رقم ( 4 )
الباب الأول :طوائف المجتمع المصري في ظل تطبيق الشريعة السنية فى عصر السلطان قايتباى

 

 

كتاب ( المجتمع المصرى فى ظل تطبيق الشريعة فى عصر السلطان قايتباى):دراسة فى كتاب ( إنباء الهصر بأبناء العصر ) للمؤرخ القاضى ابن الصيرفى .

الباب الأول :طوائف المجتمع المصري في ظل تطبيق الشريعة السنية فى عصر السلطان قايتباى

مقالات متعلقة :

الفصل الأول :  لمحة عن مجتمع المماليك  فى عصر قايتباى فى ظل تطبيق الشريعة السّنية :

ألم في مؤخرة الأمير المملوكى ووباء في الصعيد:

1 ـ يقول ابن الصيرفي في أحداث النصف الأول من شهر محرم  874 "( ووصلت الأخبار من الوجه القبلى أن القمح وصل ثمنه بها إلى ستمائة درهم الأردب ، وأنه عزيز الوجود، وأن النصل- أى المرض ـ كان موجوداً في الآدميين ثم انتقل إلى البقر حتى أن البلاد جافت من ذلك، وشاع وذاع أن الأمير قانصوه.. حصل له في مخرج الغائط ألم شديد فتحوه بالفولاذ ، وهو في غاية الضرورة، وتوجه إليه الأمراء والعساكر للسلام عليه.."([1]). ) .في النص التاريخي السابق خبران، الأول عن غلاء حدث في الصعيد في محرم 874هـ وقد ارتبط هذا الغلاء بكارثة أشد هى وباء انتشر بين الناس وانتقلت عدواه إلى البقر حتى ( جافت البلاد) أى انتشرت فيها الجيف أى جثث الموتي من البشر والبقر!!. والخبر الثاني عن إصابة الأمير قنصوه الخسيف بألم في مؤخرته، وأن الأمراء والكبار زاروه وعادوه للطمأنينة عليه وعلى "مخرج الغائط".

2 ـ ويهمنا هنا أن المؤرخ ابن الصيرفي تساوى عنده الخبر الأول بالخبر الثاني، تساوي عنده موت مئات الألوف من المصريين في الصعيد الذى امتلأ بجثثهم دون أن تنال حقها في الدفن، تساوى عنده معاناة  الباقين من الغلاء والمجاعة، كل ذلك تساوى عنده بألم حدث في مؤخرة أحد الأمراء المماليك، فكم تساوى هذه المؤخرة المملوكية" بالعملة الصعبة ؟! . مؤخرة الأمير قنصوه تستحق كل هذا الاهتمام من المؤرخ المصري في الوقت الذى كان الوباء والمجاعة وآلات التعذيب تعمل عملها في الشعب المصري دون أن تستحق إلا بضعة سطور تساوى أهمية هذا الشعب عند السلطان ومؤرخيه. هذا هو حظ أجدادنا من مؤرخي عصرهم.! . لا يستحقون نيل إهتمام المؤرخين إلا إذا حدثت لهم مصيبة كالمجاعة أو الوباء.!. هذه هى الضريبة التى ينبغى أن يدفعها أجدادنا لكى يكتب لهم المؤرخون نعياً من بضعة سطور. ولا عزاء للمصريين .!.

المجتمع المملوكي يجدد دماءه باستمرار:

كان المجتمع المملوكي يجدد دماءه باستمرار. فكل أمير أو سلطان مملوكي يشترى مماليك تزداد بهم قوته، وأعظم الطوائف المملوكية هم المماليك السلطانية، أى مماليك السلطان القائم في الحكم. ويتدرج المملوك بعد عتقه في الناصب حسب كفاءته وقدرته على فن التآمر إلى أن يصل إلى الصفوف الأول في الجيش فيكون أمير مائة مقدم ألف، أو يصل في الصفوف الأولى في المناصب الرسمية مثل الداودار والزمام والاستادار.

وللعصر المملوكي لغته الخاصة التى ينبغى أن يهضمها كل باحث في ذلك العصر، وله تعبيراته المميزة وألقابه التى كان يطلقها على أصحاب المناصب الهامة.

أهم الوظائف المملوكية:

ونعطي فكرة سريعة عن بعض الوظائف الهامة في مجتمع الأمراء المماليك وهى كلها تدور حول السلطان.

1 ـ فالداودار: هو الذى يبلغ الرسائل عن السلطان والذى يبلغه بالأمور والشكاوى، وهو صاحب الاستشارة والإشراف على البريد ، يعاونه في ذلك القائم على البريد السلطانى ولقبه أمير جاندار.  والداودار هو الذى يقدم للسلطان المكاتبات الرسمية . ويلاحظ أن سلطات الداودار ازدادت في عصر قايتباى، وكان الداودار يشبك من مهدى هو الشخصية الثانية في الدولة بعد السلطان قايتباى ، وهو صاحب القبة التى لا تزال موجودة فى ميدان ( حدائق القبة ) وبجوارها القصر الجمهورى ( قصر القبة ) .  وكان يعاونه الأمير تنبك قرا الذى تولى منصب الداودار الثاني.  وقد جمع الداودار الكبير يشبك من مهدى في هذا العصر مناصب أخرى فقد تولي منصب الوزارة ومنصب الأستادارية وأناب عنه من يقوم بكليهما.  وكان المؤرخ ابن الصيرفي يخلع ألقاباً كثيرة على الأمير يشبك الداودار الكبير، يقول مثلاً" خرج عظيم الدنيا ـــــ وصاحب حلها وعقدها ومشيرها ووزيرها واستادارها وداودارها الكبير وما مع ذلك دامت سعادته ــ من داره..".

2 ـ والاستادار: هو كبير موظفي القصر السلطانى والمشرف علي نفقة القصور السلطانية من مطابخ وشراب وحاشية وغلمان. والقصور السلطانية كانت تعرف بالآدر الشريفة، ولها موظف خاص لقبه زمام الآدر الشريفة يقوم بالأشراف على حياة السلطان في قصوره وهو طواشى بدرجة أمير طبلخانة ، أى أمير تدق له الطبول تحية له . وتحت يده عدة أفراد من الطواشية. والطواشية هم الخدم .

3 ـ وهناك أمير آخور، وهو رئيس الاصطبلات السلطانية والمشرف على ما فيها من خيول ومن فيها من موظفين وما يباع وما يشترى فيها .  والأوشاقية هم عمال الاصطبلات السلطانية. والركاب خانة هى مخزن آلات الخيول السلطانية ، والعمال فيها هم الركابدارية والسنجقدارية والمهمزدارية . ونكتفي بهذا من عمال وخدام القصور السلطانية.

4 ـ ونأتى إلى أهم الوظائف الحربية المملوكية ونعنى بها الأتابك أو قائد الجيش المملوكى، وكان يتولاها الأمير جانبك الإينالى قلقسيز، ولكن أسره شاه سوار الثائر على الدولة المملوكية في شمال العراق، وتم تعيين الأمير أزبك من ططخ الظاهرى. والأتابك أزبك هو الذى أنشأ منطقة الأزبكية فى القاهرة وجعلها حدائق . ويعاون الأتابك كبار الأمراء في الجيش من رتبة ( مقدم ألوف )، أى أمير لمائة من المماليك وقائد لألف جندى أو : (أمير مائة مقدم ألف).

المماليك الجلبان:

1 ـ تنقسم الدولة المملوكية الى عصرين : المملوكية البحرية والمملوكية البرجية .وتبدأ القصة بالسلطان الأيوبى الصالح أيوب الذى استكثر من شراء المماليك ليستعين بهم كجيش خاص له فى حماية عرشه وفى الانتصار على المنافسين من بقية السلاطين  الأيوبيين . وبسبب كثرة مماليكه فقد قام السلطان الصالح أيوب بتأسيس معسكرات خاصة بهم منفصلة عن بقية الجيش الايوبى المكون من الأحرار ومعظمهم من الأكراد وقتها . أولئك المماليك كان يتم إسترقاقهم صغارا ، ويؤتى بهم عن طريق عصابات متخصصة الى تجار الرقيق فى حلب وغيرها ، وينقلونهم الى القاهرة فيشتريهم السلطان لينشئهم على طاعته وحمايته، ويتم تعليمهم اللغة العربية والعلوم الشرعية وفنون القتال والمهارات المختلفة. كانت تلك المعسكرات فيما يعرف الآن بالجزيرة فى القاهرة ، فأطلق عليهم لقب ( المماليك البحرية ) نسبة لبحر النيل . وبتخرج المملوك يتم عتقه ويعطى وظيفه بأن يكون من المماليك السلطانية التابعين للسلطان وقصره وحرسه وشئونه السياسية والادارية ، أو يكون جنديا محاربا من المماليك البحرية . ومثلا كان عز الدين أيبك من المماليك السلطانية للسلطان الصالح أيوب بينما كان خصمه سيف الدين أقطاى وبيبرس من المماليك البحرية أى المقاتلين . وتميز المماليك البحرية بالشراسة القتالية بينما إشتهر مماليك القصر (المماليك السلطانية ) بالدهاء وفنّ المكائد والمؤامرات . ومات الصالح أيوب إثناء مواجهة حملة لويس التاسع فاستطاعت شجرة الدر والمماليك البحرية والسلطانية هزيمة وأسر لويس التاسع وحفظ ملك سيدهم الصالح أيوب لابنه توران بشاه الذى تنكر لهم فقتلوه ، وتولت السلطنة شجرة الدر ثم تزوجت أيبك ، وقتلته فقتلها مماليك أيبك ، وولوا الطفل (على ) بن أيبك السلطنة تحت رعاية قطز ، الذى مالبث أن عزل الطفل (على بن أيبك ) وتولى مكانه ، وواجه قطز التتار وهزمهم ، وفى نشوة الانتصار قتله صديقه بيبرس وتولى السلطنة مكانه . ثم بايع بيبرس لابنه السعيد بركة ليكون سلطانا بعده ، وزوّجه من بنت قلاوون الألفى أكبر الأمراء المماليك ، ولكن قلاوون ما لبث أن عزل السلطان الشاب وتولى مكانه .

