رقم ( 1 ) : مقدمة
معجزة اختيار اللفظ في القرآن : مدخل لعلم قرآنى جديد

 

 

 1 ـ معذرة للاعادة و التكرار. ولكنه الاضطرار . واقول بايجاز واختصار :

كنت فى مفترق الطريق عندما وقف الأزهر كله ضدى عام 1977 بقيادة شيخ الأزهر عبد الحليم محمود ، رفضا لما كتبته فى رسالتى للدكتوراة عن اثر التصوف فى العصر المملوكى. كان السؤال الذى يوجهونه لى والذى كنت أوجهه لنفسى : هل كل الناس على خطأ وأنت يا فلان الوحيد الذى هو على الحق .؟

مقالات متعلقة :

كان رفض الشيوخ الكبار لما كتبته مقترنا بالاستعلاء على شخصى ( كنت مدرسا مساعدا أواجه الشيوخ الكبار )، وبالتحقير لى الذى يعكس حقدهم على إجتهادى ، ويبرر جهلهم وقعودهم عن الاجتهاد . هذا الاستعلاء والتحقير دفعنى للتحدى . وهذا التحدى كان يحتاج الى أن أقتنع مائة فى المائة أننى على الحق ، لأواجههم بإيمان مهما كانت العواقب .

كنت أحفظ القرآن الكريم ظاهريا ، وأستشهد به عند اللزوم آليا وتقليديا دون تمعن حقيقى ودون تدبر مخلص . ولكن موقف الجميع ضدى جعلنى أقف وقفة مع نفسى . هل أنا على حق أم على باطل ؟ لا بد أن أقتنع أولا ، ثم أعلن إقتناعى ، ولا يهمنى بعدها ماذا يحدث طالما أن ضميرى مستريح بعد هذا الاقتناع . ولأ بد أن يكون هذا الاقتناع فعليا ومقنعا لعقلى أولا وأخيرا ، لأستطيع المواجهة عن علم ومعرفة . 

2 ـ إيمانى بالله جل وعلا لم يلحقه أدنى شك ، ولكننى فى رسالة الدكتوراة كنت أعرض كلام الصوفية وأفعالهم وتاريخهم على القرآن الكريم ، وكنت أنتقدهم فى ضوء آياته بطريقة آلية عادية ، بينما كنت أقرأ تراثهم وتاريخهم ومؤلفات العصر المملوكى قراءة نقدية متحررة . ولكن لم أفعل ذلك بالطبع مع الآيات القرآنية التى أستشهد بها . إذن تعيّن علىّ وقتها ـ فى مواجهة التحدى مع شيوخ الأزهر أن أعيد قراءة الآيات القرآنية نفسها بنفس القراءة النقدية التحررية التى أتعامل بها مع التراث . هذا التراث المملوكى بما فيه من تصوف وتاريخ وسُنة وأحاديث ممتلىء بالتناقض ، فهل يوجد فى القرآن نفسه تناقض ؟ لا بد أن أعرف الاجابة بنفس العقلية الباحثة الباردة التى تبدأ بدون فكرة مسبقة تريد تأييدها أو دحضها ، وتتعامل مع التراث المملوكى الصوفى والفقهى بعد تحديد مصطلحاته وفهم الجذور التاريخية التى تأسّس عليها هذا التراث وأصحابه .

3 ـ أكثر من هذا ، كان لا بد أن أتعامل مع القرآن الكريم بمنهج ( الشّك ) وليس بمنطق الايمان والتسليم . وهذا هو الفارق بينى وبين خصومى الشيوخ متبعى الأديان الأرضية . هم يتعاملون مع تراثهم السّنى أو الصوفى أو الشيعى بالتسليم والايمان والتصديق دون ذرة شكّ . ويقومون آليا بالتأويل والتبرير والتجاهل والتعامى . بينما أقرأ أنا هذا التراث بعقلية ناقدة فاحصة ، فأرى بسهولة تناقضه وتخلفه وخرافاته وخزعبلاته . ولكن كنت أعتبر البحث في القرآن موضوعيا وعلميا ومنهجيا يتعارض مع الايمان به . تعيّن علىّ وقتها أن أتعامل مع القرآن بنفس المنهج الموضوعى فى تعاملى مع التراث ، بل وأكثر بأن أبدأ بالشك .

