رقم ( 3 )
الباب الثانى : أحمد بن حنبل

 

الباب الثانى : أحمد بن حنبل

الفصل الأول :   فتنة أحمد بن حنبل ( وموضوع خلق القرآن )

مقدمة

1 ـ ثار محمد النفس الزكية فى خلافة أبى جعفر المنصور ، فأمر المنصور بأعتقال أهل بيته عام 144 وكان منهم والد محمد النفس الزكية وأعمامه وكبار العلويين ، جىء بهم فى الحديد من المدينة الى الكوفة فى أسوأ حال ، وحبسهم فى سرداب مظلم ضيق تحت الارض يتبولون ويتغوطون حيث ينامون ويأكلون فأصابهم ورم أتى عليهم واحدا بعد الآخر . وبعد مقتل ابراهيم بن عبد الله الثائر مع اخيه محمد النفس الزكية ارسل ابو جعفر المنصور برأسه فألقيت عليهم فى السرداب ، فقال عبد الله والد ابراهيم للربيع وزير المنصور الذى حمل اليهم الراس: ( قل لصاحبك قد مضى من بؤسنا أيام ومن نعيمك أيام ، والملتقى يوم القيامة ).

مقالات متعلقة :

2 ـ نحن نتذكر الله جل وعلا فى المحن والشدائد . وأغلبنا يكفر بالله جل وعلا وباليوم الآخر حُبّا فى الدنيا وصراعا من أجل حُطامها الزائل . أولئك العلويون صارعوا بنى عمهم العباسيين من أجل الثروة والسلطة ، وحين إنهزموا تذكروا اليوم الآخر . أبو جعفر المنصور ـ شأن أى مستبد يوطّد دولته ـ كان يقف فى القمة على ( الحافّة ) ، يخشى من أى نسمة ريح أن تُسقطه من عليائه الى الحضيض ، لذا لا بد أن يكون جبارا بلا قلب وبلا عهد . وهكذا كان فى نكثه بالعهود وقتله من يشك فى ولائه حتى من داخل بيته . 

3 ـ المستبد يكفر بالله جل وعلا وباليوم الآخر ، خصوصا إذا أقام مُلكه على ايدلوجية دينية قائمة على إختراع الأحاديث مع قسوته فى التعامل مع الفقهاء لو شكّ فيهم . وقد قال المنصور:( الملوك تحتمل كل شىء إلا إفشاء السّر والتعرض للحُرمة والقدح فى الملك ). وأصعب أنواع ( القدح فى الملك ) هو الذى يأتى من رجال الكهنوت العاملين فى خدمة الدولة حين يزايدون عليها باسم الدين .  وورث الخلفاء الأقوياء عن المنصور هذا الحرص على الاستبداد، ومنهم المأمون الذى كان يقول نفس مقالة جده المنصور: :( الملوك تحتمل كل شىء إلا إفشاء السّر والتعرض للحُرمة والقدح فى الملك ).

4 ـ ورجال الكهنوت إذا أرادوا تقوية نفوذهم فى الدولة الدينية زايدوا عليها ، وتطرفوا فى تقديس أئمتهم ليتخذوا منهم منافسا للسلطان المتأله . وبهذا يكون الدين الأرضى مجال الصراع بين السلطان ومنافسيه من داخل الكهنوت الخاضع له .

أولا : المأمون و ( خلق القرآن )

1 ـ إلا إن المأمون تميّز عن سابقيه بأنه مثقف يحب العلم والجدل والمناظرات ومجالسة العلماء والفقهاء ورواة الحديث . ليس فى تاريخه أى إشارة للجوارى والنساء عدا زواجه الاسطورى ببنت الحسن بن سهل . تركز تاريخه حول إنشطته السياسية والحربية والثقافية والعلمية وعلاقاته بالفقهاء والمثقفين ومناظراته وندواته . وقد كان يحاول التوفيق بين شخصيته كمستبد وشخصيته الأخرى كباحث ومثقف يناظر الآخرين من موقع النّدّية . لذا كان يغلّف جبروته بكلام معسول يتحدث فيه عفوه وعدله كأن يقول :( أنا والله أستلذّ العفو حتى أخاف أن لا أؤجر عليه ، ولو عرف الناس مقدار محبتى للعفو لتقربوا لى بالذنوب. ) وهو نفسه الذى قَتَل فى شهر ذى القعدة سنة 200  يحيى بن عامر بن اسماعيل لأن  يحيى قال له‏:(يا‏ أمير الكافرين ).     ( المنتظم 10 / 65 ، 86 ).

2 ـ وبين جبروته كمستبد وشخصيته المثقفة التى تجادل بالعقل والدليل تقع معضلة ( خلق القرآن ) التى ألزم بها الفقهاء والمحدثين والقضاة ، بعد رفضهم لها ، فأصبحت برفضهم شأنا سياسيا يتصل بهيبة الدولة (التى هى المستبد )، فرجال دين المأمون لا بد أن يؤمنوا بما يقول فى الدين الوضعى الأرضى للدولة، فإذا عارضوه فيها فهو ( قدح فى الملك ) لا يغتفر .  أى كان ينتظر منهم أن يصيغوا له حديثا يؤيد رأيه فى خلق القرآن ، كما إعتادوا فعله فى صياغة آرائهم وأهوائهم فى شكل أحاديث ينسبونها للنبى عليه السلام . وكان ذلك مسموحا لهم فى العبادات والمعاملات بالاضافة الى تخصصهم فى صياغة أحاديث تؤيد دولة بنى العباس . ولأنهم رفضوا أن يصيغوا أحاديث تؤيد رأى المأمون فى خلق القرآن كرأى للكهنوت العباسى . بل عارضوا رأيه جهارا فكان لا بد للمأمون من تأديبهم لأنهم بهذا ( قدحوا فى ملكه ) ونالوا من هيبته .

3 ـ  يزيد فى حنق المأمون أنه تقرّب وتحبّب الى الفقهاء والمحدثين مع علمهم بجهلهم وفساد منهجهم وعلمه أيضا بنقائصهم . وربما أراد أن ينهض بهم ثقافيا ليكونوا كالمعتزلة فى العلم بالدين بالنظر والعقل وليس مجرد حبك أحاديث وحفظ متونهم وأسانيدها. أى أن تكون الأحاديث وسبكها فى خدمة الدولة وكهنوتها ، ولكن لا تمنع أصحابها من معرفة العلوم الحقيقية ، أى لا يريد من أهل الحديث أن يظلوا على جهلهم وإنغلاقهم . يؤيد هذا أن المأمون كان عالما بالأحاديث ومن رواتها كما كان أيضا مُطّلعا على الجهود العلمية لبيت الحكمة ، ويّحكى عنه أنه كان يشرح لضيوفه الفوائد الطبية لعشرات الأطعمة فى إستضافته لهم . والمأمون هو الخليفة الوحيد الذى خصّص يوم الثلاثاء فى قصره لمقابلة الفقهاء والمناظرة فى الفقه حسبما يروى المسعودى فى ( مروج الذهب : 2 / 340 ). وكان ينصب لهم الموائد الحافللة بالطعام والحجرات الوثيرة والعطور الغالية ، ثم يناظرهم كأحدهم بلا تجبّر ، فقد كان بثقافته وذكائه وإطلاعه قادرا على الفوز فى المناظرات معهم ، وهو بجهلهم أعجز عن الردّ عليه . وكان مجلسه معهم يستمر للمغرب.   4 ـ وفى النهاية لم يحصل منهم على طائل ، ظلوا بتقليدهم وتمسكهم بما يخترعون من أحاديث تخدم أهواءهم ، وكرهوا مكانة المعتزلة ومقالاتهم ، بل ورفضوا رأى المأمون فى ( خلق القرآن ) فى عام 212 حين أظهر هذا الرأى ودعاهم اليه . لم تكن لديهم حُجّة عقلية أو قرآنية يستندون اليها ، واستمر رفضهم ستة أعوام . والرفض فى مسألة دينية تتعلق بالرحمن والقرآن لا تعرف الوسطية ، فإما أن تكون على حق وإما أن تكون على باطل وكفر وضلال . أى برفضهم ومقاومتهم لرأى الخليفة يعنى إتهامه ضمنيا بالكفر . بل وقد صرّح بعضهم بذلك فى حملتهم المُضادة ضد المأمون ودعوته الى ( خلق القرآن ) . والمأمون كان مشهورا بالحلم ، ونادرا ما يغضب ، وإذا غضب فالرد بالسيف . ولقد اوصله أولئك الى مرحلة الغضب الهائل عام 218. وقتها كان المأمون فى الرقة ، ومنها بعث كتابا الى اسحاق بن ابراهيم نائبه فى بغداد بإجبارهم على القول بخلق القرآن ، متهما من يخالفه بالكفر والضلال .