2 ـ وتوسع السلطان قلاوون فى شراء المماليك ليضمن بهم إستمرار الحكم فى ذريته ، فضاقت بهم معسكرات الجزيرة فنقلهم الى جواره فى القلعة ليقيموا فى أبراجها ، فأطلق عليهم المماليك البرجية . أولئك المماليك البرجية الذين استكثر بهم قلاوون وذريته ما لبث أن تحكموا فى السلاطين الضعاف من ذرية قلاوون ، وانتهى الأمر بتولى  السلطان برقوق الحكم كأول السلاطين فى الدولة المملوكية البرجية ، وهو الذى قضى على حكم ذرية السلطان قلاوون البحرى ودولته المملوكية البحرية .

3 ـ وفى الدولة المملوكية البرجية إشتهر إستقدام المماليك الشباب وليس الأطفال من الخارج خصوصا من أواسط آسيا وأوربا، حيث كان يتم فيها قنصهم وأسرهم وخطفهم ثم استحضارهم الى حلب التابعة للسلطنة المملوكية توطئة لبيعهم فى مصر. وبتوالى عشرات السنين أصبح معروفا فى تلك البلاد أن أولئك المخطوفين من أبنائها ينتهى بهم الحال ليكونوا أمراء وسلاطين فى مصر ، لذا أصبح من الشائع فى تلك المناطق الآسيوية والأوربية وحتى من بلاد المسلمين فى عصر المماليك البرجية وقوع الشباب الطموحين فى الاسترقاق بارادتهم ليؤتى بهم مماليك فى مصر المملوكية  أملا فى مستقبل أفضل . بل كان بعض الأمراء المماليك بعد أن يتوطد أمره فى مصر يستقدم اهله ويضمهم الى الطبقة المملوكية ويعطيهم رتبة مملوكية، وهكذا فعل السلطان برقوق الذى استقدم أباه ، وكان هناك أولاد عمومة وأقارب من أمراء المماليك مما يدل على مجيئهم مماليك بإرادتهم . وبينما نبغ قلائل من هذه النوعية من المماليك التى يتم ( جلبهم ) كبارا فإن الأغلبية العظمى من(المماليك الجلبان ) كانوا أوغادا حقيقيين طامعين فى الثروة والسلطة بلا علم ولا خلفية ثقافية أو سياسية سوى السلب والنهب والفتن . كانوا أقرب الى قطاع الطرق وعصابات الإجرام ، فأسهموا فى نشر الفتن فى الدولة المملوكية البرجية ، فاشتهرت البرجية بكثرة عزل السلاطين ، قبل وبعد السلطان قايتباى الذى يؤرخ له مؤرخنا ابن الصيرفى .

4 ـ وقد حرص السلطان قايتباى على الاستزادة من شراء المماليك (الجلبان) ليؤكد بهم سلطانه ، لذا كان شديدا فى تأديبهم . وبتكاثر ( جلب ) الشباب من الخارج رقيقا ليكونوا مماليك حكاما فى مصر فقد فكّر بعض المصريين فى أن يكون مملوكا صاحب ثروة وسلطة ، فسافر لآسيا ليقع بارادته فى الاسترقاق ليكون ضمن المماليك ويتمتع بالنفوذ بعد عتقه . ويروى ابن الصيرفي أن السلطان قايتباى كان يضرب مملوكاً من مشترياته الذين أعتقهم . وابن الصيرفى يعلل سبب ضرب قايتباى لمملوكه لأن المملوك ( وهو فى الأصل مصرى حرّ ) تعجّل ، فبمجرد أن ترقى وتم عتقه وحصل على المال أخذه وأخذ الزى العسكرى المملوكى وخيوله  وغادر المعسكر ليتزوج ، يقول مؤرخنا ابن الصيرفى : ( وسبب ذلك كونه تزوج- أى المملوك- ونزل من الطبقة (أى من الطابق الذى كان يعيش فيه فى برج القلعة ) وأخذ قماشه وخيوله وصار لا يملك غير ما عليه. ) المضحك هنا أن المملوك المزيف ( المصرى الذى تنكر وصار مملوكا ) فضح نفسه وهو يصرخ عند الضرب فأخذ يستغيث بالسيدة نفيسة على عادة المصريين وقتها ، وهذا ليس مألوفا فى المماليك الجدد القادمين لمصر من الخارج . يقول ابن الصيرفى : ( وأعجب من هذا أن السلطان غضب أعظم الغضب لكون المملوك صار يأكل الضرب ويقول: يا ستى نفيسه، فصار السلطان يقول لمقدم طبقته: هذا ما هو جلب إنما هو زقاقى، يعنى لأى شيء يضرب ولا يقول توبه خجم على عادة الأتراك؟ ثم أمر أن يسلموه لتاجره المقيم بحلب.). أى عرف قايتباى أنه ليس مجلوبا من الخارج بل هو مصرى من أزقة القاهرة ، وأرجعه للتاجر الذى جاء به من حلب. أى إن ذلك الشاب المصرى سافر لأبعد من حلب وأوقع نفسه فى الاسترقاق لكى يؤتى به الى مصر مملوكا، وأن ذلك التاجر الحلبى خدع السلطان قايتباى وباع له شاباً على أنه من الأتراك ولكنه كان مصريا ً، وظهر ذلك حين كان يضربه السلطان فصار يستغيث ويقول مثل المصريين "فى عرضك يا ستى نفيسه" أى يتوسل بالست نفيسه ولا ينطق كالأتراك صارخاً باللغة التركية قائلا : توبه خجم.. ونعيد القول بأن ذلك المملوك رضى بالاسترقاق بمحض إرادته ولمجرد التكسب لذا فإنه بمجرد أن أعتقه السلطان أسرع  ونزل من المعسكر وأخذ ملابسه وخيوله ليتزوج فافتضح أمره، وعندما ضربه السلطان أخذ يتوسل بالست نفيسه، وفهم السلطان من توسله بالست نفيسه أنه مصرى أصيل ( زقاقي ) من أزقة القاهرة وحواريها([2]).

5 ـ وبالمناسبة : ففى مشروع ( تحويل التراث الى دراما ) تم تجهيز مسلسل ممتد هو ( مجالس ابن إياس ) الذى يقوم فيه ابن إياس بالتجول فى تاريخ المسلمين حاكيا نوادره وخفاياه ، مناقشا لها مع جلسائه ، كما يتم فى المجالس التعرض للقصص الحقيقية التى كانت تحدث وقتها بتاريخ اليوم والشهر والعام . وكان الاعتماد فى حكاية هذه القصص المعاصرة لابن اياس على تاريخ ابن اياس وتاريخ الهصر لابن الصيرفى وتاريخ السخاوى . ومن القصص التى تعرضت لها مجالس ابن اياس هذه القصة الدرامية المأخوذة من تلك الحادثة التى ذكرها ابن الصيرفى ، وتم تحويلها الى دراما بطلها شاب مصرى قاهرى طموح أحب فتاة من بنات الناس ( أى من ذرية المماليك من الطبقة العليا ) ولكن لم يجرؤ على التقدم لها فسافر الى خراسان وأوقع نفسه فى الاسترقاق حتى جىء به الى حلب ومنها بيع مملوكا وأصبح من المماليك السلطانية للسلطان قايتباى ، ولكن لم يستطع الانتظار فترك المعسكر ليتزوج بحبيبته ، فانكشف أمره . وهناك مئات القصص من هذا النوع جاءت بين سطور التاريخ المملوكى خصوصا تاريخ الهصر ، وتم تحويلها الى دراما فى مجالس ابن إياس. ومشروع تحويل التراث الى دراما مع أهميته القصوى فلم يجد من يتعاون معنا فى تنفيذه . 

