). وفى حساب النبى فلن يستطيع أن ينفع أحداً من أصحابه، وليس بإمكان أحد من أصحابه أن يغنى عنه شيئاً، يقول الله تعالى للنبى ﴿وَلاَ تَطْرُدِ الّذِينَ يَدْعُونَ رَبّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيّ.. مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مّن شَيْءٍ﴾ (الأنعام 52). أى فلن يتحمل النبى شيئاً من حسابهم ولن يتحمل أحدهم شيئاً من حساب النبى.ومن الغريب أن يقول الله تعالى له نفس الكلام عن المشركين، يقول تعالى للنبى عنهم ﴿وَلاَ تَتّبِعْ أَهْوَآءَ الّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ. إِنّهُمْ لَن يُغْنُواْ عَنكَ مِنَ اللّهِ شَيْئاً﴾ (الجاثية 18،19) أى أنهم لن ينفعوا النبى بشىء يوم القيامة، وفى ذلك تمام العدالة.. فالقيامة هى العدالة المطلقة التى لا نظير لها، يقول الله تعالى ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبّةٍ مّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَىَ بِنَا حَاسِبِينَ﴾ (الأنبياء 47).

ولكن تلك العدالة فى اليوم الآخر تحولت فى عقائدنا إلى ظلم وشفاعات ووساطات وتزكية لنا نحن دون باقى الأمم، وأصبح من العقائد الثابتة لدينا أن الجنة من نصيبنا نحن من دون البشر جميعاً، وأن أحداً لن يدخل الجنة إلا بعد أن نرضى عنه، وبذلك سلبنا الله تعالى حقوقه علينا وجعلنا أنفسنا مالكين ليوم الدين، وبعد أن ترسب فى اعتقادنا أننا نجحنا فى اختبار يوم القيامة قبل أن تقوم القيامة فعلنا كل الموبقات، والآن نتمتع بكل الرذائل التى أهلك الله تعالى بسببها الأمم السابقة، لدينا السرقات والنهب والتطفيف فى الكيل والموازين، وكان ذلك سبب إهلاك قوم شعيب، ولدينا وباء الشذوذ الجنسى الذى أهلك الله تعالى بسببه قوم لوط، ولدينا ادعاء الألوهية وتقديس البشر الذى أهلك الله تعالى بسببه الأمم السابقة.. ونحن نعبد البشر من الأئمة والأنبياء ونضفى التقديس على أكاذيب ننسبها للرسول ونجعلها فوق كلام الله، ومع ذلك نؤمن بأننا أولياء لله تعالى من دون الناس ونعتقد أننا خير أمة أخرجت للناس..!! ونكتفى بنقد الآخرين ولا نتصور أن فينا عيباً واحداً..!! ومع أننا نرى الله تعالى يذيقنا العذاب الأدنى فى الدنيا إلا أننا لا نتعلم ، وينطبق علينا قوله جل وعلا : " ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلهم يرجعون " خصوصا وأن رب العزة يقول بعدها على من يكذب بآيات الله تعالى ويعرض عنها تمسكا بأكاذيب الشفاعات وكتب الأحاديث الضالة : " ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنها ، انا من المجرمين منتقمون." السجدة 21ـ22"

ونحن  بحمد الله تعالى ـ الذى لا يحمد على مكروه سواه ـ أصبحنا أذل الأمم وأضعفها وأضيعها. نتمتع باذلال حكامنا المسلمين لنا ، ويتمتع حكامنا المقدسون باذلال الغرب لهم، ونحن من محكومين وحكام أصبحنا شر أمة أخرجت للناس.نشرة الأخبار العالمية تتزين دائما بأخبارنا السوداء قتلى وضحايا وقتلة ومجرمون ، أصبحنا آفة العالم ، تظهر فينا بكل صدق لعنة الله تعالى علينا ، أو عذابه الأدنى فينا ، ثم ينتظرنا العذاب الأخزى فى الآخرة ان لم نتب ونرجع للقرآن مخلصين وننبذ افك التراث الضال . كل ذلك النصح لا يجدى مع من يتمسك بتلك الأحاديث والعقائد الضالة التى أوردتنا مورد التهلكة.. ولا نتعلم..

ثانياً:

من يؤمن بشفاعة النبى يستدل عليها بالأحاديث وبتأويل لآيات القرآن الكريم. وقد قرر علماء الأصول أن أحاديث الأحاد- ومنها أحاديث الشفاعة- لا تؤخذ منها العقائد والسمعيات والغيبيات، لأن العقائد لا تؤخذ إلا من الحق القرآنى اليقينى، وقبل علماء الأصول فإن القرآن نفسه يؤكد على أن النبى لا يعلم الغيب وليس له أن يتحدث فى الغيبيات، ومنها علامات الساعة والشفاعة، أى أن تلك الأحاديث لم يقلها النبى، وبالتالى فإن الاستشهاد بها فى إثبات شفاعة النبى أمر باطل.

نأتى بعدها لمحاولتهم تأويل آيات القرآن لإثبات شفاعة مزعومة للنبى عليه السلام.. وفى البداية نقول أن محاولة التأويل فى آيات القرآن معناه أن تحصل بالتأويل على معنى يأتى مناقضاً لآيات عديدة فى القرآن الكريم، وعلى سبيل المثال فإنك إن استطعت بالتأويل والتحريف أن تثبت شفاعة للنبى فإنك ستأتى بمعنى يخالف القرآن الذى يقول للنبى ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ﴾ (آل عمران 128) ويقول له ﴿أَفَمَنْ حَقّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن فِي النّارِ﴾ (الزمر 19).أما الذى يبحث عن الحق فى القرآن يبغى وجه الله تعالى ويرجو الهداية فإنه يترك نفسه بين آيات القرآن ولا يفرض عليها أهواءه وأمنياته، وحيثما تصل به الآيات الكريمة إلى معنى فإنه يتمسك به ويضحى فى سبيله بكل ما توارثه من عقائد وأفكار. والقرآن الكريم كتاب مثانى متشابه، والمعانى فيه تتكرر، والمتشابه من الآيات يتكرر فيها المعنى الواحد بصور مختلفة، وفى نفس الوقت تؤكد الآيات المتشابهة المعنى الذى تأتى به الآيات المحكمة، ومعنى ذلك أن الباحث عن الحق فى القرآن لن يلجأ إلى تأويل بعض الآيات لكى يؤكد ما توارثه من عقائد، ثم يأتى فى النهاية بما يخالف آيات القرآن، لن يفعل ذلك الباحث عن الحق، ولكه سيراجع القرآن الكريم كله، ويأتى بالآيات الخاصة بموضوعه، ما كان منها محكماً وما كان منها متشابهاً، وكل الآيات معاً ستعطى حقيقة قرآنية واحدة.

وبالنسبة لقضية الشفاعة سيجد الآيات نؤكد على أن النبى ليس له من الأمر شىء وأنه فى حياته كان يخاف أن عصى ربه عذاب يوم عظيم، وأنه كان يعلن أنه لن يجيره من الله أحد ولن يجد من دون الله ناصراً إلا إذا بلغ الرسالة.. وطالما أن هذه الآيات وهى كثيرة- تؤكد على نفى شفاعة النبى إذن يبدأ الباحث عن الحق فى تتبع آيات الشفاعة بعد أن تأكد منها أنها لا شأن لها بالنبى، خصوصاً قوله تعالى عن الشفاعة ﴿مَن ذَا الّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاّ بِإِذْنِهِ﴾ (البقرة 255) لأن الآية التى قبلها تنفى الشفاعة بمفهومها البشرى أى التوسط، فالآية تقول ﴿يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُوَاْ أَنْفِقُواْ مِمّا رَزَقْنَاكُم مّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ﴾ (البقرة 254). فإذا كان فى هذه الدنيا بيع وخلة أى صداقة وإذا كان فى هذه الدنيا وساطة وشفاعة ومحسوبية، فليس فى الآخرة شىء من ذلك.

والقرآن ذكر الشفاعة فى آيات محكمات وآيات متشابهات.. وآية ﴿أَنْفِقُواْ مِمّا رَزَقْنَاكُم مّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ﴾ من الآيات المحكمة التى تنفى الشفاعة بمفهومها البشرى الذى نمارسه فى الدنيا والذى على أساسه نتمنى أن يكون يوم الدين سوقاً لشفاعة الأنبياء والأولياء.. ولذلك تأتى آيات محكمة كثيرة تنفى هذه الشفاعة وتؤكد على أنه ليس بإمكان نفس بشرية أن تنفع نفساً بشرية، ومنها قوله تعالى ﴿وَاتّقُواْ يَوْماً لاّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنْصَرُونَ﴾.. ﴿وَاتّقُواْ يَوْماً لاّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ﴾ (البقرة 48،123). وقوله تعالى ﴿يَأَيّهَا النّاسُ اتّقُواْ رَبّكُمْ وَاخْشَوْاْ يَوْماً لاّ يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً﴾ (لقمان 33).

أما الآيات المتشابهة فهى تفسر بعضها بعضاً، فقوله تعالى ﴿مَن ذَا الّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاّ بِإِذْنِهِ﴾. وقوله تعالى ﴿مَا مِن شَفِيعٍ إِلاّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ﴾ (يونس 3) يشير إلى أن هناك من المخلوقات- غير البشر- من يشفع ولكن بعد إذن الرحمن، ولكى تعرف هذه المخلوقات نرجع إلى باقى الآيات، فالله تعالى يقول ﴿يَوْمَئِذٍ لاّ تَنفَعُ الشّفَاعَةُ إِلاّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرّحْمَـَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً﴾ (طه 109). فالآية هنا أضافت الرضى من الرحمن بعد الإذن، وتأتى آية أخرى تقول عن الجاهلين وعبادتهم للملائكة ﴿وَقَالُواْ اتّخَذَ الرّحْمَـَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مّكْرَمُونَ. لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ. يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاّ لِمَنِ ارْتَضَىَ وَهُمْ مّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ﴾ (الأنبياء 26: 28). إذن يتضح لنا أن الملائكة هى التى تشفع ولكن بعد رضى الله تعالى وإذنه وأمره، ثم تأتى آية أخرى تقول بصراحة ﴿وَكَمْ مّن مّلَكٍ فِي السّمَاوَاتِ لاَ تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللّهُ لِمَن يَشَآءُ وَيَرْضَىَ﴾ (النجم 26). إذن الملائكة هم المقصودون بقوله تعالى ﴿مَن ذَا الّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاّ بِإِذْنِهِ﴾. ولأنهم ملائكة فإن لهم دوراً فى الحساب، وهذا الدور قد حدده رب العزة بأمره وإذنه ورضاه، ولا اختيار للملائكة فى ذلك، وعليه فالشفاعة مصدرها الله تعالى، بأمره وإذنه ورضاه، أما أولئك البشر الذين أصدروا من عندهم قراراً بأن بعض البشر سيشفع فيهم عند الله، فالله تعالى هو الذى رد على أولئك الذين أخذوا من عندهم شفعاء من البشر لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً، يقول تعالى ﴿أَمِ اتّخَذُواْ مِن دُونِ اللّهِ شُفَعَآءَ قُلْ أَوَلَوْ كَـانُواْ لاَ يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلاَ يَعْقِلُونَ. قُل لِلّهِ الشّفَاعَةُ جَمِيعاً﴾ (الزمر 43،44). فالبشر هم الذين يتخذون الأولياء والشفعاء، وهم الذين يؤلفون الأساطير والأحاديث والأكاذيب، وهم الذين يعبدون أولئك الشفعاء وينتظرون منهم المدد فى الدنيا والجاه فى الآخرة، وينسون أن الله تعالى هو وحده الولى ﴿أَمِ اتّخَذُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ فَاللّهُ هُوَ الْوَلِيّ﴾ (الشورى 9) وينسون أن الله وحده هو الشفيع ﴿أَمِ اتّخَذُواْ مِن دُونِ اللّهِ شُفَعَآءَ.. قُل لِلّهِ الشّفَاعَةُ جَمِيعاً﴾.

ومن عجب أن القرآن يؤكد على أن النبى لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً إلا بإذن الله، ومع ذلك يجعلونه مالكاً ليوم الدين وشفيعاً يوم القيامة بالمخالفة لكتاب الله العزيز.

ثالثاً:

يوم القيامة، يوم يقوم الناس لرب العالمين، له مراحل تبدأ بالبعث ثم الحشر ثم العرض ثم الحساب ثم دخول الجنة أو النار، وعند الحشر والهول العظيم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه، ينطبق هذا على كل البشر من الأنبياء وغيرهم، وعند العرض أمام الله تعالى يقف البشر جميعاً أمامه جل وعلا صفاً ﴿وَعُرِضُواْ عَلَىَ رَبّكَ صَفّاً﴾ (الكهف 48). وبعدها يوضع كتاب الأعمال لكل أمة ولكل شخص بعينه. وتعقد المحاكمة الإلهية فى يوم الحساب أو يوم الفصل أو يوم التغابن. والقاضى هنا هو رب العزة ﴿يَوْمَ هُم بَارِزُونَ لاَ يَخْفَىَ عَلَى اللّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلّهِ الْوَاحِدِ الْقَهّارِ. الْيَوْمَ تُجْزَىَ كُلّ نَفْسٍ بِمَا كَـسَبَتْ لاَ ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنّ اللّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ. وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الأَزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ. يَعْلَمُ خَآئِنَةَ الأعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصّدُورُ. وَاللّهُ يَقْضِي بِالْحَقّ﴾ (غافر 16: 20).هل هناك أعظم من هذا الكلام؟ سبحان من كان هذا كلامه!!

فى المحكمة الإلهية لا ظلم، بل عدل مطلق، ونحن فى محاكمات الدنيوية نراعى العدل ما استطعنا، ولا نرضى بأن يتشفع أحدنا فى المتهم أمام القاضى ويجعله يخرج بريئاً وهو مستحق للإدانة، ومع ذلك فإننا نرض أن نزيف أقاويل ننسبها للنبى عليه السلام نجعل فيها المحكمة الإلهية يوم الحساب سوقاً للشفاعات والوساطات، ونكذب بآيات الله تعالى الصريحة التى تكررت فى القرآن تنفى شفاعة البشر، بل وتجعل دور الأنبياء فى تلك المحاكم الإلهية العظمى مناقضاً لتلك الشفاعة المزعومة.

فى محاكمنا الدنيوية هناك شاهد لصالح المتهم وهناك شاهد يشهد على المتهم ويثبت عليه الجريمة، وهناك فرصة للمتهم كى يدافع عن نفسه ما استطاع، وكل ذلك طبعاً بعد أن يأذن القاضى للشاهد والمتهم.. وذلك أقصى ما استطعنا الوصول إليه فى تحقيق العدالة على الأرض، إلا أن العدالة لا تتحق أحياناً لأن القاضى بشر ، وحتى لو كان يتحرى العدل فإنه لا يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور.

أما فى المحكمة التى يعقدها الله تعالى عالم الغيب والشهادة فإنه جل وعلا يوفر كل الفرصة لكل فرد لكى يدافع عن نفسه ما استطاع، وحيث أن كل إنسان يأتى للحساب حريصاً على النجاة بنفسه فقط فإنه لا مجال لأن تجزى نفس عن نفس شيئاً أى لا مجال لأن يشفع بشر فى البشر، بل يحدث العكس، وهو أن يحاول كل منا أن يلقى المسئولية على الآخر لينجو، ولذلك فإن الشاهد البشرى الذى يشهد لصالح المتهم أمام الله لا وجود له، لأن كل نفس بشرية منهمكة فى الجدال عن نفسها فقط يقول تعالى ﴿يَوْمَ تَأْتِي كُلّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نّفْسِهَا وَتُوَفّىَ كُلّ نَفْسٍ مّا عَمِلَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ﴾ (النحل 111).

