رقم ( 5 )
الباب الثانى : أخبار الشارع المصري في عصر السلطان قايتباى

كتاب ( المجتمع المصرى فى ظل تطبيق الشريعة السنية فى عصر السلطان قايتباى):دراسة فى كتاب ( إنباء الهصر بأبناء العصر ) للمؤرخ القاضى ابن الصيرفى .

 الباب الثانى : أخبار الشارع المصري في عصر السلطان قايتباى

الفصل الأول : نشرة أخبار السلطان قايتباى

مقالات متعلقة :

 أخبار السلطان الشخصية :

1 ــ لم يكن ابن الصيرفي موفقاً في اختيار عنوان كتابه "أنباء الهصر في أبناء العصر" وكان أول له أن يقول "أنباء الهصر في أنباء سلطان العصر" ، فالكتاب يدور في الحقيقة حول السلطان ومن له علاقة بالسلطان، وما ورد من إشارات بين السطور لأخبار بعض العوام فمرجعه لوجود علاقة بينهم وبين السلطان أو عمال السلطان، وكأنما كان ينبغى لأحد أن يقتله السلطان أو يسلخه ليفوز بالذكر والتسجيل في تاريخ ابن الصيرفي. ومن الصعب على مؤرخ من نوعية ابن الصيرفي أن يفصل بين ما هو خاص في أخبار السلطان يدخل تحت بند الأخبار الشخصية وبين ما هو عام ورسمي يختص بسياسة الدولة، فالمؤرخ ابن الصيرفي جعل السلطان قبلته التى يطوف حولها ولا يرى غيرها، بل ولا يرى الأشياء الأخرى والأشخاص الآخرين إلا من خلال سيده السلطان.

2 ــ ونعرض لطائفة من أخبار السلطان الشخصية من وجهة نظرنا نحن، وإن كان ابن الصيرفي يجعلها كلها أخبارً سياسية هامة يعتقد أن البشر جميع لا يحلو لهم النوم في الليل إلا بعد أن يطمئنوا عليها وعلى صاحبها.

نزهات السلطان قايتباى

1 ــ وكان قايتباى مغرماً بالتنزه ، وقد أرهق مؤرخنا وهو ( يتشعلق ) بذيل فرسه يسجل نزهاته هنا وهناك ويلهث وراءه بالكتابة ، بل  ويعلن أن أنفاسه انقطعت من كثرة تسجيله لتحركات السلطان في تلك النزهات.

2 ــ في شهرة ذى القعدة 873 كان السلطان مهموماً بانتصار شاه سوار على الجيش المملوكي فخرج للتنزه ليروّح عن نفسه، ونرى مؤرخنا يكتب "وعندى أن مولانا السلطان نصره الله ليس عنده أعزّ من الركوب والتنزه ، ولا يبالى بأحد ، ولا يخاف إلى الله وهو حافظه ومعينه، وسبب هذا الركوب أن السلطان في أمر عظيم بسبب هذا الخارجي الوضيع الذى ليس له ذكر في القديم ولا لآبائه ، وقد صدر منه كسر العسكر المصر والشامي وبهدلته وقتل جماعة من أعيانه. ). أى لا ينسى القاضى المؤرخ المنافق إبن الصيرفى مدح قايتباى حتى فى نزهاته ، ويكيل السّب والشتم للثائر الوطنى شاه سوار الذى أراد تحرير وطنه فى شمال العراق من ربقة السيطرة المملوكية.

3 ــ وفي نفس الشهر (ذى القعدة) فى العام التالى يقول ابن الصيرفي "وأما ركوب السلطان نصره الله فقد تزايد جداً ولا يكاد ينحصر لكثرته، وهذا دالّ على شجاعته وفطنته وصحته" أى أنه وجدها أيضا فرصة للإشادة بالسلطان وشجاعته وفطنته وصحته. وفي شهر شعبان 875 يقول: ( وتكرر ركوب السلطان وقلة العسكر في خدمته إلا العدد القليل.). وفي شهر شعبان 875 يقول: ( وقد كثر ركوب السلطان أياماً ولم أذكر ذلك ولا كتبته لكثرته.). ثم يشعر مؤرخنا بالملل من كثرة تسجيله نزهات قايتباى فيقول فى أحداث يوم الأربعاء 29 ربيع ثان 876 : ( ركب السلطان على عادته وتوجه إلى الخانكاة وقد قدمنا في غير موضع من هذا الكتاب أن نحن لسنا بصدد ركوبه فإنه تزايد جداً.).

ومع ذلك كان مؤرخنا يذكر الكثير من تنزهات السلطان إذا كان فيها إسهاب وتفصيل يستحق الذكر أو كان فيها استقبال حافل للسلطان حين رجوعه من تلك النزهة، كأن يقول عن يوم الأربعاء 12 صفر 876 "ركب السلطان وتوجه إلى القرافة وقيل إلى طرا وهرع لخدمته الأعيان والخواص والخدام حتى المغاني.).

وهى أول مرة نعرف فيها من ابن الصيرفي أن الغواني كن يستقبلن السلطان، والغواني مصطلح كان يطلقه العصر المملوكي على العاهرات البغايا وكن يدفعن للدولة ضرائب على نشاطهن.

السلطان يلعب الكرة:

1 ــ واهتم مؤرخنا بلعب السلطان الكرة مع أمرائه.

فقد كان قايتباى مفتوناً بلعب الكرة أو الصولجان، وهى كرة قدم يتبارى فيها الفرسان وهم راكبون خيولهم باللعب بالكرة . وفى إهتمامه بها كان قايتباى يهمل من أجلها وفد المشايخ والقضاة الذين يحضرون لتهنئته بأول الشهر العربي. في أول شهر ذى القعدة 874 يقول: "وكان السلطان في هذا اليوم قد لعب الصولجان التى يسمونها الكرة ولعب معه الأمراء المقدمون الألوف". وفي يوم السبت 2 ذى الحجة من نفس العام يقول: "وفي يوم السبت ثانية انتهى لعب السلطان من الكرة". وفي أول شهر ذى القعدة 875 يقول مؤرخنا "فيه صعد قضاة القضاة ومشايخ الإسلام لتهنئة السلطان بالشهر على العادة ، وكنت في خدمة قاضى الحنفية ابن الشحنة ، فوجدنا السلطان يلعب بالكرة بالحوش السلطانى ، فانتظروا بالجامع الناصري قلاوون بقلعة الجبل ، إلى أن انتهى اللعب ، وطلبهم ) . أى كان لعبه بالكرة أهم من رؤية المشايخ. ولا ريب أنه كان ( عنده حق ).

2 ــ وفي رجب 875 يعطينا مؤرخنا بعض التفضيلات عن لعب الكرة .

يقول "لعب السلطان مع الأتابك أزبك فغلب بالنشاب في رهن عليه بألف دينار ، فاشترى منها مائة معلوف ( أى خروف سمين ) بستمائة دينار ومائة خروف بدارى وسكرا ودجاجاً وأوزا وفاكهة وحلوى وما أشبه ذلك، واتفقوا على أن يتوجهوا إلى القناطر العشرة ويقيموا بها أياماً يأكلون ويشربون ويتنزهون.) . أى كان لعب الكرة مرتبطاً بالمراهنة والنزهة والمداعبات. وطريقة اللعب كالآتي: ينقسم اللاعبون إلى فريقين على رأس كل فريق (باش) أحدهما السلطان والآخر أتابك العسكر، وعادة ما يكون اللعب بالكرة مرتين في الأسبوع، ويعرف هذا بموكب لعب الكرة. وتقترن هذه الرياضة بنوع من المداعبات كأن يقوم المغلوب بإعداد وليمة فاخرة، وحدث سنة 800 أن لعب السلطان برقوق الكرة مع الأتابك أيتمش البجاسى بالحوش السلطانى ، وغلبه فأظهر الأتابكى استعداده لعمل الوليمة لكن السلطان تحملها عنه ، وجاءت غاية في السعة والترف ، إذ جمع فيها المغنيين كما سمح للناس بدخول الميدان، واحتوت الوليمة على 20 ألف رطل ضانى، 200 زوج أوز، 100 دجاجة، 20 فرساً للذبح، 30 قنطاراً سكر، 200 علبة فاكهة، 200 مجمع حلوى، 30 قنطار زبيب، 60 أردب دقيقة للبوظة.).

3 ــ على أن بعض المباريات كان يحدث فيها ما يعكر الصفو.

ففي يوم الأحد 29 شوال 875 لعب السلطان قايتباى بالكرة مع الأمير جانبك حبيب فوقعت عمامة السلطان من رأسه إلى الأرض، وانكشفت رأسه، وذلك عيب كما سبق توضيحه، يقول مؤرخنا ابن الصيرفي عن حالة السلطان عندئذ " ( فاحتد السلطان وتسودن ) أى انقلب مزاجة إلى سواد.

وبعدها بأيام أى في الثاني من ذى القعدة حدث ما هو أفظع، يقول مؤرخنا : ( لعب السلطان بالكرة على العادة فتقنطر بالجواد ووقع عن ظهره وسقط شاشه عن رأسه )، ويضيف : ( إنقلب الحوش السلطانى ، ونزل جميع الأمراء عن خيولهم ، وبادروا لحمل السلطان ولم يحصل له أدني شدة ولا تشويش غير أنه احتد تسودن. )

فالسلطان المملوكي ينبغى أن يكون أٌقوى الجميع وأفرسهم، ووقوعه عن جواده، وأن يسرع الجميع إلى نجدته مما يحط بكرامته ويضع من هيبته، لذا احتد السلطان وتسودن.

4 ــ وفي يوم الاثنين 20صفر 877 لعب الأمير يشبك من مهدى الداودار الكبير الكرة والصولجان في بيته هو والأمراء المقدمون الألوف .( وأمر مماليكه بإخراج من في الدار والبوابة من الناس ، ونهرهم فلم ينتهوا ولم يخرجوا فضربهم . ومن جملة من ضرب نقيب الجيش على ظهره وأكتافه وكانت ساعة عظيمة مهولة ).

ويتضح مما سبق أن بيوت المماليك الكبار كانت تتسع لمثل هذه المباريات . والداودار الكبير المشهور بالعنف والقسوة أراد إخلاء داره ليلعب فيها مع كبار الأمراء، وطرد الباقين ممن هم أقل رتبة من الخدم والبوابين، وأولئك كانوا مشتاقين لرؤية المباراة فصمّموا على المشاهدة فنالوا الضرب وكان من المضروبين نقيب الجيش، وكانت ساعة عظيمة مهولة على حد قول مؤرخنا.

مرض السلطان:

1 ــ ولا ريب أن كان مرض السلطان من الأحداث الخطيرة عند ابن الصيرفي وعند الدولة أيضاً.لأنّ مرض السلطان تنذر بالصراع على العرش بين الأمراء الأقوياء ، ولا بد أن يستعد كل منهم للوثوب مكانه ، وهذا يعنى فترة من الاضطراب كانت تتكرر فى العصر المملوكى .

2 ــ ليلة الأحد 11محرم 876 ركب السلطان من قلعة الجبل وتوجه إلى شبين القناطر وصحبته الأتابك أزبك وبقية الأمراء . وفي الطريق وثب فرس السلطان على فرس الأمير الكبير أزبك فأسقط عمامته ، فالتفت ليأخذها فضرب فرسه ، فجاءت الضربة في ساق السلطان ، فتجلد لها وكتمها، ولكن لما وصل السلطان إلى شبين قوى عليه الألم فطلبوا له المجبرين والمزينين والمحفة، أى الأطباء والإسعاف بلغة عصرنا، ورجع السلطان إلى القلعة يوم الاثنين، ووصل خبر ما وقع للسلطان للقاهرة في حينه، يقول مؤرخنا "وكان الخبر وصل إلى القاهرة بما وقع للسلطان من الضربة التى جاءت فارتجّ البلد وأصبحوا وقد هدّوا ما كان في البلد وحوانيته وأزقته من الزينة والوقود ، وصاروا في هرج ومرج ، وأمر كاتب السر بأن ينادى في البلد "بالأمان والاطمئنان وأن أحد لا يهدم الزينة ولا الوقود "، ومن هدم سأفعل به كيت وكيت . وأرسلوا في البلاد الشامية وغيرها أن السلطان طيب بخير وسلامة خوفاً من الاختلاف بين الأمراء ووقع تآمر وفتن.)

وفي مساء الخميس 15 محرم شرب السلطان دواء ولم يمكنوا أحداً من الدخول عليه ، فبلغ ذلك ابن مزهر الأنصاري كاتب السر بعد أن صعد للقلعة ، فرجع ، وأخبروا السلطان بذلك فتغيظ لأنهم لم يستأذنوا له، وقد كان ابن مزهر الأنصاري هو السبب في إصدار قرار السلطان بمنع الوالى وأصحاب السجون من أخذ إتاوة على المساجين وإرغامهم على التسول، فذلك القرار الذى صدر يوم الخميس 15 محرم.

ولم يحضر السلطان صلاة الجمعة 16 محرم . وصعد الأمراء اليه فى القلعة ، ودخلوا بين يديه فسلموا عليه وسقاهم المشروب وعادوا لمنازلهم. ولم يطع أهل المدينة الأوامر فقاموا بهدم الزينة التى كانوا قد أعدّوها للإحتفال باستقبال السلطان . وعقد احتفال بشفاء السلطان يوم الجمعة 28 صفر، وركب السلطان من القلعة إلى الجامع وصلى الجمعة . ( وفرشت له الشقق المخمل من باب الحريم إلى باب الجامع،) يقول مؤرخنا ( واجتمع بحريم السلطان من المغاني والفرج والمدات (أى المآدب )ما يليق بهم .) ويختم الخبر بالمعتاد من النفاق : ( وفي الواقع فلله الحمد والشكر على عافية مولانا السلطان نصره الله.).

3 ــ وكان بعض أرباب المناصب إذا علم بأن السلطان أصابته وعكة خفيفة بادر بإرسال الهدايا للسلطان.

ففي يوم الأحد 26 شوال 876 استعمل السلطان دواء ، ولم يعلم بذلك أحداً ،( فبلغ ذلك المقر الأشرف الزينى ابن مزهر فجهّز له ما يليق به من حلوى وفاكهة ومشموم وغير ذلك مما لابد منه ).

وجدير بالذكر أن كاتب السر ابن مزهر أصابته وعكة عوفى منها فصعد للسلطان يخبره بشفائه . يقول مؤرخنا عنه ( وصعد الى السلطان نصره الله، فقبّل يده ، فخلع عليه كامليه سمور بمقلب سمور . )ويستمر مؤرخنا يصف ما حدث من سرور بسبب شفاء كاتب السر: ( وزيّن له البلد وفرحوا بعافيته وسلامته وكذا الدعاء له من كل أحد وأثنوا عليه بالجميل واستمروا في خدمته إلى منزله) ويقول يصف شعوره ينافق سيده إبن مزهر ( وسيماً كاتبه ومؤلفه (يقصد نفسه) فإنه غريق فضله ونعمته، وأنشد لسان حالى في ذلك:

 

كل من في حماك يهواك لكن
 

 

أنا وحدى بكل من في حماك
 

 

ومعناه أن الناس كانت تتفاعل مع السلطان وأحواله الشخصية ومع كبار أعوانه خصوصاً إذا لم يكونوا مشهورين بالظلم مثل كاتب السر ابن مزهر الأنصاري.

4 ــ وفي يوم الجمعة 28 صفر 886 مرض السلطان، أصابه برد، وتقرأ تعبيرات مؤرخنا وفكرة عصره عن تلك الأمراض المعتادة : ( وحصل لمولانا السلطان نصره الله هوى ، توعّك منه ، بسبب أنه نزع الفروة ، وصار بالجوخة ، فاستهوى ،وأفتصد واحتمى ، وحتم من أكل الزفر وكان قصده يوم السبت تاسع عشريه، وأصبح يوم الاثنين مستهل شهر ربيع الأول.. والسلطان نصره الله وحفظه طيب في خير وعافية فلله الحمد والمنة على ذلك.). كانوا يعتقدون إنّ كشف الرأس يجلب المرض بنزلة برد . وكان العلاج بالفصد الدموى والامتناع من أكل الطيور أو ( الزفر ).

لباس السلطان للشتاء والصيف:

1 ــ وكان مؤرخنا يسجل لبس السلطان لزى الشتاء والصيف كأحد الأخبار الرسمية الهامة.

في أول شهر جمادى الأول 873 يقول "لبس القماش الصوف المعد لبسه لفصل الشتاء وخلع على الأمراء الألوف الفوقانيات الصوف )، أى (جُبّة )يلبسونها فوق الزى . ( وخلع السلطان الفوقانى الذى هو لابسه لرأس نوبته الكبير، ثم يصير كل جمعة لمن دونه وهلم جرا إلى أن انتهى الشتاء ) . وهنا يشير مؤرخنا إلى أحد التقاليد المملوكية في ارتداء الزى، وهى أن ينعم السلطان على كبار الأمراء، الأمراء الألوف، بالفوقانيات الصوف زياً لموسم الشتاء ، ثم ينعم السلطان بجبته أو الفوقانى الذى يلبسه لرأس النوبة، أى كبير الحراس ثم ينتقل كل جمعة لمن هو دونه في الرتبة إلى أن ينتهى فصل الشتاء.

2 ــ وفي يوم الاثنين 26 شوال 873 يقول صاحبنا: ( لبس السلطان الملك الأشرف نصره الله القماش الأبيض المعد لبسه للصيف على العادة في كل سنة، من غير موكب، وهذا بخلاف عادات الملوك، فإن العادة لا يلبس السلطان ذلك إلا في يوم الجمعة عند دخوله إلى الصلاة بموكب  عظيم، فلم يكترث السلطان بذلك ولا التفت إليه ، ولبس سلاريا بعلبكيا في قاعة الدهيشة ، وخرج به إلى الحوض السلطانى . ) ، أى خرج قايتباى عن التقاليد المملوكية حين ارتدي زى الصيف يوم الاثنين وبدون موكب كما هى التقاليد المرعبة.

وفي يوم الجمعة 12 جمادى الأولى 874 ( لبس السلطان القماش والصوف الملون المعد لبسه للشتاء في كل سنة عند دخوله لصلاة الجمعة . وتأخر عن العادة أكثر من عشرة أيام،) أى كان ينبغى أن يرتديه في أول جمادى الأولى كما حدث في السنة الماضية. وفي يوم الجمعة 29 جمادى الأولى 875 يقول:  ( لبس السلطان الصوف الملون ، وألبسه الأمراء الألوف بعد صلاة الجمعة . وتأخر لبسه عن العادة القديمة بعشرين يوماً، أعنى عن عادة الملوك المتقدمين مثل الأشرف برسباى وقبله، وعن السنة الماضية بعشرة أيام.). وفي يوم الجمعة 15 ذى القعدة 876  ( لبس السلطان نصره الله القماش البعلبكي المعد لبسه للصيف قبل عادته بثمانية أيام، وقيل بثمانية عشر يوماً. ) ويبدو أن السلطان كان يأخذ بالتقويم القبطي في ارتداء لباس الشتاء والصيف، فكان يرتدي زى الشتاء في شهر هاتور ويرتدى زى الصيف في برموده وبشنس. وفي يوم الجمعة 27 صفر 886 الموافق 8 بشنس : ( لبس السلطان نصره الله القماش الأبيض المعد لبسه للصيف قبل صلاة الجمعة وسبق العادة بخمسة أيام، وما قارب الشيء يعطي حكمه.). صدقت يا شيخنا القاضى الفقيه : (وما قارب الشيء يعطى حكمه.) . هى عبارة فقهية يعقّب بها إبن الصيرفى عن المواعيد المختلفة لزىّ السلطان ، كأن موعد ارتداء السلطان لزى الشتاء والصيف يعتبر عيداً إسلامياً نستطلع من أجله الهلال وتختلف فيه الآراء وتصدر فيه الفتاوى.ولكنها عبادة الحاكم فى الشريعة السّنية ، يقوم بها قاضينا المؤرخ ابن الصيرفي.

حضور السلطان حفلات الزفاف والميلاد:

1 ــ  وكان السلطان يحضر حفلات عقد القران والزفاف وما قد يترتب على ذلك من آثار جانبيه مثل الولادة والاحتفال بالمولود.وكان ابن الصيرفي فى تاريخ (الهصر) يرقص بين يدى السلطان في هذه الحفلات.

في يوم الجمعة 25 محرم 874 تم عقد زواج الداودار الكبير على كريمة السلطان السابق أحمد ابن الأشرف اينال ، وحضر السلطان عقد القران بالجامع الناصرى بالقلعة، وحضره قضاة القضاة وكاتب السر والأعيان، ويعلق مؤرخنا فيقول" وكان عقداً عظيماً .وكيف لا ؟!. وحُمل لهذا العقد أشياء عظيمة من سكر وحلوى وفاكهة وأغنام ومشروب وغير ذلك . والله هو الولى والمالك.). وحتى لا يتهمنا أحد بالقسوة على مؤرخنا ابن الصيرفي نأتى بالخبر من بدايته يقول: ( وفي يوم الجمعة خامس عشر عقد صاحب الحلّ والعقد ومشير الدولة ومديرها ووزيرها واستادراها وداودارها الكبير وما أضيف إلى ذلك من ملك الأمراء بالوجه القبلي والبحري وما مع ذلك أعز الله أنصاره على بنت السلطان الملك المؤيد أحمد بن الملك الأشرف إينال مولانا الأشرف أبى النصر قايتباى عز نصره.. إلخ.). كل هذه الألقاب للعريس يا ابن الصيرفى .!! ناقص يقول شويش. والعاقبة عندكم في المسرات.

2 ــ ودخل العريس يشبك بن مهدي الداودار الكبير على عروسه مسلحاً بكل هذه الألقاب المرعبة التى لا يملّ من ذكرها مؤرخنا ابن الصيرفي، وربما أتت تلك الألقاب بمفعول قوى ، إذ أنجب العريس ذو الألقاب والنياشين طفلاً يوم الثلاثاء الثاني من ذى القعدة 875 . وندع صاحبنا يصف ذلك الحادث السعيد: ( وفيه وُلد للمقر الأشرف الكريم العالي السيفي عظيم الدنيا وصاحب حلها وعقدها ووزيرها واستادراها وداودارها الكبير وما مع ذلك شيد الله به الممالك ـــ  ولد.). أى ينقطع نفس القارىء فى قراءة هذه الألقاب إلى أن يصل إلى كلمة ولد. ويلتفت مؤرخنا إلى سيده قايتباى وموقفه من ذلك الحادث السعيد فيقول "فسُرّ به السلطان وخلع على الذى بشره به كاملية سمور بمقلب ). المهم : ( وأنعم له بعشرين دينار ، ورسم للمولود باقطاع وجامكية وغير ذلك ، وسمى منصوراً ) .ترى هل كان يأمر السلطان باقطاع وجامكية لأجدادنا حين كانوا يولدون على "مدار الساقية" او على "عتبة الزريبة" أم كان مكتوباً عليهم أن يعيشوا في الشقاء ويمتص دمائهم زبانية المماليك وأولادهم الذين يولدون بمعالق ذهب في أفواههم.؟!!.

ونرجع لصاحبنا وهو يصف الهدايا والاحتفالات التى أقيمت لذلك المولود السعيد : ( وعُملت له الزلابية من حلوى ثلاثة أيام مع الأسمطة، وقدم له الأكابر من كل صنف، وجهزوا ساعياً بالبشارة لوالده (كان يقود الجيش المملوكى الذى تجرد لحرب شاه سوار ، وبالمناسبة لم يرجع منها )، وقاصداً (أى ساعيا) آخر لجده لأمه الملك المؤيد أحمد بن الملك الأشرفي اينال بالإسكندرية،وهرع لخوندات والستات والرؤساء والمباشرون للسلام عليها والتقدمة لها وصنعوا لها المدات (الآدب) والأسمطة من فاخر المآكل والمشارب وأمثال ذلك.). ويا حسرة على المصريات في ذلك العصر اللائى كن ينجبن للشقاء أطفالاً يرضعون المش الغني بالدود ويشربون الماء بالطمي، حتى إذا كبروا امتص دماءهم المماليك، والبلهارسيا..

ويا أيها المصري المطحون دائماً :إننى أحبك ومع سبق الإصرار والترصد.!

أخبار أخرى للسلطان:

1 ــ ولا يترك صاحبنا المؤرخ مناسبة إلا وأشاد بالسلطان وأثبتها خبراً هاماً من أخبار الزمان.

في عيد الفطر 876 وكان يوم الأربعاء يورد من أخباره الآتي: "ووقعت للسلطان غريب تكتب من محاسنه" ولابد أن نكتم أنفاساً انتظاراً للمفاجأة، ونراه يكتب : (  وهو أن الظاهر خشقدم خلف ولداَ صغيراً عمره نحو خمس سنين صعدوا به بين يدى السلطان فطلع لابساً قماشاً وكلفته فخلع عليه متمراً، فلما رآه السلطان أمر بحمله إليه فجلس بجانبه على الكرسي.).

يا للهول. السلطان أجلس إلى جانبه طفلاً صغيراً على الكرسي، وذلك الطفل ليس من أولاد الرعاع وإنما كان أبوه سلطاناً سابقاً وتركه يتيماً، وجئ به للسلطان فتلطف به وأجلسه على جانبه.

يا للهول..كان لابد للأرض أن تتوقف على الدوران... عيب يا ابن الــ .. الصيرفي.

2 ــ وإذا كان مؤرخنا يحتفل بتلك الأخبار لذلك لا تعجب إذا وجدناه يسجل كل استقبالات السلطان للسفراء القادمين لمصر، ويصف ما استطاع إلى ذلك سبيلا كل ما يراه، وما يسمعه.. وقد احتل ذلك الكثير من الأخبار.

الهوامش

1) الهصر: 69، 165، 206، 244، 358، 327.

2) الهصر: 165، 281، 241.

3) تاريخ ابن اياس: 1/309، 2/117: 118، 145، 347.

4) الهصر: 281، 283، 473.

5) الهصر: 321، 322، 331، 425، 213، 517: 518.

6) الهصر: 43، 67، 152، 229، 431، 517.

7) الهصر: 123، 283.

8) الهصر: 416.

9) 12، 51، 52، 69، 74، 118، 162، 162، 198، 202، 362.

الفصل الثانى : بعض المظاهر الاجتماعية للمصريين فى ظل تطبيق الشريعة فى عصر قايتباى

 المنتزهات في عصر قايتباى:

1 ــ في الوقت الذى تعلق به مؤرخنا بالسلطان يسجل كل تحركاته ونزهاته فإنه من النادر أن نراه تحدث عن نزهات الآخرين حتى من أرباب الوظائف الذى ترجم لهم. وكان ابن الصيرفي كما سبق بيانه يلهث ويتعب من كثرة تحركات السلطان ، فيقول مثلاً في رجب 876:( وكثر ركوب السلطان ونزوله من القلعة جداً حتى أنى تركت كتابته.). وقد سبق توضيح تحركات السلطان. ولكننا هنا نركز على أماكن المنتزهات السلطانية ونخمّن أنها كانت أماكن منتزهات يستطيع الجميع الذهاب إليها.

2 ــ يقول مؤرخنا عن أخبار الأربعاء 5 جمادى الثانية 873: ( ركب السلطان من قلعة الجبل بغير قماش الخدمة في نفر من خواصه وألزمه وقصد بركة الجب (بركة الحجاج ) فوصلها ثم توجه إلى خانقاه سرياقوس (مدينة الخانكة بالقليوبية) ثم رجع إلى عين شمس الخراب ( أى منطقة الآثار المسماة الآن بالمسلة فى المطرية ) التى بها العمود المسمى بمسلة فرعون فنزل بها وأقام يومه هناك وعاد إلى القلعة في أخر النهار.)

فهنا ثلاثة أماكن للنزهة، بركة الحجاج حيث كان الحجاج يتوقفون فيها في طريقه إلى الحج، وخانقاه سرياقوس حيث أقام الناصر محمد بن قلاوون أشهر خانقاه للصوفية في العصر المملوكي وصارت محطة وصول واستقبال للقادمين إلى القاهرة، ثم المسلة التى لا تزال موجودة حتى الآن بين المطرية وعين شمس.

وكانت العادة أن يتوقف السلطان في القبة التى أقامها له الداودار الكبير يشبك ابن مهدى الرجل الثانى في عصر قايتباى، وهى لا تزال تتوسط ميدان حدائق القبه، والميدان لا يزال يحتفظ باسم القبة، قبة يشبك ابن مهدى الأمير المملوكي غليظ القلب.وربما تحرك قايتباى من المسلة إلى قبة يشبك ومنها للقلعة.( أى ركب من المسلة إلى حدائق القبه. وربما سار في مسار أتوبيس 41...!! ).

3 ــ ولأن الناس على دين ملوكهم فإننا نتوقع أن تكون الخانكة والقبة من أماكن التنزه في عصر قايتباى . يقول صاحبنا في أحداث الثلاثاء 15 ذى الحجة 885، ( صعد المباشرون والأمراء والخاصكية لخدمة السلطان على العادة بالحوش السلطانى بقلعة الجبل ، فردّهم الخدام وقالوا له: السلطان رسم أن الخدمة في هذا اليوم بطالة ( أى أجازة )، فرجعوا. وكان السلطان نصره الله طلب الحريم بين يديه إلى البحيرة ، ( أى جىء له بالحريم ) فأكل وانشرح، ثم ركب بعد ذلك وسيّر على عادته وعاد إلى القلعة، وتقدم له نصره الله أنه ، قبل هذا اليوم في أيام عيد الأضحى ، ركب وتوجه إلى القبة التى أنشأها له المقر المرحوم السيفي يشبك ابن مهدى أمير سلاح الداودار الكبير، وتوجه أيضاً إلى بولاق ، واستمر في ركبته إلى قليوب في نفر يسير، وعاد إلى القلعة، وما سمعنا ولا رأينا بأكثر من ركوب هذا السلطان ونظره في مصالح بلاده ورعيته فإنه كان لما توجه إلى قليوب كشف عن إصلاح الجسور، فالله انصره واجعل العدل شعاره ودثاره ووفقه وألهمه للحق.). أى كان قايتباى يقرن النزهة بالكشف عن ( أحوال الرعية )، أو الاطمئنان على صحة البقرة التى يمتص خيرها، ولسبب كثرة ركوب السلطان فإن مؤرخنا انشغل به عن غيره.

4 ــ ومن الواضح أن أتباع السلطان كانوا في الأغلب معه في تلك المنتزهات، وتمد لهم الولائم جميعاً عند الكُشّاف، جمع كاشف، أى حكام الأقاليم ، أو المحافظين بمصطلح عصرنا ، ومشايخ العرب الذين يخدمون الدولة كما سبق توضيحه. في رجب 875 يقول مؤرخنا : ( وفي هذه الأيام أشيع سفر مولانا السلطان إلى الفيوم وغيرها من البلاد كما فعل السنة الماضية، وكان السلطان قد توجّه إلى العكرشه قبل تاريخه ولعب مع المقر الأشرفي الأتابكي فغلب بالنشاب في رهن عليه بألف دينار، فاشترى منه مائة معلوف بستمائة دينار ومائة خروف بدارى وسكراً ودجاجاً وأوزاً وفاكهة وحلوي وما أشبه ذلك، واتفقوا على أن يتوجهوا إلى القناطر العشرة ويقيموا لها أياماً يأكلون ويشربون ويتنزهون. وتوجّه السلطان إلى الفيوم وعمل بها مدّة عظيمة من الحلوى والخرفان المشوية والشموع للوقود، وفي هذه النزهة إلى العكرشة توجه السلطان بمن معه إلى بر الجيزة ثم إلى القناطر العشرة ، وهناك استضافه أحد الكشاف واسمه صحصاح وعمل له مدة عظيمة ومن القناطر العشرة سار ماشياً حتى الأهرام.). وبذلك نتعرف على أماكن جديدة للتنزه منها الفيوم والعكارشة والقناطر العشرة والأهرام.

5 ــ ونعثر على خبر بين السطور نعرف منه أن الشيخ الصوفى  أحمد بن مظفر ت 876 كان إذا أراد التنزه يتوجه إلى الأهرام بالجيزة فيقيم بها الخمسة أيام والأكثر والأقل، أما من ينتهى به الحال من المماليك إلى الزهد والانقطاع عن الناس فقد كانت نزهته المفضلة في العصر المملوكي أن يذهب إلى القرافة ويتمسح بالقبور المقدسة. يقول صاحبنا في ترجمة يونس بن جربغا  ت 876 أنه إعتزل الناس أو (صار منقطعاً لا يتردد إلى لأحد إلا إلى الجمعة وزيارة القرافة في يوم الجمعة وزيارة سيدى حسين الجاكى في يوم الأربعاء كل ذلك بكرة النهار، ويعود إلى منزله.).هذا الأمير المملوكي عاش حياته بالطول والعرض فلما أفل نجمه استعاض عن المتنزهات السابقة بالقرافة ، وصار يشم عبير المدافن. وللناس فيما يعشقون مذاهب.

6 ــ والفلاح المصرى المسكين الذى كان يعيش تعسا بين المروج الخضراء لم تكن تلك النظرة القاهرية التى تستمتع بالجمال وتسعى إليه على ضفاف النيل وفي الريف المحيط بالقاهرة. كان القاهريون ولا يزالون يحولون المناسبات كلها إلى نزهة.. حتى الجنازات.

(1) الهصر: 391، 46، 47، 497، 241، 242.2)( الهصر: 450، 468.)

 

طقوس الجنازات

1 ــ ربما ترتبط الجنازات بالطقوس أكثر من ارتباطها بالحزن، بل ربما تكون المبالغة في الحزن من بعض طقوس الجنازات، وذلك ما يصدق على مجتمعنا المصري خصوصاً في عصر قايتباى. ومن خلال كتاب الهصر نتعرف علي طقوس الجنازة في عصر قايتباى.

النعي:

فالجنازة تبدأ بالنعي أو تعريف الناس بخبر المتوفي، ويقوم بذلك المدراء (حمع مدير) يقول مؤرخنا : ( نودي في البلد بالمدراء بوفاة القاضى برهان الدين ). وكان ذلك يوم الجمعة 9 محرم 876 . وفي يوم الثلاثاء 28 شوال 876 يقول "المدراء يخبرون بوفاة الست المصونة خوند مغل". وفي يوم الخميس 22 جمادى الأخر 876 يقول: "دار المدراء يخبرون بوفاة ولد الأتابكي أزبك.). فالمدير في عصر قايتباى كان غير (المدير) في عصرنا الراهن ..حظوظ.!!.

جنازة حافلة أو بالفقيرى:

1 ـ وبعدها يتجمع الناس للجنازة، فإذا كان من الأعيان كانت جنازته حافلة يحضرها قضاة القضاة وأعيان الموظفين والأمراء وربما السلطان نفسه، يقول مؤرخنا يصف جنازة القاضى برهان الدين (في 9 محرم 876) ( كانت له جنازة حافلة حضرها قضاة القضاة ومشايخ الإسلام وأعيان الرؤساء والمباشرون، ومشى غالبهم في الجنازة من المؤيدية (أى الخانقاة المؤيدية وكان شيخاً لها) إلى سبيل المؤمني، وركب السطان ونزل إليه حتى صلى عليه، وتقدم للصلاة عليه قاضى القضاة ولى الدين أحمد الأسيوطى الشافعي. ). وفي جنازة الأمير سيف الدين يشبك 876 : ( حضر السلطان إلى سبيل المؤمني وصلى عليه هو والأمراء الموجودون والأكابر والأعيان والقضاة ومشايخ الإسلام.).وحدث نفس الشيء في وفاة خوند مغل وخوند فاطمة بنت الظاهر ططر، بلحتى في وفاة ابن الأتابكي أزبك ، وهو طفل عمره سنتان، فقد كان من الحاضرين القضاة والمشايخ والأمراء والأعيان، يقول مؤرخنا:( وكانت له جنازة حافلة)، وكيف لا؟ وأبوه الأتابك قائد الجيش المملوكى وجده لأمه الظاهر جقمق. أى ( إبن أكابر)، أو بتعبير العصر المملوكى وعصرنا :( إبن ناس ).

2 ـ وقد يكون المتوفى سيء الحظ مغضوباً عليه قبل وفاته مثل ابن الكويز الذى كان له جنازة بالفقيرى على حد قول ابن الصيرفي.أى مغموسة بالفقر ..والفقير مُهان فى حياته وفى جنازته .

الإشادة بمحاسن الميت:

1 ـ وبعد الصلاة على المتوفي يتطوع أحدهم ويرتجل خطبة يثني فيها على المتوفي ويشيد بمحاسنه حتى لو كان من أفجر الناس، وغالباً ما يكون أرباب المناصب كذلك، ولكنهم في العادة يريدون الاستحواذ على الآخرة كما استحوذوا على الدنيا. في جنازة القاضى برهان الدين، وقف كاتب السر بعد الصلاة عليه وأثني عليه خيراً، يقول مؤرخناً يصف ما حدث: ( وشكر رئيس الدنيا ابن مزهر الأنصاري كاتب السر حفظه الله على المسلمين بين يدى السلطان ، وأثنى عليه بحضور السلطان وقضاة القضاة ومشايخ الإسلام ووصفه بالعفة والديانة والنظر السديد في الأمور.). مع أن هذا القاضى المتوفى كان نموذجاً فريداً للغدر والنذالة، فقد غدر بأخيه قاضى القضاة سعد الديرى الحنفي حين كان كاتب السر للسلطان خشقدم، ولكن صاحبنا نسى أفضال أخيه عليه وصعد للسلطان يخبره بأن أخاه ذهل وعجز عن القضاء، ووعد بدفع رشوة قدرها ثمانية آلاف دينار عجّل منها بخمسة ليعزل السلطان أخاه ويوليه مكانه، وتم له ما أراد، يقول مؤرخنا:( فحصل لأخيه منه حصر زائد.). وبعد أن مات ذلك القاضى النذل تناسوا أفعاله الذميمة ووصفوه في جنازته بالعفة والديانة والنظر السديد. والمضحك أن كاتب السر كان يتحدث عنه بهذه الشهادة الزور أمام أولئك الذين يعرفونه، ومنهم مؤرخنا ابن الصيرفي الذى نستقي منه تلك المعلومات. فتلك سنتهم القائمة على الكذب والتزوير مع معرفتهم بأنه كذب وتزوير . ويزيد فى ذلك أن سنّتهم تشجع على هذه النوعية من الشهادات الزور ليس فقط فى أروقة المحاكم حيث كان يتخصّص الشهود بشهادة الزور بأجر أيضا أمام رب العزة عند موت أحدهم فيكذبون فى وصفه طبقا للسّنة الكاذبة التى تزعم حاديثها أ أحاديثها أن الثناء على الميت من أسباب دخول الجنة مهما فعل. والمثل الشعبي في العصر المملوكي يعكس هذه الثقافة حين كان يقول ساخرا : ( بعد ما راح المقبرة بقي في حنكه سكرة ). ولعل ذلك المثل البليغ قد صيغ ليعبر عن ذلك النفاق الاجتماعى.

2 ــ وأصبحت عبارة : ( وأثنوا عليه خيرا ) تأتى مرادفة لتفصيلات وقائع الجنازة، ففي وصف جنازة الأمير سيف الدين يشبك، يقول مؤرخنا: ( فحضر السلطان إلى سبيل المؤمني وصلّى عليه هو والأمراء الموجودون والأكابر والأعيان والخاصكية وقضاة القضاة ومشايخ الإسلام ، وأثنوا عليه خيراً. ).ويقول عن جنازة الشيخ أحمد بن مظفر 876 ( وممن حضر جنازته ودفنه شيخنا الشيخ أمين الدين الأقصرائي وأثنوا عليه خيراً.)، ويقول عن ابن إمام الكاملية ت876 : ( كانت له جنازة حافلة وأثنوا عليه خيراً ) ، وعن ابن الميقاتي: (كان له مشهد عظيم وأثنوا عليه ثناءاً حسناً.)، وعن ابن قمر: ( وكانت له جنازة شهدها الفضلاء والطلبة وأثنوا عليه خيراً .)، وعن شمس الدين الأمشاطي: ( وكانت جنازة حافلة مشهودة حضرها الفضلاء والعلماء والمشايخ والأعيان وكثر الثناء عليه ).وعن الشيخ سراج الدين العبادي شيخ الشافعية: ("كان له جنازة عظيمة حضرها قضاة القضاة ومشايخ العلماء والطلبة والفقهاء والمباشرون والأعيان وبعض الأمراء، وكثر الثناء عليه والترحم والذكر الجميل.). ولو صدّقنا أنّ كل أولئك كانوا يستحقّون الثناء الجميل لكان علينا أن نرفض معظم ما قاله ابن الصيرفى فى أحداث عصره وأفعال أهل عصره التى جمعت كل الجرائم والموبقات والفساد.

ومن الواضح أن المتخصّصين فى التزوير من علماء الدين والقضاة كانوا هم الذين يقومون بمهمة قول الثناء  الحسن وذكر محاسن الموتي، أى يبدأ أحدهم حياته بالنفاق والزور، ثم تشيعه فى دفنه عبارات النفاق والزور. 

3 ــ وكان يتم الصلاة على الميت في سبيل المؤمني أو في مصلى باب النصر، ويتم دفن الميت في تربة أسلافه.

المبالغة في الحزن على الميت:

وارتبطت الجنازات أحياناً بالمبالغة في الحزن وإستئجار النائحات ليلقين أناشيدهن الجنائزية.

يقول مؤرخنا عن جنازة الأمير سيف الدين يشبك: (تهتكت ( أى بالغت فى الحزن ) حريمه وسراريه ووالدته وسرن خلف جنازته ، وانذهل والده)، وكان فارساً شجاعاً بطلاُ في فنون الحرب ومات دون الأربعين، ولذلك كانت الفجيعة فيه شديدة، وحضر جنازته السلطان، يقول مؤرخنا عن السلطان: ( ولما أراد الإنصراف كلّم بعضهم السلطان عن والدة المتوفي إنها حضرت في أمسه إلى مدرسة المؤيد شيخ ، وفعلت ما لا يليق من اللطم والعزاء بالدفوف والأفعال المنكرة، فأمر السلطان بمنع ذلك من المدرسة المؤيدية). ويقول مؤرخنا عن جنازة خوند فاطمة بنت الظاهر ططر أن السلطان ( طلب سرعة تجهيزها ليصلّى عليها فما وافقت أمها في سرعة تجهيزها حتى تفعل الأمور الكفريات التى يرتكبها النساء في أعمال الجاهلية من اللطم على الخدود وشق الجيوب والنياحة ودعوى الجاهلية.).

أولاد المتوفي:

وإذا كان المتوفي من أرباب الوظائف وترك أولاداً فمن العادة أن يتكلم بعضهم في حق أولاد المتوفي في وراثة وظائفه، فالقاضى برهان حين مات تكلم في الجنازة الشيخ زكريا الأنصاري( ولقبه وقتها شيخ الاسلام ؟.!!)  مع السلطان بالوصية على ولده محمود وسأله أن لا يخرج عنه شيء من وظائفه.

وقد يكون للمتوفي أموال كثيرة وولده غائب لم يحضر الجنازة وحينئذ يسارع أولو الأمر إلى حفظ الأموال للوارث، وذلك ما حدث في جنازة ابن عبد الباسط بن خليل ت866، يقول مؤرخنا:( وقيل أن السلطان أرسل إليه الأمير برسباى الخاذندار فحضر دفنه ، وختم على بيته وموجوده بحضرة كاتب السر الذى كان وصياً ليحفظ ولده الغائب.). وقد يقام للعزاء مآدب يحييها مشاهير القراء، يقول مؤرخنا عن ذلك المتوفي: ( وصنع له رئيس الدنيا ابن مزهر يوم وفاته أشياء ، وجهّز لعياله بكرة النهارة مدّة عظيمة ، فحضر جمع من الأكابر والأعيان، وأحضر عدة جوق من القرّاء فأحيوا عنده تلك الليلة.).

وهكذا كان أرباب الظلم ينعمون أحياناً بما يرتكبونه وبما يجمعونه، ثم تقام لهم حفلات الجنازات التى يحضرها كبار الدولة، ويكون لهم في التاريخ ذكر، ويعتقدون أنهم اشتروا الجنة كما حازوا الدنيا.

هذا بينما المظاليم أموات على ظهر الأرض كما هم أموات في باطنها. هم ملح الأرض.. وبهم تقوم الحياة وإن كانوا موتى أو كالموتى.

طوبى لكم يا أجدادي.. برغم أنف المؤرخين.

الهوامش :

1) الهصر: 134، 368، 412، 413، 426، 447، 448، 450، 452، 455، 464، 467، 486، 509، 510.

 

 

الفصل الثالث : الإنحلال الخلقى فى ظل تطبيق الشريعة السنية فى عصر السلطان قايتباى :      

 نبذة عن تشريع الانحلال الخلقى فى الشريعة السّنية المملوكية

1 ـ العصر المملوكى كان عصر المتناقضات . كان يرفع لواء الشريعة الاسلامية بينما يطبق شريعة مناقضة هى شريعة السّنة . كان المماليك يتزعمون ( العالم الاسلامى ) بينما كانوا يدينون بثقافة الاستبداد والتعصّب والحروب الدينية و كل ما يمتّ لثقافة العصور الوسطى حتى فى نظام الإقطاع ونظام الفروسية والسخرة وإسترقاق الفلاح و الاحتكار واستنزاف الطبقات الوسطى وتحالف رجال الدين مع السلطة السياسة واستغلال الدين فى تركيع الشعوب. ساد هذا فى اوربا وفى عالم المسلمين على السواء ، مع مناقضته لقيم الاسلام فى العدل والاحسان والحرية الدينية و السياسية .

