رقم ( 4 )
الباب الثالث : الحنبلية دين العوام والخلافة العباسية فى العصر العباسى الثانى

 

الباب الثالث : الحنبلية دين العوام والخلافة العباسية فى العصر العباسى الثانى

 

الفصل الأول : ( عسكرة) العوام  فى الصراع بين الأمين والمأمون  

مقدمة :

مقالات متعلقة :

1 ـ صاحب الأيدلوجية السياسية يبحث عن قوة عسكرية تقيم له دولة ، وإذا كانت ايدلوجيته دينية بحث عن قوة عسكرية تؤمن بهذه الايدلوجية لتؤسس له دولة دينية . ونجح العباسيون فى نشر ( الُّسُّنّة ) بين السكان فإعتنقوا الإسلام باسم ( السنّة ). وأصبح للعباسيين كهنوت دينى ورجال دين من السنيين . ثم تمرّد بعضهم على الدولة العباسية بسبب خلق القرآن . ونشأت ( معارضة دينية ) قوبلت بالشّدة بسبب خطورتها السياسية ، لأنها فى النهاية ستستخدم المزايدة الدينية للحصول على مشاركة فى السلطة والثروة على حساب الخليفة العباسى الذى يحتكر السلطة والثروة . هذه المعارضة الدينية إحتاجت الى قوة عسكرية تواجه بها الجيش العسكرى المحترف للدولة، فوجدوا ضالتهم فى العوام وأرباب السوابق  فنشرت  بينهم ايدلوجيتها السّنية المتطرفة ( الحنبلية ) فتحول العوام فى العصر العباسى الثانى ( حنابلة ) تسيدوا الشارع وتحكموا فيه تزمتا وإنحلالا وأرهابا ، الى أن ضعفوا وحل محلهم دين التصوف بدءا من القرن السادس الهجرى .

2 ـ الناشطون من العوام قبل أن يتحولوا الى حنابلة كان يطلق عليهم ( العيّارون ) أى قطّاع الطرق الذين إحترفوا الاجرام والشغب ، ثم ( عسكرتهم ) الظروف السياسية فى الصراع بين الأمين والمأمون ،فإصطبغ إجرامهم وشغبهم بصبغة حربية سياسية هى الدفاع عن بغداد وقت هجوم قوات المأمون عليها وبهدف أهم هو السلب والنهب . ثم فيما بعد ، ( تحنبل ) العوام ، أى وتحولوا من ( عيارين ) الى ( حنابلة ) ، وبعد ضعفهم ( كحنابلة ) عاد الى العوام الناشطين المجرمين لقب (العيارين )، وصار للعيارين نفوذ سياسى قبيل سقوط الدولة العباسية ، ليس الآن محل بحثه .

3 ـ المهم أن جسارة وبطولات العوام والعيارين فى الدفاع عن بغداد لفتت أنظار قادة الحنابلة المعارضين ، فعملوا على إعتناقهم السنّة المتشددة . فصنعوا لهم حديث ( من رأى منكم منكرا ) ليكون لهم تشريعا فى بسط نفوذهم وتحكمهم فى الشارع ، وصاغوا لهم مصطلح ( أمة محمد ) ليكونوا قادة لأمّة محمد فى مواجهة ( أمة المسيح ) فى الداخل والخارج ، ولأن الرعاع والعوام أدمنوا الشغب والنهب والسلب والاغتصاب وفنون  الانحلال الخلقى فقد صاغوا لهم أحاديث الشفاعة التى يتشفع فيها ( محمد ) فى ( أمة محمد ) . ولأن الشيعة كانوا يعبدون الحسين ويقدسون قبر الحسين لذا تم فى عصر المتوكل هدم قصر الحسين وتأسيس قبر مقدس لابن حنبل ليحل محل قبر الحسين، وجعلوا ابن حنبل إلاها أكبر من الحسين . والعوام التى لا تعقل ولا تؤمن بالله إلا وهى مشركة تفضّل تجسيد الاله فى قبر أو صنم ملموس فأقام الحنابلة قبورا مقدسة للفقهاء حتى لأبى حنيفة ليجتذبوا أهواء العوام . وبهذا أرضى الحنابلة أهواء العوام فتحنبل العوام ، ومارسوا كل أنواع التسلط والانحلال كفريضة دينية .

4 ـ بإيجاز :  دخل العوام فى السّنة افواجا فى العصر العباسى الأول ، ثم دخلوا فى السنّة الجنبلية المتشددة أفواجا وأفواجا وأفواجا فى العصر العباسى الثانى . وإذا أردتم نماذج حيّة واقعية للحنابلة العباسيين فى عصرنا فانظروا للوهابيين والسلفيين والاخوان وكل منظمات الارهاب ما ظهر منها ومابطن . فالعالم يتقدم الى الأمام ، ونحن نتقدم للخلف ..ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم .

5 ـ  ونتتبع تحول العوام للعسكرة .  ونبدأ هنا بالمحطة الأولى وهى المعارك بين جيش المأمون وجيش الأمين حول ثم داخل مدينة بغداد . ودور الغوغاء وأرباب السوابق فيها ، أو العيارون بمصطلح العصر العباسى .

أولا : أول ظهور عسكرى للغوغاء وقطّاع الطرق ( العيارين ) فى فتنة ( المأمون والأمين )

1 ـ حجّ الرشيد عام 186 وكتب ولاية العهد لأبنائه على التوالى ( محمدالأمين، ثم عبد الله المأمون ، ثم القاسم المؤتمن ). تولى الأمين عام 193 وتفاقم الخلاف بين الأمين والمأمون فى العام التالى مباشرة ، وتطور ، فأعلن الأمين خلع أخيه المأمون من ولاية العهد وأعلن الحرب عليه ، واشتعلت بينهما الحرب. وفيها إنهزم جيش الأمين وتقهقر ، وتقدم جيش المأمون فحاصر الأمين فى العاصمة بغداد عام  197 . وعجز جيش الأمين عن الدفاع عنها وتخلى عنه معظم جيشه فدخل جيش المأمون بعض أحياء بغداد ، وهنا قام عوام بغداد بالدفاع عن مدينتهم فأتوا بالعجائب ، إذ كانوا يحاربون عُراة وبأسلحة بُدائية ، وقد أطلقوا عليهم لقب ( العُراة ) . وقد أرهق هؤلاء ( العراة )جيش المامون .

2 ـ ومعنى أنهم كانوا يحاربون ( عُراة ) أن لديهم من الشجاعة والمهارة فى القتال والخفّة فى الحركة بحيث كانوا يواجهون بأجسادهم العارية جيش المأمون المثقل بالدروع والخوذات ومختلف الأسلحة فى معارك إستمرت مدة طويلة بين كرّ وفرّ فى شوارع وأزقة بغداد وقتها . وحكى المسعودى عنهم العجائب فى فدائيتهم ومهارتهم الحربية . وقد انتصروا فى أحد المعارك وكان عددهم مائة الف. ولكن فى النهاية إنهزموا وقُتل منهم عشرة آلاف بعد أن تخلى عن الأمين جيشه وأنصاره .: وإنبهر بشجاعتهم أحد قواد جيش المأمون الخراسانيين فقال: ( ليس هؤلاء بناس ، هؤلاء شياطين )( تاريخ المسعودى 2 / 316 ، 318 ، 319 ــ ).

3 ـ وتأكيدا لهذا يحكى الطبرى:( أن قائدا من قواد أهل خراسان ممن كان مع طاهر من أهل النجدة والبأس خرج يوما إلى القتال ، فنظر إلى قوم عراة لا سلاح معهم ، فقال لأصحابه : "ما يقاتلنا إلا من أرى"،إستهانة بأمرهم واحتقارا لهم . فقيل له : " نعم هؤلاء الذين ترى هم الآفة " .فقال:" أف لكم حين تنكصون عن هؤلاء وتخيمون عنهم وأنتم في السلاح الظاهر والعدة القوة ولكم ما لكم من الشجاعة والنجدة.! وما عسى أن يبلغ كيد من أرى من هؤلاء؟  ولا سلاح معهم ولا عدة لهم ولا جنة تقيهم. ". فأوتر قوسه وتقدم ، وأبصره بعضهم فقصد نحوه ، وفي يده بارية مقيرة وتحت إبطه مخلاة فيها حجارة . فجعل الخراساني كلما رمى بسهم استتر منه العيّار ، فوقع في باريته أو قريبا منه ، فيأخذه فيجعله في موضع من باريته، قد هيأه لذلك ، وجعله شبيها بالجعبة . وجعل كلما وقع سهم أخذه، وصاح:"دانق"، إي ثمن النشابة دانق قد أحرزه. ولم يزل تلك حالة الخراساني وحال العيار حتى أنفذ الخراساني سهامه. ثم حمل على العيار ليضربه بسيفه فأخرج من مخلاته حجرا فجعله في مقلاع ورماه فما أخطأ به عينه ، ثم ثنّاه بآخر فكاد يصرعه عن فرسه لولا تحاميه .وكر راجعا وهو يقول : "ليس هؤلاء بإنس ". ! ) .( الطبرى 8 / 457 : 458 )

ثانيا : الحسن الهرش زعيم العيارين ينضم للأمين قائدا لجيشه     

1 : وقاد هذه المعارك الحسن الهرش زعيم العيارين فى العراق . ونتتبعه بين سطور تاريخ الطبرى .

2 ـ فى البداية عام 197 إنشقّ عن الخليفة الأمين أخوه القاسم ( المؤتمن ) ولحق بالمأمون فى فارس بينما حاصر جيش المأمون بغداد بقيادة طاهر. وتناوب الجيشان الضرب بالمجانيق والعرادات يقتلون بها أهل بغداد عشوائيا .

3 : مع تقدم جيش المأمون يحتل بغداد جزءا جزءا دبّ الوهن فى جيش الأمين وقادته وظهر صمود العوام فى القتال: ( فذلوا وانكسروا وإنقادوا ، وذلّت الأجناد وتواكلت عن القتال ، إلّا باعة الطريق والعُراة وأهل السجون والأوباش والرعاع والطرارين وأهل السوق .).و ( الطرارون ) هم قطاع الطرق .

4 ـ وبإباحة السلب والنهب لهم إنضم ( الهرش ) قائد العيارين وقتها ومعه الرقيق الأفارقة. يقول الطبرى:( وكان حاتم بن الصقر قد أباحهم النهب ، وخرج الهرش والأفارقة، فكان طاهر يقاتلهم لا يفتر عن ذلك ولا يملُّه ولا يني فيه ).

5 ـ وباستمرار الحرب ملّ جيش محمد الأمين ، وبدأ بعض قادة جيشه ينضمون الى طاهر بجنودهم وسلاحهم ومجانيقهم ( ليلة السبت للنصف من جمادى الآخرة سنة سبع وتسعين ومائة ) واستأمن إلى طاهر أيضا رئيس الشرطة ( محمد بن عيسى ) الذى ( كان يقاتل مع الأفارقة وأهل السجون والأوباش ) . كان رئيس لاالشرطة يقاتل معهم ، ثم تركهم وخان سيده الخليفة الأمين . ومع يأس الأمين ظل العيارون والغوغاء يقاتلون بزعامة الهرش . يقول الطبرى :( وأقبلت الغواة من العيارين وباعة الطرق والأجناد فاقتتلوا ...إلى ارتفاع النهار.. ولم تكن وقعة قبلها ولا بعدها أشد على طاهر وأصحابه منها ولا أكثر قتيلا وجريحا معقورا من أصحاب طاهر من تلك الوقعة . فأكثرت الشعراء فيها القول من الشعر ، وذكر ما كان فيها من شدة الحرب . وقاتل فيها الغوغاء والرعاع ) .   