وتبدأ المحاكمة الإلهية بأفضل البشر وهم الأنبياء والدعاة للحق، الذين يؤتى بهم أولاً ليشهدوا (على) أقوامهم،أى شهادة خصومة ضد أقوامهم يقول تعالى ﴿وَأَشْرَقَتِ الأرْضُ بِنُورِ رَبّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِـيءَ بِالنّبِيّيْنَ وَالشّهَدَآءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقّ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ﴾ ثم يقول عن حساب باقى البشر ﴿وَوُفّيَتْ كُلّ نَفْسٍ مّا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ﴾ (الزمر 69،70). أى يأتى النبى شاهداً (على) قومه ، أى شاهد خصومة، يدافع عن نفسه أمام ربه بأنه بلغ الرسالة وأدى ما عليه، أى أنه لا يشهد (لقومه) أى لصالحهم ولكن يشهد (عليهم) أى يكون خصماً لمن عصى منهم، والله تعالى يقول ﴿إِنّآ أَرْسَلْنَآ إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِداً عَلَيْكُمْ كَمَآ أَرْسَلْنَآ إِلَىَ فِرْعَوْنَ رَسُولاً﴾ (المزمل 15). والرسول يكون شاهداً على قومه الذين عاصرهم وشاهدهم، والأمة التى لم يشهدها الرسول فى حياته يكون عليها شهداء من الذين عايشوهم، يقول تعالى ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلّ أمّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَىَ هََؤُلآءِ شَهِيداً﴾ (النساء 41). والله تعالى حكى بعض ما سيحدث فى ذلك اليوم: إذ سيدور حوار بين الله تعالى وعيسى عليه السلام، يقول فى نهايته عيسى ﴿مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاّ مَآ أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبّي وَرَبّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمّا تَوَفّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ (المائدة 117). أى كان شهيداً عليهم مدة حياته فيهم.. أما خاتم النبيين عليه سلام الله فسيقول ﴿ يَرَبّ إِنّ قَوْمِي اتّخَذُواْ هَـَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً﴾ (الفرقان 30). وهذا هى مصيبتنا الكبرى.. أننا اتخذنا القرآن مهجورا ، وهو الذى ضمن الله تعالى حفظه ليكون حجة علينا إلى يوم الدين ، واتخذناه مهجورا بأن اكتفينا باتخاذه أغنية للمقرئين والمنشدين فىة حفلات العزاء ، واتخذناه " رقية " وحجابا " فى الصالون والسيارة والمكتب مجرد رمز للبركة للمعتقدين فى الزار والأرواح الشريرة ، هجرناه بابعاده عن حياتنا العملية فى العقائد والسلوكيات ، بينما اتبعنا فى تلك الحياة العملية كتب الزيف والأحاديث الشيطانية وأوليائها وأئمتها. ولأنهم اسندوا كل هذه الضلالات للنبى محمد ،ولأنهم رسموا له شخصية الاهية تخالف حقيقته البشرية التى أكدها القرآن الكريم ، ولأنهم جعلوه بتلك الأحاديث الضالة مالكا ليوم الدين بالشفاعة الكاذبة ـ بسبب ذلك كله سيأتى النبى محمد يوم القيامة يتبرأ منهم جميعا لأنهم خصومه الحقيقيون ، تقول الآية التالية " وكذلك جعلنا لكل نبى عدوا من المجرمين ، وكفى بربك هاديا ونصيرا. " الفرقان 31 "

وبعد النبى هناك شهيد على كل مجتمع من داخل المجتمع نفسه ﴿وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلّ أُمّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مّنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً عَلَىَ هَـَؤُلاَءِ وَنَزّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لّكُلّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَىَ لِلْمُسْلِمِينَ﴾ (النحل 89). أى أنه بعد وفاة النبى محمد هناك شهيد على كل أمة تالية فى كل مجتمع، وموضوع الشهادة هو الكتاب الحكيم الذى أنزله الله تعالى تبياناً لكل شىء فهجره المسلمون فى سبيل أحاديث مزورة سيتبرأ منها الرسول يوم القيامة. الشاهد على أمته كان فى خصومة مع قومه. هو يِؤكد لهم أن الله تعالى أنزل القرآن الكريم تبيانا لكل شىء وهم يؤكدون أن القرآن غامض محتاج لتفسير ، موحز محتاج لتفصيل ، وناقص محتاج لتكميل ، وفيه من التشريعات ما يستوجب الحذف والالغاء ، لذا يؤمنون أن السنة أو أحاديثهم تنسخ ـ أى تلغى  ـ بعض تشريعات القرآن ، وانها تشرح القرآن وتكمله وتفسره وتهيمن عليه . هذا هو موضوع الشهادة يوم القيامة ، اذ سيأتى الشهود يشهدون شهادة خصومة على أقوامهم يؤكدون قوله تعالى " وَنَزّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لّكُلّ شَيْءٍ  " دون أن يجرؤ المشركون وقتها على التشكيك فى القرآن متسائلين فأين تفصيلات الصلاة والزكاة و  .. فى القرآن الكريم ؟ 

ولذلك فإن الذين اخترعوا تلك الأحاديث والذين يروجون لها ويصدون عن سبيل الله وكتابه ويبغونها عوجاً هم أشد الناس خزياً يوم العرض على الله، يقول تعالى عن أولئك الكاذبين على الله ورسوله ﴿وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى اللّهِ وُجُوهُهُم مّسْوَدّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنّمَ مَثْوًى لّلْمُتَكَبّرِينَ﴾ (الزمر 60).كانوا فى الدنيا متكبرين بما لديهم من سطوة وأتباع، لأنهم ينشرون بين العوام أحاديث تطمعهم فى دخول الجنة بغير عمل وتشجعهم على الانحراف والتخلف طالما ضمنوا الجنة وأيقنوا أنهم سيدخلونها بالشفاعة البشرية المزعومة، وأولئك المتكبرون هم أعداء الأنبياء حين يروجون لأكاذيب ما نطق بها أنبياء الله، يقول تعالى ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلّ نِبِيّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَىَ بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَآءَ رَبّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ﴾ ويقول تعالى عن جمهورهم من الناس ﴿وَلِتَصْغَىَ إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالاَخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُم مّقْتَرِفُونَ. أَفَغَيْرَ اللّهِ أَبْتَغِي حَكَماً﴾ (الأنعام 112، 113: 114).

أولئك الكاذبون أعداء النبى سيكون المتمسكون بالحق شهوداً عليهم يوم القيامة، فهم أظلم الناس حين افتروا على الله ورسوله كذباً، يقول تعالى ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمّنِ افْتَرَىَ عَلَى اللّهِ كَذِباً أُوْلَـَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَىَ رَبّهِمْ وَيَقُولُ الأشْهَادُ هَـَؤُلآءِ الّذِينَ كَذَبُواْ عَلَىَ رَبّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظّالِمِينَ. الّذِينَ يَصُدّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَيَبْغُونَهَا﴾ (هود 19).أولئك الكاذبون سيكونون خصماً لله تعالى، لأنهم زيفوا الدين الذى أنزله للسمو بالناس وكتموا الحق الذى عجزوا عن تزييفه، لذلك فإن الله تعالى فى محكمته العظمى سيكون خصماً لهم، لن يكلمهم ولن يزكيهم ﴿إِنّ الّذِينَ يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلَ اللّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَـَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاّ النّارَ وَلاَ يُكَلّمُهُمُ اللّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ. أُولَـَئِكَ الّذِينَ اشْتَرَوُاْ الضّلاَلَةَ بِالْهُدَىَ وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَآ أَصْبَرَهُمْ عَلَى النّارِ﴾ (البقرة 174: 175) .ورب العزة يتعجب من صبرهم على النار.. لأن عذابهم أشد، يقول تعالى ﴿الّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَاباً فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يُفْسِدُونَ﴾ (النحل 88).

رابعاً:

قوله تعالى ﴿مَن ذَا الّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاّ بِإِذْنِهِ﴾ يفسره قوله تعالى ﴿وَكَمْ مّن مّلَكٍ فِي السّمَاوَاتِ لاَ تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللّهُ لِمَن يَشَآءُ وَيَرْضَىَ﴾ (النجم 26). أى أن الملائكة هى التى تشفع فى النفس البشرية المستحقة للشفاعة، ولكن بعد إذن الله تعالى ورضاه، والملائكة فى ذلك تنفذ أمر الله، فالله تعالى هو وحده صاحب الأمر كله وله تعالى الشفاعة جميعاً ﴿أَمِ اتّخَذُواْ مِن دُونِ اللّهِ شُفَعَآءَ قُلْ أَوَلَوْ كَـانُواْ لاَ يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلاَ يَعْقِلُونَ. قُل لِلّهِ الشّفَاعَةُ جَمِيعاً﴾ (الزمر 43: 44).

وكل فعل تقوم به الملائكة تنفيذاً لأمر الله تعالى ينسبه الله تعالى لذاته حيناً وينسبه للملائكة حيناً، رأينا ذلك فى الشفاعة فى الآيات السابقة، ونراه أيضاً فى الموت، فالله تعالى يأمر الملائكة بقبض نفس الإنسان حين الموت، والله تعالى يقول ﴿اللّهُ يَتَوَفّى الأنفُسَ حِينَ مِوْتِهَا﴾ (الزمر 42) أى أنه يصدر الأمر والإذن، ويقول تعالى أيضاً ﴿قُلْ يَتَوَفّاكُم مّلَكُ الْمَوْتِ الّذِي وُكّلَ بِكُمْ﴾ (السجدة 11). أى أن ملك الموت هو قائد التنفيذ، ويساعده جملة من الملائكة والله تعالى أعلم بهم، يقول تعالى ﴿حَتّىَ إِذَا جَآءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرّطُونَ﴾ (الأنعام 61). إذن فعل الموت يأتى منسوباً لله تعالى باعتباره صاحب الأمر، ويأتى منسوباً للملائكة باعتبارها صاحبة التنفيذ.. وكذلك الشفاعة.. الله تعالى هو صاحب الأمر والإذن، وعلى الملائكة التنفيذ. ولكن من هم الملائكة الذين يشفعون فى الإنسان المستحق للشفاعة؟

نبدأ القصة من أولها، من خلق الإنسان، يقول تعالى ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾ كيف يكون الله تعالى أقرب إليك من حبل الوريد؟ عن طريق الملائكة التى تسجل عليك أعمالك وتحفظها فى سجلات، هى كتاب أعمالك، تقول الآية التالية ﴿إِذْ يَتَلَقّى الْمُتَلَقّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشّمَالِ قَعِيدٌ. مّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ (ق 16، 17: 18). إذن هناك اثنان من الملائكة مقترنان بكل فرد منّا يسجل عليه أعماله وأقواله ويحفظانها، والله تعالى يقول عن الملائكة التى تحفظ أعمال الإنسان ﴿وَإِنّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ. كِرَاماً كَاتِبِينَ. يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ﴾ (الإنفطار 10: 12).والإنسان فى حال حياته لا يستطيع أن يرى هذين الملكين اللذين يحفظان أعماله، ولكنه يراهما مع ملائكة الموت، حين تأتيه سكرة الموت وينكشف عنه غطاء الجسد ويرى الملائكة التى تحفظ أعماله قد أغلقت كتاب أعماله فيتمنى أن يأخذ فرصة أخرى ولكن دون جدوى، ﴿حَتّىَ إِذَا جَآءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبّ ارْجِعُونِ. لَعَلّيَ أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلاّ إِنّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَآئِلُهَا وَمِن وَرَآئِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَىَ يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾ (المؤمنون 99: 100). ويدخل كل منا فى البرزخ ميتا ثم تقوم الساعة ويتم البعث للجميع ، ويفاجأ كل منا وقد تحول الرقيب والعتيد اللذان كانا يحفظان أعماله إلى سائق وشهيد؛ أحدهما يسوقه والآخر يشهد عليه . يقول تعالى ﴿مّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ. وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ. وَنُفِخَ فِي الصّورِ ذَلِكَ يَوْمَ الْوَعِيدِ. وَجَآءَتْ كُلّ نَفْسٍ مّعَهَا سَآئِقٌ وَشَهِيدٌ. لّقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مّنْ هَـَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَآءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ﴾ (ق 18: 22).

فى الدنيا كان الإنسان حراً يتصرف كما يريد ولا تملك الملائكة التى تحفظ أعماله إلا أن تسجل أعماله فقط، وفى الآخرة يفقد حرية الإرادة وتستحضره الملائكة التى تحمل أعماله إلى موقف العرض أمام الله تعالى. وهنا يكون أسيراً لما كسبت يداه، أو بتعبير القرآن ﴿كُلّ امْرِىءٍ بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ﴾ (الطور 21).

وعند الحساب أمام رب العزة جل وعلا تأتى كل نفس بشرية بمفردها والله تعالى يقول للبشر جميعاً ﴿وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَىَ كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوّلَ مَرّةٍ وَتَرَكْتُمْ مّا خَوّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَىَ مَعَكُمْ شُفَعَآءَكُمُ الّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَآءُ﴾ (الأنعام 94). أى يأتى البشر للحساب فرادى وقد تركوا خلفهم المال والجاه والمناصب والعزوة والأتباع ، وتركوا أيضا أساطير الشفاعات ، وسيرون بأعينهم أولئك البشر الذين أسندوا اليهم الشفاعة وهم يفرون لكل امرىء منهم شأن يغنيه. كل منا يأتى أمام الله تعالى يوم الحساب عبدا فردا ، لا فرق بين أعظم البشر وهم الأنبياء وأحط المخلوقات. كل منهم يؤتى به أمام الواحد القيوم فردا. ويقول تعالى عن ذلك الموقف العظيم ﴿إِن كُلّ مَن فِي السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ إِلاّ آتِي الرّحْمََنِ عَبْداً. لّقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدّهُمْ عَدّاً. وَكُلّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً﴾ (مريم 93: 95). كل منهم يأتى وحده نفسا بشرية تدافع عن نفسها وتنال نصيبها ان خيرا فخيرا وجنة ،وان شرا فشرا وجحيما : ( يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (111) النحل ).

الفرد هو الواحد ، اما الشفع فهو الذى يأتى للفرد الواحد يؤيده ويشفع فيه . الفرد الوحيد يحتاج إلى شفيع، يؤيده ويعزز موقفه، وذلك معنى شفاعة الملائكة فى أصحاب العمل الصالح من الأفراد، فكل فرد منا فى هذه الحياة قد وكل به ملك يحفظ ويسجل أعماله . ان كانت أعماله صالحة جىء به أمام الله تعالى يسوقه سائق ويحمل أعماله شاهد أو شهيد : (وَجَآءَتْ كُلّ نَفْسٍ مّعَهَا سَآئِقٌ وَشَهِيدٌ.) ق 21 ).     ( الشهيد ) هنا الذى يحمل العمل . إذا كان العمل صالحا تكون شهادته شفاعة أى لصالح الفرد. أما اذا كان العمل سيئا شريرا فالشاهد الذى يحمل هذا العمل سيكون خصما وشاهدا " على " الفرد.

الخلاصة أن الملائكة التى تحمل العمل الصالح للفرد المؤمن تقدم كتاب أعماله حين يأذن الله تعالى ويرضى، والله تعالى يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم، والملائكة التى كانت تحفظ سجل حياة الفرد فى الدنيا باسم رقيب وعتيد، يتحولان لكل فرد إلى سائق وشهيد، أحدهما يسوقه إلى موقف العرض والآخر يشهد له أو يشهد عليه، إذا كان عمله صالحاً فهو يشهد له، أى يشفع فيه بتقديم عمله الصالح بعد إذن رب العزة جل وعلا، وإذا كان عمله سيئاً فهى ليست شفاعة ولكن إدانة لا تنفع ولا تشفع بل تزيد صاحب العمل حسرة ونقمة.

وهكذا فإن شهادة الملائكة التى تحمل العمل الصالح للمؤمن الفائز هى الشفاعة، وبالطبع فهذه الملائكة هى التى تقترن بكل فرد تعلم خباياه وتسجل كل حركة وكل لفظة، ولذلك يقول تعالى عن شفاعة الملائكة ﴿وَلاَ يَمْلِكُ الّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشّفَاعَةَ إِلاّ مَن شَهِدَ بِالْحَقّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ (الزخرف 86). فالملائكة الذين يحفظون الأعمال لكل منا يشهدون بالحق لأنهم يعلمون كل صغيرة وكبيرة عن الفرد الذى رافقوه فى حياته.. ولأن ذلك يكون بعد إذن الله تعالى وأمره فإن الله تعالى يقول ﴿لاّ يَمْلِكُونَ الشّفَاعَةَ إِلاّ مَنِ اتّخَذَ عِندَ الرّحْمََنِ عَهْداً﴾ (مريم 87). فالعهد هو الأمر، يقول تعالى ﴿وَلَقَدْ عَهِدْنَآ إِلَىَ ءَادَمَ﴾ (طه 115). أى أمرنا آدم، ويقول ﴿أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَبَنِيَ آدَمَ أَن لاّ تَعْبُدُواْ الشّيطَانَ إِنّهُ لَكُمْ عَدُوّ مّبِينٌ﴾ (يس 60). فأوامر الله تعالى أن لا نعبد الشيطان، وقد عهد الله لملائكة الأعمال أى أمرهم وأذن لهم بالشفاعة أى تقديم العمل عند الحساب لأولئك الذين آمنوا وعملوا الصالحات.. وذلك هو معنى شفاعة الملائكة، وهى الشفاعة الوحيدة المسموح بها فى اليوم الأخر طبقا للقرآن الكريم ..

خامساً:

حدثت هذه القصة فى المدينة فى عصر الرسول عليه السلام، سرق شاب درعاً وشاع أمر السرقة وصارت فضيحة للشاب السارق، وأحس أهله بالعار فاجتمعوا ليلاً ليتداركوا الفضيحة، وانتهوا إلى قرار، خبأوا الدرع المسروق فى بيت يهودى برئ، ثم ذهبوا فى الصباح للنبى يدافعون عن ابنهم (المظلوم) وتم العثور على الدرع المسروق فى بيت اليهودى واقتنع النبى ببراءة الشاب ودافع عن براءته.. وبذلك تمت تبرئة المجرم وتمت إدانة برئ مظلوم..ولأنها قصة إنسانية تكرر فى كل زمان ومكان، فإن القرآن نزل يوضح الحق وينصف المظلوم ويثبت جريمة السارق ويضع القواعد، ويحول الحادثة المحددة بالزمان والمكان والأشخاص إلى قضية عامة فوق الزمان والمكان، قضية البرئ المظلوم والمجرم صاحب النفوذ الذى يفلت بجريمته. وبدأت الآيات بعتاب النبى، تقول له ﴿إِنّآ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النّاسِ بِمَآ أَرَاكَ اللّهُ وَلاَ تَكُنْ لّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً. وَاسْتَغْفِرِ اللّهِ إِنّ اللّهَ كَانَ غَفُوراً رّحِيماً. وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنّ اللّهَ لاَ يُحِبّ مَن كَانَ خَوّاناً أَثِيماً﴾ ولا شك أن أولئك الناس كانوا من الصحابة المقربين للنبى الذين كانوا يتمتعون بتقدير خاص لديه، ولكن لأنهم اجترءوا على تبرئة ابنهم المجرم واتهام إنسان (يهودى) برئ فقد جعلهم الله من الخونة الآثمين.. وتلك عظمة الرقى التشريعى فى الإسلام، فالبرئ له حقوقه حتى لو كان يهودياً والمجرم مستحق للاحتقار هو وأهله الذين يعاونونه حتى لو كانوا من أقرب أصحاب النبى إليه.ثم يقول تعالى يصف تآمر أولئك (الصحابة) ﴿يَسْتَخْفُونَ مِنَ النّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيّتُونَ مَا لاَ يَرْضَىَ مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً﴾ أى أنهم كانوا يراعون الناس ولا يراعون رب الناس جل وعلا.. تآمروا ليلاً على اتهام برئ ليبرئوا ابنهم المجرم، وقد نسوا أن الله تعالى معهم يسمع نجواهم ومحيط بكل ما يعملون. ثم يتوجه العتاب للنبى ولهم فيقول تعالى ﴿هَا أَنْتُمْ هََؤُلآءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا فَمَن يُجَادِلُ اللّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً﴾؟؟!! يعنى إذا كنتم تجادلون وتدافعون عنهم فى الدنيا فهل يستطيع أحد منكم أن يدافع عنهم أو يشفع فيهم يوم القيامة، وهل يستطيع أحد منكم أن يكون وكيلاً عنهم أمام الله، والاستفهام استنكارى.. يعنى أن الله تعالى يستنكر منذ البداية وجود الظلم ، فقد أنزل الكتاب لتأسيس العدل وليقوم الناس بالقسط، ولكن الذى حدث أن الناس لم يكتفوا بنشر الظلم فى الدنيا بل وتصوروا يوماً للحساب فى الآخرة يقوم أيضاً على الوساطات والشفاعات حتى يستطيع الذى نجا بظلمه فى الدنيا أن ينجو أيضاً فى الآخرة.. ولذلك فإن الله تعالى بعد أن عاتبهم- ومنهم النبى- بأنهم إذا كانوا يجادلون عن الخونة فى الدنيا فلن يستطيعوا الدفاع عنهم فى الآخرة.