أولاد الناس

1 ـ وقد تكاثرت ذرية المماليك الذين عاشوا من قبل فى مصر وتزوجوا بها وصارت لهم عائلات من الأحرار الذين لم يمسهم الرق، وفى عصر قايتباى صاروا طبقة اجتماعية عليا يطلق عليهم ( أبناء الناس ) ، 2 ـ ويذكر مؤرخنا ابن الصيرفى فى أحداث يوم الاثنين 2 شعبان 876 أنه قبض الوالى ( وهو الآن يشبه وظيفة مدير الأمن ) على شخص من أولاد الناس وهو سكران ، وصعد به للسلطان فضربه السلطان حد الخمر ، وحلّفه أن لا يعود للسكر، .يعنى ابن ناس ويسكر!! لا يصح طبعاً.

كان قايتباى يتعامل بالضرب مع مماليكه ومع أبناء الطبقة المترفة ( أولاد الناس ) ومع ( كل الناس ) .

المماليك والتقلبات السياسية:

1 ـ عرف أمراء المماليك النعيم وعانوا من البؤس تبعاً للتقلبات السياسية. وحين يتولى السلطان كان يبادر بالتخلص من أعدائه ومنافسيه بالقتل أو بالسجن، وينشئ له حاشية جديدة، وربما تأخذه الرحمة بعد أن يتوطد أمره فيفرج عن بعض المسجونين ويكون ذلك أحياناً بشفاعة بعض الأمراء الجدد الذين كانوا رقيقاً ومماليك من قبل لأولئك الأمراء القدامي أصحاب الجاه القديم والذين غدر بهم (الزمن ) . وهكذا عرف أمراء المماليك العز بعد الذل والذل بعد العز، وأيقنوا مثل كل المصريين أن الدنيا ساقية دوارة. ولهذا يمتلىء عصر المماليك بأروع الدراما الانسانية التى قد لا يتصورها الخيال .

2 ـ ومن تاريخ الهصر نأخذ بعض الأمثلة في عصر قايتباى:

في يوم السبت 9 ذو القعدة 876 صعد الأتابكي أزبك بن ططخ الظاهرى إلى حضرة السلطان وشفع في حاشية الصاحب ابن كاتب جكم، وكانوا مسجونين من مدة خمسة شهور، استجاب السلطان وأطلقهم من السجن.  وفي هذه الأيام كان المحتسب يشبك الجمالى معزولاً عن منصبه يعانى الذل، ويقول فيه المؤرخ ابن الصيرفي "والمحتسب ضعيف منقطع بداره ، وليتها القاضية ليحصل للمسلمين بل ولخلق الله قاطبة بذلك العيشة الراضية ، فإن هلاكه فيه بقاء لمهج غالب أمة محمد (ص ) فإنه شق عليهم وعلى طلبة العلم وشيوخ العلم وقضاة الشرع .! فاللهم أحكم فيه بعدلك قريباً". لقد عرف المحتسب يشبك الجمالى أياماً من العز والنفوذ ثم انتهى أمره إلى الخمول فتشفي فيه المظاليم.

وفي يوم عيد الأضحى 876 وصل القاهرة الأميران الكبيران جرباش كرد المحمدى الناصري الذى كان أتابكا في سلطنة خشقدم، ويشبك بن سليمان الذى كان داوداراً في سلطنة خشقدم وسلطنة يلباى، وكانا مسجونين في دمياط، ولكن عفا عنهما السلطان قايتباى وجئ بهما للقاهرة وصعدا بين يدى السلطان في هيئة ذليلة يصفها المؤرخ ابن الصيرفي فيقول "وصعدا من الغد بين يدى السلطان وقد لبسا طرحاً وفي أعناقهما مناديل صفا، فقبلا الأرض وباسا يد السلطان.." وشفع الأمير جرباش المذكور في الأمير جانبك كوهيه المسجون في دمياط فلم يقبل السلطان شفاعته.

كان قايتباى من قبل تابعاً للأمير جرباش كرد الأحمدي حين كان الأخير قائداً للجيش المملوكي في سلطنة خشقدم، وكان الأمير يشبك بن سلمان هو الداودار صاحب النفوذ ومرت الأيام ودارت الساقية فأصبح قايتباى  سلطاناً وجئ بالأميرين من السجن ليقبلا يد قايتباى بعد أن تسلطن!! ..على رأى المصريين : دنيا غرورة!!

3 ـ هذا في الوقت الذى كان فيه الأمراء المماليك من حاشية السلطان يتقلبون في المناصب، ونأخذ بعض الأمثلة : ففي يوم الاثنين 19 ربيع الأول 877 تنازل الدوادار الكبير يشبك بن مهدي عن وظيفة الاستاداية للأمير قنصوه أمير سلاح، وصار الاستادار الأسبق ابن البقري يعمل في خدمته، وفي يوم السبت 30 محرم 886 عين الأمير قجماس أمير آخور نائباً للسلطان في الشام، ,وأقيم له احتفال ضخم في القاهرة.

4 ـ وكان بعضهم يصل إلى المناصب عن طريق الرشوة أو "البذل" فالأمير تمرباى الأشرفي سعى لوظيفة نائب السلطان في حلب عن طريق (البذل ) أى بذل الأموال. أى الرشوة ، وكان هناك ديوان للرشاوى إسمه ( ديوان البذل والبرطلة ) وعن طريقه يتم رسميا شراء المناصب ـــ بلا خجل ،وتحت شعار الشريعة السّنية وفى حمايتها ، بل بالرشوة كان يتم تعيين قضاة الشرع ( السنى ).!.

ولم يختلف الحال كثيرا فى مصر الراهنة . وقديما قال المتنبى :

وكم ذا بمصر من المضحكات   ولكنه ضحك كالبكا

المماليك البطالون، والأمير الطرخان:

1 ـ وهناك من المماليك من كان يعرف بالبطال. والبطال هو الأمير المملوكي العاطل الذى أحاله السلطان للمعاش بسبب غضبه منه أو بسبب كبر السن أو بسبب اضطراره للاختفاء أو الاعتكاف.والأمير الطرخان هو المعزول عن سلطاته غير مغضوب عليه وينال معاشاً.

2 ـ والأمير مغلباى طاز ت 873 عاش أواخر حياته بطالاً.وقد بدأ حياته خاصكيا في سلطنة المؤيد شيخ، ولما تولى الأشرف اينال جعله أميراً لعشرة، ثم تسلطن زميله فرقاه أمير طبلخانه وجعله أمير الحج، ثم صار أمير مائة ألف ودام على ذلك حتى كانت الفتنة التى خلع فيها صهره السلطان الظاهر يلباى فأحيل مغلباى طاز إلى البطالة وظل كذلك إلى أن مات 873 هـ منفياً في دمياط.

3 ـ أما الأمير لؤلؤ بن عبد الله الذى توفي في نفس العام 873 فقد لزم داره بطالاً إلى أن مات.. وقد كان لؤلؤ أميراً عالى القدر في سلطنة الأشرف اينال، فلما تولى السلطنة ابنه أحمد ابن اينال طمع هذا السلطان الشاب في جارية حسناء مغنية كانت في ملك لؤلؤ وطلبها منه ولكن لؤلؤ امتنع فغضب منه أحمد بن اينال وعزله فأصبح بطالاً.. ولما تولى خشقدم السلطنة أعاد لؤلؤ لدائرة الضوء وعينه زماماً وخازنداراً ثم عزله فاستمر بطالاً بداره إلى أن مات. 

4 ـ وفي نفس العام سنة 873هـ ، توفي الأمير بيبرس الأشرفي، وكان قد اعتقله السلطان الظاهر خشقدم يوم الخميس 26 ذو الحجة 865 وحبسه في الإسكندرية مدة ثم أفرج عنه وأمره بالإقامة بالقدس بطالاً فظل هناك إلى أن مات أواخر شهر رمضان 873هـ. ومن الأمراء الذين أصابتهم البطالة جرياش ويشبك المؤيدى وطوخ الأبوبكرى.