6ـ وكثّف طاهر إتّصالاته مع كبار العباسيين والقواد فى معسكر محمد الأمين لينفضوا عنه فاستجاب معظمهم ، خصوصا وقد إستحوذ طاهر على أملاكهم وضياعهم ، فأقبل الأمين على اللهو والشرب يأسا ، وأوكل الأمور الى قائده ابن نهيك و( الهرش ) زعيم العيارين ، يقول الطبرى : ( أقبل محمد على اللهو والشرب ، ووكل الأمر إلى محمد بن عيسى بن نهيك وإلى الهرش ) . وبقيادة الهرش للجيش التابع للأمين أصبح السلب والنهب سائدا، وضحاياه من الجميع من مسلمين وغير مسلمين ومن فقراء وأغنياء ، يقول الطبرى :( .. فكان لصوصها وفُسّاقها يسلبون من قدروا عليه من الرجال والنساء والضعفاء من أهل الملة والذمة،  فكان منهم في ذلك ما لم يبلغنا أن مثله كان في شيء من سائر بلاد الحروب . ) أى حدث من السلب والنهب ما لم يحدث من قبل فى الحروب . وطال الأمر على ذلك ، فهرب من إستطاع من معسكر الهرش والأمين الى معسكر طاهر : يقول الطبرى : ( ولما طال ذلك بالناس ، وضاقت بغداد بأهلها ، خرج عنها من كانت به قوة بعد الغرم الفادح والمضايقة الموجعة والخطر العظيم ) ، فقد كان طاهر حريصا على حفظ الأمن فى الأحياء التى يسيطر عليها فى بغداد : ( فأخذ طاهر أصحابه بخلاف ذلك،  واشتد فيه وغلظ على أهل الريب . وأمر محمد بن أبي خالد بحفظ الضعفاء والنساء وتجويزهم وتسهيل أمرهم ، فكان الرجل والمرأة إذا تخلص من أيدي أصحاب الهرش وصار الى أصحاب طاهر ذهب عنه الروع ، وأمن ، وأظهرت المرأة ما معها من ذهب وفضة أومتاع أو بزّ ( أى حرير ) . حتى قيل إن مثل أصحاب طاهر ومثل أصحاب الهرش وذويه ومثل الناس إذا تخلصوا مثل السور الذي قال الله تعالى ذكره : (فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ   ) .

7 ـ ووصل سوء الحال بمحمد الأمين أن إحترف السلب والنهب مستعينا بالحسن الهرش زعيم قطّاع الطرق أو العيارين ، يذكر الطبرى : ( أن محمدا أمر زريحا غلامه بتتبع الأموال وطلبها عند اهل الودائع وغيرهم ، وأمر الهرش بطاعته،  فكان يهجم على الناس في منازلهم ويبيتهم ليلا ( أى يهجم عليهم ليلا ) ، ويأخذ بالظنة ، فجبى بذلك السبب أموالا كثيرة ، وأهلك خلقا ، فهرب الناس بعلة الحج ، وفر الأغنياء )

8 ـ  ووضح سقوط الأمين فطلب الهرش الصلح مع طاهر ، فرفض طاهر ، فظل الهرش مع الأمين الى النهاية بعد أن يأس من الصلح مع طاهر .يقول الطبرى: ( وذكر أن الهرش خرج ومعه الغوغاء والغزاة ولفيفهم حتى صار إلى جزيرة العباس وخرجت عصابة من أصحاب طاهر فاقتتلوا قتالا شديدا . ). وقبيل قتله هرب محمد الأمين يحاول النجاة بنفسه ففشل ، وكان الهرش لا يزال يقاتل : ( وثبت على قتال طاهر حاتم بن الصقر والهرش والأفارقة ) ( وخرج محمد بأمه وولده إلى مدينة أبي جعفر وتفرق عنه عامة جنده وخصيانه وجواريه في السكك والطرق لا يلوي منهم أحد على أحد . ) وفى النهاية تفرّق جيش العيارين، أو على حدّ قول الطبرى:( وتفرق الغوغاء والسفلة .).

أخيرا  : نلاحظ الآتى :

1 ـ لم يستسلم الهرش بعد مقتل الأمين وتولى المأمون الخلافة عام 198، فقد أعلن قاطع الطريق هذا الثورة على العباسيين .!!  يقول الطبرى : ( وضعت الحرب بين محمد وعبد الله ابني هارون الرشيد أوزارها ، واستوسق الناس بالمشرق والعراق والحجاز لعبد الله المأمون بالطاعة. )ثم يقول عن الهرش:(  وفيها خرج الحسن الهرش في ذي الحجة منها ، يدعو إلى الرضى من آل محمد بزعمه ، في سفلة الناس وجماعة كثيرة من الأعراب ، ..فجبى الأموال وأغار على التجار وانتهب القرى واستاق المواشي . ). أى بدأ الهرش قاطع طريق ، ثم أصبح زعيم قطاع الطرق ، أو العيارين ، ثم أصبح قائد جيش عباسى ( للأمين ) ثم أصبح ثائرا عليهم وقد إتّخذ شعارا دينيا هو نفس شعار العباسيين ( الرضى من آل محمد ) يستحل به السلب والنهب . وفى كل الأحوال فعين الهرش على المال . 

2 ـ والمال هو المقصود الأعظم ، سواء لدى الهرش أوالمأمون أو الأمين أو أى كافر بيوم الدين . يروى الطبرى أن الأمين فى أواخر أيامه ( أمر ببيع ما بقي في الخزائن التي كانت أنهبت ، فكتم ولاتها ما فيها ، لتُسرق . ( أى ليسرقوها بعد قتله ) فتضايق على محمد أمره . وفقد ما كان عنده . وطلب الناسُ الأرزاق ، فقال يوما وقد ضجر مما يرد عليه : وددت أن الله عز وجل قتل الفريقين جميعا وأراح الناس منهم،  فما منهم إلا عدو ، ممّن معنا وممّن علينا . أما هؤلاء فيريدون مالي وأما أولئك فيريدون نفسي . ) . الأمين يعتبر بيت المال ماله الخاص ، وأن أتباعه يطمعون فى سلب ماله الخاص ، بينما يريد أعداؤه سلب حياته . ويعتبر الفريقين أعداءا له . 

3 ـ الفارق بين الحسن الهرش وخلفاء بنى العباس أن الهرش كان فى البداية زعيم قطاع الطرق وصريحا فى سلبه ونهبه ، بلا إستخدام لشعار دينى  . فلما إحتكّ بالعباسيين تعلم منهم ( اصول الصنعة ) أى ( أن تسلب وتنهب باسم الدين ) فإستعار منهم شعار ( الرضى من آل محمد ) شعارهم الأصلى يستخدمه ضدهم بكل سذاجه ، ولأنّ تاريخه فى السلب والنهب حاضر وشاهد وطازج ولا يزال لزجا ، ولأن دماء ضحاياه لم تجفّ بعد ، فكان لا بد أن يفشل ، وغاب بين سطور التاريخ فلم نعثر عليه بعدها . ( الطبرى : 8 / 448 ، 451 ، 456 ، 463 ، 468 ، 474 ، 482 ، 511 ، 527 )

4 ـ الغريب أننا نجد ( ابن الهرش ) بين عوام أهل الحديث  الفقهاء الرافضين لرأى المأمون فى ( خلق القرآن ) وضمن طبقة ابن حنبل . ( الطبرى 8 / 637 ، 645 ) . ولأنه هذا الاسم ( الهرش ) نادر فنتوقع أن يكون هذا الرجل ابنا للحسن الهرش . ولو صحّ هذا فإن الابن ترك مهنة أبيه ، واحترف مهنة الكذب على الله جل وعلا ورسوله ، وهى شرُّ وأضل سبيلا .

5 ـ وفى كل الأحوال فإن ملحمة ( الهرش ) المنسية بين سطور التاريخ العباسى تعتبر مرحلة فى تحول اللصوص وقطاع الطرق العاديين من سلب الأموال و الوصول للثروة والسلطة ( علمانيا ) بلا شعار دينى الى السلب والنهب والقتل ( دينيا ) أى باستخدام الدين الأرضى السائد . أى مرحلة من مراحل تحول ( العيارين ) الى ( حنابلة ) .  

 

الفصل الثانى :  العوام  من العسكرة الى الحنبلة من المأمون الى قتل إبن نصر الخزاعى  

 مقدمة

1 ـ استولى جيش المأمون على بغداد وأصبح المأمون الخليفة بعد قتل أخيه الأمين عام 198 . ولكن ظل المأمون فى فارس ( مرو ) تاركا بغداد تلعق جراحها بعد التدمير والقتل التى حدثت فيها . غياب المأمون شجع على إستمرار العوام (الطرارون ، العيارون ، الخ ) فى لعب دور عسكرى وسياسى ، حمل هذا الدور أحيانا شعار ( الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ). بعد فشل زعيم قطاع الطرق الحسن الهرش إحترف بعض العوام السلب والنهب ، وإنضم اليهم جماعات من الجُند ، فتصدى لهم متدينون من ( العوام ) فظهرت حركة جديد باسم ( المطوّعة ) لها رئيسان ، أحدهما (خالد الدريوش  ) بلا هدف سياسى ، والآخر ( سهل بن سلامة ) كانت له أطماع سياسية .  وأدى سخط بنى العباس فى بغداد على المأمون الغائب فى مرو الى تشجيع أمير من البيت العباسى على الثورة ، وإتخذ من العوام عسكرا له . هذا الهرج إنتهى بقدوم المأمون بغداد ، وسيطرته على مقاليد الأمور عام  204 . 

2 ـ كان هذا مقدمة لحركة أحمد بن نصر الخزاعى ( الحنبلى ) فى عصر الواثق عام 231 . وكان قتل الواثق له نقطة فاصلة فى تحول العوام الى الحنبلية ، إستثمروا فيها خبرتهم العسكرية والسياسية ليتأهلوا بها بعد مقتل أحمد بن نصر الخزاعى لسيطرتهم على الشارع العباسى بدءا من خلافة المتوكل العباسى الذى كان خليفة حنبليا . وقد جعل قادة الحنبلية شريعة دينية لهذا التسلط  ( الذى نسميه الآن : التطرف ) وهو إختراع حديث ( من رأى منكم منكرا ) ، وللتشجيع على ضم العُصاة تم إختراع أحاديث الشفاعة التى تمارس بها جرائم السلب والنهب والاغتصاب والقتل مع ضمان الجنة ، بل أصبح العصيان فريضة دينية تحت زعم ( الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ) ثم أتاحوا للعوام الجاه الدينى على أنهم ( قادة ) ( أُمّة محمد ) النّاجية من النار والتى ستدخل الجنة مهما إرتكبت من آثام طالما تواجه وتعادى ( أمة المسيح ) وتنافس الشيعة وأهل البدع والضلال .