 وبعدها يضع الله تعالى القواعد التى على أساسها تتم عدالة الحساب فى الآخرة حيث لا مجال للشفاعة أو التوسط أو المحاباة، فيقول تعالى ﴿وَمَن يَعْمَلْ سُوَءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمّ يَسْتَغْفِرِ اللّهَ يَجِدِ اللّهَ غَفُوراً رّحِيماً﴾ أى أن المذنب إذا استغفر الله غفر الله له، وحينئذ لا حاجة لوسيط خارجى، عليه أن يتوب والله تعالى يتوب عليه، أى أنه مسئول عن نفسه، إن تاب فالله تعالى غفور رحيم. وتؤكد الآية التالية هذه الحقيقة ﴿وَمَن يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنّمَا يَكْسِبُهُ عَلَىَ نَفْسِهِ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً﴾ أى فالمسئولية فردية ولا يغنى أحد عن أحد، والله تعالى (عليم) بكل ما يحدث فى العالم (حكيم) فى كل أحكامه وقضائه وتشريعاته. وتقول الآية التالية ﴿وَمَن يَكْسِبْ خَطِيَئَةً أَوْ إِثْماً ثُمّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَاناً وَإِثْماً مّبِيناً﴾ أى فالذى لا يكتفى بالإثم ولكن يضيف عليه أن يلصق الإثم ببرئ ليفلت هو إنما اكتسب مع الإثم بهتاناً عظيما.. فالعقاب على قدر الجناية..

وفى النهاية يقول تعالى للنبى ﴿وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمّتْ طّآئِفَةٌ مّنْهُمْ أَن يُضِلّوكَ وَمَا يُضِلّونَ إِلاّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرّونَكَ مِن شَيْءٍ وَأَنزَلَ اللّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً﴾ (النساء 105: 113) أى فلولا الوحى وما نزل من الكتاب لاستطاعوا خداع النبى وتضليله، ولكن الله تعالى بفضله على النبى أخبره بما لم يكن يعلم  بتآمر أولئك الصحابة الخونة المخادعين الذين كذبوا على النبى ليبرئوا ابنهم بالباطل ويلصقوا الجريمة ببرىء ، وهم فى الحقيقة لم يخدعوا إلا أنفسهم، وما أضلوا غيرهم.

وهكذا لم يتحدث القرآن عن فلان السارق وفلان البرئ وأسرة الجانى وزمن الحادثة وتفصيلاتها، وإنما تحولت الحادثة التاريخية الى قضية عامة نراها فى كل مجتمع لتكون حجة على أصحاب النفوذ الذين يستغلون نفوذهم والواسطة أو الشفاعة فيهربون من العقوبة على جرائمهم ويضعون الأبرياء مكانهم فى السجون ، وتلك احدى أهم الرذائل التى تنتشر فى بلاد " المسلمين " الذين آمنوا بالشفاعات والوساطات فى الدين وفى الدنيا فخسوهما معا، ولذلك تمتلىء السجون فى بلادنا بالمظاليم حتى يقول المثل الشعبى "ياما فى الحبس مظاليم".

والآيات تنفى أن كل الصحابة أطهار بررة، فمنهم السابقون الأطهار ومنهم من خلط عملا صالحا وآخر سيئا ، ومنهم منافقون، ومنهم خونة متآمرون، وذلك الوصف ليس من عندنا ولا نجرؤ على قوله إلا من خلال ما قاله رب العزة فى الآيات السابقة ، استرجع معنا ماقاله تعالى عنهم فى هذا السياق :" ( وَلاَ تَكُنْ لّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً") ـ ( "وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنّ اللّهَ لاَ يُحِبّ مَن كَانَ خَوّاناً أَثِيماً" ـ يَسْتَخْفُونَ مِنَ النّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللّهِ) ـ ( وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمّتْ طّآئِفَةٌ مّنْهُمْ أَن يُضِلّوكَ وَمَا يُضِلّونَ إِلاّ أَنْفُسَهُمْ )". نقول هذا حتى لا تتقافز أمامنا الماعز غاضبة تتهمنا بأننا الذين نهاجم الصحابة .ان الذى ذكر قصص الصحابة التى نخجل منها الآن هو الله تعالى الذى لا معقب لحكمه.. وعليه فإن إضفاء العدالة على كل الصحابة أمر يخالف العقل ويجافى القرآن الكريم.

والآيات تثبت أن النبى بشر يستطيع الآخرون خداعه وتضليله، إلا أن عصمته بالوحى، إذ يأتى الوحى يوضح له الحق ويأمره بالاستغفار من الذنب، وعن عصمة النبى بالوحى فقط يقول له ربه تعالى ﴿قُلْ إِن ضَلَلْتُ فَإِنّمَآ أَضِلّ عَلَىَ نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيّ رَبّي﴾ (سبأ 50). وإضفاء العصمة المطلقة للنبى تأليه للنبى، فالله سبحانه وتعالى هو وحده المنزه عن الخطأ، وهو الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

فى موضوعنا عن الشفاعة ، فالآيات تثبت أن النبى لن يستطيع أن يجادل عن أحد يوم القيامة أو أن يشفع فيه، فالمسئولية تقع على كل فرد، إذا تاب تاب الله عليه، وإذا عصى ولم يتب فالعقاب على قدر الجريمة.. والله تعالى يقول ﴿مَن يَعْمَلْ سُوَءًا يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً﴾ (النساء 123). أى ولا يجد له من دون الله شفيعاً. ولذلك فإن الذين ارتكنوا فى الدنيا على شفاعة البشر فإنهم سيقولون فى النار ﴿وَمَآ أَضَلّنَآ إِلاّ الْمُجْرِمُونَ. فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ. وَلاَ صَدِيقٍ حَمِيمٍ﴾..!!

وموعدنا أمام الله تعالى يوم القيامة ليحكم بيننا فيما نحن فيه مختلفون..

 

 

 الباب الأول: الشفاعة فى الاسلام .

الفصل الثانى : الشفاعة فى القرآن الكريم فى رؤية منهجية

 مدخل:

1 ـ القرآن الكريم هو سبيل الله تعالى وصراطه المستقيم الذى لا مكان فيه للعوج ( الكهف 1) (الزمر 28 )، ولهذا فإن فى القرآن الكريم تفصيلات جاءت على علم لمن يعرفها من المؤمنين بالقرآن (وَلَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ : الأعراف 52 ). ولكى يتعرف عليها الباحث فى القرآن لا بد أن يتمتع بالهداية الايمانية و الهداية العلمية، وهما معا يتفقان فى موضوعية المنهج العلمى. وتتجلى النزاهة العلمية و الموضوعية العلمية فى التعامل المنهجى مع المحكم و المتشابه فى القرآن الكريم . فى القرآن الكريم آيات محكمة المعنى موجزة اللفظ ولكن قاطعة الدلالة لا مجال فيها لأكثر من رأى. تلك هى الآيات المحكمات،هذه الآيات المحكمة تشرحها آيات أخرى هى الآيات المتشابهة.

2 ـ الباحث المسلم عليهيدخل على القرآن الكريم بدون رأى مسبق يسعى لإثباته ، بل يكون مستعدا للتمسك بأى حقيقة قرآنية تظهر له فى بحثه مهما خالفت عقائده المتوارثة ومستعدا لأن يضحى فى سبيلها بحياته ومستقبله . بعد هذا الاستعداد الايمانى الموضوعى العلمى  يقوم بتتبع الآيات المحكمة فى موضوعه البحثى فى القرآن ، ثم يأتى بكل ما يتصل به من آيات متشابهة ، وسيجد الآيات المتشابهة تشرح المحكمات ، فالاية المحكمة تاتى بالمعنى محددا وقاطعا ولو فى صيغ مختلفة ، أما الاية المتشابهة فتاتى بالتفصيل والتوضيح دون ادنى تناقض مع الآيات المحكمة فى نفس الموضوع .هنا يجد الباحث عن الهداية أن موضوعه قد توضح بالقرآن بعد أن قام بواجب ( التدبر ) أى السعى ( دبر ) أو خلف الآيات المحكمة ثم خلف الآيات المتشابهة وربط هذا بذاك.  وهذا ما يشير اليه قوله تعالى (هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا: آل عمران 7)،وكالعادة فان الله تعالى يوضح منهج الباحثين المؤمنين بالقرآن أو( الراسخون فى العلم ) الذين يؤمنون بكل ما فى القرآن وأنه لا عوج فيه ولا اختلاف ولا تناقض، لذلك يتتبعون كل الآيات الخاصة بالموضوع ويبحثونها معا فى سياقها الخاص وسياقها العام ، وفى اطار أنها يفسر بعضها بعضا ويفصّل بعضها بعضا و يكمل بعضها بعضا .

3 ـ أما الصنف الآخر الذى فى قلبه مرض فيتجاهل المحكم وينتقى المتشابه ، يحرّف معناه ليخدم غرضه ، ثم يضيف أحاديث موضوعة .وبالتحريف فى معانى القرآن الكريم واختراع أحاديث كاذبة تمت إقامة عقائد شركية (نسبة للشرك ) وكفرية (نسبة للكفر ) تناقض الاسلام ، ومنها اسناد الشفاعة كذبا للنبى محمد عليه السلام وغيره. وبهذا قام أصحاب الديانات الأرضية من المسلمين بتحريف معانى القرآن الكريم  وصنع اسلام مغشوش يناقض الاسلام الحق ، وحققوا ما نبأ به رب العزة سلفا من هوية أولئك الذين يصدون عن سبيل الله تعالى ويتخذونها عوجا . والشفاعة هى تبرير و تسويغ و تشجيع  العوج فى الأخلاق و السلوك والمعتقدات ، وقد أنبأ رب العزة بأن مصيرهم الخلود فى النار عكس ما يأملون من شفاعات ، ولقد وصف الله تعالى أهل النار بأنهم الذين كانوا فى حياتهم الدنيا يصدون عن سبيل الله تعالى ويبغونها عوجا : ( الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُم بِالآخِرَةِ كَافِرُونَ )( الأعراف 45 ) ( الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ ) هود 19 )( الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُوْلَـئِكَ فِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ ).ابراهيم 3 )

ولنبحث قضية الشفاعة مثالا  للتوضيحفى كيفية التعامل مع المحكم وٍالمتشابه .

 1 ـ فى البداية فان القرآن يؤكد على أن النبى محمدا عليه السلام لا يعلم الغيب ـ خصوصا غيب اليوم الآخر ، فليس له أن يتكلم عن الساعة وما يحدث فيها ، ولذلك فإن كل أحاديث الشفاعة مجرد أكاذيب لم يقلها النبى ، وإسنادها اليه عداء شديد لخاتم النبيين عليه وعليهم السلام . علاوة على انه كفر بالقرآن الكريم ،فلا يمكن أن يجتمع الإيمان بنقيضين مختلفين ؛الايمان بالقرآن والرسول مع الإيمان بتلك الأحاديث الكاذبة التى تخالف كتاب اللهوتعادى رسول الله عليه السلام.

والله تعالى هو وحده "مالك يوم الدين" وهو وحده تعالى الذى يملك الأمر كله يوم القيامة، والنبى نفس بشرية ينطبق عليها قوله تعالى ﴿يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالأمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلّهِ﴾ (الإنفطار 19). لذا قال تعالى للنبى ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ﴾ (آل عمران 128). وإذا أصدر مالك يوم الدين قراراً يوم القيامة فلا مجال لتبديل كلمته، وسيقول تعالى حينئذ ﴿مَا يُبَدّلُ الْقَوْلُ لَدَيّ وَمَآ أَنَاْ بِظَلاّمٍ لّلْعَبِيدِ﴾ (ق 29). ومن التكذيب بآيات الله تعالى أن يؤمن بعضنا بأن الله تعالى يصدر قراراً بأن يدخل بعض الناس النار فيتشفع فيهم النبى ويتراجع الله تعالى عن قراره، لأنه ليس فى إمكان النبى أن يتدخل فى إخراج أحد من النار، فالله تعالى يقول له ﴿أَفَمَنْ حَقّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن فِي النّارِ﴾ (الزمر 19).

والإيمان بأحاديث الشفاعة تلك ليس فقط تكذيباً لآيات الله تعالى الصريحة الواضحة ولكنه أيضاً تأليه للنبى محمد عليه السلام ، بل وتطرف فى تأليهه إلى درجة الادعاء بأنه هو صاحب الأمر يوم القيامة وأنه مالك يوم الدين . وهو الادعاء ضمناً بأن النبى هو أرحم الراحمين لأنه ينقذ الناس من النار بعد أن يحكم الله تعالى بدخولهم فيها.. وهو الادعاء ضمناً بأن النبى هو الأعلم بحال البشر من الله ولذلك فهو يتدخل لدى الله لإنقاذ بعضهم، ولا يملك الله تعالى إلا الموافقة.. فهل ذلك يتفق عقلاً مع الإيمان بالله تعالى مالك يوم الدين الذى لا شريك له فى ملكه وحكمه؟

والإيمان بالحديث الكاذب الذى يدعى أن النبى يشفع فى البشر جميعاً شفاعة عظمى معناه التكذيب الصريح بالقرآن الذى لا يجعل للنبى ـ أى نبى ـ أى ميزة يوم القيامة، بل يؤكد أنه مثل كل نفس بشرية يتعرض للحساب والمساءلة ويحاول أن ينجو بنفسه من هول الموقف.. فالنبى نفس بشرية ينطبق عليها قوله تعالى ﴿يَوْمَ يَفِرّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ. وَأُمّهِ وَأَبِيهِ. وَصَاحِبَتِهُ وَبَنِيهِ. لِكُلّ امْرِىءٍ مّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ﴾ (عبس 34: 37) أى سيفر الجميع فى ذلك الوقت ولن يجد النبى أو غيره وقتاً لكى يفكر فى غيره، فكيف سيتصدر للشفاعة فى البشر جميعاً؟

ثم كيف سيتدخل النبى فى حساب البشر ليتوسط فى إدخال بعضهم الجنة، والله تعالى يقول للبشر جميعاً : ﴿ يَأَيّهَا النّاسُ اتّقُواْ رَبّكُمْ وَاخْشَوْاْ يَوْماً لاّ يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً إِنّ وَعْدَ اللّهِ حَقّ فَلاَ تَغُرّنّكُمُ الْحَيَاةُ الدّنْيَا وَلاَ يَغُرّنّكُم بِاللّهِ الْغَرُورُ. إِنّ اللّهَ عِندَهُ عِلْمُ السّاعَةِ﴾(لقمان 33،34). وصدق الله العظيم. فالله تعالى هو وحده الذى عنده علم الساعة، وقد أخبرنا ببعض غيب الساعة فى القرآن، ومنه أن النبى وهو والد ومولود لا يملك أن ينفع والده ولا يستطيع أن ينفع ابنه. وإذا كان لا ينفع ابنته فاطمة فكيف سينفع الآخرين؟

ثم كيف سيتدخل النبى فى حساب البشر ويشفع فيهم وهو نفسه يتعرض للحساب والمساءلة.. إن الله تعالى يؤكد على حساب الأنبياء يوم القيامة حين يجعل الحديث عن حسابهم وهم أفراد مساوياً للحديث عن باقى البشر، والبشر ملايين البلايين، يقول تعالى:﴿ فَلَنَسْأَلَنّ الّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنّ الْمُرْسَلِينَ﴾ (الأعراف 6) وبالنسبة لخاتم النبيين فإن الله تعالى يتحدث عن حسابه وهو شخص واحد ويقرن ذلك بحساب الذين معه وهم آلاف الناس، يقول تعالى ﴿وَإِنّهُ لَذِكْرٌ لّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ﴾ (الزخرف 44).

وفى حساب النبى فلن يستطيع أن ينفع أحداً من أصحابه، وليس بإمكان أحد من أصحابه أن يغنى عنه شيئاً، يقول الله تعالى للنبى ﴿وَلاَ تَطْرُدِ الّذِينَ يَدْعُونَ رَبّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيّ.. مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مّن شَيْءٍ﴾ (الأنعام 52). أى فلن يتحمل النبى شيئاً من حسابهم ولن يتحمل أحدهم شيئاً من حساب النبى. بل يقول الله تعالى له نفس الكلام عن المشركين، يقول تعالى للنبى عنهم ﴿وَلاَ تَتّبِعْ أَهْوَآءَ الّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ. إِنّهُمْ لَن يُغْنُواْ عَنكَ مِنَ اللّهِ شَيْئاً﴾ (الجاثية 18،19) أى أنهم لن ينفعوا النبى بشىء يوم القيامة، وفى ذلك تمام العدالة.. فالقيامة هى العدالة المطلقة التى لا نظير لها، يقول الله تعالى ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبّةٍ مّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَىَ بِنَا حَاسِبِينَ﴾ (الأنبياء 47).

ولكن تلك العدالة فى اليوم الآخر تحولت فى عقائدالمسلمين الأرضية إلى ظلم وشفاعات ووساطات وتزكية لهم دون باقى الأمم، وأصبح من العقائد الثابتة لديهم أن الجنة من نصيبهم وحدهم  من دون البشر جميعاً، وأن أحداً لن يدخل الجنة إلا بعد أن يرضى عنهأصحاب الديانات الأرضية المسلمون ، وبذلك سلبنا الله تعالى حقوقه علينا وجعلنا أنفسنا مالكين ليوم الدين، وبعد أن ترسب فى اعتقادنا أننا نجحنا فى اختبار يوم القيامة قبل أن تقوم القيامة.