ثانيا : تحليل كتاب المأمون :

1 ـ  وفى كتابه هذا الى نائبه فى بغداد ( إسحاقبن إبراهيم) يقول المأمون : (وقدعرفأميرالمؤمنين أنالجمهورالأعظموالسوادالأكبرمنحشوةالرعيةوسفلةالعامةممنلانظرلهولارويةولا استضاءةبنورالعلموبرهانهأهلجهالةباللهوعمىعنهوضلالةعنحقيقةدينهوقصورأنيقدروا اللهحققدرهويعرفوهكنهمعرفتهويفرقوابينهوبينخلقه ) . وقد قلنا من قبل أن أولئك الفقهاء وأصحاب الحديث كانوا من العوام الذين إحترفوا مهنة الكذب على النبى ، ليصبحوا بها علماء دين. ولكن المأمون فى غمرة غضبه يصفهم بأنهم حشوة الرعية وسفلة العوام ، وأنهم بلا نظر ولا عقل ولا علم ، وأنهم ضالون جهلاء ولا يعرفون الفارق بين الخالق والمخلوق .

2 ـ ثم أوضح سبب إتهامه لهم فقال : (وذلكأنهمساووابيناللهوبينماأنزلمن القرآن،  فأطبقواعلىأنهقديملميخلقهاللهويخترعه. ).

3 ـ ثم إستشهد المأمون على أن القرآن مخلوق بآيات قرآنية فقال :( وقدقالاللهتعالى"إناجعلناهقرآناًعربياً""الزخرف : 3" فكلماجعلهاللهفقدخلقه، كماقالاللهتعالى"وجعلالظلماتوالنور"الأنعام: 1. وقال"كذلكنقصعليكمنأنباءماقدسبق" "طه: 99 " فأخبرأنهقصصلأمورأحدثهابعدها، وقال "أحكمتآياتهثمفصلت" "هود: 1" واللهمحكمكتابهومفصلهفهوخالقهومبتدعه. ).

4 ـ ووصم المأمون أولئك المحدثين بأنهم انتسبوا للسّنة والجماعة إفتراءا ، وأنهم إحتكروا لأنفسهم الحقيقة ورموا غيرهم بالكفر ، وأنهم نشروا نحلتهم بين الناس. ووصف المأمون لهم فى وقته ينطبق الآن بالضبط على أصحاب الكهنوت السنى الحنبلى الوهابى فى عصرنا .!. فالمأمون يقول عنهم :( ثمانتسبواإلى السُّنة، وأظهرواأنهمأهلالحقوالجماعة، وأنمنسواهمأهلالباطلوالكفر، فاستطالوابذلك، وغروا بهالجهال، حتىمالقوممنأهلالسمتالكاذبوالتخشعلغيراللهإلىموافقتهم، فتركواالحقإلى باطلهم، واتخذوادوناللهوليجةإلىضلالهم). وهنا نفهم سبب غضب المأمون ، فأولئك الفقهاء والمحدثون الذين غمرهم المأمون بكرمه وتواضعه معهم ردّوا الاحسان بالنكران ، بل ويتهمونه بالكفر ، ويصفون أنفسهم بأهل السنة والجماعة ، وهذه مزايدة على الدولة العباسية التى أوجدتهم . وهذا إعتبره المأمون تحديا له وكفرانا بنعمته عليه وفق عقلية المستبد فى داخله . لأنه يهدد نفوذه السياسى وايدلوجيته السنية التى يجب أن تتحرّك فى ركابه وفى موكبه ، لا أن يزايد فيها القائمون بها عليه .

5 ـ لذا كان لا بد أن يتخذ موقفا صارما منهم ، فقال فى رسالته يكفّرهم ويؤكّد كذبهم وإفتراءهم على الله جل وعلا ورسوله بأحاديث مصنوعة : (  فرأىأميرالمؤمنينأنأولئكشرالأمة ، المنقوصونمنالتوحيدحظاً،  وأوعيةالجهالة، وأعلامالكذب، ولسانإبليسالناطقفيأوليائهوالهائل علىأعدائهمنأهلدينالله، وأحقمنيُتهمفيصدقهوتُطرحشهادتهولايوثقبه.  منعميعن رشدهوحظهمنالإيمانباللهوبالتوحيدوكانعماسوىذلكأعمىوأضلسبيلا.  ولعمرأميرالمؤمنين إنأكذبالناسمنكذبعلىاللهووحيهوتخرصالباطلولميعرفاللهحقمعرفته. ) أى يتهمهم بأنهم أكذب الناس لأنهم يكذبون على الله ورسوله بالأحاديث التى يصنعونها . وبالتالى يمنع توظيفهم وقبول شهادتهم فى المحاكم .

6 ـ ثم أصدر المأمون أمره لنائبه بأن يأخذ موافقتهم فى موضوع ( خلق القرآن ) ومن يرفض منهم فليس له مكان فى الدولة قاضيا أو شاهدا، فقال : (فاجمعمن بحضرتكمنالقضاةفاقرأعليهمكتابنا، وامتحنهمفيمايقولونواكشفهمعمايعتقدونفيخلقه وإحداثه، وأعلمهمأنيغيرمستعينفيعمليولاواثقبمنلايوثقبدينه. فإذاأقروابذلكووافقوا فمرهمبنصمنبحضرتهممنالشهودومسألتهمعنعلمهمفيالقرآن.  وتركشهادةمنلميقرأنه مخلوق. واكتبإلينابمايأتيكعنقضاةأهلعملكفيمسألتهم.  والأمرلهمبمثلذلك.) .

ثالثا : ابن حنبل لم يكن من بين كبار الفقهاء وأهل الحديث فى عصر المأمون

1 ـ بعد (إمتحان ) ( أهل القضاء ) و ( الشهود ) العاملين فى سلك القضاء إلتفت المأمون الى أئمة الفقه والحديث فأمر نائبهأن يرسلهم اليه ، وحدّدهم بالاسم ، ولم يكن من بينهم أحمد بن حنبل ، وهم: (محمدبنسعدكاتبالواقدي، ويحيىبنمعين ، وأبوخيثمة، وأبومسلممستملييزيدبنهارون، وإسماعيلبنداود، وإسماعيلبنأبيمسعود،وأحمدبن إبراهيمالدورقي )، فجمعهم إسحاقبن إبراهيم وأرسلهم الى المأمون ،  فامتحنهمبخلقالقرآنفأجابوه،  فردهممنالرقةإلىبغداد . 

2 ـ و لم يرد ذكر لأحمد بن حنبل ضمن هؤلاء الأئمة . وبعد إقرار أئمة الحديث والفقه للمأمون كتب المأمون الى نائبه  بأنيحضر عوام الفقهاءوعوام أهل  الحديثويخبرهمبماأجاببههؤلاءالسبعة الكبار ليسيروا على ما وافق عليه شيوخهم ، ففعل إسحاق بن ابراهيم ذلك . وجمعهم ، فأجابهطائفةوامتنعآخرون.

3 ـ  ثم  كتبالمأمونكتاباًآخرإلىإسحاقوأمرهبإحضارمنامتنعمنهم اليه . وحين علم هؤلاء إستجاب معظمهم ورجع عن قوله متبعا رأى المأمون بخلق القرأن ، ورفض آخرون . فأرسل المأمون رسالة يهاجم فيها المعاندين المعروفين للمأمون بالاسم بالاسم ويفضح المستور من شأنهم ، وهددهم بالقتل ، ولم يذكر المأمون إسم ( أحمد بن حنبل ) . فى هذه الرسالة .