ونعطى بعض التفاصيل مما أورده الطبرى .

أولا : حركة المطوعة بالأمر والمعروف فى بداية خلافة المأمون ( 201 : 204 )

1 ـ فى أحداث عام 201 يقول الطبرى : ( وفي هذه السنة تجردت المطوعة للنكير على الفساق ببغداد ) وكان رئيسا المطوعة ( خالد الدريوش وسهل بن سلامة الأنصاري أبو حاتم من أهل خراسان).ويذكر الطبرى السبب، وهو ( أن فساق الحربية والشطار الذين كانوا ببغداد والكرخ آذوا الناس أذى شديدا ) أى إن الفاسقين من الحربية أى الجنود و ( الشُّطار ) أى اللصوص وقُطّاع الطرق : (أظهروا الفسق وقطع الطريق وأخذ الغلمان والنساء علانية من الطرق . فكانوا يجتمعون فيأتون الرجل فيأخذون ابنه فيذهبون به فلا يقدر أن يمتنع ، وكانوا يسألون الرجل أن يقرضهم أو يصلهم فلا يقدر أن يمتنع عليهم . وكانوا يجتمعون فيأتون القرى فيكاثرون أهلها ويأخذون ما قدروا عليه من متاع ومال وغير ذلك لا سلطان يمنعهم ولا يقدر على ذلك منهم. ) .

هذا يذكرنا بالانهيار الأمنى الذى تعانى منه مصر وبعض الدول العربية الآن ، حيث سيطرة البلطجية وفرضهم الاتاوات ، وتعاون البوليس مع البلطجية، أى ليس هناك جديد تحت الشمس ( العربية ) . يقول الطبرى كأنه يعيش فى عصرنا : ( لأن السلطان كان يعتزّ بهم ، وكانوا بطانته ، فلا يقدر أن يمنعهم من فسق يركبونه . ) . السلطان هنا يعنى السلطة القائمة ،وكانوا مجموعات متصارعة من أرباب السُّلطة العباسية وخصومهم ، وفى صراعهم كانوا محتاجين للعصابات الإجرامية ، وكانوا يقاسمونهم السلب والنهل . ولم يكن هذا غريبا ، فالخليفة الأمين كان يسلّط الهرش على الناس .

ويذكر الطبرى كيف كان أولئك البلطجية ـ بمصطلح عصرنا ـ يفرضون الإتاوات على الناس ، أو بتعبير العصر العباسى ( يخفرون ) أى يزعمون أنهم يحمون السكان مقابل دفع إتارة ، يقول الطبرى : ( وكانوا يجبون المارة في الطرق والسفن وعلى الظهر ، ويخفرون البساتين، ويقطعون الطرق علانية ، ولا أحد يعدو عليهم. وكان الناس منهم في بلاء عظيم. ) . ثم تطرفوا فهجموا على مدينة قطربل فانتهبوها علانية ، وصاروا يبيعون ما سلبوه فى بغداد علانية : ( ثم كان آخر أمرهم أنهم خرجوا إلى قطربل ، فانتهبوها علانية ، وأخذوا المتاع والذهب والفضة والغنم والبقر والحمير وغير ذلك ، وأدخلوها بغداد وجعلوا يبيعونها علانية . وجاء أهلها فاستعدوا السلطان عليهم فلم يمكنه إعداؤهم عليهم ، ولم يرد عليهم شيئا مما كان أخذ منهم .وذلك آخر شعبان . ).

2 ـ عندئذ تحرك الصلحاء المتدينون من العوام لمواجهة العُصاة من العوام : ( فلما رأى الناس ذلك وما قد أخذ منهم وما بيع من متاع الناس في أسواقهم وما قد أظهروا من الفساد في الأرض والظلم والبغي وقطع الطريق وأن السلطان لا يغير عليهم قام صلحاء كل ربض وكل درب،  فمشى بعضهم إلى بعض ، وقالوا : "إنما في الدرب الفاسق والفاسقان إلى العشرة ، وقد غلبوكم وأنتم أكثر منهم، فلو اجتمعتم حتى يكون أمركم واحدا لقمعتم هؤلاء الفساق ، وصاروا لا يفعلون ما يفعلون من إظهار الفسق بين أظهركم ". )

3 ـ وكان أول زعيم هو خالد الدريوش الذى رفع شعار الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، وجمع به الناس وتصدى بهم للفُسّاق، ولكن هذا كان يستلزم الحرب ، أى حرب السّلطة المتعاونة مع أولئك الفُسّاق، لذا توقف خالد الدريوش لأنه رفض أن تتطور حركته الى الخروج على السلطان : ( فقام رجل من ناحية طريق الأنبار يقال له خالد الدريوش ، فدعا جيرانه وأهل بيته وأهل محلته على أن يعاونوه على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فأجابوه إلى ذلك ، وشد على من يليه من الفساق والشطار ، فمنعهم مما كانوا يصنعون،  فامتنعوا عليه ، وأرادوا قتاله. إلا أنه كان لا يرى أن يغير على السلطان شيئا . ) .

4 ـ هنا ظهر جندى خراسانى بنفس الدعوة للأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، والعمل بالكتاب و(السُّنة ) يقصد بها مواجهة السلطة الحاكمة لو وقفت فى وجهه ، وقد تسلح لذلك بمصحف علّقه فى عنقه، وبايعه الناس حتى الأشراف منهم على قتال من يخالفه ، وعمل له ديوانا يكتب فيه أسماء من بايعوه :( ثم قام من بعده رجل من اهل الحربية، يقال له سهل بن سلامة الأنصاري من أهل خراسان ، يكنى أبا حاتم ، فدعا الناس إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكروالعمل بكتاب الله جل وعز وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، وعلق مصحفا في عنقه. ثم بدا بجيرانه واهل محلته ، فأمرهم ونهاهم ، فقبلوا منه . ثم دعا الناس جميعا إلى ذلك، الشريف منهم والوضيع ، بني هاشم ومن دونهم . وجعل له ديوانا يثبت فيه اسم من اتاه منهم . فبايعه على ذلك وقتال من خالفه وخالف ما دعا إليه كائنا من كان . فاتاه خلق كثير فبايعوا. ) .

وبهذه القوة منع البلطجية من أخذ الاتاوات ( الخفارات ) من الناس ، قائلا : "لا خفارة فى الاسلام ". يقول الطبرى : ( ثم إنه طاف ببغداد وأسواقها وأرباضها وطرقها ، ومنع كل من يخفر ويجبي المارة والمختلفة وقال لا خفارة في الإسلام والخفارة أنه كان يأتبي الرجل بعض أصحاب البساتين فيقول بستانك في خفري أدفع عنه أراده بسوء ولي في عنقك كل شهر كذا وكذا درهما فيعطيه ذلك شائيا وآبيا . فقوي على ذلك . )

5 ـ ودخل سهل بن سلامة فى صراع معقد مع جماعات السُّلطة المتحكمة واعوانهم من البلطجية .

6 ـ ثم تعقّد الصراع أكثر بظهور ابراهيم بن المهدى الذى أعلن خلع المأمون وبايعه عوام بغداد واطلقوا عليه لقب ( المبارك ) . واستعان ابراهيم بعوام بغداد واستولى بمساعدتهم على جنوب العراق وحتى الكوفة وسواد العراق عام 202 . وفى عام 203 خلع اهل بغداد ابراهيم بن المهدى ودعوا للمأمون ، الذى كان فى طريقه الى بغداد . واختفى ابراهيم بن المهدى بعد أن حكم بغداد حوالى عامين فى فترة إضطراب انتهت بدخول المأمون بغداد عام 204 .

7 ـ قبل أن نطوى هذه الصفحة نذكر أنه كان بين زعماء تلك الحركة شاب من أسرة ذات مكانة ، وهو أحمد بن نصر الخزاعى . ذكر الطبرى أن إبن نصر قد بايع له أهل الجانب الشرقى على الأمر بالمعروف والسمع له فى سنة إحدى ومائتين .. وأنه لم يزل ثابتا على ذلك الى ان قدم المأمون بغداد فى سنة أربع ومائتين . ثم قاد ابن نصر حركة جديدة بعدها بثلاثين عاما تقريبا ،أسفرت عن قتله .

ثانيا :  حركة احمد بن نصر الخزاعى فى خلافة الواثق عام 231

 1 ـ سبق التعرض للمأمون ومحنة ( خلق القرآن ) وإضطهاد الفقهاء وأهل الحديث ، وإستمرار ذلك فى عصر المعتصم بعد المأمون ، وتعرض ابن حنبل للضرب بسبب تصميمه على رأيه عام 219 . وبعد ضربه وإطلاق سراحه إعتزل ابن حنبل . ثم تولى الواثق عام 227، الذى جدّد إضطهاد أهل الحديث فى ( خلق القرآن ) . فإختفى ابن حنبل تماما عن الأنظار طيلة خلافة الواثق . وبالتالى لم يشهد ابن حنبل محنة أحمد بن نصر الخزاعى الذى قتله الواثق وصلب جثته عام 231 . وظل ابن حنبل بعيدا عن مسرح الأحداث الى وفاته عام 241 ، بعد عشر سنوات من مقتل ابن نصر الخزاعى .

2 ـ بدأ الأمر بكتاب الخليفة الواثق عام 231  إلىأميرالبصرةيأمرهأنيمتحنالأئمةوالمؤذنينبخلقالقرآن.  وكان من ضحايا الواثق فى خلق القرآن الفقيه نعيم بن حماد ، فقد طلبه الواثق من مصر ، فجىء به الى بغداد فى الحديد ، وامتنع عن القول بخلق القرآن ، فسجنه الواثق ، وظل فى السجن مقيدا الى ان مات فيه عام 228 . ومثله يوسف بن يحيى البويطى ، الذى حملوه الى بغداد مثقلا بالحديد لأنه رفض القول بخلق القرآن ،  وظل فى السجن الى ان مات 232 . 

3 ـ وشهد عصر الواثق قتل وصلب أحمد بن نصر عام 231 . وجاءت التفاصيل فى تاريخ الطبرى ( 9 / 135 : 139  ) وتاريخ بغداد ( 5 / 173 : 180 ) ، ثم نقل عنهما ابن الجوزى فى المنتظم .( 11 / 165 : 170 ).

ولم يكن لأحمد بن نصر تميز فى الحديث ، ولكن تميّز على قادة أهل الحديث بإنتمائه الى أسرة ذات مكانة ونفوذ ممّا شجعه على أن يكون صاحب طموح ونشاط  معارض للعباسيين تحت شعار الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر . وبسبب خطورته وخطورة حركته بادر الواثق بإخماد حركته ، وعقد له محاكمة سريعة تجنب فيها الواثق التحقيق معه بالتهمة الأصلية وهى الثورة والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، وحصر المحاكمة فى موضوع خلق القرآن الذى لم يكن ابن نصر رأسا فيه ، ولكنها التهمة التى بها قام الواثق بقتل ابن نصر بيده ، وصلبه، وكتبت بها ورقة كانت معلقة على جثته وهو مصلوب .