وبالشفاعة المزعومة أعطينا أنفسنا ـ نحن المسلمين ـ الجنة مقدما دون أن نعمل لها ، بل و تشجعنا على  فعل كل الموبقات لأننا قد ضمنّا لأنفسنا الجنة مقدما بشفاعة (المصطفى ) (وبرغم أنف أبى ذر) مهما ارتكبنا من ظلم وعصيان. ولذلك تجد الاعتقاد فى الشفاعة هو السبب الحقيقى فى تخلف المسلمين خلقيا و عقليا وانسانيا وحضاريا .

2 ـ :صانعو اكذوبة شفاعة النبى محمد زيفوا لها الأحاديث وحرّفوا من أجلها آيات القرآن الكريم. هذا مع أن علماء الأصول قد أكدوا أن أحاديث الأحاد- ومنها أحاديث الشفاعة- لا تؤخذ منها العقائد والسمعيات والغيبيات، لأن العقائد لا تؤخذ إلا من الحق القرآنى اليقينى. وقبل علماء الأصول فإن القرآن نفسه يؤكد على أن النبى لا يعلم الغيب وليس له أن يتحدث فى الغيبيات، ومنها علامات الساعة والشفاعة، أى أن تلك الأحاديث لم يقلها النبى، وبالتالى فإن الاستشهاد بها فى إثبات شفاعة النبى كفر بالقرآن الكريم . نأتى بعدها لمحاولتهم تأويل ـ أى تحريف ـ آيات القرآن لإثبات شفاعة مزعومة للنبى عليه السلام..

وفى البداية نقول أن محاولة التأويل ـ أى تحريف ـ آيات القرآن معناه أن تحصل بالتأويل على معنى يأتى مناقضاً لآيات عديدة فى القرآن الكريم. وعلى سبيل المثال فإنك إن استطعت بالتأويل والتحريف أن تثبت شفاعة للنبى فإنك ستأتى بمعنى يخالف القرآن الذى يقول للنبى ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ﴾ (آل عمران 128) ويقول له ﴿أَفَمَنْ حَقّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن فِي النّارِ﴾ (الزمر 19)، أما الذى يبحث عن الحق فى القرآن يبغى وجه الله تعالى ويرجو الهداية فإنه يترك نفسه بين آيات القرآن ولا يفرض عليها أهواءه وأمنياته، وحيثما تصل به الآيات الكريمة إلى معنى فإنه يتمسك به ويضحى فى سبيله بكل ما توارثه من عقائد وأفكار.

والقرآن الكريم كتاب مثانى متشابهتتكرر فيه المعانى وتتأكد ، فالمتشابه من الآيات يتكرر فيها المعنى الواحد بصور مختلفة، وفى نفس الوقت تؤكد الآيات المتشابهة المعنى الذى تأتى به الآية المحكمة، ومعنى ذلك أن الباحث عن الحق فى القرآن سيراجع القرآن الكريم كله،ويأتى بالآيات الخاصة بموضوعه، ما كان منها محكماً وما كان منها متشابهاً، وسيجد كل الآيات معاً تعطى حقيقة قرآنية واحدة.وهذا من أسرار التكرار والتفصيل والبيان القرآنى .

3 ـ وبالنسبة لقضية الشفاعة سيجد الآياتالمحكمة تؤكد على أن النبى ليس له من الأمر شىء وأنه فى حياته كان يخاف أن عصى ربه عذاب يوم عظيم، وأنه كان يعلن أنه لن يجيره من الله أحد ولن يجد من دون الله ناصراً إلا إذا بلغ الرسالة.. وطالما أن هذه الآيات المحكمة ـ وهى كثيرة- تؤكد على نفى شفاعة النبى إذن يبدأ الباحث عن الحق فى تتبع الآياتالمتشابهة فىالشفاعة بعد أن  يكون قد تأكد بالآيات المحكمات أن النبى محمدا لا يشفع وليس له من الأمر شىء. عندها سيجد الايات المتشابهة لا شأن لها بالنبى محمد ولا تتحدث عنه، وانما يفسر بعضها بعضا فى تأكيد ما تقرره الآيات المحكمات.

إن أشهر الآيات المتشابهات فى موضوع الشفاعة هى قوله تعالى ﴿مَن ذَا الّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاّ بِإِذْنِهِ﴾ (البقرة 255)قد جاءت فى سياق آية محكمة قبلها تنفى الشفاعة بمفهومها البشرى أى التوسط، فالآية تقول ﴿يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُوَاْ أَنْفِقُواْ مِمّا رَزَقْنَاكُم مّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ﴾ (البقرة 254). فإذا كان فى هذه الدنيا بيع وخلة أى صداقة وإذا كان فى هذه الدنيا وساطة وشفاعة ومحسوبية، فليس فى يوم الحساب شفاعة بشرية ولا صداقة بشرية ولا عقد صفقات وبيع وشراء .وعليه فان قوله تعالى للمؤمنين (يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُوَاْ أَنْفِقُواْ مِمّا رَزَقْنَاكُم مّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ﴾ (البقرة 254)هو آية قرآنية محكمة تنفى الشفاعة بمفهومها البشرى الذى نمارسه فى الدنيا والذى على أساسه نتمنى أن يكون يوم الدين سوقاً لشفاعة الأنبياء والأولياء.

4 ـ ونتوقف مع أمثلة قرآنية للآيات المحكمات التى تنفى شفاعة البشر يوم القيامة ـ والأنبياء هم خير البشر . ولا شفاعة لأحد منهم. هناك آيات محمكات تنفى شفاعة النبى محمد وتنفى أيضا علمه بالساعة وأنه لا يملك لأحد نفعا ولا ضرا فى الدنيا ولا فى الآخرة ٍ، يقول جل وعلا (يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللّهِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ . الأعراف 187 ـ  ) اى كانوا يسألونه عن يوم القيامة وما سيحدث فيه وموعده ويأتيه الرد من الله تعالى بأن يعلن بأن علمها عند الله تعالى وحده ، وأنه عليه السلام لا يعلم الغيب وليس له أن يتكلم فيه. ونظير ذلك قوله تعالى : (وَيَقُولُونَ مَتَى هَـذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاء أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ . يونس 48 ـ  ) .

وفى سورة البقرة آيتان تكرر فيهما نفى الشفاعة لأى نفس بشرية ، هما قوله تعالى ﴿وَاتّقُواْ يَوْماً لاّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنْصَرُونَ﴾.. ﴿وَاتّقُواْ يَوْماً لاّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ﴾ (البقرة 48،123). أى لا يمكن لنفس بشرية أن تنفع نفسا بشرية أخرى ، ولايمكن لنفس بشرية أن تشفع فى أخرى ولا يمكن لنفس بشرية أن تنجو من الحساب والمساءلة بتقديم بدل نقدى أو مالى أو عوض يعدل ذنوبها فى الدنيا . هنا الاية المحكمة تتحدث بالعموم عن كل نفس بشرية لتشمل الأنبياء وغيرهم ، وتأتى آية أخرى تؤكد نفس المعنى ولكن بتفصيل آخر يتوجه لكل الناس سواء من كان منهم مولودا او والدا بأن الوالد لن ينفع ولده وأن المولود لن ينفع والده ، يقولالله تعالى ﴿يَأَيّهَا النّاسُ اتّقُواْ رَبّكُمْ وَاخْشَوْاْ يَوْماً لاّ يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً﴾ (لقمان 33).والانبياء ـ ومنهم خاتم النبيين ـ لكل منهم أزواجا وذرية (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً )( الرعد 38 ) وكل نبى له والد ، وهو أى النبى لن ينفع والديه ولن ينفع أولاده، وعليه فالنبى محمد لن ينفع ابنته فاطمة ولن ينفع أباه عبدالله أو أمه آمنة بنت وهب. فهل سينفع الاخرين ؟. ونفس المعنى يقوله رب العزة بصيغة أخرى فى وصف ملامح يوم الحساب ، يقول تعالى (فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءلُونَ   ) ( المؤمنون 101) أى لا مجال يوم الحساب للأنساب ، ولا يسأل قريب قريبه لأن كل انسان مشغول بنفسه مهموم بمستقبله ومثقل بهول القيامة و الحساب . ويتأكد نفس المعنى بصورة أخرى حيث يحدد الله جل وعلا مهمة النبى محمد فى التبليغ فقط ، وأنه ليس مسئولا أو مساءلا عن الآخرين يوم الحساب ، بل ليس مسئولا أو مساءلا عن هداية الناس لأن الهداية مسئولية شخصية لكل إنسان .. وهنا نقرأ تلك الايات المحكمات : (وَإِن مَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ .الرعد 40 ) أى عليك تبليغ القرآن وعلى الله تعالى الحساب ،كقوله تعالى : (فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ. َّلسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ إِلَّا مَن تَوَلَّى وَكَفَرَ فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ.  الغاشية 21 ـ ).

 بل ان تبليغ الرسالة لا يعنى مسئولية النبى عن الهداية ، إذ عليه تبليغ وتوصيل الهداية القرآنية فقط ، ثم يكون كل انسان حرا فى قبولها أو رفضها ـ وعلى اساس حرية الاختيار تكون المسئولية والاختبار لكل انسان ولا شأن للنبى بذلك ، يقول تعالى عن كل منا يوم القيامة وهو يتلقى كتاب اعماله الذى تم تسجيله فى الدنيا :( وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا .. الاسراء 13 ـ  ).

 ولذا أمر الله تعالى خاتم النبيين أن يعلن للناس مسئولية كل انسان عن اختياره ،إن إختار الهداية فلنفسه وإن إختار الضلال فعلى نفسه ، وليس هو ـ أى خاتم النبيين ـ وكيلا عن أحد أو مسئولا عن أحد: (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُمُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ . يونس 108 ). ويتكرر نفس المعنى فى قوله تعالى :(قَدْ جَاءكُم بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ .الأنعام 104  ). بل يؤكد رب العزة أن خاتم النبيين لا يستطيع أن يهدى من أحب طالما ارتضى ذلك الشخص الضلال ، ولا يستطيع خاتم النبيين أن يعرف من اهتدى ومن ضل لأن ذلك يرجع لعلم رب العالمين  عالم السرّ وأخفى ،الذى يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور : (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ).القصص 56).هذه بعض الايات المحكمات التى تنوعت فى نفى شفاعة النبى محمد وغيره بأساليب مختلفة ومتنوعة.

5 ـ ثم نأتى الى  الآيات المتشابهة لنجدها تؤكد ما سبق وتفسر بعضها بعضاً:

فقوله تعالى ﴿مَن ذَا الّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاّ بِإِذْنِهِ﴾. وقوله تعالى ﴿مَا مِن شَفِيعٍ إِلاّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ﴾ (يونس 3) يشير إلى أن هناك من المخلوقات- غير البشر- من يشفع ولكن بعد إذن الرحمن. ولكى تعرف هذه المخلوقات نرجع إلى باقى الآيات المتشابهة:

 فالله تعالى يقول ﴿يَوْمَئِذٍ لاّ تَنفَعُ الشّفَاعَةُ إِلاّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرّحْمَـَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً﴾ (طه 109). فالآية هنا أضافت الرضى من الرحمن بعد الإذن، وتأتى آية أخرى تقول عن الجاهلين وعبادتهم للملائكة ﴿وَقَالُواْ اتّخَذَ الرّحْمَـَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مّكْرَمُونَ. لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ. يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاّ لِمَنِ ارْتَضَىَ وَهُمْ مّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ﴾ (الأنبياء 26: 28). إذن يتضح لنا أن الملائكة هى التى تشفع ولكن بعد رضى الله تعالى وإذنه وأمره، ثم تأتى آية أخرى تقول بصراحة ﴿وَكَمْ مّن مّلَكٍ فِي السّمَاوَاتِ لاَ تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللّهُ لِمَن يَشَآءُ وَيَرْضَىَ﴾ (النجم 26). إذن الملائكة هم المقصودون بقوله تعالى ﴿مَن ذَا الّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاّ بِإِذْنِهِ﴾.

ولأنهم ملائكة فإن لهم دوراً فى الحساب، وهذا الدور قد حدده رب العزة بأمره وإذنه ورضاه، ولا اختيار للملائكة فى ذلك، وعليه فالشفاعة مصدرها الله تعالى، بأمره وإذنه ورضاه،أما أولئك البشر الذين أصدروا من عندهم قراراً بأن بعض البشر سيشفع فيهم عند الله، فالله تعالى هو الذى رد على أولئك الذين أخذوا من عندهم شفعاء من البشر لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً، يقول تعالى ﴿أَمِ اتّخَذُواْ مِن دُونِ اللّهِ شُفَعَآءَ قُلْ أَوَلَوْ كَـانُواْ لاَ يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلاَ يَعْقِلُونَ. قُل لِلّهِ الشّفَاعَةُ جَمِيعاً﴾ (الزمر 43،44).

فالبشر هم الذين يتخذون الأولياء والشفعاء، وهم الذين يؤلفون الأساطير والأحاديث والأكاذيب، وهم الذين يعبدون أولئك الشفعاء وينتظرون منهم المدد فى الدنيا والجاه فى الآخرة، وينسون أن الله تعالى هو وحده الولى ﴿أَمِ اتّخَذُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ فَاللّهُ هُوَ الْوَلِيّ﴾ (الشورى 9) وينسون أن الله وحده هو الشفيع ﴿أَمِ اتّخَذُواْ مِن دُونِ اللّهِ شُفَعَآءَ.. قُل لِلّهِ الشّفَاعَةُ جَمِيعاً﴾.

6 ـ ومن عجب أن القرآن يؤكد على أن النبى لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً إلا بإذن الله، ومع ذلك يجعلونه مالكاً ليوم الدين وشفيعاً يوم القيامة بالمخالفة لكتاب الله العزيز.والأعجب أنهم يتلاعبون بالآيات الكريمة المحكمة والمتشابهة لاثبات مزاعمهم ثم يزيفون أحاديث ينسبونها للنبى محمد عليه السلام وهو الذى كان لا يعرف الغيب وليس له أن يتكلم فيه. وهكذا بالتحريف و الكذب والتلاعب بآيات الله تعالى أعادوا عقائد شركية تناقض عقيدة الاسلام فى أن الله تعالى هو مالك يوم الدين ، وأنه وحده الولى والشفيع وأنه ما لهم من دونه من ولى ولا يشرك فى حكمه أحدا..

7 ـ وموعدنا مع تفصيلات أخرى .

 

 الباب الأول : الشفاعة فى الاسلام .

الفصل الثالث : الشفاعة فى ( يوم الدين)  تخضع لهيمنة (مالك يوم الدين )   

أولا : شفاعة الدنيا واختلافها عن شفاعة الآخرة

1 ـ تنتشر الواسطة أو الشفاعة فى التعامل البشرى كأحد مظاهر الحرية الانسانية فى عمل الخير أوالشّر . قد تكون شفاعة فى سبيل خير كأن تتوسط لصاحب حق كى يأخذ حقه أو ترفع عنه ظلما ،وقد تكون فى الشر حين تعين ظالما او تساعد من لا يستحق على اخذ ما لا يستحق . ومقابل هذه الحرية هناك مسئولية مترتبة عليها يوم القيامة ، فمن يتوسط (او يشفع) فى الخير يكن له نصيب فى الخير ،ومن( يشفع) او يتوسط فى الشر يكن عليه نصيب من الشر ، وهذا معنى قوله تعالى عن شفاعة الدنيا : ( مَّن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُن لَّهُ نَصِيبٌ مِّنْهَا وَمَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُن لَّهُ كِفْلٌ مِّنْهَا )( النساء 85).

2 ـ شفاعة الدنيا ليس لهامكان فى الاخرة ، فالدنيا هى دار البيع والشراء والعلاقات والصداقات ، وأهم من ذلك هى دار الحرية فى الطاعة أو المعصية . أما الاخرة ففيها تحكم ( مالك يوم الدين ) حيث يأتى الحساب المترتب على هذه الحرية ، وكل منا سيكون مشغولا بنفسه ، حين يفر المرء من أخيه وأمّه وأبيه وصاحبته وبنيه ، لكل امرئ منهم شأن يغنيه ( يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ )(عبس 34-37)،فليس فى الاخرة مراعاة للقرابة اوالنسب،حتى لا يملك الاب يوم القيامة ان يتساءل عن مصير ابنه ( فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءلُونَ )( المؤمنون 101) ويسرى ذلك على كل والد وكل مولود ، فلا يستطيع النبى عليه السلام ان يجزى عن ابيه او ولده ،وهذا مما حذر منه رب العزة حين قال للناس جميعا ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ )(:لقمان 33)، فالله تعالى يحذرنا من ان نغتر بالحياة الدنيا وما فيها من بيع وشراء وصداقات وشفاعات فنقيس عليها احوال الاخرة. وأيضا يحذرنا رب العزة جل وعلا من تصديق الشيطان الذى يخدع البشر ويضلهم باحاديثه الكاذبة المنسوبة ظلما لله تعالى ولرسوله ، هذه الاحاديث تعزز للبشر تصورهم للحياة الاخرة بالتصور الدنيوى من الصداقات والشفاعات والبيع والشراء ، لذلك يقول الله تعالى محذرا الذين يؤمنون بذلك (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) (البقرة 254). والله تعالى يختم الاية بتقرير أن الكافرين هم الظالمون فمن الكفر والظلم للمولى جل وعلا ان نحول اليوم الاخر الى مكان للظلم والشفاعات ودخول الجنة لمن لا يستحق ،والله تعالى سيعلن يوم القيامة ( لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ.الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ . لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ.إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ )( :غافر 16-17) ويقول تعالى عن يوم الحساب إنه يوم العدل الاكبر حيث لن يوجد مثقال ذرة من الظلم بل العدل المطلق لأن القاضى الأعظم الذى يقضى بالحق هو وحده الذى يعلم الغيب ويعلم ما فى السرائر ، وهو الشهيد على كل شىء : (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ )( الانبياء 47).  ان اليوم الاخر له اسماء متعددة منها يوم التغابن (يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ )(التغابن 9)والغبن هو الظلم ،ويوم التغابن يوم رفع الظلم والقصاص من الظالمين ، هو اليوم الذى يأخذ فيه المظلوم حقه، وهذا يتناقض مع أكاذيب الشفاعة فى الأحاديث السنية.

