رقم ( 8 )
الباب السابع : الحنابلة ونشر الفوضى باضطهاد الشيعة حتى تدمير بغداد

 

الباب السابع : الحنابلة ونشر الفوضى باضطهاد الشيعة حتى تدمير بغداد 

الفصل الأول :لمحة تاريخية سريعة

أولا : مقدمة

1 ـ لا نتحدث هنا عن الاضطهاد السياسى للشيعة ، وهو يدخل فى الصراع الحربى بين العباسيين والطالبيين من ذرية على بن أبى طالب وأتباعهم من شيعتهم . نتحدث هنا عن الاضطهاد الدينى للشيعة والذى سنّه الخليفة المتوكل ( الحنبلى ) والذى إضطهد المعتزلة والشيعة وأهل الكتاب منحازا ومتعصبا للسنيين . ونتذكر أنه قرن هذا بإجراءات ضد أهل الكتاب عام 235 ، وضد الشيعة بهدم ضريح الحسين عام 236 . الأخطر من هذا أنه حين أعلن ( السّنة ) دينا رسميا لدولته وبعث أهل الحديث لنشرها فى الافاق عام 234 ، فقد أتاح نشر التعصب الحنبلى بين العوام ، وقام ارباب الحديث بنشر أساطير الشفاعة وحديث تغيير المنكر باليد ، فأصبح للعوام ( المسلحين ) مشروعية دينية لاضطهاد المخالف لهم فى الدين وفى المذهب وفى الدرجة العلمية ، وشهدنا ما حدث على أيدى العوام وشيوخهم من إضطهاد للمعتزلة والأشاعرة وللطبرى فى أخريات حياته برغم قامته العلمية فى تاريخ الدين السّنى .

2 ـ الاضطهاد ( الدينى ) الذى تعرض له الشيعة فى حى الكرخ فى بغداد تأثر أيضا بالوضع السياسى ، فلم يظهر قبل الخليفة المتوكل ، وكانت السلطة العباسية تشارك فيه أو تحاول ضبطه أو إيقافه حرصا على ( هيبة الدولة )، كما تأثر بوجود متنفذين فى الدولة كانوا من الحنابلة ، كان على رأسهم خلفاء متعصبون كالقادر الذى تعصب ضد المعتزلة وأفناهم، وكان بنفس القدر متعصبا ضد الشيعة ، ووضعهم فى مستوى واحد ضمن ( المبتدعة والملاحدة والباطنية ). وبسبب الوضع السياسى المتقلب فإن الشيعة قد تشجعوا فى بعض الفترات التى تهاوى فيها نفوذ الحنابلة ونفوذ الخلافة العباسية ، بسبب داخلى أو خارجى ، وفى أحوال كثيرة حمل شيعة الكرخ السلاح ، وحدث تداخل بين عوام الحنابلة والعوام من قطاع الطرق المعروفين بالعيارين ، خصوصا وقت الاضطرابات وإختلال الأمن وضعف الدولة . 

3 ـ ولتوضيح أكثر نقول إن العصر العباسى الأول ( 132 : 232 ) تمتع فيه الخلفاء بالسطوة والنفوذ . ثم أصبح الخلفاء فى العصر العباسى الثانى تحت سيطرة مراكز القوى العسكرية الداخلية أو الخارجية ، وكلهم من الشرق الآسيوى ، من الأتراك أو الديالمة . وتبعا لهذه القوى المتحكمة فى بغداد والخلافة العباسية يمكن تقسيم العصر العباسى الثانى الى الفترات التالية : فترة تحكم القواد الأتراك ، من عصر الخليفة المتوكل ( 232 : 247 ) الى عصر ( القاهر ) . وقد إعتاد القواد الأتراك  قتل معظم الخلفاء طيلة الفترة التى تحكموا فيها، وتولى خلال هذه الفترة : ( المتوكل ، المنتصر ، المستعين ، المعتز ، المهتدى ، المعتمد ، المعتضد ، المكتفى ، المقتدر ، القاهر ) . الوحيد الذى نجا من نفوذ الأتراك كان المعتضد ( 279 : 289 ). يلحق بهذه الفترة عصر الأمراء الكبار ( ابن رائق و بجكم ونوزون: 322 : 333 ) ، وتولى فيها الخلفاء ( الراضى المكتفى المستكفى) . وإنهار حُكم القواد الأتراك المحليين بسيطرة السلاطين البويهيين على بغداد ، وكانوا شيعة ، واستمر تحكمهم فى بغداد والخلافة من ( 334 : 447 ) وتولى الخلافة فى هذه الفترة ( المطيع والطائع والقادر والقائم ) . وأشهر سلاطين بنى بويه كانوا معز الدولة وبختيار وعضد الدولة ..وبسبب الصراع بين السلاطين الضعاف فى الفترة الأخيرة انتشرت الفوضى وأصبح للقادر العباسى بعض النفوذ إستخدمه فى إضطهاد المعتزلة والشيعة . ثم إزداد ضعف وتنازع بنى بويه فتمكن الأتراك السلاجقة من الحلول مكانهم فى بغداد والشرق . وظلوا فى المنطقة واقتسموها ، وبضعفهم  حلّ محلهم قوادهم الذين إقتسموا شرق وغرب العراق وشماله ، وبرز منهم آل زنكى والأيوبيين . وفى بداية السلاجقة وفى طور قوتهم فى وزارة نظام الملك إختلّ نفوذ الحنابلة فى بغداد ، ثم عاد نفوذهم بعده ، الى أن أزاحهم التصوف السنى الذى أرسى دعائمه صلاح الدين الأيوبى الذى قضى على الدولة الفاطمية ، وقرن قضاءه عليها بحرب التشيع فكريا ودينيا ليس بالحنبلية ـ سيئة السُّمعة ـ بل بالتصوف السُّنى ( المعتدل ). هذه هى الأرضية التاريخية التى نفهم من خلالها الصراع بين الشيعة والحنابلة فى بغداد فى العصر العباسى الثانى .

 ثانيا : أضطهاد الشيعة فى بغداد فى عصر نفوذ القواد الأتراك المحليين

1 ـ يبدأ هذا بالخليفة المتوكل الذى قتل عيسى بن جعفر عام 241 . ‏ ضربه ألف سوط ، وامر بإلقائه فى الشمس حتى يموت ثم رميه فى دجلة وعدم تسليم جثته لأهله . السبب ‏:‏ أنه شهد عليه أكثر من سبعة عشر رجلًا أنه شتم أبا بكر وعمر وعائشة وحفصة .

2 ـ واكب هذا الاضطهاد الرسمى الدعاية الحنبلية المركزة ضد خصومهم باستخدام المنامات والأحاديث ، وبرز بين أصحاب الحديث أكثرهم مهارة فى الكذب والتخريف ، إذ كان يحوز على شغبية جارفة بين العوام تتسبّب فى حسد رفاقه ، والدليل على ذلك ما يحكيه ابن الجوزى فى ترجمة غلام الخليل ت  275 ، فقد كان يتهمه رفاقه بالكذب فى الأحاديث ، فيعترف بالكذب قائلا : ( وضعناها لنرقّق بها قلوب العامة ‏.‏) واتهمه أبو داود السجستاني علانية بالكذب ، وأُطلق عليه لقب ( دجال بغداد ).  إلا إنه شهرته بين العوام أظهرت نوعية العقلية السائدة ،ففى جنازته حملوا جثته في تابوت إلى البصرة ( وغُلقت أسواق مدينة السلام ، وخرج النساء والصبيان للصلاة عليه، ودفن بالبصرة وبنيت عليه قبة .) وقبلها صلُّوا عليه فى بغداد ( وحُمل في تابوت، فأحدر إلى البصرة ، وأكثر من صلى عليه إنما صلى على شاطئ دجلة .وانحدر الناس ركبانًا ومشاة وفي الزواريق إلى كلواذى ودونها وأسفل منها ودفن بالبصرة ‏.‏)

3 ـ وبدأ تأثير الحنابلة يظهر فى عُنف العوام مع الشيعة بما يهدد هيبة الدولة، وتولى المعتضد الخلافة ، وقد أحكم سيطرته على بغداد والقادة الأتراك ، وفى عام 279 منع القصّاصين من الجلوس فى الطرقات وفى المسجد الجامع ومنع بيع كتب الجدل والفلسفة ‏.‏ وكرّر هذا فى عام 384  يقول ابن الجوزى:(أمر المعتضد العوام بترك العصبية ومنع القصاص من القعود في الجامع وفي الطرقات، ومنعت الباعة من القعود في رحابها ،ومنع أهل الحلق في الفتيا وغيرهم من القعود في المسجد، ونودي يوم الجمعة بنهي الناس عن الاجتماع على قاصٍ أو غيره ، وأنه قد برئت الذمة ممن اجتمع من الناس على مناظرة أو جدل فمن فعل ذلك أحلّ بنفسه الضرب . ).