 4 ـ يقول الطبرى تحت عنوان ( ذكر مقتل أحمد بن نصر الخزاعى على يد الواثق ) : ( وفى هذه السنة تحرّك ببغداد فى ربض عمرو بن عطاء ، فأخذوا على أحمد بن نصر الخزاعى البيعة ) . أى أن بعض أهل بغداد بايعوا أحمد بن نصر على الثورة ضد العباسيين . ومن التفاصيل نفهم مكانة ابن نصر ، فقد كان جده مالك بن الهيثم أحد نقباء بنى العباس ، أى من كبار مؤيديهم . ويقول ابن الجوزى عن مكانة أسرة ابن نصر الخزاعى : ( ومالك بن الهيثم كان أحد نقباء بني العباس في ابتداء دولتهم ، وسويقة نصر ببغداد تنسب إلى أبيه نصر ‏.‏ )أى ظلت سويقة نصر ببغداد حتى عصر ابن الجوزى فى القرن السادس الهجرى.

5 ـ وقد إفتقد  قادة أهل الحديث المكانة والنفوذ لأنّ معظمهم من الفقراء والعوام ، ولذا كانوا يلوذون بجاه أحمد بن نصر ضد الدولة العباسية . يقول الطبرى عن أحمد إنه كان يغشاه أهل الحديث كيحيى بن معين وابن الدورى وابن خيثمة، وقد إستمالوه الى معارضة رأى العباسيين فى خلق القرآن ، فأصبح ابن نصر مخاصما لمن يقول بخلق القرآن ، ( هذا مع منزلة أبيه فى الدولة ) كما يقول الطبرى . بل كان ابن نصر ( يبسط لسانه فيمن يقول ذلك ). ولم يأبه ابن نصر بغلظة الواثق واضطهاده من يخالف رأى المعتزلة.  وقد شتم أحمد بن نصر الخليفة الواثق علنا بين جماعة من الناس فى بيته ووصفه بالخنزير ورماه بالكفر . وشاع هذا فى بغداد . وتجمع حول ابن نصر أهل الحديث يشجعونه على مواجهة الواثق ، يقول الطبرى : ( وحملوه على الحركة لانكار القول بخلق القرآن ، وقصدوه بذلك دون غيره ، لما كان لأبيه وجده فى دولة بنى العباس من الأثر ، ولما كان له ببغداد ، وأنه كان أحد من بايع له أهل الجانب الشرقى على الأمر بالمعروف والسمع له فى سنة إحدى ومائتين ..فرجو إستجابة العامة له إذا تحرّك . ) .

6 ـ  ويروى ابن الجوزى عن شيوخه من أهل الحديث أن أمر أحمد بن نصر ( تحرّك  ببغداد في آخر أيام الواثق،  فاجتمع إليه خلق من الناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، إلى أن ملكوا بغداد . ) أى إستولوا على بغداد وقت أن كان الواثق يقيم فى مدينة ( سامرا ) بزعم ابن الجوزى . وبدأ أتباع احمد بن نصر فى الإستيلاء على بغداد يقودهم رجلان : ( يقال لأحدهما‏:‏ طالب في الجانب الغربي ، ويقال للآخر‏:‏ أبو هارون في الجانب الشرقي . وكانا موسرين . فبذلا مالًا . وعزما على الوثوب ببغداد في آخر أيام الواثق في شعبان سنة إحدى وثلاثين ومائتين.) ووصلت الأخبار الى رئيس الشرطة ( إسحاق بن إبراهيم ، فأخذ جماعة، منهم فيهم أحمد بن نصر وصاحباه طالب وأبو هارون . ) وحملهم الى الخليفة الواثق فى سامراء .

7 ـ وحقّق الواثق بنفسه مع ابن نصر فى موضوع خلق القرآن بحضور ابن أبى داود رأس المعتزلة : (  فجلس لهم الواثق . وقال لأحمد بن نصر‏:‏ دع ما أخذت له . ( يعنى دع موضوع الثورة والحركة لأخذ بغداد ) ما تقول في القرآن ؟ قال‏:‏ هو كلام الله. قال‏:‏ أفمخلوق هو؟ قال‏:‏ هو كلام الله .قال‏:‏ أفترى ربك في القيامة ؟ قال‏:‏ كذا جاءت الرواية ‏.‏ قال‏:‏ ويحك يرى كما يرى ؟ أفمخلوق هو ؟ قال‏:‏ هو كلام الله.  قال‏:‏ المحدود المجسوم ويحويه مكان ويحصره الناظر؟ أنا أكفر برب هذه صفته.) وسأل الواثق الحاضرين : ( ما تقولون فيه ؟ ) فقال القاضى عبد الرحمن بن إسحاق : هو حلال الدم . وأيده جماعة من الحاضرين ، ولكن حاول ابن أبى داود إنقاذه ، فقال للواثق‏:‏ " يا أمير المؤمنين شيخ مختل لعل به عاهة أو تغير عقله، يؤخر أمره ويستتاب ." فقال الواثق‏:‏ ما أراه إلا مؤذنًا بالكفر قائمًا بما يعتقده منه‏.‏ ودعا الواثق بسيف ( الصمصامة ) ، وقال‏:‏ ( إذا قمت إليه فلا يقومن أحد معي، فإني أحتسب خطاي إلى هذا الكافر الذي يعبد ربًا لا نعبده ولا نعرفه بالصفة التي وصفه بها . ) ثم أمر بالنطع فأُجلس عليه وهو مقيد ، وأمر بشد رأسه بحبل ، وأمرهم أن يمدوه ‏.‏ ومشى إليه حتى ضرب عنقه . وأمر بحمل رأسه إلى بغداد فنصبت في الجانب الشرقي أيامًا ، وفي الجانب الغربي أيامًا . وتتبع رؤساء أصحابه فوضعوا في الحبوس ‏.‏

وفي رواية أخرى‏:‏ أنّ الواثق لم يحقق معه فيما قيل عنه في الخروج عليه، لكنه قال‏:‏ ( ما تقول في القرآن وهل ترى ربك ؟ فذكر نحو ما تقدم إلى أن قال‏:‏ فدعا الواثق بسيف عمرو بن معد يكرب ، ومشى إليه وضربه ضربة وقعت على حبل العاتق ، ثم ضربه ضربة أخرى على رأسه . ثم انتضى سيما الدمشقي سيفه فضرب عنقه ، وجزّ رأسه .  ثم صلب في الحظيرة التي فيها بابك ، وفي رجليه قيود ،وعليه سراويل وقميص . وحمل رأسه إلى مدينة السلام ، فنصب في الجانب الشرقي أيامًا ، وفي الجانب الغربي أيامًا . ثم حول إلى الشرقي . وحظر على الرأس حظيرة . وضرب عليه فسطاط وأقيم عليه الحرس ‏.‏ ) وتقول الرواية ( ‏ ضربت عنق أحمد بن نصر . وهذه نسخة الرقعة معلقة في أذنه‏:‏ بسم الله الرحمن الرحيم‏:‏ هذا رأس أحمد بن نصر بن مالك . دعاه عبد الله الإمام هارون الواثق بالله أمير المؤمنين إلى القول بخلق القرآن ونفي التشبيه ، فأبى إلا المعاندة، فعجّله الله إلى ناره. ) ‏.‏

8 ـ وأدّى حُمق الخليفة الواثق وقتله ابن نصر وصلب جسده فى مكان وتعليق راسه فى مكان آخر الى زيادة شهرته ، فقد أصبح رمزا فى أعين العوام للثورة على العباسيين ، وفى إعتناق التشدّد السنى للمزايدة على الدولة العباسية السّنية . وقد ساعد على هذا أكثر وأكثر تلك الدعاية التى قام بها أهل الحديث ، وهم أرباب القصص والوعظ ، وقد إخترعوا منامات وقصصا راجت عن كرامات لرأس احمد بن نصر، خصوصا فى خلافة المتوكل الذى تولى بعد أخيه الواثق . وقد ذكر ابن الجوزى هذه الحكايات المصنوعة مُصدّقا لها بالطبع فى مناقب ابن حنبل ص 399 400 ، وذكر بعضها فى المنتظم بإسناد وعنعنة، يقول : ( أخبرنا عبد الرحمن القزاز قال‏:‏ أخبرنا الخطيب أحمد بن علي بن ثابت أخبرنا إبراهيم بن هبة الله الجرباذوقاني أخبرنا معمر بن أحمد الأصبهاني قال‏:‏ أخبرني أبو عمرو عثمان بن محمد العثماني إجازة قال‏:‏ حدثني علي بن محمد بن إبراهيم حدثنا إبراهيم بن إسماعيل بن خلف ) ثم يأتى موضوع الحكاية قال الراوى ‏:‏ ( كان أحمد بن نصر خلّي ( أى خليلى وصاحبى ) فلما قتل في المحنة ، وصُلب رأسه ، أُخبرت أن الرأس يقرأ القرآن ، فمضيت فبتّ بقرب من الرأس مشرفًا عليه . وكان عنده رجالة وفرسان يحفظونه . فلما هدأت العيون سمعت الرأس يقرأ‏:‏ ‏{‏آلم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون‏}‏ الآية . فاقشعر جلدي . ثم رأيته بعد ذلك في المنام وعليه السندس والإستبرق وعلى رأسه تاج، فقلت‏:‏ ما فعل الله بك يا أخي ؟ قال‏:‏ " غفر لي وأدخلني الجنة إلا أني كنت مغمومًا ثلاثة أيام " فقلت‏:‏ ولم  ؟ قال‏:‏ " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مرّ بي ، فلما بلغ خشبتي حوّل وجهه عني. فقلت له بعد ذلك‏:‏ يا رسول الله قُتلت على الحق أم على الباطل ؟ قال‏:‏ أنت على الحق . ولكن قتلك رجل من أهل بيتي فإذا بلغت إليك أستحي منك ‏.‏ ) . يعنى جعلوا الرسول يستحى من أحمد بن نصر .!

وفى رواية أخرى جعلوا رأس أحمد بن نصر تدور نحو القبلة ، فكلفوا رجلا يعيدها كل مرة خلاف القبلة : ( أخبرنا عبد الرحمن بن محمد أخبرنا الخطيب قال‏:‏ قرأت على أبي بكر البرقاني عن أبي إسحاق إبراهيم بن محمد المزكي أخبرنا محمد بن إسحاق السراج قال‏:‏ سمعت أبا بكر المطوعي قال‏:‏ لما جيء برأس أحمد بن نصر صلبوه على الجسر فكانت الريح تديره قبل القبلة فأقعدوا له رجلًا معه قصبة أو رمح فكان إذا دار نحو القبلة أداره إلى خلاف القبلة ‏.‏ ).