سلطان على المعاش في عصر قايتباى:

1 ـ وأصابت البطالة بعض السلاطين وكان منهم السلطان (السابق) المنصور عثمان بن جقمق الذى عاش في سلطنة الأشرف قايتباى وأسبغ عليه قايتباى كثيراً من التكريم. ففى يوم السبت 3 شوال 873 قدم السلطان (السابق) عثمان بن جقمق من منفاه بالإسكندرية إلى القاهرة ليستأذن السلطان قايتباى في الذهاب للحج. ويصف ابن الصيرفي ذلك اللقاء بين السلطان الحالى والسلطان السابق فيقول" وطلع المنصور من فوره إلى القلعة ونزل عن فرسه من باب الدرج ودخل إلى السلطان بالدهشة واستمر السلطان جالساً على مدورته إلى أن قاربه المنصور ووصل إلى ثلثى الإيوان قام إليه ، وأراد السلطان أن يعتنقه فأهوى المنصور إلى ركبة السلطان ليقبلها والشباك في يمينه .  وجلس المنصور تجاهه والمرتبة خلفه والشباك عن يساره، وتكلما ساعة فخلع عليه ( قايتباى ) كاملية مخمل أحمر بمقلب سمور وعليها فوقاني بوجهين بطراز مزركش، ولما تم لبسه ومشى إلى نحو السلطان خطوات قام له السلطان فقبل المنصور الأرض فنهاه السلطان عن ذلك بعد أن فعله، وعاد المنصور إلى منزله بعد أن عين له السلطان فرساً خاصاً أدهم بسرج ذهب وكنبوش (بردعه) زركش ركبه من باب الساقية وتوجه إلى باب الحريم ، فوقف هناك وأرسل السلام لخوند (زوجة السلطان) جهة السلطان فلما عاد عليه السلام توجه لمنزله الذى نزل فيه وهو بيت صهر زوج أخته الأتابكي أزبك بين الصورين.) . ونرى من الوصف التفصيلي السابق كيف أن المماليك كانوا يحافظون على البروتوكول في الاستقبال، ولم يمنع من ذلك أن السلطان المعزول (المنصور عثمان بن جقمق) كان له زمنه ونفوذه الذى كان فيه الأمير قايتباى يخر على وجهه ليقبل الأرض بين يديه، ولكن الساقيه دارت وجاء السلطان السابق ليركع أمام تابعه السابق، فالأيام دول، وسبحان من يعز من يشاء ويذل من يشاء.

وهذا الوضع لفت انتباه مؤرخنا ابن الصيرفي، يقول أن قايتباى أمر الأمراء والأعيان بالاحتفال بقدوم المنصور عثمان للقاهرة، فهرعوا له زمراً زمراً ، ومع هذا كله فلم يكن لحضور المنصور ودخوله القاهرة كبير أمر ، مع أنه أى المنصور عثمان كان الذى اشترى أولئك المماليك وهو الذى رقاهم ورفعهم، ويعلق ابن الصيرفي فيقول "فانظر لهذه الدنيا وفعلها بملوكها والمغرمين بها فسبحان الخالق المعطي الذى يؤتى الملك من يشاء لا إله إلى هو جل وعلا".وينتهزها ابن الصيرفي فرصة ليكيل المدح للسلطان قايتباى على أنه استضاف سلطاناً معزولاً دون أن يخشى من نفوذه وأتباعه السابقين، يقول "وفي الواقع فما رأينا سلطاناً أعظم ولا أضخم ولا أشهم ولا أفرس ولا أكثر توكلاً على الله من هذا السلطان الملك الأشرف، كونه يحضر من كان سلطاناً وابن سلطان بل أستاذه وابن أستاذه إلى القاهرة ويصعد إليه لقلعة الجبل وغالب من بالبلد من الأمراء المماليك من عتقاء أبيه ومماليكه بعد أن خلع من الملك من سابع شهر ربيع الأول من سنة 857هـ.

2 ـ وفي السبت 10 شوال 873 أقام السلطان مأدبة للمنصور عثمان نقرأ وصفها التفصيلي في تاريخ ابن الصيرفي "عمل السلطان ضيافة للمنصور عثمان بن جقمق ضيافة ملوكية. وكيفية الضيافة: أن السلطان أرسل يعرف المنصور بذلك فركب المنصور من داره صهره الأتابك أزبك من بين الصورين وصعد لباب القلة فنزل هناك عن ظهر فرسه ، ودخل ماشيا إلى الحوش السلطانى ، فجلس فيه قليلاً إلى أن طلبه السلطان وجاءه الأذن بالدخول إلى البحرة التى جددها الملك الظاهر خشقدم، فجلس قليلاً وطلبه السلطان إلى أعلى البحرة القديمة فبمجرد وقوع بصر السلطان عليه قام له وجلسا بغير مرتبة، على أن كلا منهما جلس على مقعد ، ثم حضر الفطور من الأشربة وغيرها فتناولا منه المعتاد، ثم حضر السماط الملوكي المفتخر فأكلا، ولم يحضر السماط أحد من الأمراء المقدمين الألوف غير الأمير جانبك الأمير آخور الكبير وبعض أمراء عشرات وبعض خاصكيته، ولما انتهى السماط وقدموا المشروب من السكّر وغيره رسم السلطان بكامليه مخمل أخضر سمور بمقلب سمور ليلبسها المنصور فحضرت ولبسها وقاماً واعتنقا وانصرفا، وفي الحال رسم السلطان أن المركوب الذى طلب له يركبه من باب البحيرة من الحوش السلطانى فركب كما رسم وتوجه لمنزله....". ونتعرف هنا على بعض ملامح المآدب الرسمية المملوكية، فقد بدأت بدعوة السلطان قايتباى ضيفه المنصور، ثم جاء الضيف راكباً فرسه حتى باب القلة في القلعة، ثم دخل ماشياً إلى باب الحوش السلطانى، وهناك جلس فيه قليلاً إلى أن طلبه السلطان فدخل إلى البحرة التى بالقلعة حيث ينتظره السلطان، وهناك تعانقا وجلس كل منهما على مقعد، ثم تناولا الفطور، وبعده جاء السماط المفتخر وحضره أمير آخور وبعض الأمراء في القلعة، وجاء المشروب بعد السماط، وبعده أنعم السلطان على ضيفه برداء للتشريف (كاميلية) بمخمل أخضر سمور، وبعد أن لبس الضيف التشريفة عانق السلطان وانصرف، وأمر السلطان تكريماً له أن يركب ن"RTL"> القسوة هى أسلوب التعامل في مجتمع المماليك:

1 ـــــ لنا أن نعذر ابن الصيرفي في انبهاره الشديد بسلطانه قايتباى.فالعملة السائدة في التعامل المملوكى هي الضرب، والضرب بشدة، الكبير يضرب الصغير، والمملوك الصغير يضرب الوزير والمباشرين- أى الموظفين- لأنه مملوك وهم من الشعب مهما بلغت درجة وظيفتهم، وإذا كان كبار الموظفين من الشعب يضربهم المماليك فالشعب المسكين في أسوأ حال. وإذا كان الضرب دائراً (عمال على بطال) فمن حق ابن الصيرفي أن يهلل كيفما شاء وهو يري السلطان يكرم سلطاناً سابقاً ويستقبله في القلعة ويسمح له بالتجول والاصطياد في الدلتا.

2 ــ في يوم السبت 25 ربيع الأول سنة 875 هـ أمر السلطان قايتباى بضرب أحد مماليكه ورسمه بسجنه في برج القلعة،وسبب ذلك أنه على حد قول ابن الصيرفي "أساء على الوالى ولكمه" .بسيطة.. شتم الوالى ولكمه... جرى خير..!!.. و إذا كان يلكم الوالى ويسبه فماذا كان يفعل ذلك المملوك مع الغلابة في الشارع.!!. ـ وقد يصل غضب السلطان قايتباى إلى حد أنه يضرب الداودار الثانى نفسه. ففي أول ربيع الأول 874 غضب قايتباى على الداودار الثاني تنبك قرا وضربه "صارت عيطه" على حد قول ابن الصيرفي، والسبب أن اثنين من الأمراء طلبا من السلطان إقطاعيين بلهجة خشنة لا يسمح بها بالبروتوكول المملوكي.ــ وفي يوم الخميس 13 محرم 875 أمر السلطان بتوسيط مملوك اسمه يونس، وبادر المشاعلى ــ أو عشماوى وقتها- بتوسيطه وقطعه نصفين بالسيف، وسجن رفيقه واسمه شرمنت ببرج القلعة، والسبب أنهما سكرا، ورمي يونس النشاب وهو سكران فقتل أحد المماليك في الطريق، فعاقبه قايتباى بالتوسيط وسجن رفيقه.

وكم من المماليك كان يسكر ويرمى النشاب في الطريق ويصيب أجدادنا الغلابة، ولا يهتم السلطان ومؤرخه ابن الصيرفي. ونترك السلطان ونرى ماذا كان يفعل غيره من الأمراء.

3 ـــ في أول محرم 875 ضرب الأمير اينال الأشقر غلاماً من غلمان أحد المماليك بسبب أنه سرق طائراً "أوزة" وعليقة شعير، فضربه اينال ضرباً مبرحاً ومثل به فجعل في أنفه سهماً مثقوباً وأشهره بالمدينة، يقول ابن الصيرفي معلقاً "فلا قوة إلا بالله..". والغلطة التى وقع فيها ذلك الغلام أنه سرق وانكشف أمره وحدث ذلك قبل أن يكون له نفوذ مثل الأمير اينال الأشقر.. لذلك حاكمة المجرمون الكبار..