3 ـ ومن المفجع أنّه خلافا للقرآن الكريم تنتشر فى بلاد المسلمين الوساطة والمحسوبية،أو الشفاعة الدنيوية الظالمة جنبا الى جنب مع الايمان بشفاعة النبى ( المزعومة ) فى الآخرة ، مع أن رب العزة حذّر من هذا وذاك . ومن المؤلم ايضا اننا فى دعوتنا للا صلاح نحارب الغش فى المدارس والوساطات فى الوظائف التى تعطى الحقوق لغير اصحابها ونطالب بالعدل والمساواة ووصول الحق لمستحقيه، نطالب بهذا فى النيا بينما نجعل الاخرة سوقا للوساطات والشفاعات حربا لله تعالى ورسوله،وصدق الله العظيم : ( إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَن يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَم مَّن يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ  )(فصلت 40) .

ثانيا : الحرية فارقا اساسا بين شفاعة الدنيا وشفاعة يوم الدين 

1ـ نتمتع بالحرية فى الدنيا ، ونفقدها مؤقتا بالنوم ، ونفقدها جزئيا بحدوث خلل أو مرض فى الجسد ، ونفقدها تماما عند الاحتضار . النفس البشرية حُرّة فى إختيارها ، وهى تتحكم جزئيا فى جسدها تسير به هنا وهناك حسب المجال والحيّز المُتاح لها . ولكن التحكم الكلى فى الجسد هو لله جل وعلا. فأجهزة الجسد الحيوية تسير بمشيئة الخالق لها جل وعلا . وهذا الجسد مهما بلغت قوته فهى محدودة ، يقول رب العزة للفرد منّا ( إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً (37)الاسراء).وبمرض الانسان وشيخوخته ووهنه تقل حريته ، وعند المرض تقلّ خياراته فيتذكر ربه جل وعلا داعيا منيبا (الزمر 8 ، 49). وعند الموت يصبح أسيرا مُجبرا لا حول له ولا قوة وهو يرى ملائكة الموت. وبالموت يمسك رب العزة بالنفس ( الزمر 42 )،أى تفقد حريتها تماما، فتدخل فى برزخ (المؤمنون 99 : 00 ) تظل فيه الى يوم البعث . ومن البعث الى الحشر والعرض والحساب يفقد الفرد منا حريته تماما . ثم إذا كان مصيره الجنة إستعاد حريته وتمتع بالحرية فيها أبد الآبدين .أما إذا دخل النار فهو مستمر فى الأسر والقهر من الموت الى أبد الآبدين فى الجحيم . أى إن كل ما تمتع به من حرية هو تقريبا ثُلث عمره فى هذه الحياة الدنيا ، ويكون جزاء عصيانه وسوء إستغلاله لحريته فى هذه المدة البسيطة أن يظل يعانى عذابا مهولا ، لا نهاية له ولا تخفيف فيه أبد الآبدين .!

2 ـ فقدان الحرية فى يوم الدين هو ملمح من ملامح كونه جل وعلا ( مالك يوم الدين ).نحن فى هذه الدنيا أحرار فى الايمان أو الكفر (بالدين )،ولكنّ لهذا ( الدين ) يوما هو ( يوم الدين ) نفقد فيه حريتنا ، ويتعين علينا أن نعايش معنى قوله جل وعلا ( مالك يوم الدين )، فالتحكم يكون تاما له جل وعلا فى هذا اليوم ، ونكون فى هذا اليوم أسرى ومجبرين ومقهورين تحت سلطانه جل وعلا لأنه ( مالك يوم الدين ).

3 ـ ويأتى التعبير عما يحدث لنا فى يوم الدين أحيانا بالمبنى للمجهول ، فليس أحد منا (فاعلا ) بل هو مفعول به مجبور مُسيّر لا مُخيّر .!. لا فارق بين الأنبياء والشهداء والمجرمين.يقول جل وعلا: ( وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ )(69) الزمر) لم يقل ( وجاء النبيون والشهداء ) بل ( جىء بهم ) وعلى نفس المنوال يقول جل وعلا عن مصير الكافرين ومصير المتقين إنهم ( يُساقون ):( وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً )(71)( وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً )(73)الزمر). ويأتى حينا بتعبير الإحضار أى الاعتقال :( وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (32) يس ) (فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (127) الصافات )( وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الآخِرَةِ فَأُوْلَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (16) الروم ) أو تعبير ( يُرجعون ) أى يُرغمون على الرجوع لله جل وعلا يوم القيامة، يقول جل وعلا:( إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (40) مريم )( فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (77)غافر)( وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83) آل عمران )(ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (36) الانعام ) ، أو أنّ اليه جل وعلا ( مصيرنا ) الحتمى الذى لا مهرب منه ، أى إن مسيرنا اليه ومصيرنا اليه جبرا وقهرا. ويتكرر تعبير ( اليه المصير) كقوله جل وعلا: ( وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِوَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18) المائدة )(خَلَقَ السَّمَوَاتِوَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) التغابن )( اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15) الشورى ). أى إن ( مالك يوم الدين ) قد جعله حتما ، لن يستطيع المجرمون الغياب ( أو الزوغان ) : (وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14) يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ (15) وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ (16) الانفطار ). أو هو ( يوم  لا مردّ له ) أى لا مهرب منه ولا ملجأ من الله جل وعلا إلا اليه ، لذا يقول جل وعلا لنا : (اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنْ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (47) الشورى ).

4 ـ والذى يستجيب لله جل وعلا فى هذه الدنيا هو الذى يؤمن باليوم الآخر . إنّ الايمان باليوم الآخر قلبيا يعنى الايمان بالله جل وعلا ( مالك يوم الدين ) كما سبق بيانه . أما الايمان باليوم الآخر سلوكيا فهو تقوى الله جل وعلا فى السلوك وفى التعامل مع الناس ، حيث يحاسب الفرد منا نفسه ، وتتكون فى داخله ( النفس اللوامة ) أو ( الضمير ) أو ( الأنا العليا ) التى تنهى النفس عن الهوى ، فيستحق بعمله دخول الجنة:( وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنْ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41) النازعات ) . المؤمن باليوم الآخر قلبيا وسلوكيا يعتمد على عمله الصالح الذى سيكون شفيعا له يوم القيامة لأنه يؤمن بقول الله جل وعلا مالك يوم الدين عن يوم الدين : (وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (18) يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19) الانفطار ) . أى إن الشفاعة الحقيقية للعمل الصالح هى ملمح من ملامح الايمان باليوم الآخر وبالله جل وعلا مالك يوم الدين .

 ثالثا : موقع الشفاعة الحقيقية فى عقيدة الاسلام  ( لا اله إلا الله ):

هذه الشفاعة الحقيقية ملمح من ملامح ( لا اله إلا الله ) .وهنا يتّحد الايمان بالله جل وعلا والايمان باليوم الآخر، إذ يجمع بينهما الايمان بأنه جل وعلا هو مالك يوم الدين. ونوضحها فى الآتى : 

1 ـ  الله تعالى وحده هو الشفيع لأنه وحده خالق السماوت والأرض ومالك يوم الدين ، وهذا يناقض إعتقادهم فى شفاعة الأولياء والقديسين يوم الدين . إنّ جوهر العقيدة الاسلامية أن الله جل وعلا وحده هو  الولى والشفيع، لأن الشفاعة مرتبطة بهيمنته جل وعلا يوم الدين ، لذا فليس غيره للمؤمن وليا ولا شفيعا . فى التأكيد على أن الشفاعة لله وحده وفى الرد على المشركين الكافرين يقول تعالى ( أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ شُفَعَاء قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَّهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ )( الزمر 43 : 44). أى ان اولئك (اتخذوا ) اى هم بدافع من أنفسهم وبدون هدى من الله قاموا باتخاذ فلان وفلان شفعاء ، والله تعالى يؤكد أنهم لا يملكون هذه الأهلية ولا يعقلون، لأن الشفاعة لا تكون إلا لمن له ملك السماوات والأرض والذى يملك وحده اليوم الآخر ، والذى اليه وحده يرجع الناس للحساب يوم الدين. ونلاحظ هنا مجىء صيغة الشفاعة باسلوب القصر : (قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَّهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ )، أى اليه وحده جل وعلا موضوع الشفاعة ، وله وحده جل وعلا ملك السماوات والأرض ، واليه وحده مرجع البشر يوم الدين . وفى كل ذلك ليس له شريك من المخلوقات . وقد أمر جل وعلا رسوله أن يعلن هذا وأن يقوله:( قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَّهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ )، وبالتالى فإن ما ينسبه المشركون للرسول من أحاديث كاذبة تناقض ذلك إنّما هم أعداء للرسول ولرب العزّة جل وعلا .  

2 ـ ويتكرر نفس المعنى فى قوله تعالى ردا على عبادتهم آلهة يزعمون أنها تشفع وتنفع مع أنها لا تضر ولا تنفع :( وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَـؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُون )( يونس 18 ) والله تعالى هنا يأمر النبى محمدا وكل مؤمن أن يقول لهم : (أَتُنَبِّئُونَ اللّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْض) ولأن اتخاذ الشفعاء جريمة شركية (من الشرك ) فان الله تعالى ينزه ذاته عن ذلك الاتهام بوجود شفيع آخر معه، فيقول جل وعلا (سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُون ). أمر رب العزة رسوله أن يقول هذا ، ثم يأتى المشركون من ( المسلمين ) وينسبون أكاذيب للرسول أحاديث تخالف هذا .!!

رابعا:ارتباط الشفاعة الحقيقية بالهيمنة الالهية لخالق السماوات والأرض وما بينهما من نجوم ومجرات 

1 ـ والشفاعة الحقيقية ترتبط بالهيمنة الالهية لخالق السماوات والأرض جل وعلا مالك يوم الدين . ولأنه جل وعلا وحده هو الخالق لكل السماوات والأرض وما بينهما من نجوم ومجرات ، ولأنه وحده هو الذى يهيمن على خلقه لذا فإنه تعالى هو وحده الولى المقصود بالتوسل وطلب العون والمدد ، وهو وحده الشفيع الذى لا شفيع غيره. يخاطبنا جل وعلا خطابا مباشرا فيقول:( اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ )( السجدة  4). وهذا خطاب يأتى باسلوب القصر:( مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ ). فليس غيره الاها ( لا اله إلا الله ) وليس غيره وليا أو شفيعا. ويدعونا رب العزة لأن نتذكر:( أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ )؟. فهل تذكّر المسلمون ؟ أم أنهم فى ضلالهم يعمهون ؟.

2 ـ قوله جل وعلا لنا :( مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ ) هو آية مُحكمة ، نفهم فى ضوئها الآيات المتشابهة التى تفصّل آلية الشفاعة للملائكة بعد إذنه جل وعلا خالق السماوات والأرض . ومنها قوله جل وعلا  فى خطاب مباشر للبشر:( إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ )(يونس 3 ). ونلاحظ هنا أيضا صيغة القصر التى يستعملها رب العزة فيما يخص عقيدة الاسلام، فكما أنه ( لا اله إلا الله ):( فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ )(19)محمد ) فإن الشفاعة أيضا باسلوب القصر:( مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ). وأيضا يدعونا رب العزة لأن نتذكر: (أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ )؟ فهل تذكّر المسلمون؟ أم أنهم فى ضلالهم يعمهون ؟. 3 ـ ومما سبق يتضح أن الشفاعة صفة الاهية لا شريك لله تعالى فيها لأنه وحده الخالق للسماوات والأرض وما بينهما من نجوم ومجرات ، ولأنه وحده جل وعلا المسيطر المتحكم فى يوم الدين . فهل شارك أولئك الشفعاء المزعومون رب العزة فى خلق السماوات والأرض وما بينهما من نجوم ومجرات ؟

خامسا : ارتباط الشفاعة الحقيقية بالعلم الالهى والهيمنة الالهية فى الآيات المتشابهة عن الشفاعة :

1 ـ تأتى الآيات المتشابهة عن الشفاعة عن إذنه ورضاه فى سياق الحديث عن هيمنته جل وعلا وعلمه الالهى المحيط بكل شىء . وهذا عكس ما يفعله المشركون الذين يقومون بتحريف معنى تلك الآيات المتشابهة ليزيفوا شفاعة للنبى محمد وغيره . ونعطى بعض الأمثلة القرآنية :

2 ـ  جمعت آية الكرسى (12 ) من أسماء الله الحسنى جل وعلا وصفاه التى لا يشاركه فيها أحد من خلقه، والتى تعبّر عن الهيمنة والقيّومية ، ومنها أن الشفاعة لا تكون إلا بعد إذنه وعلمه . يقول ربى سبحانه وتعالى : ( اللّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ) (البقرة 255 ). تبدأ الآية الكريمة بالصفة الأولى لرب العزة: (للّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ) ، وطالما أنه لا اله إلا هو فلا بد أن تختلف صفاته عن صفات المخلوقات ، ولأن اللسان البشرى لا يستطيع أن يعبّر عن صفاته جل وعلا ، ولأن العقل البشرى لا يستطيع إدراك صفاته جل وعلا وعظمته جل وعلا فإن رب العزة يأتى بصفاته بلغة البشر مع التأكيد بأنه ليس كمثله شىء : ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ (11 ) الشورى) ، لذا فهو( الْحَيُّ ) الذى لا يموت عكس المخلوقات (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً (58) الفرقان )، وهو الحىّ ( الْقَيُّومُ ) أى القائم على مخلوقاته بالهيمنة والتحكم ، والقائم على كل نفس بما كسبت من عمل سىء او عمل صالح:( أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ )(33)الرعد ) وفيما عدا حرية الايمان والكفر والطاعة والمعصية التى منحها للبشر مقابل مسئوليتهم يوم الحساب فإنه جل وعلا هو القيوم على أجسادهم وله السيطرة الكاملة على المخلوقات غير المُكلفة.  وبينما ينام البشر فإنه جل وعلا:( لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ )،وهو المالك للسماوت والأرض: ( لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ ) ، ولذلك فإن من تمام تحكمه يوم الدين ألا تكون هناك شفاعة إلا من بعد إذنه ورضاه:( مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ )، وهذا الإذن الالهى لملائكة الشفاعة التى تسجل الأعمال مبنى على أنه جل وعلا يعلم حقيقة عمل كل فرد:  ( يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ )بينما لا يحيط البشر بشىء من علمه إلا بما يشاء وقت ما يشاء :( وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء )، وتحكمه جل وعلا يسع كل ملكوته أو عرشه أو كرسيّه، أى السماوات والأرض :( وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ ) ، ولا يتعبه حفظهما (وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا ) لأنه العلى ( وَهُوَ الْعَلِيُّ) ولأنه العظيم ( الْعَظِيمُ ). جاء هنا ذكر الشفاعة بعد إذنه جل وعلا فى سياق تحكمه وقيوميته وفى سياق علمه بما بين أيدينا وما خلفنا . وهذا لا يتأتى إلا له جل وعلا وحده . وهذا تأكيد لأنه جل وعلا ( مالك يوم الدين ).!

2 ـ وعن ارتباط الشفاعة بالعلم الالهى والهيمنة الالهية يقول جل وعلا عن الملائكة التى تحمل عمل الفرد بعد رضاه جل وعلا : (وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ )( الانبياء 26- 28 ). قال جل وعلا عن هيمنته على الملائكة : (لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ) (وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ ) وعلى هيمنته على شفاعتهم يقول جل وعلا : (وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى  ) . وعن علمه الالهى بهم وبنا يقول جل وعلا : (يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ ).

3 ـ ويقول جل وعلا عن هيمنته على الخلق وخضوعهم له يوم الدين :( يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَت الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا ). أى إستسلام تام منّا يومئذ وخشوع للرحمن فلا تسمع إلا همسا. وفى هذا الموقف العظيم يأتى الحديث عن الشفاعة كملمح من ملامح الهيمنة الالهية والعلم الالهى :( يَوْمَئِذٍ لَّا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا )هنا ايضا ربط الشفاعة بالرضى والإذن والعلم الالهى . ثم بعدها التأكيد على هيمنته جل وعلا علينا يوم الدين :( وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا ) طه 108 ـ )

4 ـ ويقول جل وعلا عن جمع الناس ليوم الدين ليكونوا تحت هيمنة الواحد القهّار ( ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (103) وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لأَجَلٍ مَعْدُودٍ (104) يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105) هود ). لا يستطيع أحد التكلم دفاعا عن نفسه إلا بإذن الرحمن .! .

5 ـ وعن هيمنته جل وعلا يقول عن يوم الحشر : ( وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً (47) الكهف ) أى لا يستطيع أحد الهرب من مالك يوم الدين الواحد القهّار . ثم يتم عرضنا يوم العرض ونحن نقف صفّا ( وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفّاً )(48) الكهف).

6 ـ ويشمل هذا الملائكة من الملأ الأعلى من الروح جبريل وغيره ، إذ لا يملك مخلوق من المخلوقات أن يملك خطاب الرحمن إلا بعد أن ياذن له الرحمن . فعن  تمام التحكم والهيمنة فى الملائكة وجبريل والجميع  ووقوف الملائكة صفا لا يتكلمون إلا بعد إذن الرحمن مالك يوم الدين يقول جل وعلا : ( رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَّا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا )( النبأ :36 ـ ). يقف الملائكة صفا لا يتكلمون إلا بإذن الرحمن ، ولا بد أن يقول هذا المخلوق الملائكى صوابا ، والذى يعرف ما سيقوله هو الذى يحيط بكل شىء علما ، جلّ وعلا رب العالمين .!

5 ـ فارق هائل بين هيمنة الرحمن مالك يوم الدين وذلك الإفك الكاذب فى أحاديث الدين السّنى التى تُكذّب بيوم الدين وتكفر بمالك يوم الدين .!... هذا مع أنهم  يقولون فى صلاتهم فى الفاتحة ( مالك يوم الدين ) . يقولونها وهم فعلا يكفرون بها .!!