9 ، ثم أنزلوا رأسه وجمعوه بجسده ودفنوه عام 237 . وكان هذا فى خلافة المتوكل . فقد أدت دعاية أهل الحديث الى تقديس العوام للرأس المصلوب ، فصاروا يتبركون به، وكثرت أعدادهم  . وخشى المتوكل من أن يتحول هذا الرأس الى مصدر تهديد لسلطانه ، مع أنه صار حنبليا ، إلا إنه خشى من عواقب وجود  الرأس عامل تذكير بقتل ابن نصر يكون دافعا للإنتقام والثورة على الدولة العباسية ، فأمر بإنزال الرأس ودفنها ، فرفض العوام . تقول الرواية فى تاريخ الطبرى فى أحداث عام 237 : ( وفيها أمر المتوكل في يوم الفطر منها بإنزال جتة أحمد بن نصر بن مالك الخزاعي ، ودفعه إلى أوليائه. ) ( ذكر أن المتوكل لما أمر بدفع جثته إلى أوليائه لدفنه فعل ذلك فدفع إليهم . وقد كان المتوكل لما أفضت إليه الخلافة نهى عن الجدال في القرآن وغيره.  ونفذت كتبه بذلك إلى الآفاق .وهمّ بإنزال أحمد بن نصر عن خشبته ، فاجتمع الغوغاء والرعاع إلى موضع تلك الخشبة ، وكثروا ، وتكلموا . فبلغ ذلك المتوكل ، فوجه إليهم نصر بن الليث ، فأخذ منهم نحوا من عشرين رجلا فضربهم وحبسهم . وترك إنزال أحمد بن نصر من خشبته لما بلغه من تكثير العامة في أمره . وبقي الذين أخذوا بسببه في الحبس حينا.  ثم أطلقوا . ) وبعدها تم دفن جثة ابن نصر . وجاءت الأخبار ( بخبر العامة وما كان من اجتماعها وتمسحها بالجنازة ، جنازة أحمد بن نصر وبخشبة رأسه . )  ( فأمر المتوكل بالكتاب إلى محمد بن عبد الله بن طاهر بمنع العامة من الاجتماع والحركة في مثل هذا وشبهه. )  .

أخيرا :

1 ـ تحول العوام الى الحنبلية فى عصر الخليفة الحنبلى المتوكل ، بل وزايدوا عليه فى موضع رأس احمد بن نصر . مع كل ما فعله المتوكل للحنابلة فى خلافته .

2 ـ صار العوام حنابلة مع غياب ابن حنبل عن مسرح الأحداث وقتها .

 

الفصل الثالث :  الحنبلية دين العوام

أولا :

1 ـ اساطير الشفاعة وما تعنيه من تأليه للنبى والأئمة وتأليه ابن حنبل هو القاعدة الايمانية فى الدين السُّنى الحنبلى . أقاموا على هذا الإيمان شريعة التسلط على الناس والبغى عليهم والتخكم فى عقائدهم وسلوكياتهم بحديث ( من رأى منكم منكرا فليغيره  ..) وهم أهل التنفيذ وهم أيضا أهل التفسير لما هو المعروف وما هو المنكر ، فما يتفق مع أهوائهم فهو المعروف وما لا يعرفونه وما لا يفهمونه وما لا يوافقون عليه فهو المنكر ، ومفروض عليهم تغييره باليد ، وبما تحمله اليد من سلاح ، وباللسان بالدعوة وأفانين الافتراء والكذب على ورسوله . وحتى يضموا اليهم الأغلبية الصامتة فهى أيضا مفروض عليها الانكار والتغيير بالقلب ،مع أن القلب لا يستطيع إن يُحدث تغييرا . بالاضافة الى شريعة التسلط والارهاب فقد ترسخت شريعة الانحلال بالفواحش بنوعيها الطبيعى و الشّاذ . وفى رحاب العقيدة الايمانية ( الشفاعة ) وضمان دخولهم الجنة مهما إرتكبوا من إثم وعدوان وفواحش إنطلق العصر العباسى الثانى فى حمأة الرذيلة ، وبنفس الحماس الذى إنتشر فيه التزمت الحنبلى و التدين السطحى بمزاعم التقوى والتوبة والنقاب والازدحام فى مجالس الوعظ والقصص الدينى .

2 ـ هنا لا ننسى أن نوعى الكبائر من الذنوب هما الفواحش الجنسية والبغى أو الظلم . وأن المتقين هم الذين إذا فعلوا فاحشة أو وقعوا فى الظلم بادروا بالتوبة: وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135)آل عمران )  لأن المتقى يخاف ربه إن عصى من عذاب يوم عظيم: ،( قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (13) الزمر) حيث لا مجال لأُمنيات الشفاعات ، فمن يعمل سُوءا لا بد أن يُجزى به ، ولن يجد له من ينصره أو يشفع فيه أمام الواحد القهّار :( لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً (123) النساء )

3 ـ كان سهلا نسيان هذا الرقى الحضارى الاسلامى فى العقيدة والسلوك طالما أتاح الدين السّنى الحنبلى للرعاع والعوام تصدر الحياة الدينية بمجرد أن يفترى أحدهم حديثا أو يدوّنه أو يتحدث به فى مجالس الوعظ . هنا نصل الى نوعية أخرى من التشريع الحنبلى وهى ( تجهيل العوام ) . بالحنبلية تم تجييش العوام للإعتداء والتسلط بزعم تغيير المنكر ، وتم الهبوط بأخلاقهم للحضيض بزعم دخولهم الجنة مهما وقعوا من فسوق وعصيان . ثم تم تعليمهم الجهل (الدينى ) والهبوط بعقلياتهم الى أحط مستوى بالاعتقاد فى المنامات وتقديس القبور وتصديق أى خُرافة تُقال ونشر الثقافة السمعية التى تُسارع بالتصديق والايمان بكل ما تسمعه الإذن دون التثبت وطلب البرهان .

ومن عجب أن يأمر رب العزة بالتثبت فى أمور الدنيا فيقول جل وعلا : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (6)الحجرات). ويأتى فاسقون بأخبار كاذبة وأحاديث كاذبة ملفقة بإسناد مُضحك يسرى عبر القرون من وقتهم حتى عصر النبوة. ثم بدلا من إعتبارهم فسقة مستحقين للإحتقار فإنهم يصبحون أئمة ، ولا يزالون ، بدليل الرُّعب الذى يرتسم على ملامح الرعاع والعوام ودعاة العوام حين ننقد آلهتهم السنية الحنبلية من البخارى الى ابن حنبل ومسلم وغيرهم .

4 ـ كان سهلا نجاح التطبيق للدين الحنبلى لأنه يُلبى أهواء العوام . من الصعب أن تبنى وأن تُصلح ، ومن السهل أن تهدم وأن تُغوى . هناك من الأميين الذين لا يقرأون ولا يكتبون ولكن لهم عقولا يستنيرون بها . قد يكون احدهم جاهلا بالقراءة والكتابة ولكنه عاقل يصونه عقله من تصديق الخرافات والأكاذيب . هذا ( الأمى ) العاقل خير ألف مرة من حاصل على شهادة أزهرية تعلم فيها (الجهل الدينى ) فيما يعرف بالأحاديث واللاهوت الدينى القائم على الخرافات والأكاذيب . وهذه لا تزال مُشكلتنا فى التعليم الدينى فى مصر لدى المحمديين والمسيحيين على السواء . مشكلة ( تعليم الجهل ) . أو الهبوط بالعقل الانسانى الى حضيض الجهل بزعم أنه (علم دينى مقدس ). وهذا ما فعله الحنابلة فى عوام العصر العباسى الثانى ، وهذا ما يفعله الآن فى عصرنا الحنابلة الوهابيون ، فالوهابيون هم حنابلة هذا العصر .

ثانيا : العوام هم جنود التطبيق الحنبلى

1 ـ  فى عصر الخليفة المأمون كان الشاعر العتابى يسير فى شوارع بغداد، فدخل السوق وهو يأكل الطعام ،وكان ذلك يخالف المروءة أو" الاتيكيت"لدى ارباب الطبقة العليا،ولذلك احتج عليه صديقه قائلا "أتأكل الطعام فى السوق ويراك الناس؟" فقال له العتابى ساخرا:"وهل اولئك ناس؟انهم بقر" ، فاحتج صديق العتابى وزمجر،فقال له العتابى:"سأريك ان كانوا ناسا أم بقرا" ثم صعد الى الربوة ونادى فى الناس"ياقوم هلموا أحدثكم عن رسول الله(صلى الله عليه وسلم )،فتدافع اليه الناس واجتمعوا حوله،واقبل يحدثهم يقول:روى فلان عن فلان عن فلان ان رسول الله.(صلى الله عليه وسلم)قال.وظل يخرج من حديث الى أخر وقد تعلقت به العقول والقلوب والعيون، وسيطر على المستمعين ،اذا حرك يده يمينا تحركت رؤوسهم يمينا،واذا أومأ برأسه يسارا التفتوا يسارا ،الى أن قال لهم ...وروى غير واحد(اى أكثر من واحد)أنه صلى الله عليه وسلم قال :اذا بلغ لسان احدكم ارنبة انفه دخل الجنة) وسكت...فاذا بكل واحد من المستمعين يخرج لسانه يحاول ان يصل به الى ٍانفه،واصبح منظرهم جميعا مضحكا،فالتفت العتابى الى صديقه ساخرا وقال: ألم اقل لك انهم بقر؟ ) .

2 ـ ذكرنا هذه الحادثة فى موضوع الاسناد ، ونستشهد بها هنا للتعرف على من أسماهم الشاعر العتابى ( بقر ) وهم السوقة وأصحاب الحرف والمهن ، ومن أبنائهم من تعلم الحديث وصار يحمل مهنة والده وأسرته وهو شيخ للحديث ، وسافر من بلده الى الحواضر المشهورة فظل يحمل اسم بلده الأصلى سجستان ( السجستانى ) بخارى ( البخارى ) نبسابور ( مسلم النيسابورى ) ترمذ ( الترمذى ) طبرية ( الطبرى )..الخ . كل منهم يزعم أنه لقى فلانا من العلماء فى بعداد أو الكوفة أو البصرة أو المدينة أو اليمن أو القاهرة . ولم تكن هناك معاهد علمية تعطى شهادات. ولم يكن هناك من يتحقق من زعم فلان أنه لقى فلانا أو سمع منه . وهذا الفلان الذى يقصدونه شيخا يُملى عليهم أحاديث يزعم أنه سمعها من فلان عن فلان عبر القرون حتى النبى ، وهو فى الواقع يمليهم أحاديث من تأليفه ، وينشرها ويسجلها أولئك التلاميذ على أنها ( دين ) . هؤلاء التلاميذ هم الطبقة الأعلى من العوام ، الذين ترقوا على مستوى آبائهم من العوام الموصوفين بالبقر . أما الشيوخ مصدر تلك الأكاذيب فهم القادة للعوام ، وهم أيضا بحكم مستنواهم العلمى وتخصصهم فى الكذب لا يزالون فى طبقة العوام . فليس (الحديث ) علما على الاطلاق . هو أكاذيب وخرافات.

3 ـ ويقال فى ترجمة ( على بن عاصم ت 201 ) الذى عاصر العتابى وخلافة المأمون ، إنه كان يجتمع عنده أكثر من 30 ألفا من الطلبة ، وكان يجلس على سطح لتراه هذه الألوف المؤلفة .( تاريخ بغداد 11 / 103 ـ المنتظم 10 / 103  ) هنا تقدير لعدد الطلبة لشيخ واحد فى مدينة واحدة ، وهذا يدلنا على إنخراط مئات الألوف من الطلبة علىسماع مئات الشيوخ فى عشرات المدن ، وهذا فى عصر المأمون . وبالتالى نتخيل أضعاف أضعاف أضعاف هذا العدد فى عهد الخليقة المتوكل الذى فرض الحنبلية دينا ، وشجع ملايين العوام على الانخراط فى السنة الحنبلية ، وأن يكون لهم بها نفوذ دينى ، وقد كانوا من قبل من المهمشين الذين لا يأبه بهم أحد . وفى وضعهم الجديد كانوا يحتاجون الى رمز ينتسبون اليه وزعيم يحملون إسمه فوجدوه فى شخصية ابن حنبل بعد موت ابن حنبل .