المماليك يضربون كبار الموظفين المصريين:

1 ـ وهؤلاء المجرمون الكبار كانوا يضربون الموظفين المصريين إذا أرادوا تطبيق القانون.

وفي يوم الأحد 30 محرم 875 اشتكي موظفو الجمارك (المكس) للدوادار الكبير من مماليك الأمير تمر الحاجب لأنهم ضربوا أولئك الموظفين وشجوا رؤوسهم حين طلبوا منهم دفع الجمارك، وتأكد الدوادار من صدق أولئك الموظفين فأرسل للأمير تمر الحاجب يطلب إحضار أولئك المماليك المعتدين فرفض الحاجب، فما كان من الدودار الكبير إلا أن أرسل إليهم قوة من المماليك ومعهم قضاة فأحضروهم "على أقبح صورة" وضربوهم بالمقارع وأشهروهم في البلد "فتبهدل تمر الحاجب إلى الأرض وقويت شوكة الأمير الداودار".

وقد حدث نفس الشيء في شهر ربيع ثان سنة 874، فقد وصلت شحنة أغنام من الوجه القبلي للأمير قنصوه فأراد أخذها بدون أن يدفع المكس (الجمارك) ولكن الوزير قاسم أعاق تسليم الغنم إلا بعد دفع الجمارك، فأرسل إليه قنصوه يطلبها فامتنع قاسم، فغضب قنصوه واستعد ليركب إلى الوزير" ليبهدله ويضربه" على حد قول ابن الصيرفي، فبلغ قاسم ذلك فركب وحضر إليه ليصالحه على شيء" أى ليتفق معه اتفاقاً ودياً، فما كان من الأمير قنصوه الاينالى إلا أن ضرب الوزير ضرباً مبرحاً مؤلماً، ويقول ابن الصيرفي "ومع ذلك فلم يطلق له قاسم الغنم" وفي النهاية تدخل الداودار الكبير وحصل قانصوه على الغنم.

2 ـــ والجديد هنا أن المضروب كان الوزير وليس مجرد موظفي الجمارك. وضرب الأمراء المماليك للوزراء وكبار الموظفين لم يكن إلا حدثاً عادياً في ظل السلطة العسكرية في أى مكان وزمان، يقول ابن الصيرفي عن الأمير بردبك البجمقدار ت 875 "كان يتسلط على الوزير والاستادار والمباشرين بالضرب والسب فيكتبون له ولمن في خدمته الجوامك ( أى المرتبات المالية ) واللحم الجيد الصنف والمثمن.( أى المرتبات العينية ). وهو من الفرسان الشجعان الأبطال..".وهكذا رأينا طرفاً من شجاعته وبطولاته مع كبار الموظفين المصريين، فكيف به من الغلابة في القاهرة. ذلك البطل الشجاع كان يستخدم نفوذه في الضغط على الوزير والاستادار وكبار المباشرين والموظفين لكى يكتبوا له مرتبات زائدة أو "جوامك" ولكى يكتبوا له "جراية" خاصة من اللحم والأسلوب المفضل لديه في دولة العسكر هو الضرب والشتم وما أشدهما من وسيلة للإقناع..

وفي يوم الخميس 29 من ذى القعدة 876 حدث أن الأمير ازدمر الإبراهيمية ضرب عشرة من مماليكه ضرباً مبرحاً بالمقارع وسجنهم في سجن المقشرة الرهيب، وذلك لأنهم ضربوا داوداره وموظفيه ضرباً مبرحاً، فقد طلبوا من الدوادار جامكية أو مرتب ثلاثة شهور فرفض. ووقع نفس الحادث للأمير تمر الحاجب مع مماليكه فضربهم.

3 ــكان الضرب هو العملة السائدة بين المماليك، والدوادار الكبير كان مشهوراً في هذا المجال وكم عانى من كبار الموظفين، وحدث أن سافر للصعيد ثم رجع للقاهرة يوم الاثنين 7 محرم 874 فكان الجميع في استقباله من الأمراء والرؤساء والمباشرين، يقول ابن الصيرفي عنهم "ووجم غالبهم لقدومه" لماذا ؟لأن يده كانت ثقيلة في الضرب..وفي مجتمع الغابة هذا كان الأمير المملوكي الوديع لا أهمية له، يقول ابن الصيرفي عن الأمير قايتباى المؤيد "وكان أميراً مباركاً عديم الشر والخير، وهو كما قال مخدومنا الجمال يوسف عين المؤرخين: لا يصلح للسيف ولا للضيف".فلانه عديم الشر وعديم الخير أيضاً فكان لا يصلح لشيء لا السيف ولا للضيف، وهذا هو المقياس في دولة الغابة.

أنين الشعب من قسوة المماليك:

1 ـ والمؤسف أن الضرر والضرار كان عالى الصوت في ذلك العصر، وإن كان المؤرخون لا يسمعون ما يدور حول السلطان، أما أنات المظلومين من عوام الشعب فلم تحظ بالاهتمام. ونحن نتحسس هذه الأنات ولا نجد لها إلا لمحات بين السطور.ومنه ذلك النداء الذى نودى به في القاهرة يوم الخميس 13 محرم 875 "أن أحداً من المماليك السلطانية لا يحمل سلاحاً ولا يضرب أحداً من العوام ومن فعل ذلك وسط بلا معاودة..".وقد صدر هذا النداء شديد اللهجة أثناء التجهيز الحربي لغزوة شاه سوار الثائر على الدولة في العراق.ونفهم أن ذلك النداء شديد اللهجة لم يصدر من فراغ. وأكاد أسمع من خلاله صراخ المظلومين من أجدادي.!!

2ــ ونلمح صراخ أجدادنا المظلومين من بعض الإشارات التى تعبر عن ظلم الأمراء والمماليك، يقول ابن الصيرفي عن الأمير سنقر : "كان شديد الظلم على الخلق ، سيما لما عمّر الأشرف اينال المركب لغزو قبرص فخرب غيطان المسلمين وآذى خلق الله تعالى.. وصل إلينا خبر موته في هذا الشهر من هذه السنة واستراح وأراح الله العباد والبلاد من ظلمه وشره...". ويقول عن الأمير يشبك جن "كان غاية في الظلم والأذى والتجبر... وكان سيء الأخلاق.. إذا ضرب لا يرحم وإذا خاصم فجر وإذا غضب لا يطاق وفرح بموته كثيرون". ولما أنزلوا جثمانه إلى المقبرة كان ابن الصيرفي حاضراً، ويقول أن الدودار الكبير بكي وحزن عليه ويعلق ابن الصيرفي على بكاء الداودار الكبير فيقول "ومع ذلك فما ثم من يعتبر ولا يحسب حساب الآخرة".

والطريف أن ابن الصيرفي كان يمدح الداودار الكبير وينافقه في كتابه، ولكن لسانه زل فنطق بالحق في إشارة سريعة لظلم ذلك الأمير.

المحتسب المملوكي وظلمه لأهل القاهرة:

1 ــ وكلما اقترب الأمير المملوكي من دائرة التعامل المباشر مع الناس ازداد ظلمه للناس.. وينطبق ذلك على المحتسب يشبك الجمالى- محتسب القاهرة في عصر قايتباى. والمحتسب في الأصل وظيفة مدينة يقوم بها الفقهاء والعلماء شأنها شأن وظيفة القضاء . والمحتسب هو الذى يشرف على الأسواق والموازين والتسعيرة، وكانت له سلطات واسعة في العصر المملوكي ، فهو يفتش على الأسواق والمكاييل والموازين، وهو الذى يفرض العقوبة على المخالفين، وهو الذى يأمر بتنفيذها، أى هو الخصم والقاضى والجلاد معاً.

2 ـ وقد كان الأمير يشبك الجمالى مشهوراً بالتدين ، فعينه السلطان قايتباى أميراً للحاج، أى قائداً لقافلة الحج وذلك في يوم الخميس 25 ربيع الأول 873، ثم أضيفت له وظيفة الحسبة يوم الاثنين 24 ربيع ثان سنة 873.وكان يشبك الجمالى في ولايته للحسبة معبراً عن الطبيعة المملوكية العسكرية حتى لو كانت متدينة.

فهذا المحتسب المملوكي استكبر أن ينزل الأسواق بنفسه وأوكل المهمة لأتباعه الذين حازوا على على ثقته، فانفردوا بالأسواق يفرضون الاتاوات على التجار ومن يرفض دفع الاتاوات يحملونه إلى يشبك الجمالى المحتسب فيوقع به أشد العقوبة، هم يسرقون وهو يباشر هوايته في ضرب التجار المسكين الذين يرفضون دفع الاتاوة. يقول عنه ابن الصيرفي : ( وباشر يشبك المذكور الوظيفة المذكورة، لم يكشف البلد بنفسه ولا مرة واحدة ، ولا يعرف أحوال الرعايا والمسلمين إلا من أعوانه الذين في خدمته ، فصاروا أرباب أموال وأقمشة ودور وخيول وبغال وحمير ، وهو ماسك البقرة وغيره يحلبها ، فإنه لا يتعاطى شيئاً ، ولكن ما أحسن قول الشاعر.