 

 الباب الأول : الشفاعة فى الاسلام .

الفصل الرابع  : الشفاعة هى للملائكة التى تحمل العمل الصالح  :

شفاعة الملائكة هى مجرد تفصيلة فى قصة كبرى ، نتعرض لها سريعا هنا :

أولا :  بين يوم الدنيا ويوم الدين

1 ـ يوم الدنيا هو ( اليوم الأول ) ، ويوم الدين هو ( اليوم الآخر ) . يوم الدنيا هو هذا العالم الذى نعيش فيه الفترة المقررة لنا ثم نموت وتننقل فيه أنفسنا الى البرزخ ، وبعد أن تأخذ كل نفس إختبارها فى هذا اليوم الدنيوى يتم تدمير هذا الكون بأرضه وسماواته ومستوياته البرزخية ليأتى يوم الدين .الدين فى هذه الدنيا نتصرف خلاله بحريتنا المطلقة فى الايمان والكفر بالطاعة او المعصية ، ثم يأتى يوم الدين حيث نفقد حريتنا وتتم محاسبتنا على ما عملناه فى يوم الدنيا .

2 ـ الحيز المكانى لليوم الأول يوم الدنيا يشمل الأرض والسماوات ومابينهما من عوالم البرزخ والنجوم والمجرات . الأرض لها سبع مستويات : الأول ، المستوى المادى الذى نعيش فيه ، ولها ستة مستويات برزخية تتداخل فى المستوى المادى وتعيش فيها الجن والشياطين والملائكة . وللسماوت سبع مستويات عليا برزخية تتنقل بينها الملائكة ، ولا تدخلها الجن والشياطين . بمعنى آخر الحيز المكانى لهذا العالم أو لليوم الأول أو لهذه الدنيا ينقسم الى مستوى مادى ( الأرض التى تعيش فيها ، والأجرام السماوية من كواكب ونجوم ومجرات ) ومستويات برزخية تعلو هذا المستوى المادى تبدأ هذه المستويات البرزخية بستة مستويات للأرض تعيش فيها الجن والشياطين والملائكة ـ وتوجد فيها جنة ( المأوى ) حيث نعيم الذين يُقتلون فى سبيل الله ، وهى الجنة التى كان فيها آدم وحواء قبل هبوطهما الى المستوى الأدنى وهو الأرض المادية . وفى إحدى مستويات البرزخ الأرضى يوجد عذاب البرزخ لفرعومن وقومه وقوم نوح . أعلى من هذه المستويات البرزخية الأرضية توجد السماوات السبع البرزخية . السماوت والأرض وما بينهما من أكوان ومستويات برزخية هى(الكرسى للرحمن ) ، اى مجال التحكم والسيطرة :( وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِوَالأَرْضَ وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255) البقرة ) أو ( العرش ) أى مجال ملكوته الذى يتحكم فيه الرحمن : ( الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِوَمَا فِي الأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى (6) طه ) .

ثانيا : رب العزة يتحكم فى يوم الدنيا بملائكته

1 ـ هذا العالم الحالى لا يتحمّل تجلى رب العزة، وهو جل وعلا يدبّره بأوامر تنفذها الملائكة،وتتنزل هذه الأوامر من رب العزة اليهم خلال السبع سماوات والسبع أرضين:( اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنْ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً (12) الطلاق ) . وبهذا التحكم يحيط رب العزة بكل شىء علما ، ويكون شهيدا على كل شىء ، ويمارس قيوميته على مخلوقاته ، ويتم تسجيل أعمالنا .

2 ـ عرفنا الحيّز المكانى لعرش الرحمن ( السماوات السبع والأرضين السبع ) . أما الحيّز الزمانى فهو زمن متحرك من البداية الى النهاية يتوجه الى الأمام، تصحب فيه الملائكة والروح هذا العالم الدنيوى صاعدة الى الرحمن فى هذه رحلة زمنية مدتها خمسون ألف عام بتقدير الرحمن . وبانتهائها ينتهى هذا العالم وهذا اليوم الدنيوى وتقوم القيامة ويأتى يوم الدين . نفهم هذا من قوله جل وعلا ردّا على من يستعجل عذاب الآخرة وموعد الساعة : ( سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (1) لِلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ (2) مِنْ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ (3) تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4) فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً (5) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً (6) وَنَرَاهُ قَرِيباً (7) المعارج ).

3 ـ الملائكة تصحب هذا العالم تحمل أوامر الرحمن بالحتميات التى تحدث لنا والتى لا شأن لنا فى إختيارها ولا يمكن لنا تجنبها اوالفرار منها ، وهى الميلاد والموت والرزق والمصائب من خير وشرّ. وفى ليلة محددة ( ليلة القدر ) من كل عام تهبط الملائكة بالروح ( جبريل ) بإذن الرحمن تحمل للعام الجديد   أوامره التى يجب تنفيذها خلال العام القادم ، وهى ليلة القدر التى نزل فيها الكتاب القرآنى : ( إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5) القدر ). سبحانه وتعالى هو الذى ( يدبر الأمر) فإذا قال (كن فيكون)،والملائكة عليها التنفيذ الفورى ، ويستغرق هذا (يوما) ما بين التدبير والتنفيذ وصعود النتيجة للرحمن. هذا اليوم الالهى مقداره ألف عام بزمننا:( يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنْ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5) السجدة ).  هذه الملائكة هى رسل الرحمن فى تنفيذ أوامره ، وقد خلقها رب العزة بسرعات رهيبة لتخترق العوالم والعالمين، وسرعتها لا يمكن تخيلها بعقلنا البشرى، لذا فإن رب العزة يعبّر عن قياس سرعة طيرانها بالأجنحة فى صورة مجازية حتى نفهم ، يقول جل وعلا : ( الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) فاطر ).

4 ـ وتتنوع وظائف الملائكة فيما يخص البشر فى هذا اليوم الدنيوى . فهناك ملائكة كانت تنزل بالوحى والرسالات السماوية لتنذر مقدما بمجىء يوم الدين : ( يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُوا أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاتَّقُونِ (2) النحل ). وملائكة تُسجل عملنا وتحفظه:(وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَاماً كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12)الانفطار)وملائكة الموت:( الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمْ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ فَأَلْقَوْا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (29) النحل )(الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمْ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (32)النحل). ويوصفون أحيانا بالرسل ، يقول جل وعلا عن ملائكة الموت:(حَتَّى إِذَا جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ )( الأعراف 37 )، ويقول عن ملائكة تسجيل الأعمال : (بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ )(الزخرف 80 ).

5 ـ ويأتى اسناد الفعل لله تعالى باعتباره الآمر و للملائكة باعتبارهم من ينفذ الأمر . فعن الوحى يقول جل وعلا يسند الوحى لذاته : ( إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ )(النساء 163 )( نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (4) آل عمران ) . ويأتى أحيانا ذكر ملائكة الوحى : (يُنَزِّلُ الْمَلآئِكَةَ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُواْ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ أَنَاْ فَاتَّقُونِ  ) ( النحل 2 )(وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ ) ( الشعراء 192 ـ ).

ونفس الحال عن كتابة الأعمال ، يأتى مرة منسوبا لله جل وعلا صاحب الأمر :( وَاللّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ )( النساء 81 )، ويأتى عن صنف الملائكة المكلف بكتابة أعمال البشر: (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ )(الانفطار 10 ـ )( لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللّهِ )(الرعد 11 )(أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ) ( الزخرف 80 )، ويأتى إسناد الكتابة لمن يتخصص بكل فرد : (إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ )( الطارق 4  )(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ) ( ق 16ـ ).

ونفس الحال مع الموت . فيأتى إسناد الفعل لله جل وعلا المحيى المُميت : ( اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى) ( الزمر 42 ). ويأتى إسنادة للملائكة المختصّة بالبشر : ( حَتَّى إِذَا جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ )( الأعراف 37 ). ويأتى بنسبة ذلك للملك الموكّل بكل فرد:( قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ) ( السجدة 11 ).

6 ـ وفى كل الأحوال فهو جل وعلا القاهر فوق عباده والمتحكم فيهم بحتمياته ، والذى يسجل بملائكته كل أعمالهم ويحفظها ، وهو الذى يرسل ملائكة الموت : (وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً حَتَّىَ إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ)( الأنعام  61 ). وهو جل وعلا الحفيظ على كل شىء :( إِنَّ رَبِّي عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ )(هود 57 )(وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ )( سبأ 21) . لذا فهو ( الوكيل ) أى المسيطر، وليس النبى وكيلا عن أحد أو شفيعا لأحد: ( وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَولِيَاء اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ )( الشورى 6 ) فليس عليه سوى التبليغ للرسالة فقط : (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ )( الشورى 48)(قَدْ جَاءكُم بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ) ( الأنعام 104 ).

ثانيا : فى يوم الدين يأتى رب العالمين بعد تدمير هذا العالم بسماوته وأرضه وما بينهما

1 ـ بإنتهاء مهلة اليوم الدنيوى يتم تدمير هذا العالم بكل مستوياته وزمنه المتحرك ليأتى عالم جديد خالد بزمن خالد آبد لا ينتهى . وعن تدمير هذه السماوات والأرض وخلق سماوات بديلة مختلفة وبروز الناس للقاء رب العالمين يقول جل وعلا : ( يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (48) ابراهيم ) (وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً )(21) ابراهيم ). ( يوم الدين ) هو الذى يستطيع تحمل التجلّى الالهى حين يجىء الرحمن والملائكة صفا صفا ، ويتم خلق جهنم الخالدة وخلق الجنة الخالدة، ولم يكن لهما وجود قبل ذلك . يقول جل وعلا عن  مجىء رب العزة يوم الدين : ( كَلاَّ إِذَا دُكَّتْ الأَرْضُ دَكّاً دَكّاً (21) وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً (22)الفجر ). ويقول جل وعلا عن خلق الجنة والنار وظهورهما مرة واحدة :( وَبُرِّزَتْ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى)(36) النازعات)(وَأُزْلِفَتْ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (90) وَبُرِّزَتْ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ (91) الشعراء )، ( وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ )(23) الفجر)

2 ـ وردّا مقدما على المشركين الذين ما قدروا الله جل وعلا حق قدره وهم أصحاب الأحاديث الضالة عن شفاعة النبى والبشر يقول رب العزّة يصف هول يوم القيامة ومجيئه جل وعلا متحكّما فى يوم الدين ، وحيث ستشرق الأرض الجديدة الخالدة بنور ربها ويتم الحساب ويؤتى بالنبيين والشهداء : ( وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِوَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ (68) وَأَشْرَقَتْ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (69)الزمر)

3 ـ وبهذا يتحقق ما أنذر به جل وعلا فى دينه ورسالاته السماوية ، إذا يأتى يوم الدين يوم لقاء الرحمن حيث سيكون المُلك والتحكم التام للواحد القهّار، وحيث لا يوجد للظالمين المشركين شفيع أو صديق حميم،  يقول جل وعلا يربط بين رسالاته السماوية ويوم الدين :( رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ يَوْمَ هُم بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ )( غافر 15 : 20 )

ثالثا : دور الملائكة يوم الدين 

1 ـ تأتى فيه الملائكة مع رب العزة:( وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً (22)الفجر)،تحتل الملائكة أرجاء السماوات الجديدة والأرض الجديدة ، أو عرش الرحمن الذى تكون فيه السيطرة الكاملة له جل وعلا يوم الحساب، حيث لا حرية للمخلوقات، أو بتعبير رب العزة فى أسلوب مجازى : (وَانشَقَّتْ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ (16) وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ (17) يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ (18)الحاقة ). وعن نزول الملائكة يوم القيامة فى العالم الجديد يوم الدين وعن تمام هيمنته جل وعلا يقول رب العزة:( وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنزِيلاً (25) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْماً عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيراً (26) الفرقان ).   

2 ـ والملائكة فى يوم الدين نوعان : نوع أدرك يوم الدنيا ، ونوع سيتم خلقه فى يوم الدين لتؤدى وظائف خاصة بيوم الدين ، منهم ملائكة العذاب الغلاظ الشداد الذين سيتم خلقهم مع النار ، تلك النار التى سيكون إشتعالها ذاتيا بأجساد أصحابها المشركين ، لأن وقودها الناس والحجارة ، وهذا ما حذّرنا منه رب العزة فقال جل وعلا : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6) التحريم ).

3 ـ وبالتالى تختلف وظائف الملائكة يوم الدين عنها فى اليوم السابق ( يوم الدنيا ) . يبرز هنا دور ملائكة النار بالذات ورئيسهم (مالك ) الذى سيناديه أصحاب النار يتمنون الموت:( وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ (77) لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (78) الزخرف ). هذه الملائكة تطارد أصحاب النار إذا أرادوا الفرار ، فهم يدورون صعودا وهبوطا مع نار جهنم والسائل المسمى بالحميم ليستمر إشتعالهم بالنار:( هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (43) يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (44)الرحمن) ويحاولون الفرار فتقمعهم ملائكة العذاب بمقامع من حديد: (فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمْ الْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20) وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21) كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (22)الحج ) (وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمْ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20)السجدة). فى المقابل هناك ملائكة للترحيب بأهل الجنة:( جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24) الرعد ).

4 ـ فى يوم الدين يبدأ فزع يعمّ الجميع الخلق فى السماوات والأرض إلا من شاء الله جل وعلا ، ويتعين حشرهم للقاء رب العالمين .  ( وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِوَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ (87) النمل ) . وينجو من هذا الفزع المؤمنون ( مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (89) النمل ) إذ تقوم الملائكة بالتسرية عنهم وطمأنتهم : ( لا يَحْزُنُهُمْ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمْ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمْ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ (103)الانبياء).أما المشركون فيهربون عند الفزع فلا يستطيعون:( وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (51) سبأ ). فهناك ملائكة تنظّم حشرهم فى صفوف وأفواج وهم فى طريقهم لإلقائهم فى جهنم:( وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ (83) النمل)( وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19) فصلت ).

5 ـ وضمن تفصيلات يوم الدين تأتى شفاعة الملائكة التى تحمل عمل من كان صالحا فى الدنيا .

رابعا : شفاعة الملائكة يوم الدين وكتاب العمل

1 ـ والشفاعة مأمور بها الملائكة بعد إذن الرحمن ورضاه :( وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَوَاتِلا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى (26) النجم ). وتقوم الملائكة بتسجيل عمل كل فرد ، ويتفرع من كتاب العمل الجماعى والفردى نسخ ، يتم نسخها : (وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ)( الجاثية 28 : 29 ). ومنها نسخة يتسلمها صاحب العمل ليكون حسيبا على نفسه : (وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا  ) ( الاسراء 13 : 14 ). وبهذا يتم لكل منّا فى يوم الحساب معرفة ما قدّم وما أخّر: ( إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ يُنَبَّأُ الْإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ ) ( القيامة 12 : 13 )، ويكون كل فرد منا رهينا أو أسيرا بعمله ( كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) المدثر ) (كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ (21) الطور). عندها يرى المجرمون بكل حسرة اعمالهم تُعرض عليهم بالصوت والصورة ( والألوان الطبيعية ) ، يقول جل وعلا عن كتاب الأعمال الجماعى : (وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَأَحَدًا )(الكهف 49 ) 2 ـ هذه بعض تفاصيل قرآنية عن تقديم العمل يوم القيامة بعلم الله جل وعلا . فإذا كان العمل صالحا ، فالله جل وعلا يعلمه لأنه الشهيد عليه، لذا يتقدم به الملك الذى يحفظ العمل،بعد إذن الرحمن ورضاه . وهذا هو معنى أن تكون الشفاعة مرتبطة بإذن الرحمن وبعلمه كما جاء فى الآيات السابقة : (مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ )،( وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ )(23) سبأ )،(يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى)،( يَوْمَئِذٍ لَّا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا )( وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَوَاتِلا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى (26) النجم ). أما صاحب العمل السىء فليس مأذونا له فى أن يكون شفيعا لصاحبه.فهناك شفاعة غير نافذة ، وشفاعة نافذة بالإذن والرضى .

3 ـ وبالتالى أيضا تصبح أوهام الشفاعة البشرية لدى المشركين مجرد ذكريات مؤلمة يتذكرونها فى حسرة وهم فى النار ،يسألهم أهل اليمين:( مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) المدثر ) فتكون إجابتهم :( قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ (47) المدثر ) ويأتى التعليق :( فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (48) المدثر ) ويقول جل وعلا عن ظهور الجحيم مرة واحدة أمامهم : ( وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ ) ثم يقال لهم بالسخرية والتقريع والتأنيب أين شفعاؤكم واين من ينصركم وينقذكم ؟( وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنصُرُونَكُمْ أَوْ يَنتَصِرُونَ ) ثم يتم إلقاؤهم فيها مع أوليائهم من الشياطين ( فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ ). ويلعن الضعفاء العوام الأولياء الذين كانوا يقدسون قبورهم ويعتبرونهم ( أولياء الله أصحاب المدد والكرامات ). يقول الضعفاء لهم : ( قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ) ثم يلتفت أولئك الضعفاء الى الفقهاء وأئمة الضلال وهم معهم فى النار ويقولون لهم : ( وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ ). فأولئك الفقهاء و( العلماء ) والدعاء خدعوا البسطاء بأساطير الشفاعة البشرية التى لا وجود لها ، لذا يقول أولئك الضعفاء وهم فى النار : (فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ ) ، ويتمنون فرصة أخرى يعودون بها الى الدنيا :(فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) ( الشعرهء 90 ـ ). وبينما تتقلب وجوههم فى النار يصرخ اولئك الضعفاء باللعنة على أسيادهم : (يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَ (66) وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَ (67) رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنْ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً (68)الأحزاب ).

خامسا : شفاعة (أو شهادة ) الملائكة تنفيذا لأوامر الله تعالى .