2 ـ بل مع تسلط وتسيد التصوف ـ ومع العداء بين التصوف والسّنة فقد توارث المماليك عن أسيادهم الأيوبيين ما يعرف بالتصوف السنى الذى حصر الشريعة السنية فى ميادين العبادات والقضاء الشرعى بين الناس طبقا للمذاهب السنية الأربعة بينما إختص التصوف بالناحية العقائدية من تقديس الأولياء الصوفية أحياءا ومقبورين ، والاعتقاد فى كراماتهم ومعجزاتهم فى الدنيا وشفاعتهم فى الآخرة . وأتيح للتصوف والطرق الصوفية تسيد الحياة اليومية  والعقلية والعلمية والتأثير السياسى الهائل . ولكن وقف المماليك بالمرصاد لأى تطرف صوفى فكرى يعلن الاتحاد ووحدة الوجود ، كما وقفوا بالمرصاد أيضا لأى تطرف سنّى ممّا سبّب محنة إبن تيمية . وبهذا تمّ تطبيق ( التصوف السنى ) وتجاوز التناقض بين السنة و التصوف بتهميش التطرف فى الإثنين . وتحديد مجال هذا وذاك .

3 ــ كان هذا وثيق الصلة بالحياة الدينية لأى مجتمع يسطر عليه دين أرضى يتأسّس على التدين السطحى المظهرى حيث يتسيد رجال الدين ، وتنتعش مظاهر التديّن فى اللحى والزى والعمائم والنقاب لتخفى إنحلالا خلقيا بشعا وفسادا فى السياسة وفى السياسيين والموظفين ووحشية فى تعامل السلطة مع ( الرعايا )، كل هذا مع التسابق فى تشييد المؤسسات الدينية من مساجد وجوامع وقباب وأضرحة وخوانق وزوايا وأربطة وتخصيص أوقاف هائلة لها تنفق على من يعيش فيها من مدرسين وطلبة وأطفال أيتام وصوفية متفرغين للعبادات الصوفية بينما هم يمارسون الشذوذ والانحلال الخلقى والغيبة والنميمة والتمتع بما يأتيهم من رزق وفير . وتأسيس هذه البيوت الدينية كان يأتى من المال السحت والسلب والنهب ومن تسخير الناس فى البناء تحت سياط التعذيب . ولا علاقة لهذا بالاسلام ، ولكنها الشريعة السّنية التى كانت فى خدمة التصوف .

4 ـ ولكن على أى حال ، فقد أدّى التصوف بانحلاله وإنفتاحه الى تخفيف التشدد السّنى ، لذا فشل إبن تيمية فى حركته ، وعاش العصر المملوكى يمارس الفجور متمتعا بأساس هام من أسس التصوف وهو عدم الاعتراض ، بديلا عن التدخل فى حياة الناس بالاكراه فيما يعرف لدى السنيين الحنابلة بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، والذى سيطر به الحنابلة من قبل على الشارع العباسى فى القرنين الثالث والرابع الهجريين .

5 ــ فى ظل ( عدم الاعتراض ) أتيح للمجتمع المصرى أن ينطلق فى المجون كيف شاء ، فى المنتزهات وفى الموالد وحول النيل ، وشارك فى هذا الكرنفال المماليك والفقهاء والقضاة والعوام . وانتشرت فضائح  كان معظم أبطالها من شيوخ الشرع السّنى ( الشريف ).  

6 ـ وقام ( النقاب السّنى ) بعقد الصلح بين الانحلال والمظهر الخارجى لورع المرأة وتدينها الظاهرى. فالنقاب  يعطيها مظهر الحشمة المتطرفة ويعطيها أيضا فرصة ممارسة الزنا بدون أن يتعرف عليها أحد .

هذه هى الخلفية التى نقرأ من خلالها ما سجّله مؤخنا إبن الصيرفى أحداث الشارع المصرى  والحياة اليومية للمجتمع المصرى فى عصر قايتباى فى ظل تطبيق الشريعة السّنية .

إبن الصيرفى ومنهجه فى تسجيل الفضائح الخلقية

1 ــ لم يكن ابن الصيرفي من هواة تسجيل الفضائح، وإنما كان يمر عليها مرور الكرام، وهو بهذا يختلف عن ابن إياس الذى جاء بعده واحتفل بتسجيل الانحلال الخلقي الذى ساد عصره دون تحرّج . ومع ذلك فإن بعض الإشارات في كتاب الهصر تنبئ عن هذا الإنحلال الخلقي، فإذا مدح ابن الصيرفي السلطان قايتباى بأنه عفيف الفرج لا يلوط ولا يزني ولا يسكر فمعناه أن غيره شاع وقوعه في هذا الاثم، وأنّ تعفف قايتباى عنه أصبح منقبة ومكرمة تضاف له. نفس المدح قاله مؤرخنا عن الأمير طوخ الأبو بكرى ت 876:( كان عفيفاً عن الفروج والمنكرات لا يلوط ولا يزني ولا يسكر)، ومعناه أن غيره أدمن اللواط والزنا والسكر.

2 ــ وإبن إلصيرفى لم يكن فى جرأة المقريزى وتلميذه جمال الدين أبى المحاسن ابن تغرى بردى ، وكانا يصفان أمراء المماليك بجرائم الفسق والفساد، ولكن إبن الصيرفى يقول عن الأمير تانى بك المحمدي 875 ه فى لهجة حانية:( كان عفا الله عنه يظلم نفسه لانهماكه في الملذات.).!.

3 ــ وإبن الصيرفى قد يتشجع أحيانا بعلوّ صيت الأمير المملوكى المتوفى فى مجال الفسق ، فيعبّر عن رأيه بصراحة ، فيقول عن الأمير قانم نعجة ت 873 : ( كان من الأشرار الظلمة ، كثير الفسق والزنا ، وإن سكر عربد ، حتى أنه في بعض سكره عضّ أنف إنسان فأكله ، وأراح الله المسلمين منه ومن ظلمه وشؤمه وآذاه وافتراه ، وجعل الحميم مأواه.).ويقول عن الأمير طومان باى الظاهرى 874( كان ظلوماً غشوماً منهمكاً في اللذات.).

بعض حوادث الانحلال الخلقى فى تاريخ الهصر

1 ــ وأشار مؤرخنا بإيجاز إلى بعض حوادث الانحلال فقال : (  وحصل في هذا الشهر (ربيع الآخر 874) أن قاسم الوزير، نائب عظيم الدولة الداودار الكبيرــ كبسه (ضبطه )الوالى بالجزيرة ومعه امرأة فأطلقت. ). و( الوالى ) فى هذا العصر هو كمدير الأمن فى عصرنا.

2 ـ ويذكر في حوادث محرم 874 فضيحة كان بطلها أحد (الأشراف) الذى وقع في هوى امرأة جزّار فأفسدها على زوجها حتى طلقها، وبعد طلاقها تزوجها الشريف، وذهب الجزّار إلى الداودار الكبير يشكو (الشريف)، يقول مؤرخنا عن الجزّار الزوج السابق وشكواه ليشبك من مهدى : ( وأنهى إليه أن الشريف أفسد زوجته حتى طلقها وتزوجها، فأرسل في الحال له النقباء والطواشية وهجموا على المرأة في دارها وحضروا بها بين يديه هى وزوجها الشريف.). وكانت المرأة قريبة لبيت البارزى أحد البيوت المشهور وهم أصحاب صدارة في مصر والشام في ذلك الوقت ، فتشفعوا لها عند الداودار الكبير حتى صفح عنها وعن زوجها الشريف، وقيل أنه غرّمهما ألف دينار للزوج السابق.

إنحلال خلق مرتبط بالنيل

1 ــ وكان الانحلال الخليق للعوام في القاهرة مرتبطاً بأى تجمع عام على النيل أو لأى مناسبة سياسية، وحينها( يختلط الرجال والنساء والصبيان) وتحدث المفاسد، ويتم الوصال برعاية الشيطان.وتعبير(إختلاط الرجال والنساء) شاع فى العصر المملوكى ليدل على مناسبات الانحلال الخلقى فى الموالد وفى المناسبات العامة وليالى(الوقيد) أى إضاءة الشوارع ليلا ، وفى المنتزهات المزدحمة خصوصا على ضفاف النيل.

فقد زاد النيل في صفر 875 فاحتفل الناس بوفاء النيل وحدث الالتقاء المحرم بين الرجال والنساء والصبيان، ومؤرخنا يعرض لذلك على استحياء قائلا:( تحولوا قبل وفاء البحر إليه بأيام عديدة إلى الروضة والجسر والجزيرة ، وأظهروا مفاسد وقبائح لا يسعنا ذكرها.).!.لماذا يا صيرفي لا يسعك ذكرها؟ إنطق يا شيخ وأرحنا.!..وكأنّه يستجيب لرجائنا ، إذ ينطق في نفس الموضوع ببعض تفصيلات قليلة فيقول: ( وأظهروا المفاسد والقبائح والزنا واللواط والخمر والحشيش وركوب البحر بالملاهي ، وما قدمناه. ).

2ــ وحدث أن نقص النيل فأمر السلطان الوالى بالتوجه بأعوانه إلى النيل ( ليمنع الناس من اتيان هذا الفسق ونودى هناك أن أحداً لا يفعل منكراً ، ومن وجد عنده شيء من المنكر، ينكل به). كانوا يمنعون الانحلال فقط إذا خافوا نقصان النيل وحدوث مجاعة. وكان هذا من سمات العصر المملوكى ، أن يتوقف الانحلال على ضفاف النيل وغيره إذا خيف نقصان النيل لاعتقادهم إن هذا غضب الاهى على ما يرتكبونه. ثم إذا إنتهت الأزمة عادوا الى مجونهم المعتاد، وتظاهروا به فى المنتزهات وعلى النيل.وقوله:( وأظهروا المفاسد .. والزنا واللواط ) معناه أنه ما كان يحدث في الخفاء وفي البيوت أظهروه علنا على النيل.

وفي يوم الأحد 9 شوال 875 كان هناك احتفال أطلقوا من أجله النيران الملونة، وفي ليلة ( الوقيد تلك ) كان الموكب، ( واجتمع لرؤيتها الرجال والنساء والشيوخ والصغار وغالب سكان مصر)، ويقول مؤرخنا: ( وانقلبت مصر والقاهرة لآجله وتهتكوا ). أى أنه بمجرد أن تقام الاحتفالات وتظهر الأضواء يهب أهل القاهرة للفسق. ومصطلح ( التهتك ) كان يعنى الافراط فى الفسق أو فى الحزن أو فى أى مسلك ممقوت.

إنحلال خلقى جماعى ( جماعة ) لأى سبب وفى أى تجمّع وحشد

وبدون النيل تنفّس العوام والخواصّ الانحلال . في يوم الخميس 8 محرم 876 أقاموا احتفالاً بوصول حملة الداودار الكبير إلى حلب لحرب شاه سوار واستمرت الاحتفالات وصاحبتها مظاهر الانحلال الخلقى المعتاد، يقول ابن الصيرفي: ( لكن ترتب على هذا من المفاسد ما لا يحصى ، من شرب الخمر وتهتك النساء مع الرجال مع الصبيان ، وانهماك العوام والأكابر والأواسط على استمرارهم في ذلك بحيث أنه لم يقع له أمر مثل هذا، لاسيما عدم تعرض المماليك السلطانية لأحد من الخلق ببنت شفة )".كانت العادة أن يشترك المماليك السلطانية والجلبان في هذه الاحتفالات فينجم عنها اغتصاب وقتل، ولكن لم يحدث ذلك في تلك المناسبة، فأتيح للناس أن يمارسوا انحلالهم الخلقي في هدوء ( وبالتى هى أحسن ) ، وشارك فيه مع العوام الأكابر والأواسط من الرجال و النساء والصبيان، أى ذابت الفوارق بين الطبقات وأصبح الجميع جسداً واحداً يرقص في محراب إبليس طبقا لشريعتهم السّنية الابليسية .

معابد الانحلال الخلقى

1 ــ وقد سكت ابن الصيرفى عن الانحلال وطقوسه فى المناسبات الدينية كالموالد وفى بيوت العبادة كالمؤسسات الصوفية والترب و المقابر ( المقدسة ) و (الترب )حيث إعتاد الناس المبيت فيها والقباب وغيرها. وممارسة الانحلال فى ظل النقاب .

2 ـ ويبدو أنه أضطر للإشارة الى الأماكن المشهورة بالمجون والانحلال فى القاهرة والتى كانت مخصوصة لتأدية طقوس الفساد الخلقي العام الجماعى مثل الروضة والجسر والجزيرة على النيل بالإضافة إلى أرض الطبالة (العباسة الآن) وبركة الرطلى. وكانت العاهرات اللائى يدفعن ضرائب الدولة يقمن في هذه الأماكن أكثر من غيرها، وبعضهن كُنّ يتهربن من دفع الضرائب، لذا كانت تصدر الأوامر من السلطان الورع قايتباى ـــ لا بمنعهن من الفاحشة ــــ ولكن لتحصيل الضرائب منهن. ويتم هذا طبقا للتشريع السّنى وبرعاية قضاة المذاهب الأربعة والفقهاء السنيين الكبار فى هذا العصر ، ومنهم إبن حجر العسقلانى والعينى و(شيخ الاسلام ) زكريا الأنصارى والسيوطى .!! . في يوم الجمعة 4 ربيع ثان 876  يقول مؤخنا القاضى المحترم : ( بلغ السلطان نصره الله أن الخواطئ ( أى العاهرات) يفعلن المنكر بالجنينة التى هى أرض الطبالة ففحص عن ( أى سأل عمّن ) يأخذ جعلهن، ( أى يجبى منهن الضريبة ) ، ورسم بالكبس عليهم، وتوجه أعوان الوالى إلى المكان المذكور وضربوا جماعة من الأجانب وحبس شريفاً من الأشراف كان يمارس الفسق هناك وأخذ منهم الضرائب وأطلقهم، ولم يتعرضوا للخواطئ بشيء.). وبالمناسبة .. ( فالخواطىء ) كنّ يرتدين النقاب .! ولكن يتميزن بعلامات تفصح عن وظيفتهن وهن فى الشارع .

3 ــ نسينا أن نسأل مؤرخنا القاضى المحترم ابن الصيرفي عن رأيه في الدولة التى تدعى تطبيق الشريعة وتبيح الزنا وتأخذ عليه الضرائب وتسميه "ضمان المغانى".

الهوامش

  1. أنباء الهصر: 188، 399، 454، 215، 113، 135، 148، 124، 203، 205، 271، 319، 337.

 

الفصل الرابع :  إبن الصيرفى القاضى يزوّج طفلة من ( بلطجى ) طبقا للشريعة السّنية

العلاقات الاجتماعية فى ظل تطبيق الشريعة فى عصر السلطان قايتباى :

 أخبار العلاقات الاجتماعية بين المماليك والشعب

علاقات مصاهرة:

كانت هناك صلات وعلاقات بين مجتمع الصفوة من المماليك وعلماء الدين من قضاة وأرباب وظائف ديوانية وكان أبرزها المصاهرة والتزاوج، وأبرز مثل ذلك السيدة خوند مغل ت 876 وهى أخت القاضى كمال الدين وبنت القاضى البازرى، وبيتها مشهور في مصر والشام، وقد تزوجها القاضى علم الدين بن الكويز كاتب السر، ثم تزوجها بعده الظاهر جقمق وهو أمير، فأقامت معه حتى تسلطن، وصعدت إلى القلعة واستمرت معه خوند صاحبة القاعة ورزقت منه بنتاً، واتفق ماتت محظية السلطان المسماه سورباى وكان يهواها فاتهموا خوند مغل بوضع السم لها، فهجرها السلطان، ثم طلقها فنزلت من القلعة، وذلك بعد موت السلطان بسنتين، وتزوج الأتابك أزبك بنتها، وبعد طلاقها سكنت عند بنتها في بيت الأمير أزبك.

 

بنت السلطان تحب أحد المشايخ:

وأتاحت وأباحت شريعة السّنة الطريق واسعا لكل أرملة طروب لكى تعيش كما تهوى خصوصا إذا كانت أميرة مملوكية . وكما يحدث في قصص ألف ليلة حين تحب بنت السلطان شخصاً من الشعب فإننا نجد هذه الدراما في حياة الأميرة المملوكية خوند فاطمة بنت السلطان الظاهر ططر، وهى أخت السلطان محمد بن ططر وزوج السلطان قايتباى برسباى، وقد ماتت سنة 874 بعد حياة حافلة بالتقلبات الدرامية، وقمنا بتحويل حياتها الى قصة تاريخية ثم حوّلنا القصة عملا دراميا . في بداية أمرها تزوجها الأشرف برسباى بعد أن سلب السلطان من أخيها، ومات عنها وجاء السلطان الظاهر جقمق فلم يتزوج بها فنزلت من القلعة ومعها جهاز بنحو مائة ألف دينار ومارست حياتها الجديدة في حرية مطلقة كأى أرملة تعيش في مجتمع المماليك المنفلت، وصار على بابها خدم وحشم وطواشيه وعدة عجائز، وكانت للعجائز في ذلك الوقت وظيفة القوادة فى الزنا، وسعى إلى خدمتها الفلاح هانى الذى هرب من قريته ليتعلم في الأزهر ثم طمع في الوصول فتعرف بخدمها، وصات له علاقة بها، يقول مؤرخنا ابن الصيرفي عنه: ( وكان آنذاك شاباً من مجاورى جامع الأزهر يتردد للطواشية فسأل أن يكون كاتبها فكان كذلك، واستمر حاله ينمو ويزيد، وركب الخيول واشترت له الوظائف والتوقيعات ، ولبس الأقمشة ولبس الخف والمهماز، وجعل في رقبته طوقاً بعد أن كان من الفلاحين المجاورين بالجامع المذكور، وفي يده دقّ ( وشم )  أخضر شاهدته). ثم دخلت خوند فاطمة في الإسراف والانفاق الزائد حتي أضاعت ما معها من جواهر وجهاز وقماش، يقول عنها ابن الصيرفي: ( وصارت خوند المذكورة تبيع من قماشها وترهن وتقترض وتبذر وتبيع الغالى والعالى بالرخيص السافل وتقترض الدرهم بمثله ( أى بالربا ) حتى ضيعت جميع ما ملكته، وصارت تقترض وتعطى، ثم صارت تقترض فلا تعطي، ثم صارت لا ترى أحداً يقرضها شيئاً. ). وفي هذه الفترة من حياتهاكانت لها علاقة بتاجر أوصلها للإفلاس وسمه ابن قضاة، يقول عنه مؤرخنا : ( فصار يعاملها ويستفيد عليها ويبتاع منها ما قيمته مثلاً الدرهم بنصفه، وصار هذا شأنها ودأبها حتى تجمدت عليها الديون الجزيلة.).  وتدخل السلطان جقمق لإنقاذها فأخذ يصالح دائنيها عنها وسدد ديونها، ولكنها كانت حالة ميئوس منها فباعت حتى ثياب بدنها على حد قول مؤرخنا ، ودخلت في النهاية في التحايل والنصب على الناس.. وتزوجت بالقاضى شرف الدين التتائي الأنصاري في النهاية، وكان معه وكالة بيت المال ونظرة الكسوة في عصر قايتباى، وكان زوجها محسوداً عليها، وكانت تهواه وكان لا يهواها ،بل تزوجها ليصل عن طريقها فلما وصل زهد فيها بينما زادت هى لوعة فى غرامه ، فكان هو على حد قول مؤرخنا : ( بضدّ ذلك) أى لا يحبها ، ويعلّق ابن الصيرفى فيقول : ( وهذا من الشقاوة عملاً بقول الشاعر المجيد البليغ.

 

ومن السعادة أن تُحِبّ وأن تُحًبّ
 

 

وأن يحبك من تحب
 

ومن الشقاوة أن تحب
 

 

فلا تحب ولا يحبك من يحب
 

 

ويقول ابن الصيرفي "فصارت تطبخ له أحسن الأطعمة وأفخرها وتكسوه من اجل الثياب والقماش وتساعده في الأمور المهمة العظيمة حتى أنفقت عليه عينها ودينها وهو لا يميل إليها، بل تزوج عليها بخوند جهة الملك الظاهر جقمق بنت الأمير جرباش عاشق أمير مجلس، فكادت تهلك وشكته للسلطان فمن دونه فما رضى بها وقهرها، وكان هذا شأنه وشأنها.). ويقول عنهما ( وأنفقت عليه أموالاً فيما تصنعه له من المآكل المفتخرة والمشارب والمعطرة ومع ذلك فلم يفدها ذلك، وطلقها ، فكادت تتجنن، فشكته إلى الأشرف اينال لما تزوج بعدها بخوند مطلقة الملك الظاهر جقمق. وقد اضطهده الأشرف اينال وعزله وصادر أمواله ثم أعيدت له أمواله في عهد السلطان خشقدم، وبعد أن طلقها شرف الدين التتائى تدهورت أحوالها أكثر خصوصاً في سلطنة الأشرف اينال فتقربت إلى حريمه وحاولت أن تستفيد من صلتها بالسلطان وحريمه وتقوم بالوسطات والشفاعات بأجر.)، ويقول مؤرخنا : ( وزعمت أنها تقضى حوائج الناس، وصارت تتكلم عندهم للناس، وتساعد من تختار وتحمي بالقوة ، وتركب وتدور ، ولا تتأخر عن فرح ولا كره لأحد الأكابر، وكانت مشهورة باللباقة في المأكل والمشرب، وصارت مُثله في العالم من هذه الأفعال الرذيلة والأحوال التي لا يقوم عليها غيرها، وصار التجار والعوام لا يقدرون على الخلاص منها)، أى صارت في النهاية مثل زعيمة العصابة. وفي تلك المرحلة من حياتها تزوجت منصور الاستادار وأقام معها قليلاً وطلقهاً . وماتت في الستين من عمرها وتركت عليها من الديون ما شاء الله فشاع على أصحابه.وقد تضرر من العلاقة بهذه الأميرة المملوكية بعض الناس حتى صار التجار والعوام لا يقدرون على الخلاص منها وهم أولئك الذى استدانت منهم وأكلت عليهم أموالهم، بينما استفاد غيرهم من العلاقة بها مثل هانى وذلك التاجر الذى أوردها مورد الإفلاس وأزواجها الذين نعرفهم والذين لا نعرفهم.

مماليك وعوام: أراذل المماليك مع أراذل العوام

وبعض العوام كانت لهم صلات ببعض المماليك انعكست سوءاً في أخلاقهم . وأبرز مثل على ذلك اتباع المحتسب يشبك الجمالى ذلك المتدين الأحمق القاسى والذى تقرب إليه كثير من العوام وأثروا على حسابه بعد أن كسبوا ثقته، وبعد عزل يشبك عن وظيفة الحسبة قام بعض أتباعه من أولئك العوام بالكيد للمحتسب الجديد بدر الدين وهو ابن كاتب السر ابن مزهر الأنصاري. يقول مؤرخنا في أحداث الأربعاء 15 ذى الحجة 885 : ( واتفق في هذا اليوم غريبة ، وهى أن شخصاً من أراذل العوام التجار بسوق أمير الجيوش ، كان مشهوراً بالربا والنحس والأيمان الباطلة ، خرباً فجراً ، يعرف بابن الشقرة ، كان في حسبة الأمير يشبك الجمالى ، عمله ( أى عيّنه ووظفه )  محتسباً لسوق أمير الجيوش ، فضجّ منه أهل أمير الجيوش ومن ظلمه . وكان له معهم مناصف( أى أزمات ومواقف ومشاكل ) ، وكان الأمير يشبك يساعده ويؤيده، فإن الأتراك ( أى المماليك ) عادتهم إذا صدق عندهم الواحد مرة ( يؤمنون بصدقه الدائم ) ولو كذب بعدها ألف مرة ما يحملونه إلى على الصدق . فاتفق أن يشبك المذكور لما عزل عن الحسبة وتولاها القاضى بدر الدين إبن كاتب السر وامتنع من تولية مثل هذا على المسلمين فإنه يعرف أخباره  ، فإنه بالقرب من منزله ( أى كان هذا الرجل يسكن بالقرب من القاضى بدر الدين ) بل وكان يبتاع من المقر البدري أصنافاً ويصبر عليه بثمنها ويغالطه في أشياء منها ويحلف عليه.). واشتكى ذلك الرجل ( إبن الشقرة ) المحتسب الجديد ( بدر الدين ) للسلطان في غيبة ( أبيه ) كاتب السر، ولكن توسط بينهما الزينى بركات نائب كاتب السر على أن يتحاسبا) .وحضر مؤرخنا ابن الصيرفي هذه القضية، ورواها بحذافيرها في كتابه ويبدوا انحيازه ضد ذلك الرجل ابن الشقيره لصالح القاضى المحتسب بدر الدين. ولكن سياق روايته يبدو متماسكاً وواقعياً، ويتفق مع طبيعة أولئك الذين كانوا يعينهم المحتسب يشبك على ظلم الأبرياء حين لا يستطيعون دفع الأتاوة لهم . والشاهد في هذه الرواية أن الذين كانوا يساعدون المماليك على ظلم الناس كانوا هم أراذل الناس، والطيور على أشكالها تقع.وجدير بالذكر أن نائب كاتب السّر هنا فى هذه الرواية هو ( الزينى بركات ) الذى أصبح كاتب السّر فيما بعد ، واصبح من مشاهير تاريخ إبن اياس . ولكنه هنا فى تاريخ ابن الصيرفى كان فى بدايته مجرد ( كومبارس ).

إبن الصيرفى القاضى يزوّج طفلة من ( غلام بلطجى ) يملكه جندى مملوكى فاسد

1 ــ وأباحت شريعة المماليك السّنية أن يكون الجندى المملوكى فوق القانون وفوق المساءلة مهما إرتكب من جرائم مع كونه أقل المماليك رتبة  . وقد سكن جندى مملوكي مع غلامه البلطجى بحارة بهاء الدين قراقوش بمنزل شيخ الإسلام ابن حجر، و (الغلام) فى مصطلح العصر هو العبد المملوك خصوصا إذا كان شابا. يقول ابن الصيرفي عن ذلك الجندي وما فعله مع غلامه بتلك الحارة حيث: ( أخربها هو وهذا الغلام من كثرة ما يؤذى السوقة والباعة ، وكان يأخذ أموالهم هو وأستاذه ) ومارسوا الخطف والابتزاز وحرق الأمتعة.وكانت لهذا الجندي المملوكي وغلامه قصة مع مؤرخنا القاضى ابن الصيرفي ، إذ زوّج القاضى ابن الصيرفى طفلة فى الثانية عشرة من عمرها لغلام هذا الجندى . 

2 ــ ففي يوم الخميس 28 جمادى الأولى 875 رفعت امرأة قضية لقاضى القضاة محب الدين بن الشحنة عن بنت أختها تقول فيها: (المملوكة  ( تعنى نفسها ، وكان هذا وقتها هو اسلوب المكاتبات لتأكيد الخضوع والذلّة فيقول الذكر عن نفسه المملوك والأنثى المملوكة ، واحيانا يصف نفسه بالخادم أو الخادم الحقير الذى يقبّل الأرض ، أو أنه يقبّل الأرض . ونعود للرسالة نقرؤها : ) ( المملوكة قريبة فلانة البكر.. تقبّل الأرض ، وتنهى أنها فقيرة وتعبت من الشحاته وأبويها غائبين مدة تزيد على ثلاث سنوات عن القاهرة وأعمالها . وسؤالها إذن كريم لأحد السادة النواب ( أى القضاة ) بتزويجها ( أى الفتاة البكر ) ممن يرغب في تزويجها بمهر المثل والكفاءة ، صدقة ( أى تصدقا ) عليها.). وواضح أن بعض الشهود الجالسين فى حوانيت الشهادة قد كتب لها هذه الصيغة الرسمية، ورفعها إلى قاضى القضاة ابن الشحنة الحنفي، فكتب عليها القاضى نور الدين الخطيب : ( يُنظر في ذلك على الوجه الشرعى بعد اعتبار الكفاءة ، متحرياً ). أى أمر القاضى بالبحث عن زوج كفء لها على الطريقة الشرعية .

3 ــ وعهدوا الى القاضى مؤرخنا ابن الصيرفي بتزويجها، فاستوفي القاضى ابن الصيرفى الشروط الشرعية وتحرّى الأمر كما يقول ، فقامت عنده البينه أن والدها ووالدتها غائبان الغيبة الشرعية عن القاهرة وأعمالها، وزكّي لها ثلاثة نفر للزواج منها ، فتزوجت واحداً منهم، وعقد العقد ودخل بها الزوج ، وهى بنت اثنى عشرة سنة طبقا للمتعارف عليه فى الشريعة السّنية التى تجيز زواج الطفلة تنفيسا عن الكبت الجنسى أو الحمق الجنسى والمرضى للمصابين بالفقه السّنى  والذى زعموا من أجله أن السيدة عائشة تزوجها النبى وهى طفلة. لعنهم الله جل وعلا فى كل كتاب. ويريد أوباش السلفية وقت كتابة هذا الكتاب ( سبتمبر 2012 ) تقنين ذلك السّفه فى الدستور المصرى وليس فقط فى القانون العادى .!!.

4 ــ المهم..نعود للقاضى السّنى ابن الصيرفى الذى قام بتزويج هذه الطفلة طبقا للشريعة السّنية ، يقول عنها:( غير أنها دميمة من جهة الهيئة، ولم أأذن في الوطء ) يعنى إنّه عقد لهذا الغلام البلطجى على تلك الطفلة بعد ان تحرّى فى الأمر كما يقول . ولم يفسّر لنا كيف لم يصل به التحرّى الى معرفة فساد هذا الغلام؟ وكيف يأتمنه على زواجه بطفله ؟ وهل يكفى أن يعطيها له زوجة ثم لا يأذن له ( بالوطء ) أو ممارسة الجنس معها ؟ وهل يضمن طاعة ذلك البلطجى لأوامره ؟ ، يقول ابن الصيرفى : ( فاتفق أنه طلقها عن شهود غيرنا بعد الدخول والوطء.) أى بعد أن دخل بالطفلة طلقها . وبالطبع لها حقوق فى النفقة والمتعة وغيرها ، وكان ينبغى أن تطالب خالتها ذلك الغلام بحقوقها ، ولكن الذى حدث هو العكس فالزوج البلطجى عسف بالطفلة حتى كتبت له خالتها إيصالا بسبعة دنانير حتى يطلق المسكينة . يقول ابن الصيرفى باسلوبه الغامض : ( وسألته خالتها في جميع حقها، وكتبت له مسطوراً بسبعة دنانير حتى طلقها. ) ويعترف ابن الصيرفى أخيرا بحقيقة ذلك الزوج كأنه عرفه لأول مرة فيقول : ( وذلك الزوج كان غلاماً لجندى مملوكي اسمه فارس من المماليك السلطانية، وهما اللذان سكنا في حارة بهاء الدين قراقوش وتسلطا على الناس فيها.).

5 ــ ونعود إلى قصتهما مع تلك الفتاة المسكينة وكيف وقف الى جانبها ( رجال حىّ بولاق الشعبى ) لاصلاح ما أفسده القاضى ابن الصيرفى

فالخالة بعد أن اضطرها الزوج إلى كتابة إيصال بسبعة دنانير في نظير الطلاق توجهت مع البنت المسكينة إلى بولاق وأخبرت أهل بولاق بالقصة ، وكيف تزوج الغلام من الفتاة وأزال بكارتها وطلقها وكتب عليها إيصالاً وغرمها . واجتمع أهل بولاق وحملوا الصغيرة وتوجهوا بها إلى الداودار الكبير يشبك فأمر بإحضار الغلام وسيده الجندي المملوكي، فحضروا في أسرع وقت، فلما وقف الزوج بين يدى الأمير يشبك قال له: أنت فعلت كذا وكذا ؟؟. فتعلثم ،وأراد الأمير الداودار الكبير ضربه ، فنهض الجندي وصاح: بأى ذنب يضرب غلامي، وهو ما فعل شيء إلا بالقاضى والشهود ؟ . فاستدعى الداودار الكبير يشبك مؤرخنا القاضى ابن الصيرفي الذى عقد العقد.

6 ــ يقول إبن الصيرفى يصف ما حدث له : ( وكانت بلغتنى المسألة ، فركبت ، فعند موافاتى لباب الأمير الداودار الكبير لم أجد الطلب قد توجه لي ، فدخلت إليه ، ووقفت بين يديه ، فقال لى : يا قاضى أنت زوجت هذا بهذه؟ فقلت: نعم . قال كيف؟ قلت: أذن له مستنيبي ( أى قاضى القضاة) في ذلك بقصة ( أى بعريضة) مشمولة بخطة، فقال لى: هذا تزوج؟ ويومئ إلى أنها صغيرة فقلت له: مذهبي ذلك ، لأن النبي ( ص ) تزوج عائشة أم المؤمنين وهى بنت تسع سنين، فقال لى: تشبّه هذه بهذه ؟ أو مثل هذا بهذا؟ فقلت : لا يا مولانا وإنما النبي (ص) مشرّع ، ونحن أمته ومتبعين سنته. فسكت عنى . والتفت إلى من حضر في مجلسه من القضاة والأمراء وقال لهم: القاضى عبأ لى هذا الجواب، ليس لى عنده شغل، مالى شغل إلا عند المملوك والغلام.). ونجا إبن الصيرفى من مؤاخذة الأمير يشبك بأنه مأمور بأمر قاضى القضاة ، وبأنه وفقا لمذهبه السّنى يجيز زواج الطفلة . فلم تنفع  أمامه حجة الأمير المملوكى مع وجاهتها وعقليتها ، ولكن كيف يجدى العقل مع السّنة الشيطانية .

7 ــ وتدخل أحد القضاة الحاضرين فقال لابن الصيرفي: ( أأنت ثبت عندك بيّنه بالغيبة ؟ ) أى غيبة أبويها عن القاهرة حتى احتاجت للقاضى كى يزوّجها، وكان ابن الصيرفي قد كتب أسماء الشهود الذين يشهدون بغيبة أبويها، في عقد صداقها، فأمر الداودار الكبير بإحضارهم، فحضروا وشهدوا . وبعد حضورهم أمر الأمير يشبك بضرب الغلام ثلاثمائة عصا، وأمر بإشهاره في البلد، جزاءا ( على من يفتح البنات ) أى يفضّ بكارتهن ( هو وأستاذه ويأخذ منهم مالا يستحق.).

8 ـ يقول مؤرخنا: ( وكانوا أنهوا إلى الأمير المذكور أنه ( أى الغلام )، تسلّط على البنت وأستاذه،( أى الجندى المملوكي)، وصاروا يفعلون فيها مالا يجوز، فهربت منهما ، فغضبت خالتها .وكتب عليها مسطوراً بغير حق، وأراد الداودار أن يعاقب الجندي المملوكي ولكن تشفع فيه الحاضرون. ). ويقول مؤرخنا : ( ثم أمر أن توضع البنت على ظهره وينادى عليه فشفعوا فيه، وأمر الداودار بأن يذهبوا جميعاً إلى قاضى القضاة الحنفي ليفرض حق البنت، واتفق على أن يدفع لها الغلام أربعة دنانير وأن يبرئها من ذمته.)

9 ـ  يقول إبن الصيرفى عن قضية تلك المسكينة : ( وصار لها غوغاء) أى تحمس كثيرون لقضيتها وذلك بسبب كراهيتهم في ذلك الغلام وسيده الجندي المملوكي وفسادهما المشهور عنهما في حارة قراقوش.

والقاضى المؤرخ يصف الرجال الذين كانوا يدافعون عن البنت المظلومة بأنهم ( غوغاء )...!. الى هذا الحد تنقلب المعايير لدى قاض وظيفته الظلم وليس العدل . وقد التقى مؤرخنا بذلك الغلام بعد أن ضربه الداودار، يقول: ( وكنت أظن أن هذا الغلام يموت من الضرب ، فلما أصبح وجدته ماشياً كأحد الناس الأصحاء وليس يشكو من شيء ، فتعجبت من ذلك.).!!

ونحن لنا أيضا الحق أن نتعجب من نطاعة ابن الصيرفى ..القاضى المؤرخ .!!

الهوامش

  1. إبن الصيرفي : الهصر: 426، 464، 168، 169، 132، 498، 500، 226، 229.

 

 

الفصل الخامس   : أخبار النيل في عصر السلطان قايتباى

عيد وفاء النيل:

1 ــ تركزت حياة المصريين حول النيل في كل العصور، كان مصدر مآسيهم حين كان يزيد ويفيض طوفانا يغرق البلاد والعباد ، أو ينقص ويشحّ ، وفى الحالتين تتعطّل الزراعة ويحدث الغلاء أو المجاعة . أما حين يزيد بالمعدّل العادى فتتجمع حوله أعيادهم، حيث كان له في حياة المصريين عيد خاص هو عيد وفاء النيل. وفي عصر المماليك كان كسر النيل من الأعياد العامة التى يشترك فيها المصريين من جميع الطبقات والأديان، فينزل السلطان وجنوده في موكب زمن الفيضان ويكسر السد لتجرى المياه في الخليج والترع . وأحياناً ينيب عنه السلطان الأتابك قائد الجيش أو أميراً من مقدمي الألوف لفتح السد. أو بتعبيرهم ( كسر السّد ) أى فتح مجرى النيل ليدخل فى الترع . 

2 ــ في يوم الجمعة 16 محرم 873 (12 مسرى القبطي) يقول ابن الصيرفى : ( أوفي النيل) أى إرتفع منسوبه عند المقياس ( ستة عشر ذراعاً وزاد إصبعين من الذراع السابع عشر،) ووصل العلم بذلك للسلطان قايتباى ( فأمر السلطان الأمير قرقماي الجلب الأشرفي أن يتوجه لتخليق المقياس وفتح خليج السد على العادة في كل سنة ، فتوجه وفي خدمته عدة من الأمراء والأعوان ، وفعل ما أمره السلطان به، وخلع على والى القاهرة وعرفاء المراكب العاملين في المقياس والرؤساء ومن له عادة، وصعد الى السلطان فخلع عليه).

ولم تكتمل الفرحة بزيادة النيل إذ ما لبث أن تناقص وتصادف ذلك مع إفتتاح جسر جديد ،ففى يوم الخميس 20 صفر 873 ، تم فتح جسر بنى منجا ، ( والبحر يومئذ ثمانية عشر ذراعاً واثنا عشر إصبعاً، وهو نهاية زيادة النيل في هذه السنة،) يقول مؤرخنا:( وليته ثبت بل نقص نقصاً فاحشاَ ولا يزال ينقص إلى أن انكشف،) ويقول ابن الصيرفي: ( وحصل في زيادة النيل هذه غريبة ، وهى أنّ أرباب التقويم أجمعوا أن البحر يعلو إلى أن يصل إلى زيادة عن تسعة عشر ذراعاً.. وجاء الأمر بخلاف ما قالوا.). ومعناه أن تعلق حياة المصريين بزيادة النيل ونقصه جعلهم يبحثون عن الأمن النفسي بين المنجمين وأرباب التقويم والفلك، وقد كان ينجم عن نقصان النيل كوارث سنعرض لها فيما بعد.

3 ــ وذكر ابن الصيرفي بعض الطقوس التى كانت تحدث في موكب وفاء النيل فى يوم الخميس 19 صفر 875هـ ، يقول:( وأصبح يوم الخميس تاسع عشر، فركب الأشرف المقر العالى السيفي جانبك قلقسيز أمير سلاح ، وتوجه إلى مصر ( هى الآن ما يعرف بمصر القديمة من الفسطاط وما حولها ) حسب المرسوم الشريف ، فنزل الحرّاقة ( سفينة نهرية ) وصعد المقياس، وصلّى على القاعدة المعهودة ( صلاة الاستسقاء النيلية ـ أى دعاء بارتفاع منسوب النيل حتى يظهر ذلك فى المقياس ) ، ومُدّ له المدة الهائلة ( أى أعدوا له وليمة هائلة ) من الغنم المشوى والفواكه والحلوى . وصار الخلق في البحر حول موكبه ، وهم يدعون ويبتهلون لما عندهم من الفرح والسرور، وفتح فم البحر لما وصل إلى السد، وخلع على الوالى وعلى من له عادة من أمناء النيل وغيرهم . وركب للقلعة لحضرة السلطان ، فخلع عليه فوقانيا بطراز زركش ... وركب في خدمته عدة من الخاصكية ورؤوس النوبة وتوجه إلى داره في جحفل عظيم وهوتك ( موكب ) جسيم، وقصد السلطان بذلك جبر خاطره، فإنه قاسى أهوالاً شديدة في أسر شاه سوار.). كان الأمير قلقسيز أسيراً لدى شاه سوار وقد أعاده إلى قايتباى، وأراد السلطان الترويح عنه وجبر خاطره فأرسله أميراً على موكب وفاء النيل وكسر السد، ونزل الحراقة أى السفينة المعدة لذلك وركبها إلى المقياس وصعد عليه وصلى، وأقيمت له مآدبه من الخراف المشوية والفواكه والحلوي وازدحم الناس حوله في المراكب مبتهجين، وفتح فم البحر، وخلع على الوالى وأمناء النيل وعاد للسلطان فأنعم عليه، وذهب إلى داره في موكب هائل.

أخبار زيادة النيل ونقصانه:

1 ــ وكان مؤرخنا حريصاً على تسجيل زيادة النيل ونقصانه بين ثنايا تاريخه.ويقول في أخبار الجمعة 21 صفر 876 أن النيل توقف ثلاثة أيام ثم أصبح يزيد كل يوم إصبعاً وإصبعين ، ( وحصل الخير بمعونة الله تعالى، ورسم السلطان للأتابكي أزبك أن يتوجه إلى المقياس على العادة ويفتح فم الخليج فركب في ممالكيه وأعوانه وصحبته من الأمراء.) . وفي يوم الأحد 15 ربيع الأول 876  (إنقطع سد سنيت على البحر، وانتهت زيادة النيل يوم 17 ربيع الأول إلى إصبع من تسعة عشر ذراعاً، وفيه كسر سد الأمبوبة (إمبابه) كسره الوالى وأعوانه.). ويقول في أحداث ربيع الأول 875:( ولم يزد البحر شيئاً في سابع توت القبطي الموافق لسابع ربيع الأول، فإنهم كسروا سد الأمبوبة ( إمبابة ) ونقص منها، والأمر لله تعالى يتصرف في عبادة بما يريد.). ويقول في أحداث السبت 25 ربيع الأول 875 : ( نودى على البحر بزيادة إصبعين من النقص فصار البحر الآن في عشرين إصبعاً من سبعة عشر ذراعاً، واستمر يزيد بعد ذلك الإصبع والإصبعين في كل يوم.) أى كان المنادى يطوف فى مصر والقاهرة ينادى بزيادة النيل أو نقصه كأحد الأخبار الهامة. وفي أخبار الجمعة 4 ربيع ثان 876 يقول: ( ثبت البحر هذه السنة على عشرين إصبعاً من تسعة عشر ذراعاً . ولله الحمد والمنة والفضل والشكر الجزيل لا إله غيره.). وفى أخبار ليلة 27 ربيع الأول 877 يقول: ( نزلت النقطة ووزن الطين فجاء وزنه تسعة عشر قيراطاً تنقص يسيراً.). أى مقياس الماء من القاع عند الطين الى مستوى سطح الماء .

2 ــ كانت أخبار النيل من زيادته ونقص تشغل المصريين الذين تعلقت حياتهم بالفيضان وكان أمل المصريين أن يتحرروا من هذا الأرق والقلق، وتم إنشاء السد العالى وضاع الفيضان، وضاعت معه أشياء أخرى كثيرة.

أبو الرداد أمين النيل عدة قرون:

1 ـــ وكان أمين النيل في عصر قايتباى هو أبو الرداد، وقد أتى اسمه بين سطور الهصر.

وفي عيد الأضحى 873 يقول ابن الصيرفي: ( أخذ أمين النيل أبو الرداد قاع البحر فجاءت القاعدة، أعنى الماء القديم، وما أضيف إليه من زيادة في السنة، خمسة أذرع واثنين وعشرين إصبعاً.). ويوم الأحد 4 صفر 874 يقول صاحبنا ( أخبر أمين النيل ابن أبى الرداد بوفاء النيل ستة عشرة ذراعاً وبزيادة أربع أصابع من الذراع السابع عشر ، فأمر السلطان الأمير لاجين الظاهرى أحد مقدمي الألوف بتعدية النيل وتخليق المقياس وفتح فم الخليج الذى هو عند السد ، فبادر وفعل ما أمر به على العادة في كل سنة ، وخلع عليه ،وأُركب فرساً بسرج ذهب وكنبوش زركش على عادة من تقدمه.).وفي يوم الأربعاء 20 ذى الحجة 874:( أخبر أمين النيل أن أبى الرداد القياس بيشارة النيل وأن القاعدة ستة أذرع وعشرون أصبعاً، وكانت زائدة في هذه السنة عن الماضية ذراعاً واحد زاد من الغد الذى هو الخميس خمسة أصابع.).وفي أول المحرم الخميس 876 كان البشارة بزيادة النيل ، وأخبر أمين النيل أبى الرداد بأن القاعدة ستة أذرع وثمانية أصابع، فكانت ناقصة عن العام الماضى اثنى عشر إصبعاً.)

2 ـ وقد عمل (إبن أبى الردّاد) هذا قاضياً ضمن القضاة الشافعية وذلك بواسطة كبير الفقهاء الشافعية سراج الدين العبادى، وواضح أن عمله هو قياس النيل وقياس القاعدة الطميية وتسجيل الزيادة والنقص في كل عام، وإخبار السلطان بذلك ليبعث من يقوم بكسر النيل ويقام بذلك وفاء النيل.