ورابط الكلب العقور ببابه   فأصل ما بالناس من رابط الكلب  )

ويستطرد ابن الصيرفى فيقول عن يشبك المحتسب : ( وهذا في غاية الشماخة والترفع أن يقف على سوقي أو وزّان أو بيّاع ويعتبر (أى يختبر) أوزانهم وسنجهم وحوانيتهم وأمثال ذلك.. بل تحضر أعوانه له بمن لا يعطونهم المعلوم المعهود عندهم ( أى الرشوة أو الاتاوة ) فيضربهم ثلاث علقات: واحدة على مقاعده وأخرى على رجليه وأخرى على أكتافه ، ويشهرونه بلا طرطور بل يكشفون رأسه. وهو الذى أحدث كشف الرأس ، مع أن جماعة كثيرين ممن فعل بهم عميوا وطرشوا ، فإن الواحد يكون ضعيف البصر أو به نزلة ( زكام أو نزلة برد ) فيكشفون رأسه أو يدرورون به في القاهرة فلا يرجع إلا بضرّ أو مثال ذلك..."). ويقول عن أحكامه "وأما أحكامه فالبخت والنصيب ، وأما أخلاقه ففي غاية الشراسة ، حتى أنه يغضب على من قربه وجعله أميراً ويستمر على ذلك الأشهر بل والأعوام،) ويقول عن تدينه السطحى : (هذا مع دينه المتين ومحافظته على الصلاة والصيام) ويقول عن جهله فى نقاشاته مع الفقهاء : ( ولكن عنده تعصب على الأمر الظاهر الجلى القطعي وعرف غالب الفضلاء من أرباب المذاهب وغيرهم ذلك منه) ثم يدعو عليه ابن الصيرفى فيقول : ( والله يعامله بعدله سريعاً".).!

3 ـ وهذا المحتسب المملوكى المأفون قاسى منه شعب القاهرة عذاباً وغلاءاً في الأسعار.ففي يوم الثلاثاء 16 صفر 875 رفض بائع تين غلبان أن يدفع المعلوم لزبانية المحتسب فاحتملوه إلى ذلك الطاغية فضربه الثلاث علقات المعهودة ، وأشهره فى المدينة أى طيف به فى الطرقات ، ثم صلبه على باب دكانه في هيئة فظيعة، يقول ابن الصيرفي "ضرب المحتسب شخصاً من السوقية يبيع التين ثلاث علقات واحدة على مقاعده وأخرى على رجليه وواحدة على أكتافه، وأشهره بالمدينة على عادته التى يفعلها عرياناً مكشوف الرأس ، ثم رسم بصلبه بذراعه على حانوته وقررت يده الأخرى إلى ظهره، ولطخه عسلاً ، وأوقفه في الشمس ، فتسلط عليه النحل والزنبور والذباب وقاسى من العقوبة مالاً يوصف".).!! فهل كان ذلك البائع المسكين سارقاً أو قاتلاً؟ بالطبع لا، فكل ما هنالك أنه لم يستطيع دفع الاتاوة ربما لأنه لا يملكها.يقول ابن الصيرفي يعلل تلك العقوبة الهائلة "وسبب ذلك أن رسله الذين هم من جهته .. كانوا إذا طلبوا البلص- أى الرشوة- من فقير وامتنع ، ذكروا لأستاذهم عنه ما أرادوا ، وهو سريع الحدّة سريع الغضب لا يثبت في الأحكام فيطلبه ويفعل به ما ذكر.). ثم يتحدث ابن الصيرفي عن زيادة الأسعار التى كان التجار يفرضونها بعد أن يقدموا الرشوة لزبانية المحتسب : ( وإلا فكل سوقة مصر يبيع بزيادة عما يأمر به المحتسب حتى إذا نودي على الجبن بسبعة دراهم الرطل يبيعونه بثمانية بزيادة درهم، وكذا في سائر البضائع حتى اللحم". ثم يعود ابن الصيرفي يتحدث عن الثراء الفاحش لزبانية المحتسب "وأقول أن رسله الذين من جهته صار كل واحد منهم بأقمشة حرير والصوف العالى الغالى والنعال الخاصة المزينة والعبيد والجوارى الذين للخدمة والنفقات التى ينفقها كل يوم من لحوم وأعسال ودقيق وغير ذلك بعد أن كان الواحد منهم لا يملك إلا قميصاً وملوطة."؟) .!!

ثم يتحدث عن الغرامة الباهظة التى كان يفرضها المحتسب:( وكان المضروب أو المطلوب لبيت المحتسب لا يغرّم أكثر من نصف ( النصف هى العملة المملوكية وقتها ) أو نصفين بالكثير، فصار الآن يغرّم المائة والمائتين والثلاثمائة والأربعمائة والخمسمائة".).

4 ـــ وحدث خلاف بين السلطان والمحتسب يشبك بسبب تركة كان يطمع السلطان في الاستيلاء عليها فاستولى عليها قايتباى ، فاعتكف المحتسب في بيته مغاضباً، وترك الحبل على الغارب لزبانيته الذين إكتفوا بما يأخذونه من التجار وأغمضوا الطرف عن تلاعبهم بالأسعار وفي الوزن خصوصاً وزن الرغيف، فانتشر الغلاء وازدادت المعاناة.

5 ـ والسلطان قايتباى كان يعرف ظلم المحتسب ومع ذلك فلم يغضب عليه إلا عندما اختلفا حول المال، وفي النهاية فكلاهما- قايتباى ويشبك الجمالى- كان مشهورين بالتدين والصلاة والصيام والأوراد وكانا مشهورين أيضاً بالظلم.. وهذه هى الشخصية المملوكية التقليدية.

الفصل الثالث : السلطان قايتباى بين التدين والظلم والجشع.

السلطان قايتباى الرجل الورع 

1 ــ والسلطان قايتباى كان مشهوراً بالتدين ومشهورا في نفس الوقت بالظلم. يقول ابن الصيرفي عن تدين السلطان قايتباى :( وفي الواقع فسلطان مصر الملك الأشرف أبو النصر قايتباى- نصره الله- سلطان عظيم شجاع فارس معدود من الفرسان، دينِّ عفيف الفرج لا يلوط ولا يزني ولا يسكر وله ورد في الليل من صلاة وقيام".).أى تميز السلطان قايتباى عن غيره من السلاطين والأمراء المماليك بأنه لا يقع فى الزنا ولا فى الشذوذ الجنسى الذى كان سائدا وقتها فى ظل حماية الشريعة السنية و سكوتها عنه . بل إنه يقوم الليل يصلّى ويقرأ الأوراد الصوفية على المعتاد وقتها .

2 ـــ ترى ماذا كان يفعل ذلك السلطان الورع بعد أن ينتهى من صلاته وقيام الليل وقراءته للأوراد ؟ لنبحث عن الإجابة من خلال ما كتبه ابن الصيرفي نفسه.

جشع السلطان قايتباى

1 ــ كان قايتباى يجبي ضرائب متنوعة، منها مكس البضائع- الجمارك، زكاة الدولة، وما كان يجبي إذا حضر مبشر بفتح حصن، وما يجبي من أهل الذمة، ما يجبي من التجار عند سفر العسكر إلى الحرب وعند وفاء النيل، ضمان القراريط من كل ما يباع من الأطيان بنسبة 2% من ثمن البيع حتى لو تكرر بيع الأطيان في الشهر الواحد، ثم ما يؤخذ من أهل الشرقية من الخيل والجمال والبقر إذا سرحوا للصيد في بركة العباسة.

2 ـ وبالإضافة إلى ذلك كان السلطان الحق في الحصول على هدايا (إجبارية) أو بتعبير عصرنا "تبرع إجبارى" وكيف يكون تبرعاً ويكون إجبارياً في نفس الوقت؟ هنا المأساة والملهاة أيضاً فى حكم العسكر قديما وحديثا حيث تستوجب السلطة سلب الثروة طوعا أو كرها. في شهر شعبان سنة 874 جاءت للسلطان تقدمه (أى هدية قدمت له) مقدارها مائتا ألف دينار .

وكان يكفي للسلطان أن يشير من طرف خفي لتنهال عليه الهدايا (الإجبارية).. ففي يوم الاثنين 22 ذى القعدة 875 كان السلطان يتنزه على ساحل بولاق وهناك سأل عن بيت ابن مزهر وهو كاتب السر، وفي الصباح التالى جهز ابن مزهر للسلطان هدية من السكر المكرر عشرة قناطير ومن الأغنام السمينة عشرين خروفاً، ولولا الرغبة والرهبة ما تكلف كاتب السر كل هذا..