 1 ـ كل نفس بشرية يسجل عملها رقيب وعتيد ، ويوم البعث يتحولان الى سائق وشهيد ، احدهما يسوقه والاخر ( يشهد عليه) أو ( يشهد له) على حسب عمله ،فإذا كان عمله صالحا كانت شهادة له او شفاعة له : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ وَجَاءتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ )(  ق16-22 ). صاحب العمل السىء يقوم الملكان المكلفان به ( سائق وشهيد ) بتنفيذ أوامر الله جل وعلا بإلقائه فى النار : ( أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُّرِيبٍ الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ ). ويكون معه قرينه الشيطانى الذى أضلّه فى الدنيا . ويدافع قرينه الشيطانى عن نفسه عن نفسه : ( قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِن كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ ) ، ويأتى الرد من رب العزة ( قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِالْوَعِيدِ مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ). ( ق 23 :ــ )أى لا تبديل للحكم الالهى العادل فمن يصدر عليه الحكم بدخول النار لن يخرج منها ، ولا شفاعة إلا للعمل الصالح طبقا لهذا الحكم الالهى العادل .  

2 ـ إن شفاعة الملائكة هى شهادة بالحق طبقا لسجل كتاب الأعمال الحق المسجل لصاحب العمل الصالح فى الدنيا ، وهذا معنى قوله تعالى عن شهادة الملائكة (أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ ) ( الزخرف 80 ) ثم يقول فيما بعد فى نفس السورة عن شفاعة الملائكة (وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ )( الزخرف 86). فالملائكة التى تحمل العمل هى وحدها التى تشهد بالحق الذى عمله الانسان الصالح وهى التى تعلمه ، ودور الملائكة هنا الزام عليها لابد ان تؤديه لأن الله عهد اليها بذلك ، والعهد فى مفهوم القرآن الكريم هو الامر الواجب التنفيذ (وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا )(  طه 115) (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ )(  يس 60 : 61) لذلك يقول الله تعالى عن الامر الالهى للملائكة بالشفاعة اى تقديم عمل الصالحين (لا يملكون الشفاعة الا من اتخذ عند الرحمن عهدا :مريم 87).

3 ـ والعادة ان كل انسان يأتى فردا (إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا )(مريم 93  : 95) ليجادل عن نفسه (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ )( النحل 111) والشفع هو الذى يؤيد الفرد ، فاذا كان الفرد الواحد صالحا كان عمله الصالح الذى تحمله الملائكة هو شفعه او شفيعه الذى يؤيده وينصره يوم الحساب ، الا ان شفاعة الملائكة لا تأتى الا بعد إذن الرحمن تعالى ورضاه وعلمه بصاحب العمل الصالح ،وهذا معنى الاستثناء فى آيات الشفاعة بالإذن والرضا من الرحمن .

4 ـ ولأن الملائكة مأمورة فى تقديم الشفاعة بأذن الرحمن جل وعلا وتبعا لرضاه فأن الشفاعة لله وحده (قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا )( الزمر 44).وهو جل وعلا الولى الشفيع :( مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ )( السجدة 4)، وهو سبحانه و تعالى وحده الذى لا تملك الملائكة مخالفة اوامره : ( إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ )(يونس 3 ). 

5 ـ فمتى نتذكر ؟

  

 الباب الأول : الشفاعة فى الاسلام

 الفصل الخامس : توضيح عن دور الملائكة فى الشفاعة

هناك من يسأل:( هناك أمر أود لو توضحه وهو الأية رقم 26 من سورة الأنبياء فهل هذه الأية تتحدث على الملائكة ام على الرسل ؟ لأن الله عز وجل يقول ( وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَٰهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَٰلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ ۚ كَذَٰلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ [29] فهل يمكن أن تقول الملائكة قولا فتسبق قول الله عز وجل وهو يقول لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ [27].وهل يمكن للملائكة أن تعمل عملا من تلقاء نفسها من غير أمر الله عز وجل . وهل يمكن أن تعذب الملائكة في جهنم.).وأردّ عليه مع الشكر والتقدير .

أولا :

1 ـ طبقا لحديث رب العزّة فى القرآن الكريم فلا يمكن لأى نفس بشرية أن تجزى أو أن تنفع أو تشفع فى نفس بشرية أخرى ، وينطبق هذا خصوصا على الأنبياء ، وينطبق على وجه أخصّ على خاتم الأنبياء. والتفاصيل فى الفصل القادم .

2 ـ وطبقا للتدبر القرآنى وأن القرآن الكريم يفسر بعضه بعضا وأن الآيات المتشابهة تشرح الآيات المحكمة فإن الملائكة هى التى تقوم بالشفاعة بعد إذن الرحمن لها وعلمه ورضاه جل وعلا بمن يصلح عمله لأن يكون شفيعا فيه . وهذا يتضح من ربط الآيات ببعضها البعض:( وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ )(23) سبأ )( مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ ) (البقرة 255 ).( وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى )( الانبياء 26- 28 )( يَوْمَئِذٍ لَّا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا )طه 108 ـ )( وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَوَاتِلا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى (26) النجم ). وعليه فإن الملائكة هى المقصودة بقوله جل وعلا : ( وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ )( الانبياء 26- 28  ). وقد فصّلنا هذا فى الفصل السابق عن شفاعة الملائكة .

3 ـ  ونتوقف بمزيد من التدبر مع قوله جل وعلا عن الملائكة : ( وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ )( الانبياء 26- 28  )

ثانيا :

1 ـ القائلون (اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا )  هم بالتحديد العرب المشركون فى عهد النبى محمد عليه السلام فى مكة ، وهم قد عبدوا الأوثان والأنصاب أى القبور المقدسة وعبدوا الملائكة على انها بنات الله جل وعلا عن ذلك علوا كبيرا . ولم يقيموا أصناما وأوثانا للملائكة بإعتبارها فى زعمهم جزءا من الله تعالى عن ذلك علوا كبيرا . بينما أقاموا الأوثان والأصنام والأنصاب والقبور المقدسة لأوليائهم التى تقربهم لله جل وعلا زلفى، والتى إعتبرها رب العزة جل وعلا رجسا من عمل الشيطان : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90)( المائدة ) . وبالتالى إنحصرت عقائدهم الشركية فى عبادة الشيطان وعبادة الملائكة ، وقال جل وعلا فى ذلك : (إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثاً وَإِنْ يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَاناً مَرِيداً (117) النساء ). ( الإناث ) هى الملائكة . والله جل وعلا يردّ على زعمهم بأتخاذ الاناث ملائكة وبنات له جل وعلا:( أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنْ الْمَلائِكَةِ إِنَاثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً (40) الاسراء ).

2ـ يؤكد هذا أنّه تكرر فى السور المكية الرّد على زعمهم هذا ؛ يقول جل وعلا : ( فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمْ الْبَنُونَ (149) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِنَاثاً وَهُمْ شَاهِدُونَ (150) أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (152) أَاصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ (153) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (154) أَفَلا تَذَكَّرُونَ (155) الصافات ). نلاحظ هنا الرد الالهى على زعمهم بأن الله جل وعلا إتخذ الملائكة ولدا وخلقهم إناثا. وتكرر الردّ فى قوله جل وعلا : ( وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءاً إِنَّ الإِنسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (15) أَمْ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ (16) ، ( وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ (19) الزخرف ).

3 ـ وفى سورة الأنبياء جاء الرد على عبادتهم الآلهة الشيطانية وعبادتهم الملائكة معا ، يقول جل وعلا عن عبادتهم الآلهة الشيطانية: ( أَمْ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِي وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (24) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ (25). ويقول بعدها جل وعلا عن عبادتهم الملائكة ( وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنْ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29).

4 ـ المشهور أن النصارى هم الذين أتخذوا المسيح إبنا لله ( تعالى عن ذلك علوا كبيرا ). وقد توالت الآيات فى السّور المدنية الردّ على ذلك فى وقت تعاظم فيه الاحتكاك بأهل الكتاب . ومنه قوله جل وعلا : (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِوَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً (171) لَنْ يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً (172) النساء ) ، (  لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنْ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعاً وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِوَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17)  ) (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ (72) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) ( المائدة ).

ولكن هذا لا علاقة له بالآيات الخاصة بموضوعنا عن الملائكة فى سورة الأنبياء لأنّ قوله جل وعلا (وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً ) يشير الى عبادة العرب للملائكة وليس للأنبياء ، فلم يعرف العرب (الأميون) عبادة الأنبياء لسبب بسيط هو أنهم لم يأتهم أنبياء بعد جيل جدهم إسماعيل :( لِتُنذِرَ قَوْماً مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (46) القصص ) ( لِتُنذِرَ قَوْماً مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (3) السجدة ) (لِتُنذِرَ قَوْماً مَا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ (6) يس ) ، ولهذا  وُصفوا بأنهم ( أميون) أى لم ينزل عليهم ( كتاب ) مثل (أهل الكتاب ):( وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدْ اهْتَدَوا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (20)( وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِماً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ )(75)( آل عمران ).

5 ـ  فإن قيل بأن الاية الكريمة تتحدث عن ( الولد ) تقول : (وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا)ولم تقل (بنتا ). وبالتالى فإن الآية تتحدث عن عبادة المسيح ، وليس الملائكة . ونقول إن ( ولد ) فى مصطلحات القرآن تعنى ( المولود ) ذكرا أو أنثى . يقول جل وعلا : (يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ ) (11) النساء ) ، وبالتالى فقولهم  : (اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا) تعنى زعمهم بأن رب العزة إتّخذ الملائكة بناتا .

6 ـ  فى الآيات الكريمة:( وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنْ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29) وصف الله جل وعلا الملائكة بأنهم عباد مكرمون ، وأنهم لا يسبقونه بالقول ، وأنهم بأمره يعملون ، وأنه جل وعلا يعلم ما بين أيديهم وماخلفهم ، وأنهم لا يشفعون إلا لمن إرتضى ، ، وأنهم من خشية ربهم مشفقون . ووصف (عِبَادٌ مُكْرَمُونَ ) لم يأت إلا للملائكة فى هذه الدنيا،وسيأتى وصفا لأهل الجنة فى اليوم الآخر ( إِلاَّ عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (40) أُوْلَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (41) فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (42) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (43)الصافات ) . أى لا ينطبق على الأنبياء وصف (عِبَادٌ مُكْرَمُونَ ) فى هذه الدنيا ، وسينطبق عليهم فى الآخرة وهم فى الجنة . ولقد تخصص الملائكة فى تنفيذ ( الأمر ) الالهى كما أوضحنا فى الفصل السابق ، لذا فهم المُشار اليهم فى قوله جل وعلا  ( لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) ) أى ينتظرون الأمر ليعملوا به ، ولا يسبقون الأمر . ومن الأمور الموكلة بهم الشفاعة ، والشفاعة مرتبطة بعلمه جل وعلا ورضاه ، لذا جاء قوله جل وعلا عن الملائكة : ( يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنْ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28)).

ثالثا : عن حرية الملائكة وحسابها يوم الدين :

1 ـ من الخطأ الشائع أن الملائكة لا تعصى الله جل وعلا ، وأنه ينطبق عليها جميعا قوله جل وعلا : (لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6) التحريم ). هو خطأ لأن الآية الكريمة مقصود بها فقط ملائكة العذاب فى جهنم :( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6) التحريم ). وهذه ملائكة لم يتم خلقها بعد . سيخلقها الله جل وعلا مع خلق جهنم ، وسيكون وقود جهنم اصحاب النار والحجارة ، أى الحديث هنا عن المستقبل ، يوم الدين ، الذى لم يأت بعدُ .! ولذا نستبعدهم فيما يخص الحقائق القرآنية التى تنطبق على الملائكة المخلوقة قبل يوم الدين .

2 ـ من الحقائق القرآنية أن هذه الملائكة لها حرية الاختيار وما يعنيه هذا من إحتمال الوقوع فى المعصية والعذاب . ولقد عصى واحد من الملائكة وهو إبليس فطرده رب العزة من الملأ الأعلى حين رفض السجود لآدم وسيكون مع أوليائه فى الجحيم . ولنا مقال بحثى عن ابليس الذى كان من الملائكة فأصبح من الجنّ بعد عصيانه وطرده . ولكن نقرأ سريعا قوله جل وعلا فى هذا الموضوع : ( وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ (30) وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاء إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِوَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ (33) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنْ الْكَافِرِينَ (34) البقرة ) ونلاحظ هنا أن الملائكة تناقش الله جل وعلا وتراجعه فى قراره بجعل خليفة فى الأرض ، وأنهم كانوا يكتمون شيئا ، والله جل وعلا يعلمه . ثم جاء إفتضاح أحدهم وهو ابليس حين رفض السجود لآدم .

3 ـ ومن الحقائق القرآنية أن هذه الملائكة ستأتى فردا فردا أمام الرحمن يوم الحساب مثل أفراد البشر:( إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِوَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً (95) مريم )

4 ـ ومن الحقائق القرآنية أن هذه الملائكة ستقف صفّا يوم العرض على الرحمن ، وكالبشر لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا : ( رَبِّ السَّمَوَاتِوَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَاباً (37) يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفّاً لا يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً (38) ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا (39) النبأ ).

5 ـ ومن الحقائق القرآنية أن هذه الملائكة ستتعرض مثلنا للحساب . يبدأ الحساب بالنبيين والشهداء : (وَأَشْرَقَتْ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (69) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ (70)الزمر) ثم دخول اهل النار  (وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً )(71) ثم دخول أهل الجنة: ( وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً)73) الزمر ) وفى النهاية حساب الملائكة والقضاء بينهم بالحق : ( وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ )(75) الزمر)

ودائما : صدق الله العظيم .!!

 

 الباب الأول : الشفاعة فى الاسلام

 الفصل السادس : النبى لا يشفع يوم الدين  

طبقا لحديث رب العزّة فى القرآن الكريم فلا يمكن لأى نفس بشرية أن تجزى أو أن تنفع أو تشفع فى نفس بشرية أخرى ، وينطبق هذا خصوصا على الأنبياء ، وينطبق على وجه أخصّ على خاتم الأنبياء. ونعطى التفاصيل :

النبى نفس بشرية نطبق عليها ما ينطبق على كل نفس بشرية

 1 ـ  ينطبق علي أنفس الأنبياء قوله تعالى عن يوم الحساب :( يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (111):النحل ) .

2 ـ إلا إنّ القرآن الكريم أكّد أكثر على حساب الانبياء المرسلين فى قوله تعالى( فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6)الاعراف) اي ان حساب الامم البشرية فى كفة والانبياء فى كفة اخرى،وان كان البشر يصل تعدادهم بالمليارات فأن تعداد الانبياء -والله تعالى اعلم - يصل الى  ألوف ، ولكنهم فى كفة تكافئ كفة البشر ، وهذا تأكيد على حساب الأنبياء فى الآية الكريمة.

3 ـ ونفس الحال فى قوله تعالى لخاتم النبيين عليه السلام (فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (43) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ (44)الزخرف) فالاية تؤكد على حسابه ومساءلته وهو فردواحد مقابل قومه وهم مئات الالوف،منهم المؤمنون ومنهم الكافرون. بل إن المساواة فى الحساب تصل الى مساواة النبى عليه السلام امام اعدائه وخصومه فى الموت وفى التخاصم أمام الله جل وعلا يوم الحساب ، يقول تعالى عنه وعنهم : ( إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31) الزمر) فالتأكيدعلى موت النبى جاء اكثر من التأكيد على موتهم حيث جاء الخطاب له مباشرة وبدأ به ،ثم كان الخطاب عنهم بعد ذلك بصيغة الغيبة فقال ( وأنهم ) ولم يقل( وأنكم ). وفى الاية اعجاز ضمنى يرد على من سيدعى بعد القرآن بحياة النبى عليه السلام فى قبره ، ثم كان التأكيد على ان النبى وخصومه سيختصمون عند الله تعالى يوم القيامة ،وهو فرد واحد وهم جماعة .

 النبى لن يشفع لأحد يوم الحساب ؟

1 ـ ان القرآن يتحدث عموما فيؤكد ان اى نفس بشرية لا  تجزي عن اى نفس أخرى شيئا ولن تشفع فيها (وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنصَرُونَ (48)(وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلا هُمْ يُنصَرُونَ (123)البقرة)، وانه فى ذلك اليوم لا ينفع الوالد ابنه ولا ينفع الابن اباه: ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33) لقمان33) وجاءت الايات الكريمة السابقة مشفوعة بالامر بالخشية والخوف من هذا اليوم يوم الحساب والتحذير من خداع الشيطان وغروره.وأكد القرآن ان كل امرئ سيفرّ من اخيه وامه وابيه وصاحبته وبنيه لكل امرئ يومئذ شأن يغنيه : ( يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37) عبس )وكل ذلك ينطبق على الانبياء جميعا .

2 ـ الا ان القرآن اكد على أن خاتم النبيين لا يملك ان يجزى عن احد شيئا يوم الحساب ،وهذا التأكيد فيه اعجاز ضمنى يردعلى من جاء بعد القرآن ليثبت شفاعة النبى خلافا للقرآن ، ان رب العزة جل وعلا يقول عموما (يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19)الانفطار ) ويقول للنبى خصوصا: ( لَيْسَ لَكَ مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ (128) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِوَمَا فِي الأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (129) آل عمران128)، كما يقول تعالى للنبى فى سؤال استنكارى: (أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (19) الزمر) أى لا يستطيع ان ينقذ احدا من النار إذا دخل النار ،لأن كلمة الله تعالى إذا حقّت فلا تتبدل ،وهذا معنى قوله تعالى يوم القيامة لأهل النار: ( مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ):( ق29).

3 ـ وعند الحساب بالذات لا يملك النبى ان يساعد اصحابه ولا يملك اصحابه ان يساعدوه،يقول تعالى عنه وعن اصحابه المؤمنين (وَلا تَطْرُدْ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنْ الظَّالِمِينَ (52) الانعام 52) وهى مساواة بينه وبينهم فى الحساب . كما لا يملك ايضا اعداء النبى ان ينفعوه يوم الحساب (إِنَّهُمْ لَن يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ ) الجاثية 19).وهذه حقائق القرآن من شاء فليؤمن ومن شاء فليكذب :(أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمْ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً )(114)الانعام ). وصدق الله العظيم.!