4 ـ ولكن نلاحظ شغبا مسلحا للعوام ضد السُّلطة العباسية، ففى عام 307 هاجموا السجون وأطلقوا سراح من فيها بمدينة المنصور، وتتبع أصحاب الشرطة من أفلت فلم يفتهم منهم أحد ‏.‏ وارتفعت الأسعار بسبب جشع الوزير حامد فقام العوام بمظاهرة عام 308 إتجهت لبيت الوزير واشتبكوا مع حُرّاس القصر فقتل الحراس جماعة منهم ، فمنع العوام يوم الجمعة الإمام من الصلاة ، وهدموا المنابر ، وأخربوا مجالس الشرطة وأحرقوا الجسور، وأمر السلطان بمحاربة العوام ، فأخذوا وضربوا ، كما أزال السلطان مظالم الوزير ، فسكن الحال . وخوفا من عودة العوام للتمرد ومواجهة المظالم والفساد رؤى توجيه سخطهم وإحباطهم نحو الشيعة ، وهنا نلاحظ وقوع حرائق مجهولة تتكرر داخل حى الكرخ الشيعى وغيره فى بغداد ، والفاعل مجهول ، وبدأ هذا عام  309 ، و تكرر كثيرا بعدها . وفى هذا الحادث الذى وقع في شهر ربيع الأول 309 ( مات خلق كثير . )  

ثالثا : فى عصر بنى بويه :

1 ـ تشجع شيعة الكرخ فى بغداد بحكم بنى بويه الشيعة ، فهاجمهم عوام الحنابلة عام 338 في آخر ربيع الأول ،ونهبوا الكرخ‏ ، وتكررر هذا عام 346  في آخر المحرم‏ ، دون مراعاة للشهر الحرام . وفى عام 348  ( وفى جمادى الأولى اتصلت الفتن بين الشيعة والسنة ، وقتل بينهم خلق كثير .ووقع حريق كثير في باب الطاق‏.). واضح هنا أن الشيعة بدأوا يقومون بالدفاع عن أنفسهم ، وأن حريقا شبّ فى بيوتهم . وفى العام التالى  349  وفى يوم الخميس لثلاث خلون من شعبان ( وقعت فتنة بين السنة والشيعة في القنطرة الجديدة ، وتعطلت الجمعة من الغد في جميع المساجد الجامعة في الجانبين ، سوى مسجد براثا ، فإن الصلاة تمت فيه .) . وتشجع الشيعة أكثر عام ‏351 ، ففى شهر ربيع الآخر، كتبوا منشورات  فى الجوامع بلعن معاوية بن أبي سفيان ولعن من غصب فاطمة فدكا ( اى أبا بكر ) ومن أخرج العباس من الشورى ، أى (عمر )ومن نفى أبا ذر الغفاري ( عثمان )  ومن منع من دفن الحسن عند جده . ) . وكان هذا بمباركة السلطان البويهى ( معز الدولة. ) وقام الحنابلة بمحو المكتوب فأمر معز الدولة أن يكتب‏:‏ ( لعن الله الظالمين لآل رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأولين والآخرين والتصريح باسم معاوية في اللعن. )‏.‏

2 ـ وبدا الشيعة عام 352 إعلان طقوسهم وفرضها فى بغداد بالحداد على الحسين يوم العاشر من المحرم ، حيث ( أغلقت الأسواق ببغداد ، وعطل البيع ، ولم يذبح القصابون، ولا طبخ الهراسون ،ولا ترك الناس أن يستقوا الماء ، ونصبت القباب في الأسواق ، وعلقت عليها المسموح .وخرجت النساء منتشرات الشعور يلطمن في الأسواق وأقيمت النائحة على الحسين عليه ). نلاحظ هنا أن الأمر شمل بغداد كلها وليس حى الكرخ الشيعى فقط . واستمر هذا فى الأعوام التالية حيث كان ابن الجوزى يضطر حزينا الى تسجيله فى حوادث شهر محرم . وننقل عنه ما كان يحدث بترتيب الأعوام : (عام 353 ، من  الحوادث فيها أنه عمل في عاشوراء مثل ما عمل في السنة الماضية من تعطيل الأسواق وإقامة النواح ، فلما أضحى النهار يومئذ وقعت فتنة عظيمة في قطيعة أم جعفر وطريق مقابر قريش بين السنة والشيعة ، ونهب الناس بعضهم بعضًا ووقعت بينهم جراحات‏.‏)( عام 354 : فمن الحوادث فيها ، أنه عمل في يوم عاشوراء ماجرت به عادة القوم من إقامة النوح وتعليق المسوح . ) وانتقم الحنابلة بأن هاجموا المسجد الشيعى فى براثا وقتلوا فيه إثنين : ( وفي ليلة الثلاثاء لعشر بقين من ربيع الآخر‏:‏ كبس مسجد براثا وقتل في قوامه نفسان‏.‏ ). ( عام 355 : عمل في عاشوراء ما جرت عادة القوم به من النوح وغيره. ) ، ( عام  356 :عمل في يوم عاشوراء ما يعمله القوم من النوح وغيره. ) (عام 357 :عمل ببغداد يوم عاشوراء ما جرت به عادة القوم من تعطيل الأسواق وتعليق المسوح والنوح وفي غدير (خم ) ما جرت به عادتهم أيضًا‏.‏) ( عام 358 : أنه جرى في يوم عاشوراء ما جرت به عادة الشيعة من تعطيل الأسواق وإقامة النوح وغير ذلك ، وكذلك فعلوا في يوم غدير (خم‏) ) (عام  359: أنه في يوم عاشوراء فعلت الشيعة ما هي عادتهم من تعطيل الأسواق وإقامة النوح واللطم‏.‏)(عام 360 : أنه في يوم عاشوراء فعلت الشيعة ماجرت به عادتهم من النوح واللطم وتعطيل الأسواق.)(361 :عمل ببغداد ما قد صار الرسم به جاريًا في كل يوم عاشوراء، من غلق الأسواق وتعطيل البيع والشراء وتعليق المسوح .)

3 ـ بدأ نفوذ بنى بويه فى الضعف مع عام 380 حيث انتهى عمل الطقوس الشيعية فى بغداد وإستشرى نفوذ العيارين ، وحدثت بينهم حروب عصابات ، ونشبت حروب مماثلة بين الشيعة فى حى الكرخ والحنابلة فى حى باب البصرة ببغداد ، وصار لكل فريق أمير ، يقول ابن الجوزى فى حوادث عام 380 : (  وفي هذه السنة زاد أمر العيارين في جانبي بغداد مدينة السلام ، ووقعت بينهم حروب ، وعظمت الفتنة ، واتصل القتال بين الكرخ و باب البصرة ، وصار في كل حرب أمير وفي كل محلة متقدم . وقتل الناس ، وأخذت الأموال ، وتواترت العملات ، واتصلت الكبسات ، وأحرق بعضهم محال بعض. ). وامتد هذا للعام التالى  381 الذى تولى فيه الخلافة الحنبلى القادر بالله، يقول ابن الجوزى : ( وفي يوم الثاني عشر من ذي الحجة ، وهو يوم الغدير، جرت فتنة بين أهل الكرخ وباب البصرة ، واستظهر أهل باب البصرة وخرقوا أعلام السلطان ، فقتل يومئذ جماعة اتهموا بفعل ذلك ، وصلبوا على القنطرة. فقامت الهيبة وارتدعوا‏.). يعنى قام الحنابلة بتحدى السلطة البويهية وخرقوا الأعلام البويهية،أى تعدى الأمر من القتال الدينى الى العصيان السياسى الحربى فتدخل البويهيون بالقتل والصلب ، فأعادوا هيبتهم . واصبح لآبى الحسن الكوكبى المعلم نفوذ فى خلافة القادر العباسى ، واستخدمه عام  382 فى ( منع أهل الكرخ وباب الطاق من النوح في عاشوراء وتعليق المسوح .) ، وتشجع الحنابلة بنفوذه فتجدد القتال فى يوم الجمعة 18  شوال ، فأخمده الحاجب أبو الفتح ، الذى ( قتل وصلب ، فسكن البلد ، وقامت الهيبة‏.). وعاد القتال فى شهر صفر فى العام التالى 384  بين الكرخ الشيعى وباب البصرة الحنبلى ، مع عودة سطوة العيارين الذين فرضوا إتاوة ، وكانوا يحرقون البيوت ويرهبون الناس ، فأرسل البويهيون جيشا طاردهم .

4 ـ الطريف أن يمتد الصراع الدينى المسلح بين السنة الحنبلة والشيعة الى التنافس حول بناء القبور المقدسة . ففى عام 386 زعم أهل البصرة في شهر المحرم ( أنهم كشفوا عن قبر عتيق، فوجدوا فيه ميتًا طريًا بثيابه وسيفه، وأنه الزبير بن العولم ، فأخرجوه، وكفنوه ، ودفنوه بالمربد بين الدربين ، وبنى عليه الأثير أبو المسك عنبر بناء ، وجعل الموضع مسجدًا ، ونقلت إليه القناديل والآلات والحصر ..وأقيم فبه قُوّام وحفظة، ووقف عليه وقوفًا . )أى بنى الحنابلة قبرا مقدسا نسبوه للزبير بن العوام يضاهئون به مشاهد الشيعة ، وحرصوا أن يكون هذا الاكتشاف فى شهر المحرم للتغطية على الطقوس الشيعية . ومقابل الاحتفال الشيعى بيوم الغدير زعم الحنابلة فى عام 389  أن اليوم الثامن من يوم الغدير كان اليوم الذي كان فيه النبي صلى الله عليه وسلم في الغار وأبو بكر معه، فعملت فيه مثل ما عملت الشيعة في يوم الغدير،) ( وقد كانت جرت عادة الشيعة في الكرخ وباب الطاق بنصب القباب وتعليق الثياب وإظهار الزينة في يوم الغدير وإشعال النيران في ليلته ونحر جمل في صبيحته. ) فقام الحنابلة بالتشويش عليهم بيوم مقابل جعلوه يوم الغار . بل وجعلوا يوما آخر مقابل عاشوراء يوم 18 محرم ، للإحتفال بمقتل مصعب بن الزبير ، وجعلوا طقوسا فيه لزيارة قبر مصعب .

5 ـ واكب هذا زيادة فى ضعف البويهيين فانهار الأمن فى بغداد وتكاثرت عصابات العيارين عام  392 وإزدادت هجماتهم في رمضان ، وانضم اليهم رؤساء من العباسيين والعلويين فأرسل السلطان البويهى بهاء الدولة قائد جشه  (عميد الجيوش ) أبا علي بن استاذ هرمز إلى العراق ليدبر أمورها ، ( فدخلها يوم الثلاثاء سابع عشر ذي الحجة ، فزينت له بغداد خوفًا منه ) فتصرف بسياسة الحجاج بن يوسف ، فأغرق فى دجلة زعماء العصابات من العباسين والعلويين والأتراك ، ومنع الطقوس الشيعية والحنبلية معا ، يقول ابن الجوزى:( فكان يقرن بين العباسي والعلوي ويغرقهما نهارًا ، وغرّق جماعة من حواشي الأتراك، ومنع السنة والشيعة من إظهار مذهب ،ونفى بعد ذلك ابن المعلم فقيه الشيعة عن البلد ، فقامت هيبته في النفوس‏.‏‏).وفى العام التالى 393 ( منع عميد الجيوش أهل الكرخ وباب الطاق في عاشوراء من النوح في المشاهد وتعليق المسوح في الأسواق فامتنعوا ، ومنع أهل باب البصرة وباب الشعير من مثل ذلك فيما نسبوه إلى مقتل مصعب بن الزبير بن العوام‏.‏). أى أنهى التنافس فى الشعائر الشيعية والحنبلية . وعاد الهدوء لبغداد . ورجع القائد البويهى . وفى عام  398  ، إنهار الأمن وهجم الحنابلة على مسجد براثا الشيعى ونهبوه ، وقبض الشرطة على بعضهم وعوقبوا بالصلب والكحل ( أى فقأ العيون بالنار ) ، وحدثت فتنة بين شيوخ الشيعة والحنابلة فى يوم الأحد عاشر رجب ، وتطورت الى قتل ثم الى قتال ، وانضم الخليفة القادر الى الحنابلة . وتعرض حى الكرخ للحرق وتوسل التجار عفو الخليفة . وبلغ الخبر إلى عميد الجيوش قائد الجيش البويهى فسار ودخل بغداد . فطرد من بغداد ( ابن المعلم ) فقيه الشيعة  وقبض على مثيرى الفتنة وعاقبهم  ، ومنع القصاص من الجلوس . وبعد إستتاب الأمور أعاد ابن المعلم لبغداد وسمح للقصّاص إلى عادتهم من الكلام بعد أن شرط عليهم ترك التعرض للفتن‏.