3 ـ وكان السلطان يأخذ (الهدايا) لكى يطلق سراح المساجين السياسيين، ففي 7 ربيع الأول 875 أطلق السلطان سراح الأمير خاير بك الذى كان دوداراً في سلطنة الظاهر تمربغاً وذلك في مقابل عشرين ألف دينار، وكان الذى توسط في الصفقة المحتسب يشبك الجمالى وناظر الجيش.

السلطان قايتباى يصادر التركات ويأكل أموال اليتامي:

1 ـ وكان السلطان الورع يلتهم التركات ويأكل أموال اليتامي ظلماً.

عندما مات الأمير يشبك جن 875 أخذ السلطان خيوله وجماله ومماليكه ويرقة ، ( أى عتاده الحربى) وكل متاعه . يقول ابن الصيرفي "وهكذا شأن الزمان". وعندما مات الأمير بردبك البجمقدار 875 بالشام بعث السلطان الأمير قجماس ليستحوذ على تركته وتركة داوداره أبى بكر وكان قد توفي هو الآخر، ووصل الأمير قجماس للقاهرة يوم الأحد أول جماد الثاني 875 ومعه تركة الاثنين، يقول ابن الصيرفي "فبلغنى أن النقد خاصة أربعون ألف دينار خارجاً عن القماش والصوف والسنجاب والسمور والقاقل والبعلبكي وهو شيء كثير جداً، وكذلك الذهب المزركش". وفي نفس اليوم الأحد أول جماد الآخر 875 حضرت بنت خوند شقرا للسلطان لتصالح على تركة زوجها فردها السلطان إلى حيث جاءت منه، فركبت أمها خوند شقرا إلى الداودار الكبير وسألته في أمر بنتها فرضى عنها السلطان بشرط أن تدفع عشرة آلاف دينار . فامتنعت . فأمر السلطان بمصادرة كل التركة وجئ بالتركة للسلطان ليراها. ثم قرر السلطان في يوم الخميس 5 جماد الآخر اهداء كل التركة إلى الدوادار الكبير، وفي النهاية تم الصلح بينها وبين السلطان في شعبان 875 على أن تدفع للسلطان عشرين ألف دينار وتأخذ تركتها".

2 ـ وواضح أن السلطان كان يعتبر نفسه شريكاً ووارثاً في التركة على أساس أنه رئيس المماليك وسيدهم ، ولذلك كان بعضهم يتقرب للسلطان بإفشاء أسرار تركات الغير، ومن ذلك أن الأمير تغري بردى قريب السلطان كان عينا للسلطان على الدودار الكبير، وبعد موت الداودار الكبير في الشام عين السلطان قريبه تغري بردي في الاستادرية الكبرى، يقول المؤرخ ابن الصيرفي في تعليل ذلك:  "وكيف لا وهو يسد الوظيفة ويطلعه على أموال أستاذه وذخائره وودائعه" أى كان يطلع السلطان على كل أموال الداودار الكبير مما سهل على السلطان أن يحصل عليها بعد موت الداودار، وكافأ تغري بردى بالوظيفة الكبري، أما ابن الداودار الكبير الذى كان طفلاً فقد ضاعت حقوقه.

3 ـ وإذا كانت للسلطان المملوكي حجة في مصادرة تركات أتباعه من المماليك فكيف نجد له حجة في سلبه لتركات أعيان المسلمين ؟.

التاجر ابن سويد ت 873 من أعيان مصر القديمة ، وكان فقيهاً تاجراً ترك مالاً كثيراً . وقد أخذ السلطان من الأولاد الورثة ستة آلاف دينار. وتوفي في نفس العام حسن بن بغداد شيخ أعراب الغربية بمحلة مرحوم وكان لديه مال جزيل، يقول ابن الصيرفي عن ورثته "وأخذ السلطان منهم ما أرضاه".

وتوفي التاجر ابن كرسون يوم السبت 6 ربيع الآخر 875 وخلف ولداً وبنتاً وزوجة ومالاً كثيراً، وكان ذلك التاجر معروفاً بالتقوي وإخراج الزكاة في موضعها، ويقول ابن الصيرفي عما حدث لتركته "واختلف الناس في أمره ، فمن قائل أن السلطان ختم على الموجود ( أى صادر التركة كلها ) ، ومن قائل أن السلطان لم يتعرض له ولكن ناظر الخاص- أى القائم على رعاية أملاك السلطان- لابد له من شيء ( أى لا بد أن ينال شيئا من التركة ) فإنه يتعلل على ورثته بأن في جهته مالاً من جهة المكوس ، ( أى عليه ضرائب من الجمارك ) ، والله أعلم.") أى لابد من سلب التركة بأى طريق. ومعناه أن زبانية السلطان كانوا يشاركونه في نهب أموال اليتامى ظلماً بعد وفاة عائلهم. وقد توفي الشيخ كمال الدين النويرى 873 وخلف من الذهب النقد تسعمائة دينار، وقد أخذ الوزير منها سبعمائة دينار خالصة غير ما أخذه مباشرو أرباب المواريث على حد قول ابن الصيرفي.

4 ـ وحين يتباطأ الوارث في دفع ما عليه للسلطان من تركته كان يتعرض للضرب والإهانة.. فالأمير قاسم إبن جانبك ماتت زوجته وتركت له بنتاً وأوصت له بأشياء ، فأخذ حصته وأخذت البنت حصتها وحملوا حصة بيت المال للسلطان. وقيل للسلطان فى ذلك أشياء فأمر السلطان بإحضار قاسم بن جانبك ومعه التركة بتمامها وكمالها، فتباطأ قاسم في الحضور فأرسل إليه السلطان الشرطة فأحضرته في الحديد. يقول ابن الصيرفي : ( فلما تمثلوا به بين يد السلطان- نصره الله- سأله عن التركة ، فأجاب جواباً نابياً خشناً ، فغضب وأمر بضربه بالمقارع، فتباطأوا في حل أزراره ، فرسم بشق أثوابه فشقوها ، وضرب مقارع ..، وسجن حتى يقوم للذخيرة ( أى لخزينة السلطان ) بما يرضى صاحبها".)

5 ــــ وكان بعضهم يتفنن في إخفاء أمواله حتى إذا مات تمتع بها الورثة بعيداً عن علم السلطان، والسلطان من ناحيته كان يلعب معهم لعبة القط والفأر فلا يتردد في اعتقال المقربين للمتوفى ليدلوه على المستور من تركته. ففي عيد الأضحى سنة 885 اعتقل السلطان شاباً صغيراً هو ابن يحيي الأنصاري وقد مات أبوه، والسبب أن أخاه الكبير ذكر للسلطان أن أباه ترك مالاً خبيئة عند ذلك الشاب، فطلبه السلطان وقرره فاعترف الشاب أنه وجد من تركة أبيه خاتماً من عاج مخروط وله فص منقور فوجد تحت الفص ورقة مكتوب فيها "ذخيرتي في مكان كذا وأنكم تعطونها أو تقسموها بين أولادي النساء والرجال إلا ولدى الكبير فإنه أخذ حصته" وذكر الشاب أنه توجه فلم يجدها في المكان الذى ذكره، فاحتد السلطان عليه وأمر باعتقاله. ثم قام الشيخ زكريا الأنصاري بالتشفع فيه عند السلطان فأمر السلطان بتحليفه فحلف الشاب أنه ما أخذ الذخيرة (التركة)، يقول ابن الصيرفي "ثم أطلقه السلطان بعد أن عدد له أموراً من كذا ، وأنه في كل ليلة يضيع خمسين ديناراً على الرحابية (مغنية مشهورة في ذلك العصر) وأمثالها والله المستعان، وأخبار الناس عند هذا السلطان معروفه مضبوطة فنسأل الله الستر والسلامة ونعوذ بالله من كلام العدا واختلافهم".

وهذا يعني أن للسلطان شرطة سرية كانت تراقب الورثة وأحوالهم وماذا كانوا قد خبأوا عن السلطان شيئاً.. وكثيراً ما يدفع الورثة الصغار الثمن حبساً بعد أن يضيع السلطان أموالهم.

وفي يوم الاثنين 8 صفر 875 هربت زوجة المباشر بالبحيرة عندما علمت بوفاة زوجها حتى لا يستولى السلطان على التركة، فأمر السلطان باعتقال ولدها الصغير الذى ليس لها سواه وعمره أقل من عشر سنوات، يقول ابن الصيرفي "ورسم عليه لأجل أخذ المال". أى كان السلطان يقوم الليل يصلى ويقرأ القرآن ويرتل الآيات التى تجعل أكل مال اليتيم كالذى يأكل النار في بطنه.. ثم يختم بسجن الأيتام إن لم يساعدوه على أكل أموالهم بالتى هى أحسن.