3 ــ وقد لفت نظرى اسم أمين النيل في عصر قايتباى (ابن أبى الرداد) وتكرار هذا الاسم في التاريخ المصري في العصور الإسلامية المختلفة، وقد تبين أنها عائلة واحدة توارثت هذا العمل منذ أن عهد المتوكل العباسى إليهم بأمانة النيل، وعزل عنها النصاري، وقد تولى أولهم أبو الرداد عبد الله بن عبد السلام بن أبى الرداد المؤدب وكان رجلاً صالحاً فاستقر في بيته قياس النيل إلى عصر القلقشندي حسبما ذكر كتاب (صبح الأعشى). ويذكر المقريزى في تاريخ الفاطميين أن جوهر الصقلي الذى بنى القاهرة خلع على ابن أبى الرداد أمين النيل. وعلى ذلك فقد توارثت هذه العائلة القيام على قياس النيل من عهد المتوكل العباسى مروراً بالعصر الفاطمي ثم الأيوبي ثم المملوكي إلى عهد قايتباى، أى بثمانية قرون كاملة، أى كان عمرهم أكبر من عمر القاهرة.

الانحلال الخلقى عند زيادة النيل:

وعرضنا لما كان يحدث عند النيل من انحلال خلقى كان يزدهر في زيادة النيل. في يوم الأحد 11 صفر 875 ، يقول إبن الصيرفى أنّه زاد النيل فهرع الناس إلى الشواطئ ( وأظهروا المفاسد والقبائح والزنا واللواط والخمر فقدر الله أن نقص البحر إصبعاً في يوم الثلاثاء 16 صفر وأشاعوا أنه أوفي وأن الستر غلق وأن السلطان إما يباشر فتح فم الخليج بنفسه أو يأمر لأحد من أمرائه ، فأصبح البحر بلا وفاء بل نقص وأنه انقطع عليه فقطع الرمل بالجيزية ، وخرج الوزير لسده ، وصحبته جماعة من أعيان أخصاء الأمير الداودار الكبير.).

إنشاء سدود على النيل:

واهتم السلطان قايتباى بإنشاء بعض السدود على النيل.

في يوم الخميس 8 محرم، كتب ابن الصيرفي : ( ركب السلطان من القلعة وسار حتى وصل إلى خليج السد فوجده لم يحفر ، فاحتدّ السلطان وغضب ورسم لعظيم الدولة، الأمير يشبك من مهدى الدودار الكبير بأن يباشر ذلك بنفسه ، فتوجه في الحال وفي خدمته خلائق من الناس ، واهتم بأمره غاية الاهتمام ، بحيث أنه عمل فيه بنفسه وأمر جماعته بالعمل فيه.). كان السلطان مشغولاً بثورات الأعراب وبالاستعداد لمواجهة شاه سوار، ولكنه لم يفقد اهتمامه بحفر ذلك السد . وأثار ذلك تعجب مؤرخنا ابن الصيرفي، يقول : ( غير أن الناس تعجبوا من السلطان لاهتمامه بهذا الجسر هذا الاهتمام العظيم . ويكفيك من عظم الاهتمام بعمل هذا الجسر المذكور أنه اختار لهذا الجسر الأمير سودون القصروهى والأمير لاجين الظاهرى وكلاهما أمير مائة مقدم ألف وصحبتهما جمع كبير من المماليك وغيرهم.).

البناء والسكنى على النيل:

1 ــ وكان النيل ـــ ولا يزال يمثل ــــ جاذبية خاصة، يقترب منه الأعيان بالبناء، وكان فرعون موسى يقيم قصره على النيل، وجاءه النيل بموسى رضيعاً في صندوق. وكانت زوجته المؤمنة تدعو الله عزّ وجلّ أن ينجيها من فرعون وعمله وأن يجعل لها بيتا فى الجنة ، تأثرا منها بالرعب من فرعون ومن تنعمها بقصرها على النيل. والنيل هو الحاضر الغائب هنا ، ففرعون إغترّ به ونادى متسائلا : أليس له ملك مصر وأنهار النيل وترعه وبحوره تجرى من تحته ، أى إستبد واستكبر بسبب سيطرته على النيل شريان الحياة فى مصر . وقد سكن على هذا النهر ، وتآمر عليه النيل فجاء له بموسى .

والفراعنة وأعوانهم كانوا يهيمون عشقا بالنيل حتى لو كانوا من المماليك الوافدين لمصر . المماليك البحرية حملوا لقب البحرية لسكناهم فى معسكرات حول ( بحر النيل ) فى الجزيرة. ومع أن المماليك البرجية أقاموا فى طوابق ( أو طباق القلعة)  و ( أبراجها ) فلم يبتعدوا عن النيل . وسكن كبار أتباعهم حول النيل . وفي عصر قايتباى كان أعيان الدولة يتنافسون في البناء بالقرب من النيل. يقول مؤرخنا في ترجمة عبد الرحيم بن البارزى ت874 عميد بيت البارزى في أخر عهده : ( عمّر داراً هائلة على شاطئ النيل مجاورة لدار جده ولدار رئيس الدنيا ابن مزهر الأنصاري كاتب السر. وحصل بينه وبين رئيس الدنيا ما حصل من الغوغاء لما برز على داره، ومن محاسنه أن هذه الدار التى أنشأها عديمة النظير من البناء المتقن والرخام الهائل الملون والذهب واللازورد والأبواب المطعمة وغير ذلك، وعند انتهائها سألته في التفرج فيها أنا وعيالى ، فرسم لى بذلك. وأرسل إلى ما يحتاج إليه من الميرة من غنم وأوز ودجاج ونفقة.).

هنيئا لك ولعيالك يا ابن الصيرفى .

الهوامش

  1. الهصر: 11، 15، 205، 260، 329، 334.
  2. الهصر: 221، 215، 337، 484.
  3. الهصر: 73، 127، 166، 316، 317، 376.
  4. المقريزي: اتعاظ الحففا 1/199 تحقيق  د.جمال الشيال.
  5. الهصر: 203.
  6. الهصر: 9، 10.
  7. الهصر: 171: 172.

 

 

 

الفصل السادس : كوارث للمصريين فى ظل تطبيق الشريعة فى عصر قايتباى

 

 أخبار الطاعون

كان الطاعون والمجاعات من مآسى التاريخ المصري في العصور الوسطي، وكان غالباً ما يحدثان معاً، وواضح أنه كانت لهما دورة تأتى بهما في تتابع زمني خلال القرن الواحد، وكان طاعون 873 أبرز أحداث المجتمع المصري في عصر قايتباى. وفي أول صفر 873 وردت أخبار بانتشار الطاعون بالثغر الإسكندري، ويبدو أنه جاء من مصدر خارجي، وبدأ انتشاره من الإسكندرية إلى باقى أقاليم مصر ثم إلى القاهرة، وبعدها وصل للشام. ونتتبع خطوات  انتشاره على النحو التالى:

1 ــ في 29 صفر 873 وصلت جثة خوند بنت الأشرف اينال من الإسكندرية إلى القاهرة، وكانت قد توجهت إلى الإسكندرية مع والدتها خوند زينب لزيارة أخيها الملك المؤيد أحمد المقيم بالإسكندرية ولحضور ختان ولده، وعندما وصلوا إلى الإسكندرية مات الولد الذى يريدون ختانه، ثم أصابها الطاعون وماتت وكانت دون الثلاثين من عمرها، ونقلوا جثتها إلى القاهرة فوصلت يوم السبت 29 صفر، ويبدو أن الوباء انتقل معها إلى القاهرة. وفي يوم الأربعاء 3 ربيع الأول وصل الخبر للسلطان بوفاة الملك الظاهر يلباى الاينالى بالطاعون وكان معتقلاً بسجن الإسكندرية، وكان قد تولى السلطنة فترة يسيرة ثم عزلوه.وفي يوم الاثنين 6 ربيع الآخر وصلت الأخبار من الإسكندرية بأن الطاعون أهلك معظم أهلها وأنه لا يزال منتشراً بها إلى تاريخه. وفي يوم الاثنين 13 ربيع الآخر عاد الأتابك أزبك من البحيرة بعد قيامه بحمله ضد الأعراب هناك، وأخبر بأن الطاعون لا يزال مستمراً بالإسكندرية وأنه انتشر بالبحيرة ووصل إلى دمنهور، وأخبر بموت جماعة من أعراب غزالة من رؤوس الشر والفساد وبلغ عددهم نحو ثمانين نفراً.

2 ــ وبسبب التنقل من البلاد الموبوءة بالطاعون إلى غيرها انتقل الطاعون من الإسكندرية إلى البحيرة ثم إلى الغربية ثم إلى القاهرة. يقول مؤرخنا في أحداث يوم السبت أول جمادى الثانية : ( وفيه فشى الطاعون بإقليم البحيرة من الوجه البحرى من أسفل مصر وبعض بلاد الغربية (أى وسط الدلتا) بل وظهر الطاعون بالبلاد المصرية (أى القاهرة وضواحيها) لكنه غير فاش ، فإنه ظهر ببعض الأماكن، وبعض الأماكن لم يظهر بها شيء، والوقت بدرى ، فإنها خامس يوم من فصل الشتاء، والأمر لله يفعل ما يريد ولا يسأل عما يفعل.). أى بدأت بوادر الطاعون في القاهرة، ولابد أن يسود الذعر في أرجائها، يقول مؤرخنا في أخبار يوم الأحد أول رجب: ( والناس في أمر مدلج من غلو الأسعار وبوادر الطعن، (أى الطاعون) ببيوت بعض الناس بالقاهرة ،غير أنه قليل. ). وكالعادة يرتبط الطاعون بالغلاء، إذ تتوقف الأنشطة الاقتصادية في القاهرة وأعمالها ويلزم الناس بيوتهم وتشتعل الأسعار.

3 ـ وبمرور أيام شهر رجب انتشر الطاعون بالقاهرة. وكان مؤرخنا ابن الصيرفي يتبع الإحصاءات الرسمية بأعداد الموتى من الطاعون. في يوم الأربعاء 18 رجب وصل عدد من يموت بالقاهرة المحروسة إلى واحد وستين نفراً.. ثم وصل يوم الجمعة 20 رجب إلى مائة نفر، ويقول مؤرخنا ( فإن المائة التى ذكروها عن القاهرة كلها جاءه عدة من يموت وصلى عليه ) ويذكر أنّ من تمت صلاة الجنازة عليه بباب النصر أكثر من خمسين نفراً ، ( فما بالك ببقية المصلات التى بالقاهرة فإن عدتها سبع عشرة مصلاة وبهذا المقتضى لا نعتمد على ضبطهم . ). وهذه لفتة تضاف إلى رصيد الدقة والتحرى من جانب ابن الصيرفي. وكان ابن الصيرفي يأخذ إحصاءاته الرسمية من ديوان المواريث الحشرية،ويرى أنه لا ينبئ عن العدد الحقيقي للأموات.

وعن أحداث الخميس 26 رجب يقول:( وضبط اسم من يموت بالتعريف بالمواريث الحشرية من الأموات فبلغت مائة نفر وسبعة أنفار، وقد قدمنا أنه لا عبرة بضبط التعريف)، ثم يقول: ( وفي هذا اليوم أخذ الطاعون في الزيادة حسبما نذكره بعد ذلك بما ضبط من الأموات بمصلى باب النصر، فإنها أكثر وارداً من جميع المصلات.)

4 ـ ثم هلّ شهر شعبان وقد فشا الطاعون بالقاهرة ومصر وبولاق.. وقد ذكر مؤرخنا بعض الإحصاءات، ففي أحداث الجمعة 5 شعبان : ( وصل عدد الأموات بمصلي باب النصر والبياطرة إلى مائتى نفر بباب النصر مائة وثلاثون، والبياطرة سبعون، وقس على هذا ما بقي من المصلات بالقاهرة وهى خمس عشرة مصلاة.). وفي يوم الثلاثاء 19 شعبان مات جماعة من العسكر المملوكي المسافر لحرب شاه سوار، ماتوا بالطاعون قبل السفر، ووصل عدد الأموات بمصلى باب النصر أكثر من 230، وبمصلى البياطرة أكثر من 130، يقول مؤرخنا وقس على ذلك باقى المصلات.). وفي يوم الأحد 21 شعبان بلغ عدد الموتى الذين صلوا عليهم بمصلى باب النصر 441، يقول مؤرخنا: ( وقس على هذا بقية المصلات التى بالقاهرة وظواهرها، والناس يقطعون ويجزمون بأن من يصلى عليه بمصلى باب النصر من الأموات يكون أكثر عشر من يموت بالقاهرة ، فعلى هذا يكون عدد من يموت بالقاهرة وظواهرها في كل يوم أربعة آلاف إنسان وأربعمائة إنسان، ومعظم الطاعون الأن بأسفل مصر من جهة الحسينية وغيرها إلى بين القصرين، ومن جامع باب زويلة الطاعون أخف مما تتقدم.) . وفي يوم السبت 27 شعبان أول فصل الربيع بلغ عدد الموتى الذين صلى عليهم بمصلى باب النصر 407، وفي مصلى البياطرة 215، ومصلى المؤمني185.وفي يوم الاثنين 29 شعبان توفي بالطاعون طفل للسلطان السابق خشقدم وكان في السادسة من عمره.

5 ــ وبسبب كثرة الموتى بالطاعون يومياً فإن عدد المساجد أو المصلات التى كانوا يغسلون فيها الموتي لم يعد كافياً، لذلك أنشأ الداودار الكبير يشبك من مهدي مغسلاً خاصاً للأموات ليستوعب تلك الأعداد الزائدة، خصوصاً من الفقراء، وانتهى العمل في هذه المغسلة في شهر شعبان 873، وقد احتفل مؤرخنا ابن الصيرفي بهذا البناء وصاحبه الداودار الكبير، يقول : ( في هذا الشهر كان الفراغ من بناء المغسل الرابع الذى يعلوه بالرملية مقابل مدرسة السلطان حسن، أنشأه عظيم الدنيا على الاطلاق المقر الأشرف الكريم العالى الملاذى مدير المملكة ومشيرها ووزيرها واستادارها وداودارها الكبير وصاحب حلها وعقدها يشبك من مهدي أعز الله أنصاره، وأنشاؤه لهذا المغسل لأجل الأموات الفقراء، والغرباء بل غيرهم كافة، فحملوا له الخلق الأموات من كل فج ، وأقام به كتاباً يضبطون الأموات، وصار يغسلهم ويكفنهم ويحملهم من ماله ليدفنهم في المقابر، فجزاه الله عن المسلمين خيراً دنيا وأخرى وأحسن صنيعه وأكثر بره وخيره، واستمر هذا الخير متواصلاً باقياً مستمراً على الدوام.)

6 ــ وفي هذه الأيام وردت الأنباء بوجود غلاء ومجاعة في الشام فكانت هذه الأخبار مع طاعون القاهرة ومصر ومن أبرز المحن خصوصاً مع التجهيزات المملوكية لحرب شاه سوار بعد أن انتصر على العسكر المملوكي قبيل ذلك، يقول مؤرخنا عن أحداث الأربعاء أول رمضان: ( عظُم الخطب والمصاب بما دهم الناس من الطاعون بالديار المصرية وظواهرها ونواحيها وقراها وذلك ، مع شدة الغلاء المفرط أيضاً بمصر والشام، غير أن البلاد الشامية كان الغلاء فيها خارجاً عن الحد، وتزايد الطاعون في هذا الشهر.)

7 ــ إلا أن حدة الطاعون قد بدأتتتوقف بعد العشرة الأوائل من رمضان، يقول ابن الصيرفي: ( وبعد العشرة الأوائل من شهر رمضان أخذ الطاعون في النقص قليلاً بقليل بعد أن كان وصل في اليوم الواحد إلى خمسة آلاف على قول المكثر وفي قوله غيره أربعة آلاف، وكان معظم من يموت فيه من جنس المماليك وأولادهم الصغار والعبيد والجوارى والغرباء. ). وهذا يعنى أنه كانت للمصريين نوع من الحصانة تزيد بكثير على ما كانت للمماليك وأولادهم الغرباء، ومرجع ذلك إلى أن المصريين اعتادوا على هذا النوع من الأوبئة كان يأتى في دورة متتابعة ويحصد منهم مئات الألوف، ومن يبقي حياً تبى له نوعية من الحصانة قد يتغلب بها على الهجمة التالية للطاعون. وفي يوم الأربعاء أول رمضان توفيت بنت لأحمد بن السلطان الأشرف برسباى، ثم ماتت أمها أيضاً، وكانت أختها لأبيها قد ماتت قبل ذلك بأيام، وبذلك انقرضت ذرية السلطان برسباى بسبب ذلك الطاعون. وفي يوم الخميس 23 رمضان ماتت بالطاعون بنت السلطان قايتباى وكانت في الرابعة من عمرها، وفي نفس اليوم توفي ولد أخر للسلطان السابق خشقدم، وكانت لهما جنازة مشتركة، ويقول مؤرخنا أنه مع نقص الطاعون فالموت موجود بكثرة بين الأمراء والأعيان من المماليك.

وبمجئ عيد الفطر يوم الخميس ظهر واضحاً أن الطاعون قد بدأ ينكشف خطره وتراجع عدد الموتى الذين يصلون عليهم بمصلى باب النصر إلى 38 شخصاً، وبمصلى المؤمني إلى 17 شخصاً، ويقول ابن الصيرفي "غير أن العلة موجودة كثيراُ والموت فاشٍ".

8 ــ ثم انتهى وباء الطاعون من مصر وانتقل إلى الشام. وفي بداية السنة التالية محرم 874 فشا الطاعون في الشام ( حتى يصير الميت ثلاثة أيام لا يجد من يحمله إلا على سلم أو باب وأمثال ذلك، وتزايد الغلاء جداً عندهم )

9 ــ وودّع ابن الصيرفي هذا العام 873 بعبارات مريرة يقول: "وانقضت هذه السنة بعد أن قاسى الناس منها شدائد وبلاءاً ومحناً وإحنا من عظم الغلاء وكثرة الطاعون وخوف السبيل والطرق" . وكان الغلاء هو المحنة الأخرى التى نتوقف معها.الهوامش

  1. الهصر: 12، 16، 17، 31، 32، 46، 50، 53، 55، 57، 60، 118، 79.

أخبار الغلاء.. والأسعار

الغلاء مع الطاعون ومصائب أخرى:

يقول ابن الصيرفي يودع عام 873 وانقضت هذه السنة والناس في أمر جهيد وبلاء عظيم من كثرة الفتن وشتات العسكر المصري بالبلاد الحلبية، وفقدأكثرهم في واقعة شاه سوار، ثم مات منهم طائفة بالطاعون وغيره، فإن المماليك السلطانية لما عادوا إلى الديار المصرية اعتراهم في الطريق مرض فمات من المماليك السلطانية خلائق كثيرون، وصار الموت معهم طوال الطريق إلى أن وصلوا إلى القاهرة. وأيضاً الطاعون الذى وقع بمصر ثم بالبلاد الشامية إلى الآن،) . ويقول عن عام  874  : ( وعظُم الغلاء بالديار المصرية حتى وصل أردب القمح إلى ألف درهم، ووقع الغلاء بالديار الشامية أعظم من الديار المصرية. ). أى جاء الطاعون كالعادة وقد صحب معه الغلاء، ثم أضيفت لذلك نكسة الجيش المملوكى في شمال حلب أمام شاه سوار، والمماليك نشروا جراثيم الطاعون ما بين الإسكندرية والقاهرة ومدن الشام ، وأينما يسير الطاعون فالغلاء في ركبه، كانت محنة مركبة، وما يعلم جنود ربك إلا هو.

أسباب متنوعة للغلاء:

1 ــ مع بداية الطاعون خاف المسئولون من الغلاء فحددوا تسعيرة للقمح الأردب بأربعمائة درهم، وأدت المناداة بالتسعيرة الجديدة إلى ارتفاع سعر القمح وباقى الحبوب، وخصوصاً وأن النيل توقف عن الزيادة، وبدأ الناس في تخزين القمح والمواد الغذائية، وفي ذلك يقول مؤرخنا في أحداث يوم الاثنين 10 صفر 873 : ( وفي هذا اليوم نودى بالقاهرة وظواهرها حسب المرسوم الشريف أن الأردب القمح بأربعمائة درهم ، وهددوا من باع بأكثر من ذلك، فلم يكترث أحد بهذه المناداة، وأن القمح كان وصل إلى ستمائة درهم الأردب والشعير إلى ثلاثمائة والفول إلى مائتى درهم فأصبح سعر القمح بعد المناداة إلى سبعمائة الأردب، وكذلك الشعير والفول، وسبب ذلك أن البحر كان توقف عن الزيادة من يوم الثلاثاء رابع صفر لآخر مسرى أياماً كثيرة، فقلق الناس من عدم الزيادة ، وحصل عندهم هلع وجزع ، ثم جاءت الزيادة فامتنع الناس من بيع القمح . والناس محتاجون له فزاد سعره ، ثم زاد البحر بعد ذلك ووفّي وزال نقصه ، فالحمد لله.).

2 ــ ومع ذلك ازدادت الأسعار ووصل سعر الأردب من القمح إلى تسعمائة درهم وارتفعت أسعار المأكولات بصفة عامة، ويرجع ذلك بالإضافة للطاعون وقلة الجهد المبذول في الزراعة إلى استيلاء الأعراب على الدلتا منتهزين انشغال المماليك بالاستعداد الحربي الثائر من هزيمتهم أمام شاه سوار ومعاناتهم من الطاعون، ثم إلى الهزة النفسية التى أحدثها نقصان النيل في القاهرة بعد أن فتح سد بنى منجا وامتلاء ذلك الفرع بالماء على حساب المستوى العام للنيل في القاهرة. يقول مؤرخنا في أحداث يوم الاثنين أول ربيع الأول 873 : ( .. والأسعار في نمو وزيادة ، لاسيما الحبوب ، فإن القمح وصل إلى تسعمائة درهم الأردب والشعير بستمائة درهم ، وهو عزيز الوجود ، والفول إلى أربعمائة درهم ، ولكنه موجود .وسائر ما يؤكل غلا ثمنه وعُدم.).

ويحاول مؤرخنا أن يفسر سبب ذلك الغلاء فيقول: ( وأصل هذا الغلاء استيلاء العريان على أسفل مصر من الوجه البحري ، وخسّة الزروع ، ونزول البحر بسرعة ، فإنه من يوم فتح سد بنى منجا.. نقص نقصاً فاحشاً ، ولم يلبث اليوم الواحد ، بحيث أن الناس ازدحموا على ملء الصهاريج بالصحراء وغيرها ــ كما هى العادة المألوفة ــ ازدحاماً شديداً خوفاً أن يفوتهم ذلك لنقص البحر، مع أن غالب الخلق ملأوا من خليج الزعفران لفقدهم الماء من الخلجان ، فإنه هبط هبوطاً لا يتدارك ولا يعود، ووقع الزرع بالقليوبية وغيرها على المحاريث وحرثوا والوقت في العشر الثالث من توت، والمثل الساير: من لم يزرع في بابه لم يأكل لبابه. فما بالك بزرع توته، والأمر كله لله يتصرف في العبيد بما يريد.).

3 ــ وفي يوم السبت 20 ربيع الأول 873 نودى ألا يباع القمح بأكثر من أربعمائة درهم يقول مؤرخنا "ففرح الناس بذلك ، ودعوا له ، فإن القمح وصل إلى ثمانمائة درهم بالأردب، ثم إن بعض الناس ذكر إن ذلك معاكسة لابن عمر الهواري فإنه أرسل كثيراً من القمح ليبيعه، ومع ذلك أزداد سعره، ولما نادوا عليه بأربعمائة درهم نهب الناس والعوام غالب الحوانيت بباب الشعرية وغيرها وعاد الأمر إلى ما كان عليه . ).

 وفعلاً عاد الغلاء في غالب الأقوات، ويفصّل مؤرخنا الزيادات الجديدة في الأسعار في أحداث الاثنين 6 ربيع ثان873 فيقول: ( وأما الغلاء فاستمر بالديار المصرية في سائر الأقوات لأن القمح وصل إلى تسعمائة درهم الأردب والشعير إلى ثلثمائة الأردب فأكثر،ثم غلا الشعير والفول بعد ذلك إلى أن زاد الأردب على أربعمائة بحوانيت السوق والباعة، وأما الجبن الأبيض فوصل إلى عشرة دراهم الرطل،وقس هذا على سائر المأكولات. وطال هذا الغلاء ونمو السعر بمصر وضواحيها وقراها. فلله الحمد على كل حال.)

واكب هذا انتشار الطاعون من الإسكندرية للدلتا ودخوله للقاهرة، ثم ازدادت الأسعار في أول جمادى الآخرى 873 وتزايد سعر الحيوانات جداً، وكان الطاعون حينئذ يعمل عمله في الدلتا والقاهرة وبانتهاء هذا العام وصل أردب القمح إلى ألف دينار.

4 ــ وبينما انتهى الطاعون. فإن الغلاء استمر.. كأنه القدر المكتوب، ففي شهر محرم 874 وصلت الأخبار من الوجه القبلي أن القمح بلغ ثمنه إلى ستمائة درهم الأردب وأنه عزيز الوجود، وأن الوباء انتقل من البقر للبشر، وهو وباء غير الطاعون، إلا أنه مثله زاد من الغلاء، وأثر بالتالى على أسعار القمح الوارد للقاهرة فارتفع سعر الغلال فيها إلى 1200 درهم الأردب القمح أما الفول والشعير بأقل من سبعمائة، ويقول مؤرخنا : ( والحمل التبن بثلثمائة ، والرطل الخبر بسبعة دراهم.). وكانت تلك أسعار شهر ربيع الثاني 874 .

ويقول مؤرخنا في أحداث الخميس أول رجب 874 : (..هذا والغلاء موجود في سائر المأكولات لاسيما سعر الغلال فإن القمح وصل إلى ألف درهم ومائتى درهم الأردب، والشعير والفول بنحو ذلك، وقد طال هذا الغلاء بمصر والقاهرة وضواحيها نحو ثلاث سنين فلله الأمر.). أى أن الغلاء استمر من 873 : 875هـ.

وكان صعباً أن يأتى رمضان والأسعار بهذا الشكل، خصوصاً وأن الشعير والفول ازداد ثمنها تقريباً إلى سعر القمح، لذا فتح السلطان مخازنه وأنزل كميات ضخمة للاسواق فنزل السعر قليلاً، وفي ذلك يقول ابن الصيرفي في أحداث الأحد أول رمضان 874 : ( صعد المحتسب وشكي للسلطان من القمح وأنه وصل إلى ألف وثلاثمائة الأردب ، فرسم أن ينادي عليه بألف درهم ، وفتح شونته وباع بهذا السعر ، فهرع الناس وابتاعوا من السلطان فمشى الحال قليلاً ، وصار الخبز بستة دراهم الرطل، وكان وصل إلى تسعة الرطل والشعير وصل إلى تسعمائة درهم الأردب فأبيع هذا اليوم بدون الستمائة.).وبهذا يتميز (قايتباى) عن   (حسنى مبارك) الذى كان يسرق وينهب ويحتكر ويهرّب الأموال للخارج ويبتهج بجوع المصريين.

أنواع الطعام وأسعارها 875هـ:

1 ــ واستمر الغلاء إلى السنة التالية 875هـ وفي أول محرم السبت 875 يورد مؤرخنا أسعار السلع الغذائية بالتفصيل، ومنه تعرف نوعيات الطعام المنتشرة وقتئذ، يقول عن بداية أول محرم لسنة 875 : ( واستهلت هذه السنة والأسعار بحالها وزيادة ، فإن القمح الطيب بتسعمائة وما دونه بثمانمائة الأردب، والدقيق كل بطة  ( بطة الدقيق مكيال يساوى خمسين رطلاً ) بمائتى درهم وعشرين درهما، والشعير بثلاثمائة وثمانين درهماً الأردب، والفول بقريب ذلك، والقفة الدريس بدرهم وهو رخيص بالنسبة للعام الماضى، والتبن موجود كثير، كل حمل بخمسة أنصاف،(النصف عُملة صغيرة من الفلوس الفكة)، أو أكثر بحسب حشوه وما فيه. واللحم الضانى بعظمه بتسعة دراهم ، والرطل وبلا عظم باثني عشر درهماً، والبقرى بستة دراهم الرطل، والدجاج لا يوجد إلا نادراً عند الأكابر، أما السمين منه فعديم الوجود، وكل طائر منه بأربعة أنصاف، والفروج الواحد بلغ إلى خمسين درهماً ، وليس فيه أوقيتان من اللحم، والأوز موجود لكن بثمن زائد على ثمنه مرة واحدة، فإن ثمن الفروج المليح ستة أنصاف فوصل في هذه السنة إلى ضعف ذلك.). ثم يتحدث مؤرخنا على أسعار المواد الغذائية الأخرى فيقول عن الخبز في المخابز، وأما الخبز عند الباعة فصغير جداً، والمأوى نصف رطل ويعجز عنه أيضاً بدرهم، والرومي أقل منه بنصف أوقية ) . ونفهم من ذلك أن الخبز كان أنواعاً، وأن أصحاب المخابز انتهزوا الفرصة فانقصوا وزن الرغيف وخلطوه بالشعير، بل زادوا من نسبة الشعير، واضطر الناس لأكل الرغيف الشعير، وللضرورة أحكام. وبعد الخبز يتحدث صاحبنا عن ( الغموس).يقول: ( والجبن الحالوم باثنى عشر درهماً الرطل ، والأزرار بثمانية دراهم الرطل ، والمقلى بأحد عشر درهماً الرطل.). وهكذا عرفنا أنواع الجبن في العصر المملوكي الحالوم والأزرار والمشوى والمقلى. تُرى هل كانت ألذ من الجبن الرومي والثلاجة والاستانبولى والدمياطى.الله أعلم.!!

ويستمر في أخبار التسعيرة:( وأما العسل النحل من عند الزيات بأربعة وعشرين درهماً الرطل، والعسل الأسود باثني عشر درهماً الرطل، والسيرج بثمانية عشر درهماً الرطل، والزيت الطيب كذلك، والحار بتسعة.والأرز من عند الباعة بنصفين القدح،غير أن الفاكهة والبطيخ رخيصان، والعبدلى كذلك.).ثم يصف مؤرخنا الأحوال العامة في هذا الغلاء:( وأما الناس فصاروا ثلاثة أثلاث: الغنى افتقر والمكتسب ما يفي بنفقته، والفقير فبعد أن كان يسأل في الرغيف صار يطلب لقمة أو لبابة.).أى كسرة خبز!.وهى عبارة مختصرة موجعة.

وعادة فالذى كان يقاسى أكثر من ذلك الغلاء هو الفقير، ولم يكن يهتم بأسعار اللحوم والفواكه وأصناف الجبن والخبز والعسل والزيت، وإنما كان يهتم بمجرد كسرة، وبعد أن كان يسأل طالباً الرغيف، أصبح غاية أمله أن يحصل على كسرة، أو لبابة خبز.

وأغلب أجدادنا كانوا من أولئك الفقراء. وإذا كان ابن الصيرفي وأمثاله من أرباب الوظائف يشكون لطوب الأرض من ارتفاع الأسعار فإلى من كان يشكو الفقراء الذين كانوا لا يجدون ينفقون أو يأكلون.

إنّ الله سبحانه وتعالى ولى الصابرين.. وكم صبرتم يا أجدادنا.

نقص النيل وارتفاع الأسعار:

وفي هذه الظروف الدقيقة كانت أى إشاعة عن نقص النيل تدفع للمزيد من التدهور والغلاء وتخزين الحبوب، وحدث أن أشيع نقصان النيل فانتشرت الشائعات ، وتوقف البيع ، وبدأ تخزين الحبوب، وأمسك التجار عن توصيل الحبوب للقاهرة، لولا أن لطف الله تعالى بالناس فزاد النيل وتنفس القاهريون الصعداء. وفي ذلك يقول مؤرخنا في أحداث شهر صفر 875 : ( وكثر القيل والقال بين الخلق لعدم زيادة النيل مع أن الباقي عليه إصبع، ثم شاع أنه أوفي فلم يصح، ثم نقص، وبادر الخزانون في الغلال يخزنونها فعليهم من الله ما استحقوه. ولما بلغ ذلك أهل البلاد ( تجار الحبوب الذين يستوردونه من الريف ) مسك الجالبون  بيعهم وامتنعوا مطلقاً، وبعد أن كانت المراكب على ساحل مصر وبولاق بالغة، رحلوا عنها إلى طره وما فوقها لينظروا ما يتفق، فقدر الله سبحانه من كرمه أن زاد في يومه وأوفي الستة عشر ذراعاَ وإصبعين من الذراع السابع عشر.).

استمرار الغلاء بسبب حمق المحتسب:

وانتهت أزمة الحبوب وتوافرت في الأسواق، بعد أن عادت سنابل القمح تزدهر في الحقول، ولكن استمر الغلاء في أسواق القاهرة لسبب آخر هو حمق المحتسب يشبك الجمالى.

والغلاء الذى كان في أسواق القاهرة 876، 877 تركّز في المواد الغذائية مثل الخبز والجبن واللحوم وغيرها.. والسبب هو فساد أعوان المحتسب وإفسادهم للأسواق، وقد حدثت جفوة بين السلطان والمحتسب بسبب مشكلة مالية بينهما، فاعتزل المحتسب في بيته وترك الأسواق لأعوانه المفسدين يتحكمون فيها كيف شاءوا.

وابن الصيرفي الذى كان صادقاً في تعبير عن كراهية الناس لذلك المحتسب، يصف الحال الذى عاشته أسواق القاهرة في ذى القعدة 876 يقول : ( إن البلد لها خمسة أيام في أمر مرير وهلع زائد وتشويش مفرط بسبب عدم الخبز في الحوانيت، فإن الباعة صاروا ما يحضرونه لحوانيتهم ، ويبيعونه في الأفران ، فارتاع الناس لذلك ، وكثر الزحام على الأفران، وصار له من عادة بشراء رغيف يشتري ثلاثة، وصِغُر الرغيف جداً مع سواده وفحش صنعته، كل ذلك والمحتسب  ــ عزله الله عن المسلمين في أقبح صورة ـــــ مقيم بداره في شممه وغضبه على السلطان، ووكّل بذلك البلاصية، (أى الحرامية)  واعوانه الذين يأكلون البرطيل (الرشوة) ببابه ، وأخربوا البلد ، حتى صار كل رسول منهم عنده القماش والبغال والعبي ( العباءات ) والصوف والمسنجب ( ملابس من فرو السنجاب ) وأمثال ذلك ، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم.).

كان الخبازون يحملون الخبز ليباع في الأسواق، ولكن بسبب حمق المحتسب وفساد أتباعه أتيح لهم أن يصغروا حجم الرغيف وأن يسيئوا صنعه وأن يكتفوا ببيعه في المخبز حيث يتزاحم عندهم الناس طوابير، أى أن الطوابير على الخبز قديمة العهد في القاهرة المحروسة، وهى في الأغلب لسوء الإدارة وفسادها، وكالعادة يتصرف المصريون بتخزين السلع، ومن يحتاج إلى رغيف واحد يشترى ثلاثة، كأن ابن الصيرفي يعيش عصرنا.

والمهم أن أسعار الحبوب هبطت ولكن الأزمة استمرت في الخبز ببركة المحتسب، يقول مؤرخنا: ( ومن أعجب العجائب أن هذا المحتسب من حين ولاه السلطان الحسبة ما كشف البلد بنفسه مرة، فأين هذا من ابن العجمي، ومن قاضى القضاة بدر الدين العينى، الذى ما يرضوه أن يكون طالباً عندهم، كانوا مع ذلك يركبون ويدورون بأنفسهم وينظرون في مصالح المسلمين، رحمها الله، ووصلت البطة الدقيق إلى مائة درهم بعد سبعين، وصار القمح بدينار والشعير بأحد عشر نصفاً، ولعمري هذه المصيبة التى أصابت المسلمين بولاية الحسبة الأتراك (أى المماليك ) ما كان ابتداؤها إلا في زمن المؤيد شيخ، وإلا من أين للأتراك أن يباشروا هذه الوظيفة السنية.). وابن الصيرفي يعلن نقمته على تولية المماليك لوظيفة الحسبة وهى أصلاً للفقهاء والعلماء لأنها داخلة في الوظائف الدينية.

قايتباى يفرض تسعيرة ويصلح الحال:

وظل الحال على ما هو عليه إلى العام التالى 877 . وحدث يوم السبت 3 ربيع الأول 877 أن وصل السلطان للقاهرة من رحلته في الشرقية ، فوقف له العوام بين القصرين يطلبون منه محتسباً لما نزل بهم من التجار والخبازين من تصغير وزن الخبز وزيادة ثمن اللحم النيئ والجبن وسائر السلع الغذائية، هذا مع أن ثمن الأردب من القمح كان مائتي درهم فقط، والأبقار والأغنام رخيصة جداً. ويستمر صاحبنا ابن الصيرفي يصف جشع التجار وكيف يبيعون الرخيص بالثمن الفاحش وكيف أضرّوا بحال الناس، مما جعلهم يقفون للسلطان مرة ثانية بالرميلة، فأمر السلطان الأمير قجماس أمير آخور أن يطلب الخبز وينظر في أمر المسلمين فنزل الأوجاقية وأحضروا له الخبز من الأسواق ليفحص حاله. وفي يوم الثلاثاء 6 ربيع الأول أمر السلطان بأن ينادي في القاهرة بتسعيرة جديدة، أن اللحم الضأن من المعلوف بعشرة دراهم الرطل والصغير  كذلك، والمشوى باثني عشر درهماً للرطل ، والمسلوق بأحد عشر درهماً، والتبرمان بأربعة عشر درهماً الرطل، والبقرى المطبوخ بأربعة، واللحم الضانى السليخ بعظمه بسبعة دراهم الرطل، والسميط بستة دراهم، والجبن المقلى بسبعة دراهم والأبيض بخمسة والحالوم بستة والدقيق بستة البطة، والخبز الماوى تسع أواق بدرهم، والرومي ثماني أواق بدرهم. فاطمأن الناس كافة بذلك المناداة، وذلك بعد أن طلب السلطان السوقة ( أى تجار السوق)، بين يديه والطحانين، (أى أصحاب المخابز)، وهددهم بقطع الأيادى والتوسط، ثم رسم للصاحب قاسم الذى هو الآن ناظر الدولة بالتكلم في الحسبة إلى أن يختار بنفسه محتسباً.).

( وفي محرم 875 كان ثمن الرطل من اللحم الضانى بعظمه 9 دراهم فأصبح الأن سنة 877 بسبعة دراهم فقط، وكان الجبن الحالوم بإثنى عشر درهماً فأصبح بستة دراهم فقط، وكان ثمن الجبن المقلى 11 درهماً فأصبح سبع دراهم فقط . ).  ونعرف من النص السابق أن الأسواق المصرية في القاهرة كانت تبيع اللحم المشوى والمسلوق من الضأن والبقر بأسعار لا تزيد كثيراً عن اللحم النيئ، فاللحم الضأن المعلوف السمين بعشرة دراهم للرطل أما إذا كان مشوياً فهو بإثنى عشر درهماً، إذا كان مسلوقاً فهو بأحد عشر درهماً، وكان اللحم البقرى النيئ سنة 875 يباع الرطل منه بستة دراهم فأصبح الرطل منه مطبوخاً يباع بأربعة فقط.

وقد ضجّ الناس من جشع التجار ووقفوا للسلطان فتحقق من الأمر ففرض التسعيرة الجديدة، وتبدو عدالتها واضحة. ثم أحضر التجار وأصحاب المخابز بين يديه وهددهم بقطع أيديهم وإعدامهم وتقطيعهم نصفين، بالتوسيط إذا لم يلتزموا بتلك التسعيرة. فالتزموا خوف التوسيط .!!..( ناس تخاف ولا تختشى !...). ثم أوكل لناظر الدولة بالقيام بوظيفة الحسبة إلى أن يعين محتسباً جديداً، وحدث فعلاً أن عين محتسباً جديداً هو القاضى بدر الدين ابن كاتب السر ابن مزهر الأنصاري.

وعموماً فقد كانت الأسعار هادئة ورخيصة في العصر المملوكي الأول حتى أواسط القرن الثامن الهجرى 750هـ فكان أردب القمح بحوالى 15 درهماً، ورطل اللحم بحوالى نصف درهم، ثم بدأ الغلاء يتحرك في الدولة البرجية المملوكية حتى إذا وصلنا إلى عصر قايتباى وجدنا أردب القمح يرتفع إلى أكثر من ألف درهم.. والسبب كثرة الطواعين ونقص الأيدى العاملة.

والفارق بين الدولة المملوكية البحرية والدولة المملوكية البرجية يذكّرنا بالفارق بين دولة العسكر فى عهد عبد الناصر ودولة العسكر فى عصر الواطى الوضيع حسنى مبارك، رأس الاستبداد والظلم والفساد. وحيث يوجد الفساد فلا راحة للعباد. والرخاء والفساد لا يجتمعان أبداً..

ولا يظلم ربك أحداً.

الهوامش

  1. الهصر: 114، 13، 14، 17، 28، 32، 46.
  2. الهصر: 125، 152، 159، 162.
  3.  الهصر: 187، 188، 205، 206.
  4. الهصر: 430، 431، 476، 477.

 

الفصل السابع : الاحتفالات الدينية فى ظل تطبيق الشريعة السّنية فى عصر قايتباى

 تحديد المناسبات برؤية الهلال:

1 ــ في العصر المملوكى كانت تحديد وتوقيت المناسبات الدينية للمسلمين يتم وفقاً لرؤية الهلال بينما كانت أمور الزراعة والفيضان يحسبونها بالشهور القبطية، ونظراً للاعتماد على الرؤية البصرية في تحديد أول الشهور العربية فإنه كانت تحدث اختلافات، وعلى سبيل المثال فقد حدث يوم الخميس 27 ذى الحجة876 أن جاء المبشرون بقدوم الحجاج ووصلوا القاهرة ، وأخبروا أن وقفة عيد الأضحى كانت يوم الاثنين ومتفقة بذلك مع التوقيت القاهري، وكان قد حدث اختلاف في مصر في تحديد أول شهر ذى الحجة 876 بين قائل بأن أوله الأحد وأخر يرى أنه السبت. وكانت قضية هامة يزيد في أهميتها ما عتاده الأشياخ والقضاة من ذهاب لتهنئة السلطان في أول كل شهر عربي. يقول مؤرخناً عن مطلع شهر ذى الحجة 876 : ( أهلّ بيوم الأحد، ومعناه بدأ ، وظهر هلاله يوم الأحد،   ويوافقه السادس عشر من بشنس القبطي، لأن ذا القعدة جاء تماماً، ثم ثبت بعد ذلك أن أوّله السبت ، ووصل الخبر بذلك إلى المحلة في يوم الثلاثاء ثالثة بعد الظهر، وأخبر السلطان بذلك . ). لم تكن هناك إذاعة لاسلكية تنشر الأخبار وقت حدوثها، لذلك علم السلطان ثالث يوم العيد أن أهل المحلة قد اعتبروا عيد الأضحى يوم السبت لا الأحد، وبالتالى فإن المسلمين في سائر الأقاليم والأقطار كانوا يختارون التوقيت في الأعياد حسبما يرون، وحسب الظروف، وما كان أسهل عليهم لو اعتمدوا الحساب الفلكي الذى لا مجال فيه للخطأ.

2 ــ ونعود إلى مؤرخنا ابن الصيرفي وهو يتحدث عن صعود المشايخ لتهنئة السلطان بهلال أول الحجة، وقد كان معهم، يقول فيه : ( صعد قضاة القضاة ومشايخ الإسلام لتهنئة السلطان بالشهر على العادة، وكنت صحبتهم . وهنّوه على المصطبة المستجدة أخر الحوش السلطانى، فطلب قاضى القضاة الحنفي من السلطان عيوناً ( أى نظّارة للعين ) شُغل الفرنج التى يُنظر بها للكتابة ، كانوا أحضروا له منها بعدة، فأجابه: هذا الذى طلبته مفضضاً ( أى مصنوع من الفضّة ) وأنت ما يجوز لك استعمال ذلك، فما ساعة إلا السكوت، وكلح من الرد عليه بحضور رفقته، فليت شعرى ما الملجئ في ذلك.؟!! ). في اجتماعهم بالسلطان طلب قاضى القضاة الحنفي محب الدين بن الشحنة من قايتباى بكل صفاقة أن يعطيه السلطان نظّارة ، وكان قد جيء للسلطان ببعض النظارات من بلاد الفرنجة، وعلم بذلك ابن الشحنة فطمع في الحصول على واحدة منها، ورفض السلطان أعطاءه ما يريد، وأفحمه بأن تلك النظارات قد طلوها بالفضة، ولا يجوز للقاضى أن يرتدى الذهب والفضة، فاضطر صاحبنا للسكوت ولم يستطع الإجابة، ويعلق مؤرخنا على شيخه الصفيق  قاضى القضاة فيقول: ( كلح من الرد عليه بحضور رفقته، فليت شعرى ما الملجئ له في ذلك.؟!).

ويقول مؤرخنا عن هلال شهر ربيع الأول 876 : ( أُختلف في إثباته إختلافاً زائدا ، فشهد جماعة من المؤقتين ( أى أصحاب التوقيت)، عند القاضى الشافعي برؤيته ليلة الأحد فما قبلهم، (أى ما قبل شهادتهم ) ، وصعد يوم الاثنين لتهنئة السلطان بالشهر ورفقته قضاة القضاة وكنت معهم، فلما جلسوا وهنّوه بالشهر قال له السلطان نصره الله : "الشهر من البارح "، فأخذ عنه القاضى الحنفي في الجواب فقال السلطان: أنا رأيته الليلة الماضية وهو كبير، فقال القاضى المالكي: الكبر ما هو شرط .وانصرفوا، ثم أنى رأيت يوم الاثنين قصة ( أى شكوى ) بخط القاضى الشافعي مؤرخة بثالث ربيع الأول ، فعلمت أن القاضى الشافعي أثبت الشهر كما قال السلطان.). فالسلطان كان ــــ ولا يزال ــــ هو المرجعية فى تحديد الشهور العربية طبقا للشريعة السّنية . يرى هلالها فقهاء السلطان كما يريد السلطان ، أى إن الشريعة السّنية أعادت النسىء الذى كان فى الجاهلية ..ولا يزال هذا سائدا فى السعودية منبع الوهابية السّنية .