ثالثا : جنازة ابن حنبل أكبر مظاهرة للعوام وجعلوها أكبر جنازة فى تاريخ المسلمين :

1 ـ أفرد إبن الجوزى فى مناقب ابن حنبل أبوابا تتحدث عن جنازته . فى باب 83 ( فى ذكر الجمع الذين صلّوا عليه ) قال أحدهم ( دفنا أحمد بن حنبل يوم الجمعة بعد العصر سنة إحدى وأربعين ( بعد المائة ) ، وما رأيت جمعا أكبر من ذلك ). وقال عبد الوهاب الوراق : ( ما بلغنا ان جمعا كان فى الجاهلية والاسلام مثله . حتى بلغنا أن الموضع مُسح وحُزّر على التصحيح فإذا هو نحو من ألف ألف ، وحزرنا على السور نحوا من ستين ألف إمرأة ، وفتح الناس أبواب المنازل فى الشوارع والدروب ينادون : من أراد الوضوء . وكثر ما غشترى الناس من الماء ..) . وأخبر بنان القصبانى أنه حضر جنازة أحمد بن حنبل مع من حضر (.. فكانت الصفوف من الميدان الى قنطرة باب القطيعة . وحُزّر من حضرها من الرجال ثمان مائة ألف ، ومن النساء ستون ألف إمرأة . ) . وقال موسى بن هارون ( يقال أن أحمد بن حنبل لما مات مُسحت الأمكنة المبسوطة التى وقف الناس للصلاة عليها ، فحُزّر مقادير الناس بالمساحة على التقدير ستمائة ألف وأكثر ، سوى ما كان فى الأطراف والحوالى والسطوح والمواضع المتفرقة أكثر من ألف ألف . ). وبعث الخليفة المتوكل عشرين شخصا لتقدير عدد الناس فقدروا العدد بألف ألف وثلثمائة ألف سوى من كان فى السُّفن . وفى رواية أخرى مليون ونصف المليون . وافتخر عبد الله بن أحمد بن حنبل فزعم أن أباه قال ( قولوا لأهل البدع بيننا وبينكم يوم الجنائز )

2 ـ وفعلا فإن المعتزلة ( أهل البدع ) إرتعبوا من هذا العدد الذى لا مثيل له لأنه يعتبر إستفتاءا شعبيا يؤكد إنحياز الأغلبية لما اصبح يعرف بالحنابلة ، والأغلبية طبعا هى العوام الذين أتاح لهم المتوكل حرية التعبير وأتاح لهم حديث تغيير المنكر حرية التسلط . لذا يضع ابن الجوزى الباب رقم 84 بعنوان ( فى ذكر ما جرى عند حمل جنازته من مدح السُّنّة وذمّ أهل البدع ) . يقول فيه : ( صلُّوا على أحمد بن حنبل فى المصلى ، وظهر اللعن على الكرابيسى ( شيخ المعتزلة وقتها ) ..فاُمر بلزوم بيته حتى مات ).! . وقال أحدهم : ( شهدت جنازة أحمد بن حنبل وفيها بشر كثير ، والكرابيسى يُلعن لعنا كثيرا بأصوات عالية ، والمريسى أيضا ) . وكان من حُسن حظ المريسى أنه مات من قبل . ويقول عبد الوهاب الوراق : ( أظهر الناس فى جنازة أحمد بن حنبل السُّنّة والطعن على أهل البدع . فسرّ الله المسلمين بذلك على ما عندهم من المصيبة لما رأوه من العزّ وعلو الاسلام ، وكبت الله أهل البدع والزيغ والضلالة . ) نراه هنا يحترع على عادة الحنابلة الاها متحيزا للحنابلة عدوا لخصومهم ، ويخترع إسلاما لا يتسع لغير الحنابلة . ونواصل نقل ما يقول هذا الرجل : (  ولزم بعض الناس القبر ، وباتوا عنده ، وجعل النساء يأتين فأرسل السلطان أصحاب المسالح فلزمزت ذلك الموضع حتى منعوهم مخافة الفتنة ). وفى الباب رقم 85 وتحت عنوان ( فى ذكر إزدحام الناس على قبره بعد دفنه ) يقول ابن الجوزى عن أحدهم أنه حضر جنازة أحمد بن حنبل ومكث طول الاسبوع يحاول الوصول الى قبره فلم يصل بسبب إزدحام الناس عليه . ووصل اليه بعد اسبوع .

3 ـ قد يُقال أن ابن الجوزى يُبالغ على عادته فى مناقب ابن حنبل ، ولكنه هنا لا يحكى منامات أو يروى أحاديث ، بل يروى تاريخا يُمكن تصديقه فى ضوء حاجة العوام والرعاع الى رمز دينى يلتفّون حوله ، ومن الأفضل أن يكون هذا الرمز ميّتا مدفونا ليُقدسوا قبره ، وليؤلفوا حوله ما تشاؤه أهواؤهم من أساطير ومن تشريعات ومؤلفات . وكان ابن حنبل هو الشخص المناسب بعد موته . لم يكن صالحا لهذه المهمة فى حياته بسبب جُبنه وهروبه وإعتزاله خوفا من السلطان حتى بعد أن تولى الخليفة المتوكل . ولم يرد فى مناقب ابن حنبل التى كتبها ابن الجوزى وغيره أن الناس إزدحموا على بيته بعشرات الألوف كما كانوا يفعلون مع غيره لأنه ببساطة إعتكف وإعتزل ، بل وتكلم ابن الجوزى فى مناقبه عن إعتكافه وإيثاره ( خُمول الذكر ) تاركا غيره من شيوخ الحديث يتوافدون على قصر المتوكل ، ويتلقون منه العطاء ويسافرون الى الآفاق ينشرون ( السنة ) حسبما قال ابن الجوزى فى تاريخ المنتظم. ابن حنبل بعد موته أصبح الرمز المناسب ، لذا تحولت جنازته الى مظاهرة لاعلاء دين العوام الأرضى ، باعتباره دين الأغلبية أو كما يقولون عنه حتى الآن ( أهل السنة والجماعة ).

4 ـ ومن الطريف أن المؤرخ المسعودى لم يتعرض لمحنة ابن حنبل فى عصر المأمون والمعتصم ، بل إنه فى سطر واحد أشار بسرعة الى مقتل أحمد بن نصر الخزاعى فقال : ( وفى سنة إحدى وثلاثين ومائتين قتل الواثق أحمد بن نصر الخزاعى فى المحنة على القرآن ) . أى أن المسعودى لم ير فى تاريخ ابن حنبل ما يستحق التأريخ ، إلّا إن المسعودى ذكر موت ابن حنبل ورأى أن جنازة ابن حنبل خبرا يستحق التوقف معه . يقول عنها: ( وحضر جنازته خلق من الناس لم يٌر مثل ذلك اليوم ، والاجتماع فى جنازة من سلف من قبله. ). ويتكلم عن العوام الذين حضروا الجنازة مندهشا مما قالوه : (وكان للعامة فيه كلام كثير جرى بينهم بالعكس والضد فى الأمور ) فالمسعودى ـ وهو مؤرخ وجغرافى مثقف وأقرب للمعتزلة ـ يعتبر قول العوام شيئا يخالف المعقول . ويستشهد بما نادوا به فى الجنازة التى حولوها الى مظاهرة : ( منها أن رجلا منهم كان ينادى : إلعنوا الواقف عند الشبهات  )ويعلق المسعودى فيقول : ( وهذا بالضد عما جاء عن صاحب الشريعة عليه السلام ) أى يخالف السُّنة الحقيقية للرسول . ويقول المسعودى : ( وكان عظيم من عظمائهم ومقدم فيهم يقف موقفا بعد موقف أمام الجنازة وينادى بأعلى صوته : وأظلمت الدنيا لفقد محمد ..   وأظلمت الدنيا لفقد ابن حنبل ) يقول المسعودى : ( يريد أن الدنيا أظلمت عن وفاة محمد عليه السلام ، وأنها أظلمت عند موت ابن حنبل كظلمتها عند كوت الرسول صلى الله عليه وسلم )( مروج الذهب 2 / 283 ، 404 ).  المسعودى يرى كلام العوام وقادتهم من اللعن ومساواة ابن حنبل بالرسول يأتى بالضدّ للاسلام ، ومع ذلك فلم يتهمهم بالكفر ، وعبّر عن رأيه بدبلوماسية . هذا بينما نجد رواة الحنابلة ومؤرخيهم كابن الجوزى يحتكرون الدين لهم ويكفّرون خصومهم ويلعنونهم فى الوقت الذى يرفعون فيه شيخهم ابن حنبل فوق مستوى الالوهية كما سبق التعرض له . والذى لم يفطن اليه المسعودى أننا بإزاء دين أرضى جديد يعبر عن العوام . الطريف أن المسعودى يشير فى نفس الصفحة الى أشهر من مات من المعتزلة ، ويصفهم باللقب الذى إشتهروا به وهو ( اهل العدل ) فيقول : ( وفى السنة التى مات فيها ابن حنبل كانت وفاة محمد بن عبد الله بن محمد الاسكافى ، وكان من أهل النظر والبحث ومن عليه أهل العدل ) أهل العدل يعنى المعتزلة . ويقول ( وكانت وفاة جغقر بن المبشر سنة أريغ وثلاثين ومائتين ، وكان من كبار أهل العدلية وأهل الديانة من البغداديين ) يقصد المعتزلة . ويستطرد فى ذكر من مات من المعتزلة    بنفس الأسلوب . هؤلاء المعتزلة هم الموصوفون عند الحنابلة بالمبتدعة والضلال والكفر. 

الخاتمة

1 ـ نحن الآن أمام جيش من الأغلبية ( العوام )، جنوده ممن سماهم الشاعر العتابى ( البقر ) وقادتهم المباشرون ممن تعلم الجهل على أنه دين الاسلام ، والقادة الكبار هم المتخصصون فى إختراع الأكاذيب فى شكل احاديث ومنامات .

2 ـ هو تقسيم يشبه فى عصرنا ( الأمن المركزى ) فى مصر ، حيث يتم تكوين جيش الأمن المركزى من المجندين الأميين الريفيين الغوغاء الجهلاء ، ثم يقوم بقيادتهم ضباط الشرطة الذين يتلقون الأوامر من كبار القادة . تصدر الأوامر من القيادات فيبلغها الضباط للجنود بالضرب فيقوم ( البقر ) بالتنفيذ حتى لو كان سحل الفتيات وتعريتهن فى الشوارع . نفس التقسيم فى مظاهرات الاخوان والسلفيين . تصدر الأوامر من القيادة العليا ويقوم الناشطون فى الشارع بتنفيذها عبر قطيع من البقر الذين يفعلون ما يؤمرون بفعله وهم مسلوبو العقل والضمير لأنه تمت برمجة عقولهم على أن هذا هو الاسلام ، وأن خصومهم فى الفكر وفى السياسة هم أعداء الاسلام .