4 ـ وطبقا لمنهج الشك سألت نفسى : هل القرآن من عند الله جل وعلا ؟ أم إفتراه وكتبه رجل عربى من قريش اسمه محمد بن عبد الله بن عبد المطلب ، فى القرن السابع الميلادى . لو كان مكتوبا بيد وقلم ( محمد ) فأنا أكثر منه علما ومعرفة ، فلقد ورثت بالتراكم علما أكبر منه ، وأعيش فى بيئة أكثر علما وحضارة من البيئة والعصر الذى عاش فيه ، وحتى لو كنت أعيش فى نفس عصره وأنا فى مصر وهو فى مكة لكنت أكثر علما ومعرفة منه. وإذا كنت أقرأ كتب أعلام التراث و أحللها وأكتشف عيوبها و أخطاءها و التناقض فيها ، فبالتالى لو كان محمد هو مؤلف القرآن الكريم فسيكون بوسعى اكتشاف ما فيه من أخطاء وتناقض .  

5 ـ وفى ذلك العام 1977 بدأت البحث الموضوعى فى القرآن الكريم ، من أول آية فى سورة البقرة ، واستمررت عاما الى أن انتهيت ، ومعى حصيلة علمية قرآنية تحولت بها الى شخص جديد إنسانيا وخُلقيا وباحثا أصوليا وقرآنيا . هذه الحصيلة العلمية القرآنية هى أساس أى مؤلف قرآنى كتبته وتم نشره أو لم ينشر من وقتها وحتى الان .

خرجت من التجربة شخصا مختلفا إنسانيا وعلميا ، خرجت بايمان عميق لا شك فيه فى أنّ القرآن الكريم كتاب رب العالمين الذى يعلو فوق إمكاناتى العقلية وإمكانات أى بشر ، وأنه يستحيل أن يكون من تأليف محمد ، بل إنه عليه السلام هو الذى تلقاه من رب العزة ، معجزا لكل البشر ، وأن آيته الكبرى فى أنه يجمع بين البساطة والعمق معا ، بساطة الهداية وسهولة الخطاب المفهوم فى عصر النبى وعصرنا ، بحيث لو إفترضنا أننا نتحدث مع أبى بكر أو عمر أو معاوية فلن يفهمنا ولن نفهمه ، مع أننا نتحدث العربية الفصحى ، ولكن لو تلونا معا القرآن لفهمناه . ومع ذلك فالقرآن فيه عُمق لانهائى لمن يريد التبحُّر فيه تدبرا وبحثا . وبهذا التيسير فى الذكر يتمكن العامى من الهداية لو أراد ، وبهذا العمق يزداد الراسخون فى العلم القرآنى إيمانا بأنهم لن يحيطوا بالقرآن علما .

سجد عقلى المشاغب للقرآن الكريم ، وعرفت من وقتها حلاوة الصلاة ، وجمال قراءة الفاتحة وروعة الخشوع فى السجود والركوع ، ومعنى أن أستعين على كل شىء من مصائب الدنيا ومتاعبها وأزماتها بالصبر والصلاة ( وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ (45) ، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153)   ) البقرة   )، وتعلمت من وقتها أننى طالما ألوذ بالله العزيز الجبّار خالق السماوت والأرض الواحد القهّار وطالما أعتصم بكتابه العزيز فأنا أقوى البشر وأقدر على تحدى العالم كله ، فكيف بالشيوخ الجهلة المنافقين أشباه البشر ؟. وواصلت طريق التحدى من وقتها وحتى الآن حتى صرت أرجو أن أموت قتلا فى سبيل القرآن الكريم لأكون شاهدا على عصرى هذا .  والذى لا يخشى القتل والموت لا يخشى من بشر ، والذى يخاف الله جل وعلا لا يمكن أن يخاف من البشر ، أما الذى لا يخاف الله فإن الشيطان يخيفه من كل شىء ، وهذا ضمن ما تعلمته من القرآن الكريم : (إِنَّمَا ذَلِكُمْ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175)  آل عمران ) . 