4 ـ ثم جاء ذكره للمأمون ضمن أربعة فقط رفضوا ، وهم (أحمدابنحنبل وسجادةومحمدابننوحوالقواريري)،  فأمرإسحاقبارسالهم فى الحديد الي المأمون . فأجابسجادة  القواريري. وظل ابن حنبل وابن نوح على الرفض ، فأرسلهما بالقيود الى المأمون. وفى هذه المرحلة فقط يأتى ذكر ( أحمد بن حنبل فى القضية ) . ولولا رفضه ما كان له ذكر فى التاريخ .

5 ـ وهم فى الطريق مات المأمون وتولى المعتصم الخلافة ، فأمر برد ابن حنبل وابن نوح الى سجن بغداد ، وفى طريق العودة مات محمد بن نوح عام 218 ، وظل ابن حنبل فى السجن وحده . ولم يلق المأمون .

رابعا : ابن حنبل والمأمون فى التاريخ العباسى 

1 ـ هذا ما نقلناه عن فتنة احمد بن حنبل مع المأمون طبقا لما جاء فى  تاريخ الطبري( 8/ 631 : 645 ) . وما نقله عنه ابن الجوزى فى كتابيه : ( المنتظم ) و ( مناقب الامام أحمد بن حنبل ) . ولقد عاصر الطبرى نفوذ الحنابلة فى القرن الرابع الهجرى وكان من ضحاياهم ، ونقل روايات ما حدث لابن حنبل فى عصر المأمون بعد نصف قرن تقريبا من موت ابن حنبل . وأنهى الطبرى التأريخ حتى سنة 302 ومات الطبرى سنة 310. وقد توقف الطبرى فى موضوع خلق القرآن بموت المأمون دون أن يذكر ما حدث لابن حنبل من ضرب فى حضرة الخليفة المعتصم .

2 ـ لم يهتم  المسعودى بمنهجه العقلى بفتنة أحمد بن حنبل ، ويبدو أنه لم يعتبر فتنة احمد بن حنبل  خبرا مستحقا للذكر ، فلم يرد ذكر لفتنة ابن حنبل فى تاريخ المسعودى ( مروج الذهب ) والذى أرّخ فيه للدولة العباسية حتى عام 336 هجرية،أى الى خلافة المطيع لله العباسى . ومات المسعودى عام 346 . 

3 ـ أما المؤرخ اليعقوبى الذى كتب تاريخه ( تاريخ اليعقوبى ) فى جزئين فقد كان الأقرب لعصر ابن حنبل من الطبرى والمسعودى . وقد خصّص اليعقوبى الجزء الثاني خاصاً بالتاريخ الإسلامي ، وأرّخ فيه حتى أيام المعتمد على الله العباسي، حوادث سنة 259هـ ـ وتوقف قبل  وفاته ب(33) سنة . ولأن اليعقوبى كان الأقرب الى عصر ابن حنبل فهو الأصدق فى التأريخ له . ولكن نُفاجأ باليعقوبى يقول فى تاريخه شيئا مختلفا عما قاله الطبرى . يقول : ( وسار المأمون الى دمشق سنة 218 ، وامتحن الناس فى العدل والتوحيد ( أى رأى المعتزلة بالقول فى خلق القرآن ) وكتب فى إشخاص الفقهاء من العراق وغيرها ، وأكفر من إمتنع أن يقول القرآن مخلوق . وكتب الأ تقبل شهادته . فقال كل بذلك إلا نفرا يسيرا .) . هذا هو كل ما قاله اليعقوبى عن فتنة ابن حنبل ، دون ذكر لابن حنبل فيما حدث فى عصر المأمون .  وهذا يؤكد ان ابن حنبل كان نسيا منسيا فى عصر المأمون ، ولولا تصميمه على الرفض لرأى المأمون ما عرف به أحد .

خامسا  : المعتصم وضرب ابن حنبل

1 ـ لم يرد فى تاريخ الطبرى ذكر لمحنة ابن حنبل وضربه بين يدى الخليفة المعتصم .

2 ـ  أول من ذكر ذلك ـ حسب علمنا ـ هو اليعقوبى فى تاريخه . قال :( وامتحن المعتصم أحمد بن حنبل فى خلق القرآن ، فقال أحمد : أنا رجل علمت علما ولم أعلم فيه بهذا . فأحضر له الفقهاء ، وناظره عبد الرحمن بن اسحاق وغيره فامتنع أن يقول إن القرآن مخلوق . فضُرب عدة سياط . فقال اسحاق بن ابراهيم : ولّنى يا أمير المؤمنين مناظرته . فقال : شأنك . فقال اسحاق : هذا العلم الذى علمته نزل به عليك ملك أو علمته من الرجال ؟ قال بل علمته من الرجال . قال : شيئا بعد شىء أو جملة ؟ قال : علمته شيئا بعد شىء . قال : فبقى عليك شىء لم تعلمه ؟ قال : بقى علىّ . قال : فهذا مما لم تعلمه ، وقد علمكه أمير المؤمنين . قال : فإنى أقول بقول أمير المؤمنين فى خلق القرآن . فأشهد عليه وخلع عليه ، وأطلقه الى منزله . ) . الجديد هنا أن ابن حنبل بعد تعرضه للضرب وعجزه عن ردّ الحجة وافق المعتصم على القول بخلق القرآن ، فكوفىء بالخلع عليه وبإطلاق سراحه . وهذا يخالف ما زعمه إبن الجوزى .

3 ـ فالمؤرخون الحنابلة صنعوا بعد قرون من موت ابن حنبل تاريخا مزورا لابن حنبل ، ملأوه بالأساطير والكرامات والمناقب،بل والـتأليه، وهذا ما فعله ابن الجوزى المتوفى عام  597 ، فى كتابيه:( مناقب الامام أحمد بن حنبل ) و(المنتظم ) . وننقل عنه ما يمكن قبوله عقلا وممّا يتسق مع أحداث العصر وثقافته .

4 ـ وبإيجاز فقد كلّف الخليفة المعتصم من يجادل أحمد بن حنبل ، فجادلوه بلا فائدة .وتراّف به المعتصم وترجّاه أن يقول بخلق القرآن ، ولم تكن لابن حنبل حّجة إلا قوله الذى يكرره دائما : ( اعطونى شيئا من كتاب الله أو من سنة رسول الله ) . يطلب منهم أن يستشهدوا بآية قرآنية تقول إن القرآن مخلوق أو بحديث يقول هذا . وفى النهاية يأس المعتصم منه فأمر بجلده ، فجلدوه بحضور المعتصم 80 سوطا ، وقيل 36 سوطا . ثم أمر المعتصم بتسليمه حيا لعمه ، وأشهده على أنه معافى صحيح الأعضاء .

5 ـ بعد الافراج عنه إعتزل أحمد بن حنبل فى بيته طيلة حكم المعتصم . وتولى الواثق عام 227 ، فأحيا موضوع ( خلق القرآن ) فهرب أحمد بن حنبل ، وعاش مستخفيا خمس سنوات الى أن مات الواثق عام 232 . وتولى المتوكل بعد الواثق فانحاز لأهل السنة ، ومع ذلك أمر باستدعاء ابن حنبل للتحقيق معه فى وشاية بأنه يأوى بعض الثوار العلويين ، وثبتت براءة أحمد بن حنبل . فلم يتم التحقيق معه .

6 ـ فلماذا خلق الحنابلة شخصية اسطورية لابن حنبل بعد موت ابن حنبل ؟ لماذا جعلوه الاها بعد موته ؟

انتظرونا .

 

الفصل الثانى :  صناعة شخصية زائفة لابن حنبل  

 أولا : تاريخ احمد بن حنبل بين الحقيقة والافتراء

1 ـ هناك شخصيات تاريخية تخلق الأحداث ، وهناك شخصيات تخلقها الأحداث وتحملها الأحداث . وابن حنبل كان شخصية عادية مسالمة من عوام المحدثين ، ولكن خلقته الأحداث وحملته فى طريقها ، ثم إستمرت بعده حيث جعلته الدعاية السنية رأسا لحركة الحنابلة التى تسيّدت الشارع العباسى بالعنف والتشدد ثلاثة قرون بعد موته عام 241  الى عصر المؤرخ ابن الجوزى المتوفى عام 597 حين حلّ التصوف دينا شعبيا مُسالما محل الدين الحنبلى المتشدد المُشاغب .