النسىء السّنى في الأشهر العربية:

وبالإضافة إلى اختلافات الرؤية للهلال كانت هناك معتقدات أخرى تؤثر على تحديد أول الشعر العربي، فقد كان الاعتقاد السائد أنه إذا جاء العيد يوم الجمعة وأقيمت خطبتان في ذلك اليوم (خطبة للعيد وخطبة للجمعة) كان ذلك مؤذناً بهلاك السلطان ومجيء سلطان أخر، لذا كان القضاة يجتهدون في إخفاء رؤية الهلال إذا ترتب عليها مجيء عيد الفطر أو عيد الأضحى يوم الجمعة.

وفي ليلة الثلاثين من شهر رمضان 875 توجه القضاة إلى مدرسة المنصور قلاوون لرؤية هلال شهر شوال وتحديد أول أيام عيد الفطر، واتفقوا على أنهم لم يروا الهلال حتى لا تكون خطبتان يوم الجمعة، يقول مؤرخنا في ذلك: ( ولم يُر الهلال ، وهو المقصود الأعظم ، لئلا تكون خطبتان في يوم فيكون ذلك بزعمهم على السلطان غير مشكور. فلا قوة إلا بالله.!!). وعلى ذلك جعلوا هلال شوال يوم السبت وجعلوا عيد الفطر يوم السبت، وتلاعبوا بالصيام وشوال تقرباً للسلطان. وفي عيد الأضحى 885 تكرر نفس العمل، وثبت بعدها أن أول ذى الحجة كان ينبغى أن يكون يوم الأربعاء، ولكنهم لم يفعلوا ذلك حتى لا يكون عيد الأضحى يوم الجمعة، يقول صاحبنا : ( وثبت شهر تاريخه بعد ستة أيام أن أوله الأربعاء، وعلى هذا يكون عيد النحر يوم الجمعة ويخطب فيه بخطبتين.). وذلك ما لم يحدث بالطبع.

مظاهر الاحتفال بعيد الفطر وعيد الأضحى:

1 ــ ويصف مؤرخنا بعض مظاهر الاحتفال الرسمي بعيد الفطر 876، يقول عنه: ( أهلّ بيوم الأربعاء ، ويوافقه من أيام الشهور القبطية خمس عشر برمهات، وهذا أول يوم من الربيع. فيه صعد قضاة القضاة إلى السلطان فصلوا صلاة العيد بالإيوان الذى جدّده بالقرب من باب القصر . وكنت في خدمة قاضى القضاة الحنفي . ودخلت القصر،فحضر السلطان، وكان له موكب عظيم، الجاويشية تزعق والأوزان تضرب، والنشابه السلطانية والصنوج وأمثال ذلك، والعسكر والأمراء الأكابر خلفه ، وهم الأمير جانبك قلقسيز أمير سلاح والأمير لاجين أمير مجلس والأمير جانبك بن ططخ الفقيه أمير أخور والأمير تمر حاجب الحجاب، والأمراء أزدمر الطويل والأمير قراجا الطويل والأمير قانصوه المحمودى والأمير سودون، وبقية العسكر والأمراء يقبلون يد السلطان ، وأمير جندار وأمير داودار ثانى يمسكانهم حتى يقبلوا يد السلطان. ودخل قضاة القضاة بعد لبس خلعهم وهنّوه فقام لهم، ولم يقم لأحد من الترك (المماليك) في هذا المجلس سوى للأمير جانبك الإينالى الشرفي الشهير بقلقسيز نصف قومة. ودخل المباشرون وبقية العسكر فهنّوه وقبّلوا الأرض وباسوا يده ، وانصرفوا على ذلك . والله مالك الممالك.).وواضح مما سبق أن السلطان جعل لعيد الفطر احتفالاً موسيقياً عسكرياً، وإن لم يخل من تقديس فرضته الطقوس المملوكية وباركته الشريعة السّنية في تقبيل الأرض بين يدى السلطان، أى كانوا يسجدون سجوداَ كاملاً أمام السلطان، وقد كان ذلك يحدث دائماً وفي أثناء المناسبات الدينية وبعد أن سجدوا لله تعالى في صلاة العيد، جاءوا ليسجدوا للسلطان ويقبلوا الأرض بين يديه، وأحيط ذلك بطقوس مملوكية حربية من دق الصاجات والطبول وصراخ الجاويشية لترتجف القلوب وهى تدخل ذلك الإيوان الجديد الذى بناه السلطان.

2 ـــ وكان ذلك يحدث بالطبع في صلاة عيد الأضحى، إلا أن عيد الأضحى تميز بأنه عيد الأضحية ، حيث يقوم السلطان بذبح الأضاحي وتوزيعها على أرباب المناصب وبعض فقراء القاهرة، وكان الرؤساء والأمراء يقلدون السلطان في ذلك. وفي عيد الأضحى 873 كان السلطان في فارسكور، فلم يتم توزيع الأضاحي في القاهرة بسبب غياب السلطان ، وكان ذلك من أسباب الهم والغم في القاهرة، يقول مؤرخنا يعبر عن حزنه وحزن الآخرين: ( هذا والناس بالقاهرة في أمر مريج وقلق عظيم لعظم الغلاء ومخافة السبل والطرقات ، والمصيبة العظمي حزنهم على من مات لهم بالطاعون قبل تاريخه، والزيادة على ذلك قطع ( أى منع ) أضاحى الناس لسفر السلطان لأن المباشرون قطعوا ( منعوا ) غالب الأضحية، ولم يفرق أحد في هذه السنة من الرؤساء والأمراء شيئاً من الأضاحي اقتداءاً بغيبة لسلطان نصره الله، وكان هذا العيد أشبه شيء بالمأتم لما طرق الخلق من الحزن والكآبة وقبض الخاطر، وافتقر بسبب هذا الغلاء خلائق من الأعيان وغيرهم لطول مكثه. ). أى لأنّ السلطان بالديار المصرية أى بالأقاليم فلم يجد ابن الصيرفي في العيد إلا مأتماً لأن السلطان غائب وأضحياته ضاعت فضاعت بهجة العيد.

وفي عيد الأضحى 875 فرّق السلطان الأضحية على المستحقين من أرباب الوظائف، وخلع السلطان على ناظر الخاص الذى قام بتفرقة الأضحية، ( وشكر الناس ودعوا للسلطان بسبب ذلك.). وفي عيد الأضحى 875 سافر الأمير قانصوه الخسيف من القاهرة، ويعلق مؤرخنا على ذلك فيقول: ( كأنه هرب من تفرقة الأضحية، وفرق السلطان نصره الله، الأضحية على المماليك السلطانية وغيرهم ، فجزاه الله خيراً.).  وفي عيد الأضحى 885 فرّق السلطان الأضاحي، يقول مؤرخنا : ( وذبح فيه السلطان. ونحر ذبائح عظيمة وفرّق فيه من قبله أضاحي من أول هذا الشهر بجمل من الأموال ، ولم يعط المباشرون فيه لأحد عادته كما رسم لهم. )، أى أن السلطان كان يوكل للمباشرين تفرقة الأضاحى، ويقوم المباشرون باختلاس الأضحية وحرمان المستحقين . وهى عادة مصرية سيئة.

الدعم لا يصل إلى مستحقيه:

ويقول مؤرخنا يعطي تفصيلات أكثر:( وفُرّقت أضحية السلطان ــ نصره الله ـــ في هذه السنة بحضوره في الحوش السلطانى على الخاص والعام ، من أمير المؤمنين ( الخليفة العباسى الذى كان يقيم فى القاهرة ) دام شرفه ، وقضاة القضاة ، حتى إلى اليتيم والأرملة والضعيف والفقير والفقية والعاجز والمسكين . وذلك بوصية السلطان في ذلك. ).  وهذا كلام جميل يطمئننا على أن الفقراء أكلوا لحماً فى ذلك العيد، ولكن لا يلبث مؤرخنا أن يناقض نفسه فيقول : ( غير أن الفقهاء والفقراء يقاسون من ديوان الخاص من الشدائد والتعب أمراً عظيماً، وذاك أن المتكلم في هذه السنة في وظيفة الخاص وكيل السلطان علاء الدين إبن الصابوني رسم له السلطان أن لا يعوّق أحداً، فصاروا يأخذون الوصول،ثم يأخذون خط ابن الصابوني ثم يتوجهون إلى الصيرفي فلا يعطيهم إلا فلوساً. وأما أصحاب الجاه الأقوياء فيأخذون ذهباً وفضة وغنماَ، بل ويرسلون إلى بيتهم من غير مطالبة . ). كانوا يصرفون الدعم في وصل أو بطاقة يتسلمها أحدهم وعليها توقيع وكيل السلطان ابن الصابوني، ويذهب بالوصل إلى الموظف المختص بالصرف، فإذا كان صاحب الوصل فقيراً صرف له قليلاً من الفلوس، أما إذا كان من أصحاب الجاه وذوى النفوذ أخذ بذلك الوصل الذهب والفضة والغنم، بل أرسلوه إلى بيته بدون أن يحضر إلى الصرّاف.إنّها (الدولة العميقة) فى مصر!.العميقة العريقة فى فسادها وتسلّطها وتحكم كبار موظفيها فى الشعب المسكين. ومن سنّتها أن يذهب الدعم إلى غير مستحقيه.

المولد النبوي السلطانى:

وكانت الدولة المملوكية تحتفل بالمولد النبوي رسمياً. يقول ابن الصيرفي في سنة 873 حيث كانت أزمات الطاعون والغلاء : ( وفيه عمل السلطان ــ نصره الله ــ المولد النبوي الشريف ــ على من منسوب إليه أفضل الصلاة والسلام ــ بالحوش السلطانى من قلعة الجبل على العادة في كل سنة. وكان مولداً عظيماً إلى الغاية وسماطاً ملوكياً وعظمة زائدة. ). أى لم يتأثر بظروف الطاعون والغلاء وقطع النفقة عن الناس. وفي العام التالي 874 أعطي مؤرخنا بعض التفصيلات عن مولد النبي، يقول: ( وفيه عُمل المولد السلطانى بالحوش على العادة ، وصعد قضاة القضاة ومشايخ الإسلام، وحضر الأمراء المقدمون، وحضر غيرهم من أمراء الطبلخانات والعشرات وغيرهم، ومُدّ السماط العظيم على العادة ، وعند الفراغ من صلاة المغرب توجه قضاة القضاة والمشايخ ..وخلعت الشقق،( أى الكسوة ) على القرّاء والوعاظ. وكان مولداً عظيماً جليلاً.).

وقوله عن المولد النبوي وفيه عمل ( المولد السلطاني ) يعنى المولد النبوي الذى كان يقيمه السلطان. ذلك أن المصريين كانوا يقيمون موالد نبوية شعبية، ويتقدمهم في ذلك مشايخ الطرق والأولياء الصوفية، وكما كان المولد النبوي السلطانى في خدمة الوجاهة السلطانية كذلك كان المولد النبوي الصوفي في خدمة الدعاية للشيخ الصوفي الذي يقيمه، والوحيد الذى لم يكن له فى هذا المولد أدنى فائدة هو النبي عليه الصلاة والسلام نفسه. وأقيم المولد النبوي لسنة 875 يوم الأحد 12 ربيع الأول، يقول فيه أن ابن الصيرفي : (عُمل المولد السلطانى بالحوش على العادة فحضره القضاة الأربعة والمتقدمون الألوف بتمامهم وكمالهم لم يتأخر منهم سوى يشبك جن في البحيرة ، وحضر نائب الشام برقوق ، وجلس رأس الميسرة .ومُدّ السماط على العادة فكان أمراً عظيماً، وتوجه القضاة بعد المغرب . واستمر الأمراء المقدمون إلى أن انتهى الوعاظ على العادة.).أى كان الأمراء يحضرون المولد النبوى طبقاً لمراتبهم العسكرية. واستمر الأمراء إلى نهاية الحفل يسمعون خطب الوعاظ وإنشاء القراء من المشايخ. وسنة 876 : ( عُمل المولد النبوى) الرسمي يوم الأحد 15 ربيع الأول ( على العادة وحضر قضاة القضاة والأمراء والألوف الموجودون بالقاهرة، وهم ثمانية أنفار، خلا قراجا الطويل فإنه لم يحضر ، وكان مولداً عظيماً وسماطاً حافلاً وهيئة عظيمة..). هكذا قال صاحبنا.

وذكر ابن الصيرفي تفصيلات المولد النبوي الرسمي لسنة 877 الذى أقيم يوم الأحد ربيع الأول يقول: ( كان المولد النبوي الشريف السلطانى بقلعة الجبل على عادته ومستقر قاعدته، وحضره قضاة القضاة والأمراء والأكابر.) وبعد أن ذكر أسماء الأمراء الذى حضروا بترتيبهم ورتبهم وألقابهم، تحدث عن السماط ومد السماط على العادة" ( فكان هائلاً رائعاً في الحسن والنظافة والزهارة، فأكل السلطان وقضاة القضاة ونوابهم، وكنت معهم . والأمراء الألوف قائمون على أقدامهم خدمة للسلطان نصره الله ، ثم قام القضاة ونوابهم ، وجلس الأمراء المقدمون موضعهم .ثم انصرفوا، وقدموا المشروب أنواعاً فشربواً، أى أكل السلطان والمشايخ أولاً وتبعهم الأمراء والمماليك ثم شربوا أصناف المشروبات.). وفي هذه السنة أعلن السلطان تبرعه بستين ألف دينار ذهباً ليشترى بها وقفاً ينفق منه سنوياً على فقراء المدينة المنورة. وقد حدث يوم الجمعة 9 ربيع الأول 877 قبيل المولد النبوي أن هبت ريح شديدة من رياح الخماسين أسقطت بعض المساكن الآيلة للسقوط، وكان السلطان قد نصب خيمة المولد النبوي بالحوش السلطانى، فأسقطتها تلك الرياح، فاحتاج السلطان إلى نصب خيمة جديدة كانت أصغر من السابقة.

دوران المحمل:

1 ــ ولا نزال نحتفل بالعيدين والمولد النبوي رسمياً وشعبياً، ولكن ثمة مناسبة دينية انقرضت، وهى دوران المحمل. والمماليك هم الذين ابتدعوا تقليد سفر المحمل منذ أول عهدهم بالحكم حيث تتزين القاهرة لدوران المحمل. واحتفال دوران المحمل يتكون من فريق من الرمّاحة ( حاملى الرماح ) يرتدون الزى الأحمر ويلعبون بالرمح ، ويتقدمهم رئيسهم ، ولقبه المعلم ، ورتبته أمير مائة مقدم ألف، ومعه أربعة معاونين رتبة كل واحد منهم باش ورتبته أمير طبلخانه، ومعهم أربعون فارساً، يلعبون بالرمح أمام السلطان، ثم ينزلون ليقبلوا الأرض بين يدى السلطان . وأول من أحدث تقبيل الأرض بين يدى السلطان فى إحتفال المحمل كان قايتباى نفسه عندما كان أميراً تابعا للسلطان خشقدم، والعادة أن يعقد السلطان هذا الحفل في شهر رجب.

2 ــ وفي عهد السلطان قايتباى كان هناك احتفال بخروج المحمل مع الحجاج إلى مكة، وقد خلع السلطان بإمارة الحجاج على الأمير يشبك الجمالى، الذى تولى الحسبه فيما بعد، واستقر أمير الحاج للركب الأول وذلك يوم الخميس 25 ربيع الأول 873، وتجدد هذا التعيين يوم الخميس 28 ربيع الأول 874 مع تعيينه محتسباً للقاهرة، ثم تجددا هذا التعيين يوم الاثنين 19 ربيع الآخر 875، يقول مؤرخنا: ( خُلع على يشبك الجمالى محتسب القاهرة ، واستقر أمير المحمل على عادته . ).

3 ــ وفي سلطنة قايتباى كان ركب الحجاج يتحرك في شوال. ففي يوم الاثنين 19 شوال 873 خرج ركب الحاج يقوده يشبك الجمالى والأمير يشبك جن . وكان من الحجاج السلطان السابق عثمان بن جقمق، ثم عاد الحجاج إلى مصر يوم الاثنين 11 محرم 874 . وقد قبّل أمير الحاج الأرض أمام السلطان فخلج عليه. وخرج ركب الحاج يوم السبت 19 شوال 874 يقوده المحتسب يشبك ثم الأمير أقبردي ثم عاد الركب يوم الجمعة 21 محرم 875.

4 ــ ويذكر ابن الصيرفي بعض التفصيلات عن خروج محمل الحجاج يوم الخميس 20 شوال 875 ( خرج المحمل والقضاة في خدمته ونوابهم والفقراء، (أى الصوفية من سائر الطوائف)، وأمير الحاج يشبك الجمالى المحتسب مملوك الصاحب جمال الدين يوسف بن كاتب حكم وأميرالأول،( أى الركب الأول)، أقبردى الظاهرى.ولبسا خلعها. وتأخر طلوعهما في هذه السنة إلى بركة الجب ( بركة الحاج ) حيث اعتادوا الحجاج التحرك منها عن العادة بثلاثة أيام، وسبب ذلك خوفاً على الغلمان الذين توجهوا في خدمة عظيم الدنيا الداودار الكبير وغيره من الأمراء المجردين لقتل شاه سوار لئلا يهربوا صحبة الحجاج، وأقام الأول (أى الركب الأول) بالبركة إلى يوم الجمعة حادى عشر بعد الصلاة، فرحل إلى البويب، ورحل بعده المحمل صبيحة يوم السبت ثانى عشر، وحصل على الحجاج تشويش كبير برحيله، فإن العادة إذا رحل الأول بعد صلاة الصبح يرحل المحمل غد تاريخه بعد الظهر، فرحل هذا من الصبح الأكبر. فلا قوة إلا بالله.).

ويوم السبت 18 شوال 876 : ( دار المحمل من الرميلة ، والسلطان يشاهده من قصره ، وركب معه قضاة القضاة ما عدا المالكي، وأمير الركب الأول الجناب الشهابى أحمد بن الأتابك تنبك، وأمير المحمل برسباى استادار الصحبة، وخلع عليهما على العادة، واستقر برسباى المذكور عوضاً عن يشبك الجمال، وأحمد عوضاً عن أقبردى. واستراح الحاج بل وبيت الله منهما، أعنى من يشبك وأقبردى لسوء سيرتهما وظلمهما وكبرهما وشممهما وسوء أخلاقهما .قبحهما الله وأهلكهما.) . هكذا يقول إبن الصيرفى .

وكان يتوجه مع ركب الحجاج أحد القضاة، وفي ذلك العام كان قاضى الركب أبا الحجاج الأسيوطى.

الهوامش

  1. الهصر: 436، 444، 332، 265، 494.
  2. الهصر: 416، 74، 291، 495، 491.
  3. الهصر: 21، 140، 213، 334، 478، 481.
  4. الهصر: 29، 221، 66، 122، 142، 196، 277، 278، 422، 423.

 

الفصل الثامن : تقديس البخارى المصدر الأساس للشريعة السّنية فى عصر قايتباى

 الاحتفال السنوى بتلاوة البخارى : ( ميعاد البخارى)

قيمة البخارى في العصر المملوكى :

1 ـ ( صحيح البخارى ) كان ــ ولا يزال ــــ الكتاب المقدس للشريعة السنية للعصر المملوكى ، والتى يريد الاخوان المسلمون والسلفيون الوهابيون تطبيقها فى مصر الآن ليستعيدوا ما كان يعانيه المصريون فى عصر قايتباى طبقا لما نذكره فى هذا الكتاب ، وهى الشريعة التى يتم تطبيقها الآن فى الدولة السعودية ، محور الشّر فى العالم المعاصر . 

2 ـ ( صحيح البخارى ) هو مجرّد( صنم فكرى ) فى علاقته بتطبيق الشريعة السّنية فى العصر المملوكى الذى كان يتم بقضاة القضاة الأربعة، والذين لم يتقيّدوا بنصوص البخارى ، بل حتى لم يتقيّدوا بنصوص مذاهبهم فالحكم كان بالهوى وبالرشوة وبالفساد وبرضا السلطان وأهوائه . والقاضى يقوم بدورين : التشريع ، أى يصيغ الحكم ، والقضاء أى يقضى به . وليس للبخارى شأن فيما يحكم به . وحتى لو أرادوا التقيد بما فى البخارى فهو فى نهاية الأمر يعبّر عن ظروف عصره فى الدولة العباسية فى القرن الثالث الهجرى ، وهى ليست نفس ظروف العصر المملوكى وسلاطينه وثقافته ومفاهيمه .

3 ـ و( صحيح البخارى ) هو أيضا مجرّد صنم فكرى بالنسبة للدراسات التى أقيمت حوله فى العصر المملوكى أو عصرنا البائس . فالذين يهيمون فى البخارى تقديسا من العوام وفقهاء العوام لا يفقهون شيئا فى كتاب البخارى، هو مجرد تقديس دون علم أو عقل شأن المعتاد لدى المشركين .

4 ــ لم تكن لكتاب البخارى كل هذه القدسية فى العصر العباسى فقد تعرّض البخارى للنقد والاستدراك عليه ، وتابع أئمة الحديث التأليف بعده مخالفين له فى إثبات حديث أو نفيه. ولو كان البخارى هو القول الفصل فى الدين السّنى لما جرؤ أحد على التأليف بعده، ولكن تكاثرت مؤلفات العصر العباسى فى الحديث منفصلة عن البخارى مستقلة عنه .

5 ــ إختلف الوضع فى العصرين المملوكى والعثمانى، حيث تكاثر( المريدون ) حول صنم البخارى يطوفون حوله تقديسا وتمجيدا وشرحا وتفسيرا وترتيلا ، و تمت إضافة صنم البخارى الى أصنام صوفية أخرى حجرية من القبور المقدسة ، أو بتعبير آخر كان هناك ( صحيح البخارى أو ضريح البخارى ) جنبا الى جنب مع آلاف الأضرحة والقبور المقدسة ، وحول ضريح البخارى والأضرحة الأخرى يطوف المجاذيب والمريدون تقديسا وتبركا بطرق مختلفة ، ولكن تتفق كلها فى غياب العقل وعداء الله جلّ وعلا ورسوله عليه السلام.

6 ـ تضاءل فى العصر المملوكى الفارق بين ( العالم المحقّق ) مثل إبن حجر العسقلانى والعينى و السخاوى وبين أوباش ومجاذيب الصوفية فيما يخص تقديس البشر؛ هذا يقدّس كتابا ( صحيح البخارى ) وذاك يقدّس وليا صوفيا حيّا أو مقبورا ، والفريقان معا فقدا العقل والايمان بالاسلام وحتى بكرامة الانسان التى تجعله أفضل من الحيوان .

السبب أنّ سيطرة التصوف بدءا من القرن السابع الهجرى الثالث عشر الميلادى هبطت بمستوى الفقهاء السنيين الى مرتبة التقليد ، وجعلت السّنة تابعة للتصوف ، وفق هذا المزيج المشوّة المسمى بالتصوف السنى ، والذى يحصر السّنّة فى العبادات والتطبيق المظهرى الأحوال الشخصية للقضاة المذاهب الأربعة وتقديس أئمة الحديث ( خصوصا البخارى ) وأئمة المذاهب ، مقابل التسليم للتصوف وكراماته وأوليائه وخرافاته . هذا التسليم أوالتقليد قام بتحويل (تقدير) أئمة الحديث والفقه الى (تقديس)، برعاية التصوف ، الذى خصّ البخارى بالذات لأن كتابه تضمن بعض الأحاديث التى تعلى وتقدّس الأولياء الصوفية مثل حديث ( من عادى لى وليا فقد آذنته بالحرب ) وهو الحديث الذى يسوّغ عقيدة الاتحاد الصوفية ( كنت يده التى يبطش بها ..الخ ). وإذا كان مألوفا فى هذا العصر تقديس البشر والحجر وتأليه المجانين ( المجاذيب ) فمن الأسهل تقديس الأئمة السابقين ، حيث غاب العقل فى أجازة مفتوحة مفسحا الطريق لأن تتحول الخرافات الى كرامات .

7 ــ ومن الطبيعى بعدئذ أن يقام إحتفال يستمر شهر رمضان ـ ليس لتلاوة القرآن الذى نزل فى رمضان ، ولكن لترتيل البخارى والتبارى فى حفظ واستظهار ما فيه من أحاديث بمتونها وسندها . ومثل تعاملهم مع القرآن بالتفسير فقد وضعوا فى العصر المملوكى شروحا وتفاسير للبخارى إزدادت بمرور الزمن، حيث دارت الحركة ( العلمية ) حول صحيح أو ضريح البخارى،. ويطول بنا إستعراض المؤلفات فى هذا المضمار ، ولكن نعطى أمثلة سريعة :

فالمؤرخ المحدّث الفقيه الحافظ قاضى القضاة شهاب الدين إبن حجر ( 773 : 852 ) كتب ( فتح البارى فى شرح صحيح البخارى) فى 15 جزءا ، وقد ظلّ يؤلفه 20 عاما، وله أيضا ( تغليق التعليق فى وصل معلقات البخارى.) . ومثله بدر الدين العينى 762 : 855 : كتب ( عمدة القارى فى شرح صحيح البخارى ) وأيضا استغرق العيني في تأليفه عشرين سنة.وشهاب الدين القسطلانى الذى شهد عصر قايتباى ومات بعد عامين من سقوط الدولة المملوكية ( 851 : 923  ) له كتاب :( إرشاد السارى فى شرح صحيح البخارى )، وله فى ميعاد البخارى كتاب:( تحفة السامع والقاري بختم صحيح البخاري). والمؤرخ المحدّث الحافظ  شمس الدين السّخاوى ( ت902 هـ) له:(عمدة القاري والسامع في ختم الصحيح الجامع ). وكتاب السخاوي هذا يعتبر من أهمّ المصنفات المعروفة بكتب الختم عن موضوعنا:( ميعاد البخارى) ، ومنها العناوين الآتية :( مجالس في ختم صحيح البخاري)( كتاب تحفة القارئ عند ختم صحيح البخاري)( بداية القارئ في ختم صحيح البخاري ) و( شرح ختم صحيح البخاري).أمّا بقية الكتب التى عكفت على صحيح البخارى نفسه فى العصر المملوكى  فهى كارثة مؤلمة يطول حصر عددها ، ولكنّ الذى ننبّه له هنا أن كل هذا التأليف لا يعدو أن يكون تهريجا وتهجيصا، فقد تغافل الجميع فى رقصهم المحموم حول صنم البخارى عمّا جاء فيه من طعن فى رب العزة والرسول عليه السلام والقرآن ودين الاسلام. وبعض(المحققين) كانت سقطته أكبر من بقية (المغفلين)،   فأولئك ( المحققون) بذلوا جهدهم فى التأويل والتلفيق والتعليل واللّف والدوران سترا لعورات البخارى وتعصبا له ضد رب العزة والرسول عليه السلام .

8 ـ والطريف أننا حين بدأنا فضح البخارى فى ندواتنا ومؤلفاتنا بعد قراءة متعمقة له فوجئنا بأن أكثر الناس تعصبا للبخارى فى ( الأزهر ) وخارجه لا يعرفون عنه شيئا ، بل المضحك أنهم أيضا فوجئوا بما نستشهد به من أحاديث البخارى التى تطعن فى الاسلام ورب العزّة جل وعلا ورسول الاسلام عليه السلام،وكان تعبيرهم عن هذه المفاجأة إضطهادا وسبّا وشتما لا يزال ينهال علينا. ومن يشاهد برنامجنا ( فضح السلفية ) الذى يستعرض فضائح وآثام البخارى يتأكّد من هذا ، ويستغرب كيف لم يلتفت الى هذه الفضائح البخارية أولئك الذين أنفقوا أعمارهم فى العصرين المملوكى عاكفين حول البخارى تقديسا وترتيلا وتأليفا. وهذا يؤكّد أن تقديس البشر والحجر يضع حجابا على العقل فيجعل الانسان يفقد التمييز ، بل يجعله فى مرتبة أقلّ من الحيوان . وصدق الله جل وعلا : (أَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً (43) أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً (44) ( الفرقان )

9 ــ هذه مقدمة لملمح هام من ملامح عصر قايتباى ، وهو ( ميعاد البخارى ). 

ميعاد البخارى فى عصر قايتباى كما جاء فى ( إنباء الهصر ) لابن الصيرفى

1 ــ كان ميعاد البخارى أحد المناسبات الدينية في أيام قايتباى وفي المقابل لم يكن هناك ميعاد لقراءة القرآن الكريم أو احتفال بأى كيفية بختمة كما كانوا يفعلون عند ختم البخارى. ولم يكن الاهتمام بتلاوة البخارى وختمه مقصوراً على السلطة المملوكية بل تعداه إلى العلماء، وأولئك العلماء كان منهم أصحاب سلطة ونفوذ مثل الشيخ كمال الدين النويرى ت873 الذى كان يعقد ختماً للبخاري على حسابه الخاص، يقول عنه ابن الصيرفي : ( قرئ عليه صحيح البخارى في الأشهر الحرم، وكان يختم البخارى بالأزهر، ويصنع يوم الختم أموراً كثيرة من الخلع والإحسان للطلبة خارجاً عن المأكل والمشرب ، وكذلك كان يفعل بمكة.) .

2 ــ والآخرون من العلماء كان لهم ارتباط آخر بالبخارى، كان إرتباطا نفعيا ماديا يمثل لهم مورداً اقتصادياً ثابتاً يتمثل في (صُرّة البخارى) أو المنحة التى يأخذونها كل عام بسبب حضورهم ميعاد البخارى وختم البخاري، فالشيخ برهان الدين الحلبي ت875 ( رتّبوا له ( أى جعلوا له راتبا ) في الميعاد البخارى صُرّة بألف درهم في كل سنة، وكان السلطان يحسن إليه بالذهب وبإهدائه الكتب مثل كتاب البخارى). وحين مات ابن التنسي في شوال 875 توارث العلماء مناصبه وكان منها (صُرّته في البخارى )،يقول مؤرخنا:( فأخذ صُرّته في البخارى عمر بن موسى اللقانى ، وقيل أن ابن اللقاني أخذ الجوالى أى المرتبات والشيخ عباس المغربي المالكي أخذ صُرّة البخارى.). لذلك كان يقول ابن الصيرفي يعبر عن حزن العلماء في شعبان 875 :( كان القصر بطالاً من الخدمة ولم يُقرأ البخارى )، أى تعطل ميعاد البخارى وقتها فأصبح القصر السلطانى بطالاً.

3 ــ وبعض مشاهير القرن التاسع كان له ( منصب ورزق وصرة في البخارى.). فابن الحفار الواعظ ت 876 أشهر القراء والمنشدين في عصره ( كان مرصداً لإنشاد المديح في ختم البخاري عند شيخ الإسلام ابن حجر) العسقلانى . والبقاعي أحد علماء الحديث وخصم الصوفية اللدود قال عنه مؤرخنا أن القاضى ابن حجر العسقلانى رقّاه حتى جعله قارئ البخارى في القصر بقلعة الجبل بحضور السلطان في دولة الظاهر جقمق وكان يثني على قراءته وفصاحته.

بداية الاحتفال بميعاد البخارى:

1 ــ وقد بدأ الاحتفال بميعاد البخاري لأول مرة في سلطنة الأشرف شعبان، وذلك يوم الاثنين أول رمضان 775، أى قبل عصرنا بنحو قرن كامل، ويقول المقريزي في تاريخ ذلك اليوم : ( وفيه استجد السلطان عنده بالقصر من قلعة الجبل قراءة كتاب صحيح البخارى في كل يوم من أيام شهر رمضان بحضرة جماعة القضاة ومشايخ العلم تبركاً بقراءته لما نزل بالناس من الغلاء، فاستمر ذلك وتناول قراءته شهاب الدين أحمد إبن العرياني وزين الدين عبد الرحيم العراقي لمعرفتهما علم الحديث، فكان كل واحد يقرأ يوماً.). ثم حدث تطور في طقوس ميعاد البخارى، شرحها المقريزي في أحداث شهر شعبان 827هـ يقول : ( وفيه ابتدئ بقراءة صحيح البخارى بين يدى السلطان، وحضر القضاة ومشايخ العلم .) إلى أن يقول: ( وكانت العادة من أيام الأشرف شعبان أن يبدأ بقراءة البخارى أول يوم شهر رمضان.. ويختم في سابع عشرينه ويخلع على قاضى القضاة ويركب بغلة رائعة تخرج له من الاسطبل السلطانى، ولم يزل الأمر على هذا حتى تسلطن المؤيد شيخ فابتدأ القراءة من أول شهر شعبان إلى سابع عشرين من شهر رمضان، وطلب قضاة القضاة الأربع ومشايخ العلم وتحرر عدة من الطلبة يحضرون أيضاَ فكانت تحدث بينهم بحوث يسيء بعضهم فيها إساءات منكرة، فجرى السلطان الأشرف برسباى على هذا واستجد حضور المباشرين وكثر الجمع وصار المجلس جميعه صياحاً ومخاصمات يسخر منها الأمراء وأتباعهم.) . أى تحوّل الحفل الى تهريج وتهجيص يعبّر عن مضمون البخارى ، ثم ما لبث التهريج والتهجيص فى عصر الأشرف برسباى أن تحول فى عصر قايتباى الى خصام وخناقات بين ( الشيوخ والفقهاء و العلماء ).  

خناقات في ميعاد البخاري:

1 ــ من أكثر من ثلاثين عاما قبل إبن الصيرفى إنتقد شيخ المؤرخين المصريين المقريزي فى تاريخ (السلوك) ما كان يحدث في ختم البخارى فيقول عن أحداث الأربعاء 23 رمضان 841 :( ختمت قراءة صحيح البخارى بين يدى السلطان بقلعة الجبل، وقد حضر قضاة القضاة الأربع وعدة من مشايخ العلم وجماعة من الطلبة كما جرت العادة من أيام المؤيد شيخ،) ويقول المقريزي منتقدا ما كان يحدث:( وهو منكر في صورة معروف ، ومعصية في زى طاعة ، وذلك أنه يتصدى للقراءة من لا عهد له بممارسة العلم ، لكنه يصحّح ما يقرأه ، فيكثر لحنه وتصحيفه وخطؤه وتحريفه، هذا ومن حضر لا ينصتون لسماعه، بل دأبهم دائماً أن يأخذوا في البحث عن مسألة يطول صياحهم فيها حتى يفضى بهم الحال إلى الإساءات التى تؤول إلى أشد العداوات وربما كفّر بعضهم بعضاً ، وصاروا ضحكة لمن عساه يحضرهم من الأمراء والمماليك.).

2 ــ إزداد الأمر سوءا فى عصر قايتباى ولكنّ مؤرخنا ابن الصيرفي لم يكن على مستوى المقريزي في ثقافته ولا في نقده وجرأته، لذا كان يشير إلى بعض المساوئ من طرف خفي، فإذا كان المقريزي قد وصف ما كان يحدث من خصومات بين المشايخ أثناء قراءة البخاري فإن مؤرخنا يشير إلى أحداث مماثلة ولكن بصورة عرضية كأن يقول عن قاضى قضاة الحنفية إبراهيم الديري ت876  ، أنّه بعد عزله كان يحضر مجلس البخارى بالقلعة بصفته شيخ الخانقاه المؤيديه ويجلس تحت قاضى الحنابلة، وأنّه بحث مرة في مجلس البخاري بالقلعة بحضور السلطان الظاهر خشقدم مسألة مع شيخ الإسلام الكافيجي فقطعه الكافيجي أى غلبه ( وقهره بحضور الجمع الغفير.). فهنا إشارة الى مشاجرة بين شيخين كبيرين ( الديرى والكافيجى )، ولكن تم التعمية علي تفصيلاتها وما دار فيها من شجار وتنابز بالألقاب حرصا من إبن الصيرفى على مكانة شيخه الكافيجى. وقد سبق لنا التعرّف على نوعية هؤلاء الفقهاء من حيث الأخلاق والعلم وإحتقار قايتباى لهم الى درجة عزل كل القضاة ، وهم من كبار الفقهاء المقدّسين للبخارى والذين يحضرون ميعاده.

مراسيم ميعاد البخاري في عصر قايتباى:

1 ــ كانت العادة أن يجتمع بالقلعة طائفة من القرّاء والفقهاء لقراءة وترتيل البخارى كل ليلة الى أن يتم ختم البخارى ، فيقام له حفل الختم في رمضان. ويبدأ برجب أو شعبان، وفي حفل الختام يخلع السلطان على القضاة والمشايخ والفقهاء والقراء، وكانت العادة أن تبدأ القراءة بالقلعة ثم يكون حفل الختم بالقصر الكبير.

2 ــ ونورد بعض ما جاء بتاريخ الهصر : في يوم الأربعاء 3 رجب 875 يقول مؤرخنا: ( كان ابتداء قراءة البخاري بقلعة الجبل عند السلطان بالقصر، وصعد قضاة القضاة والمشايخ على العادة.) . وفي يوم الأربعاء 4 شعبان 876 يقول : ( كانت الخدمة بالقصر السلطانى بقلعة الجبل وابتدئ بقراءة البخاري به.).وفي يوم الأربعاء 28 رمضان 876 قال : ( ختم البخاري بقلعة الجبل بالقصر الكبير على العادة وحضره القضاة.). وقبل ذلك بعام بالضبط: الأربعاء 28 رمضان 875 يقول : ( ختم البخارى بقلعة الجبل بحضور السلطان وكان مجلساً حافلاً بالقضاة الأربعة، خلا الحنفي لضعفه، والعلماء والفضلاء والطلبة والأمراء والرؤوس والنواب والخاصكية وأصحاب والوظائف.)

3 ــ ونعود إلى حفل ختم البخاري يوم الأربعاء 28 رمضان 876، حيث أورد ابن الصيرفي بعض التفصيلات الهامة في ذلك المجلس، ذلك أن ختم البخارى 876 شهد تعيين الشيخ سعدى قاضياَ، وأعلن ذلك إبن مزهر كاتب السر بعد أن شاور السلطان في ذلك الحفل، يقول ابن الصيرفي في أنه تشاور ابن مزهر مع السلطان في عاشر شعبان على الشيخ بدر الدين السعدي أن يكون حاكماً إلى أن يحضر ابن مفلح قاضى دمشق، ثم جاء أول ختم البخارى في 28 رمضان فأعلن السلطان ذلك التعيين في حضور الجميع.يقول مؤرخنا:( ولما حضروا الختم ، وفرقت أجزاء البخاري ، وحضر السلطان ، وقرأ القارئ الذى هو الإمام البرهان الكركي وحضره والده فجلس فوق الشيخ قاسم الحنفي تحت الشيخ تقي الدين الحصنى،والحصنى تحت الحنفي،) وهذا يعنى الترتيب الرسمى للجلوس حسب منازل القوم،(وحضر السعدي فلم يجد له مكاناً يجلس فيه من الزحمة فجلس خلف الحلقة.).وانتهى الختم بإعلان تولى السعدى لهذه الوظيفة،وكانت مفاجأة للسعدى نفسه.

4 ــ والمهم أن ختم البخارى كان مناسبة لقضاة الشرع في اجتماعهم بالسلطان، وفيه أحيانا كانت تصدر قرارات التعيين لأن البخاري هو ( قدس الأقداس ) لذلك العهد الفاسد البائس .

الهوامش

  1. الهصر: 102، 195، 277، 243، 464، 508.
  2.  السلوك المقريزي: 3/1/223، 4/2/667، 4/2/1031: 1032.
  3. الهصر: 448، 240، 400، 413، 263: 264، 414: 415.


 

---------------------------------------------------

الفصل التاسع غرائب ومعتقدات وفواجعفى عصر قايتباى

 

معتقدات إجتماعية :

عرضنا لبعضي المعتقدات السائدة في العصر المملوكي وهى الخوف على السلطان إذا كان العيد يوم جمعة وخطب فيها خطبتان، خطبة صلاة العيد وخطبة صلاة الجمعة، ومنشأ ذلك إلى ما تعود الخطباء من الدعوة للسلطان القائم، ومجيء خطبتين في يوم واحد يشير إلى احتمال قيام سلطانين، أى قيام فتنة وذهاب السلطان والاتيان بسلطان آخر. وفي عصر عرف الصراعات السياسية المسلح كالعصر المملوكي التى كانت تعنى حروبا وفتنا وفوضى وسلبا ونهبا للبيوت والمتاجر كان لا بد أن يفتقد  الناس فيه الأمن، وكان أرباب السلطان هم أكثر الناس خوفا وقلقا وافتقاداً للأمن. من هنا كانت حساسية منصب السلطنة وما يتصل بها على المستوى الرسمى والشعبى ، مما سبّب رواج الاعتقاد فى خوف السلطان وآله من حدوث خطبتين فى يوم واحد .

أكّد رواج هذه المعتقدات سيادة دين التصوف السّنى الذى جمع نوعى الجهل السّنى والصوفى ، وتحالفا معا فى تهميش دور العقل فانفتح واسعا المجال الى الايمان بخرافات الكرامات وشتّى فنون التخلّف، والتى كان الشيوخ (العلماء ) أبرز المؤمنين بها . والعادة أن المعتقدات الاجتماعية تهبط بها الحياة الدينية حين يسيطر عليها دين أرضى مثقل بالخرافات وتحكم شيوخ الجهل. ثم تأتى سيطرة الظلم والاستبداد والصراع على السلطة فيتعانق الجهل مع الخوف والقلق . وفي هذه التربة القلقة العفنة ترعرعت معتقدات ضالة ، ومنها التطير أو التشاؤم .

التشاؤم والتفاؤل :

1 ــ إبن إياس فى تاريخه ( بدائع الزهور ) كان أكثر من إبن الصيرفى فى تعبيره عن المعتقدات الشعبية بسبب إرتباطه أكثر بالشارع المصرى ، حتى يتكرر تعبيره بقول ( أشيع ) أو ( شاع ) أى كان ينقل إشاعات الشارع المصرى القاهرى ويسجلها أوّلا بأول . كما يكثر فى تعبيراته القول بالتفاؤل،أو (تفاءل الناس) ، ومنه نفهم أنّ التفاؤل كان يعنى وقتها فى أغلب الأحيان الإثنين معا أى التشاؤم والتفاؤل ، لأن إيقاع العصر القلق الحزين غلّب جانب التشاؤم وجعل الناس يتشاءمون من تعبير التشاؤم نفسه ، فاستعملوا كلمة التفاؤل لتدل على المعنين ( تشاؤما ) من النطق بكلمة التشاؤم. أمّا ابن الصيرفى المنحاز الى طبقته من المشايخ فقد تناثر فى تاريخه بعض مظاهر(التشاؤم ) فيما يخص الطبقة العليا التى يتعلّق بأهدابها.ونعطى لها أمثلة.

2 ــ كان السلطان إذا وقع من على فرسه وانكشف رأسه تطير وتشاءم لأن ذلك قد ينبيء عن سقوطه من كرسى الحكم. ففى يوم الأحد 29 شوال 875 لعب السلطان قايتباى الكرة هو والأمير جانبك حبيب، فوقعت عمامة السلطان من على رأسه إلى الأرض، ( فاحتدّ وتسودن)على حدّ قول مؤرخنا. لماذا؟ لأنه تشاءم من ذلك. وفي يوم الثلاثاء الثانى من ذى القعدة 875 ( لعب السلطان الكرة ، على عادته، فتقنطر، ووقع على ظهره وسقط شاشه ( عمامته )عن رأسه ، ونزل الأمراء  عن خيولهم ، وبادرا لحمل السلطان ،ولم يحصل له أدنى شدّة ولا تشويش غير أنه احتدّ وتسودن..).. تانى.!!

3 ــ ومن هذه المعتقدات التشاؤمية أنه إذا ماتت سيدة في دار يوم السبت فإن كبير الدار يموت بعدها، وكان  على هذا الاعتقاد بعض كبار الأشياخ مثل قاضى القضاة إبراهيم الديري ت 876، وقد  تولّى نظارة الجيش في سلطنة الأشرف اينال، ثم تولّى كتابة السر في سطنة الظاهر جشقدم بعد أن أقنع السلطان أن أخاه كاتب السر قد عجز عن تلك الوظيفة، ودفع رشوة، وتولّى بدله ، ولكن ما لبث أن عزله السلطان عن كتابه السر بعد قليل، والسبب في عزله ذلك المعتقد المضحك، فقد ماتت السيدة والدة أحمد بن العينى وأخرجوها من الحريم السلطانى بالقلعة، وجلس الأمراء والقضاة والمباشرون ينتظرون خروجها والسير في جنازتها، وتكلم إبراهيم الديري كاتب السر مع الداودار الكبير وقتها وأسرّ إليه بتلك الحكمة الغالية؛ قال له:( إن العادة إذا خرجت ست يوم السبت من مكان أو دار يتبعها كبير ذلك المكان )، فقال له الداودار الكبير:"إذا فالسلطان يتبعها، أو يموت بعدها":، فقال له: نعم، فلما انقضت الجنازة والدفن صعد الداودار للسلطان وأخبره بتلك المقالة فاستفتي السلطان بعض الأشياخ ، فوجدوها فرصة للإيقاع بالديرى ، فأفتوا للسلطان بأن هذا الكلام لا يُعبأ به، فعزل السلطان إبراهي الديري عن كتابة السر.