6 ـ كانت الدولة الفاطمية قد إنتقلت لمصر عام 358 ، وحوصر السنيون الحنابلة والعباسيون بين عدو شيعى فى الداخل يتحكم فيهم ( البويهيون ) وعدو فى الخارج يتربص بهم ( الفاطميون ). ولهذا نفهم إعلان شيعة بغداد عن طقوسهم بمباركة البويهيين برغم وجود الخليفة العباسى الحنبلى المتعصب ( القادر ) . وسرعان ما سرى النفوذ الفاطمى الى الشام مهددا العراق العباسى ، وسُلطة البويهيين . وواصل النفوذ الفاطمى تقدمه ، فأعلن ابن المقلد حاكم الموصل عام 401 تبعيته للفاطميين وانه سيقوم بالدعوة لهم، ووافقه أهل الموصل . من هنا نفهم ما حدث فى العام التالى عام 402 ، إذ تم السماح لأهل ( الكرخ وباب الطاق في عمل عاشوراء ، فعلقوا المسوح وأقاموا النياحة. ). وفي ربيع الآخر أمر القادر بالله بعمارة مسجد الكف الشيعى وترميمه ‏.‏ وفي هذا الشهر كتب في ديوان الخلافة محاضر في الطعن فى نسب الفاطميين ، ووقع عليها الأشراف والقضاء والفقهاء . وإقترن هذا بموجة من توزيع الصدقات وزيارة القبور المقدسة وإستمالة العوام والوعاظ وإطلاق سراح بعض السجناء . وأرسل الحاكم بأمر الله الفاطمى بريالة الى السلطان البويهى يدعوه الى طاعته ، فرفض .

7 ـ  وإنقشع مؤقتا الخطر الفاطمى فتعرض أهل الكرخ للإعتداء والتوبيخ  وشرطوا عليهم عام 406( أن لا يعلقوا في عاشوراء مسوحًا ولا يقيموا نوحًا‏.‏) . وفى العام التالى 407 إحترق  في شهر ربيع الأول مشهد الحسين والأروقة . واتصلت الفتنة بين الشيعة والسنة بواسط ،ونهبت محال الشيعة والزيدية بواسط ، واحترقت. وهرب وجوه الشيعة والعلويين من بغداد ‏. وفى العام التالى 408 تفاقم إضطهاد الشيعة وحدث تقاتل بينهم وبين الحنابلة . وهو نفس العام الذى فيه ( استتاب القادر المبتدعة‏.‏) على حد قول ابن الجوزى . وفى عامى 416 ‏، 417 تحكم العيارون فى بغداد ، وكانوا يصادرون أهلها جهارا ، وهرب الشرطة من بغداد ، وأتى لبغداد جنود البويهيين فقاتلوا العيارين ، وفى هذه الفوضى تم نهب حى الكرخ ، وصودر أهله ، وفرض عليهم مائة ألف دينار .

8 ـ واستمرت الفوضى فى الفترة الأخيرة من خكم البويهيين وخلافة القادر بالله العباسى الذى ظل خليفة من 381 : 422 ، واستمرت الفوضى بعده فى خلافة ابنه القائم الذى اصدر ( الاعتقاد القادرى ) ، وفى هذه الفوضى عانى الشيعة فى حى الكرخ أصناف الاضطهاد ، خصوصا فى أعوام (421 :423 )، بنفس التفاصيل تقريبا . ( كما يحدث الآن فى العراق .ّ..! ) ثم تحسّن الحال مؤقتا عام 450 . وموعدنا مع التفاصيل فى الجزء الثانى .

 

الفصل الثانى :

الحنابلة وإضطهاد الشيعة :نماذج للفوضى الحنبلية البغدادية فى أوخر عهد البويهيين وبداية نفوذ السلاجقة ( 421 : 447 )

مقدمة : الحنبلية كانت الدين السائد المتحكم فى بغداد والعراق وقتها . وبالحنبلية وصل العوام المسلحون الى بؤرة التأقير وصناعة الأحداث ، جنبا الى جنب مع قادتهم من الفقهاء والقضاة وأولو الأمر . وتواضع وانحطّ نفوذ ولاة الأمر ليتيح مشاركة أكبر للعوام وقادتهم . ودفع الشيعة و ( الأشاعرة ) الثمن . لقد أوصل العوام الحنابلة بغداد الى فوضى عارمة ، وقت ضعف سلطة الخلافة ، وإنعدام الفوارق بين إجرام السلطة وإجرام عصابات العيارين الذين كانوا فى موقف النّد للسلطة . وعانى الشيعة من هذا الانفلات الأمنى . فقد ظهرت قيادات فى العيارين متطرفة الأجرام شاركت فى إضطهاد الشيعة ضمن تدخل العياريين فى الصراع الشيعى الحنبلى ، وتطور الصراع الشيعى الحنبلى الى درجة إقامة إستحكامات وأسوار تحمى الأحياء الشيعية والحنبلية ، وتردد رد الفعل الشيعى بين الخنوع والمقاومة . وفى كل الأحوال فقد كان العراق وبغداد فى حالة حرب أهلية محلية مستمرة بحيث أصبحت اسلوب حياة ، يستيقظ الشخص فلا يعرف إن كان سيظل حيا أم هو آخر يوم فى حياته . هو نفس ما يحدث الآن مع اختلاف الشخصيات والأسلحة والقوى الداخلية والخارجية .

ونعطى نماذج لملامح هذه الفوضى من تاريخ المنتظم لابن الجوزى ، راجين من القارىء الكريم إسقاط ما كان يحدث وقتها على ما يحدث فى بغداد والعراق فى عصرنا ، فالمجرم واحد هو الحنبلية ، والضحية واحد هو العراق وأهله . ولكن الفوضى التى انتهى اليها العراق ( الحنبلى السنى ) هى هى :

( عام 422 ) نموذج رقم (1) :

سيطر الحنابلة من العوام والعيارين وأولو الأمر فى ظل دين حنبلى قائم على الشفاعة للبشر وتغيير المنكر باليد ، فأصبحت بغداد وقتها غابة ، نتعرف على معالمها من أخبار  عام  422 :

إذ بلغت  سطوة العيارين أنهم فى  هذا العام نقبوا قصر المملكة ووصلوا الى جناح الحريم . وطاردتهم الشرطة. وقبله بعام إضطر أهل الجانب الغربى فى بغداد للرحيل وابتاعوا خرابات وعمروها‏.‏ وفـي ليلـة الأحـد لثمـان بقيـن مـن ربيـع الآخر‏:‏ كبس قوم من الدُّعّار المسجد الجامع ببراثا ( جامع الشيعة ) وأخذوا ما فيه من حصر وسجادات وقلعوا شباكه الحديد ، وزاد الاختلاط في هذه الأيام ، وعاد القتال بين العوام ، وكثرت العملات ( أى حوادث السطو )، واجتاز سكران بالكرخ فضرب بالسيف رأس صبي فقلته ، ولم يجر في هذه الأشياء إنكار من السلطان لسقوط هيبته‏.). أى سقطت هيبة الدولة .!       وفـي جمـادى الآخـرة‏:‏  وقع القتال في أصقاع البلد من جانبيه واقتتل أهل نهر طابق وأهل القلائين وأهل الكرخ وأهـل بـاب البصـرة وفـي الجانـب الشرقـي أهـل سـوق السلاح ، وأهل سوق الثلاثاء وأهل باب الطاق والأساكفة وأهل سوق يحيى والرهادرة وأهل الفرضـة وأهـل درب سليمـان ، حتـى قطـع الجسـر ليفـرق بيـن الفريقيـن ، ودخل العيارون البلد ،وكبسوا أبا محمد النسوي في داره بدرب الزبرج ، وكثر الاستقفاء نهارًا والكبس ليلًا‏.‏)‏ أى هى حرب أهلية بغدادية  تعاون فيها الجميع على الإثم والعدوان .!. وفى أول خلافة القائم فـي يـوم الإثنين الثامن عشر من ذي الحجة‏:‏ كان الغدير وقام العيارون بالإشعال في ليلته ، ونحر جمل في صبيحته ، بعد أن جبوا الأسواق والمحال لذلك ، واشتد تبسط هذه الطائفـة وخلعـوا جلباب المراقبة وتبسطوا وضربوا وقتلوا ). أى إحتل العيارون الكرخ الشيعى ، وقاموا هم بالطقوس الشيعية على نفقة الشيعة وقتلوا وضربوا الناس .  وقام الحنابلة أيضا بطقوسهم ( وفعل أهل السنة في محالهم ما كانوا يفعلونه من تعليق الثياب والسلاح وإظهار الزينة ونصب الأعلام وإشعال النيران ليلًا في الأسواق في يوم الإثنين المقبل ، زعمًا منهم أنه في هذا اليوم اجتمع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر في الغار‏.‏). (  ثم إن العيارين أسعروا الناس ليلًا كبسًا لمنازلهم وأخذا لأموالهم ، ثم ظهروا وعدلوا بالكبسات عن الكرخ إلى باقي المحال ..‏.) أى شملوا بقية بغداد بعطفهم سلبا ونهبا . بينما زال سلطان الدولة :( وخرجت هذه السنة ومملكة جلال الدولة ما بين الحضرة وواسط والبطيحة وليس له من ذلك إلا الخطبـة ، فأمـا الأمـوال والأعمـال فمنقسمـة بيـن الأعـراب والأكـراد . والأطـراف منهـا فـي أيـدي المقطعين من الأتراك . والوزارة خالية من ناظر فيها‏.‏‏ )

( ابن النسوى ) نموذجا ثانيا  :

كما نتعرف على بعض ملامح لهذه الفوضى من تتبع ما كتبه ابن الجوزى فى المنتظم عن (ابن النسوى ) اشهر ( وزير داخلية وقتها ) أو بتعبير العصر ( صاحب المعونة ) . وكان يتولى المنصب ثم يعزلونه أو يهرب منه . وكان مجرما أصيلا ، وكان هو بشخصه هدفا للعيارين ، وكان بيته يتعرض لهجومهم ، وكان يفر منهم خوفا على حياته ، مع أنه بعض أعوانه كانوا من العيارين.ّ. وقد تولى منصبه لأول مرة فى  يوم الإثنين أول رجب عام 421 .