2 ـ واشاع الحنابلة روايات شفهية عن سيرة ابن حنبل تخالف شخصيته الحقيقية ، وكان ابن الجوزى المؤرخ الفقيه المحدث القصّاص الحنبلى أبرز من قام بتجميع وتدوين تلك الروايات فى كتابه ( مناقب الامام احمد بن حنبل ) ، وهو مطبوع ومنشور . بالاضافة الى رصد تاريخ ابن حنبل والحنابلة فى العصر العباسى فى تاريخه ( المنتظم ) .وقد جعل ابن الجوزى لهذه الروايات المصنوعة عن سيرة ابن حنبل إسنادا ( أى روى فلان عن فلان ) كأنه ينقل أحاديث نبوية فى دينهم السّنى . وسبقه البيهقى ت ( 384 : 458 ) فى كتابه عن مناقب أحمد بن حنبل . ولكن ابن الجوزى هو الأكثر شهرة  والأجرأ على الكذب . والعادة فى ( تاريخ المنتظم ) أن ابن الجوزى ينقل الأحداث السابقة على عصره مما كتبه الطبرى فى تاريخه . ولكنه يكتب أحداثا أخرى ماضية لم يذكرها الطبرى وغير الطبرى ، أى إنفرد ابن الجوزى بذكرها ، وعندئذ يقوم إبن الجوزى بعمل إسناد لها عن رواة عاصروها . ولأنه أول من يذكر تلك الأحداث التى حدثت قبل مولده بقرنين فلا بد أن يلحقها الشّك خصوصا وأنه غير محايد ، بل هو متعصب للحنابلة وضد المعتزلة والصوفية والشيعة . لذا يقوى الشّك في رواياته التى تتعلق بأهل الحديث  وخصومهم من المعتزلة والشيعة والصوفية .  ويتأكّد كذب ابن الجوزى حين يحكى منامات وكرامات ينسبها لأشياخه السنيين ، ويزعم فيها أن الله جل وعلا قال كذا فى هذا المنام أو أن النبى عليه السلام رؤى فى المنام فقال كذا يمدح هذا الشيخ السُّنى الحنبلى أو يذمّ هذا المعتزلى .

ثانيا : الهدف من صناعة هذه الصورة الزائفة لابن حنبل

1 ـ الحنابلة فى طموحهم السياسى فى العصر العباسى إتخذوا من هذه الشخصية المزيفة المصنوعة لإبن حنبل رمزا للكهنوت السّنى المتشدد الذى يزايد على السلطة السياسية القائمة على الدين السُّنى . وظل هذا ساريا من العصر العباسى وحتى عصرنا البائس . ومثلا فإنّ ابن تيمية قام بإحياء الحنبلية وواجه بها المماليك سياسيا فى العصر المملوكى ، ثم تبعه ابن عبدالوهاب فى أواخر العصر العثمانى ، والذى قام بتجديد الحنبلية ، وبالوهابية قامت الدولة السعودية ثلاث مرات وسقطت مرتين .

2 ـ والدولة السعودية الراهنة واجهت وتواجه حركات معارضة متشددة من داخل الوهابية ، تستخدم الوهابية نفسها فى المزايدة على الأسرة السعودية ، وتعتبر الوهابية الحنبلية هى مصدر السلطة وبالتالى فلا بد أن يكون لعلماء الكهنوت الوهابى النصيب الأكبر فى السلطة والثروة ، بينما يرى البيت السعودى أنهم مصدر السلطة ، بالضبط كما كان يعتقد البيت العباسى فى الخلافة العباسية ، فالمعارضة الوهابية فى السعودية تكرر نفس ما كان الحنابلة يفعلون ضد الدولة العباسية التى تأسست على الكهنوت السّنى .

3 ـ ويتفق الاخوان المسلمون   مع السعودية ودول الخليج فى إعتناق الوهابية ، ولكن يعتقد الاخوان أنهم الأحق بالحكم من تلك الأسرات الحاكمة فى السعودية والخليج ، لأن الاخوان يعتقدون أنهم الممثلون الحقيقيون للوهابية التى هى عندهم مصدر السلطة ، وقد أضفوا عليها إسم الاسلام زورا وبهتانا .

4 ـ كل حركات المزايدة السنية والتشدد والتزمت والتطرف والارهاب حملت إسم ابن حنبل ، بحيث صار لقب ( حنبلى ) فى الثقافة الشعبية رمزا للتزمت والانغلاق والتطرف والتعصب والارهاب . منبع هذا كله من تلك الصورة الوهمية المصنوعة لابن حنبل فى العصر العباسى والتى تخالف شخصيته الحقيقية .

5 ـ وإستمرت هذه الصورة النمطية لابن حنبل باستمرار الهدف من تصنيعها . فالهدف هو تصنيع شخصية تكون رمزا مُلهما لأصحاب الكهنوت فى تحدّى السلطة والمزايدة عليها ، فطالما أن الدولة الدينية تستمد سلطتها السياسية الزمنية من هذا الكهنوت فلا بد أن يكون لرجال الكهنوت الموقع الأعلى فى الدولة ، وإلا فلهم حق الثورة عليها . وقد أشرنا الى علاقة الدولة الدينية بكهنوتها وحاجتها الى هذا الكهنوت ، ومزايدة الكهنوت على تلك الدولة وقت ضعفها للحصول على قدرأكبر من السُّلطة والثروة .

ثالثا : ضربوا إبن حنبل فأدخلوه التاريخ ، ولو لم يضربوه ما عرفه أحد 

1 ـ عرفنا كيف أوسع المأمون قلبه وقصره للمثقفين والعلماء والفقهاء وأهل الحديث ، لأنه كان مثقفا يحب مجالسة المثقفين أكثر من مجالسة النساء والمُغنّيين ، وإستثمر المثقفون العقليون ( المعتزلة ) ميل المأمون لهم فترجموه إلى نفوذ سياسى أثار حقد الفقهاء وأهل الحديث ، والتفت المأمون يتقرب لأهل الحديث ويُفسح لهم فى قصره فحاولوا أن يستغلوا هذا فى النّيل من خصومهم المعتزلة . وعرفنا أن الكراهية كانت متبادلة بينهما ، فاطلق أهل الحديث والفقهاء على أنفسهم ( أهل السّنة ) وأطلقوا على  المعتزلة لقب ( المبتدعة ) بينما أطلق المعتزلة على انفسهم (أهل العدل والتوحيد ) وأطلقوا على أهل الحديث (الحشوية ).

2 ـ وعندما فشل أهل الحديث علميا أمام المعتزلة وأيقنوا من أن المأمون فى صف المعتزلة وقفوا فى وجه المأمون فى قضية خلق القرآن . فتحوّل الأمر الى محنة ومواجهة سياسية . واستخدم الخليفة سلطانه ، وسلّط عليهم ( محاكم التفتيش ) فأسرع شيوخ الفقهاء والقضاة وشيوخ أهل الحديث الى موافقة المأمون خوفا على مكانتهم ، ولم يبق إلا موافقة عوام الفقهاء والمحدثين ، ومنهم ابن حنبل الذى لم يكن معروفا ولا مشهورا وقتها ، ولكن لمع إسمه فجأة عندما فاجأ شيوخه والجميع بتمسكه بمخالفة الخليفة . لم يكن لديه ما يخسره ككبار الفقهاء والقضاة والمحدثين ، فصصم على رأيه ، فتعرض للضرب بالسوط ، وبهذا دخل التاريخ . ولولم يضربه المعتصم ما كان سمع به أحد . ولو مات مثل رفيقه فى ارفض ( محمد بن نوح ) لظل مجهولا بين سطور التاريخ مثل ( محمد بن نوح ) . ولكن إستمرار محاكمته وضربه بين يدى الخليفة المعتصم أوسع له مكانة فى عصره ، حيث كان العوام من أهل الحديث فى حاجة الى زعيم ، وهم الذين إمتهنوا الحديث ليصلوا به الى نصيب من السلطة والثروة ـ.