معتقدات فى الكواكب ورصد لها :

1 ـ  في ليلة الخميس 15 جمادي الثانية 876 يذكر ابن الصيرفي أنه ( خُسف جرم جميع القمر بعد عشاء الآخرة بأربعين درجة وقيل ثلاثين، واستمر نحواً  من ثلاثين درجة، وعملوا النسوة عادتهم القديمة القبيحة من ضربهم على الأوانى النحاس وهو محمّر جميعه. ). وكانت لا تزال تلك العادة في الريف فى طفولتنا. ولعلها زالت فى عصر الانترنت.وفي يوم الأحد 16 ذى الحجة 885/17 أمشير "نزلت الشمس برج الحوت والمثل الساير يتمثلون فيه أنها تقول للبرد: موت".).

2 ــ كان العصر وقتها أسير الاعتقاد فى الكواكب ، لذا نجد مؤرخنا يهتم برصد حركات الكواكب  ويسجل ذلك في تاريخه سواء كان ذلك عادياً أو غير عادي. عن ليلة الخميس 15 محرم 873 ، يقول : ( خُسف جميع جرم القمر بالقرب من عقدة الرأس، وهو في الدرجة الحادية والعشرين من برج  الدلو، وابتدأ به الخسوف على مضى سبع ساعات ونصف الساعة من الليلة المذكورة، وكان انتهاؤه من ناحية  الشرق للجنوب، وتم خسوفه  عند انتهائه واستغرق جرمه في السواد على مضى ثمانى ساعات وثلث ساعة ودقيقة، وانجلى إنجلاء  تاماً بعد شروق الشمس بأربع درجات، وكان لونه في وسط خسوفه أسود  تعلوه خضرة، ثم  تغير إلى لون مركب بين السواد  الخضرة والصفرة.). وبرغم أن ابن الصيرفي استعمل لغة عصره وبعض مدلولاتها  الحسابية تختلف عن  مدلولاتها في عصرنا، إلا أنه أورد وصفاً تفصيلياً دقيقاً يعطينا الثقة في أخباره الفلكية الأخرى. يقول في ليلة السبت المذكور الذى هو رابع عشرة (14رجب) 873 : ( خُسف جميع جرم القمر، وكان ابتداء الخسوف بعد الغروب بعشرين درجة وربع درجة، ثم خذ في الإنحلال إلى ستين درجة  ودقائق.).

3ــ ويذكر ابن الصيرفي ظاهرة فلكية غريبة حدثت في أول شعبان 876، يقول :( ظهر هيئة نجم من الغرب وقيل أنه صار يطلع من الشرق نصف الليل ويستمر إلى بعد الآذان وله ذنب فيه شعاع نور زائد مستطيل أطول من رمح . وتعجب الناس من ذلك وصاروا يلهجون  بالأقاويل الكاذبة التى لا يعول عليها.).

هل كان ذلك النجم هو مذنب هالى؟.!. إن مذنب هالى يزور الأرض كل 76 سنة، والحادثة المذكورة يوافقها تاريخها 15 يناير 1472م، ومعناه أنها لا تنطبق على موعد زيارة هالى، والأمر متروك لعلماء الفلك. ويكفي ابن الصيرفي فخراً أنه وصف ما يراه بدقة، وهو قد سار في ذلك على نهج أستاذه  المقريزي الذى إهتم برصد هذه الظواهر الفلكية في حوادث تاريخه "السلوك".

غرائب

1 ــ وجاء مؤرخنا ببعض الغرائب الأخرى: ففي يوم الجمعة 16 ربيع ثانى 875 بيع صندوق  بباب الجامع الأزهر مرات عديدة وفي كل مرة  يرده المشترى، وأخذه بعضهم  وجعل يعبث في أدراجه فوجد فيه ركناً مخفياً فإذا به كيس به ستمائة  دينار وستون دينار ذهباً، وهى حكاية غريبة ذات نهاية سعيدة. وليس مثلها كل الحكايات ، ففي شهر ذى الحجة 885 ذكر ابن الصيرفي أن شخصاً ساكناً ( بحانوت بجوار رأس سوق أمير الجيوش، وبجوار الحانوت سرداب قد نظّفوه وغطّوه ، فقام ذلك  الشخص في الليل ليقضى حاجته، فسقط في السرداب فمات وذهب دمه هدراً  ..ولا قوة إلا بالله .).!. ويقول : ( وهذا السرداب الحاكمي، أخبر جمال الدين يوسف بن تغري بردي في بعض مؤلفاته أن هذا  السرداب سقط فيه قطار جمال محملين بالتبن وماتوا ولم يظهر لهم أثر ولا يعرف لهم خبر. ). وجامع الحاكم الفاطمى لا تزال تحوطه الأسرارمثل صاحبه الخليفة الفاطمى المعتوه ، ومن بينها وجود السراديب. والسرداب من خرافات التشيع الكبرى .

2 ــ ومن غرائب المواليد في عصر قايتباى ما حكاه ابن الصيرفي في أحداث الخميس 20 محرم 875 يقول : ( وبلغني ممّن أثق بنقله أن امرأة من مدة ستة شهور ولدت ولداً بلا يد ولا رجل  ولا ساق والحكم لله والواحد الخلاق.). ويقول في أحداث يوم الخميس 27 ذى الحجة 876 : ( وضعت امرأة أربعة أولاد في بطن واحدة : اثنان ذكور واثنان إناث، ووالدهم فقير من حارة باب اللوق، فوقف بهم السلطان فلما رآهم قال لأبيهم: أنت شاطر. ورسم  له بعشرة دنانير وخمسة أردب قمح على ما بلغنى من  عدة خلائق، ومات منهم بعد ذلك اثنان، والله المستعان.). كأنه لابد لأحدهم أن ينجب أربعة كى يحظى بلفتة من السلطان وعشرة دنانير وخمسة أردب قمح علاوة. ولو لم يقف للسلطان ما روي ابن الصيرفي ذلك الحادث، وما كانت إحدى الغرائب.

3 ــ ومن مواليد البشر إلى مواليد الحيوان في عالم الغرائب. ويذكر ابن الصيرفي خبراً يؤمن بصدقه لأنه منسوب لأحد الأولياء الصوفية الذين كانوا يتمتعون بإعتقاد الناس وقتها وتصديقهم لكل ما يهرفون به ، ولكن لنا كل الحق في تكذيب هذا الخبر برغم أنف  إبن الصيرفى . يقول في أحداث شعبان 875: ( وحدث في هذه الأيام أمور تؤذن باقتراب الساعة ، منها أن السيد الشريف الوفائي نائب قاضى الحنفية أخبرنى بحضوره أن الأمير تمر المحمودى حاجب الحجاب شاهد عنده بغلة ولدت وعاش الولد أياماً ومات بعد ذلك.). ومع ذلك فإن الساعة لم تقم بعد. رغم أنهم جعلوا البغلة تلد.

4 ــ ولكن ابن الصيرفي يذكر واقعة غريبة رآها بنفسه ولم يحكها على لسان غيره، يقول في أحداث يوم السبت 14 شعبان 876 ، ( فى هذا اليوم رأيت عجيبة من مخلوفات الله تعالى ، وهو أن شخصاً من أصحابي الأفاضل أعزّه الله ، أحضر لى في مجلس الحكم ( أى محلّ عمله فى المحكمة قاضيا يحكم بين الناس) بباب القنطرة ، عجلاً صغيراً وعدلة بيد واحدة ورجلين واليد الواحدة أغلظ من الرجلين والجبهة واليد الأخرى التى من جهة الشمال لا أثر فيها ولا كتف ولا لوح، فسبحان الخالق..). وذلك معقول.

ومن الغرائب إلى الفواجع:

1 ــ وبعضها يجمع بين الغرائب والفواجع معا، مثل غرائب المناخ التى تتسبب في كوارث وبعض المنافع.

في أخبار الأربعاء 17 ربيع ثاني 874 ( أمطرت السماء مطراً غزيراِ ، يومين وليلتين ، آخرهم يوم الخميس المصبحة عن التاسع عشر من شهر تاريخه حتى دلقت البيوت ووهى بنيانها من كثرة الهواء والمطر، وحكى غالب الناس أن لهم سنين عديدة ما رأوا مثلها، وأخبر الفلاحون وأهل البلاد أن قد حصل لهم بهذا كثير في مزارعهم وزرعوا الأراضي العلو التى ما وصل إليها البحر، وحصل لهم بها فرح وسرور، ومع هذا فالأمطار قد ملأت الأسواق والدروب ، والناس يخوضون في ذلك قريب أوساطهم، والخبز لا يوجد ، والناس يزدحمون عليه في الأفران ، وهو أسود كمكم، والرطل بسبعة ونصف فلوس، وأما الفقراء والمساكين ففي أمر عظيم، والأمر إلى الله العلى العليم يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد. ). كانت تلك الأمطار كارثة للقاهريين وكانت فائدة للفلاحين زرعوا بها الأراضي المرتفعة كما قالوا.. وقاسى القاهريون من أزمة الرغيف، وكان المساكين أكثرهم معاناة، وكأنما يصف ابن الصيرفي أحوالنا اليوم عندما نفاجأ كالعادة بهطول الأمطار ونشأة البرك والمستنقعات ، وتغرق القاهرة فى ( شبر ميّه )..وفي لية الأربعاء 25 شعبان 876 أمطرت السماء مطراً متراسلاً واستمر إلى ليلة الخميس 26 شعبان فعمّت البلاد ، وحصل بها نفع وبعض الضرر، وانهدم من الأماكن البيوت بسبب ذلك عدة، وامتلأت البلاد بالطين والوحل ولم يعهد مثلها إلا نادراً.). هكذا قال إبن الصيرفى.وكالعادة قد تكون مصائب قوم عند قوم فوائد، والفلاحون يستفيدون من المطر أحياناً ولكن القاهريون يسوؤهم المطر دائماً، ولا يوجد في الدنيا الشرّ المحض أوالخير المحض، فكل شيء نسبي.

2 ــ وبالإضافة للأمطار الغزيرة التى نفاجىء المصريين دائما فإن رياح الخماسين قد تأتى شديدة مزعجة تتسبب في هدم بعض الأماكن ، كما حدث يوم الجمعة 9 ربيع الأول 877، يقول ابن الصيرفي: ( ومضى من الخماسين 48 يوماً، وحصل شعث زائد وهواء مزعج جداً ، بحيث سقط منه أماكن مخلخلة، وحرقت منه دُور، ورسم السلطان بنصيب خيمة المولد النبوي بالحوش السلطانى على العادة، فلما انتهوا من نصبها انكسرت أعمدتها وسقطت من عظم الهواء والرياح التى كانت ، فاحتاج السلطان نصب خيمة جديدة صنعوها له غير أنها أصغر من تلك، ثم جاءت مع الخماسين هبة مطر شديدة يوم 13 ربيع الأول 877، ولكنها جاءت بفائدة إذ ساعدت على التخلص من أسراب الجراد.

3 ــ وحوادث الغرق في النيل كانت أبرز الفواجع، وكانت تتكرر، ولا تزال.. وربما لنفس الأسباب أن تحمل المركب فوق طاقتها فتغرق بمن فيها. في أوائل شهر ذى القعدة 876 ركب بعض التجار مركباً في النيل وكان معهم عبيدهم من السودان بالإضافة إلى أحمالهم وأثقالهم من المنسوجات والمتاع والأموال، بالإضافة إلى ذلك جميعه كان في المركب ركاب من الناس، ولأن الحمولة كانت فوق طاقة المركب فقد غرقت بهم المركب عند بيسوس، ولم ينج منهم إلا ثلاثة. وبلغ السلطان الخبر فأمر ابن غريب الاستادار أن يتوجه إلى المكان ومعه القاضى ابن الأمانة وبعض الغطاسين لانقاذ السلع، لا الجثث، يقول ابن الصيرفي "فتوجهوا وحضروا أخر النهار ولم يظفروا بطائل ولا نائل إلا قدر يسير من قماش وغيره.

وحتى الزوارق الصغيرة التى تصل بين شطى النيل كانت ــ ولا تزال ــــ تحمل أكثر من طاقتها، وينتج عن ذلك غرقها بمن فيها، كما حدث ليلة الجمعة المصبحة عن 7 صفر 876، يقول ابن الصيرفي (غرقت المعدية المتوجهة لأنبوبة، (أى امبابه) بجميع من فيها من الرجال والصبيان والدواب، ولم يطلع منهم إلا الغرقي الذى لهم أهل، وبقية الغرقي استمروا طعماً للسمك ، ودخل بعض الغرقى من باب القنطرة فشاهدناهم وقد انتفخوا وانتنوا. وكانت تلك المعدية تحمل الناس والدواب فوق طاقتها فغرقت، والغرقي الذين لهم أهل وجدوا من يستخرج جثثهم، أما الباقون فلم يأبه بهم أحد ، وتركوا جثثهم تأكلها الأسماك وقد انتفخت وانتنت، وشاهدهم الناس وقد حملهم الموج إلى امبوبه إلى باب القنطرة .)

كان مؤرخنا ابن الصيرفي وسط الجمهور الذى يتفرج على تلك الجث الآدمية، ومقر عمله قريب من ذلك المكان، ولم يحاول أحد أن يكرّم أصحاب تلك الجثث بإخراجها ودفنها، وإنما شاهدوها وتفرجوا عليها فقط، بالضبط كما كانوا يشاهدون ويتفرجون على المحكوم عليهم بالإعدام وهم يطاف بهم والمسامير تثبت أطرافهم على الخشب المحمول فوق الجمال.ففي عصور القهر والاستبداد يتبلد الاحساس وتسود نغمة "وأنا مالى" ويبحث كل إنسان عن مصلحته ويقول "إذا جاءك الطوفان فاجعل بنك تحت قدميك" وهذا ما يناقض الإسلام، وما يناقض شريعته الحقيقية التى تكرّم بنى آدم . وعندى أن الإسلام دين الله الذى جاء به كل الأنبياء هو ذروة الحضارة، وذروة التكريم للإنسان وأخطر ما يبتلى به الإنسان والإسلام أن يرفع البعض شعاراته ويطبعها تطبيقاً أعوج ليكرس الاستبداد والطغيان. ونعود إلى فواجع الغرق. في صفر 877 ( غرقت معدّية بنهر النيل فيها عدة أنفس من رجال وصبيان ونساء وغرق فيها شخص من جماعة قاضى القضاة، قطب الدين الخيضرى أعزه الله .)ـ هذا ما سجله ابن الصيرفي.

4 ــ ومن الغرق الى سقوط البيوت والدّور والمنازل . وفي يوم الاثنين 14 ربيع الآخر 876 ( سقط بيت في النيل، وغرقت امرأة وطفل، واستخرجوا المرأة ولم يعرفوا للولد أثراً .)، وفي هذه السنة 876 كثرت حوادث الغرق في النيل، يقول ابن الصيرفي: ( "وفي هذه السنة كثر غرق الناس بالبحر والخلجان حتى النسوة .! والأمر لله .!!). وسقوط المبانى فوق رؤوس الناس كانت من الفواجع التى تحدث في عصر قايتباى، وفي عصرنا أيضاً بطبيعة الحال، ولكن لم يكن السبب في عصر قايتباى هو مخالفة رخصة البناء أو الغشّ في مواد البناء أو فساد الذمم والضمائر لدي المقاولين والمهندسين والموظفين. فهذا من مناقب عصرنا الراهن. فى يوم الأربعاء 17 رجب 876 ( وقع بناء يقع موضعه في مقابل المدرسة التى بالأرباين ). هكذا يقول ابن الصيرفي، ومات تحت الهدم أربعة أنفار من المسلمين. وفي يوم 20 شوال 876 صعد نجار إلى سطح القلعة ليهدم بعض أطباق المماليك السلطانية فسبقه الهدم وسقط عليه، وكان ذلك أخر الليل، يقول مؤرخنا:  ( فبات تحت الهدم ، واصبح أهله وأولاده فوقفوا للسلطان ، فرسم بمائة دينار يشتري به مكان لبيت الميت، ورسم للميت بثوب بعلبكي وثلاثة أشرفية "(الأشرفي عملة صغيرة ) لخرجته ( أى لجنازته ) ومصروفه فنصره الله، وجزاه خيراً ) وهذا هو كل ما حصل عليه أهل الميت الذى فقد حياته في خدمة السلطان وفي العمل في القلعة، هذا كل ما حصل عليه الورثة من إصابة العمل لعائلهم.

5 ــ ونختم الكوارث بكارثة الكنافة في باب اللوق.

يقول ابن الصيرفي في حوادث رجل 875 واتفق في هذه الأيام أن جماعة بباب اللوق أكلوا كنافة وكانوا نحو سبعة أنفس فمات منهم خمس أنفس والإثنان الباقيان في السياق، ( أى على وشك الموت)، ولا ريب أنهم ماتوا..) كما مات ابن الصيرفي وكما سينتهى كل ما عليه، وسبحان الحى الذى لا يموت.

غارات الفرنجة البحرية:

1 ــ وفي عام 876 أضيفت إلى الفواجع غارات الصليبيين الفرنجة البحرية على المواني المصرية.

وقد بدأ ذلك بعد منتصف شهر ذى الحجة 876، وقد قال ابن الصيرفي متألماً : (ما هذه الفتن في هذه الأيام إلا كثيرة، الفتن مرّة من بنى حرام بالشرقية، ومرة من عُربان قبلي، ومرة من المخذول شاه سوار، وهذه المرة من الفرنج، فالله يلطف ويدبر بحق محمد وآله آمين. وقد حضر وفد من أهل رشيد للسلطان وأخبروه أن خمس مراكب من الإفرنج تعرضوا لمركبين من مراكب التجار المسلمين وأخذوهم فوقع بينهم قتال شديد، إلا أن أهل رشيد أخذوا من الفرنج مركباً واحداَ، وأخذ الفرنج المركب الأخرى وما فيها من المسلمين.).ويقول ابن الصيرفي : ( وبلغني ممن أثق بنقله ) ولا ريب أنه كاتب السر ابن مزهر الأنصاري الذى أبلغ مؤرخنا بذلك، ( أن السلطان لما بلغه ذلك انزعج انزعاجاً شديداً وحلف أنه لولا لمهم أى الانشغال الذى هو به من متعلق المملكة لكان بنفسه. )، أى لكان هناك بنفسه.

2 ــ ثم ورد يوم الخميس 20 ذى الحجة 876 أن الفرنج أخذوا مراكب للمسلمين من ميناء دمياط أو ميناء الطينة، بسيناء، يقول ابن الصيرفي : ( فشقّ ذلك على كل من يسمعه من قريب أو بعيد ، والحكم لله يفعل ما يريد.). وواضح أن مؤرخنا يصف المراكب المصرية بأنها مراكب المسلمين، طالما يتعلق الأمر بالحرب ضد الأوربيين الذين يسميهم بالنصارى ، وتلك شريعة السّنة التى تقسّم العالم الى دارين : دار السلام والسلام والاسلام ، ودار الحرب والكفر. ويحتفظ الأوربيون للمسلمين بنفس الشعور . وذلك هو النبض السائد في مجتمع العصور الوسطي، حيث الحروب الدينية والمحاكمات الدينية ، وحيث يسيطر الدين الأرضى على كل شيء، وطبقا لشريعة السنيين كانت تضاف كلمة الدين للألقاب والأسماء، ففلان هو زين الدين أو عماد الدين أو صلاح الدين، ومع ذلك فالسلوك والمعتقدات أبعد تكون عن حقيقة الاسلام وسماحة الاسلام .

3 ــ وفي يوم الأربعاء 26 ذى الحجة وصلت بشري من نائب الإسكندرية المملوكي تفيد بأنه تم القبض ( على مركب من مراكب النصاري المفسدين بالبحر، وأنهم غنموهم وغرقوا المركب ، وقتلوا منهم نحو من ثلاثين نفراً وأسروا عشرة أنفار.). ثم في يوم الخميس 27 ذى الحجة بعد العصر وصل مبعوث من نائب أو حاكم الإسكندرية ومعه الأسرى الفرنج في الحديد ليعرضهم على السلطان، وحدثت مشكلة بسبب ذلك. فالذى حدث أن الذين هزموا الفرنجة وأسروهم لم يكونوا جند المماليك وإنما كانوا من أهل اتكو (ادكو) وقد جاء وفد منهم للسلطان يخبره بما حدث، بينما أرسل الأمير قجماس يعلم السلطان أنه هو الذى قبض على الفرنج وأخذ مركبهم، وزاد في رسالته للسلطان أن أهل اتكو (ادكو) قد تعدّوا ونهبوا ما في مركب الفرنج، وهذا في حد ذاته يفيد الاعتراف بأنهم الذى هاجموا الفرنج وغنموا المركب، ومع ذلك فإن السلطان وقد تأكد من أن المصريين من أهل أدكو هم الذى حاربوا الفرنج وهزموهم فإنهم كافأهم بأن أمر بسجنهم في سجن المقشرة أسوأ السجون المملوكية وأفظعها. هذا لأن فلسفة الحكم المملوكي أن وجودهم قائم على أساس أنهم القوة الوحيدة التى تحكم المصريين فلا ينبغى للمصريين أن يستعملوا السلاح أو أن يتعاملوا مع أى تدريب عسكري حتى لو كان في خدمة الدولة المملوكية أو في قتال أعداء الوطن، لأنه إذا عرف المصريين الدفاع عن أنفسهم فلا حاجة حينئذ للوجود المملوكي، ولذلك فإن قايتباى حين كافأ شجعان أدكو على هزيمتهم للفرنجة بالسجن مع نفس الأسرى الفرنج في المقشرة إنما كان يدافع عن وجوده هو وعن وجود جنس المماليك وتلك الطبقة الأجنبية العسكرية التى تحكم المصريين بقوة السلاح ولا تزيد أن يشاركها المصريين في حمل السلاح.

ومؤرخنا ابن الصيرفي ذكر الحادثة وتأسف على ما حدث لمجاهدي ادكو من المصريين ودافع في نفس الوقت عن السلطان قايتباى دفاعاً أعوج، يقول : ( وحضر أهل اتكوا وقالوا أنهم هم الذين قبضوا عليهم، ولما عرضوا الفرنج على السلطان كما قدمنا وصحبتهم أهل ادكوا، وكان قجماس عرف السلطان أن أهل اتكوا تعدّوا ونهبوا ما في المركب ، فلما وقفوا بين يدى السلطان رسم ( أى قبض ) على جماعة منهم من أكابر أهل اتكو، وأودعوا الفرنج سجن المقشرة، فما هان على غالب الناس الترسيم على أهل اتكو فإنهم مجاهدون وصلحاء وصنعوا جميلاً، غير أن مولانا السلطان نصره الله غُطي عليه في أمرهم، وأصبح يوم الأحد سلخه فطلب السلطان الفرنج المسجونين بالمقشرة فأسلم منهم ثلاثة فأطلقوا وسجنوا من تأخر بلا إسلام بالمقشرة.)

أى أطلق بعض الأسرى الذى نطقوا (بالشهادتين)، بينما ظل المجاهدون المصريون في السجن.!!

 وحدث بعدها في شهر ربيع الأول 877 ( وصل إلى دمياط مركب عظيم مشحون بالبضائع وفيه عدة من المغاربة التجار فأخذه الفرنج بتمامه وكماله ولم ينتطح فيها عنزان ) على حد قول ابن الصيرفي .

من يدري؟. ربما انطفأت الروح المعنوية لأهل دمياط بعد ما حدث لأهل ادكو. فاعتمدوا على المماليك فلم يغن عنهم المماليك شيئاً..

وهذه خاتمة الفواجع.

  1. الهصر: 281، 283، 447، 366، 495.
  2. الهصر: 10، 53، 402، 219، 506، 196، 444، 248، 403.
  3. الهصر: 152، 153، 405، 478، 481.
  4. الهصر: 428، 326، 475، 338، 333،
  5. الهصر: 389، 423، 424، 242.
  6. الهصر: 441: 445، 481.

الفصل العاشر : أخبار الجرائم في ظل تطبيق الشريعة فى عصر السلطان قايتباى :

 ( ريّا وسكينة ) في العصر المملوكي

1 ــ سجل ابن الصيرفي أخبار الجريمة في القاهرة وضواحيها "القاهرة الكبري الآن" أو القاهرة ومصر في تعبير العصر المملوكي، وكنا نود لو أتيحت لنا الفرصة لنتعرف على أحوال المصريين جميعاً في كل مدينة وقرية، ولكننا نضطر في النهاية لاعتبار القاهرة مؤشراً حياً لأحوال المجتمع المصري كله في ذلك العصر. 2  ــ والجرائم في أى زمان ومكان سلوك بشرى لا يخلو منه أى مجتمع، وفي مجتمع كالعصر المملوكي كان الحكام وقضاة الشرع فيه أكثر الناس إجراماً وكانت جرائمهم تتحصّن بالدين السّائد لابد أن تهتز كثير من القيم والموازين، فربما كان من بين المجرمين من ثار لأجل رفع الظلم عن نفسه فاعتبره السلطان وقضاة السلطان أعتى المجرمين. وكنا نود أن يذكر إبن الصيرفي قضية كهذه ، أو حتى تبدو فيها ملامح الثورة على الظلم المملوكي، ولكننا لم نجد في كتاباته إلّا عمليات إجرامية بحته من السرقة والقتل. وقد يقال أن الأعراب كانوا يمثلون تلك النوعية من الثورة التى اعتبرها السلطان وأتباعه عصياناً وفساداً، ولكننا لا نرى في حركات الأعراب إلا صراعاً من أجل الحكم بنفس السلوك المملوكي وأسوأ، لذا كانت حركات الأعراب العسكرية خراباً للريف المصري وأدخل في باب التدمير والفساد، وربما لو كان هناك قطاع طرق في الريف المصري وغفل عنهم مؤرخنا القاهرى ابن الصيرفي فإننا نتوقع من أولئك اللصوص أن يسيروا على نسق الأعراب وفسادهم، وإيذائهم للفلاحين وتسلطهم عليهم وفرارهم أمام القوة المملوكية المنظمة القوية. ولذلك يظل عثورنا على (روبين هود) المصرى في العصر المملوكي مجرد حلم وأسطورة تماثل أسطورة أدهم الشرقاوى . وأحداث التاريخ لا مجال فيها لأحلام اليقظة والتمنيات، لذا نضطر إلى قراءة  صحيفة الحالة الجنائية للقاهرة في عصر قايتباى كما هى ، بعد أن عرفنا صحيفة الأحوال الجنائية لقايتباى نفسه وطبقته العسكرية وأعوانه من الموظفين الكبار وقضاة الشّرع السّنى.

جريمة السرقة:

1 ـــ وبرغم وجود عقوبة قطع اليد للسارقِ، وبرغم التطرف في تنفيذها إلى درجة قطع الأطراف والتوسيط وقطع يد طفل صغير فإن جريمة السرقة استمرت، لأنها تستند إلى وجود خلل في المجتمع ذاته، وتشعب هذا الخلل إلى النواحى السياسية والاجتماعية والاقتصادية والدينية.والغريب أن يمارس السرقة بعض المستورين مثل ذلك الشيخ الصيرفي ابن الخليلي الذى كان يدرس في خانقاه "سعيد السعداء" المشهورة ويحصل على مرتبات وخلافه ومع ذلك اختلس القمح من الخانقاه، يقول ابن الصيرفي في حوادث يوم الأحد 16 ربيع الثاني 875 حيث قُبض على صوفي من خانقاه سعيد السعداء يعرف بابن الخليلي بسبب ( أنه فتح حاصل قمح المدرسة واختلس منه، فقام الصوفية عليه ورفعوا أمرهم لعظيم الدنيا، وداودارها. وذكروا أنهم وجدوا هذا فتح الحاصل المرصد لخبز الفقهاء، وأراد يأخذ منه فقبضنا عليه، وفي العام الماضي عجز الحاصل سبعين أردباً، وهذا الخرج الذى فيه القمح معه، فأمر بضربه بالمقارع وأشهر على حمار في الأسواق، وانتهى أمره بأن توسط أبوه له فأطلق الداودار الكبير سراحه.). أما الطفل الصغير الجائع فلم يجد من يتوسّط له فقطعوا يده .!.ذلك السارق الذى ثبتت عليه الجريمة لم يسرق لأنه جائع، فقد كان يعيش في الخانقاه يأكل من خيراتها ويأخذ المرتبات، ومع ذلك سرق سبعين أردباً وهم لم يقطعوا يده، وفي نفس الوقت الذى قطعوا فيه يد صبي فقير سرق، وقتلوا مسكيناً مقطوع اليد والرجلين لأنه اضطر للسرقة لكى يأكل. ونسترجع ما قاله ( القاضى) ابن الصيرفي في حوادث أول صفر 874:( وفيه رسم السلطان ــ نصره الله ــ بشنق حرامى ، وهو مستحق لذلك ، فإنه سرق فقطعوا يده وأطلقوه فسرق ثانياً فقطعوا أرجله وأطلقوه، فسرق ثالثاً فرسم فشنق. وقطعت يد صغير سرق وهو غير مكلف.). وهى عادة سيئة فى كل مجتمع ظالم فاسد ، إذا سرق فيهم الشيخ الشريف تركوه وإذا سرق فيها الضعيف أقاموا عليه الحد.

2 ـــ ووقعت حوادث سرقة متتابعة قام بهام الخدم والغلمان، كانوا يسرقون بيوت أسيادهم، إذ حدث يوم الخميس 29 ذى القعدة 876 أن هرب ثلاثة من مماليك الأمير قانصوه الأحمدى الخسيف ومعهم كما يقول مؤرخنا:( طرز ذهب وثلاثة حوائص وثلاثة سيوف ذهب قيمة ما أخذوه ألف دينار.) وقال عن الأمير قانصوه الخسيف:( وهو في غاية التشويش بسبب فقدهم ، وأرسل خلفهم إلى البلاد جماعات بمراسيم.). أى أرسل أوامر بالقبض عليهم . وبعدها بعدة أيام أو ثالث ذ الحجة حدث أن: (سُرق القاضى يحي الصفطي من بيته مبلغ جملته ألف دينار وسبعة وثلاثون ديناراً . )، ويقول ابن الصيرفي عن ذلك القاضى إنّه كان يكنز الذهب : ( هذا رجل له سنون عديدة يخدم ويكتب ويشهد ويوقع ويقضى،( أى يعمل فى درجات السلك القضائى ) حتى حصّل هذا المال ويفقد منه بغير رضاه، واستكثر عليه غالب الناس هذا المال، وبعضهم ما هان عليه ذلك ووقف السلطان ، وشكى له حاله ، فرسم للأمير الداودار الثاني بالتوجه إليه والنظر في أمره. وأسفر الحال أن عبده نقيب البيت وأخذ الذهب الذى ذكرنا ، وأخفاه عند جماعة من العبيد وجارية بالحسينية، فتوجهوا إليه ووجدوا المال قد عجز شيئاً يسير جداً ، فأطلقوا من كان قبضوا عليه من غلمان جيرانهم وسجنوا العبيد.).ويبدو أن السلطة المملوكية اعتقلت أيضاً غلمان الجيران وتحت قسوة (المعاملة) وصلوا للجاني الحقيقي والمسروقات، وبعدها أطلقوا الغلمان الأبرياء بعد أن عذبوهم. نفس الطريقة المصرية الخالدة.

وتعرّض للسرقة إثنان من الظلمة، يقول صاحبنا:( وسُرق أيضاً لشخصين من الظلمة، أحدهما على بن قمتي رأس نوبة الداودار الكبير، والآخر محمد ابن أزبك رأس نوبة حاجب الحجاب بيتهما، أما الأول فسُرق له أمتعة من بيته، الذى ببركة الرطلى ، ولم يوجد له فيها ذهب ولا فضة . وأما الثانى فسُرق لزوجته له أمتعة من ذهب ولؤلؤ مما جملته ألف دينار ولم يعثروا على الجناة.).وفي عام 875 ( كثُر المفسدون واللصوص وتسلطوا على بيوت المسلمين بواسطة عدم عرفان الوالى بالصناعة)، أى بسبب جهل مدير الأمن بوظيفته.

سرقة وقتل:

1 ــ وارتبطت بعض السرقات بجرائم القتل، وعوقب بعضهم بالتسمير والتوسيط. يوم الاثنين 20 شعبان 875 تم تسمير اثنين من البزادرة، أى الذين يحملون طائر الباز للصيد وتم توسيطهما بقنطرة الحاجب خارج القاهرة بعد إشهارهما والسبب أنهما قتلا شخصاً حلبياً كان يسكن بالجنينة وأخذا ماله، يقول عنهما ابن الصيرفي : (وكانا من الأشرار المفسدين ، فأزالهما الله على المسلمين.). وكالعادة لا يرى إبن الصيرفى فى مصر إلّا المسلمين . أما النّصارى فلا وجود لهم فى بؤرة شعوره.

2 ــ وفي اليوم التالي الثلاثاء 21 شعبان 875 ضربوا الشيخ زين الدين بن عبد الرحمن قريب الشيخ ابن النحال وسجنوه في المقشرة، وذلك لأنه زوّر مراسيم سلطانية وسافر بها إلى الشام يعزل بها ويولّى، فعلم السلطان بأمره، فأمر بضربه بالمقارع وحبسه، ولكن توسط له الأمير تنبك الداودار الثاني كالعادة عندما يسرق أحد الكبار.يقول مؤرخنا ابن الصيرفي عن ذلك الرجل: ( ولولا مساعدة الأمير تنبك الداودار الثاني ــــــ حفظه الله ــــ ما حصل له خير، فإن المذكور سيرته قبيحة، وسيما أنه قبض عليه لأنّه سرق سرجاً مفضضاً ببيت الوالى وخلصوه منه، بعد بذل مال) أى دفعوا له مالا (حلوان ) حتى استردوا منه المسروق. ولم يقطعوا يده.! يا حسرة عليك أيها الطفل الصغير الذين قطعوا يدك .!!.

3 ــ وكالعادة يكون التسمير والتشهير والتوسيط هو جزاء المفسدين ممن لا نصير لهم بين أصحاب السلطان. في يوم السبت 13 ذى القعدة875 ( سمّروا ستة من مفسدى القليوبية ووسّطوهم بقليوب، وقام على إشهارهم الأمير يشبك بن حيدر صاحب الشرطة، وقد ذكر عنهم أفعالاً قبيحة ..منها أنهم قتلوا رجلاً لأخذ ماله بقليوب وحرّقوه بمستوقد الحمام ، وأمثال ذلك من التهجم والقتل وقطع الطريق، وذاك ذنب عقابه فيه، ووسّطوا بقليوب أو قربها ، وعُلّقت جثثهم ليرتدع أمثالهم من هذه الأفعال المنكرة... ربّ سلم.)..!

4 ــ وحين انتشر الطاعون لم يرد ذكر لحوادث القتل، وبعد أن انقشع وباء الطاعون قام بعضهم عنه بمهمة القتل، بعد أن وجد المناخ المناسب للانحلال وما يؤدي إليه الانحلال من أثار جانبية كالتنازع وسفك الدماء.

في حوادث شهر جمادى الآخرة 875 يقول ابن الصيرفي: ( ذُبح شخص من المسلمين كان بلاناً بأرض الطبالة بالجنينة وبيفحصوا عن قاتله. )، وأرض الطبالة وهى العباسية الآن كانت بؤرة للانحلال الخلقى ووظيفة المقتول ( البلّان ) تنبئ عن صلة الانحلال الخلقى بمقتله. وفي يوم السبت 25 ربيع الأول 875 يقول ابن الصيرفي:( واتفقت حادثة غريبة هى أن رجلاً من الحجّارين بالجبل أخذ زوجته وتوجه بها إلى الجبل فذبحها في عدة مواضع في رقبتها وضربها بالسيف في عدة مواضع.. وهرب الزوج ولم يعلم له خبر ، وماتت وذهب دمها هدراً .).وفي يوم الخميس 3 ذى الحجة 875 حدث أن قُتل شخص ورُمى شاب أمرد بلا لحية بالصحراء بجوار سيدى الشيخ المقانعي، وكان له رفيقان من بلاده ، فوجداه مذبوحاً ، ولا يعلم له قاتل، هذا بعد أن وجدوا فيه عدة ضربات بالسكاكين.).وحوادث القتل السابقة مرتبطة بالانحلال الخلقي.

5 ــــ وبعض حوادث القتل الأخرى كان الانحلال الخلقي هو السبب المعلن. ففي يوم الأحد 9 رجب 876 حدث أن أحد المماليك شكى مطلقته وادعى عليهات أنها أخذت منه مالاً ، وطُلب منه البينة ، وكان يتهمها بخيانته مع غلام، واتفق معها على أن تحلف بأنه ما أخذت ذلك المال أمام ضريح الشيخ خلف بالقرب من سويقة السباعين، فلما دخلت الضريح ضربها بسكين في خاصرتها فسقطت ميته. يقول ابن الصيرفي: ( وتوجه والسكين في يده ملطخة بالدم . وذهب دمها هدراً . فلا حول ولا قوة إلا بالله. ). ولم يذكر مؤرخنا أن الجانب عوقب على جريمته ، بل ذكر أن دمها ذهب هدراً. والسبب معروف. إنه من المماليك.

6 ـــ وفي يوم الثلاثاء 27 جمادى الآخرة 876 حدثت جريمة فظيعة حكاها ابن الصيرفي بالتفصل:( وقعت حادثة غريبة بحارة بهاء الدين قراقوش وهو أن بالقرب من دار شيخنا شيخ الاسلام إبن حجر، قاعة مظلمة طويلة ، سكن فيها شخص حلبي أعزب غريب، والقاعة ملك لشخص من أولاد عرب القديم، فاستمال الحلبي بامرأة من بنات الخطا وأمها، ودفع لهما شُقة حرير وذهب، وحضر بها إليه عجوز قوادة، وعليهما أقمشة مزركشة وحرير وأساور ذهب وحلق بيلخش وفيروز ومرسلة ذهب بمسك وأمثال ذلك، فأوسعهم شراباً من الخمر، وصنع فيهم ما لا يحل ، وخنقهم وأخذ ما عليهم وهرب ،وتركهم في القاعدة المذكورة قتلى، فاستمروا نحو ثمانية أيام فشاع وذاع نتنهم، فهرع الناس إليهم فوجدوهم مخنوقين وآلات الخمر وبعضه باق، والنسوة عرايا، فركب الوالي ونائبه فدفنوهم، ورسموا على من عرفوا قتلاهم،) أى قبضوا على أبرياء كما هى العادة فى الدولة العميقة فى مصر، ومنهم مالك العقار:( وكذا قبضوا على صاحب المُلك، فأخذوا منه شيئاً من الحطام وهرب الجاني. واستفاد الوالي ما أخذه من صاحب العقار كي يطلقه. وانتهت القضية.).أى بالتهديد والابتزاز أخذ مدير الأمن مالا من صاحب العقار كى يطلقه . وهرب الجانى ..

7 ــــ وفي يوم الثلاثاء 10 شعبان 876 حدثت جريمة قتل أخرى.إشترك فى القتل جارية حسناء وغلام، وكان القتيل سيدهما من مماليك السلطان السابق الظاهرجقمق واسمه جانم، يقول ابن الصيرفي:(واتفق أمر غريب هو أن مملوكاً من المماليك الظاهرية جقمق كان ساكناً بالقاهرة بباب سر بيت الأمير تمر الحاجب...كان له جارية بيضاء وجارية سوداء وغلام شيخ وعبد أسود، ومعه مال له صورة نحو ألفي دينار وخمسمائة دينار، فاتفقوا على قتله وأخذ ماله،)،وبسبب غياب المملوك قبضوا على الغلام وسألوه عن سيده المملوك فقال لهم: ( إنه خرج من يومين وصحبته خنجر وعليه قرصنه ولم يعرف له مكان وأنه يغوى المطالب ) والمطالب هى البحث عن دفائن الكنوز والحصول عليها بالطرق السحرية، وذلك ما كانوا يعتقدون بجدواه في ذلك العصر، وسألوا الغلام عن العبد الأسود فأنكر أنه يعرف عنه شيئاً، فاستعمل الأمير تمر الحاجب الحيلة مع ذلك الغلام، فوعد بإطلاقه وقال له :(هذا الجندي المملوك له قتلى كثير من الجوارى والعبيد والأحرار، ولو قتل ما يقتل به أحد، وتودد إليه فاعترف له وأحضر له العبد الذى هربه، وأخبره بأنهم قتلوا سيدهم ودفنوه بالاسطبل، فقام الأمير تمر الحاجب ومن معه وحفروا عليه فوجدوه مدفوناً مخنوقاً، ). واعتقلواً الغلام والجارية.ــ وفي يوم السبت 25 شوال عرضوا على السلطان قايتباى الغلام والجارية الذين قتلاً سيدهماُ جانم فأمر السلطان بتسميرهما وشنقهما على باب المملوك المقتول، يقول ابن الصيرفي : ( ففُعل ذلك بعد ما أشهرا بالبلد، ولم نعهد امرأة مسمرة على جمل كهيئة هذه الجارية البيضاء، وقد أخبرت بأنها جميلة إلى الغاية ولكن بئس الجمال لما ارتكبته من قبح الفعال.).

8 ــــ وفي شهر صفر 877 وجدوا امرأة وبنتاً بكراً مقتولين في الأزبكية ولم يعلم لهما قاتل.. وذهبت دماؤهما هدراً على حد قول ابن الصيرفي.والأزبكية كانت من أماكن المجون.وكان الأمير أزبك بن ططخ هو الذى أنشأها عمرها. والأمير أزبك كان قائد الجيش المملوكي في ذلك الوقت.

9 ـــ وحدثت جرائم قتل غامضة: في 17 أو 18 ربيع الأول 874 حدث أن شخصاً من الذين يقومون بالشهادة أو "من العدول الجالسين" يتبع القاضى الحنبلى، وجدوه مقتولاً برحبة الأيدمرى وقد ألقاه القتلة في بئر، وقد قبضوا على غلام له ومملوك اتهموهما بقتله وأمر السلطان ببحث الموضوع، ولم يظهر فيه جديد. وفي يوم 28 جمادى الثانية 875 وجدوا نصرانياً مذبوحاً بطاحونة بباب البحر ولم يعرف له قاتل. وفي يوم الثلاثاء أو الأربعاء 10 أو 11 شعبان 876 وجدوا شخصاً مسلوخ الوجه مقطوع الأنف بالقرب من باب الفتوح ولم يعرف له أقارب ولا قاتل وذهب دمه هدراً. ووجدوا قتيلاً بالصحراء فاعتقلوا الخفير المسئول عن "الدرك" وضربه ضرباً مبرحاً بالمقارع وذلك يوم السبت 16 ذى القعدة 876.

10 ــــ وبعض الجرائم يسفر البحث عن العثور عن مرتكبيها.ففي يوم الأربعاء 7 ربيع الأونل 877 قبضوا على ثلاثة أنفار من الذين قتلوا القاضى أبا السعادات قاضى العباسية، وأودعوهم السجن.

11 ــــــــ والطريف أن هناك نوعاً من التشابه بين جرائم القتل في عهد قايتباى وبين ما كان يحدث قبله، فالجارية البيضاء التى قتلت سيدها المملوكي جانم بالتعاون مع غلام لنفس الجندي المملوكي، نجد شبيهاً لحكايتهما فيما حدث يوم الأربعاء 22 صفر 750 هـ. فقد شنقت جارية رومية الجنس لأنها قتلت سيدتها أم الأمير يلبغا اليحياوى، وذلك في مسكنها خارج باب النصر بالقرب من مصلى الأموات، وكانت تلك الجارية قد اتفقت مع زميلات لها من الجوارى على تنفيذ الجريمة بقصد السرقة، وقُتلت السيدة ليلاً بأن وضعت على وجهها مخدة وحبست أنفاسها حتى ماتت. وأقمن من الغد عزاءها على أنها ماتت ميتة طبيعية. يقول المقريزي: ( فمشت حيلتهم على الناس أياماً إلى أن تنافسن على قسمة المال الذى سرقته ، وتحدثن بما كان ، واعترفن على الجارية التى تولت القتل ، فأُخذت وشُنقت وهى بازارها ونقابها ، وأُخذ من الجوارى ما معهن من مال، وكان جملة كثيرة، ولم يعهد بمصر امرأة شنقت سوى هذه.).

ريا وسكينة في العصر المملوكي:

1 ــ لقد إنتشر وساد مناخ الانحلال الخلقى فى العصر المملوكى برعاية الشريعة السنية والنقاب والتدين الظاهرى ، فشجّع على هذه النوعية من القتل ، فالمرأة كانت تخرج تبحث عن المتعة الحرام فتقع فريسة للقتل ، والقوّادات يستملن الرجال للفاحشة فينتهى الرجل الباحث عن المتعة للقتل. ــوفي عصرنا اشتهرت حكاية ريّا وسكينة فى الاسكندرية ، وهى على عكس الجريمة التى وقعت في عهد قايتباى، من ذلك الحلبي الغريب الذى استمال عاهرة والعجوزة القوادة وقتلهما وسرق ما عليهما، وقد كانت ريا وسكينة تستقدمان النساء وتسرقان مصوغاتهن بعد القتل، أى يمكن القول أن ريا وسكينة قد قامتا بالرد على ذلك الحلبي الذى خدع المرأتين، فقامتا بالنيابة عنه بنفس العمل.

2 ـــــ ولكن عرف العصر المملوكي- قبل قايتباى- أخوات ريا وسكينة، في القاهرة وليس في الإسكندرية.

في أول المحرم 739 قبضوا على امرأة خنّاقة، وانتهت حياتها بالقتل بعد أن كانت تخدع النساء الباحثات عن المتعة الحرام وتقتلهن خنقاً بقصد السرقة ويقول المقريزي: ( وقد وقع في أيام المنصور قلاوون أن امرأة كانت تستميل النساء وترغّبهن حتى تمضى بهن إلى موضع توهمهنّ أن به من يعاشرهنّ بفاحشة، فإذا صارت المرأة إليها قبضها رجال قد أعدتهم وقتلوها وأخذوا ثيابها، فاشتهر بالقاهرة خبرها وعرفت بالخنّاقة فما زال بها الأمير علم الدين سنجر الخياط والى القاهرة حتى قبض عليها وسمّرها.).