وفى العام التالى 422 ‏عمّ القتال وانتشر : ( ثـم زاد الاختلاط ببسط العوم كثيرًا وأثاروا الفتنة ، ووقع القتال في أصقاع البلد من جانبيه ، واقتتل أهل نهر طابق وأهل القلائين وأهل الكرخ وأهـل بـاب البصـرة وفـي الجانـب الشرقـي أهـل سـوق السلاح وأهل سوق الثلاثاء وأهل باب الطاق والأساكفة وأهل سوق يحيى والرهادرة وأهل الفرضـة وأهـل درب سليمـان حتـى قطـع الجسـر ليفـرق بيـن الفريقيـن . ودخل العيارون البلد . وكبسوا أبا محمد النسوي في داره بدرب الزبرج ، وكثر الاستقفاء نهارًا والكبس ليلًا‏.‏)، وقتل العيارون صاحب المعونة السابق وأحرقوا جثته . وهاجموا ابن النسوى فى بيته . وقام العيارون بمظاهرة تعلن الطاعة وتطلب عزل ابن النسوى وتهدد بإحراق البلد .فعزلوه ثم أُعيد للعمل ، فقتل أحد العيارين ونهب الدار التي استتر فيها، وهاجمه العيارون، فهرب النسوي وعادت الفتن‏.‏.)

( عام ‏423 إشتد أمر العيارين ثم ولي ابن النسوي فردعهم ردعًا تامًا‏ )

( عام 424 تعارك الحنابلة مع الشيعة وامتد القتال لأحياء أخرى ( ووقـع بيـن عوامـه مـن أهل باب الطاق وسوق يحيى قتال اتصل ، وهلك فيه جماعة ، فاجتمع الوزير وحاجب الحجاب على تدبير الأمور ، وقلد أبا محمد ابن النسوي البلد ، وضم إليه جماعة ، فطلب العيارين وشردهم . ثم قتل رفيق لابن النسوي ، فخاف واستتر ، وخـرج عـن البلـد‏. ‏فعـاد الأمـر كمـا كـان  )

( عام 425  وفي يوم السبت ثالث عشر شوال‏:‏ روسل المرتضى بإحضار العيارين إلى داره وأن يقول لهم‏:‏ من أراد منكم التوبة قبلت توبته وأقر في معيشته ، ومن أراد خدمـة السلطـان استخـدم مـع صاحب البلد ، ومن أراد الانصراف عن البلد كان آمنًا على نفسه ثلاثة أيام‏.‏ فعـرض ذلـك عليهم فقالوا‏:‏ نخرج . فخرجوا . وتجدد الاستفقاء والفساد وقلد أبو محمد ابن النسوي المعونة لسكون أهل الكرخ إليه ، ثم خاف فاستعفى ، وأظهر التوبة . )  .‏

( وفى عام  427 :‏ أحرق العيارون دار ابن النسوي . وفتحوا خانًا وأخذوا ما فيه ، وخرجوا إلى الطريق يحملون المسروقات على رؤوسهم‏.)

( وفى عام ‏ 438  إتهموا ابن النسوى بقتل الغرباء الوافدين وسلب أموالهم وإلقاء جثثهم فى الآبار ، فعزله رئيس الرؤساء أبو القاسم بن المسلمة . ).

وفى عام  443 وفي يوم الخميس لعشر بقين من ذي الحجة‏:‏ كبس العيارون أبا محمد بن النسوي و جرحوه جراحات‏.‏

وفى عام  444 أعادوه الى منصبه ثم تركه. ثم أعيد اليه عام 445 ‏، (فضرب وقتل..)  وفى عام 449 إستقال ابن النسوي من الشرطة فأعفي‏.‏ومات ابن النسوى عام 452 .

ويقول ابن الجوزى فى ترجمته إنه كان من أصحـاب الحديـث. أى من الحنابلة . وقال عنه : ( وشاع عنه أنه كان يقتل أقوامًا ويأخذ أموالهم..وشهد قوم عند أبـي الطيـب الطبـري ( القاضى ) علـى ابـن النسـوي أنـه قتـل جماعة، وأن أبا الطيب حكم بقتله ، فصانع بمال . ) .

 الصراع الحنبلى الشيعى نموذجا ثالثا :

(عام  421 أحيا الشيعة طقوسهم في ليلة عاشوراء إنتهازا لفرصة غياب الجند فهاجمهم الحنابلة ، وقتل من الفريقين وخربت عدة دكاكين . وتجدد القتال بين القلائين والدقاقين،واستمرت الفتنة ، ودخل من كان غائبًا من العيارين،  وكثر ولم يعمل الغدير ولا الغار في هذه السنة لأجل الفتنة. )

عام  422 ( وفي يوم الجمعة لثمان بقين من ربيع الأول‏:‏ تجددت الفتنة بين السنة والروافض واشتدت . ) (وفي أول ذي الحجة‏:‏ جرت فتنة وقتال شديد على القنطرتين العتيقة والجديدة ، واعترض أهل باب البصرة قومًا من القميين ( من أهل قم ) لزيارة المشهدين بالكوفة والحائر وقتلوا منهم ثلاثة نفر وجرحوا آخرين وامتنعت زيارة المشهد بمقابر قريش يومئذ. ).   .

وفى عام ‏423 تجدد القتال بين العوام وإحتل العيارون الكرخ ثم تحرر الكرخ منهم عام 423  )

(عام 424 . انتشر العيارون الحنابلة فى حى الكرخ ( وقتلـوا وتـرددوا فـي الكـرخ حامليـن السلاح‏.‏ وتبعهم أصاغر المماليك ومضت الأيام على كبس المنازل ليلًا والاستقفاء نهارًا فعظمت المحنة . )  

(432  تجـددت الفتـن ووقـع القتال بين أهل الكرخ وباب البصرة على القنطرتين واستمر ذلك وقتل في أثنائه جماعة ، وكان السبب انخراق الهيبة وقلة الأعوان‏.‏  )

( 437 وفي شوال‏:‏ حدثت فتنة بين أهل الكرخ وباب البصرة قتل جماعة فيها من الفريقين .)( وعاد القتال بين أهل الكرخ وباب البصرة ، حتى ان صاحب المعونة فارق موضعه ومضى إلى باب الأزج‏.‏)

( وفى عام 440  عاد القتال بين أهل الكرخ وباب البصرة‏.‏)

( وفى ليلة عاشوراء عام 441 أمرت السلطات أهل الكرخ أن لا ينوحوا ولا يعلقوا المسوح على ما جرت به عادتهم خوفًا من الفتنة فوعدوا وأخلفوا . وجرى بين أهل السنة والشيعة ما يزيد عن الحد من الجرح والقتل حتى عبر الأتراك وضربوا الخيم‏.). وفى هذا العام 441 فى شهر شعبان بدأ الشيعة إقامة الاسوار حول حى الكرخ لحماية أنفسهم ففعل ذلك الحنابلة فى أحيائهم . وفـي يـوم عيـد الفطـر‏:‏ ثـارت الفتنـة بيـن أهـل الكـرخ وأهـل القلائيـن فاشتـدت ووقـع بينهما جرح وقتل . ) . وتدخل ابـن النسـوي لإزالة الفتنة فقتل جماعة من المذكورين . ثم زادت الفتن بين السنة والشيعة ونقضت المحال ورميت فيها النار‏. ).

وفى عام 443  وفـي أول صفـر‏:‏( تجـددت الفتنـة بيـن السنـة والشيعـة ) بعد إتقاق صلح بينهما . والسبب أن الشيعة كتبوا بالذهب على السور وعلى الأبراج (   محمـد وعلـي خير البشر) فأنكر أهل السنة ذلك ، وأثاروا الشر وادعوا أن المكتوب : ( محمد وعلي خير البشر فمن رضي فقد شكر ومن أبى فقد كفر) فأنكر أهل الكرخ هـذه الزيـادة . وثـارت الفتنـة وآلـت إلـى أخـذ ثيـاب النـاس فـي الطرقـات .)و( محا أهل الكرخ ما كتبوه من خير البشر وجعلوا عوضه : (عليهما السلام ) ، ولم يرض الحنابلة وطالبوا بقلع الحجارة المكتوب عليها هذا الكلام ، ثم تطرف الحنابلة فطالبوا بمنع ( حـي علـى خيـر العمـل‏. ) . وتطورت الأمور الى قتال مسلح قاده أحد العيارين الحنابلة واسمه الطقطقى . وقد ارتكب جرائم فى حق أهل الكرخ ، يقول ابن الجوزى : ( وقطع الطقطقي رجلين وصلبهما على هذا الباب ، بعد أن قتل ثلاثة من قبل ، وقطـع رؤوسهـم ورمـى بهـا إلـى أهـل الكـرخ . ) واستمر الهجوم فهاجم الشيعة فقهاء الحنابلة ، واستولى الحنابلة على مسجد براثا الشيعى .