رابعا : رفض ابن حنبل أن يكون زعيما بعد شهرته لأنه لا يصلح أن يكون زعيما

1 ـ وفى حياته وبعد أن صار معروفا مشهورا خيّب ابن حنبل آمال من يريدون زعيما وإماما ، فبعد إطلاق سراحه إعتزل الناس ـ وكان يرفض حضور صلاة الجمعة والجماعة ، وأغلق عليه باب داره . وإختفى ابن حنبل حين جاء الخليفة الواثق يفتح من جديد قضية خلق القرآن وما نشأ عنها من قتل أحمد بن نصر الخزاعى ومقتله عام 231 . ثم عاد للظهور عندما شعر بالأمن بعد تحالف المتوكل مع السّنيين.

2 ـ وزادت شهرته فى عصر الخليفة المتوكل ، ولكن لم يستفد ابن حنبل من هذه السلطة والحظوة التى نالها السّنيون الناشطون فى خلافة المتوكل، فالقادة فى الكهنوت لا بد أن يكونوا خبراء فى المداهنة وفى التعامل السياسى مع السلطان ومراكز القوى داخل القصر ، وهذا ما لا يعرفه ابن حنبل ، فظلّ مع شهرته والتقدير الذى حظى به فى أواخر عمره بعيدا عن النفوذ السياسى ، لأنه كما يذكر ابن الجوزى فى مناقبه كان يؤثر العُزلة والوحدة وستر الحال ويكره الشُّهرة، وهذا هو عنوان الباب رقم 54 ( فى إيثاره العُزلة والوحدة ) وعنوان الباب 55 ( فى إيثاره خمول الذكر وستر الحال ) .

3 ـ بهذا لا يمكن أن يتأقلم مع البروتوكول العباسى ومكائده ، كما كان بضيق أفقه وتمسكه بنصوص الأحاديث التى يحفظها  لا يصلح للتعامل السياسى مع خليفة ماجن سكير كالخليفة المتوكل ، ولا يستطيع التعامل مثلا مع محظية المتوكل ( قبيحة ) أم المعتز ولىّ العهد وصاحبة النفوذ فى عصر المتوكل ، ولا يستطيع التعامل مع قادة العسكر الأتراك المتحكمين فى خلافة المتوكل ، والذين ـ فيما بعد ـ قتلوا المتوكل وهو يسكر مع صديقه الفتح بن خاقان .

خامسا  : عبد الله بن احمد بن حنبل أول من رسم شخصية مزورة لأبيه

1 ـ عبد الله بن أحمد بن حنبل هو مصدر الروايات الخرافية عن أبيه . وعبد الله هو الذى أرسى تلك الشخصية الوهمية عن أبيه بالروايات الى صنعها عنه ونشرها بين الناس فى عصره ، وتناقلها الناس بعده الى أن تم لها التدوين مع زيادات فى الكاذيب ، كالمعتاد .  عبد الله ابن أحمد بن حنبل إستثمر محنة أبيه ، فأخذ يروى عنه أقاصيص ظل الفقهاء السنيون والقّصّاص يتداولونها ويزيدون فيها ، الى ان تم تدوينها فى العصور التاريخية ضمن تاريخ ومناقب أحمد بن حنبل ، صيغ بعضها فى صورة منامات يرتفع فيها أحمد بن حنبل الى مقام التأليه . وقد حظيت هذه الخرافات بتصديق الناس حتى الان بدليل أن كتاب مناقب احمد بن حنبل لابن الجوزى لا يزال يجد من يصدقه ويطبعه وينشره  .

2 ـ وقد مات عبد الله بن أحمد بن محمد بن حنبل عام 290 . ومن أهم الخرافات التى أذاعها وأشاعها أنه جعل أباه من  كبارعلماء الحديث ، ولم يكن ابن حنبل إلا من ضمن عوام المحدثين . ولكن تأسس على تلك الفرية أن جعلوا ابن حنبل رأسا من رءوس الحديث ، بل جعلوه صاحب مذهب فقهى ، ولم تكن له علاقة بالفقه على الاطلاق . السبب أن عبد الله بن أحمد بن حنبل كتب ( مسند أحمد )وغيره بعد موت أبيه ونسب هذه الكتب لأبيه إفتراءا وكذبا .

سادسا : ابن حنبل لم يكن ناشطا سياسيا ، ولم يؤلف كتبا فى الحديث  

  1 ـ الذى كان له علم بالروايات الحديث المنتشرة فى عصره لم يكن أحمد بن حنبل بل إبنه عبد الله . قال ابن الجوزى فى ترجمة عبد الله بن أحمد بن حنبل : ( ‏ وقال ابن المنادي‏:‏ لم يكن في الدنيا أحد أروى عن أبيه منه) ، أى إن عبد الله هو مصدر الأخبار عن أبيه ابن حنبل ، ويقول ابن الجوزى عن عبد الله بن حنبل : ( لأنه سمع ‏"‏ المسند ‏"‏ وهو ثلاثون ألفًا و ‏"‏ التفسير ‏"‏ وهو مائة وعشرون ألفًا سمع منها ثمانين والباقي إجازة وسمع ‏"‏ الناسخ والمنسوخ ‏"‏ و ‏"‏ التاريخ ‏"‏ و ‏"‏ حديث شعبة ‏"‏ و ‏"‏ المقدم والمؤخر في كتاب الله تعالى ‏"‏ و ‏"‏ جوابات القرآن ‏"‏ و‏"‏ المناسك الكبير والصغير ‏"‏ وغير ذلك من التصانيف وحديث الشيوخ ‏.‏ ) . أى إنّه هو الذى سمع من أبيه الكتب التى تمت نسبتها فيما بعد لأبيه . أى لم تكن مكتوبة ومدونة فى حياة أبيه ، بل تم تدوينها بعد موته ، فقد  كان ابن حنبل يكره تدوين وكتابة الأحاديث . وقد خصّص ابن الجوزى الباب 29 ضمن مناقب أحمد بن حنبل ليؤكّد  أنه كان ينهى عن كتابة ورواية كلامه . والعنوان يقول : ( ذكر نهيه أن يكتب كلامه أو أن يروى ). وفى أخر الباب يقول ابن الجوزى : ( وكذلك كان أحمد رضى الله عنه ينهى عن كتب كلامه ، وقدّر الله أن دُوّن ورُتّب وشاع ) . فمن الذى رتّب ودوّن وأشاع كلامه ؟ أو بمعنى أصح من الذى كتب الكتب المنسوبة لأحمد بن حنبل ونشرها وأشاعها ؟ إنه إبنه عبد الله .

2 ـ و يروى ابن الجوزى ما قيل عن عبد الله : ( ‏ وما زلنا نرى أكابر شيوخنا يشهدون له بمعرفة الرجال وعلل الحديث والأسماء والكُنى والمواظبة على طلب الحديث في العراق وغيرها ، ويذكرون عن أسلافهم الإقرار له بذلك ، حتى أن بعضهم أسرف في تقريظه إياه بالمعرفة وزيادة السماع للحديث على أبيه ‏.‏ ) ، أى إن بعضهم وصفه بأنه كان أعلم من أبيه .!!. ولكنه إختار ان يختبىء خلف إسم أبيه ليستثمر محنة أبيه فيزداد بها مكانة وثراءا. فكتب كتبا ونسبها لأبيه ، ومنها ( مسند أحمد ) الذى لم يكتبه  أحمد بن حنبل ، بل وضعه ونشره ابنه عبد الله باسم أبيه زورا وبهتانا .

3 ـ وقد حاول ابن الجوزى فى مناقب ابن حنبل التوفيق بين نهى ابن حنبل عن كتابة آرائه وأحاديثه فقال فى باب 27 ( ذكر مصنفاته ): ( كان الامام أحمد رضى الله عنه لا يرى وضع الكتب وينهى أن يكتب عنه كلامه ومسائله ، ولو رأى ذلك لكانت له تصانيف كثيرة . ولنقلت عنه كتب .) بعدها مباشرة يناقض ابن الجوزى نفسه فى نفس السطر فيقول :( فكانت تصانيفه المنقولات ( أى الحديث ) ، فصنّف المُسند ، وهو ثلاثون الف حديث ، وكان يقول لابنه عبد الله : إحتفظ بهذا المُسند فإنه سيكون للناس إماما )، أى إستأمن إبنه عبد الله على هذا المُسند الذى سيكون للناس إماما بدل القرآن الكريم .؟!! واستطرد ابن الجوزى فى تعداد الكتب الأخرى المنسوبة لابن حنبل، ثم يعود ابن الجوزى يناقض نفسه فيقول عن ابن حنبل : ( وكان ينهى الناس عن كتابة كلامه ، فنظر الله الى حُسن مقصده فنُقلت ألفاطه وحُفظت ، فقلّ أن تقع مسألة إلّا وله فيها نصُّ من الفروع والأصول . ).