ويقول: ( ووقع أيضاً في أيام الملك الناصر محمد بن قلاوون أن امرأة بأرض الطبالة كانت عند طائفة من البزادرية (أى من يحملون طائر الباز للتصيد به)، كانت تفعل ذلك بالنساء فقبضن عليها وسُمّروا و سُمّرت معهم، فكانت تقول وهى مسمرة يطاف بها على الجمل في القاهرة إذا رأت النساء وهن يتفرجن عليها: آه يا قحاب لو عشت لكن لافنيتكن، لكن ما عشت.).!! وأرض الطبّالة كانت من مواضع الفجور المعروفة .

ومثلها منطقة الخليج  على النيل . وفي سنة 662 كثر حوادث قتل الناس بالخليج، واختفي كثير من الرجال، وكان السبب ظهور غازية المرأة الجميلة ووصيفتها العجوز القوادة التى تستجلب لها الزبائن من الرجال فيذهبون إلى غازية فيكون آخر العهد بهم. يقول المقريزى: ( كثُر في هذه السنة قتل الناس في الخليج وفُقد جماعة والتبس الأمر في ذلك، ثم ظهر بعد شهر أن امرأة جميلة يقال لها غازية كانت تخرج بزينتها ومعها عجوز، فإذا تعرّض لها أحد قالت له العجوز: لا يمكنها المسير إلى أحد ولكن من أرادها فليأت منزلها، فإذا وافي الرجل إليها خرج إليه رجال فقتلوه وأخذوا ما معه، وكانت المرأة في كل قليل تنتقل من منزل إلى منزل ، حتى سكنت خارج باب الشعرية على الخليج، فأتت العجوز إلى ماشطة مشهورة بالقاهرة واستدعتها إلى فرح، فسارت الماشطة معها بالحلى على العادة ومعها جاريتها. ودخلت الماشطة وانصرفت جاريتها، فقتل الجماعة الماشطة وأخذوا ما كان معها، وجاءت جاريتها إلى الدار تطلب مولاتها فأنكروها، فمضت إلى الوالى وعرّفته الخبر، فركب إلى الدار وهجمها ، فإذا بالصبية والعجوز فقبض عليهما وعرضهما على العذاب فأقرتها فحبسهما، واتفق أن رجلا جاءهما لتفقد أحوالهما فقبض عليه وعوقب فدلّ على رفيقه، فإذا هو صاحب أقمنه طوب فعوقب أيضاَ، فوُجد أنهم كانوا إذا قتلوا أحداً ألقوه في القمين حتى تحترق عظامه، وأظهروا من الدار حفائر قد ملئت بالقتلى . فسمّروا جميعاً، ثم أطلقت المرأة بعد يومين فأقامت قليلاً ثم ماتت، ربما بسبب ما تعرضت له من تعذيب، ثم عملت الدار التى كانوا بها مسجداً وهو المعروف بمسجد الخنّاقة.).

كانت أكثر حوادث القتل ــ ولا تزال ـــ مرتبطة بالزنا وارتكاب الفاحشة. ومسيرة الانحلال الخلقى من القتل والفواحش تزدهر لو وجدت مسوّغا دينيا ، ويكون المنبع هو ذلك الدين الأرضى وشريعته التى ساءت سبيلاً.

  1.  الهصر: 222، 127، 435، 437، 438.
  2. الهصر: 238، 247، 248، 276، 287.
  3. الهصر: 238، 215، 290، 279، 269، 370، 401، 425، 475.
  4. الهصر: 149، 238، 402، 432، 482.
  5. المقريزي: السلوك 2/3/ 799: 800- 2/2/457- 2/3/800/1/2/531.

 

 

الفصل الحادى عشر: نشرة أخبار مشايخالشرع السّنى فى عصر قايتباى

كان ينبغى أن تكون أخبار المشايخ تالية لأخبار السلطان والمماليك حيث أنهم يتلونهم في الترتيب الاجتماعي، وكنا نود هذا، ولكن أخبار المشايخ التى رواها لنا أحدهم وهو الشيخ ابن الصيرفي تندرج في قائمة الانحرافات والجرائم، وتعرضوا بسببها إلى نقمة السلطان وأحياناً إلى عقوباته، لذا فإن المنهج العلمي يحتّم أن نضع أخبارهم بعد أخبار الجرائم التى عاشها الشارع المصري في عصر قايتباى.

وأخبار المشايخ تنقسم إلى انحرافات وصراعات.

انحرافات المشايخ وما ترتب عليها:

1 ــ وقد عرضنا لبعض هذه الانحرافات في معرض الأسباب والحوادث التى أدت إلى كراهية السلطان قايتباى للقضاة ومنعهم من القيام بوظيفتهم، حتى لقد أصابته نوبة من العدالة أسفرت عن قيامه بعقاب أعوانه من الظلمة. ومر بنا في أخبار الجرائم أن الشيخ زين الدين بن عبد الرحمن بن تقي الدين تعرض للضرب بالمقارع يوم الثلاثاء 21 شعبان 875 لأنه سافر للشام ومعه أوامر سلطانية مزورة بالعزل والتعيين وأنه سبق أن سرق سرجاً مفضضاً ولم يستردوه منه إلا بعد أن دفعوا له الأموال. وبعض الانحرافات لم يتعرض أصحابها للعقوبة، فقد كانوا في منصب الصدارة مثل قاضى القضاة الحنفي في عام 885، يقول المؤرخ القاضى الحنفي ابن الصيرفي في أخبار ذى الحجة 885 : ( شاع أن قاضى القضاة الحنفي أنه يقبل الهدايا من الأكابر كابن مزهر كاتب السر وابن الجيعان، وأنه أرسلوا له المأكل والمشارب لما حضر إلى الشام فقبلها وأكلها ولم يرد منها شيئاً، وزاد على ذلك أن الخواجا شمس الدين بن الزّمن أرسل له جاريتين فقبلهما وعمّر له المكان الذى هو ساكن فيه في الصالحية من ماله وبيضّه .. وحضر صحبته من دمشق جماعة مكلوبون على الدنيا ، فقرّر بعضهم في وظائف من مات وله ولد رجل بلحية صالح للوظائف ، بل كان يباشرهم وأبوه حىّ ، وجعل بعضهم في توقيع بابه، وولّى جماعة كان عزلهم الأمشاطي (القاضى السابق للأحناف) أحدهم عمر المناوى الذى نُسب إلى الزور مراراً في أيام قاضى القضاة محب الدين بن الشحنة، وضُرب وسُجن وله أقدام وجرأة على الأمور الفاسدة، والأخر الشريف المقسى فإنه عزله بسبب ما ثبت عنده من أخذ الفلوس الكثيرة والتزوير، واستمر هو مدة ولايته معزولاَ.).

2 ــ والقاضى المرتشى يختار معاونيه ووكلاءه والذين يقفون ببابه من أرادأ الناس ، وكان من أولئك شرف الدين الفيومى، وقد ضربه الأمير بردبك البجمقدار حين كان حاجب الحجاب وجرّسه على حمار مقلوب طاف به في البلد. وضربه الأتابك أزبك مرتين، ثم ضربه قونصوه الحاج ووضع الجنزير والحديد في رقبته، ثم كتبت عليه قسامة ــ أى تعهد ــ ألا يركب بغله ولا فرساً ولا يعمل وكيلاً ولا يتكلم بين اثنين ، فأصبح أشد ما يكون فقراً وخمولاً ، إلى أن تولى عبد الرحمن بن الكويز نظارة الخاص فتقرب منه شرف الدين الفيومي هذا ، وتحسنت أحواله في عهده. يقول ابن الصيرفي عن ذلك الرجل في تلك المرحلة من حياته: ( فلما باشر عبد الرحمن بن الكويز نظارة الخاص في أيام الأشرف اينال تقرب منه بالظلم والكذب والفجور والبهتان والجرأة الزائدة وصار كأنه لم يحصل عليه شيء مما ذكر، غير أن صار يركب حماراً وهو أجهل منه، لا يعرف مسألة كاملة من مسائل العلم ، بل ولا قرأ ولا فهم ولا وعى، وإنما كان في خدمة القاضى صلاح الدين المكينى على باب قاضى القضاة علم الدين صالح البلقينى، يخدمه ويرشيه في كل قضية تكون بالباب ، ويأخذ مثله ، وصار هو عنده يدخل عليه في الخلوات والجلوات. ) وأسهب ابن الصيرفي في وصف انحرافات ذلك الرجل ، وحاول في نفس الوقت أن يظهر غضب ابن مزهر عليه ليبرئ ابن مزهر وغيره من الانغماس في إنحرافه.

3 ــ وذلك الرجل شرف الدين الفيومى نموذج للمشايخ الذين كانوا لا يأبهون بالكرامة ولا بأى عقوبة تقع عليهم من المماليك حتى لو كانت التجريس والفضيحة العامة ، كل ذلك يهون في سبيل ارضاء شهواتهم من حطام الدنيا، فكانوا يسعون للمناصب ويعودون اليها دون أن تتغير سلوكياتهم إلا للأسوأ. فكانوا أبطال أخبار الفضائح التى يتداولها الشارع المصري، ودخلوا في صفحات التاريخ التى تتسع عادة لأمثال أولئك الناس وتنسى صناع الحضارة الحقيقيين من الفلاحين والحرفيين الذين يعملون في صمت وفي شرف ولا يحصلون إلا على ما يسد الرمق.

عقوبات تعرض لها الأشياخ:

ونعرض لبعض العقوبات التى تعرض لها بعض المشايخ.

1 ــ في يوم السبت 5 ربيع الثاني 876 أحضروا القضاة المالكي ابن حريز للسلطان لأن أقاربه اشتكوه للسلطان، وحقق قايتباى معه ثم أمر باعتقاله في القلعة، واستمر معتقلاً حتى يوفّي ما عليه للناس، وفي يوم السبت 12 ربيع الثاني أطلقوه إلى منزله بعد أن أقام بالمعتقل  ثمانية أيام.

وفي يوم الخميس 24 ربيع الثاني 876 عزل السلطان القاضى الأرميونى، ولكمه ثلاث لكمات فسقط القاضى مغشياً عليه، وذلك بسبب قضية حكم فيها ذلك القاضى وكان فيها ظالماً.وشارك الداودار الكبير يشبك بن مهدى في عقاب هذا الشيخ.

وفي يوم السبت 9 جمادى الأولى 875 ضرب الداودار الكبير الوكيل لمحكمة القاضى الشنسي الحنفي وأشهره بالبلد، يقول ابن الصيرفي عن السبب ( لأنه صال وجال في الأحكام )، وبعد أن ضربه قال له: ( أنا منعتك من الكلام بين الناس وأن لا تعمل وكيلاً ولا رسولاً )، ويقول ابن الصيرفي : ( وكان قبل هذا ضربه لكن عفا عنه. وانتهى أمره بأن تدخل الأمير برقوق حتى عاد لمنصبه.). وفى دولة فاسدة تجد فيها من يتوسّط ويتشفّع للمجرمين المفسدين ليعودا الى مناصبهم وليواصلوا جرائمهم .ولكن الغريب هنا أن المماليك الأشدّ ظلما وقسوة كانوا هم الذين يحاولون إصلاح شيوخ الشرع ، ويستعملون معهم إسلوب العنف بلا فائدة . فالأساس هنا هو ظلم تقوم أعمدته على شريعة فاسدة ، يمثّلها أولئك الشيوخ أنفسهم.

وفي يوم 21 جمادى الثاني 875 طلب الداودار الكبير القاضى تاج الدين الأخميمي وحقق معه في طريقه مباشرته للقضاء، وقد أنكر القاضى ثم اعترف بالخطأ فأمر الداودار الكبير باعتقاله ثم توسط الشيخ علاء الدين الحصيني حتى عفا عنه الداودار الكبير. وتكرر ذلك في رمضان 875 إذ طلب الداودار الكبير الشريف المالكي القاضى وجماعته بسويقة السباعيين بسبب وقف فارس البكتمرى، وقد اتهم الداودار ذلك القاضى وجماعته بالتزوير، وقد شفع فيهم برهان الدين الكركي بعد أن حكم الداودار بنفيهم، وأطلق القاضى والشهود بعد جهد جهيد ، ولكن بعد أن أشهد على القاضى وشهوده بقسامة أى بتعهد ألا يشهد الشهود ولا يقضى القاضى.

وفي يوم السبت 10 شوال 875 كانت قضية القضاة ابن جنيبات، قاضى الإسكندرية معروضة أمام الداودار الكبير، وقد أمر الداودار الكبير بسجنه هو والقاضى جلال الدين البكري، ونقتطف عبارات ابن الصيرفي في تلك القضية: ( أن شخصاً من أولاد التجار المبذرين ضيّع ما كان يملكه، يعرف بابن النصري ، مات أبوه بالبلاد اليمنية أو الهندية ، وخلف بهذه البلدة دوراً وأموالاً وديوناً له وعليه، وكان الولد غائباً بمكة ، فلما حضر ليأخذ تركة أبيه، وجد قاضى الإسكندرية المعروف بابن جنيبات أثبت على التركة مالاً جزيلاً لشخص وأرسل حكمه إلى القاهرة فنفّذه له الجلال البكرى الشافعي. وحضر التركة أمين الحكم إذ ذاك تاج الدين الأخميمي الشافعي . وكان قاضى القضاة محب الدين بن الشحنة الحنفي عليه للمتوفى نحواً من ثلاثة آلاف دينار، وعلى المتوفي دين لشخص أكثر من ذلك ، فدفعه له بحضور الجلال البكرى وحكم له وعليه بذلك . وانفصل الحال وأخذه بيده مستنداً . فلمّا حضر الوارث طلب تركة موروثه وشكى حاله لعظيم الدنيا الداودار الكبير، ووقف له مرات، وذكر له أن القاضى ابن جنيبات قاضى الإسكندرية والقاضى جلال الدين البكري أثبت عليه ما ليس له حقيقة، وأن المحب الشحنة عليه لمورثه ثلاثة آلاف دينار وأن القاضيين المذكورين صنعوا له صورة وضيعوا ماله.).

وفي أول رجب 875 ضرب الداودار الكبير قاضى مدينة (صفد) الحنفي بسبب ما ثبت عليه من الظلم .

 وأمر الداودار الثاني تنبك قرا باعتقال قاضى القضاة الشافعي نفسه، وهو كبير القضاة، بسبب قضية وقف، وقد حدث ذلك في شهر جمادى الآخر 875، وقد اشتكى مستحقو وقف المدرسة الجاولية أن قاضى القضاة الشافعي صلاح الدين المكينى "استبدل من الوقف رزقا" فاستدعاه وأغلظ عليه في القول،وقال له:( قُم في الترسيم ( الاعتقال )حتى ترد الرزق)،  فقال له القاضى:( قاضى الشافعية يفعل به كذا؟ ) فردّ عليه الأمير المملوكى:(لا رحم الله الذى ولاك قاضى.!)،ويقول ابن الصيرفي معلقاً:( فلا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم، ومع ذلك أطلقه إلى حال سبيله.).

6 ــ والأمير آخور جانبك الفقيه ضرب ظُلما القاضى عز الدين البلقيني الشافعي المشهور بشفتر وذلك في شهر جمادى الآخر 875، يقول مؤرخنا  "وفي هذه الأيام ضُرب صاحبنا القاضى عز الدين ابن بهاء الدين البلقيني الشافعي المشهور بشفتر من الأمير جانبك الفقيه.. الأمير آخور الكبير علقة على مقاعده) أى مؤخرته.. ياللفضيحة.!!. ويكمل ابن الصيرفي : ( وسببها أن باسمه تصوفاً في الظاهرية برقوق )" يعنى كان له معلوم ومرتب في خانقاه الظاهر برقوق ( والصوفية لهم مدة لم يصرفوا معلوماً، والمباشرون بالوقف يصرفون لمن يختارون من الصوفية ويمنعون من يختارون، فصعد عز الدين إلى القلعة وكلّم الأمير آخور الكبير بكلام مزعج فيه نوع إساءة به ما ذكرناه، ولم ينتطح فيها عنزان.). إنّ القاضى الشيخ عز الدين شفتر خيل إليه أنه يستطيع أن يرفع صوته مطالبا بحقّه الذى أكله شيوخ آخرون هم المباشرون للوقف فكانت النتيجة أن أكل علقة على مقاعده من الأمير جانبك الفقيه.!.وشعر مؤرخنا بالمرارة فكان تعليقه على هذه الحادثة يجمع بين الاستكانة والتذمر المكتوم فيقول: ( ولم ينتطح فيها عنزان، والقتل ما يهدي وأخر الأمر الرضى ، وكل مفعول مضى، وهذه الحادثة من أقبح ما يكون في حق الفقهاء ، فلا قوة إلا بالله، اللهم انتصر له.).!.ونسى إبن الصيرفى أن كرامة الشيوخ أضاعها الشيوخ أنفسهم ، لذا من كان له منهم حق ضائع فقد ضاع كما أضاعوا العدل ، وأضاعوا معه جاههم بحيث كان من حق أى أمير مملكى أن يضربهم ويهينهم.ـ وذكر ابن الصيرفي في نفس الصفحة أن هناك بعض المشايخ الذين أثاروا حمية الأمير المملوكي جانبك الفقيه حتى جعلوه يضرب عز الدين شفتر على مقاعده، وهو الشيخ البالسي الذى كان مباشر الخانقاه الظاهرية برقوق، يقول عنه ابن الصيرفي: ( كان هو الذى تعصب على عز الدين بن بهاء الدين شفتر البلقيني عند الأمير جانبك بن ططخ الفقيهة حتى ضُرب، وقد ظهر أن الشيخ البالسي كان يختلس أموال الخانقاه، مع شركاء له...وظهر في جهته للوقف ألف دينار)،  وانتهى أمره بالسجن يقول عنه ابن الصيرفي" (وقاسى أضعاف ما فعل بابن البلقيني ، ولله الحمد، وكما تدين تدان ، والجزاء من جنس العمل.)

وشارك مماليك آخرون في ضرب المشايخ. فالأمير برقوق الذى كان كاشف للشرقية ثم نائباً للشام كان يعمل عنده القاضى هاني، وقد بلغه أن هانى ( مدّ يده وبلص (أى سرق) من الخولية والمشايخ نحو خمسمائة دينار، فطلبه، وسأله عن ذلك ،فأجاب بعنف فطلب غلامه ، فأنكر ، فضربه، فأقرّ، وأحضر المال في الحال . فعند ذلك ضرب هاني المذكور وبهدله ووضعه في الحديد وطب منه ثلاثة آلاف دينار، والأمر لله الواحد القهار. ) وقد حدث ذلك في أوائل شهر صفر 874.

وفي يوم الخميس 20 محرم 875 ضرب الأمير اينال الأشقر الشيخ زين الدين الأبوتيجي ( ضربه الأمير ضرباً مبرحاً نحواً من ثلاثمائة على مقاعده ، وسبب ذلك أن امرأة ادعت على ورثة الشيخ المناوي أن بيدها مكتوباً لها بأراضى أنبوبة(امبابه) وأن المناوي (وكان قاضياً للقضاة ) وضع يده عليها بغير طريق شرعي ، فسئل عن ذلك،( أى سئل الشيخ زين الدين الأبوتيجي،) كونه وصياً على أولاده القاصرين عن درجة البلوغ ، فأنكر أنه ليس بوصي. وفي نفس الوقت حاول أن يصالح المرأة ، ودفع لها عشرة دنانير لتسكت... فصالحها على عشرة دنانير وبخل على النقباء والرؤوس بشيء من الحطام.) أى لم يقدم لهم رشوة، ( فبلّغوا الأمير اينال المذكور عن ذلك فطلبه، وقال له : "كيف أنكرت وصالحت"؟ )أى كيف ينكر حق المرأة ثم يتدخل ليصالحها ؟ . وانتهى الأمر بضربه ضرباً مبرحاً.

وفي أواخر شهر محرم 875 ( عوقب الشيخ عمر المناوى القاضى الحنفي الذى كان عزل وضرب وحبس وفعل فيها ما لا يوصف بسبب ما اشتهر عنه من الزور في مكتوب وقف واستمر معزولاً، فركب شيخناً الشيخ تقي الدين الحصنى بسببه إلى قاضى القضاة محب الدين بن الشحنة وسأل في إعادته فامتنع فألح ففوض أمره إليه فأعاده.). أى هو فساد منّه فيه ..

صراعات المشايخ فيما بينهم في عصر قايتباى:

1 ــ في أواخر شهر جمادي الثاني 876 عزل السلطان القاضى الشريف الوفائى الملقب بدموع من القضاء، يقول ابن الصيرفي : ( ولذلك أسباب ، منها : أن الشيخ شمس الدين الأمشاطى الحنفي له مدة يسعى في ذلك ووجد له فرصة، وقد تكلم الناس فيه وفي عبد البرّ قاطبة بما تمجّه النفوس مما يصدر منهما، وبلغ ذلك مولانا الأعظم نصره الله وأنه يتعاطي كذا وكذا، ومنها أن العلائى سيدى علي بن خاص بك أعزه الله ، أخبروه عن الشريف ، أنهم وجدوا غلمانه وشهوده عند زوجة شخص من غلمانه، وأخبروه أنه يجلس بين القصرين في محل الحكم وهو غائب الذهن ، وطلبه وهدده، فيمكن أنه أعلم السلطان به. ).

والأسباب التى ساقها ابن الصيرفي لعزل القاضى دموع تعكس الصراع بين المشايخ، فالقاضي دموع وثيق الصلة بعبد البر ابن أبى الشحنة ووالده محب الدين قاضى قضاة لحنفية، هذا بالإضافة إلى نواح أخري من الانحلال الخلقى يشمل تعاطي المكيفات والعلاقات بالنساء وابن الصيرفي يشير دون إعطاء تفصيلات، وهذه طريقته فيما يخص السلوك المنحرف لأعيان عصره، وأن الشيخ شمس الدين الأمشاطي قد وجد في انحراف القاضى دموع فرصة الكيد له عند السلطان خصوصاً في فترة غياب عبد البر ابن أبى الشحنة في الشام وهو الحليف الأكبر للقاضى دموع.

لقد كان الصراع بين المشايخ هو الوجه الآخر لسلوكياتهم التى طغت على أخبار عصر قايتباى . وكان الصراع على المناصب أبرز تلك الخصومات، وشهدنا طرفاً منها في تدخل الشيخ شمس الدين الأمشاطي لدي السلطان ليعزل القاضى دموع.

2 ــ وفي يوم الخميس 19 صفر 875 تشاجر الشيخ القاضى أبو بكر الأبشيهي مع القاضى شهاب الدين الصوفي بسبب وظيفة الخطابة في مدرسة المغلبية طاز. وانتهى الصراع بينهما بالوقوف أمام السلطان، وتدخلت أطراف في ذلك النزاع، يقول ابن الصيرفي: ( والمؤلّب على الأبشيهي- كما بلّغني الشيخ الإمام البرهان الكركي إمام المقام الشريف نصره الله .! ) أى كان الشيخ برهان الدين الكركي إمام مسجد القلعة والذى يصلى إماماً بالسلطان منضماً للشيخ شهاب الدين الصوفي ضد الشيخ أبى بكر الأبشيهي، وربما كان الشيخ برهان الدين الكركي هو الذى أوصل القضية إلى السلطان قايتباى. ولأن مؤرخنا ابن الصيرفي من محبي الشيخ برهان الدين الكركي كما يبدو من سطور تاريخه (- كما بلّغني الشيخ الإمام البرهان الكركي إمام المقام الشريف نصره الله .! )، ومن انحيازه التام للسلطان وكل من حوله، لذا نراه بين السطور ينحاز  ضد القاضي ابى بكر الأبشيهي، يقول عنه: ( أظهر الأبشيهي خفّة ، وصار يقول عن نفسه أنه عالم وله مصنفات ومؤلفات، فأهين ولم يلتفت إليه. ) ولقد كان للأبشيهي مؤلفات فعلاً تشير الى علمه وإطلاعاته ومن أهمها "المستطرف في كل مذهب مستظرف" . ويبدو أن وصول القضية إلى القلعة والسلطان حيث انحاز الكركي أمام السلطان ضد الأبشيهي قد قلب الأمور ضده فقد أهانه من هناك ولم يلتفتوا إليه، ثم تدخل كاتب السر فأنقذه، يقول ابن الصيرفي : (ولولا إغاثة الله تعالى بملاحظة رئيس الدنيا ابن مزهر الأنصاري ما حصل عليه خير .!) إلا أن السلطان تأثر بالجانب الأخر وكتب لنقيب الجيش أن يأخذ تعهداً على أبى بكر الأبشيهي بألا يعمل قاضياً ولا شاهداً. وولّى الأبشيهي وجهه شطر الداودار الكبير وشكى له حاله : ( فعطف عليه وشفع فيه ورسم أن يكون على عادته ومن عارضه يكون خصماً لعظيم الدنيا الداودار الكبير.). يهمنا هنا أنّ موقف مؤرخنا إبن الصيرفى المنحاز ضد الأبشيهى وتحامله عليه يفقده نزاهته كمؤرخ ، بل ويجعلنا نعتقد بأنه كان طرفا فى صراعات الشيوح ، وهذا متوقّع ممّن يصل الى منصبه ويكون قريبا من صنّاع السياسة ، وأهمهم إبن مزهر كاتب السّر اللصيق بالسلطان قايتباى والمؤتمن على أسراره.

3 ــ وقد تقع فتنة ومعارك لأسباب تافهة تؤكّد تفاهة الشيوخ وتدنى مستواهم الخلقى والحضارى ، فقد يتشاجرون على أمر تافه مثل الجلوس على مقعد ، فتثور أزمة يتدخل فيها العوام وينهبون قصر القاضى ويأسرون حريمه، وتصل الأزمة إلى السلطان في القاهرة . وقد وقعت تلك الحادثة في القدس في عيد الفطر 875، يقول ابن الصيرفي: ( ووصل جماعة من علماء القدس الشريف وأجلّهم أبو شريف بسبب مخاصمة وقعت بينهم وبين قاضى القدس وشيخ الصلاحية المسمي غرس الدين خليل أخى أبى العباس الواعظ،  واختلف في الحضور على أقوال، فقيل أن المقر الشرفي الأنصاري،( يقصد كاتب السر ابن مزهر) لما حضر عائداً من البلاد الشامية زار القدس الشريف فحضر إليه العلماء والفضلاء فجلسوا عنده، فجلس الشيخ أبو شريف عن ميمنة الأنصاري وجلس غرس الدين القاضى على ميسرته،ثم قال لأبي شريف كلاماً معناه، أن هذا المجلس الذى جلست فيه مجلسي فقم منه، فأجابه بأن هذا مباح، وكان بينهما فتنة قديمة، فانتشر الكلام، واقتضى الحالى على ما بلغني أن عوام البلد هجموا على القاضى فى بيته ، وسبوا حريمه، ونهبوا ما فيه ، وكتبوا محضراً بأفعاله الذميمة وحضروا به إلى القاهرة ، وأرسل القاضى كتاباً بصورة الحال إلى السلطان وكتاباً إلى عظيم الدنيا الداودار الكبير، وهو يدعى أنه من جهته (أى من صنائعه ) ، وعرفهما بما اتفق له مع أهل القدس، فلما وصل خصومه تمكنوا من الوقوف بين يدى السلطان وتوجهوا لبيت عظيم الدنيا الداودار الكبير ، حفظه الله ، فحال وقوع بصره عليهم أمر بإخراجهم وبهدلتهم ، وهو معذور لما بلغه، فخرجوا على أقبح وجه. ). وما ذكره ابن الصيرفي يعطي فكرة صادقة عن نوعية أولئك الأشياخ، برغم أنه يصفهم بأنهم العلماء الفضلاء.

4 ــ وقد كان ( الحافظ ) شمس الدين السخاوى المؤرخ عالم الحديث أعلم أهل عصره في الحديث في الربع الأخير من القرن التاسع، أى في عصر قايتباى، ومع ذلك فقد أضاعوا منصبه في مدرسة دار الحديث بالمدرسة الكاملية في بين القصرين بسبب مبدأ التوارث الذى يجعل الورثة يرثون المنصب دون كفاءة ويحرم منه صاحب التخصص والكفاءة حتى لو كان فى منزلة شمس الدين السخاوى. يقول ابن الصيرفي: ( وقع لصاحبنا الحافظ شمس الدين السخاوي معه،( أى مع الشيخ ابن صالح الأزهرى) المجذوب بحضورى ،( أى بحضور ابن الصيرفي) فكان أمراً عظيماً ، وهو أن الشيخ شمس الدين المذكور أخذ درس الحديث بالمدرسة الكاملية بين القصرين التى هى دار الحديث عن الشيخ كمال الدين ابن إمام الكاملية المذكور بحكم وفاته وله أولاد ثلاثة رجال من الناظر الشرعى له به، فوقف أولاد الشيخ كمال الدين ينازعون في وظيفة والدهم، ووصل أمرهم للمقر العلائى ابن خاص بك وللمحتسب ولحاجب الحجاب وللسلطان وعجزوا أن يأخذوا الوظيفة من السخاوى ،لأمور ،منها أن الحق صار له وأنه من أهل التحدث ( الحديث ) بخلافهم،( أى بخلاف أولاد الشيخ كمال الدين)، ومنعوه ثم تعصبوا عليه ثم رسم له السلطان بكتابة توقيع باستقراره في وظيفته ومنع من يعارضه، وانقطع اليأس (هنا خطأ وقصده انقطع الرجاء) من الوظيفة لأولاد الشيخ كمال الدين، واتفق حضور صاحب الترجمة (يقصد ابن صالح الأزهري المجذوب) في ختمة قريبة بجامع الغمري وحضر فيه جمع جم ومن جملتهم الشيخ السخاوى فقال له: لا تغتر بأنك أخذت الوظيفة من أولاد فلان، عُد (أى أعد لهم)  وظيفتهم، وإلا فنحن بعد يومين أو ثلاثة نأخذهم لهم، فما مضى ما ذكره، حتى رسم لهم بأخذ الوظيفة بمساعدة خوند وجوهر المعينى الساقي، وما ساع الشيخ شمس الدين السخاوى إلا الامتثال وأعذر( أى اعتذر لهم ) فيها وترك حقه.).وقد ذكر السخاوى هذه القصة في تاريخه الضوء اللامع 3/85، 8/438.

5 ـــ وقد يحدث صراع بين المشايخ بسبب الأراضي الزراعية وملكيتها واستئجارها والانتفاع بها . وهناك قضية من هذا النوع حدثت يوم الثلاثاء7 شوال 876 وعرضت بحضور السلطان وحضور قضاة القضاة ونوابهم، وكان صاحبها الشيخ برهان الدين العجلوني الذى جاء من القدس بسبب هذه القضية، وقد أورد ابن الصيرفي وقائع هذا المجلس من خلال حضوره فيه . يقول عن الشيخ برهان الدين العجلونى أنه (إستأجر من وكيلين عن أميرين بالشام قطعة أرض مدة معلومة ، وحكم بها حاكم شرعى، وتوجه ليزرعها فوجدها مزروعة لغيره، فأخذ من الذين زرعوها مقاسمته على عادة البلاد الشامية، فحضر الأميران اللذان وكلا الوكيلين إلى القدس وسألا عن ابن العجلوني فاجتمعا به وطلبا منه المال الذى استأجر به الأرض، فأجابهم : أثبتوا . فحصل عندهما قهر منه فعزلا الوكيلين، فلما حضر إليه الوكيلان وطالباه بالمال قال لهما: أنتما معزولان من التوكيل، فقام عليه ناظر القدس الذى هو محمد الشامى وجماعته وحضر فخاصمهم ووصل إلى القاهرة فشكى عليه من عند الأمير قانبك الداودار الثاني، وكان جالساً في مجلسه فقال له: قم اسمع دعوى غريمك أو وكّل، (أى اتخذ وكيلاً أو محامياً ) ، فغاظ وشاط وقال: أنا رجل عالم ما أكرم ؟، فلم يلتفت لكلامه ورسم عليه، فنزل من المقعد ،وسمع للدعوى ،مع أن المذكور من أهل العلم ،غير أنه خفيف العقل أهوج، فوقف للسلطان يشكو من الداودار، ويذكر عنه أنه سفيه وأنه كذا، ويقول السلطان ما يحل له أن يوليه ناظر القدس لأنه ضيع أوقاف القدس ،ويحط على علماء مصر ، ويقول أنهم ما يعرفون شيئاً من العلم، وأن السلطان مأكله حرام ،هو وجميع من في رعيته ، وأن السوهاجي حكم عليه بدفع المال، فأخرجه عن دائرة الإسلام بحضور السلطان وغيره، فلما عقد المجلس في هذا اليوم المذكور قال السلطان لرئيس الدنيا كاتب السر: أنت تأكل من حرام، وقال القضاة أنتم ما تعرفون شيئاً، هذا قال عنكم، أى ابن العجلوني، وقال عن ناظر القدس أن ولايته ما تحل، فقال السلطان نصره الله: هو لوطي أو زاني ويشرب الخمر، فرسم بنفيه في جنزير إلى القدس، فتدخلوا عليه بسبب ذلك ، ( أى تشفعوا فيه ) حتى بطل النفي. ووقع الثناء على الدودار الثاني وأحكامه وعدله في مجلس السلطان. ). فالشيخ العجلونى أكل حق الأميرين بالشام ثم حضر للقاهرة مقبوضاً عليه، ومع ذلك هاجم السلطان والعلماء، وانتهى أمره بالنفي ولكن تدخل أولاد الحلال وأبطلوا النفي.

6 ــ وحدث نزاع بسبب عقار وأموال، كان بطله قاضى القضاة محيي الدين بن الشحنة وذلك يوم 3 محرم 875 يقول ابن الصيرفي : ( وفيه ختم على حمام قاضى القضاة الحنفي المحب بن الشحنة المجاور لمنزله، وسبب ذلك أن الحنفي اقترض من شخص من نوابه، (أى من القضاة الأحناف التابعين له .! ) يسمى محمد إبن الدهانة أربعمائة دينار ، ورهن عنده الحمام المذكور. ثم عرف ابن الدهانة الذى استدان منه ابن الشحنة، أن ابن الشحنة رهن نفس الحمام عند تاجر من قبل، فاشتكى قاضى القضاة ابن الشحنة عند الأمير تغري بردى خازندار الداودار الكبير، وله به معرفة، فأوصله إلى أستاذه الداودار الكبير، وصمم الداودار الكبير على أخذ المكان. ووجدها فرصة الشيخ سعد الدين الديري ليسعى في قضاء الحنفية، ويكيد للشيخ ابن الشحنة، وقد بذل رشوة في ذلك المنصب قدرها ثلاثة آلاف دينار.). نحن هنا لسنا أمام قضاة بل مجموعة من الأفّاقين والنصّابين المحتالين .. ولكنهم يمثّلون بكل صدق شريعتهم السّنية ، ويطبّقونها بكل إخلاص ، وبهم وبها تأكّد الظلم ..

ونعود الى القاضى مؤرخنا إبن الصيرفى الذى ننقل عنه ، فبعدها بأيام ، وفي يوم الخميس 6محرم 875 كان هناك نزاع على ورثة قاضى القضاة حسام الدين بن حريز بين أولاده وأولاد أخيه وأخيه سراج الدين، وعقد مجلس للصلح بينهم في بيت كاتب السر ابن مزهر الأنصاري وانتهى أمرهم على غير شيء.!!.

7 ــ وقد وقعت خصومات بين المشايخ بسبب النساء. ففي شهر صفر 876 وقع نزاع بين القاضى عز الدين العيسي والشيخ شمس الدين الجوجري الشافعي كعادتهما، حسبما يقول ابن الصيرفي ووقع بينه وبين الشيخ شمس الدين الجورجي مخاصمة كعادتهما ، وترافعا عليه أنه قذف زوجته وأساء عليه ، وثبت ذاك عنده فأمر  بحبسه ماشياً إلى البرج بالقلعة.

وفي يوم 13 جماد الثاني 876 حدث أن قاضى القضاة الشافعية السابق أبو السعادات البلقيني شكته زوجته وبنت عمه بنت البلقينى للسلطان بإغراء أخيها الشيخ صلاح الدين البلقينى فأرسل إليه السلطان واستحضره وأخافوا أهل منزله، وعقد لهما مجلس ببيت ابن مزهر كاتب السر، وحضرته زوجة قاضى القضاة أبى السعادات(.. وسألها كاتب السر، عن شكواها، فادعت أنها استدانت له مائتى دينار وخمسين ديناراً وأنها كلما طالبته بذلك يأسى عليها ولم يدفع لها شيئاً، فرسم لها أن يحضر غداً تاريخه في بيته ويحضر الشيخ جلال الدين بن الأمانة ويقضى بينهما في ذلك على الوجه الشرعى).ويقول ابن الصيرفي معلقاً على ذلك: ( فانظر إلى إهانة القضاة والعلماء والأصلاء .!! وانظر إلى النساء وكيدهن.!! وانظر إلى حقارته ودناءة نفسه كيف أبقاها في عصمته .!! ما ذاك إلا عدم عقل، فالله المستعان..!!).

8 ــ وقد يحدث التنازع بسبب رغيف خبز وطبق طعام.

في يوم الاثنين 3 ربيع الثاني 877، قبل سفره للشام أقام الداودار الكبير مأدبة حافلة للطلبة في جامع الأزهر على أمل أن ينتصر على شاه سوار، يقول بن الصيرفي :( صنع عظيم الدنيا أمير سلاح الداودار الكبير وباش العسكر المنصور ومع ذلك ــ نجاه الله من المهالك ــــــ معروفاً عظيماً للفقراء ( أى الصوفية ) القاطنين بجامع الأزهر في كل يوم من الخبز ألفاً ومائتا رغيف وطعام يطبخ لهم في كل يوم فجزاه الله خيراً ، وتقبل منه. ثم أنه بعد سفره تخاصم أهل الجامع فيما بينهم وصاروا يرافعون بعضهم ويقولون: هذا له وظيفة، هذا له قراءة، حتى بطل ذلك. والأمر بيد الله المالك.) بينما كان يتنازع الآخرون على المناصب والعقارات والأموال فإن الطلبة في جامع الأزهر كانوا يتنازعون على الرغيف.. حتى أضاعوه.

9 ــ هو مجتمع من الزبالة .كان يقوده شيوخ من زبالة المجتمع المصرى فى عصر قايتباى.

ولكن ما لبث أن أعادت الوهابية لمصر ( عصر الزبالة ).!

أخيرا: الوهابية دين الزبالة الأرضية

1 ــ عشت عصر عبد الناصر (المستبد العلمانى) ، ولا تزال الأفلام السينمائية المنتجة فى عهده تعكس واقع الحياة الاجتماعية وقتها.  كان الفساد هامشيا وممثلا فى ( الحرامى ) وهو النشّال فى الاتوبيس والمحتال فى القطارات والمرتشى فى بعض المصالح الحكومية. وكان الانحلال الخلقى هامشيا مع إن فستان الأنثى كان يرتفع أحيانا فوق الركبة ، وكانت فساتين السهرة تكشف معظم الصدر والأكتاف، وكانت المصايف تعجّ بالمايوهات من القطعة الواحدة والقطعتين . وكانت لقاءات العشّاق والمحبين علنية حول النيل وفى المنتزهات وفى دور السينما تلاحقها الدعوات لهم بالزواج والاستقرار وليس باللعنات والاستنكار. وكان القبطى المصرى يمارس دوره الدينى والسياسى والاجتماعى بحرية، ولم يكن الحضور فى المساجد والكنائس كثيفا إذ إنشغل الناس عن المسجد والكنيسة بالمشروع القومى الناصرى . كان الأزهر بمناهجه المتخلفة المنتمية للعصور الوسطى معزولا عن التأثير الهائل فى المجتمع ، وكانت كتبه الصفراء العتيقة لا تخرج عن جدران التعليم الأزهرى ، لم تكن بعد قد إنتشرت وامتدّت الى المجتمع وأصبحت أكثر بياضا وأكثر تأثيرا وإنتشارا.وكنا ونحن طلبة فى التعليم الأزهرى فى الستينيات نشعر بغربتها عن المجتمع ، ونحسّ بالعار من قراءتها. كانت نغمة التدين خافتة وشأنا شخصيا لا يتدخّل فيه أحد ، ولا يتاجر به أحد. لم يكن هناك نفاق دينى ولا تدين سطحى مسيطر ولا وجود للإنحراف الدينى سياسيا وإقتصاديا ، لذا كانت الأخلاق أكثر تطهرا والمعاملات أكثر رقيا ، والعلاقات أكثر صفاءا. كل ذلك بسبب قلة تأثير الدين الأرضى فى حياة الناس.

2 ــ تسللت الوهابية منذ عصر السادات الى أن تحكّمت فى المجتمع المصرى ، فهبطت به الى الحضيض فى الاخلاق والسلوكيات والعلاقات . ساد الفساد وأفسد العباد ، إزدهر الفساد الخلقى بإزدياد جرعة الدين الوهابى وسيطرة الكنيسة على أتباعها والتكاثر المضطرد فى عدد المساجد والكنائس فى كل حارة وشارع وقرية ، ومع تغلغل التعليم الدينى فى التعليم العام ( العلمانى ) وفى مراحل التعليم الأزهرى من الحضانة الى الابتدائى والاعدادي والثانوي والجامعات الاقليمية التى تغطى الآن قرى ومدن العمران المصرى ، وإزدهار مماثل لمدارس الأحد ومؤسسات التعليم الكنسى حيث وجد المسيحى المصرى فى كنيسته ملاذا وعوضا عن الغربة التى يعانيها فى وطنه طالما يعجز عن الهجرة من وطنه. انتشر النقاب والحجاب واللحية والجلباب ومعها الانحلال الخلقى الجنسى العادى والشّاذ و إدمان التحرش الجنسى العلنى وسوء الاخلاق والبلطجة العلمانية والسلفية ، وإنتشر مع هذا النفاق إدمان هائل يتركّز فى أن يعذّب الناس بعضهم بعضا وأن يتحرّش بعضهم بعضا ، فى الشارع وفى المصالح الحكومية وفى المؤسسات الخدمية من مدارس ومستشفيات وفى وسائل المواصلات ووسائل الاعلام. وانعكس هذا على الشوارع والطرقات والأحياء والقرى المصرية ، فالفلاح يتعمّد حرق قش الأرز ليلوّث الجوّ ، ويتعمد الناس صرف المجارى فى النيل ليلوثوا ماء الشرب ، ويتعاون الجميع فى الإثم والعدوان لترتفع جبال الزبالة فى كل مكان دليلا على سمة هذا الجيل المصرى، فهو( جيل الزبالة ) أو( جيل زبالة ). هى زبالة فى القلوب ، وزبالة فى السلوك ، وزبالة فى البيئة والطريق.هذه الزبالة هى التعبير الواضح عن تحكم الوهابية السّنية وقادتها من (الزبالة البشرية ) فى الدعوة وفى العمل السياسى .

3 ــ هذه الزبالة بإختصار هى الوهابية السّنية .

4 ـــ و... آه من مجتمع يعيش ويسير متدثرا بالزبالة الأرضية أو بالوهابية ..!!

 

 1) الهصر: 247، 502، 503، 337: 338، 341، 342، 224، 237، 238، 260، 266: 268، 235، 238، 239، 240، 129، 169، 201.

  1. الهصر: 360، 207" 208، 266، 458: 460، 417: 418، 189: 190، 191، 230، 365: 366، 488.

 

الفصل الثانى عشر : إبن الصيرفى قاضيا ظالما ومؤرخا ظالما  

إبن الصيرفى قاض ظالم

1 ـ هناك ظالم بنفسه وظالم لنفسه. الظالم بنفسه هو المجرم الآثم ، والظالم لنفسه هو الضحية المظلوم الذى رضى بالظلم فلم يقاوم ولم يهاجر من بلاد الظلم الى أرض الله الواسعة ليمارس حريته وكرامته فى المدى المتاح له من عمره .الظالم بنفسه المجرم الآثم هو ايضا نوعان :الذى يقترف الظلم بنفسه وبأعوانه،ثم الذين يدافعون عن الظالم ويهللون له ويباركون ظلمه ويؤيدونه ضد المظلومين. وقد عايشنا مسيرة الظلم المملوكى فى تطبيق السلطان قايتباى للشريعة السّنية المؤسسة على الظلم بالنقل عن مؤرخنا القاضى إبن الصيرفى، ورأينا موالاته للسلطان قايتباى ونظام حكمه كأحد أدوات هذا النظام بحكم عمله قاضيا.

2 ــ وإبن الصيرفى لم يتحدّث فى تاريخ ( إنباء الهصر بأبناء العصر ) عن نفسه وسيرة حياته بإعتباره ضمن أبناء العصر الذين يؤرّخ لهم، فمع أنه سجّل أحداث المجتمع بالتركيز على أخبار السلطان وأخبار الفقهاء والقضاة وأرباب السلطة فلم يخبرنا عن نفسه ، وهو أحد المشاركين فى أحداث العصر. كانت هناك قضايا وأحداث شارك فيها، ومجالس للحكم القضائى حكم فيها ولكنه لم يخبرنا بها،ولم نعرف موقفه منها، أى إنّ (المؤرخ ابن الصيرفى) كتم عنّا عمدا ما فعله (القاضى إبن الصيرفى).!.