6 ـ أصبحت باحثا مختلفا أيضا . عثرت فى القرآن الكريم على محيط لا حدود لعمقه وإتساعه ، وقفت أمامه منبهرا . لم يسبق لأحد قبلى أن قرأ القرآن بمنهج موضوعى يحدد مفاهيم ألفاظه من خلال سياقاته ، ويتدبر كل الآيات الخاصة بالموضوع بلا رأى مسبق وبلا إنتقاء ، ثم يستخلص الرؤية القرآنية فى النهاية . كانت العادة أن يدخل الفقيه على القرآن وهو يحمل فى قلبه مذهبه ودينه الأرضى لينتقى من الآيات ما يتفق معه ويؤول ويتجاهل و يقول ( بنسخ ) ما يخالف رأيه من آيات قرآنية ، ثم هو يجعل الأحاديث التى يؤمن بها هى الحكم فى نظرته للقرآن الكريم ، ويفهم كلمات القرآن الكريم ومصطلحاته حسب المفهوم السائد فى عصره ، ويرى مصطلحات القرآن تابعة لعصره ، ويسيطر عليها عصره . ثم يعلن كل المختلفون أن ( القرآن حمّال أوجه ) ينتقى منه كل شخص ما يريد ، ويختلفون ويتضاربون بالآيات ، فيزدادون بالقرآن خسارا ، كما قال رب العزة : (وَنُنَزِّلُ مِنْ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَاراً (82) ( الاسراء ).  أحسست بمنهج التدبر القرآنى بالشفاء النفسى وراحة البال التى تجعل القلب مستعدا للتضحية متقبلا لها فى سبيل الدفاع عن حقائق الاسلام . وبعد 36 عاما لا زلت تلميذا أمام القرآن العظيم ،أكتشف منه ما لميكن لى به علم من قبل ، وأشعر وقتها برعشة الانتصار العلمى وروعة الايمان بهذا الكتاب السماوى الذى لا مثيل لروعته وحلاوته . لا زلت وأنا فى الرابعة والستين من العمر أبدأ كل بحث قرآنى من نقطة الصفر ، أدخل على القرآن فى بحث موضوع ما دون أدنى فكرة مسبقة ، أريد مخلصا أن أهتدى وأن أعرف الحقيقة القرآنية . وإذا ظهر خطئى سارعت بالاعتراف بالخطا وبالتصويب.  وبالقرآن الكريم ومن عام 1977 بدأت تطهير عقلى وقلبى من قاذورات الدين الأرضى وموروثاته . ولا زلت حتى الآن فى هذا التطهير . وأعذر ضحايا هذه القاذورات .!

7 ـ وأعاننى على التدبر القرآنى التبحر فى تاريخ المسلمين وتراثهم من عصر الخلفاء الى نهاية العصر المملوكى . وحتى الآن أقوم بعرض تاريخ المسلمين وتراثهم على القرآن الكريم بهدف الاصلاح السلمى ن فى عصرنا هذا الذى سقط فيه المسلمون فى حضيض التقاتل المذهبى .

8 ـ ولكن .. ماهى صلة هذه المقدمة الطويلة بعنوان هذا المقال : (معجزة اختيار اللفظ في القرآن : مدخل لعلم قرآنى جديد  )؟