( 444 وفـي ذي القعـدة‏:‏ عـادت الفتنـة بيـن أهـل الكـرخ والقلائيـن واحترقت دكاكين وكتبوا على مساجدهم محمد وعلي خير البشـر، وأذنـوا حـي علـى خيـر العمـل . ( وفـي يـوم الخميـس لخمـس بقيـن مـن ذي القعـدة‏:‏ هاجم الحنابلة من حى القلائيـن شيعة  الكرخ ...فهلك من النساء نيف وثلاثون امرأة وستة رجال وصبيان وطرحت النار في الكرخ ليل نهار ، وعادوا في بناء الأبواب والقتال‏. ) ( وفـي يـوم الثلاثـاء سـادس عشـر ذي الحجـة جـرى بيـن أهـل الكـرخ وبـاب البصـرة قتـال، فجمـع الطقطقـي قومًا من أصحابه وكبس بهم طاق الحراني وهو من محال الكرخ ، وقتل رجلين وقطع رأسيهما وحملهما إلى القلائين فصبهما على حائط المسجد المستجد‏.‏  )

(  445 ‏:‏ عـود الفتـن بيـن السنـة والشيعـة وخـرق السياسـة.. وطرحت النار في الكرخ بالليل والنهار‏.). وبالمناسبة ففى نفس العام 445  ( أعلـن بينسابـور لعـن أبـي الحسـن الأشعـري . ).

 وفى عام  447 عادت الحروب واشتدت وامتدت ( .واتصلت الفتن بين أهل باب الطاق وسوق يحيـى اتصـالًا مسرفـًا وركـب صاحـب الشرطـة والأتراك لإطفـاء الفتنة فلم ينفع ذلك ، وانتقل القتال إلى باب البصرة وأهل الكرخ على القنطرتين‏. ووقعـت بيـن الحنابلـة والأشاعـرة فتنـة عظيمـة ، حتـى تأخـر الأشاعرة عن الجمعات ( أى صلاة الجمعة ) خوفًا من الحنابلة .).

هذا ما يقوله المؤرخ الحنبلى ابن الجوزى بنفسه ..

الفصل الثالث : الحنابلة وإضطهاد الشيعة :( ابن الجوزى الحنبلى مؤرخا فوضويا ).

 أولا : ابن الجوزى مؤرخ فاشل بين كوكبة من المؤرخين العظام

1 ـ التأريخ من العلوم التى نبغ فيها المسلمون فى العصور الوسطى ، وقد تفوقوا فى التأريخ من حيث تعدد أنواع المادة التاريخية فى التأريخ للأشخاص والمدن والأسرات الحاكمة والفقهاء والأطباء و والطوائف والتاريخ المحلى والعالمى والتاريخ الحولى حسب السنين والشهور والتاريخ الموضوعى. وتفوقوا فى المناهج التاريخية وتحليل الأحداث . ويتجلى هذا النبوغ فى تراكم الخبرة لدى المؤرخين المسلمين ، إذ كان التالى يتفوّق على من سبقه . بدأ الطبرى فى التأريخ الحولى يؤرخ للسيرة وعصر الخلفاء ينقل عن السابقين كل الروايات الشفهية المتاحة بأمانة ، الى أن وصل الى عصره فكان ينقل الأحداث شاهدا على العصر. وتوقف قبل موته بثمانى سنوات ( 302 ) فقام آخرون بتكملة تاريخه وكان أبرزهم ابن الأثير فى (الكامل ) وابن الجوزى فى (المنتظم ) ، وكالعادة يأتى اللاحق فينقل عن السابق ، ثم يؤرخ أحداث عصره ، ويتوقف قبيل موته ، ابن الجوزى توقف عند عام 574 ومات عام 597 ،وابن الأثير توقف حتى عام 628 ومات عام 630 . واستمرت مسيرة التأريخ بالنويرى ( 667 : 733 ) فى موسوعته ( نهاية الأرب ) وقد أفرد منها القسم الأخير رقم 5 للتاريخ خلال 21 مجلدا . والصفدى ( 696 : 764 ) والذهبى ( 673 : 748 ) و ابن كثير ( 700 : 774 ) ثم يتفوق ابن خلدون بتاريخه وبالمقدمة ، وتتأسس بعده المدرسة المصرية المملوكية فى القرن التاسع الهجرى بزعامة المقريزى ( 764 : 845 ) وابن حجر ( 773 : 852 ) والعينى ( 762 : 855 ) ثم ابن تغرى بردى ( 813 : 873 ) والسخاوى ( 831 : 902 ) إنتهاءا بابن إياس ( 852 : 930 ) فى العصرين المملوكى والعثمانى ، ثم الجبرتى (1167 : 1240 ) الذى شهد العصر الغثمانى والحملة الفرنسية وعصر محمد على  . تطور تراكمى هائل يتفوق فيه اللاحق على السابق من الطبرى الى المقريزى . وبرزت فيه عبقريات  النويرى والصفدى والذهبى وابن خلدون والمقريزى.

2 ـ هذا التطور الهائل غاب عنه ابن الجوزى الذى كان ضحية للحنبلية ، فقعدت به برغم كثرة مؤلفاته التى وصلت حسبما قيل الى 300 . وسقوط ابن الجوزى يتضخ بمقارنته بالطبرى الذى سبقه وابن الأثير الذى عاصره . كان الطبرى أمينا فى عرض الروايات التاريخية ، ولم يسمح لدينه السّنى بالتأثير على موضوعيته التاريخية .  كان يركّز على العراق فى العصر العباسى لأنه وقتها كان فعلا مركز الأحداث. سار على طريقته ابن الأثير فى ( الكامل ) الذى نقل عن الطبرى رواياته بدون إسناد ، مع نقد موضوعى حينا ، وإختيار رواية واحدة للحدث الواحد بعد تمحيص . كما كان أمينا موضوعيا فى توزيع إهتمامه للأماكن حسب درجة الأهمية فى صناعتها للأحداث التاريخية . فالخلافة العباسية فقدت دورها تماما بتحكم البويهيين ثم السلاجقة فى خلفائها ، وانتقل التأثير الى الشرق والى مصر وشمال افريقيا والمغرب ، والى الدول المؤثرة كالصليبيين والفاطميين والأيوبيين والمرابطين والموحدين . وقد وازن ابن الأثير فى تاريخه بحيث قلّل من أحداث بغداد فى الفترة الى أرّخ فيها معاصرا للأحداث لأن ما يجرى فيها لا يستحق الاهتمام فى المنهج الحولى التاريخى العام .

3 ـ كان ابن الأثير فى الثانية والاربعين من عمره حين مات ابن الجوزى ، وقد ترجم له سنة وفاته عام 597 فقال : ( وفي هذه السنة، في شهر رمضان، توفي أبو الفرج عبد الرحمن بن علي ابن الجوزي الحنبلي الواعظ ببغداد، وتصانيفه مشهورة، وكان كثير الوقيعة في الناس لا سيما في العلماء المخالفين لمذهبه والموافقين له. ). قلنا من تحليل كتابات ابن الجوزى إنه كان متعصبا للحنبلية ، ومن ملامح هذا النعصب ما قاله فيه ابن الأثير أنه كان كثير الوقيعة فى الناس لاسيما فى العلماء المخالفين له والموافقين له أيضا . ويذكر ابن الأثير تحامل ابن الجوزى على الفقية الشافعى السمعانى المروزى ت 563 ، يقول ( وقد ذكره أبو الفرج ابن الجوزي فقطعه.. وإنما ذنبه عند ابن الجوزي أنه شافعي، وله أسوة بغيره، فإن ابن الجوزي لم يبق على أحد إلا مكسري الحنابلة.).

4 ـ بسبب حنبليته وتخصصه فى الكذب طبقا لعمله قصّاصا ومُحدّثا فلم يكن ابن الجوزى أمينا فى تأريخه لعصره أو فيما نقله برغم ترصيع رواياته الكاذبة بالاسناد والعنعنة . وهو بهذا يعطى نموذجا للإنحياز الحنبلى والمؤرخ الحنبلى الذى يُلوّن التاريخ برؤيته الدينية المذهبية . وايضا فإن ابن الجوزى قام بالتركيز على بغداد فى الجزاء الأخيرة من تاريخه ، مع أنها لم تكن فاعلة فى الأحداث ، فالخليفة العباسى مقهور تحت سلطة البويهيين ثم السلاجقة ، ونفوذه قد لا يشمل بغداد نفسها ، ولذلك اسرف ابن الجوزى فى رصد ما يحدث فى بغداد من نشاط العوام سواء كانوا من قطاع الطرق ( العيارين ) أومن الحنابلة فى الوقت الذى كانت مصر والشام تموج بالصراع مع الصليبيين برا وبحرا . ولكن لهذا جانب إيجابى هو التأريخ الاجتماعى لبغداد ، فلولا تسجيل ابن الجوزى للصراع بين الشيعة والسنة وأحياء بغداد من الكرخ الى غيره لضاع هذا التاريخ الذى يمثل حلقات مستمرة فى المأساة العراقية التى لا تزال مسلسلا دمويا حتى اليوم . ولكن مع هذا المزية فى التأريخ الاجتماعى للمجتمع البغدادى فى القرن السادس الهجرى إلّا أن ابن الجوزى الحنبلى لم يكن أمينا فى تسجيله ، لذا أفردنا هذا للمقال لمراجعة تاريخ ابن الأثير المعاصر لابن الجوزى لتقديم الصورة كاملة ، وللتأكيد على أن دين الحنبلية لا يعرف العدل والقسط ، خلافا لقوله جل وعلا : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوْ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ )(135) النساء ) (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8) المائدة ). ويستحيل على دين يقوم على الكذب على رب الناس أن يصدق أربابه فى الكلام على الناس.  

ثانيا : نماذج لما نقله ومالم ينقله ابن الأثير عن ابن الجوزى :

1 ـ كالعادة ينقل اللاحق أحداث الماضى عن المؤرخ السابق ، وهكذا نقل ابن الأثير ( بعض ) الأحداث البغدادية الهامة فى الصراع الحنبلى الشيعى كما فعل فى أعوام  416 ، 417 ، 444 ، 445 تحت عنوان ( ذكر الفتنة بين السنة والشيعة ببغداد ) و 470  ، 478  .وعام  481 تحت عنوان ( ذكر الفتنة ببغداد ) ،  و  482 تحت عنوان: ( ذكر الفتنة ببغداد بين العامة) ، ثم عنوان  ( ذكر الفتنة بين أهل بغداد ثانية). وبعض الأخبار ذكرها ابن الأثير نقلا عن آخرين بينما لم ينقلها ابن الجوزى كما حدث عام  502  عن ( صلح السنة والشيعة ببغداد) يقول ابن الأثير  : ( في هذه السنة، في شعبان، اصطلح عامة بغداد السنة والشيعة، وكان الشر بينهم على طول الزمان، وقد اجتهد الخلفاء، والسلاطين، والشحن في إصلاح الحال، فتعذر عليهم ذلك، إلى أن أذن الله تعالى فيه، وكان بغير واسطة.) ثم يشرح ابن الأثير السبب .