وقد عرفنا مما كتبه أن تعيين القضاة وإصدارهم لأحكامهم كان قائما على الرشوة والتزوير والمحسوبية والجهل والوراثة. وبالتالى فإنّ إبن الصيرفى لم يشذّ عن هذا السياق الظالم. وبالتالى فإنه أغفل تسجيل ما كان يدور فى مجلس حكمه وتسجيل ما شارك فيه من أحداث حتى لا يفضح نفسه، أى إكتفى بتسجيل مساوىء الآخرين وكتم مساوئه ، ونشر فضائح الآخرين وأغفل فضائحه . وحتى فى القضية الوحيدة التى ذكرها عن تزويجه طفلة يتيمة من بلطجى نعرف أنه كان ظالما حين إختار أن يزوّج طفلة لهذا البلطجى المجرم ، بل أنه تحامل على أهل بولاق لأنهم إنتصروا للطفلة المظلومة ووصفهم بالغوغاء . وفى النهاية فإنّ ابن الصيرفى واحد من طبقة القضاة الذين كانت وظيفتهم الظلم . وبالتاى فقد باشر الظلم بنفسه قاضيا ، فى دولة تطبّق شريعة الظلم ، وكان هو من آلات تنفيذ هذا الظلم . أى إن إبن الصيرفى هنا هو ( ظالم بنفسه ) شأن السلطان قايتباى. وكان أيضا مواليا للظالم الأكبر قايتباى ، وهذا يسنلزم توضيحا وتأكيدا.

 إبن الصيرفى مؤرخ ظالم :

1 ــ وإبن الصيرفي في تاريخه "أنباء الهصر" تنكّر لوظيفة المؤرخ الأمين، وغلبت عليه صفة القاضى المملوكي وولائه للسلطان الظالم، فانبرى يدافع عن ظلم السلطات المملوكية ويبرر أخطاءها فخان ولاءه للحقيقة التاريخية وخان انتماءه للشعب الذى أنجبه، وكان يرجو منه ومن أمثاله أن يقولوا كلمة حق وأن يرفعوا لواء القسط. لقد رأينا الصيرفي وقد جعل السلطان قايتباى كعبة يطوف حولها عابداً خاشعاً ، وهو بذلك لا يمثل القاضى المملوكي فحسب وإنما يمثل فقهاء السلطة في كل زمان ومكان، خصوصاً إذا كانت تلك السلطة دينية عسكرية تتفرغ للعسف بالناس باستخدام الفقهاء والكهنوت الدينى .ومن هذا الموقع يكون أولئك الفقهاء والعلماء شركاء للسلطة العسكرية فى ظلمها ، يبررون أخطائها ويدافعون عن ظلمها، وأهم من ذلك كله يعطونها الصفة الشرعية لكى ينتشر الظلم آمناً من كل شبهة للاعتراض والانكار إلى أن يصبح ممارسة الظلم نوعاً من أنواع التدين.

2 ــ والخط العام في آراء الصيرفي هو تبرئة السلطان قايتباى من المظالم التى وقعت في عهده وتحميل المسئولية للأعوان الذين لا يبلغون السلطان بالحقيقة. وذلك منهج معروف وشائع في التبرير لم يخترعه ابن الصيرفي ولم يكن آخر من سار فيه، إذ لا يزال مفتوحاً وممداً أمام سدنة الحكام الظلمة في كل زمان ومكان.

وقد ذكر ابن الصيرفي المظالم التى ظهرت عام 873 وازدادت وطأتها بظهور المجاعة والطاعون، وحرص في نفس الوقت على تبرئة سيده قايتباى فقال: ( والسلطان ــ نصره الله ــ ما يظن أن من ولّاه من الوزراء والاستادراية والكشاف ومشايخ الأعراب يصلون إلى هذا الحد الفظيع.). وينسي ابن الصيرفي مسئولية السلطان الكاملة، فأولئك الظلمة قد عيّنهم السلطان بعد أن دفعوا، "البذل" "والبرطلة" أى الرشوة، ولابد بعد أن اشتروا المنصب أن يستردوا من الناس أضعاف ما دفعوا، وإذا تطرف أحدهم في سلب الناس كان السلطان يصادره ويستصفي أمواله تحت التعذيب، وقد كانت له "شرطة سرية" وعيون تتبع أصحاب الثروات من أرباب الوظائف بل والتجار، وحتى إذا مات أحدهم كانوا أسرع من الورثة إلى اقتناص نصيب السلطان في التركة والويل لهم إذا أخفوا شيئاً عن السلطان، ورأينا طرفاً من ذلك، فكيف يأتى ابن الصيرفي بعد أن أورد لنا بنفسه هذه الأخبار ليدافع عن السلطان بأنه ما كان يعلم. والشاعر يقول :

 

إن كنت لا تدرى فتلك مصيبة

 

وإن كنت تدرى فالمصيبة أعظم

 

ولكن السلطان قايتباى كان يعلم ، وكان يتصرّف على أساس علمه حتى لو أدى تصرّفه إلى موت الضحية تحت سياط التعذيب، وابن الصيرفي نفسه ذكر أن السلطان عذّب يحيي بن أبى الفرج حتى تقطّع لحم جلده ومات، وكل ذلك حتى يعترف بما خبّأه من أموال يمكن أن يستحوذ عليها السلطان، يقول ابن الصيرفي عن ذلك الأمير التعس وما قال له : ( أذكر من لفظة أنه صودر تسع عشرة مرة.. واستمر على ذلك إلى أن صادره الملك الأشرف قايتباى أول مرة وثانية. وهو معذور فيه، فإنه يدعى فقراً .) أى فالسلطان معذور في رأي ابن الصيرفي إذا قتل ذلك الأمير السابق الذى باع كل ما يملك، فإنه يدعى فقراً والسلطان يعتقد أنه يدعى فقراً ولديه معلومات أنه لا يزال يخبئ أموالاً له ولا يريد أن يستحوذ عليها، لذا فهو معذور أن قتله تحت السياط. أى كان السلطان يعلم، وربما يعلم (أكثر مما ينبغي )، وكان يظلم ويعذّب الضحية تحت مسئوليته .ولم يكن أعوانه إلا منفذين لأوامره، ولم يكونوا إلا سوطاً لظلمه. وذكر ابن الصيرفي ما حدث لمجاهدى ادكوا حين هزموا مركباً افرنجياً واستولوا عليه وسلبهم الأمير قجماس حقوقهم، فجاءوا يستغيثون بالسلطان فاعتقلهم مع الأسرى الفرنجة وضربهم وأهانهم وحزن الناس من أجلهم، ولا يخفي الصيرفي حزنه من أجلهم ولكن لا ينسي مع ذلك الدفاع عن سيّده قايتباى فيقول: ( فما هان على غالب الناس ترسيم على أهل ادكو فإنهم مجاهدون صلحاء وصنعوا جميلاً غير أن مولانا السلطان نصره الله غُطّي عليه أمرهم.).ولا يملّ مؤرخنا من ترديد نفس الحجة وهى أن السلطان لا يعلم، فهو يتحدث عن مظالم 875 وآثارها السيئة على الناس فيقول: ( وأما الناس فصاروا ثلاث أثلاث، الغني افتقر والمكتسب ما يفي بنفقته، والفقير فبعد أن كان يسأل في الرغيف صال يطلب لُبابة... وأما غير ذلك فمن جهة: الظلم والجور والأحكام الباطلة وانتهاك حرمة الشرع وبهدلة القضاة والفقهاء وعدم نصره المظلوم، وفشا هذا الأمر وانتشر.) ثم يسارع بتبرئة سيده قايتباى ، فيقول : ( وفي الواقع فسلطان مصر الملك الأشرف أبو النصر قايتباى نصره الله، سلطان عظيم شجاع ، فارس معدود من الفرسان، ديِّن عفيف الفرج.. وله ورد في الليل من صلاة وقيام.. ولو بلغه المقربون لحضرته ما يحصل على المظلومين.. لا نصف المظلومين من الظالمين.)

3 ــ وابن الصيرفي كان من ذلك الصنف الوضيع من كلاب السلطة الذى لا يكف ولا يكتفى بالدفاع عن أسياده ، بل يهاجم في نفس الوقت الأحرار الذين يجرءون على قول كلمة حق أمام السلطان الجائر، ونعرف هذا من نقل المؤرخ ابن الصيرفي لمجلس سلطانى حضره، وكان جميع الحاضرين يأملون أن يسقط السلطان غير المستحقين للنفقة من المماليك الأثرياء بينما يريد السلطان أن يوافقه الجميع على أخذ أموال الأوقاف والتجار، ولم يجرؤ ابن الصيرفي على مواجهة السلطان بالحق، وحين تحدث أحد القضاة بالحق أمام السلطان أفصح عما يعتمل في نفوس الجميع عاقبه الصيرفي فحرمنا من معرفة اسمه وصفته حقداً منه على ذلك القاضى الشجاع، يقول ابن الصيرفي يصف ذلك المجلس: ( فتكلم بعض القضاة بأن الظلم لا يجوز في ملّة من الملل، لأنه قصد بذلك السلطان، لأنه بلغه عنه أنه يريد أن يأخذ فائض أموال الأوقاف وأموال التجار، ثم أن القاضى المذكور أخذ يقول أن السلطان له النظر العام ينظر فيمن يستحق يبقيه في الديوان، ومن لم يستحق يمحوه من الديوان، وتكلم شيخنا أمين الدين الأقصرائى بكلام ساعد فيه القاضى المذكور وعضّده..). احتفل ابن الصيرفي بشيخه الأقصرائي حين تشجّع (وعضّد القاضى المذكور) في كلمة الحق.. أما ذلك (القاضى المذكور) الذى بدأ بقول الحق فقد تحول إلى نكرة في تاريخ ابن الصيرفي الذى حفل بآلاف الأسماء والألقاب، والسبب أن القاضى المذكور الذى لا نعرف اسمه ــ مع شديد الأسف ـــ تشجع وقال كلمة حق أمام سلطان جائر في وقت جبُن فيه ابن الصيرفي.

4 ــ وابن الصيرفي عاصر مؤرخاً مشهوراً هو جمال الدين أبو المحاسن بن تغري بردى الذى كان حاداً في هجومه على قايتباى وأمرائه، وسلك في ذلك طريقة أستاذه المقريزي في تاريخ "السلوك". وقد استشهد ابن الصيرفي بفقرات طويلة من تاريخ أبى المحاسن موافقاً إياه في الجميع إلّا ما فيه انتقاد للسلطان قايتباى والداودار الكبير يشبك. عندها نجد ابن الصيرفي يتجرد دفاعاً عنهما وهجوما على المؤرخ أبى المحاسن ،مع أن ابن الصيرفي كما يظهر في أغلب ما كتب كان أقرب للهدوء والمسألة، ولكنه كان يخرج عنهما إلى العنف إذا هوجم أسياده المماليك.

5 ــ كان إبن الصيرفى تابعاً وفياً للسلطان الذى لم يأبه به ولم يعلم عنه شيئاً ذا بال. فإن ابن الصيرفي نفسه يذكر أن قايتباى حين استعرض القضاة واحداً واحداً أثناء أزمته مع القضاة استفهم عن ابن الصيرفي وسأل عمن عمله قاضياً . أى كان ابن الصيرفي في سلطنة قايتباى مجرد كومبارس ممن يدخلون عليه مع كبار القضاة الأربعة وفي خدمة قاضى الحنفية باعتباره تابعاً لابن الشحنة قاضى القضاة الحنفية ثم من جاء بعده، ولم يكن قايتباى يهتم كثيراً بمجئ قضاة القضاة ومشايخ الإسلام حسب تعبير ابن الصيرفي، لم يكن يهتم كثيراً بمجيئهم إليه يهنئونه بأول كل شهر عربي إلا إذا أراد استخدامهم لغرض من أغراضه، فكيف يهتم بأحد القضاة من الدرجة الثانية كابن الصيرفي. ومع ذلك اتخذ ابن الصيرفي من قايتباى كعبة يطوف بها ، ويخرج عن طبيعته الهادئة المسالمة ليهاجم من ينتقد ذلك السلطان مثلما فعل مع المؤرخ جمال الدين أبى المحاسن.

6 ــ  حين ترجم إبن الصيرفى للمؤرخ أبى المحاسن في سنة وفاته 874 ملأ الترجمة بهجوم لاذع عليه بعد موته. ولم يكن يجرؤ على إنتقاده فى حياته حين كان خادما له ، فقد إعترف إبن الصيرفى  بأنه كان خادماً للمؤرخ أبى المحاسن، يصفه فيقول عنه:(مخدومنا) . وبعد موته أخذ إبن الصيرفى يهاجم سيده ومخدومه السابق أبا المحاسن بسبب انتقاد أبى المحاسن للسلطان قايتباى في تاريخه، فكان ابن الصيرفي ينقل هجوم أبى المحاسن على قايتباى ليرد عليه.

6 ــ  وننقل بعض الشواهد :.

6 /1  : في أوقات المجاعة والطاعون ترك السلطان القاهرة وذهب يتنزه في الشرقية والغربية والبحيرة حيث يتبعه عسكره أفواجاً وترد عليه الهدايا تباعاً، وبعد أن هلل ابن الصيرفي للسلطان في هذه الرحلة أورد رأى أبى المحاسن فيها، ونقل قوله عن السلطان:(ولم يظهر لسفره في هذه الأقاليم الثلاثة نتيجة،بل شمل الخراب غالب قراهم من النهب والكلف،ولم يفتكوا بمفسد ولا ردعوا قاطع طريق، بل كان دأبه أخذ التقادم،(أى الهدايا) والانتقال من بلد إلى آخر من غير فائدة، بل الضرر الشامل. فلما علم المفسدون منه ذلك طغوا في الناس وزاد شرهم وقطعوا الطريق..حتى أن بعضهم كان يفعل ذلك بقرب وطاق(أى خيمة) السلطان مع بعض حواشيه وأعوانه، وهو فيما هو فيه، فوقع بذلك غاية الوهن في المملكة، وآيس الناس من منع ظلم العرب، (أى الأعراب)، لهم وقالوا إن كان السلطان ما أزاله عنه فمن بقي يزيله.). وسارع ابن الصيرفي بالرد على أبى المحاسن يقول:( وقلت وهذا الكلام الذى ذكره الجمال مردود من وجوه، لأن السلطان نصره الله إذا توجه بنفسه إلى بلد أو قرية ضروري أن أهل تلك البلاد من المفسدين وغيرهم يفرون منه.). وذلك دفاع هزيل.

6 / 2 : إلا أن مساوئ تلك الزيارة السلطانية للدلتا امتدت للقاهرة، فأثناء غياب السلطان عن القاهرة زاد الغلاء، وانتهز أعوانه غيابه فقطعوا عن الناس ما اعتادوا من توزيع الأضحية في عيد الأضحى ويعترف ابن الصيرفي بذلك فيقول: ( وكان هذا العيد أشبه بالمآتم لما طرق الخلق من الحزن والكآبة وقبض الخاطر، وافتقر بذلك الغلاء خلائق من الأعيان، وقال الجمال يوسف بن تغري بردي المؤرخ في تاريخه:هذا والسلطان دائر بتلك الأقاليم في هوي نفسه ، وأنه أخذ الأموال والتقادم من الناس حتى من كبار فلاحى البلاد، ويتوجه بنفسه إليهم حتى يأخذ تقدمتهم، ولم يكن في سفرة السلطان هذه مصلحة من المصالح بل المضرة الزائدة ، ولا سيما على الفلاحين وأهل القري فإنهم شملهم ضرر الأعوان لأخذ الأحطاب، وكانوا إذا لم يجدوا حطباً أخذوا أبواب البيوت، وفعلوا ذلك بغالب الأرياف والطواحين، وبالغوا حتى قالوا فعلوا ذلك بأبواب المساجد، انتهى كلامه، قلت أقسم بالله لولا وجود هذا السلطان نصره الله في الوجود، وحرمته التى ملأت الأقطار والأمصار ودوسه البلاد وإرساله التجاريد، (أى الحملات) ويقظته التامة لرأى الناس والعياذ بالله، الموت عيانا.).أى أن إبن الصيرفي حين أعوزته الحجة للدفاع عن السلطان لجأ للقسم بالله، وعندى أنه حانث..

6 / 3 : ودافع ابن الصيرفي عن الداودار الكبير الرجل الثاني في الدولة، وحين قال عن السلطان قايتباى : (ولو بلغه المقربون لحضرته ما يحصل على المظلومين.. لأنصف المظلومين من الظالمين سارع بعدها فقال ليبرئ الداودار الكبير حتى لا تلحقه تهمة عدم إبلاغ قايتباى بالحقيقة ، فيقول : ( وأمّا عظيم الدنيا وصاحب حلّها وعقدها المقر الأشرف الكريم العالى السيفي أمير داودار الكبير وما مع ذلك- عظّم الله شأنه، فما عنده من يعلمه بهذه الأمور.).ولكن ينسي فيناقض نفسه حين يذكر حادثة القبض على صبي صغير برئ ليكون رهينة حتى يستحوذوا من أمه على التركة التى خلفها أبوه، ويذكر أن ذلك تم بأوامر من الداودار الكبير، يقول: ( فقبضوا لى ولده الصغير الذى ليس له سواه، وعمره أقل من عشر سنوات، ورسم عليه لأجل أخذ المال بأمر الأمير الداودار الكبير. وإلى الله المصير.). ولا ننسى تلك (الصفات الحسنى) التى أضافها الصيرفي للداودار الكبير خصوصاً بعد أن زاد نفوذه وتولى الوزارة والاستادراية واعتقل خصومه وطاردهم، يقول : ( والذى يظهر لى أن أمر هؤلاء الممسوكين جميعهم راجع إلى رأى الأمر المعظم لمكرم وعظيم الدنيا الداودار الكبير فإنه صار مدبر المملكة ومشيرها ونظامها وصاحب حلها وعقدها والمتصرف فيها.).

7 ــ ويلاحظ أنه كلما زادت سلطات الداودار وزاد طغيانه زاد إبن الصيرفي من إضافة الألقاب إليه وزاد في الدفاع عنه والهجوم على منتقديه. فالدوادار الكبير حين ضم إليه الوزارة أناب عنه "قاسم جغيته" في الوزارة ليتكلم باسمه وليتحمل عنه سخط الناس، وتنفيذاً لأوامره قطع قاسم أرزاق الناس،وأورد الصيرفي هجوم المؤرخ أبى المحاسن وقوله:( واستمر الحال على ذلك أياماً كثيرة والناس منه في وجل وخوف من تناول المرتبات الكثيرة، أما من قنع وعفّ وكفّ عن ذلك فهو في أمان من الداودار وغيره).وذنب المؤرخ أبى المحاسن أنه أوضح أن الداودار يشبك هو أساس البلاء، وليس قاسم جغيته الذى ينفذ الأوامر بقطع المرتبات. لذا يسارع الصيرفي بتجريح أبى المحاسن فيرد عليه: ( قلت: أقسم بالله لو قدر أن يرتب للجمال المذكور،(أى المؤرخ أبى المحاسن) في راتب اللحم.. زيادة على ما بيده.. لقبل ذلك.. لكنه لم يصل إلى ذلك.).

8 ــ وطريقة ابن الصيرفي هى انتقاد نائب الوزير قاسم جغيته الذى لا خطر في الهجوم عليه والذى يتعرض للعزل والسجن والضرب من أسياده المماليك، وفي نفس الوقت يقوم الصيرفي بتبرئة الداودار الكبير ويمدحه. بل أنه حين ورد خبر تولى الداودار الوزارة وتولى قاسم النيابة عنه فيها على أساس توفير المرتبات وقطع أرزاق الناس فإنه يهاجم الجميع ما عدا الداودار الكببر، يقول عن الداودار الكبير: (واستقر في الوزارة عوضاً عن الحاج محمد الأهناسى بحكم القبض عليه وعزله، ولعجزه وخموله وظلمه وخسفه ورقاعته، ولا ذا بذاك.) أى لا وجه للمقارنة بينه وبين الداودار يشبك، ثم يقول عنه: (حين جلوسه طلب قاسم جغيته المعزول عن الوزر، ( أى الوزارة )  قبل تاريخه وأمره بالتحدث على الوزر، فإنه عرّف الأمير الداودار ــــ نصره الله ـــ أنه يوفر من مرتبات أولاد الناس والمتعممين والأيتام وغيرهم في كل يوم كذا وكذا  قنطاراً من اللحم، ولا زال يسأل في ذلك ويلح عليه ويترامى على رجليه حتى وليها .وفوض له الكلام فيها.).وبهذه الصورة يحاول مؤرخنا تبرئة الداودار من قطع أرزاق الناس ويلصقها بقاسم جغيته ثم يمدح الداودار لقبوله منصب الوزارة فيقول : ( ولقد زاد منصب الوزارة بهذا الذى وليه رتبة سنية وسعداً مستمراً فإنه أهل للسعادة وزيادة.).

ثم يلتفت إلى قاسم جغيته يهاجمه: ( وفي الحال شمّر قاسم جغيته ساعده في قطع رواتب العسكر والأجناد ممن له زيادة على عادته وكلهم زيادة وأما المتعممون، أى المشايخ فشنع فيهم أى بالغ في قطع أرزاقهم، بل أنه طالبهم بما أخذوه بأثر رجعي، يقول "وليتهم سلموا من المطالبة بما تناولوا قديماً، ووقع الترسيم أى الاعتقال على جماعات منهم وألزموا بأموال جمة وهرب خلق كثير.

9 ــ وطبيعي أن الاعتقال يأتى من الداودار وليس من قاسم جغيته خادم الداودار.. ثم يذكر الصيرفي معاناته أرباب الوظائف من قطع مرتباتهم فيقول "وأما أكابر الدولة وأعيانها ومباشروها فكل منهم خائف من المصادرة.. ثم لا يجد الصيرفي منقسماً أخر لغيظه إلا في الفقراء الذين لا يملكون مرتبات تقطعها عنهم السلطة، فيقول:( مع أن جماعة ما طرق قلبهم الهم والغم وهم العوام والفقراء فإنهم يتنزهون ويتفرجون فلا بارك الله فيهم، ما أقبح فعالهم.! ) وهكذا يفجر الصيرفي غيظه في أبى المحاسن وقاسم جغيته والعوام  والفقراء ، وتطيش سهامه عن الداودار الكبير والسلطان قايتباى وهما أساس البلاء.

10 ــ وقد قام ذلك الداودار بغارة على الصعيد لمحاربة الأعراب ، ثم عاد للقاهرة ومعه أسرى ورهائن من الأولاد الصغار والنساء، وكانوا في حالة تعسة. وهلّل الصيرفي لقدوم الداودار يقول: ( قدم المقر الأشرف المعظم المفخم عظيم الدنيا ومشيرها ووزيرها وداودارها الكبير وصاحب حلها وعقدها ــ من بلاد الصعيد ، وصحبته عدة من العربان ونسائهم وأولادهم نحو أربعمائة نفر ، ففروقوهم على الحبوس.)( أى السجون).

ثم أورد كلام المؤرخ أبى المحاسن ( وصل الأمير يشبك الداودار من بلاد الصعيد بعد ما نهب أهلها وبدد شملها وأخرب عدة قرى من شرقي بلاد الصعيد وأحضر معه من نسائهم وأولادهم أكثر من أربعمائة امرأة إلى ساحل بولاق في المراكب، هذا بعد أن مات منهم عدة كثيرة من الجوع ولا يعرف أحد مقصود الداودار في حبس هؤلاء النسوة.). فالمؤرخ أبو المحاسن كالمعتاد يذكر إسم السلطان والداودار بلا ألقاب تعظيم وتقديس كما إعتاد ابن الصيرفى، وهنا يذكر تفصيلات الخبر المؤلمة دون أن يرهق القارئ بألقاب ومدائح الداودار، وذكر لنا أن الأسرى نساء جوعى وليسوا محاربين، وربما ليسوا أعراباً، وإنما هم من أهل الصعيد، ثم وصف مأساتهم وموت بعضهم من الجوع والبرد، وتعجب من استحضار الداودار لأولئك النسوة.. إلا أن ابن الصيرفي لم يعجبه ذلك لأن فيه إيلاما وهجوماً على سيده الداودار الكبير، لذا انبرى يدافع عنه بطريقة الخدم فيقول "قلت ولولا وجود مثل هذا الملك الذى ملأت حرمته الأقطار على رؤوس الأشهاد وسفره إلى الوجه القبلي وتمهيده وتنظيفه من المفسدين لرأينا ما لا يطاق وصفه، والحمد لله على كل حال.

11 ــ المؤرخ أبوالمحاسن ليس مصريا أصيلا مثل إبن الصيرفى.فأبوالمحاسن وفد أبوه ( تغرى بردى ) لمصر مملوكا وترقّى حتى صار أميرا ، وأنجب فيها إبنه جمال الدين أبا المحاسن.وكان أبوالمحاسن أكثر تعاطفا مع المصريين من ذلك المصرى الوضيع إبن الصيرفى .أبو المحاسن لم يستطع كتم تعاطفه الإنساني مع النساء المصريات اللاتى جئ بهن مع أولادهن إلى القاهرة جوعي ليلقي بهن في السجون بلا ذنب، أما المؤرخ المصري "الأصل" والنشأة ابن الصيرفي فيرى في أعمال الداودار تنظيفاً للصعيد ولولاه لرأى ابن الصيرفي من نساء الصعيد ما لا يطاق وصفه.!!، لذا يحمد الله أن قام الداودار بحملته التى أسفرت عن أسرهم.

أهذا يجوز يا ابن الــ...الصيرفي.؟.

السطر الأخير

نموذج إبن الصيرفى تجده فى عصرنا، فى قضاة يحكمون بالظلم وبقوانين إستثنائية ومحاكم طوارىء وعسكرية ، وفى أجهزة الاعلام الحكومية المقروءة والمسموعة والمرئية،وفى شيوخ (أمن الدولة ) وفقهاء المواكب الراقصة بالبخور بين يدى السلطان.

عليهم جميعا لعنة الله والملائكة والناس أجمعين .

 

الفصل الثالث عشر : كائنة الشيخ البقاعي

لمحة تاريخية

1 ـــ فى حربه للتشيع وبعد إسقاطه للدولة الفاطمية أغلق صلاح الدين الأيوبى الأزهر وسائر المؤسسات الشيعية ، وإستقدم صوفية أسكنهم خانقاه سعيد السعداء، ونشر التصوف السّنى ليواجه به:التشيع، والتطرف الصوفى والتطرف السّنى معا. يواجه التطرف الصوفى فى إعلان وحدة الوجود والاتحاد بالله ــ جل وعلا ــ والزعم بحلول الله ـــ جل وعلا ــ فى الولى الصوفى ، وأيضا يحارب التطرف السّنى الذى يفرض عقائده على الآخرين أو يتدخل بزعم الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فى شئون الناس أو فى تصرفات الحكام . بالتصوف السنى تنحصر السّنة فى مجال التقاضى فى الأحوال الشخصية والمدنية وتكريس طاعة الحاكم المستبد ، والايمان بأولياء التصوف وكراماته وغضّ الطرف عن التدخل فى حياة الناس مهما بلغ الفجور.

2 ـــ  بعد الأيوبيين ورث المماليك هذا التصوف السّنى. وباعتبارهم طبقة عسكرية مجلوبة من الخارج لا شأن لها بالخلافات الدينية بين التصوف والسنة والتشيع ولا تعرف الخلافات الدقيقة بين المذاهب السنية فقد كان المناسب لها وجود فقهاء جهلة سطحيين لا يعرفون سوى الطاعة للمستبد ، لذا راج فى عهدهم تلك النوعية من الشيوخ الذين جمعوا بين الجهل والسقوط الخلقى والوضاعة والحقارة .وقام مؤرخنا إبن الصيرفى بتسجيل بعض مساوئهم دون أن يتطرّق بالطبع لمساوئه هو الشخصية أو مساوىء سادته مثل كاتب السّر أو كبار المماليك من السلطان قايتباى فمن دونه ، بل ملأ كتابه نفاقا لهم وتعظيما لشأنهم ودعاءا لهم بالنصر. لم يكونوا ملائكة قليلة الحيلة فى غابة من الشياطين. بل كانوا عتاة الإجرام المحرّكين للمشهد والمسيطرين على الساحة ، وقد كانت بهم خاملة راكدة آسنة منحطّة.

3 ــ فى بيئة الخمول هذه سار عصر قايتباى . وكان من الممكن أن يظل عصر قايتباى يسير في طريق الجمود ويعيش في سكون رتيب لولا كائنة الشيخ البقاعى التى أحدثت هزة في تلك البركة الساكنة فاهتزت لبعض الوقت ثم عادت إلى سكونها وجمودها، وظلت هكذا تشد الناس إلى حضيض التأخر إلى أن استيقظ المجتمع المصري على زلزال الحملة الفرنسية فبدأ طريق الصحوة العلمانية الحداثية. ثم عادت مؤخرا ظلمات عصر قايتباى مع الوهابية منذ عهد السادات، ووصلت الى سدّة الحكم فى مصر تهدد حاضرها ومستقبلها.

4 ــ التطرف السّنى الحنبلى سيطر على العصر العباسى ثلاثة قرون تقريبا، من القرن الثالث الى القرن السادس ، ثم أخذ التصوف فى السيطرة إلى أن تحكم وتسيّد فى العصر المملوكى. ولكن إستيقظ العصر المملوكى مرتين على محاولتى ( ردّة ) قام بها السنيون الحنابلة لفرض دينهم السنى المتشدّد والثورة ضد التصوف السّنى المعتدل .الأولى فى حركة إبن تيميه ومدرسته في القرن السابع، وفي المرة الثانية بفعل كائنة البقاعي في أواخر القرن التاسع والتى نعرض لها هنا ، وكانت أقل من سابقتها تأثيراً مما أتاح لأعدائها أن يخمدوها مبكراً ، ثم حاولوا طمس معالمها في التاريخ فظلت مجهولة إلى أن كان لنا شرف اكتشافها في رسالة علمية ومؤلفات لاحقة.

كائنة البقاعى فى المصادر التاريخية المعاصرة لها

1 ـــ مؤرخنا ابن الصيرفي عاصر كائنة البقاعي وذكر أحداثها من موقع التحامل عليه كما فعله الآخرون ، ويبدو أنه قال بعض الحق في إنصاف البقاعي حين ترجم له في السنة التى توفي فيها وهي سنة 885، ولكن هذه الترجمة ضاعت بقيتها من الكتاب، ونبّه محقق كتاب الهصر على ضياعها دون تفسير.ولكن عندى التفسير، فقد تتبعتُ كائنة الشيخ البقاعي من خلال مصادر التاريخ المعاصرة للحدث، فوجدت بعض إشارات لها في تاريخ السخاوى "الضوء اللامع" فيما ترجمه للبقاعى بالإضافة إلى ما كتبه فيما بعد ابن إياس نقلاً عن السابقين، ورأيت في تلك الكتابات تحاملاً على الرجل يحاول طمس الحقيقة التى تلمع بين السطور.

2 ـــ وعدت إلى مؤلفات البقاعي لأفاجأ بوجود تاريخ له مخطوط كتبه بخط يده لم يكتشفه أحد من قبل ، وقد عرض فيه للحركة التى قام بها وكتب ذلك من وجهة نظره بالطبع . وكانت المفاجأة الأكبر أن أعداء البقاعي بعد موته قد عبثوا بذلك المخطوط كما عبثوا بتاريخ ابن الصيرفي، فقاموا بخلط أوراق المخطوط وكشط الأسماء التى ذكرها البقاعي عن أولئك الذين تآمروا ضده، خصوصاً اسم شيخ الطريقة الصوفية الذى قاد الحملة ضد البقاعي.. واستلزم ترتيب الحوادث التى ذكرها البقاعي في تاريخه منى وقتاً، ثم قارنتها بالأحداث التى ذكرها المؤرخون الآخرون المتحاملون على البقاعي، وخرجت بترتيب للحوادث يجعلها أكثر منطقية في ضوء الفهم الصحيح للعصر المملوكي وعصر قايتباى.

ونبدأ بالتعريف بالبقاعي:

1 ــ هو إبراهيم بن عمر بن حين، يقول عنه مؤرخنا الصيرفي "الإمام العلامة المحدث البقاعي الشافعي. اشتغل كثيراً ونبغ وفضُل . وقد ولد البقاعي بقرية خربة روحاً في البقاع بسوريا، ونشأ بها ثم دخل دمشق ، وفيها جوّد القرآن ، وجوُد حفظه ، وأفرد القراءات ، واشتغل بالنحو والفقه وغيرهما من العلوم، وتتلمذ على شيوخ عصره. ). ألى أن يقول عنه ابن الصيرفي : ( ولازم شيخنا مشايخ الإسلام قاضى القضاة حافظ العصر خادم السنة والأثر الشهير نسبة الكريم بابن حجر رحمهم الله وغيرهم من العلماء المتقدمين والمتأخرين،) أى كان البقاعى زميلا لابن الصيرفى فى التتلمذ على يد إبن حجر العسقلانى . ويستمر ابن الصيرفى فى التأريخ للبقاعى فيقول : ( وصنّف وكتب ،وضبط أسماء الرجال، وخرّج في الحديث العالى والنازل، ورقّاه قاضى القضاة شهاب الدين بن حجر حتى جعله قارئ البخارى في القصر بقعلة الجبل بحضور السلطان في دولة الظاهر جقمق، وكان يثني على قراءته وفصاحته، وهو كذلك، مع الدين والخير.)   ثم يسرع إبن الصيرفى فيناقض نفسه ويقول عن البقاعى (.إلا أنه سيئ الأخلاق جداً . نعوذ بالله.! ).ـ وهذه طريقة المؤرخين المتحاملين على البقاعي، يثنون عليه ثم سرعان ما يناقضون أنفسهم فيذمّونه، فبعد أن يمدح علمه ودينه ويقول عن أخلاقه: (وهو كذلك مع الدين والخير ) ثم يتذكر عداوته له فيقول مستدركاً: ( إلا أنه سيء الأخلاق جداً نعوذ بالله.). ولو لم يقم البقاعى بثورته تلك ما قيل فى حقّه هذا الذّم . لقد خرج البقاعى عن مألوف عصره ، وما وجدوا عليه آباءهم من تقديس لإبن عربى وابن الفارض ، فعوقب بالذم والشتم ، مع إعترافهم بفضله وعلمه. ( والتاريخ يعيد نفسه فى تعامل عصرنا معنا .!)

2 ــ ونعود لابن الصيرفى وهو ويقول عن مؤلفات البقاعى:( وصنّف كتاباً في مناسبات القرآن ، فقاموا عليه وأرادوا حرق الكتاب ، وتعصب عليه جماعة، وأغروا عليه الأمير تمربغا ، وكان إذ ذاك رأس نوبة كبيراً . وتعصب له جماعة وكتب لهم أسئلة بسببه وكتبوا عليها بمراده..). وبعد هذا انقطعت المخطوطة وضاع جزء من كتاب الهصر للصيرفي إلى أن بدأت أحداث شهر محرم 886 ، ونبّه علي ذلك محقق الكتاب د. حسن حبشى. ويبدو من السياق أن ابن الصيرفي كان يتحدث عن مؤامرة حكيت ضد كتاب البقاعي "مناسبات القرآن" وأن بعضهم تعصب عليه وأثار ضد السلطة المملوكية بينما استمال البقاعي له جماعة أيّدوا منهجه الجديد فيما يعرف بالتفسير. وفي الحقيقة فتلك قضية أخرى مجهولة من صراع البقاعي مع خصومه الصوفية والفقهاء المتأثرين بالتصوف ، ويجمعهم الجهل والحمق .

3 ـــ و(بالمناسبة) فكتاب:(المناسبات القرآنية) للبقاعى هو من أروع ما كُتب في بابه. وهو يبحث في المناسبة بين الآية القرآنية وما قبلها وما بعدها والمناسبات بين السور، وهو باب جديد في الاجتهاد القرآنى، ينبغى أن نقدره حق قدره إذا عرفنا أن ذلك الاجتهاد القرآنى الفريد ظهر في عصر التأخر والجمود والتقليد. وفي عصر سيطر عليه فقهاء الجهل والعار وكان مقياس النبوغ فيه هو حفظ المتون وتلخيص الشروح وشرح التلخيص لابد أن يعاني فيه المجتهد المفكر من حقد الشيوخ الكبار المقلدين الذين لا وقت لديهم للتفكير إلا في الحصول على المناصب والمرتبات والصراع والانحراف الخلقي. وبهذا نفهم لماذا ثأروا على كتاب المناسبات القرآنية للبقاعي، وتبقي التفصيلات الحقيقية التى أضاعوها من تاريخ ابن الصيرفي مجهولة لا يعلم حقيقتها إلا علام الغيوب سبحانه وتعالى.

4 ــ وكتاب البقاعي في المناسبات القرآنية لا يزال فيما نعلم محفوظاُ بمكتبة الأزهر ويقع في ستة مجلدات ضخمة، ولا يزال كنزاً يغترف منه الكثيرون المعرفة في تناسق الآيات والسور دون أن ينسبوها لصاحبها. والمؤسف أن  قام السيوطي ـــــ وهو من أعداء البقاعي ــ بتلخيص كتاب البقاعي في رسالة صغيرة سماها "تناسق الدور في تناسب السور" وحتى هذا العنوان سرقه من العنوان الأصلي لكتاب البقاعي في المناسبات القرآنية وهو "نظم الدرر" فيسرقه السيوطي ويلخص الكتاب وينسبه لنفسه تحت عنوان "تناسق الدرر في تناسب السور" . ومن العجيب أن يحظي كتاب السيوطي بالنشر والحمد بينما يظل كتاب البقاعى مخطوطاً بمجلداته الست دليلاً على استمرار مؤمراة التجاهل ضد ذلك العالم السّنى المفكر المجتهد.

5 ــ وللبقاعي تاريخ سجل فيه أحداث عصره باليوم على نسق الحوليات التاريخية. وبالتالى فصّل فيه أحداث الحركة التى قام بها وأحدث هزة في عهد قايتباى الساكن الراكد وتاريخ البقاعي اسمه " الزمان بتراجم الشيوخ والأقران". ووضع البقاعي كتابين في الهجوم على الصوفية هما "تنبيه الغبى فى تكفير ابن عربي" و تحذير العباد من أهل العناد" وقد قام الشيخ عبد الرحمن الوكيل رئيس أنصار السّنة بتحقيق الكتابين وأخرجهما في كتاب واحد عنوانه" مصرع التصوف" وهذان الكتابان أجرأ ما كتب في نقد ابن عربي وابن الفارض.

ونعرف مقدار شجاعة البقاعي حين نعلم أن عصر البقاعي كان ينبض بتقديس ابن الفارض ذلك الشاعر الصوفي المصري المتوفي 632 وأنه كان لابن عربي الشيخ الأكبر للصوفية تأثير هائل على العصر المملوكي برغم أنه قد توفي سنة 638، أى قبل العصر المملوكي، وقبل عصر قايتباى بأكثر من قرنين.

ولم يكتف البقاعي بالتأليف وإخراج كتاب يؤكد فيه كفر ابن عربي وابن الفارض في عصر يدين لهما بالتقديس، وإنما قرن العمل بالعلم وحاول أن يحقق عملياً ما أثبته نظرياً ، فنزل إلى الشارع المصرى في عصر قايتباى يعلن على الملأ الشعبي والملأ الرسمي كفر ابن الفارض ويواجه بمفرده اللعنات والمكائد والحروب والمؤمرات . وتلك ما يعرف بكائنة البقاعي وابن الفارض والتى حدثت سنة 874: 875هـ. ووصل العلم بها للسلطان قايتباى .

والآن إلى وقائع كائنة البقاعي من خلال ما قاله البقاعي وخصومه.

خطوات كائنة البقاعي:

1 ــ بدأ الموضوع يوم الاثنين 14 شوال 874، إذ انتهز البقاعي فرصة تكريم السلطان لكاتب السر إبن مزهر الأنصارى فذهب لكاتب السر وهنّأه ، وطلب أن يخلو به ليسلمه رسالة تتضمن الحكم في تكفير ابن الفارض بسبب ما قاله في قصيدته التائية الكبرى من شعر فيه كفر صريح في أنه لا فارق بين الخالق والمخلوق جلّ في علاه . ويقول البقاعي: ( وفي يوم الاثنين رابع عشر الشهر ألبس السلطان القاضى كاتب السر خلعة بسبب أنه بني له صهريجاً وسبيلاً وكُتّاباً تحت الربع ، وجا في غاية الحسن ، فهنأته بذلك ، وقلت:" نحن باقون على طلب الخلوة للتعريف لما أسند إليه."، فقال نعم ، ففارقته.)

2 ــ وأورد البقاعي في تاريخه نص الرسالة التى وجهها لكاتب السر بالكامل، ولا مجال هنا لنقلها بالنص، ولكنه أورد فيها أبياتاً من ابن الفارض المشهورة تبدأ بقوله:

 

وجُل في فنون الاتحاد ولا تحُد
 

 

إلى فئة في غيره العمر أفنت
 

 

وفيها:

 

وإن عبد النار المجوس وما انطقت
 

 

كما جاء في الأخبار من ألف حجتي

فما عبدوا غيرى وما كان قصدهم
 

 

سواى ولم يعقدوا عقد نيتي
 

وإن خرَ للأحجار في البيد عاكف
 

 

فلا تعد بالأنكار بالعصبية
 

فما زاغت الأبصار في كل ملة
 

 

وما زاغت الأفكار في كل نحلة
 

 

ثم قال "هذا القول يكفر قائلة" واسهب في الرد على من يدافعون عنه ، وأورد أراء الذين يكفرون ابن الفارض من علماء الشرع مثل ابن حجر والقاياتي وابن الأهدل وسراج الدين البلقيني وابن حيان وابن النقاش، ثم دخل في جدل فقهي مع المدافعين عن متطرفي الصوفية عموماً مثل ابن عربي، وأورد أراء الصوفية المعتدلين في تكفيرهم، وفي النهاية طلب من كاتب السر الرد على أسئلته قائلاً "وأجيبوا على كل سؤال ذكر في هذا الاستفتاء لا تسقطوا منه سناً وصرحوا بالأمور وبينوها بياناً شافياً، ومن كان عنده علم فليقل به، ولا يمجمج فيحيد يميناً وشمالاً، ومن لم يكن عنده علم فليقل الله أعلم. )، وبذلك ألقي البقاعي بقفاز التحدى لعلماء عصره ورئيسهم ابن مزهر الأنصاري كاتب السر.

3 ــ ويبدو أن السياق أن الصوفية بدوا باستعداء السلطان على البقاعي بعد أن ألف كتابيه "تنبيه الغبي" "تحذير العباد" في تكفير ابن عربي وابن الفارض مما دفعه إلى منازلتهم في الشارع بالحجة والفكر. ويبدو أيضاً أنه كان يعلن أراءه في المسجد الذى كان يتولى إمامته. ونحن نضطر لهذه الافتراضات بسبب العبث بتاريخ البقاعي المخطوط، وضياع بعض الأحداث المدونة فيه حتى أنه في الصفحات التى عرض فيها لقضيته يبدو مفهوماً منها أنها تتحدث عن وقائع سبق ذكرها، ولا نجدها في المخطوط، فهو يقول أنه قال لكاتب السر في اجتماعه: "إن كنت تريد الحق فأرسل بهذا إلى علماء البلد ، وأولهم الذين كتبوا على سؤال عبد الرحيم ، فإن كتبوا عليه علمت أنهم على هدي من ربهم، وإلا علمت يقيناً أنهم على ضلال ". واسم عبد الرحمن مكشوط في المخطوط مع تكراره في تلك القضية، وهو شيخ الطريقة الفارضية، وبسبب تكراره في المخطوط عرفت اسمه بعد جهد جهيد. والوقائع التى ضاعت قبل ذلك الكلام نفهمها من خلال تلك الفقرة السابقة، أى أن عبد الرحيم الفارضى سبق له أن أخذ توقيع بعض الأشياخ على ورقة تفيد تبرئة ابن عربي  وابن الفارض من التهم التى نسبها لهما البقاعي في كتابيه "تنبيه الغبي" "وتحذير العباد" ، وربما تفيد الحكم بالطعن في عقيدة البقاعي نفسه ، لأنه يعترض على الأولياء المقدسين، مما دفع بالبقاعي إلى كتابة رسالته المطولة التى أثبتها بالتفصيل في تاريخه والتى وزع منها نسخاً لدى آخرين، وربما يكون ذلك السبب في أنهم لم يعبثوا بتلك الرسالة ونصها فى مخطوطة تاريخ البقاعي ، على أساس أنها موجودة ومعروفة ومتداولة بين أشياخ عصره، وقد لخصنا هذه الرسالة.

4 ــ وقد استفاد البقاعي من الصراعات والخصومات والأحقاد التى تضطرم بين الأشياخ، ولعب عليها بمهارة، ومن ذلك أنه استفاد مناصرة برهان الدين الديري له، وقد كان في آخر أيامه معزولا من قضاء الحنفية إلا أنه كان كما يقول ابن الصيرفي تحدثه نفسه بالعودة إلى المناصب ، ( فكان يظهر الشمم الزائد والترفع على الأكابر وكان يدخل في جدال معهم . ) ، وجاءته الفرصة في كائنة البقاعي فانضم إليه ليشفي غليله من كاتب السر، وهو من الأكابر عند ابن الصيرفي . كما انضم إلي البقاعى قاضى قضاة الحنفية ابن الشحنة وابنه عبد البر، وكانت علاقتهما سيئة بابن مزهر كاتب السر أيضاً، ويقول البقاعي أنه كان معه قاضى الحنفية المحب بن الشحنة وولده السرى عبد البر والكمال ابن إمام الكاملية وقاضى الحنابلة المشار إليه والبرهان الديريى والبرهان اللقاني.

5 ــ وابن إياس كان معاصرا للموضوع ، ويذكر فى تاريخه أسماء من اتبع البقاعي في حركته، يقول: "كثر القيل والقال بين العلماء في القاهرة في أمر عمر بن الفارض ، وقد تعصب عليه جماعة من العلماء بسبب أبيات قالها في قصيدته التائية.. وصرحوا بفسقه بل وتكفيره ، ونسبوه إلى من يقول بالحلول والاتحاد . وكان رأس المتعصبين عليه برهان الدين البقاعي وقاضى القضاة ابن الشحنة وولده عبد البر ونور الدين المحلي وقاضى القضاة عز الدين المحلى . وتبعهم جماعة كثيرة من العلماء يقولون بفسقه.) أى إستطاع البقاعي أن يضم إليه كل هذا الرعيل من الفقهاء والقضاة ، ويحيي الصراع الذى خمد من قبل بين الفقهاء والصوفية.