 كنت فى بحث الدكتوراة أقرأ تراث العصر المملوكى بعين الناقد المتحفّز لأى تناقض أو خطأ ، والعصر المملوكى هو الذى شهد إعادة تدوين التراث الفكرى العربى بعد تدمير المغول لبغداد ومكتبتها ، ولم يقتصر العصر المملوكى على إعادة كتابة الكتب التى ألفها العصر العباسى بل قام بشرحها والتعليق عليها ، كما حدث مع صحيح البخارى . وكان منهج رسالتى فى الدكتوراة ( أثر النصوف فى العصر المملوكى ) يستلزم توضيح أثر التصوف فى الحياة العلمية والعقلية وعلوم الحديث والتفسير والفقه ..الخ ، أى كان لا بد أن أقرأ هذه المؤلفات دراسة نقدية لأعثر على أثر التصوف فى عقلية علماء العصر المملوكى فى التعليق عليها . وبالقراءة النقدية لمشاهير العلماء والفقهاء فى العصرين العباسى والمملوكى كان سرعان ما يتساقطون فى نظرى ، بأن أرى تناقض المؤلف مع نفسه حتى فى الصفحة الواحدة . وبالمعايشة تولّدت عندى هذه الملكة فى الاكتشاف السريع لأى خلل أو تناقض لأى كتاب أقرؤه . ودخلت بهذه الخبرة على القرآن الكريم ، فلو كان من تأليف ( محمد بن عبد الله ) فلا بد أن يقع فيه تناقض كبير ، فمن جاء بعده فى العصر العباسى وقعوا فى هذا التناقض ، فكيف برجل عربى فى بيئة صحراوية ؟ أما إذا لم يكن فى القرآن هذا الاختلاف والتناقض فهو فعلا من عندالله ، وأن محمدا هو رسول الله . والذى يعزّز هذا ان القرآن الكريم قد تميّز بالتكرار فى القصص والتشريع وغيبيات اليوم الآخر التى توزعت فى سور كثيرة تختلف فى تفصيلاتها . وهذا التكرار وما فيه من متشابهات تجعل إحتمال الاختلاف والتناقض مؤكدا لو كان القرآن الكريم من تأليف بشر . لذا كان تركيزى على المتشابهات والموضوعات المكررة بحثا عن التناقض والاختلاف . وبعد دراسة متأنية مركزة إكتشفت علما جديدا هو معجزة اختيار اللفظ فى القرآن الكريم ، ضمن اكتشافات أخرى ، ولكن لم أجد الوقت حتى الان لمتابعة كل البذور التى بدأتها فى عام 1977 الذى شهد تحولا فى حياتى وسجودى أمام عظمة القرآن الكريم ، حتى لقد أسميت هذا العام (  العام القرآنى ) .

9 ـ وفى منتصف التسعينيات وما بعدها عهدت لى جريدة العالم اليوم بالكتابة فى صفحتها الرمضانية السنوية ، فكان مما نشرته فيها فقرات من (  معجزة اختيار اللفظ في القرآن) . أى عدت ـ كالعادة ـ الى أوراقى القديمة فى العام القرآنى عام 1977 ، وعثرت على تخطيط لعلم جديد فى القرآن الكريم هو (معجزة اختيار اللفظ في القرآن  ). ونشرتها على مراحل .

ونعيد نشرها هنا دعوة لمن يتابع الطريق ، ويكتب المزيد والجديد .

معجزة اختيار اللفظ في القرآن :
هل هناك تناقض بين ألآيات المتشابهة والموضوعات المتشابهة ؟ أم فيها إعجاز ؟ يؤكده قوله جل وعلا : (أَفَلا يَتَدَبَّر ُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (82) النساء ) . فى تدبر للقرآن كان هذا البحث مدخلا لعلم جديد هو ( معجزة إختيار اللفظ فى القرآن الكريم ) .
كان مما إكتشفه الامام البقاعى فى القرن التاسع الهجرى ما أسماه بعلم المناسبة فى القرآن الكريم ، وكتب فيه كتابا ضخما ، لا يزال ـ حسب علمى ـ مخطوطا فى مكتبة الأزهر . ولم أعثر على مخطوطة الكتاب فى السبعينيات ، ولكن السيوطى ( الخصم اللدود للبقاعى ) سرق أفكار البقاعى ، ولخّص كتابه فى رسالة قصيرة ، مطبوعة
more