4 ـ الخطورة هنا أن ابن الجوزى يجعل ربّ العزة جل وعلا واسطة بين ابن حنبل والناس ، فإذا رفض ابن حنبل تدوين علمه فإن رب العزة يتدخل ليتم نقل كلام ابن حنبل لأنّ رب العزة قد نظر الى ( حُسن مقصد ابن حنبل ) .. فمن أعلم ابن الجوزى بهذا ؟ وهل يصح أن يفترى مُسلم صحيح الايمان بهذا الافتراء الذى يُهين رب العزة ويرفع بشرا أعلى من خالق السماوات والأرض ؟ ثم أن يكون هذا التبرير السقيم من أجل قضية تافهة هى الزعم بأن تلك الكتب من تأليف ابن حنبل .

5 ـ هذا مع أن الكذب واضح والتناقض بين العبارات أوضح . وأن المؤلف الحقيقى لهذه الكتب ليس ابن حنبل بل ابنه عبد الله. يكفى هنا زعمهم بأن ابن حنبل قال لابنه عبد الله (إحتفظ بهذا المُسند فإنه سيكون للناس إماما  )، فكيف ينهى عن كتابة ما يقول ثم يأمر ابنه أن يكتب عنه ( المسند ) وأن يحتفظ به لأنّ هذا ( المسند )  سيكون للناس إماما ؟. الواضح أن عبد الله هو الذى كتب ( المسند ) ثم نسبه لأبيه ، وزوّر هذا الكلام عن أبيه . والواضح أيضا أنه ليس ابنه عبد الله فقط الذى أسند لأبيه هذه المؤلفات ، بل أسند الحنابلة الكثير من آرائهم لابن حنبل بعد موته فى مسائل فقهية كثيرة حتى قال ابن الجوزى عن تلك الآراء: ( فقلّ أن تقع مسألة إلّا وله فيها نصُّ من الفروع والأصول . ). وبهذا صار ابن حنبل إماما لمذهب فقهى منسوب اليه ( المذهب الحنبلى ) .بسبب هذا المنسوب اليه من الفقه . 

6 ـ وضمن هذا التزوير ما يرويه ابن الجوزى فى مناقب أحمد فى ( باب 9 )( بيان غزارة علمه.. ) ومنها قول أحدهم:( رأيت أحمدبن حنبل كأن الله قد جمع له علم الأولين والآخرين من كل صنف يقول ما شاء ويمسك عماشاء ‏.‏) أى يعلم غيب الماضى وغيب المستقبل .!! وفى ( باب 8 : ذكر حفظه وقدر ما كان يحفظ )، يروى ابن الجوزى : ( كان أحمد بن حنبل يحفظ ألف ألف حديث ). لو صدقنا هذا التخريف فإنّ هذا الحفظ الهائل لمليون حديث وهذا العلم الهائل الذى يجمع علم الأولين والآخرين ، أى من بدء الخليقة الى قيام الساعة يستلزم من صاحبه التفرّغ التام .

7 ـ ولكن عبد الله بن حنبل لا ينسى أن يُرصّع تاريخ أبيه بالتفرّغ أيضا للعبادة ، فيقول ( ‏ وكان أبي يصلي كليوم وليلة ثلاثمائة ركعة..   وكان يقرأ في كل يوم سبعًا وكانت له ختمة فيكل سبع ليال سوى صلاة النهار، وكان ساعة يصلي ويدعو عشاء الآخرة ينام نومة خفيفة ثميقوم إلى الصباح يصلي . وحج خمس حجات ثلاث حجج ماشيًا واثنتين راكبًا ‏.‏)( المناقب باب 58 : فى ذكر تعبده )، فهل إتّسع وقته للعلم والعبادة بهذا الشكل ؟ .

8 ـ ثم إن تحصيل مليون حديث كان يستلزم الرحلة من العراق الى مصر واليمن والحجاز. وقد ذكروا رحلاته ، وتناسوا أن هذه الرحلات تستلزم مالا ، فكيف يتسق هذا مع فقره الشديد الذى تردد فى تاريخه ؟ إذ كان فقره يدفعه الى التقاط فضلات الطعام ، والى أن ينسخ الكتب بالمال :( المناقب باب 40: فى ذكر ماله ومعاشه : فصل : وكان أحمد ربما إحتاج فخرج الى اللقاط . فصل : وكان أحمد ربما إحتاج فنسخ بأجرة . )

سابعا  : ابن حنبل كان من عوام أهل الحديث المقلدين 

1 ـ الدليل على ذلك أنه كان يرى العلم محصورا فيما يراه عوام ( المسلمين ) أو أكثرية الناس . فكان يتمسك بقول منسوب لابن مسعود : ( ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن، وما رأوهسيئاً فهو عند الله سيء ) أى يجعل رب العزة ملتزما برأى الأغلبية من الناس ، مع أن الله جل وعلا يصف أكثرية البشر بأنها لا تؤمن ولا تعقل ولو أطاعها خاتم النبيين فسيضلونه عن سبيل الله . وبغض النظر عن الناحية الايمانية هنا ـ مع خطورتها. إلا أن هذا القول يفضح منهج ابن حنبل القائم على التقليد ومحاربة الاجتهاد ، 2 ـ ويعزّز هذا أن ابن حنبل وسائر قطيع السنيين كانوا يتهمون من يجتهد بأنه ( مبتدع ) . أى أصبح الابتداع والاجتهاد فى فهم القرآن وتدبره بالرأى ( بدعة )، وأطلقوا على المعتزلة مبتدعة .

3 ـ ولا تزال كلمة ( بدعة ) بغيضة لدينا ، ومازال بعضنا يجترُّ شعار السنيين ( كل بدعة ضلالة وكل ضلالة فى النار ) . وبسبب حرب السنيين للإجتهاد توقف الاجتهاد عند ما كتبه أئمة الفقه والحديث فى القرن الثالث الهجرى ، ولا يزال أولئك الأئمة أئمة حتى عصرنا دون أن يوجد من يبنى على عملهم ويطوّره ، بل أصبح التقليد سيد الموقف ، بل وتحول التقليد الى جمود وتأخر ينعُم به المحمديون حتى اليوم . ولقد وصل الغرب بالاجتهاد والابتداع والاختراع والاكتشاف الى ما نحن  فيه الآن .ووصلت بنا السلفية الوهابية الحنبلية الآن فى عصر العلم والتكنولوجيا الى الاختلاف فى رضاعة الكبير والتداوى ببول الابل و النقاب و جهاد المناكحة .!.

4 ـ وحتى الآن لا تزال كتب السلفية الأكثرمبيعا ، وحتى الآن يزال السلفيون يقولون عن ( مُسند أحمد ) المنسوب زورا لأحمد بن حنبل :( وضع الإمام أحمد هذا الكتاب ليكون مرجعاً للمسلمين وإماماً وجعله مرتباً على أسماء الصحابة الذين يروون الأحاديث كما هي طريقة المسانيد، فجاء كتاباً حافلاً كبير الحجم، يبلغ عدد أحاديثه أربعين ألفاً تقريباً، تكرر منها عشرة آلاف حديث ومن أحاديثه ثلاثمائة حديث ثلاثية الإسناد (أي بين راويها وبين  النبى  ثلاثة رواة). وقد رتب كتابه على المسانيد فجعل مرويات كل صحابى في موضع واحد، وعدد  الصحابة الذين لهم مسانيد في مسند الإمام أحمد (904) صحابى .و كان ابن حنبل  يحفظ الف الف حديث عن ظهر قلب، وقد انتقى المسند من هذا العدد الهائل من محفوظه .!.).

والمجانين ..فى نعيم .!

وللحديث بقية عن ملامح الشخصية المزورة لابن حنبل .