6 ــ ومن مكر البقاعي أنه قبل أن يرسل رسالته إلى كاتب السر أرسل نسخة منها إلى بعض مؤيديه، ومنهم ابن الديري ليكتب عليها تأييده، وأرسل تلك الرسالة مع مبعوث خاص يقول: ( ثم أرسلتها إلى برهان ابن الديري لأنى كنت خايفا من أن لا يثبت معى، فرجوت أن يكتب فلا يقدر بعد هذا على الرجوع، فأخذها بالقبول ووعد بالكتابة، ثم تأملها فإذا هى تحتاج إلى أمر كبير فطلب الفتوحات لابن عربي، (أى كتاب الفتوحات المكية وهو أشهر كتب ابن عربي)، وغيره من كتبهم لينظره.).

7 ــ وكان الصوفية وعلى رأسهم أرباب الطريقة الفارضية يتابعون خطوات البقاعي فعلموا بما أرسله إلى البرهان بن الديرى فحاولوا خداعه والحصول منه على رسالة البقاعي التى أرسلها له، يقول البقاعي: ( فعلم الفارضيون ذلك، فقصده أحدهم ،وقال له: كاتب السر يسلم عليه ويسألك أن ترسل إليه السؤال الذى أرسله إليك البقاعي ،فكاد أن يفعل، فكان عنده الذى أرسلت السؤال معه فقال له: هذه الورقة ملكي لا يجوز له أن يدفعها إليك بغير أذنى وأنا لا آذن له، فحينئذ تشدد وامتنع من إعطاءه إياها بعد أن كاد يعطيه.). واستأذن ذلك الرجل الصوفي في نقل الرسالة وكتابتها فأذنوا له بنقلها .

8 ــ وطلب منهم البقاعي أن يردوا عليها فعجزوا ، فتوقع البقاعي أنهم طالما عجزوا عن الرد العلمى فسيلجأون للمكر والكيد واستعداء السلطة والعوام ضده، يقول في تاريخه : ( فاستأذن في كتابة السؤال فأذن فكتب ثم أوقفه عليه، فأرسلت إليه أن الأمر ينفصل بالكتابة على هذا السؤال فاكتبوا عليه (الرد) وإلا فقد عجزتم . فلم يكتب أحد منهم عليه ولا ادعي أنه يقدر على الكتابة، فعُلم من ترك الكتابة على شدة الخصومة والمشاررة ( أى المبالغة فى الشّر ) والانتقال إلى الفحش أن يغلبوا بالباطل، لأنهم يعلمون أن العامة معهم وكثير من الجند ممن يحسن له أتباعه زيارة الأموات (أى الأضرحة ) ،ويوقع في قلبه أن بيدهم الإسعاد والإشقاء، فشرعوا يشنعون علىّ وعلى من أيّد مقالتى ، وأنبثّوا في البلد ، وهم كثير ، ومعهم الجاه ، وهم أهل مكر وكذب ، لا يتوقّفون في شيء، يقولون ما لا يقبله عقل. وأصحابي قليل ، ولا جاه  لهم ، وهم مقيدون بقيد الشرع ، لا يقولون إلا ماله حقيقة ، سواء كان يعجب المخاطب أو يكرهه، فكثر الشغب في ذلك وانتشر القال والقيل وعظُم الشّر.).

9 ــ وحضر زعيمهم الشيخ عبد الرحيم شيخ الطريقة الفارضية فوجد أرض المعركة صالحة له وكل العوام معه بالإضافة إلى جملة من الأشياخ الفقهاء والأمراء بالإضافة إلى كاتب السر. ففكّر في أن يقود مظاهرة ضد البقاعي، تبدأ بحفلة ذِكْر ، ثم تسير في الشوارع لتجتذب العوام ، ثم تذهب إلى بيت البقاعي، ليتيحوا للعوام أن ينبهوه ويقتلوا البقاعى  ثم يذهبون فيما بعد إلى بيت ابن الشحنة، وكادوا أن يفعلوا ذلك، ثم خافوا من النتائج . يقول البقاعي : ( وجا عبد الرحيم من رزقته التى كان ذهب إلي قسمتها ، فوجد الأمور على أشد ما هى، والناس قد أطبقوا معهم ، وقد صاروا يؤذون من يعلمونه من أهل الحق أنصار الله ورسوله في الطرقات، فاتفق مع جماعة أنهم يذهبون إلى المؤيدية، (أى الخانقاة المؤيدية شيخ) بمربعات وأعلام ، ويعقدون مجلس ذكر ويدعون، أن هذه غيرة على مقام ابن الفارض ، فإذا اجتمع عليهم الناس أتوا على الشارع الأعظم على حالهم ذلك ، ووقفوا عند بيتى يذكرون ويستغيثون ليقتلنى العوام وينبهوا بيتى، ثم يذهبون إلى بيت ابن الشحنة كذلك لذلك، ثم تأملوا عاقبة الأمر فأضعفهم الله وأوهنهم فكفّوا.).

10 ــ ثم لجاوا إلى حيلة أخرى. زعموا أن البقاعي قد أعلن تكفير من يساعد خصومه وتكفير المحايدين الساكتين ، وذهبوا بهذه الإشاعات إلى الأشياخ الذين وقفوا على الحياد فأثاروهم ضد البقاعي، فضموا إلى جانبهم الشيخ زين الدين الأقصرائي فكتب لهم يؤيدهم ويحرّضهم ضد البقاعي. والطريف أن البقاعى قد ذهب إليه يستميله وهو لا يعرف بالانقلاب الذى أحدثه فيه أعداؤه، فحدث بينهما في ذلك اللقاء سوء تفاهم طريف. يقول البقاعي:( ثم رأوا أن يستكتبوا بقية الناس (يقصد المشايخ) فألحّ عليهم كاتب السر فكتبوا ). أى ضغط كاتب السر على أولئك المشايخ فكتبوا يؤيدون الصوفية.ويقول (وأشاع أتباعهم أنى ذكرت القضية في ميعادى (أى فى الندوة التى يعقدها)، وكفّرت المساعد لهم والساكت عنهم.وكان الشيخ زين الدين الأقصرائى من الساكتين فاستشاط غضباً، وكتب لهم بما أرادوا،وكتب أن السراج الهندي من علماء الحنفية عزّر(أى عاقب بالتعزير ) ابن أبى حجلة لأجل كلامه في ابن الفارض ،يعديهم، (أى يستعديهم) بذلك علىّ ، ثم قدّر الله أنى قصدته في ذلك الوقت الذى أثبتوافيه أنى كفّرته ، ولا أشعر. فلما دخلت لاقانى بوجه عبوس،وشرع يصيح :" أنت تُكفّر الناس؟ "، فأظن أنه يعنى ابن الفارض ،فأقول: "هذه أقوال العلماء أريكها بذلك"، فيقول: لا . قلت "هذا أبو حيان"، قال: "السراج الهندي أعلم منه"، قلت : هذا البلقيني وابن حجر :فقال: "حاش لله ما قالا شيئاً..". فلم أجد مساغاً لكلامه فرجعت.).

11 ــ وحاول البقاعى الاتصال بالداودار الكبير يشبك من مهدى أو حتى بالداودار الثاني تنبك قرا فلم يستطع، كان له صديق ذو صلة بالداودار الكبير وقد عده بأن يصله بالداودار الكبير، ولكنه خاف من تهديد الطلبة بالجامع الأزهر وقد كانوا صوفية ، وقد هددوا بإحراق بيته، فرجع عن تأييد البقاعي. وحاول البقاعي أن يجتمع بالداودار الكبير بنفسه فلم يستطع، ومع ذلك فقد جاءته أخبار سارة بأن بعض العلماء اجتمعوا بالداودار الكبير وأخبروه بالحق.ولكن ظل كاتب السر ابن مزهر الأنصاري يضغط على أتباعه من المشايخ لإصدار الفتاوي التى تؤيد الصوفية وأتباع ابن الفارض مما سبب في اشتعال الموقف ضد البقاعي، يقول البقاعي: ( ثم سألت بعض أصحابي ليذهب معى إلى الداودار الكبير لأريه بعض ما أعلمه من كفر تائيتهم الصريحة (يقصد قصيدة التائية لابن الفارض) لأن ذلك الصاحب كانت له وصلة، فمنعه أصحابه أن يذهب معى، وقالوا : إن أهل جامع الأزهر هددونا بأنهم يحرقون بيتنا .) وصمّم البقاعى على أن يقصد الداودار الكبير بلا واسطة. يقول : ( فلم يُقدّر الاجتماع به، وجدته مغلقاً عليه بابه ، وعند بعض الأمراء، وكان قصدي له بعد أن بلغني أن بعض من يسّره الله للخير قد اجتمع به وأخبره أن ما نحن فيه هو الحق، وحدّثه بأقوال أهل الوحدة،(أى مذهب وحدة الوجود كابن عربي وابن فارض الذين لا يرون فارقاً بين الخالق والمخلوق ) فقاله له : "لعلهم مثل النسيمية "؟ ( النسيمية كانوا طائفة صوفية ملحدة منحلة خلقياً وقتها)، فقال نعم: فقال ( أى الداودار الكبير) :" إن النسيمية يتكلمون بأشياء صعبة". وكذا قال ذلك الرجل. فشدّ بذلك قلوبنا بعض الشّد.  وقصدت الداودار الثاني تنبك قرا ، فلم يقدّر به اجتماع. فرجعت إلى بيتى وأنا في غاية الكسرة.! .وكان ذلك يوم الجمعة ثاني عشر من ذى الحجة من هذا العام 874 ، وكان الأمر يتزايد كل يوم ، بل كل لحظة ، بما يظهره كاتب السر من الفتاوي في القلعة ويقرره من الكلام في ذلك، فصار البلد كله شعلة نار، القلعة وما دونها، وأرسل السلطان إلى قاضى الحنفية ابن الشحنة يعقوب شاه المهمندار وكان مغرضاً معهم، فإنه كان صديق الخطيب ابى الفضل النويرى خطيب مكة وكان معه لإرادته الدنيا.. ).

12 ــ وبعد ذلك ضاع بقية المخطوطة.!..ولا نعرف ما حدث بعدها، ثم يأتى تاريخ حسب الشهور لأحداث متفرقة. والمهم مما سبق أن كاتب السر كان يهدّد ويضغط ويصعّد الأمور ضد البقاعي، والبقاعي قد أوصدت في وجهه أبواب السلطان الداودار الكبير والداودار الثاني، وأصحابه يتخلون عنه خوفاً من تهديد طلبة الأزهر بإحراق بيوتهم، وبعض الأشياخ من الفقهاء يهمسون بالحق في أذن الداودار الكبير، والسلطان قايتباى يبعث لابن الشحنة المتحالف مع البقاعى رسولاً هو من أعداء البقاعي ولا نعرف بقية الموضوع بسبب ضياع أوراق مخطوطة تاريخ  البقاعي.

13 ــ ثم تأتى أوراق أخرى في مخطوطة البقاعي تتحدث عن حربهم النفسية ضده ومخاوفه ثم محاولات بعض أصدقائه إثنائه عن أرائه وتهديده وإغرائه. ويرسم البقاعي صورة صادقة لما اعتمل لنفسه من مشاعر انتهت إلى تمسكه بالحق مهما حدث له، فنراه يخيّرهم بين ( المجادلة أوالمباهلة أوالمبارزة بالسيف.!)، ولا زال بأولئك الذين أتوا للتأثير عليه إلى أن تأثروا هم به وأصبحوا من مؤيديه. يقول البقاعى : ( صاحوا وأجلبوا وأظهروا أنهم أظفروا بى، فيرسل لى كاتب السر من يخيفني ، وأنا في غضون ذلك أسأل الله أن ينزل على السكينة ويلزمنى كلمة التقوى، فألقى الله سبحانه في قلبي من الثبات ما لا يحصر. فآخر ذلك أنه (أى كاتب السر) أرسل إلى الناصري محمد بن جمال الدين الشهابي أحمد بن السخاوي.. وهما من أصدقائى، فقالا كلاماً كثيراً منه: إنا رأينا ما لم تع وسمعنا ما لم تسمع ،والأمر عظيم ،ونحن نشير عليك أن ترجع عما أنت فيه، وقد فعلت أكثر مما يجب عليك، والقاضى (أى كاتب السر) يريد أن ينصحك ويقول أن الناس كلهم عليك، السلطان فمن دونه، وأصحابك كلهم صاروا عليك، فقلت: أنى والله قد وضعت بين عينى القتل بالسيف والضرب إلى أن أموت منه ، فرأيته أهون عندي من أن يُجهر بالكفر في بلد أنا فيه، ويقال أن الصلاة حجاب والصوم حجاب والقرآن باطل أو شرك (وهذه شطحات الصوفية من أصحاب وحدة الوجود) ويُراد خلع الشريعة المحمدية ويظهر دين على دين محمد ( ص)، فإما أن يعيننى الذين يريدون سكوتى بمال أقدر به على الانتقال من هذا البلد ، فإنه والله لو كان معى مال أتجهز به هاجرت منها ، وإما أن يختاروا منى واحدة من ثلاث بحضره السلطان والقضاة الأربعة وساير العلماء : وهى المجادلة ثم المباهلة ثم المقاتلة، فيعطينى السلطان سيفاً وترساً ويعطي أشبّهم ( أى أكثر شباباً) سيفاً وترساً ، ويخلى بيننا قُدّامه في حوش القلعة، وينظر ما يكون منى على شيخوختى ، فإن قُتلتُ كنت شهيداً ، وإن قتلت خصمى عجلت من أقتله في النار، والأمر كما قال الله تعالى: "قل هى تربصون بنا إلا إحدي الحسنيين ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا"، ثم قلت لهم: أنى أطلب منكما أن تسمعا لى في هذا المذهب الخبيث( أى التصوف )، فقالا:"إنهم (أى الصوفية ) يؤوّلون ما في التائية (أى قصيدة التائية لابن الفارض)، ويتناشدونها بحضرة كاتب السر ويطيبون ( أى ينشرحون ) لما ينشدونه منها"، فقلت: "إسمعا"، وقرأت لهما من كلام ابن عربي فصلاً، فكان ابن جمال الدين يذكر بعض ما سمع من تأويلاتهم فأرخى له، وأقول له اسمع، فلما تكرر على سمعه كفّره وقال بحدة مفرطة: "لعن الله من يقول هذا أو يستجيز سماعه"!، وتفرّقا وهما يكادان يتزايلان غضباً ،فحلفت أنه لابد أن يجلسا حتى يسمعا تطبيق الناس عليه، فرجعا بعد جهد وأسمعتهما ذلك ) .

14 ــ ووصلت نتائج هذا الاجتماع الى كاتب السّر، فخشى تطوّر الأمر بسبب تصميم البقاعى وفدائيته وقوة حجّته ومقدرته على إقناع الآخرين، لذا رفض كاتب السّر أن يكتب تقريرا ضد البقاعى، وقال:(لا أكتب حتى أسمع مستند البقاعي بما يقول،). أى طلب أن يجتمع بالبقاعى.ويقول البقاعى فى تاريخه:( فقلت: قولاً أن ذلك لا يكون إلا بخلوة كما قرروا له علم ما عندهم في خلوة، فمتي رأي نفسه فليرسل ويختل معى لأقرر له ما ينفعه إن شاء الله. ). وعرف الصوفية فبذلوا جهدهم حتى لا يحدث اجتماع بين البقاعي وكاتب السر مخافة أن ينجح البقاعي في إستمالة كاتب السر إليه، يقول البقاعي: ( فكأنهم سعوا في عدم إرساله إلىّ ، فإنهم يعلمون أن ما أقوله لا يسمعه مسلم إلا نفر منه أشد نفرة، ولما عملت الميعاد (أى الندوة ) في جامع الظاهرى الحسينية يوم الجمعة.. وكان في قوله تعالى في سورة التغابن: "زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا.. إلى قوله تعالى: وعلى الله فيتوكل المؤمنون"، قررت لهم أمر البعث وأمر التوحيد وقلت أن فرعون ادعى أنه الرب الأعلى فعليه لعنة الله، وثمّة طائفة تنصر مذهبه ويدعون أنهم يصلون إلى الله من طريق غير طريق نبيه محمد ( ص) وقد كذبوا وكفروا وهم أذلّ وأقلّ عددا، ووصلت هذا بما يلائمه من إحاطة رسالة النبى ( ص) ومن وعد الله بإظهار دينه على الدين كله، إلى غير ذلك من المرققات ( أى المواعظ )إلى أن ضجّ الحاضرون ، ودعوا على من يتمذهب بذلك المذهب الأخبث، ودعوا لى بالنصرة ونحو هذا، وكان مجلساً حسناً.).!

15 ــ وبسبب ثبات البقاعي بدأت المشاعر تتجه نحوه وتميل عن الصوفية، وذلك هو الشأن في دعوات الإصلاح التى تواجه العقائد الضالة، فتلك العقائد الضالة تستند إلى خرافات اكتسبت قدسية لمجرد أن القرون مرت عليها دون أن تجد من يتصدى لتنفيذها، فإذا وجدت عالماً شجاعاً يفعل ذلك ثار عليه المدافعون عن تلك الخرافات والأشياخ الذين يستفيدون منها وحاولوا إخافته بما ترسب في وجدانهم من خوف من الاعتراض على تلك الخرافات، فإذا ثبت صاحبنا على مبدئه ورأوا أنه لم تحدث له كارثة بسبب اعتراضه يبدأ الموقف يتغير لصالح، وذلك بالضبط ما حدث في كائنة البقاعي وما يمكن أن يحدث في أى حالة مماثلة.

ولذا نرى العوام في بداية الأمر كانوا ضد البقاعي حتى لقد كانوا يؤذون أتباعه في الطرقات، وحتى لقد فكر خصمه عبد الرحيم أن يقودهم في مظاهرة لتقوم بقتل البقاعي وتنهب بيته، ثم بعد أن ظل البقاعى متماسكاً صامداً يقرر رأيه في المسجد جاءوا إليه يستمعون، و( ضجّوا) يؤمّنون على دعواه على خصومه، يقول البقاعي يصف ذلك التطور لمبشر في قضيته: ( وكان مجلساً حسناً، ثم أُطلعت على أن الله تعالى أيدنى عليهم حال استفتائهم بأمور منها: أنهم استفتوا قاضى الحنابلة المعز ابن نصر الله الكناني فكتب لهم بتكفير ابن الفارض وكل من تمذهب بمذهبه، واحتج لذلك ،وذكر من قال به من العلماء، وأطال في ذلك، وأن البرهان بن العبري قال لعبد الرحيم: "والله أنى لأخاف على رقبتك أن تضرب فاستمع منى فإني ناصحك ولا تغتر بمن يغرّك"، وكذا قال لهم البرهان اللقاني .).

إذن تشجع بعض الساكتين فأفتوا فتوى البقاعي، بل وبدأ بعضهم يخوّف عبد الرحيم بعد أن كانوا يخوّفون البقاعي من قبل. وازداد أنصار البقاعي وتحول الرأي العام نحوه، يقول:( ثم عدّوا.. من معى ، ستة: قاضى الحنفية المحب بن الشحنة، وولده السرى عبد البر ، والكمال ابن إمام الكاملية، وقاضى الحنابلة المشار إليه، والبرهان اللقاني. ولما رأى الناس تطاول القضية وهم دايرون، (أى منهزمون)، ولا يظهر لهم أثر مع أى جالس في مجلس، على حال لم اجتمع بأحد، علموا أنه لا في أيديهم ، ولا قوة لهم ،فأطلق الله ألسنتهم بالثناء علىّ ، وبان العزّ.!....). وما بعد ذلك ضائع منن المخطوطة.

17 ــ كان الأولى بقاضى الحنابلة عز الدين الكناني أن يكون أول من ينكر على الصوفية تِأسياً بابن تيمية الحنبلي في القرن السابع ومدرسته من الفقهاء، ولكن الجهل الذى حاق بأولئك الفقهاء منع أكثرهم من المعرفة بالفروق بين المذاهب ، وكان الوصول الى المنصب ليس بالكفاءة ولكن بالرشوة ، ومن يصل بالرشوة لا يهمّه المذهب الذى ينتمى اليه ، المهم عنده المنصب نفسه ، لذا كان من المهتاد تحول الفقيه السّنى من  مذهب الى آخر فى سبيل المنصب .

18 ــ صمود البقاعي أمام حرب التخويف والأعصاب جعلته يكسب في النهاية ولما تطاول عليه الأمر دون أن يحدث له سوء بدأ العوام يغيرون رأيهم فيه فمالوا نحوه، وتعين على أعدائه من الصوفية أن يقبلوا المجادلة معه حسبما طلب، فأصبح ذلك مشكلة عويصة لهم، فهم يدافعون عن دين لا يعرفون عنه شيئاً ويؤمنون بعقائد لا تستقيم مع العقل ولا مع الدين الحقيقي، وخصمهم البقاعي أعرف بدينهم الصوفى منهم، وأقدر على إفحامهم في الجدال مستشهدا بأقاويل ابن عربى وابن الفارض التى يقشعرّ منها قلب من لديه ذرّة من إيمان . يقول البقاعي عنهم:( عقدوا المشورة في أمرى عدة مرات، يديرون الرأى فيمن ينتدب لى في المناظرة وقت عقد المجلس، وكلما أعدوا واحداً للمناظرة قالوا : "هو فقيه فج يفوقه البقاعي بالمعقولات"( أى بعلم المنطق )، وإن ذكروا واحداً جمع النقل والعقل قالوا : "يفوقه بالتبحر في السّنة" ، وإن رأوا آخر ظنوه جامعاً لذلك قالوا : "يفوقه بالتفوق وقوة العارضة والصلابة"، فكان ذلك من أعظم المؤيدات. وازدادت قوتى وضعفت قوتهم، فسافر عبد الرحيم إلى رزقه له في الريف. وخف الهرج والمرج في ذلك.).

إبن الصيرفى والتأريخ لكائنة البقاعى

1ــ والعجيب إن كل ذلك الهرج والمرج الذى حرّك البركة الراكدة لم يذكر عنه مؤرخنا إبن الصيرفى شيئاً،مع أنه كان لصيقاً بكاتب السر ومهتماً بما يحدث في مجتمع الفقهاء والأشياخ، ولا شك إنه كان منغمساً فيما يحدث، إلا أنه على العكس من ذلك تجاهل كل ما حدث من أحداث كائنة البقاعي سنة 874، بل أنه اختصر أخبار شهور شوال وذى القعدة وذى الحجة التى حدثت فيها كائنة البقاعي في هذا العام سنة 874 فاحتلت صفحتين فقط  في كتابه مع أن العادة أنه يكتب عشرات الصفحات في أحداث الشهر الواحد، وخصوصا ما يتّصل منها بسيده إبن مزهر الأنصارى كاتب السّر. فهل إنشغل إبن الصيرفى مع كاتب السر فى الكيد للبقاعى؟ هل إنشغل عن تسجيل أحداث (كائنة البقاعى) لأنه كان منشغلا بالكيد للبقاعى؟هل إستغرق فى خلق أحداث فى أرض الواقع وتشاغل بها عن تسجيلها ؟

2 ــ بدأ البقاعي يذكر أول أخبار عن كائنة البقاعي في أول محرم 875ن فهو يقول "فيه صعد قضاة القضاة ومشايخ القضاة ومشايخ الإسلام لتهنئتة السلطان بالشهر العربي على العادة ولم يتكلموا في شيء من أمر ابن الفارض لا بنفي ولا إثبات. وطلع البرهان البقاعي في هذا اليوم قبل كل أحد، وجلس بالجامع وصحبته كتب كبيرة، وليس راجعاً عما قاله في كلام الشيخ ابن الفارض وتكفيره، وبلغني من عدة جماعات أنه أوصى، وعنده أن هذا الأمر ليس التكلّم فيه إلا قربة محضة، فإن قُتل قُتل شهيداً.). وواضح مما ذكره ابن الصيرفي أن الشيوخ دخلوا على السلطان يهنئونه بالشهر على العادة وقد تجنبوا الخوض في قضية البقاعي وتكفيره لابن الفارض، وفي نفس الوقت استعد البقاعي للمجادلة، وسبق الحاضرين في الحضور، واستحضر معه الكتب التى تؤيد كلامه، ولا ريب أن منها ديوان ابن الفارض وفيه التائبة الكبري بالإضافة إلى نصوص الحكم لابن عربي والفتوحات المكية له، وغيرها من مؤلفات الصوفية أو مؤلفات المنكرين عليهم، وهو مصمم على رأيه، وقد بلغ ابن الصيرفي أنه قد كتب وصيته كأنه يتوقع الموت ويستعد له، وأنه يعتقد أن الأمر بالنسبة له قرية يتقرب بها لله، وهذا ما قرره ابن الصيرفي وهو كما سنعلم خصم في هذه القضية للبقاعي.

3 ــ ونعود إلى البقاعي في تاريخه وهو يسجل بطريقة أخرى نفس ما حدث في أول محرم 875، يقول : ( واستهل عام خمس وسبعين وثمانمائة ..، وكان قد بلغنا أن السلطان يعقد المجلس بسبب ابن الفارض في أول الشهر، وأن كاتب السر سأله في تركه، أكتفاء بما أحضر إليه من الفتاوي، وأخبره إنه لم يبق من شيوخ البلد أحد إلا كتب بولاية ابن الفارض إلا من شذ فلا عبرة بهم، ولا يلتفت إلى قولهم. وقال بعض الناس للسلطان:" هؤلاء الذين كتبوا أكثرهم كتب للغرض، فبعضهم يبغض من ضلاله وبعضهم خوفاً ورجا في كاتب السر وهيبة له، فإنه كان إذا امتنع أحد من الكتابة قال له رسوله: إن لم تكتب جا القاضى إليه ولا يفارقك حتى تكتب، وبعضهم يوهمه أنه يوليه القضاء، إلى غير ذلك في التعليلات.". فحمل السلطان على التصميم على عقد المجلس. فلما أيس ( كاتب السّر ) من تركه( عقد المجلس ) سعى في تأخيره إلى بعض العشر . وطلع القضاة بكرة يوم السبت هذا لتهنئة السلطان بالعام .وحسبت أنه سيقع في المسألة كلام فيحتاج إلى حضورى، فطلعت إلى القلعة وأقمت في الجامع وحملت.. كتباً تحتاج إلى النقل منها في أشياء.. لابد منها. وكان كاتب السر قد اجتهد في نصب أسباب الأذى ..) الى أن يقول البقاعى عمّن أرادوا منعه من الصعود للقلعة:( ..وقالوا كلهم:"لا تطلع ولا تتلق الركبان وأقنع بالعافية فإنما المراد غيرك"، يعنون ابن الشحنة لتصويب كاتب السر إليه سهامه، فقلت:" أخشى أن أتخلف فيؤخذ كل واحد على انفراد، ونحن أنصار السنة فلا يتوجه علينا لأحد مقال بحق أصلاً ولا بشبهة مقبولة، فإنّا ما كفرنا ابن الفارض إلا بما أقله أنا متأولون وتابعون لمن سبقنا من سلف الأمة، وإن وقع ظلم صرف فلسنا أول من أوذى في الله.. فاستصوب أكثر الناس ذلك، ونطقت ألسنتهم بأنى محق.).

3 ــ وواضح أن سكوت القضاة أمام السلطان عن الخوض في ذلك الموضوع ــ وهو موضوع الساعة ــ إنما كان بتأثير كاتب السر، وقد سعى في تأخير عقد ذلك المجلس ما استطاع خوفاً من أن ينتصر عليه البقاعي أمام السلطان قايتباى فيهتز مركزه وتضيع مكانته. ولا شك أن مبادرة البقاعي بالمجيء مبكراً ومعه تلك الكتب قد أفزع كاتب السر، فذلك من شأنه أن يثبت للسلطان جهل خصوم البقاعى كلهم وأولهم كاتب السر. ومن أسف فإن باقي الصفحة ضائع فى تاريخ البقاعى ، وبعدها نقرأ قول البقاعى:(  وأنا وحدي، وهم أهل البلد كلهم . وطار في البلد خبر الكتب التى كانت معى ، وزادوا في ذلك ، ونطقت ألسنة الخاص منهم والعام إلا ذووا الأغراض الفاسدة.).

4 ــ وانتهى الأمر إلى لا شيء إذ أن خصوم البقاعي قالوا لكاتب السر: "إن طلوع البقاعي على هذا الحال معناه أننا عنده أقل القليل ، وهذا ازدراء عظيم لا يحتمل"، فقال لهم كاتب السر: "لا أقدر أرد أحداً عن اعتقاده." يقول البقاعي معلقاً: ( فعلم الآن أن لا شيء بيده .). وانتهى الأمر رسمياً بالأغضاء عن الموضوع وعدم عقد مجلس بشأنه، ولكن ابن الصيرفي لم يسكت ولم يسكت معه بعض ذيول الصوفية، يقول ابن الصيرفي ينشر دعايته ضد البقاعي : ( وقع لى من وجه صحيح أخبرنى به الشيخ العلامة الرباني شيخ الإسلام زكريا الشافعي أبقاه الله تعالى أن الجناب العالى العلائى على بن خاص بك صهر المقام الشريف نصره الله، أنه ركب إلى جهة القرافة ورأى شخصاً أمامه عليه سمت وهيئة جميلة، فصار يحبس لجام الفرس وهو خلفه إذا وافي الرجل رجل عظيم الهيئة جداً ، فتحادثاً ، وانصرف الرجل المذكور أعنى الثاني، فسأل سيدى على من الأول: من هو هذا الرجل؟ فقال له: أنت ما تعرفه؟ ثلاث مرات، وهو يقول لا. فقال: هذا عمر بن الفارض في كل يوم يصعد من هذا المكان وهو يسعى في أن الله تعالى يكفيه فيمن تكلم فيه" وذهب الرجل فلم يعرف من أى مكان توجه والله أعلم.).هذه أسطورة حيكت لتجعل ابن الفارض يخرج من قبره ليدعو على من أنكر عليه، ومن شأنها أن تخيف أولئك الذين يقدسون الأولياء ويعتقدون في نفعهم وضررهم، وبعض من يقرؤها في عصرنا قد يتأثر بها، فكيف بهم في عصر قايتباى.

5 ــ وذكر ابن الصيرفي حادثاً وقع يوم الجمعة 2 رمضان 875 يقول " أن البرهان البقاعي عمل ميعاداً بالجامع الظاهرى بيبرس البندقدارى خارج القاهرة بالحسينية (حى الظاهر الآن) فحضر جماعة إليه قصداً (أى عمداً) من معتقدى سيدى الشيخ عمر بن الفارض نفع الله به، وأساءوا عليه على ما بلغني، فشكاهم لقصروه الحاجب فطلبهم ورسم عليهم، ثم أن البقاعي طلب جماعة من جهته وأوقفهم في عدة مواضع ومفارق ومخارص من الطرقات وبأيديهم العصى والخشب، وقرر معهم إذا مروا عليهم فيضربونهم وينكلون بهم، فبلغ ذلك رئيس الدنيا ابن مزهر الأنصاري كاتب السر الشريف عظم الله شأنه فأرسل إليهم بداوداره بركات فأطلقوهم، ( أى أطلقوا أولئك الذين قبض عليهم قصروه الحاجب)، وتكاثرت الأدعية له، حفظه الله تعالى على المسلمين.) ويستمر إبن الصيرفى : ( ثم في يوم السبت ثالثة (أى 3 رمضان) أصبح البقاعي على ما أمسى ، وشكى خصومه لبيت الأمير تمر حاجب الحجاب وأعلمه بما أراد، فاجتمع الجم الغفير والخلائق أفواجا ، وحضر من العلماء والفضلاء جماعات ، منهم الشيخ بدرالدين بن القطان والشيخ تاج الدين ابن شرف والشيخ الخطيب الوزيري. وبرزوا للبقاعي وطلبوه، فحضر بين يدى الأمير المذكور، وأراد الطلوع من المقعد، فما مكّنه خصومه . ووقف من تحت المقعد .وجلس المشايخ المذكورون. وادعى على جماعة منهم ، فيهم شخص شريف، حضروا إليه إلى مسجده ليقتلوه بطبر، فقال له الشيخ بدر الدين إبن القطان: "لا تقل مسجدى فإن المساجد لله"، وترضّوا عن الشيخ عمر بن الفارض، ولعنوا وكفّروا من يكفّره، وحصل له (أى البقاعي) بهدلة ما توصف، وانفصلوا على غير طائل، ولم يحصل للبقاعي مقصوده، ولا غرضه، فإنه مخمول سيماً أنه يتعرض لجناب سيدى الأستاذ العارف بالله عمر بن الفارض )..والصيرفي يوضّح انحيازه ضد البقاعي في الفقرة الأخيرة، ويجعلنا لا نثق في صدق روايته للحادث، فلم نعرف منه أقوال البقاعي ولا رده على خصومه ، وإن كنا قد فهمنا منه أن بعضهم حاول إيذاءه وأنه استعان بأعوانه في حماية المسجد الذى يقرر فيه دعوته، وإن كاتب السر تدخل لإطلاق سراح أولئك المعتدين، وكذلك فعل أخرون حينما اشتكي البقاعي أولئك الذين حاول قتله في المسجد، وانتهى الأمر علي غير طائل حسبما يقول ابن الصيرفي. وتعرض ابن الصيرفي فيما بعد للبقاعي فترجم له في السنة التى مات فيها وحاول إنصافه، ثم ضاعت بقية الترجمة مثلما ضاعت صفحات من كائنة البقاعي في تاريخ البقاعي.

تأثير كائنة البقاعى

1 ــ وقد أثمرت حركة البقاعي هزة في تلك الحقبة الراكدة، ظهر أثرها بين القضاة، فرجع بعضهم إلى الحق فكون منهم البقاعى (جماعة أهل السنة) على حد تعبيره، يقول في تاريخه:( تخاصم شخص من جماعة أهل السنة يقال له محمد الشغرى مع جماعة من الفارضيين من سويقة صفية، فرفعوه إلى قاضى المالكية البرهان ، وأدعوا عليه أنه كفّر ابن الفارض، فأجاب بأنه قال: بأن العلماء قالوا بكفره ، فضربه القاضى بالسياط وأمر بتجريسه بالمناداة عليه في البلد :"هذا جزاء من يقع في الأولياء"، ثم توسط القاضى الشافعي لدى المالكي حتى أطلقه من الحبس، وقال الشافعي: أيفعل مع هذا هكذا ولم يقل إلا ما قاله العلماء؟، ويرفع إليهم حربي استهزأ بدين الإسلام في جامع من جوامع المسلمين ولا يفعلون به مثل ما فعلوا بهذا؟. مع أنه حصل اللوم في أمره من السلطان ومن دونه ولم يؤثر شيء من ذلك.. هذا كله والحال أن البرهان المذكور قال لغير واحد: أن له أكثر من ثلاثين سنة يعتقد كفر ابن الفارض.)

2 ــ إن آثار حركة البقاعي لم تقتصر على الصراع السياسي وإنما امتدت إلى الناحية الثقافية والعقلية في ذلك العصر الراكد الساكن، فقد نشط خصومه فيما بعد للرد عليه فكتبوه "ترياق الأفاعي في الرد على البقاعي" والسيوطي الذى لخص كتاب البقاعي في المناسبات القرآنية لم يتورع عن الهجوم على البقاعي وحركته فألف كتاب "قمع المعارض في الرد عن ابن الفارض" وبذلك حاولوا الرد على البقاعي وكتابيه "تحذير العباد" "وتنبيه الغبي".

3 ــ وكأنها كانت قطعة حجر سقطت في بركة ماء ساكنة فأحدثت تموجات على السطح ولكن إلى حين،  إذ ما لبث السكون أن عاد والحجر نفسه ما لبث  أن غطته القواقع والطحالب، واستمرت البركة ساكنة بقواقعها إلى أن دهمها نابليون بونابرت فهرعوا إلى مقاومته بالأوراد وصحيح البخارى.

 كائنة البقاعى تفصيلة ضمن صراع الأديان الأرضية للمسلمين

1 ــ وفى النهاية نضع ( كائنة البقاعى ) فى سياقها التاريخ الأفقى أى بنظرة أفقية فى تاريخ المسلمين وصراعهم السياسى الذى كان ــ ولا يزال ــ يستخدم الدين الأرضى فى الوصول للسلطة والثروة.

2 ــ ونوجزها فى أن الأمويين والشيعة إستخدموا الأحاديث فى صراعهما السياسى ، ثم تأكّد أستخدام الأحاديث بقيام الدولة العباسية وصراعها ضد الشيعة، بينما نجح الشيعة فى إقامة ملك لهم فى الشرق على حساب الدولة العباسية ودينها السّنى فى بغداد . واستخدم الخليفة المتوكل العباسى التطرف السنى الحنبلى فى إحكام قبضته واضطهاد الشيعة فى دولته. ثم ظهر التصوف فى عهده يعانى الاضطهاد مثل التشيع ، وأصبح التصوف مجالا للإستغلال السياسى من جانب الخصمين المتحاربين: السّنة والشيعة،فظهر التصوف الشيعى والتصوف السّنى .

3 ـ  أتيح للشيعة الفاطميين إستغلال (التصوف الشيعى) فى إقامة دولتهم فى شمال أفريقيا وفى تدعيمها فى مصر حتى وصل نفوذهم الى ضواحى بغداد فى لمحة من الزمن . ولكن ما لبث صلاح الدين الأيوبى أن قضى بهدوء على الدولة الفاطمية ، وإستخدم (التصوف السّنى) فى حرب التشيع وتصوفه الشيعى. 

4 ــ وجاءت الدولة المملوكية تستخدم (التصوف السنى) تحارب به التشيع والتطرف السنى الحنبلى والتطرف الصوفى على السواء. وحاول الشيعة باستغلال التصوف الشيعى إسقاط الدولة الأيوبية فى فترة ضعفها ، ولكن قضى على حركتهم وصول المماليك للحكم وقهرهم للمغول وللصليبيين. وفصّلنا ذلك فى كتابنا ( السيّد البدوى بين الحقيقة والخرافة).هذا الموقف المملوكى المناوىء للتشيع شجّع على ظهور حركة للتطرف السّنى تزعمها إبن تيمية الذى إشتهر بعدائه للتشيع وللتطرف الصوفى معا. وبعد إخماد حركة إبن تيمية جاءت حركة أو كائنة البقاعى فى عصر قايتباى .

5 ــ  وبعد إخماد حركة البقاعى التى تمثّل التطرف السّنى ظهر فى إيران حركة شيعية تستخدم التصوف الشيعى ، أقام بها الشاه إسماعيل الصوفى ( الصفوى ) دولته الصفوية الشيعية ، والتى تسببت فى أنهيار الدولة المملوكية بعد موت قايتباى بعشرين عاما . وأصبحت مصر ولاية عثمانية ولكن ظلّت بذور التشيع كامنة فيها برعاية التصوف الشيعى ممّا أعلى من مكانة الأزهر فى العصر العثمانى الذى شهدت بدايته فى مصر محاولة شيعية لقلب نظام الحكم قام بها الوالى العثمانى نفسه بتأثير الشاه إسماعيل الصوفى الصفوى. 6 ــ على أى حال فقد كان التشيع وتصوفه الشيعى أقوى وأعمق تأثيرا فى بيئته الأصلية فى ايران والعراق فى العصر العثمانى، فاضطهد فقيها سنّيا حنبليا متأثرا بإبن تيمية، هو ابن عبد الوهاب لأنه إنتقد التصوف والتشيع معا فى رحلته للعراق ، ففرّ هاربا عائدا الى منطقته نجد حيث تحالف مع ابن سعود. وباستغلال ( الوهابية :الدين السّنى الحنبلى التيمى ) تأسست الدولة السعودية الأولى 1745 ثم أسقطها الوالى العثمانى فى مصر (محمد على باشا) عام 1818 ، ثم أعيد إنشاؤها ثم سقطت ، ثم أعاد عبد العزيز آل سعود تأسيس الدولة السعودية الثالثة الراهنة والتى حملت إسم المملكة السعودية عام 1932. وعمل المؤسس عبد العزيز آل سعود على تحصين دولته من السقوط بنشر دينه الوهابى السّنى الحنبلى التيمى الوهابى فى مصر والهند وما بينهما ، وانتهى الأمر بتأسيس باكستان والاخوان المسلمين فى مصر وتنظيمهم الدولى، وإسهامهم فى قيام حركة الجيش فى مصر عام 1952 .

7 ـــ  وبسبب علوّ نفوذ الوهابية ظهر التيار القرآنى رد فعل إيجابيا يدعو للعودة ، لا لدين أرضى يتصارع مع دين أرضى آخر فى سبيل حطام الدنيا والجاه والثروة ، ولكن يدعو للسمو بالاسلام عن حضيض التنافس السياسى، وأن نرجع للقرآن الكريم الرسالة السماوية الخاتمة التى يجب أن يحتكم اليها المسلمون وأهل الكتاب مخلصين ليهتدوا الى الصراط المستقيم فى الدنيا والآخرة ، وأن يتعرف المسلمون على حقائق الاسلام ، وأنه دين السلام والرحمة و العدل والحرية الدينية المطلقة فى الدين والفكر والعبادة والعقيدة ودين الحرية السياسية فى الديمقراطية المباشرة ، ودين العدل الاجتماعى بالتكافل الاجتماعى والعدل السياسى بالديمقراطية المباشرة ، وهو دين حقوق الانسان وتكريم الفرد البشرى بغض النظر عن الجنس (ذكر أو انثى) أو العنصر أو اللون او المستوى الاقتصادى والاجتماعى . وأهل القرآن فى دعوتهم لا يفرضون رأيهم على أحد ، ولا يفرضون أنفسهم على أحد ، ولا يطلبون من الغير أجرا ، ويتحملون ما استطاعوا الأذى. وقد تعرضوا لأربع موجات من الاعتقال ، كان أولها فى نوفمبر 1987 أى منذ ربع قرن ، حين كان كاتب هذه السطور رهين سجن طرة ومعه 62 شخصا متهمون بأنهم من (القرآنيين )، فى قضية حملت هذا الاسم ، وكان من المتهمين أساتذة جامعات ومحامون وموظفون و فلاحون وحرفيون . وتتابعت موجات الاعتقال ، وتعكسها مقالات منشورة هنا ، وكانت هذه الاعتقالات المتكررة فى نظام  حسنى مبارك، وهو أحقر مستبد مصرى طيلة تاريخها المكتوب حسب علمى بالتاريخ المصرى ، وأنا متخصص فيه. كان مبارك يقدّم إعتقالنا هدية مدفوعة الأجر للدولة السعودية ، محور الشّر فى العالم وفى هذا العصر. وأسفرت إعتقالات اهل القرآن ومطاردتهم وتكميم أفواههم الى علو النفوذ السلفى ، أو الدعاة الوهابيين داخل المجتمع المصرى والمتحكمين فى أجهزة الاعلام والتعليم والأزهر والمساجد ، وقد تحالف معهم مبارك فى الوقت الذى اضطهد فيه الاخوان ، وهم أيضا سلفيون وهابيون، ولكن لهم طموحاتهم السياسية التى أقلقت الأسرة السعودية والمستبدين العرب.

8 ــ وبعلو نفوذ الوهابية عانى الشيعة من الاضطهاد فى مصر والسعودية والخليج وتم حصار التصوف ، وأوذى البهائيون والأقباط وبقية الأقليات الدينية والمذهبية . وبدأ الربيع العربى فاختطفه الاخوان والسلفيون . وأصبحت المنطقة العربية مرشحة لنضال طويل قد يصل الى حرب أهلية وإعادة رسم الخريطة .

9 ــ وفى رأينا فإنّ النجاة هى بالاصلاح من داخل الاسلام ، وفق رؤيتنا القرآنية التى تؤكد على علمانية الاسلام ، ومنع أديان المسلمين الأرضية من التحكم فى الناس سياسيا واجتماعيا ، وأن تظل محصورة داخل معابدها حتى يتطهّر التنافس السياسى من إستغلال الدين فى تحقيق مصالح شخصية أو حزبية أو طائفية.

وأخيرا  :

 فإن حركة البقاعى تعتبر جملة قصيرة فى هذا السياق من الصراع الدينى السياسى الممتد والمتّصل من القرن الأول الهجرى حتى الآن.

1) تاريخ البقاعي: مخطوط بدار الكتب، مجلد رقم 5631 تاريخ- ورقات رقم: 8، 9، 54، 56، 134، 135.

2) الهصر: 186، 190، 256، 257، 508، 509.

3) تاريخ ابن اياس: 2/119، 120، 121.

 

 

 

 

 

كتاب ( المجتمع المصرى فى ظل تطبيق الشريعة السّنية فى عصر السلطان قايتباى):
كتاب ( المجتمع المصرى فى ظل تطبيق الشريعة السّنية فى عصر السلطان قايتباى):در اسة فى كتاب ( إنباء الهصر بأبناء العصر ) للمؤرخ القاضى ابن الصيرفى .

قراءة متخصصة نقدية لكتاب ( إنباء الهصر بأبناء العصر ) للمؤرخ إبن الصيرفى لاستخلاص ما جاء فى هذا الكتاب عن أحوال المجتمع المصرى فى ظل تطبيق الشريعة السنية فى عصر السلطان قايتباى . لقد كتب ابن الصيرفى ( تاريخ الهصر) ليعطى أحداث عصره باليوم لكل عام وحول . لم يقصد أن يسجل الأحوال الاجتماعية ، بل مجرد تسجيل الأحداث اليومية المتنوعة والتى يراها هامة تستحق التسجيل . ووظيفتنا فى هذا البحث هو إستنطاق تاريخ الهصر لنتعرف منه على حال المصريين فى ظل تطبيق الشريعة السّنية من خلال
more