ثالثا : تحامل إبن الجوزى على خصومه

1 ـ وابن الجوزى يُغلّف الخبر برأيه ، يقول فى البكرى الأشعرى وخصومته للحنابلة فى بغداد فى أحداث 475 : (وفي يوم الجمعة لخميس بقين من شوال‏:‏ عبر قاص من الأشعرية يقال له‏:‏ البكري إلى جامع المنصور ومعه الفضولي الشحنة و الأتراك والعجم بالسلاح فوعظ . وكان هذا البكري فيه حدة وطيش .) ( وكان النظام قد أنفذ ابن القشيري فتلقاه الحنابلة بالسب وكان له عرض فائق من هذا ، فأخـذه النظـام إليـه وبعـث إليهـم هـذا الرجـل وكـان ممن لا خلاق له فأخذ يسب الحنابلة ويستخف بهم وكان معه كتاب من النظام يتضمن الإذن له في الجلوس في المدرسة والتكلم بمذهب الأشعرية. فجلس في الأماكن كلها، وقال‏:‏ لابد من جامع المنصور‏.‏فقيل لنقيب النقباء فقال لا طاقة لي بأهل باب البصرة فقيل‏:‏ لابد مـن مـداراة هـذا الأمـر‏.‏....‏وكـان الحنابلـة يكتبـون إليـه العجائب فيستخف بهم في جواباتها ..  قال المصنف‏:‏ قرأت بخط ابن عقيل‏:‏ أنه لما أنفذ نظام الملك بأبي نصر ابن القشيري تكلـم بمذهب أبي الحسن فقابلوه بأسخف كلام على السن العوام فصبر لهم هنيئة ثم أنفذ البكري سفيهـًا طرقيـًا شاهد أحواله الإلحاد فحكى عن الحنابلة ما لايليق بالله سبحانه فأعزى بشتمهم وقال‏:‏ هؤلاء يقولون الله ذكر فرماه الله في ذلك العضو بالخبيث فمات‏.‏) .

بينما يذكر ابن الأثير نفس الخبر بطريقة مختلفة يقول فى أحداث نفس العام : ( ورد إلى بغداد، هذه السنة، الشريف أبو القاسم البكري، المغربي، الواعظ، وكان أشعري المذهب، وكان قد قصد نظام الملك، فأحبه ومال إليه، وسيره إلى بغداد، وأجرى عليه الجراية الوافرة، فوعظ بالمدرسة النظامية..وكان يذكر الحنابلة ويعيبهم،.. ثم إنه قصد يوماً دار قاضي القضاة أبي عبد الله الدامغاني بنهر القلائين، فجرى بين بعض أصحابه وبين قوم من الحنابلة مشاجرة أدت إلى الفتنة، وكثر جمعه، فكبس دور بني الفراء، وأخذ كتبهم، وأخذ منها كتاب الصفات لأبي يعلى، فكان يُقرأ بين يديه وهو جالس على الكرسي للوعظ، فيشنع به عليهم، وجرى له معهم خصومات وفتن. ).

2 ـ ويقول ابن الجوزى فى شيخ المعتزلة أبى على المتكلم  المتوفى  478 : ( كان أحد رؤساء المعتزلة وأئمتهم، ولزم بيته خمسين سنة لم يقدر على أن يخرج منه من عامة بغداد. ) أى إعتكف خمسن عاما فى بيته خوفا من حنابلة بغداد ، وهذه مأساة ( تاريخية ) لم يتحرك لها قلب ابن الجوزى الذى يذكر نفس الحقيقة عنه فيقول : ( محمد بن أحمد بن عبد الله بن أحمد بن الوليد أبو علي المعتزلي، من الدعاة ، كان يدرس علم الاعتزال وعلم الفلسفة و المنطق فاضطره أهل السنة إلى لزم بيته خمسيـن سنـة لا يتجاسـر أن يظهـر. ولـم يكـن عنـده مـن الحديـث إلا حديث واحد لم يرو غيره ، سمعه من شيخه أبي الحسينبن البصري ولم يروا أبو الحسين غيره‏.‏وهو قوله عليه السلام‏:‏ ‏"‏ إذا لم تستحي فاصنع ماشئت ‏"‏ فكأنهما خوطبا بهذا الحديث لأنهما لم يستحييا من بدعتهما التي خالفا بها السنة‏.‏وعارضاها بها ومن فعل ذلك فما استحيا‏.‏....وقال شيخنا ابن ناصر‏:‏ كان ابن الوليد داعية إلى الاعتزال لاتحل الرواية عنه‏.‏).

 ثالثا : ابن الأثير يكتب ما تجاهله ابن الجوزى :

تجاهل ابن الجوزى الصراع الذى كان يحدث بين الحنابلة  والشافعية . ففى عام  447 ، يقول ابن الأثير ( في هذه السنة وقعت الفتنة بين الفقهاء الشافعية والحنابلة ببغداد، ومقدم الحنابلة أبو علي بن الفراء، وابن التميمي، وتبعهم من العامة الجم الغفير، وأنكروا الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم، ومنعوا من الترجيع في الأذان، والقنوت في الفجر، ووصلوا إلى ديوان الخليفة، ولم ينفصل حال، وأتى الحنابلة إلى مسجد بباب الشعير، فنهوا إمامه عن الجهر بالبسملة، فأخرج مصحفاً وقال: أزيلوها من المصحف حتى لا أتلوها.).

رابعا : ابن الأثير شاهدا على العصر

1 ـ وبعد توقف ابن الجوزى عن التأريخ وبعد موته كان ابن الأثير هو العمدة حيث يؤرخ شاهدا على العصر . وننقل عنه بعض ما يختص بموضوعنا : عام 581 ( وفيها كان بنين أهل الكرخ ببغداد وبين أهل باب البصرة فتنة عظيمة جرح فيها كثير منهم وقتل، ثم أصلح النقيب الظاهر بينهم.).

2 ـ  وفى وفيات عام  601 يقول عن الأمير ( ركن الدين بن قلج أرسلان ) إنه كان متهما بفساد الاعتقاد؛ وإنه يعتقد أن مذهبه مذهب الفلاسفة، وكان كل من يرمى بهذا المذهب يأوي إليه، ولهذه الطائفة منه إحسان كثير، إلا أنه كان عاقلاً يحب ستر هذا المذهب لئلا ينفر الناس عنه.) ويحكى ابن الأثير : ( حكي لي أنه كان عنده إنسان، وكان يرمى بالزندقة ومذهب الفلاسفة، وهو قريب منه، فحضر يوماً عنده فقيه، فتناظرا، فأظهر شيئاً من اعتقاد الفلاسفة، فقام الفقيه إليه ولطمه وشتمه بحضرة ركن الدين، وركن الدين ساكت، وخرج الفقيه فقال لركن الدين: يجري علي مثل هذا في حضرتك ولا تنكره؟ فقال: لو تكلمت لقتلنا جميعاً، ولا يمكن إظهار ما تريده أنت؛ ففارقه.). وهذا يوضح غلبة الحنبلية وتحريمها للفلسفة باعتبارها كفرا وزندقة .

3 ـ  وفى عام  614 : ( ذكر عدة حوادث:في هذه السنة في المحرم، كانت ببغداد فتنة بين أهل المأمونية وبني أهل باب الأزج بسبب قتل سبع؛ وزاد الشر بينهم، واقتتلوا، فجرح بينهم كثير، فحضر نائب الباب وكفهم عن ذلك، فلم يقبلوا ذلك، وأسمعوه ما يكره، فأرسل من الديوان أمير من مماليك الخليفة، فرد أهل كل محلة إلى محلتهم، وسكنت الفتنة.).

 وفى عام 416  ، وتحت عنوان  ( ذكر قتل الباطنية بواسط ) والباطنية طائفة من الشيعة ، يقول  : ( في هذه السنة قتل الباطنية بواسط، وسبب كونهم بها وقتلهم أنه ورد إليها رجل يعرف بالزكم محمد بن طالب بن عصية، وأصله من القارب، من قرى واسط، وكان باطنياً ملحداً، ونزل مجاوراً لدور بني الهروي، وغشيه الناس، وكثر أتباعه.وكان ممن يغشاه رجل يعرف بحسن الصابوني، فاتفق أنه اجتاز بالسويقة، فكلمه رجل نجار في مذهبهم، فرد عليه الصابوني رداً غليظاً، فقام إليه النجار وقتله، وتسامع الناس بذلك، فوثبوا وقتلوا من وجدوا ممن ينتسب إلى هذا المذهب، وقصدوا دار ابن عصية وقد اجتمع إليه خلق من أصحابه، وأغلقوا الباب، وصعدوا إلى سطحها، ومنعوا الناس عنهم، فصعدوا إليهم من بعض الدور من على السطح، وتحصن من بقي في الدار بإغلاق الأبواب والممارق، فكسروها، ونزلوا فقتلوا من وجدوا في الدار وأحرقوا، وقتل ابن عصية، وفتح الباب، وهرب منهم جماعة فقتلوا؛ وبلغ الخبر إلى بغداد، وانحدر فخر الدين أبو البدر بن أمسينا الواسطي لإصلاح الحال، وتسكين الفتنة.).