النبى محمدعليه السلام سيأتى شاهد خصومه على قومه  

1 ـ ان كل نفس ستأتى  يوم القيامة تجادل وتدافع عن نفسها ( النحل 111)وينطبق هذا على خاتم النبيين ، فسيأتى يدافع عن نفسه بأنه بلغ الرساله وانه يتبرأ من كل من هجر القرآن. صحيح ان الله تعالى سيجمع الرسل يوم القيامه ويسألهم عن مدى استجابة الناس اليهم ، وصحيح انهم سيردون بأنهم لا يعلمون ، لأن الله تعالى وحده علآم الغيوب : ( يَوْمَ يَجْمَعُ اللّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُواْ لاَ عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ )(المائدة 109)، إلّا أنّ ذلك يتعلق بسرائر الناس وحقيقة اعمالهم وهذه غيوب لا يعلمها إلّا علام الغيوب جل وعلا ، ولهذا فهو وحده الذى يعطى ملائكة تسجيل العمل الإذن بشفاعة العمل لمن يعلم بصلاحهم ويرضى عنهم . أمّا شهادة النبى على قومه وشهادة الاشهاد على اقوامهم فهى تتناول الاقوال والافعال الظاهرة .

2 ـ ويقول سبحانه وتعالى عن يوم الحساب (وَأَشْرَقَتْ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ )الزمر 69 -70) أى يوضع الكتاب ، الكتاب الالهى أو الرسالة السماوية فى كفة الميزان ،وكتاب الاعمال لكل فرد فى كفة أخرى (الأعراف 8-9) ، ثم يؤتى أولا بالانبياء والشهداء الذين يأتون شهداء على قومهم فيعطوا شهادتهم ،ويقضى رب العزة بينهم بالحق ،ثم بعدها يأتى حساب كل الانفس وكل الامم ليحاسبهم رب العزة فردا فردا بما عملوا ، وهو جل وعلا الأعلم بما كانوا يفعلون وما يُسرّون وما يعلنون .

3 ـ وفى مفهوم القرآن فالشهداء فى الآخرة هم الذين يشهدون على اقوامهم. وهؤلاء الأشهاد أوالشهداء هم من الانبياء والدعاة للحق الذين ساروا على طريق الأنبياء وتواصوا بالحق وبالصبر وتمسكوا بالكتاب وتحملوا الاذى فى سبيله ،وسيدلى الأنبياء والشهداء بشهادتهم يوم القيامة على العصر الذي عاشوا فيه والناس الذين شهدوهم وعايشوهم فى نفس الزمان والمكان . يقول تعالى : ( وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ) النحل 84 )، ويقول جل وعلا لخاتم النبيين عليه وعليهم السلام ( فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيدًا ) النساء 41) أى جىء بك على هؤلاء القوم من قريش خصما أو شهيدا عليهم ، فلكل امة شهيد يشهد عليها يوم القيامة وسيكون النبي على السلام شهيدا على قومه ، أى شاهد خصومة لأن (شهدعلى) تفيد الخصومة يقول سبحانه و تعالى للعرب وقريش ( إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولا ) المزمل 15) . فهو شاهد عليهم .

4 ـ وبعد موت النبى يظل طريق الدعوة للحق مفتوحا لكل من يتبع سبيل الحق الذى سار عليه النبى : (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) يوسف  108). ويقع عليهم عبء المواجهة للضلال الذى يزحف متسللا بعد موت النبى ، لأن الشيطان لا يقدم إستقالته ، بل يظل يتفنّن فى إغواء البشر ، إذا تنبهوا له من اليمين أتاهم من الشمال ، ولا ييأس حتى ينجح فى إضلال الأكثرية من البشر ، وهكذا فعل بالمسلمين المحمديين : (قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ )(الأعراف 16 : 17). وكلما إزداد إضلال الشيطان للناس إزدادت المعاناة لدعاة الحق ، ويوم القيامة يؤتى بدعاة الحق يشهدون على اقوامهم وعلى إئمة الضلال الذين زيفوا فى دين الله وإفتروا على الله ورسوله كذبا ، وأقاموا على أنقاض الدين السماوى أديانا أرضية بالتزوير والبهتان . يأتى دُعاة الحق يوم القيامة يشهدون على هؤلاء الظالمين الذين إفتروا على الله تعالى كذبا وكذّبوا بآياته . يقول جل وعلا عن أولئك الظالمين:( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا )،ويصف عرضهم أمام الواحد القهّار جل وعلا :( أُوْلَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ ) ويذكر جل وعلا شهادة الشهداء الأشهاد عليهم شهادة خصومة:( وَيَقُولُ الأَشْهَادُ هَؤُلاء الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ) ويذكر الأشهاد كيف أن أولئك الظالمين أصحاب الجاه فى الدنيا كانوا يصدون عن سبيل الله ويحاربون كتابه وصراطه المستقيم  ليبغونها عوجا:( الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ ) ، وكأن الايات الكريمة تنزّلت لتصف بالضبط عصرنا البائس .!!. ويقول جل وعلا عن أولئك الظالمين المفترين :( أُوْلَئِكَ لَمْ يَكُونُواْ مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاء يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الأَخْسَرُونَ ). ويقول تعالى عن الرسل والاشهاد من الذين آمنوا ( إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ يَوْمَ لا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ ).غافر 51-)

5 ـ وقد ذكر رب العزة ـ مقدما ـ  شهادة عيسى عليه السلام على قومه فى مشهد حسابه يوم القيامة  اذسيسأله ربه جل وعلا : ( أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ ) ويرد عيسى عليه السلام مدافعا عن نفسه : ( قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ ) وفى شهادته يؤكد عيسى عليه السلام أنه كان شهيدا عليهم المدة الى عاشها بينهم الى أن توفاه ربه جل وعلا ، وهو جل وعلا الرقيب عليهم وهو على كل شىء شهيد : ( وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ). ثم فى تأكيد تبرئه منهم يقول عيسى عليه السلام لربه : ( إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) لم يقل:(وإن تغفر لهم فإنك أنت الغفور الرحيم) حتى لا يكون متعاطفا معهم وميّالا للعفو عنهم . وتأتى شهادة الله جل وعلا لعيسى بالصدق وباستحقاقه الجنة فى يوم الدين:( قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ )(المائدة 116 : 119).تركزت شهادة عيسى عليه السلام فى موضوع تأليهه الذى سيسبب له حرجا يوم الحساب أمام الواحد القهّار جل وعلا .

6 ـ أما الحرج الذى سيقع فيه خاتم المرسلين فهو أشد . سببه تلك الأحاديث التى نسبوها له إفترءا وكذبا وظلما بعد موته . وبها جعلوه إلاها مقدسا متحكما فى يوم الدين . لذا فإن شهادة محمد عليه السلام ستتركز فى هجر قومه للقرآن بسلوكياتهم ، ثم سار اللاحقون على سيرة هذا السلف غير الصالح حيث قاموا بتشريع هذا الفساد السلوكى بإفتراء أحاديث نسبوها زورا للنبى عليه السلام ،ومن أجلها اتخذوا  القرآن مهجورا، ولذلك فإنّ رب العزة يعتبرهم الله تعالى اعداء للنبى . ونعايش السياق الذى جاء فيه جل وعلا بشهادة خاتم النبيين على قومه العرب : (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاء بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنزِيلا الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلا يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلا لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولا وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِّنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا) ( الفرقان 25 : 30). الظالم يوم القيامة يندم أشد الندم ـ  حيث لا ينفع الندم ـ لأنه لم يتخذ مع الرسول سبيلا ، ولأنه لم يتبع ( الذّكر ) أى القرآن، فالرسول هنا أو (الذكر ) هو الرسالة أو القرآن ، أى إن الندم يشمل كل الظالمين الذين إتّخذوا القرآن مهجورا من قوم الرسول محمد الذين عايشهم ومن جاء ويجىء بعدهم من الظالمين ، فكلهم إتخذوا القرآن مهجورا. يدخل ضمنهم ( صحابة الفتوحات ) الذين آمنوا وهاجروا ، ثم بعد موته عليه السلام إرتدوا بما قاموا به من إحتلال لأوطان وقهر سكانها وقتل مئات الألاف من أحرارها وإغتصاب نسائهم وإسترقاق ذرياتهم ونهب أموالهم ، مما تسبب عنه وقوع أولئك الصحابة فى الحرب الأهلية أو الفتنة الكبرى بسبب نزاعهم على ثروات الأمم المفتوحة المنهوبة . والله جل وعلا أنبأ بذلك مقدما فى مكة بتكذيبهم للقرآن حين قال لقوم النبى محمد عليه السلام : ( قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65) وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (66) لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (67) ( الأنعام ) .

7 ـ والمستفاد أن الذين يتخذون القرآن مهجورا هم الأعداء الحقيقيون للنبى محمد عليه السلام ، ذلك أنه لكل نبى يوجد أعداء من المجرمين أولياء الشياطين الذين يتخصصون فى أتخاذ الرسالة السماوية مهجورة ، وفى إنتحال الكذب والافتراء على النبى وتأسيس دين أرضى يجعل الدين الحق مهجورا . وهنا نتذكر أيضا قوله جل وعلا عن أعداء الأنبياء : (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112) وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113) أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمْ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنْ الْمُمْتَرِينَ (114) وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115) وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (116)( الأنعام )

8 ـ ويتأكّد هذا فى آية اخرى يوضح فيها الله تعالى ان القرآن الذى نزل تبيانا لكل شئ هوشهادة النبى على قومه وشهادة الاشهاد أو الشهداء من بعده على اقوامهم ،يقول سبحانه وتعالى : ( وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلاء وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ )(:النحل 89) .أى نزل القرآن الكريم تبيانا لكل شىء يحتاج الى التبيين والتفصيل .  فيه تفصيلات جاءت على (علم ورحمة ) لمن يفقه ويتعلم ويريد الهدايةمن المؤمنين : (وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) الأعراف) ، وفيه الاسترشاد والعمل بالعُرف والمعروف المتعارف على أنه عدل وقسط وخير ،وهذا فى الإجماليات من الأمور التى لا تحتاج الى تفصيل . أى جاءت تشريعات القرآن بميزان دقيق (اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17) الشورى ) وبالقول الفصل (إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ (14) إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً (15) وَأَكِيدُ كَيْداً (16) فَمَهِّلْ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً (17) الطارق ) ولكن اعداء القرآن يكيدون للقرآن كيدا وموعدهم الساعة. هم يصدون عن القرآن ويبغونه عوجا وهو الصراط المستقيم . هم يقولون ان القرآن وحده لا يكفى وينكرون قوله تعالى ( أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ ) العنكبوت 51 ). ويسمون أكاذيبهم (سُنّة ) ويجعلونها فوق القرآن ، ويقولون لا كتاب بدون سنة !!. واذا تعارضت آيات القرآن مع تلك الاحاديث الكاذبة تمسكوا بالاحاديث ورفضوا القرآن . ومن أجل ذلك يتمسكون بشفاعة النبى التى تتناقض مع القرآن. لذا ستأتى شهادة النبى عليهم وشهادة ( أهل القرآن ) عليهم بأن القرآن كتاب مبين (الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (1) إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2) يوسف  ) وأنّ آياته بينات (وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ )(16) الحج) فليس محتاجا لتفسيرهم المزعوم ، وأنه جاء تفصيلا وبيانا لكل ما يحتاج للتفصيل والبيان ، فليس محتاجا لأحاديثهم الضالة ، وجاء كاملا تاما وليس ناقصا لتكمله أحاديثهم وسنتهم (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115) الانعام )( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِيناً  (3) المائدة ). هذا هو فحوى الشهادة عليهم يوم الحساب :( وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلاء وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ) (النحل 89).

قصة قرآنية للتوضيح

1 ـ هى قصة مؤلمة تتكرر فى عصور الظلم والطغيان فى كل زمان ومكان، ابن الاكابر يرتكب جريمة فيلصقها أهله أصحاب النفوذ بفتى مسكين فيدخل البرىء السجن ظلما بينما يظل المجرم ابن الاكابر طليقا .! وحدثت هذه القصة وتكررت وستحدث وستتكرر طالما ابتعدنا عن كتاب الله تعالى وهوالسنه الحقيقيه للنبى عليه السلام.  حدثت هذه القصه فى عهد النبى عليه السلام فى المدينه اذ سرق ابن الاكابر درعا، واتضح امره ،وتحدث الناس بجريمته ، فأحسّ أهله الأكابر بالعار ، واجتمعوا بليل لإنقاذ ( شرف العائلة )، واتفقوا على قرار ؛ وضعوا الدرع المسروق فى بيت شخص برئ، ثم فى الصباح ذهبوا للنبى يشتكون اتهام ابنهم المظلوم ويطلبون من النبي ان يدافع عنه. وصدقهم النبى فدافع عن ابن الاكابر ، وهو عليه السلام لا يعلم الغيب . وبذلك نجا المجرم الحقيقى وحاقت التهمة ببرئ مظلوم . ولأن الوحى كان لا يزال ينزل فإن الله انزل قرآنا فى هذه الواقعة . وطبقا لمنهج القرآن فى القصص وتناول الاحداث التاريخية فإنه لم يهتم بالزمان والمكان واسماء الابطال ، وانما حوّل هذه الحادثة التاريخية الى موعظة يستفيد منها الناس فى كل زمان ومكان بعد نزول القرآن .

2 ـ قال ب العزة جل وعلا : ( إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَائِنِينَ خَصِيمًا وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا هَاأَنتُمْ هَؤُلاء جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَن يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَم مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَّحِيمًا وَمَن يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاُّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا ) ( النساء 105 : 113 )

3 ـ فى البداية يأتى الخطاب للنبى بأن الله تعالى انزل الكتاب بالحق ليحكم بين الناس بما أراهم الله تعالى فى هذا الكتاب ،ثم ينهاه على ان يكون مدافعا عن اولئك الخائنين : (إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَائِنِينَ خَصِيمًا  ). ثم يأمره بالاستغفار عما حدث منه من الدفاع عنهم : (وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا ) ، ثم ينهاه ثانية عن الدفاع عن هؤلاء الخائنين لأن الله تعالى لا يحب من كان خوانا اثيما . (وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا ). ثم يصف رب العزة حالهم حين التآمر وهم يستخفون من الناس بينما لا يستخفون من الله وهو جل وعلا محيط بما يفعلون : (يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا ) . ثم يقول تعالى للنبى ومن كان يدافع عن هؤلاء المجرمين : اذا كنتم تجادلون عنهم فى الدنيا فهل تستطيعون الدفاع عنهم فى الاخرة ؟ : (هَاأَنتُمْ هَؤُلاء جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَن يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَم مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً ) .

4 ـ ثم يضع الله القواعد التشريعية فى هذا الموضوع:  فالجانى اذا تاب تاب الله عليه ، والله جل وعلا هو الغفور الرحيم : (وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَّحِيمًا ) والجانى اذا وقع فى جناية فإن العقوبة تقع عليه وحده إذ لا تزر وازرة وزر أخرى، والله جل وعلا هو العليم الحكيم  :( وَمَن يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ).  أما الجانى الذى يلصق جريمته ببرئ فإن اثمه مضاعف فقد إكتسب الخطيئة والبهتان معا : ( وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا ).وفى النهاية يقول جل وعلا للنبى عليه السلام : (وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاُّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا) .

5 ـ وبإيجاز شديد نستخلص من الاية الكريمة الحقائق الاتية :.(1) بعض الصحابة وصفهم القرآن بالخيانة والاثم فليس كل الصحابة ملائكة او شخصيات مقدسة وانما هم بشر يصيبون ويخطئون .(2)ان النبى لا يعلم الغيب ولذلك خدعه اؤلئك الصحابة وصدقهم .(3)ان عصمة النبى بالوحى فقط ،ولولا فضل الله عليه لهمت طائفة منهم ان يضلوه. (4)ان النبى يوم القيامة لا يستطيع ان يجادل عن احد ،اى لن يستطيع ان يشفع فى احد او ان يكون وكيلا عن احد .(5)ان قواعد المسؤلية والمحاسبة محددة سلفا  بحيث لا يكون فى الاخرة مجال لأحد ان يشفع فى مجرم ؛ فالجانى اذا تاب فإن الله تعالى يقبل توبته،  والعقوبه تلحق بالجانى وحده ولا يستطيع احد ان يدافع عنه امام الله طالما لم يتب فى الدنيا . (6 ) إن أفظع الإجرام هو ( تلفيق الجرائم ) .

6 ـ ( تلفيق الجرائم ) للأبرياء وهو من أفظع ( إنجازات ) نظم الحكم فى بلاد المسلمين ، فضابط البوليس لكى يترقى لا بد أن يثبت كفاءته بتقديم قضايا مزورة يزعم أنه إكتشفها وقبض على مرتكبيها ، ويعترف فيها الأبرياء بالتعذيب. وهذه الانجازات الإجرامية ( العظيمة ) تتمتع بحصانة فى الدين السّنى بالذات ، لأنهم يرتكبون هذه الجرائم بضمير مستريح وهم يؤمنون بأن النبى سيشفع لهم يوم القيامة مهما إرتكبوا من مظالم . لهذا تسود أساطير الشفاعات المنسوبة للنبى حيث يسود الظلم والقهر فى بلاد المسلمين . ولا يمكن تأسيس مجتمع نظيف أخلاقيا وراق حضاريا طالما تسود فيه أساطير الشفاعات البشرية .

7 ـ وندخل الى الباب الثانى عن أساطير الشفاعات فى الدين السّنى بالذات .

كتاب الشفاعة : ( النبى لا يشفع يوم الدين )
يتناول هذا الكتاب الشفاعة بين الاسلام وبين المسلمين ، موضحا وقوع ( المحمديين ) فى الاشراك بالله جل وعلا حين جعلوا محمدا مالكا ليوم الدين . وويوضح أصوليا وتاريخيا نشأة وانتشار أساطير الشفاعة عند المسلمين المحمديين ، واثرها فى نشر الانحلال الخلقى بينهم . مع التركيز على دور البخارى.
more