3  ـ تخيل أن تتسلح هذه الغوغاء وأن تنطلق لتفعيل دينها على جثث خصومهم من المثقفين ( المعتزلة ) وأهل الكتاب والشيعة . تخيل هذا القطيع وهم يمارسون الاعتداء والتسلط بحديث تغيير المنكر باليد والسلاح ، وهم تحت مظلة أحاديث الشفاعة تضمن لهم الجنة بما يفعلون وما يرتكبون . هذا ما كان يحدث فى العصر العباسى الثانى ، والذى سنعيش معه فى المقالات القادمة لنرى الحضيض الذى وصلنا به الآن حين أعادتنا الوهابية الحنبلية الى أحطّ عصور السلف .

 

الفصل الرابع : ( المتوكل ) أول خليفة عباسى حنبلى 

أولا : السبب فى نقمة المتوكل على المعتزلة  

1 ـ مات الخليفة الواثق فى العام التالى لمقتل أحمد بن نصر ، اى عام 232 . ويروى الطبرى أنّ الواثق مات بمرض الاستسقاء ( تاريخ الطبرى 9 / 150 ) بينما يفترى إبن الجوزى قصة طويلة عن شيوخة الحنبلية الناقمين على الواثق يزعمون فيها ان الواثق مات فجأة من وصفة طبية لعلاج الضعف الجنسى (المنتظم 11 / 186 : 188 ). وقلنا إن ابن الجوزى لم يكن أمينا فى تاريخه ، إذ أخضعه لرؤيته الحنبلية فى مدح الحنابلة وتشويه خصومهم .

2 ـ تركز النفوذ فى خلافة الواثق فى إثنين من قادة المعتزلة ، تنافسا فيما بينهما ، وهما القاضى أحمد بن أبى دواد ، والوزير محمد بن الزيات،  هذا فى الوقت الذى عانى فيه ولى العهد ( المتوكل ) من ابن الزيات فزاد حقده عليه ، وإنتقم منه سريعا . وكان المتوكل مدينا بجميل لأبن أبى داود فثبته فى مكانه ، إلا إن نفوذ الحنابلة حمل المتوكل على الايقاع بإبن أبى داود بعدها بخمس سنوات . نقول ( الحنابلة ) تعبيرا عن التيار السّنى المتشدد والذى حمل لقب الحنابلة بعد عصر المتوكل وموت ابن حنبل .

ثانيا : المتوكل يأمر بتعذيب وقتل ابن الزيات وينتقم من أعمدة دولة الواثق

1 ـ فى خلافة الواثق عمل ابن الزيات على الوقيعة بين الواثق واخيه (جعفر ) ولى العهد الذى تولى الخلافة بلقب ( المتوكل ). وأوعز إبن الزيات للواثق ان يعزل أخاه المتوكل ويولى إبنه مكانه . وراقت الفكرة للواثق ، وكان من خطط تنفيذها تحقير ولى العهد لتسقط هيبته فى البلاط ولدى الحاشية . وتولى هذا الأمر ابن الزيات بجدارة .أحاط ابن الزيات ولى العهد بالجواسيس يحصون عليه أنفاسه، منهم عمر بن فرج الرخجى . وصار بينهم كالسجين ، وحاول جعفر ( المتوكل ) أن يتصل بأخيه الخليفة الواثق فلم يفده ذلك شيئا ، فاضطر للذهاب صاغرا الى الوزير خصمه اللدود ابن الزيات ، فعامله ابن الزيات باحتقار شديد . دخل عليه يسأله أن يكلم أخاه الخليفة ان يرضى عنه،(..فلما دخل عليه مكث واقفًا بين يديه مليًا ، وابن الزيات متشاغل عنه لا ينظر اليه و لا يكلمه ، ثم أشار إليه أن اقعد فقعد ، فلمافرغ من نظره في الكتب التفت إليه كالمتهدد له، فقال له‏:‏ ما جاء بك ؟ قال‏:‏ جئت أسأل أمير المؤمنين الرضا عني ) فنظر ابن الزيات الى الحاضرين فقال (‏‏ انظروا إلى هذا .! يُغضب أخاه ويسألني أن أسترضيه‏!‏ اذهب فإنك إذا صلحت رضي عنك ) . واحتاج ولى العهد (المتوكل) الى راتبه ونفقاته فأتى عمربن فرج الرخجى مسئول الخزانة يسأله أن يختم له صكه ليقبض أرزاقه، فأخذ عمر بن فرج الرخجى الصك فرمى به إلى صحن المسجد ‏.‏  وافتخر ابن الزيات بما فعله بولى العهد ، وكتب بذلك للخليفة الواثق‏:‏( أتاني جعفر بن المعتصم يسألني أن أسأل أمير المؤمنين الرضا عنه في زي المخنثين له شعر قفا ) أى قد طال شعره حتى غطى قفاه .( ‏فكتب إليه الواثق‏:‏ ابعث إليه وأحضره. ومُر من يجز شعره ، واضرب به وجهه . ففعل ذلك ‏.‏) .

2 ـ وبادر المتوكل بالإنتقام من غريمه ابن الزيات بعد ثلاثة أشهر من توليه الخلافة . فى 7 صفر 232 أمر المتوكل بالقبض على ابن الزيات وتعذيبه حتى الموت فى ( التنُّور )، بنفس الطريقة التى كان بها ابن الزيات يعاقب ضحاياه. بدأ بالقبض عليه ومصادرة أمواله ومتاعه وجواريه وغلمانه وضياعه وضياع أهل بيته . ثم أمر بتعذيبه . تقول الرواية فى الطبرى ( وبعث إلى داره فأخذ جميع ما فيها من متاع وجوار وغلمان ودواب وأمر أحمد بن أبي خالد بقبض ضياعه وضياع أهل بيته.. ثم قُيّد فامتنع عن الطعام ، وكثر بكاؤه ، ثم سوهر ومنع من النوم بمسلة ينخس بها.  ثم أمر بتنور من حديد فيه مسامير إلى داخله ، فأدخل فيه ، وهو الذي كان صنعه ليعذب به من يطالب بأمر ‏.‏ فجعل يقول لنفسه‏:‏ يا محمد بن عبد الملك لم تقنعك النعمة والدواب الفارهة والدار النظيفة وأنت في عافية حتى طلبت الوزارة ذُق ما عملت بنفسك‏!‏ وكان لا يزيد على التشهد وذكر الله تعالى . ..وكان يقول‏:‏ الرحمة خور في الطبيعة ما رحمت شيئًا قط ‏.‏ فلما وضع في التنور قال‏:‏ ارحموني قالوا له‏:‏ وهل رحمت شيئًا قط ‏.‏ ؟ .) ومات تحت التعذيب (  مات في التنور، .. ولما مات طرح على باب، فغسل عليه وحفر له ، ولم يُعمّق . فذكر أن الكلاب نبشته ، فأكلت لحمه ) ( الطبرى 9 / 156 : 161 )

3 ـ وفى نفس العام تتبع المتوكل أعداءه أصحاب النفوذ فى دولة أخيه ، يصادرهم ويسجنهم . فى شهر رمضان من نفس العام إنتقم المتوكل من صاحب الخزانة ( عمر بن فرج الرخجى ) الذى رمى الصّك فى وجهه من قبل وكان يتجسس عليه لصالح ابن الزيات . فإعتقله ووضعه فى الحديد وصادر أمواله.( فوجد في منزله خمسة عشر ألف درهم. وقبض جواريه وفرشه . وقيد بثلاثين رطلًا من الحديد. وأحضر مولاه نصر ، فحمل ثلاثين ألف دينار . وحمل نصر من مال نفسه أربعة عشر ألف دينار ، وأصيب له في الأهواز أربعون ألف دينار ، ولأخيه محمد بن الفرج مائة ألف دينار وخمسون ألف دينار . وحمل من داره من المتاع على ستة عشر بعيرًا فرش فاخرة ، ومن الجوهر ما قيمته أربعون ألف دينار. ، وألبس جبة صوف ، وقُّيد ، وأخذ عياله . ففتشوا ، فكن مائة جارية ، ثم صولح على  عشرة آلاف ألف درهم )

وفي نفس العام غضب المتوكل على أبي الوزير أحمد بن أبي خالد ، وأمر بمحاسبته فحمل نحوًا من ستين ومائة ألف دينار وبدرتين دراهم ، وحليًا . وأخذ له من متاع مصر اثنين وستين سفطًا واثنين وثلاثين غلاما وفرشا كثيرا . وأخذ أصحابه فصالحوا على سبعين ألف دينار .

وأمر المتوكل بسليمان بن إبراهيم بن الجنيد فضرب بالأعمدة حتى أقر بتسعين ألف دينار، فوجّه معه مباركًا المغربي إلى بغداد، حتى استخرجها من منزله . وجيء به فحبس .( الطبرى 9 / 161 : 162 ).

4 ـ بعد قتل ابن الزيات وفى عام 234 أعلن المتوكل إنحيازه لمنهج أهل الحديث المتشدّد ، وهو الذى صار معروفا بعدها بالحنبلية.)، وكافأ الحنابلة الخليفة المتوكل بدعايات من المنامات شجعته على المزيد من الانحياز( للحنبلة ).

5 ـ ولم يتعرض المتوكل لابن أبى داود . إذ أنه بموت الواثق حاول كبار الجُند تولية الطفل ابن الواثق ، ولكن رفض القاضى أحمد بن أبى داود ، الذى استدعى ولى العهد ( جعفر ) وأقنعهم بأن يتولى الخلافة ، وبذلك تولى المتوكل الخلافة بتدخل أحمد بن داود ، فحفظ  المتوكل جميل أحمد بن أبى داود الى حين من الزمان . ولكن نفوذ الحنابلة جعل المتوكل يعصف بان أبى داود ، فجاءت نكبته هو وإبنه محمد عام 237 ـ

6 ـ وشهد هذا العام 237 نكبة شيخ المعتزلة ابن أبى داود وإنزال جثة أحمد بن نصر ودفنها وأطلاق المتوكل سراح كل المساجين المتهمين بعدم القول بخلق القرآن . ( المنتظم 11 / 249 : 251 ).

كما شهد عام 236 هدم قبر الحسين . يقول الطبرى : ( أمر المتوكل بهدم قبر الحسين بن علي ، وهدم ما حوله من المنازل والدور، وأن يحرث ويبذر ويسقى موضع قبره ، وأن يمنع الناس من إتيانه . ) وهددوا الناس من المجىء للمكان ( فذكر ان عامل صاحب الشرطة نادى في الناحية من وجدناه عند قبره بعد ثلاثة بعثنا به إلى المطبق . فهرب الناس ، وامتنعوا من المصير إليه . وحرث ذلك الموضع وزرع ما حواليه. ) ( الطبرى 9 / 185 ).