 

الفصل الثالث : إبن حنبل كان من عوام أهل الحديث ولم يكن فقيها    

مقدمة

1 ـ كان عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الإفريقي من رفاق أبى جعفر المنصور فى طلب (علم الحديث ).

قال‏ عن المنصور:‏ ( كنت أطلب العلم مع أبي جعفر أمير المؤمنين قبل الخلافة ، فأدخلني يومًا إلى منزله ، وقدم طعامًا ومريقة من حبوب ليس فيها لحم ، ثم قدم إلي زبيبًا ، ثم قال‏:‏ يا جارية عندك حلواء ؟ قالت‏:‏ لا . قال‏:‏ ولا التمر ؟ قالت‏:‏ ولا التمر . فاستلقى ثم تلى هذه الآية‏:‏ ‏‏ ( عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ )‏‏.‏ فما ولي الخلافة دخلت عليه، فقال‏:‏ يا عبد الرحمن بلغني أنك كنت تفد لبني أمية قال‏:‏ قلت‏:‏ أجل كنت أفد لهم وأفد إليهم‏.‏ قال‏:‏ فكيف رأيت سلطاني من سلطانهم ؟ قال‏:‏ قلت‏:‏ يا أمير المؤمنين والله ما رأيت من سلطانهم من الجور والظلم إلا رأيته في سلطانك . ).

هنا رفيق سابق للمنصور وصديق سابق له ، وقد قال له كلمة حق ، هى أن الظلم الذى كان فى بنى أمية أعاده العباسيون . ولقد برّر له المنصور الظلم بأنه لا يجد الأعوان فاستشهد له صديقه بمقالة عمر بن عبد العزيز ( السلطان كالسوق ) ، أى فالذى يريد أن يشترى الجواهر لن يذهب الى سوق المواشى أو سوق الخضروات ، والسلطان الورع لن يجتمع حوله النصّابون الفاجرون . وبالتالى فلا بد ان تكون حاشية السلطان الجائرة على شاكلته فى الجور ، وخصوصا إذا كان سلطانا فى دولة دينية يقيم سلطانه على كهنوت دينى ، عندها لا بد أن يكون رجال كهنوته أخبث منه لأنهم يفتون له بالظلم ويبررون له ظلمه بأحاديث مفتراة . ولذلك فإن أباجعفر المنصور لم يثق بصديقه القديم وزميله القديم فى ( طلب الحديث ) ، مع أن هذا الزميل القديم لم تكن سيرته ناصعة البياض ، فقد كان ( يفد ) أى يأتى وافدا يزور بنى أميه فى سلطانهم ، أى يعمل فى خدمتهم ويحصل على عطائهم مع علمه بظلمهم ، ثم أنه ايضا كان يطلب (علم الحديث ) أى يحترف التزوير . ولكن أبا جعفر المنصور لم ير فى صديقه القديم المؤهلات الكافية لأن يجعله ضمن رجال كهنوته ، لأن أبا جعفر يشترط فى رجال الكهنوت الطاعة التامة وعدم الانتقاد  .

ولم يكن صديق أبى جعفر المنصور الوحيد الذى خاب أمله فى العباسيين ، ففى سنة 133 ثار عليهم فى خراسان سويد ابن شيخ المهري الذى قال ‏:‏ ( ما على هذا اتبعنا آل محمد على ، أن نسفك الدماء ونعمل بغير الحق ) ، وتبعه على رأيه أكثر من ثلاثين ألفًا . وانهزم ولقى حتفه .

2 ـ وهناك صنف من رجال الكهنوت جاهزون لخدمة السلطان القائم يغيرون آراءهم تبعا لهواه مثل الأوزاعى فقيه الأمويين ، والذى أسرع بعد سقوطهم بتغيير جلده وعرض خدماته على العباسيين فاصبح من رجال كهنوتهم ، وحظى بمكانة رفيعة فى الدولتين الأموية والعباسية . هذا يذكرنا بشيوخ الأزهر فى عصرنا الذن يتبارون فى الافتاء لكل سلطان بما يهوى ، إذا أرد عبد الناصر الحرب هتفوا له ( وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ ) وإذا أراد السادات الصلح قالوا له : ( وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا . ) وإذا قال مبارك ( التوريث ) تغنوا له بالتوريث،وإذا قال ( التمديد ) رقصوا على موسيقى التمديد . وقبلهم قال أحد الإخوان المسلمين يمدح إسماعيل صدقى باشا رئيس الوزراء قبل الثورة (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ )  .!

أولا : لم يكن أبن حنبل من قادة الكهنوت السّنى فى عصره

1 ـ ولم يكن ابن حنبل يصلح لأن يكون من هذا الصنف . ليس فقط لأنه كما قلنا : ( لا يمكن أن يتأقلم مع البروتوكول العباسى ومكائده ، كما كان بضيق أفقه وتمسكه بنصوص الأحاديث التى يحفظها  لا يصلح للتعامل السياسى مع خليفة ماجن سكير كالخليفة المتوكل ، ولا يستطيع التعامل مثلا مع محظية المتوكل ( قبيحة ) أم المعتز ولىّ العهد وصاحبة النفوذ فى عصر المتوكل ، ولا يستطيع التعامل مع قادة العسكر الأتراك المتحكمين فى خلافة المتوكل ) . ولكن لأنه لم يكن من قادة أهل الحديث الذين يتخصصون فى تأليف وصناعة الأحاديث ، بل كان من عوام المحدثين ينقل عن القادة مخترعى الحديث مصدقا لهم ، وأنهم فعلا ( سمعوها من فلان عن فلان ) .

2 ـ فأهل الحديث كانوا نوعين : قادة يصنعون الأحاديث ويجعلون لها إسنادا كاذبا ، ثم عوام أهل الحديث الناشرين لهذا الافك بين الناس . اولئك القادة كانوا ممن وافقوا من قبل على القول بخلق القرآن وتجنبوا مصير ابن حنبل لأنهم كانوا أصحاب مهنة وأحرزا مكانة بهذه المهنة ، ولا بد أن يحافظوا عليها .  والفارق هائل  بين الأئمة ممن يصنع الحديث وينشره والعوام ممن يجمع الحديث مؤمنا به .

ثانيا : الدليل على أن إبن حنبل كان من عوام أهل الحديث

1 ـ أنه لم يرد له ذكر فى فتنة خلق القرآن فى الصّف الأول من القضاة وكبار المحدثين ، بل جاء ذكره مؤخرا بين عوام المحدثين ، وفوجىء الجميع برفضه وإصراره على الرفض بعد أن أسرع الكبار بالموافقة فتعرض للضرب ، وبالضرب أصبح له ذكر فى التاريخ وشهرة فى العصر فاقت فيما بعد قادة أهل الحديث .

2 ـ أنه فى التحقيق معه بحضور الخليفة المعتصم لم تكن له حُجّة إلا قول واحد يكرره أمامهم بلا تغيير : (أعطونى شيئا من كتاب الله أو من سنة رسول الله ) . يطلب منهم أن يستشهدوا بآية قرآنية تقول بالنّص إن القرآن مخلوق أو بحديث يقول هذا النّص . أى كان يمكن إقناعه بسهولة لو تطوّع أحد المعتزلة وإفترى له حديثا وجعل له إسنادا كأن يقول مثلا ( حدثنى فلان عن فلان عن فلان عن فلان ان الرسول قال : القرآن مخلوق ) .إذا قيل هذا الحديث لانتهت مشكلة ابن حنبل لأنه كان سيصدق به . فابن حنبل كان يؤمن إيمانا مطلقا بالحديث على انه سُنّة رسول الله .

3 ـ بل إنّ إبن حنبل كان يؤمن أن الاسلام لا يكفى وحده دينا ، بل لا بد أن تكون معه ( السُّنّة )، أى يبلغ إيمانه بتلك الأحاديث أكثر من إيمانه بالقرآن والاسلام . وهذا ما جاء فى مناقبه التى حكاها ابن الجوزى ومنها أنه قيل له ( أحياك الله على الاسلام ، فقال : وعلى السّنة ) ( ب 21 ص 177 ) ، ويعتبر من ينتقد الحديث زنديقا ، ويعتبر أهل الحديث أحبار رسول الله ،ويعتبر عوام المحدثين ( سُرُج الاسلام ) أى مصابيح الاسلام ، وبدونهم لا يكون للاسلام مصابيح !. وقد كانوا فى عهده يملأون الشوارع يحملون المحابر التى يكتبون بها الحديث.  ويرى أنّ من عظّمهم تعظّم فى عين رسول الله ، ومن مات على الاسلام والسّنّة مات على الخير كله . ( ب 22 ص 179 : 180 ). وفى باب 23 يذكر ابن الجوزى إعراضه عن ( أهل البدع ) ونهيه عن كلامهم وقدحه فيهم .