 

الفصل الأخير : الحنابلة وإضطهاد الشيعة : من الفوضى الى تدمير بغداد

  أولا : إستمرار الأخبار النمطية لابن الجوزى عن إضطهاد الشيعة بواسطة الحنابلة

1 ـ قهر الشيعة ولعنهم رسميا عام  458 لأنهم مارسوا طقوسهم : ( ..أن أهل الكرخ أغلقوا دكاكينهم يوم عاشوراء وأحضروا نساء فنحن على الحسين عليه السلام على ما كانوا قديمًا يستعملونه . واتفق أنه حملت جنازة رجل من باب المحول إلى الكرخ ومعها الناحية فصلى عليها وناح الرجال بحجتها على الحسين وأنكر الخليفة على الطاهر أبي الغنائم المعمـر بـن عبيـد اللـه نقيـب الطالبيـن تمكينـه مـن ذلـك فذكر أنـه لم يعلم به إلا بعد فعله وأنه لما علم أنكره وأزاله فقيل له‏:‏ لا تفسح بعدها في شي من البدع التي كانت تستعمل‏. واجتمع في يوم الخميس رابع عشر المحرم خلق كثير من الحربية والنصرية وشارع دار الرقيق وباب البصرة والقلائين ونهر طابق بعد أن أغلقوا دكاكينهم وقصدوا دار الخلافة وبين أيديهم الدعاة والقراء وهم يلعنون أهل الكرخ واجتمعوا وازدحموا على باب الغربة وتكلموا من غبر تحفظ في القول ، فراسلهم الخليفة ببعض الخدم أننا قد أنكرنا ما أنكرتم وتقدمنا بـأن لا يقـع معاودة...‏.فانصرفوا وقبض على ابن الفاخر العلوي في آخرين ووكل بهم في الديوان ، وهرب صاحب الشرطة لأنه كان أجاز لأهل الكرخ إيقاع الفتنة ، ثم واصل أهل الكرخ التردد إلى الديوان والتنصل مما كان والاحتجاج بصاحب الشرطة وأنه أمرهـم بذلـك ، والسـؤال فـي معنـى المعتقلين فأخرج عنهم في ثامن عشر المحرم بعد أن خرج توقيع بلعن من يسب الصحابة ويظهر البدع‏.)

2 ـ قتل الشيعة وإحراق للكرخ : (465 : في شعبان‏:‏ قصد أهل المحال الكرخ فقاتلوا أهلها وأحرقوا فيها شيئًا كثيرًا ..)،، ( وفي شعبان‏:‏ ثارت فتنة بين أهل الكرخ وباب البصرة والقلائين أحرق فيها من الكرخ الصاغة وقطعة من الصف ، وقتل فيها خلق كثير‏. ) ، عام ( 466 وفي شعبان‏:‏ وقعت الفتنة بين القلائين والكرخ وجعلوا يشتمون الشحنة ( الشرطة ) ومن قلده ، فعبر إليهم وقتل منهم وأحرق أماكن‏.‏ ) ، (‏ وفي ذي الحجة عادت الفتن بين اهل الكرخ والسنة وأحرق شطر من الكرخ ومن باب البصرة .) ( 480 ذو القعدة وفـي هـذا الشهـر، وقـع القتال بين أهل الكرخ وأهل باب البصرة ...‏ ) ( عام 570 : ..وجـرت خصومـات بيـن أهـل بـاب البصـرة وأهل الكرخ قتل فيها جماعة ، واتصلت ، واصلح بينهم من الديوان ، ثم عالدا إلى الخصام ، فتولى الأمر سليمان بن شاووش ، فخافوا سطوته وكفوا.)

3 ـ نهب الشيعة :( .479 وفـي شوال‏:‏ وقعت الفتنة بين السنة و الشيعة ، وتفاقم الأمر إلى أن"> ويذكر ابن الأثير هذا فى أحداث عام 441 ، ويعطى تفاصيل الصراع ، الذى جاء ابن النسوى لاخماده فاتحد الشيعة والحنابلة معا ضد قدومه . يقول ابن الأثير : ( وفيها منع أهل الكرخ من النوح، وفعل ما جرت عادتهم بفعله يوم عاشوراء، فلم يقبلوا وفعلوا ذلك، فجرى بينهم وبين السنة فتنة عظيمة، قتل فيها وجرح كثير من الناس، ولم ينفصل الشر بينهم حتى عبر الأتراك وضربوا خيامهم عندهم، فكفوا حينئذ، ثم شرع أهل الكرخ في بناء سور على الكرخ، فلما رآهم السنة من القلائين ومن يجري مجراهم شرعوا في بناء سور على سوق القلائين، وأخرج الطائفتان في العمارة مالاً جليلاً، وجرت بينهما فتن كثيرة، وبطلت الأسواق، وزاد الشر، حتى انتقل كثير من الجانب الغربي إلى الجانب الشرقي فأقاموا به، وتقدم الخليفة إلى أبي محمد بن النسوي بالعبور وإصلاح الحال وكف الشر، فسمع أهل الجانب الغربي ذلك، فاجتمع السنة والشيعة على المنع منه، وأذنوا في القلائين وغيرها بحي على خير العمل، وأذنوا في الكرخ: الصلاة خير من النوم، وأظهروا الترحم على الصحابة، فبطل عبوره.)

ثالثا : الصراع يؤدى الى الكفر والردة عن الاسلام

1 ـ  دارت معركة بين الحنابلة والشيعة من ناحية والجنود الأتراك  فى الناحية الأخرى ، وكان الجند الأتراك نازلين فى حى الحنابلة ببغداد ( باب البصرة )، وحدثت منازعة بين جندى تركى وبعض الهاشميين فى 6 شوال‏ 421 ، (  فاجتمع الهاشميون إلى جامع المدينة، ورفعوا المصاحف ، واستنفروا الناس، فاجتمع لهم الفقهاء والعدد الكثير من الكرخ وغيرها، وضجوا بالاستغفار من الأتراك وسبهم ، فركب جماعة من الأتراك، فلما رأوهم قد رفعوا أوراق القرآن على القصب رفعوا بإزائهم قناة عليها صليب . وترامى الفريقان بالنشاب والآجر، وقتل من الآجر قوم .‏ ). الجند الأتراك مسلمون ، ولكنهم حين زايد عليهم الحنابلة والأشراف الهاشميون والشيعة برفع المصحف يحولونها الى حرب دينية تحداهم الجند الأتراك ( المسلمون ) برفع الصليب .!..يعنى بالمثل المصرى : طُظ فيكم .!!

‏‏ 2 ـ ويقول ابن الجوزى : ( وفي عشية الجمعة تاسع عشر صفر عام 482 ‏:‏ كبس أهل باب البصرة الكرخيين فقتلوا رجلًا وجرحوا آخر ، فأغلقت اسواق الكرخ ، ورفعت المصاحف على القصب، وما زالت الفتن تزيـد وتنقـص إلى جمادى الأولى . فقويت نارها وقتل خلق كثير ، واستولى أهل المحال على قطعة كبيرة من الكرخ فنهبوها . فنزل خمارتاش نائب الشحنة على دجلة ليكف الفتنة فلم يقدر. ) واستغاث أهل الكرخ بلا فائدة ، واستعان حنابلة باب البصرة بسبع يرهبون به أهل الكرخ . وجاء قادة الحنابلة الى الكرخ وقراءوا عليهم منشورا بإلزامهم بترك التشيع والتزام السُّنة . يقول ابن الجوزى : (  وركب حاجب الخليفة وخدمه ، والقضاة‏:‏ أبو الفرج بن السيبي ويعقوب البرزيني وأبـو منصـور ابـن الصيـاغ و الشيـوخ‏:‏ أبو الوفاء بن عقيل وأبو الخطاب وأبو جفعر بن الخرقي المحتسب ، وعبروا إلى الشحنة وقرأوا منشورًا بالكرخ من الديوان ، وفيه‏:‏ " قد حكي عنكم أمور يجب أن نأخذ علماءكم على أيدي سفهائكم ، وأن يدينوا بمذهب أهل السنة .فأذعنوا بالطاعة ....ونصب أهل الكرخ رايتين على باب السماكين وكتبوا على مساجدهم‏:‏ خير الناس بعد رسول الله أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي‏. ) وتطور الأمر الى قتال أسفر عن رفع عوام الحنابلة الصليب : ( ورفع العامـة الصلبـان علـى القصـب ، وتهجمـوا علـى الوزيـر أبـي شجـاع فـي حجرتـه من الديوان ، وكثروا من الكلام الشنيع ، ولم يصل حاجب الباب في جامع القصر إشفاقًا من العامة .)، ويقول ابن الجوزى : ( قال المصنف‏:‏ ونقل من خط أبي الوفاء بن عقيل ، قال‏:‏ عظمت الفتنة الجارية بين السنة وأهل الكرخ فقتل نحو مائتي قتيل ودامت شهورًا من سنة اثنتين وثمانين وأربعمائة ، وانقهر الشحنة ( الشرطة ) واتحش السلطان ،وصار العوام يتبع بعضهم بعضًا في الطرقات والسفن فيقتل القوي الضعيف ، ويأخذ ماله . وكان الشباب قد أحدثوا الشعور والجمم وحملوا السلاح وعملوا الـدروع ورمـوا عن القسي بالنشاب والنبل . وسب أهل الكرخ الصحابة وأزواج رسول الله صلى اللـه عليـه وسلـم علـى السطـوح ،وارتفعـوا إلـى سـب النبـي صلـى الله عليه وسلم ، ولم أجد من سكان الكرخ من الفقهاء والصلحاء من غضب ولا انزعاج عن مساكنتهم. فنفر ( الخليفة ) المقتدي إمام العصر نفرة ، قبض فيها على العوام وأركب الأتراك وألبس الأجناد الأسلحة وحلق الجمم والكلالجات ، وضـرب بالسياط وحبسهم في البيوت تحت السقوف. وكان شهر آب . فكثر الكلام على السلطان وقال العوام‏:‏ هلك الدين مات السنة ونصبت البدعة، ونرى أن الله ما ينصر إلا الرافضة فنرتد عن الأسلام‏. قال ابن عقيل‏:‏ فخرجت إلى المسجد وقلت‏:‏ بلغني أن أقوامًا يتسمون بالإسلام والسنة قد غضبـوا علـى اللـه وهجـروا شريعتـه وعزموا على الارتداد وقد ارتدوا . فإن المسلمين أجمعوا على أن العزم على الكفر كفر. )

3 ـ هذا الفقيه الحنبلى المتطرف أبو الوفاء بن عُقيل الذى زايد عليه عوام الحنابلة ـ كما سبق ـ وهو الآن يزايد عليهم حين هددوا بالردة عن الاسلام . ومن ( مناقب ) هذا الفقيه المتعصب أنه حرص على قتل شخص شيعى ( باطنى أى : إسماعيلى فاطمى ) بحدّ الردة . يقول ابن الجوزى فى أحداث عام  490 : ( وفـي شـوال‏:‏ قُتـل إنسـان باطنـي علـى بـاب النوبـي ، أتـى مـن قلاعهـم بخوزستان ، وشهد عليه بمذهبه شاهدان دعاهما هو إلى مذهبه، فأفتى الفقهاء بقتله ، منهم ابن عقيل، وكان من أشدهم عليه . فقال له الباطني ‏:‏ كيف تقتلوفي وأنا أقول لا إله إلا اللّه ؟ قال ابن عقيل‏:‏ أنا اقتلك‏.‏ قال‏:‏ بأي حجـة قـال‏:‏ بقـول اللّـه عـز وجـل‏:‏( فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا ) . هذا الفقيه الحنبلى الأحمق يعطى نفسه هنا سُلطة رب العزة .!!