ثالثا : موقع المتوكل فى العصر العباسى

1 ـ  المتوكل (232 : 247 هجرية ) ( 847 ـ 861 م) وهو الذى يبدأ به العصر العباسى الثانى، ( 847 ـ 1258 م ) عصر ضعف الدولة العباسية كنظام سياسى ولكن تبدأ قوة الخلافة العباسية الروحية ، لذا إحتاجت لكهنوت دينى قوى تعزّز به ضعف الخلفاء سياسيا ، فكانت الحنبلية هى ذلك الكهنوت المناسب ، وبه سيطر الحنابلة على الشارع العباسى . وإستفاد الحنابلة من ضعف الخلفاء العباسيين وحاجتهم الى كهنوت قوى فأصبح لهم نفوذ قوى فى الشارع العباسى . وكان المتوكل بسياسته فى التعصب ( الحنبلى ) قائدا لهم . والعباسيون والحنابلة صنعوا لهم ضحايا فى الداخل يوجهون نحوهم سخط العوام ، ليتسلّى عوام الحنابلة باضطهادهم ، لذا بدأ المتوكل بإضطهاد المعتزلة والنصارى واليهود ، بل وشيوخ التصوف فى بداية ظهور دين التصوف .

ولأن الصراع الحربى كان مستعرا بين العباسيين والبيزنطيين فقد تم تكثيف الصبغة الدينية على هذا الصراع ( الدنيوى ) فأصبح بالحنبلية يعنى صراعا بين ( أمة محمد ) و ( أمة المسيح ) . وعكست هذا أحاديث الشفاعة وغيرها من أحاديث تنشر مصطلح ( امة محمد ) التى سيشفع فيها ( محمد )، مع أحاديث أخرى تشرّع إضطهاد ( أهل الكتاب ). وتركز فى الفقه السّنى تقسيم العالم الى معسكرين : معسكر الاسلام والسلام ، ومعسكر الحرب ، أو ( دار السلام ) و( دار الحرب ) ، وأصبح من مصطلحات الفقه السّنى ( الحربى ) أى الذى ينتمى الى المعسكر الآخر ، تمييزا له عن ( الذمى ) أى المسيحى أو اليهودى من السكان داخل معسكر الاسلام والسلام بزعمهم . بهذا يتميز العصر العباسى الثانى عن الأول ، وكان المتوكل هو رأس هذا العصر الثانى .

2 ـ والمتوكل أول خليفة يقتله قوّاده الأتراك ، وبعدها أصبحت عادة سيئة للقواد التراك فى التحكم فى الخلافاء العباسيين وعزلهم وقتلهم .  وهو أول خليفة يسرف فى إقتناء الجوارى،وكان أكثرهم اسرافا فى الجنس. قال عنه المسعودى فى ( مروج الذهب ) ( إنه كان له أربعة آلاف سرية ( أى عشيقة محظية مملوكة ) وطئهن كلهن ) ( تاريخ المسعودى 2 / 418 ) . هذا مع اشتهاره بتفضيل إثنتين من جواريه أولهما ( قبيحة ) اجمل نساء عصرها ـ وهى أم ابنه الخليفة المعتز ـ و ( محبوبة ) المغنية.

3 ـ و لكن تميز المتوكل بالتعصب على كل المستويات . فهو الذى تعصب للحنابلة ضد المعتزلة وهو الذى إضطهد من أجل الحنابلة أهل الكتاب ، فأرغم النصارى و اليهود على لبس زى معين للتحقير ، ومن أجل الحنابلة اضطهد الشيعة وهدم قبر الحسين ، وهو الذى سلّط الحنابلة على الجميع .

وأدمن التعصب حتى فى سياسته ، فتعصب ضد الفرس والعرب وأقصاهم من الجندية وأحل محلهم الأتراك . بل تعصب لابنه الأصغر المعتز ضد ابنه الأكبر ( المنتصر ) ولى العهد بسبب حظوة  جاريته (قبيحة) أم المعتز عنده ، فحاول نزع ولاية العهد من ابنه الأكبر ( المنتصر ) ليولى ابنه المعتز بن قبيحة، فتآمر ابنه المنتصر عليه و قتله ليلة الأربعاء الرابع من شوال عام 247 ، بمساعدة بعض القادة الأتراك ، وقتلوا معه وزيره الفتح بن خاقان ـ وكانا يشربان الخمر معا.

3 ـ وتولى الابن القاتل ( المنتصر) الخلافة ، وسرعان ما مات مسموما بيد الأتراك بعد ستة أشهر من خلافته ، عام 248 .وولى القادة الأتراك مكانه ( المستعين ) عام 248 ، وبتآمر قبيحة  أرغم القادة الأتراك المستعين على التنازل عام 252 ، وولوا الخليفة المعتز . وكانت ( قبيحة ) هى المتحكمة فى خلافة ابنها المعتز ، و قتل القادة الأتراك الخليفة المستقيل المستعين فى نفس العام ، ثم خلعوا الخليفة المعتز وقتلوه عام 255، وصادروا جواهرقبيحة ام المعتز ، وكانت تملأ سردابا ، وسجنوها ، واغتصبها القائد التركى صالح بن وصيف . وهربت الى مكة تستجير بالكعبة ..!! يقول الطبرى عن الفصل الأخير فى محنة قبيحة بعد قتل ابنها الخليفة المعتز بيد الأتراك :( ولم تزل قبيحة مقيمة إلى أن شخص الناس إلى مكة في هذه السنة فسيرت إليها مع رجاء الربابي ووحش مولى المهتدي.  فذكر عمن سمعها في طريقها وهي تدعو الله على صالح بن وصيف بصوت عال وتقول : اللهم أخز صالح بن وصيف كما هتك ستري وقتل ولدي وبدد شملي وأخذ مالي وغربني عن بلدي وركب الفاحشة مني ) .. وولى القادة الأتراك الخليفة المهتدى الذى حاول أن يسير بالعدل فقتلوه سريعا بعد خلافة لم تكمل عاما واحدا ، قتلوه عام 256 ، وهو العام الذى مات فيه البخارى .وهذا هو مصير ورثة المتوكل وضحايا سياسته فى تجنيد وتجييش الأتراك ، قتلوه وقتلوا الخلفاء من ذريته . وفى هذا العصرالفاسد المنحل تأسّس الدين السنى الحنبلى وتسيّد ، وعاش أئمة أهل السنة من البخارى ومسلم وابن حنبل وابن راهويه ..ووو,

 رابعا : ونتتبع إضطهاد المتوكل لأهل الكتب مما جاء فى تاريخ الطبرى :

 1 ـ فى عام 235  : يقول الطبرى : ( وفي هذه السنة أمر المتوكل بأخذ النصارى وأهل الذمة كلهم بلبس الطيالسة العسلية والزنانير وركوب السروج بركب الخشب، وبتصيير كرتين على مؤخر السروج وبتصيير زرين على قلانس من لبس منهم قلنسوة مخالفة لون القلنسوة التي يلبسها المسلمون ، وبتصيير رقعتين على ما ظهر من لباس مماليكهم مخالف لونهما لون الثوب الظاهر الذي عليه ، وان تكون إحدى الرقعتين بين يديه عند صدره والاخرى منهما خلف ظهره ، وتكون كل واحدة من الرقعتين قدر اربع أصابع ولونهما عسليا . ومن لبس منهم عمامة فكذلك يكون لونها لون العسلي . ومن خرج من نسائهم فبرزت فلا تبرز إلا في إزار عسلي.  وأمر بأخذ مماليكهم بلبس الزنانير ، وبمنعهم لبس المناطق. وامر بهدم بيعهم المحدثة ، وبأخذ العشر من منازلهم . وإذا كان الموضع واسعا صُّير مسجدا . وإن كان لا يصلح أن يكون مسجدا صير فضاء . وامر أن يجعل على أبواب دورهم صور شياطين من خشب مسمورة تفريقا بين منازلهم وبين منازل المسلمين . ونهى ان يستعان بهم في الدواوين وأعمال السلطان التي يجري أحكامهم فيها على المسلمين . ونهى أن يتعلم أولادهم في كتاتيب المسلمين،  ولا يعلمهم مسلم . ونهى أن يظهروا في شعانينهم صليبا وان يشمعلوا في الطريق ، وأمر بتسوية قبورهم مع الأرض لئلا تشبه قبور المسلمين . ).

2 ـ  وفى عام 239 ( أمر المتوكل بأخذ أهل الذمة بلبس دراعتين عسليتين على الأقبية والدراريع في المحرم منها ثم أمره في صفر بالاقتصار في مراكبهم على ركوب البغال والحمر دون الخيل والبراذين . )

 3 ـ وفى عام 242 : ( قتل المتوكل عطاردا رجلا كان نصرانيا فأسلم فمكث مسلما سنين كثيرة ثم ارتد فاستتيب فأبى الرجوع الى الإسلام فضربت عنقه لليلتين خلتا من شوال وأحرق بباب العامة . )

4 ـ ولم ينج الطبيب الشهير بختيشوع من إضطهاد المتوكل . ففى عام  244 ( غضب المتوكل على بختيشوع ، وقبض ماله ، ونفاه إلى البحرين . )  وفى عام  245  (  ضُرب بختيشوع المتطبب مائة وخمسين مقرعة وأثقل بالحديد وحبس في المطبق في رجب. ) .

 5 ـ ونتذكر الفارق بين تكريم المتوكل للحنابلة الجهلة وعصفه بالعلماء الحقيقيين ، فقد أنّب المتوكل بعنف أحد الحنابلة لأنه إقترض عشرين ألف درهم من الطبيب بختيشوع ، وأعطى المتوكل هذا الحنبلى مائة ألف درهم مع تحذيره لو عاد يقترض من بختيشوع .( المنتظم 11 / 180 : 181 ). ثم بعدها كانت نكبة الطبيب العالم بختيشوع . .!!.

6 ـ هنا أيضا  نتذكر الفارق بين سماحة الخليفة المعتصم ( المعتزلى ) وتعصب إبنه الخليفة المتوكل ( الحنبلى ) . ولقد كان سلمويه بن بنان نصرانيا متمسكا بدينه، وقد عمل طبيبا للخليفة العباسي المعتصم ، وارتفع شأنه عنده حتي أن الورقة التي تحمل توقيع سلمويه كان الأمراء والقواد لا يستطيعون مخالفتها، وقد أمر الخليفة المعتصم بتولية إبراهيم ابن بنان شقيق سلمويه الإشراف علي خزائن الأموال للخلافة العباسية . وكان الخليفة المعتصم يقول عن طبيبه سلمويه : ( هذا عندي أكبر من قاضي القضاة لأن هذا يحكم في مالي وهذا يحكم في نفسي ، ونفسي أشرف من مالي. ) . وحين مرض سلمويه ذهب إليه المعتصم يزوره ، وبكي عنده وطلب مشورته. ولما مات سلمويه امتنع المعتصم من أكل الطعام يوم موته ، وأمر أهل القصر بحضور جنازته ، وأن يصلوا عليه بالشمع والبخور وأن يرتدوا جميعا زى النصارى بالكامل فنفذوا أوامره ،وأشرف بنفسه عليهم وهو يشاهد جنازة سلمويه . ومات المعتصم بعد موت صديقه سلمويه بعشرين شهرا . ومات المعتصم سنة 227 هـ. وتولى ابنه الواثق ، ومات الواثق فتولى المتوكل ( الحنبلى ) فإنقلب الحال .

وفى الفصول التالية سنشهد المزيد من حنبلة العوام والخلفاء .