4 ـ إنّ الذى يخترع الأحاديث ويصنعها لا يمكن أن يؤمن بها ، لأنه ببساطة هو أول من يعرف أنها كاذبة وأنه المخترع لها والصانع لها. أمّا الذى يرويها عن مخترعها مصدقا لها فهو الذى يجعلها دينا ، بل يرتفع بها فوق الدين الحق كما كان يفعل ابن حنبل .

ثالثا : ابن حنبل لم يكن ضمن من أرسلهم المتوكل لنشر الأحاديث

1 ـ إلا إن الدليل الأكبر على ان ابن حنبل لم يكن من قادة أهل الحديث هو أن الخليفة المتوكل لم يستعن به فى نشر الحديث فى آفاق دولته ، بل أوكل المهمة للقادة المعتبرين . فبعد"> 5 ـ ونتصور أنهم بعودتهم للأضواء والنفوذ فى خلافة المتوكل كانوا يخشون من الدعاية التى حظى بها ابن حنبل والمكانة التى وصل اليها بسبب ما حدث له حين تمسّك ( بالسّنة ) بينما ( خانوها ) هم . ونتصور خشيتهم من أن يصبح ابن حنبل منافسا قويا لهم  فى العهد الجديد . وبالتالى نتصور أن يحيكوا الدسائس عند المتوكل حتى يُبعدوه عن قصر الخلافة . وهذا التوقع المنطقى حدث فعلا . فقد أتّهم ابن حنبل لدى الخليفة المتوكل بأنه يأوى أحد العلويين المطلوبين ، فأرسل المتوكل باعتقال ابن حنبل ، فحملوه اليه وفتشوا بيته فتبينت براءته ، وأفرج المتوكل عنه . وبهذا تأكّد لقادة الكهنوت السّنى أن ابن حنبل هو الذى سيؤثر الابتعاد عن الخليفة والمشاكل حسب طبيعته المعروفة .

6 ـ ونلاحظ أن آل شيبة ـ أحفاد القاضى العباسى أبى شيبة ـ  كانوا قادة أهل الحديث فى هذا الوقت . وأصلهم فارسى من ( خوست ) وكانوا أبرز من عهد اليهم المتوكل بنشر ( الٍسُّنّة ) ، ومن ضمنها بالطبع أحاديث تصب فى صالح العباسيين سياسيا ، وليس مجرد حرب المعتزلة وتأييد منهج السنيين . ومنهم ( عثمان بن أبى شيبة : ت 239  ) وهو شيخ البخارى ومسلم وأبى داود وابن ماجة وكثيرين . أما أبو بكر ابن أبى شيبة ( ت 235 ) فقد كان شيخا لابن حنبل مع انه كان من أقران ابن حنبل فى السّن والمولد. ومن تلامذته البخارى ومسلم وأبو داود ، وابن ماجه ، والنسائي و محمد بن سعد الكاتب. هذا نموذج لعائلات إحترفت الكهنوت وحقّقت به مكانة وحافظت على هذه المكانة . وليس مثل ابن حنبل الذى كان والده شخصا مجهولا من منطقة الرى الفارسية ، جاء الى بغداد بزوجته الحامل فولدت له ابنه ( أحمد بن حنبل ) فى وسط فقير من أحياء بغداد وقتئذ .

رابعا : ابن حنبل لم يكن فقيها .

1 ـ ونلاحظ ايضا أن البخارى الذى ذاع صيته فيما بعد لأسباب مختلفة لم يرد ذكره فى فتنة القول بخلق القرآن من عصر المأمون الى عصر الواثق ، ولم يحظ بالشهرة فى عصر المتوكل الذى سيطر عليه الكهنوت السّنى . وقد تميّز البخارى بسبك الحديث أى صناعته ، كما تخصص بكتابته ونشره . فتفوق على ابن حنبل الذى لم يكتب شيئا ، ولم يكن له رأى ، وحتى كتاب ( المسند ) الذى كتبه ابنه عبد الله ونسبه اليه ، هذا الكتاب لا يمتّ للفقه بأى صلة . 

2 ـ وقد تميز ( صحيح البخارى ) و ( صحيح مسلم ) على ( مُسند أحمد ) بأنهما تم تقسيمهما على حساب الموضوع ، أى أحاديث باب الطهارة ، وباب العبادات والمعاملات وهكذا . وقد سبق بهذا من دوّن ( موطأ ) مالك . فجاء تقسيم أحاديث الموطّا حسب الموضوعات . وبعده كان يجب أن يأتى ( مسند أحمد ) أكثر تطورا ، ولكنه جاء أكثر تخلفا إذ إكتفى بجمع عشوائى للأحاديث حسب الراوى الصحابى ، دون نظر لموضوع الحديث نفسه . أى مجرد جمع بلا علم وبلا فقه .

3 ـ وبمناسبة الفقه ، فهو يعنى قرآنيا ( الفهم والتعقل والاعتبار والنّظر ) و ( تفقهون ) يعنى تفهمون وتعقلون . وبالتالى فعلم ( الفقه ) ينبغى أن يعنى النظر فى آيات التشريع القرآنية واستخلاص الأحكام منها . وبدأ مالك بتجاهل القرآن الكريم فى الموطأ ، إذ قصره على الأحاديث، وكان يقسّمها حسب الموضوعات فجمع بين الأحاديث والفقه ، وكان رائدا فيهما . ثم جاء الشافعى فكان هو المؤسس الحقيقى للدين السّنّى الأرضى الوضعى . فقد أملى كتابه الضخم ( الأم ) فى سبعة أجزاء ، وسار على منهج الموطأ ، ولكن توسع فى الاسناد وفى اختراع آلاف الأحاديث ، والاستشهاد بآيات قرآنية ينتقيها ويجعلها تتفق مع هواه . وتميز الشافعى  فى ( الأم ) بالتفريع والتأصيل والشرح والتعليل . ثم وضع دستور وتقعيد وتنظير ( أصول الفقه ) فى ( الرسالة ). وكتب آخرون فى موضوعات فقهية وأصولية كالشيبانى وأبى يوسف صاحبى أبى حنيفة . وجاء ( مسند أحمد )متخلفا عن هذا كله لأنه مجرد جمع لأحاديث من أفواة من صنعها ، دون اهتمام بموضوعاتها الفقهية ، أى كان مجرد ( بروفة ) أو ( مسودة ) تحتاج الى من يقوم بتقسيم هذه الأحاديث وتفريعها حسب الموضوعات ، لأن الأحاديث لم تكن أبدا هدفا فى حد ذاتها ، ولكن لأغراض موضوعية سياسية ودينية تؤسس دين السّنة وتفريعاته العقيدية والتشريعية والتاريخية والنفسيرية ..الخ .

4 ـ ومع هذا ، فقد أصبح ابن حنبل ـ رغم أنفه ـ صاحب مذهب فقهى ، وذلك طبقا للشخصية التى صنعوها له ، وطبقا لآراء كثيرة نسبوها له زورا وبهتانا بعد موته . وبعضهم كان يزعم أنه سأله كذا وكذا ، وأنه أجاب بكذ وكذا . وقد قام ( عبد القادر أحمد عطا ) بتجميع ما يخص النساء من هذه الآراء فى كتاب أسماه ( أحكام النساء ) للإمام أحمد بن حنبل . وفيه تحريم النظر الى خُف المرأة ، والمرأة كلها عورة حتى ظفرها ، وكراهية الباروكة ، وكراهية كسب الماشطة وكراهية حفّ الوجه، و قتل تارك الصلاة وتكفيره واستتابته ، وقتل تارك الفرائض ومن يستحل الخمر : ( أحكام النساء 27 : 31 ، 33 : 47 ، 11 ، 16 ، 67 ـ ، 74 : 79 )