 رابعا : البساسيرى ينتقم من رئيس الرؤساء ابن المسلمة ( الحنبلى ) الذى تطرف فى أضطهاد الشيعة :

1 ـ تطرف ابن المسلمة فى إضطهاد الشيعة : كان فقيها حنبليا فأصبح وزيرا للخليفة القائم العباسى ، وتلقب برئيس الرؤساء ، واشتهر بكراهية الشيعة وكان يسعى لاستقدام الأتراك السلاجقة السنيين ليحلوا محل البويهيين ( الشيعة ) المتحكمين فى الخلافة العباسية . ونال شيعة بغداد منه ضرر كبير . ونعطى أمثلة لما حدث لهم بتدبيره . فى عام  447 تحالف الجنود مع فرقة من الحنابلة تحت شعار تغيير المنكر ، وطلبوا الإذن لهم فى التصرف ضد الشيعة فأُذن لهم بذلك . يقول ابن الأثير : ( فأجيبوا إلى ذلك، وحدث من ذلك شر كثير.). ويذكر ابن الجوزى مأساة حدثت فى العام التالى : 448 ، حيث إحتلّ متطرفو الحنابلة حى الكرخ ، وأرغموا أهله على تغيير الأذان : يقول : (  أقيـم الأذان فـي المشهـد بمقابـر قريـش ومشهد العتيقة ومساجد الكرخ‏:‏ ‏"‏ بالصلاة خيـر مـن النـوم ‏"‏ وأزيـل مـا كانـوا يستعملونـه فـي الأذان ‏"‏ حي على خير العمل ‏"‏ وقلع جميع ما كان علـى أبـواب الـدور والـدروب مـن ‏"‏ محمـد وعلـي خيـر البشـر ‏"‏ ، ودخـل إلـى الكـرخ منشـدو أهـل السنة من باب البصرة ، فأنشدوا الأشعار في مدح الصحابة، وتقدم رئيس الرؤساء ( ابن المسلمة ) إلى ابن النسوي ( رئيس الشرطة ) بقتـل أبـي عبـد اللـه بـن الجلاب شيـخ البزازيـن بباب الطاق ، لما كان يتظاهر به من الغلو في الرفض ، فقتل وصلب على باب دكانه. وهرب أبو جعفر الطوسي ونهبت داره‏.‏).وفى نفس العام  448 ، يقول : ( وفـي هـذه السنـة‏:‏ تقـدم رئيـس الرؤسـاء أبـو القاسـم علي بن الحسن ابن المسلمة بأن تنصب أعلام سود في الكرخ ، فانزعج لذلك أهلها ، وكان يجتهد في أذاهم .‏)  وفى العام التالى 449 في المحرم سلب الحنابلة عدة دكاكين من نهر الدجاج ونهر طابق والعطارين وكسروا دراباتها وأخذوا ما فيها ). ( وفي صفر هذه السنة‏:‏ كبست دار أبي جعفر الطوسي متكلم الشيعة بالكرخ ، وأخذ ما وجد من دفاتره وكرسي كان يجلس عليه للكلام وأخرج ذلك إلى الكرخ ، وأضيف إليه ثلاثة مجانيق بيض كان الزوار من أهل الكرخ قديمًا يحملونها معهم إذا قصدوا زيارة الكوفة . فأحرق الجميع‏.).

2 ـ فى نفس الوقت كان أبو الحارث البساسيرى يتعاون سرا مع الدولة الفاطمية . والبساسيرى كان من قواد الملك الرحيم البويهى ( آخر ملوك بنى بويه فى بغداد ) وقد زاد نفوذه حتى سيطر على الخليفة القائم والملك البويهى الرحيم . وكان طبيعيا أن يزداد النفور بين البساسيرى وابن المسلمة رئيس الرؤساء الحنبلى المتعصب. وفى تطورات الصراع بين البساسيرى والسلطة البويهية عام 447 أمر رئيس الرؤساء باعتقال أهل البساسيرى فى بغداد ونهب بيوته وأملاكه .ويذكر ابن الأثير أن ابن المسلمة أثار الحنابلة والجنود الأتراك ضد البساسيرى ، وساعدهم فى الحصول على إذن من الخليفة بنهب بيت البساسيرى : ( فحضروا دار الخليفة، واستأذنوا في قصد دور البساسيري ونهبها، فأذن لهم في ذلك، فقصدوها ونهبوها وأحرقوها، ونكلوا بنسائه وأهله ونوابه، ونهبوا دوابه وجميع ما يملكه ببغداد.وأطلق رئيس الرؤساء لسانه في البساسيري وذمه، ونسبه إلى مكاتبة المستنصر، صاحب مصر، وأفسد الحال مع الخليفة إلى حد لا يرجى صلاحه، وأرسل إلى الملك الرحيم يأمره بإبعاد البساسيري، فأبعده. ).

3 ـ وأتى طغرلبك السلجوقى واحتل بغداد واعتقل الملك الرحيم البويهى وأمر بطرد البساسيرى وقطع أرزاق  الجند الأتراك التابعين للبويهيين فانضموا للبساسيرى فإزداد بهم قوة ، بينما نهب السلاجقة قرى العراق ، وأمر طغرلبك شيعة الكرخ بالأذان السُّنى ، فكاتب البساسيرى الخليفة الفاطمى المستنصر بالانضمام اليه ، وأن يتوسع باسمه فى العراق ، فأذن له . وعاد طغرلبك الى موطنه تاركا الخليفة وأعوانه فى بغداد ، فاقتحمها البساسيرى وهزم الخليفة وأعوانه ، وخطب باسم المستنصر الفاطمى فى جامع المنصور ببغداد ، وصار الأذان فى بغداد بالطريقة الشيعية ( حى على خير العمل ). ووقع فى الأسر الخليفة القائم ورئيس الرؤساء ، وقد أُعطى الأمان للخليفة بينما تسلم البساسيرى عدوه ابن المسلمة . ولما تسلمه البساسيرى قال له متهكما : مرحباً بمهلك الدول، ومخرب البلاد! فقال: العفو عند المقدرة. فقال البساسيري: فقد قدرت فما عفوت، وأنت صاحب طيلسان، وركبت الأفعال الشنيعة مع حرمي وأطفالي، فكيف أعفو أنا، وأنا صاحب سيف؟! )، وأمر البساسيرى باعتقاله ، ثم أخرجه من محبسه فى  آخر ذي الحجة، من محبسه بالحريم الطاهري مقيداً، وعليه جبة صوف، وطرطور من لبد أحمر، وفي رقبته مخنقة جلود بعير، ..وطيف به فى الكرخ ( وبصق أهل الكرخ في وجهه عند اجتيازه بهم، لأنه كان يتعصب عليهم، ) ( ثم أُعيد إلى معسكر البساسيري، وقد نُصبت له خشبة، وأُنزل عن الجمل، وأُلبس جلد ثور، وجعلت قرونه على رأسه، وجعل في فكيه كلابان من حديد، وصُلب ، فبقي يضطرب إلى آخر النهار ، ومات.) هذا بعض ما ذكره ابن الأثير ، وقد أفرد صفحات فى حركة البساسيرى . أما ابن الجوزى فيختصر ، ويقول فى أحداث عام 450 :( ثم دخل البساسيري بغداد يوم الأحد ثامن ذي القعدة ومعه الرايات المصرية..  ونهبت دار قاضي القضاة أبي عبد الله الدامغاني ، وهلك أكثر السجلات والكتب الحكمية فبيعت على العطارين ، ونهبت دور المتعلقين بالخليفة ، ونُهب أكثر باب البصرة ( مركز الحنابلة ) بأيدي أهل الكرخ تشفيًا لأجـل المذهـب . وانصـرف الباقون عراة فجاؤوا إلى سوق المارستان وقعدوا على الطريق ومعهم النساء والأطفال. وكان البرد حينئذ شديدًا .وعاود أهل الكرخ الأذان بحي على خير العمل . وظهر فيهم السرور الكثير، وعملوا راية بيضاء ونصبوها وسط الكرخ ، وكتبوا عليها اسـم المستنصـر باللـه  ..‏.فلما كان يوم الجمعة الثالث عشر من ذي القعدة‏:‏ دعي لصاحب مصر في جامع المنصـور وزيـد فـي الـأذان حـي علـى خيـر العمـل.. .. وحمل ابن المسلمة إلى البساسيري .. فقيده، ووكل به، وضرب ضربًا كثيرًا . وقيد‏.ثم قتله .).

أخيرا : وجاء المغول ..ودمروا بغداد ..

1 ـ وظل إضطهاد الحنابلة للشيعة قائما محتدما حتى قبيل سقوط بغداد على يد هولاكو عام 656  . يقول ابن كثير فى أحداث عام 655 (وفيها‏:‏ كانت فتنة عظيمة ببغداد بين الرافضة وأهل السنة، فنهب الكرخ ودور الرافضة حتى دور قرابات الوزير ابن العلقمي، وكان ذلك من أقوى الأسباب في ممالأته للتتار‏.‏) . ويقول فى العام التالى فى تفصيلات سقوط بغداد عام 656  ( وذلك كله عن آراء الوزير ابن العلقمي الرافضي، وذلك أنه لما كان في السنة الماضية كان بين أهل السنة والرافضة حرب عظيمة نهبت فيها الكرخ ومحلة الرافضة ، حتى نهبت دور قرابات الوزير‏.).

خاتمة الكتاب

 سؤال واحد : ـ هل نقول اليوم : وجاء الأمريكان ...؟!!