السلطان قايتباى يصادر أموال الأحياء:

1 ــ والسلطان الورع قايتباى كان يصادر أموال الأحياء بالإضافة إلى أموال اليتامي والأرامل..ففي يوم الأربعاء 17 رجب 876 أمر السلطان بمصادرة ممتلكات ابن زوين كاشف- أى والى ـ الغربية، يقول في ذلك مؤرخنا "وارسل السلطان إلى الغربية بالحوطة على موجود ابن زوين الكاشف بها من صامت وناطقُ أحضروه فأخذ أحسنه ورد عليه أخسه".

2 ـ وبعضهم كان يحتال لإخفاء أمواله أو النفيس منها حتى لا تضيع كلها في المصادرة إذا حصلت، وكان السلطان يلعب معهم نفس اللعبة فيحتال للحصول على كل الأموال الظاهرة والخفية، فقد أمر السلطان باعتقال عبد كان للاستادار زين الدين كما أمر باعتقال سكرتيره عبد الوهاب وباعتقال جاريته قمر، وكان السبب في اعتقال الثلاثة هو إرغامهم ليدلوا على الأموال المخبأة عند زين الدين الاستادار، وظل الجميع في السجن عدة أشهر حتى تم إطلاقهم في عيد الفطر 876.

سجن الضحية للحصول على أمواله:

1 ـ وقد ترتبط المصادرة للمال بالمصادرة للحرية، أى السجن. ففي يوم الثلاثاء 21 جماد الأول 876 أمر السلطان بالقبض على صيرفي جدة ، واسمه ابن عبد الرحمن وأمر بأن يؤخذ منه عشرون ألف دينار، والسبب في سجن الصيرفي المسكين أن السلطان أراد اقتراض عشرة آلاف دينار من إحدي السيدات كانت أماً للمحتسب وشاهين والى جده، وقد طلب السلطان من المحتسب وشاهين والى جده التوسط لدى هذه السيدة ليقترض منها العشرة آلاف، ولكن السيدة اعتذرت وأظهرت العجز والفقر، فغضب السلطان وأمر باعتقال صيرفي جده ، وطلبه في خلوة ليعرف منه أسرار ومدخرات والى جده، ولما لم يحصل منه على طائل صادر منه عشرين ألف دينار. وابن الصيرفي بعد أن ذكر الحكاية قال يدافع عن السلطان دفاعا هزيلا مضحكا : "وفي الواقع فهذا السلطان آخر الملوك العادلة فإنه خوّل المحتسب وش"RTL"> 1 ـ وقد ترتبط مصادرة الأموال بتعذيب الضحية حتى يعترف بما لديه من كنوز مخبأة. وربما كان الأمير يحيي بن عبد الرازق الاستادار ت 874 أفظع مثل للضحايا من اكابر الموظفين.  فقد صودرت أمواله أكثر من مرة وتولى الاستادارية عدة مرات، وحين يعزلونه ويولون غيره فيعجز عن الوظيفة فيعيدون الأمير يحيى هذا لمنصبه . ثم يعزلونه ، وعندما يعزلونه كانوا يصادرون أمواله ويعذبونه، يقول عن مؤرخنا ابن الصيرفي "أذكر من لفظه ( أى من لسانه ومن كلماته ) أنه صودر تسع عشرة مرة ، وأحتاج حتى باع حوائج بيته وقماش خيوله بعد بيع أملاكه.. واستمر على ذلك إلى أن صادرة الملك الأشرف أبو النصر قايتباى- عز نصره- أول مرة وثانية ، وهو معذور فيه ، فإنه يدعى فقراً..". أى إنّ قايتباى صادر ذلك الشيخ الفقير بعد أن بلغ الثمانين من عمره وبعد أن استهلكته المصادرات السابقة قبل قايتباى ، ولم يترفق به قايتباى في هذا السن ولا في هذا الفقر بل أوقع عليه العذاب الشديد حتى مات تحت العذاب .!  ويقول ابن الصيرفي عن حبسه وتعذيبه حين صادر قايتباى أمواله فى المرة الثانية والأخيرة : ( وفي المرة الثانية حبسه بالبرج من القلعة وطلب المال فلم يوزن- أى لم يدفع- شيئاً ، فأجرى عليه العقوبة إلى أن أشرف على التلف- أى الموت – وحمل إلى البرج المذكور فدام عليلاً يتداوى إلى أن مات في يوم الخميس ثامن شهر من شهر ربيع الأول وقد جاوز الثمانين من العمر".). ويقول ابن الصيرفي عن نهايته تحت التعذيب : ( وضرب ضرباً فظيعاً حتى طار لحم جسده عن بدنه،  ونزلوا به من القلعة في تابوت وعلى رأسه طاقية كشف، وتوجهوا به إلى منزله ، فغسلوه وكفنوه ، وصلوا عليه ..).

2 ـ وابن الصيرفي يجد العذر للسلطان قايتباى في مصادرته لهذا الشيخ وتعذيبه وقتله ، فيقول "(..إلى أن صادره الملك الأشرف أبو النصر قايتباى- عز نصره- أول مرة وثانية ، وهو معذور فيه، فإنه يدعى فقراً .) أى يستحق هذا المسكين القتل بالتعذيب لأنه يزعم الفقر. ولا عذر له ، ولكن العذر كل العذر للسلطان الورع قايتباى .!!

العزل عن الوظيفة مع المصادرة والتعذيب:

1 ـ وواضح أن العزل كان يرتبط بالمصادرة لأموال المعزول مثل ارتباط المصادرة أحياناً بتعذيب الضحية.. ورأينا ذلك في قصة أو مأساة يحي بن عبد الرازق الاستادار الذى بلغ أوج الرفعة ثم نزل إلى حضيض السجن والنكال مرات متتالية. ولم يكن هو المثل الوحيد.

2 ـ في يوم السبت 13 ربيع الأول 873 غضب السلطان قايتباى على قاضى قضاة دمشق ابن الصابوني وضربه بين يديه بقاعة الدهيشة بالقلعة، لأنه لم يدفع للسلطان المال الذى طلبه منه وهو مائة ألف دينار، ولم يزل يضربه حتى أذعن، فحملوه إلى الحبس ليدبر أمره في الدفع.ـ وفي يوم الثلاثاء 14 ربيع الثاني 873 سافر القاضى ابن الصابوني إلى دمشق بعد عزله ومصادرته وحبسه بعد أن التزم للسلطان بدفع المائة ألف دينار، وسافر معه السيفي جانبك الخاصكي ليحرسه ويرافقه حتى يسدد ما التزم به.

3 ـ وفي يوم السبت15 جمادى الثانية 873 أمر السلطان باعتقال ابن العينى بالبرج في القلعة بسبب ما تأخر عليه من المال وظل محبوساً بذلك البرج إلى يوم الأربعاء 19 جمادى الثانية ، ثم أطلقه السلطان بعد أن حمل المال، فأكرمه السلطان وألبسه التشريفة ورجع لداره مكرماً معظماً.!! أى على رأى المطرب فريد الأطرش : ( مرّة يهنّينى ..ومرّة يبكّينى ..)  ى

 

 

..أى على رأى

4 ـ وفي شوال 876 تولى الحافظ القطب الخيضرى قضاء القضاه بدمشق وكتابه السر بها بعد أن قاسى أهوالاً من التعذيب، وقرر عليه السلطان ثلاثين ألف دينار، فدفع بعضها والتزم بدفع الباقى، وأعاده السلطان للولاية بعد ما فرضه عليه ، وأكرمه السلطان فأنزله ضيفاً في داره التى كان بها حين كان أميراً ، وزاره السلطان في تلك الدار فوجده نائماً فما أراد أيقاظه،، وحين استيقظ وعلم بزيارة السلطان إليه وهو نائم أرسل هدية للسلطان، فلم يقبلها السلطان وأخبر أنه ما حضر إلا ليزوره . وهكذا تغير حال السلطان معه من التعذيب إلى الإكرام والحنان ، بعد أن دفع له المال. مرة أخرى أى على رأى المطرب فريد الأطرش : ( مرّة يهنّينى ..ومرّة يبكّينى ..)  ى

 

 

..أى على رأى

5 ـ وقد سبق للسلطان في شهر رجب من نفس العام أن أصدر مرسوماً للشام بإعادة القاضى الحنفي إليها عوضاً عن القاضى الحلاوى المعزول عن القضاء وأمر بأن يدفع غرامة عشرة آلاف دينار فإن امتنع فلابد من إرساله مسجوناً للقعلة . فأذعن القاضى الحنفى . وأرسل السلطان بالكشف عن القطب الخيضري قاضى القضاة بدمشق وكاتب السر بها ومصادرة ما لديه، فلم يوجد لديه شيء .وعزموا على القبض عليه وإرساله للقلعة، ولكنه اختفي وحضر للقاهرة سراً، وكان من أمره أن قبض عليه السلطان ولاقي أهوالاً عاد بعدها لمنصبه مكرماً بعد أن دفع للسلطان ما أرضاه عنه .لا رضى الله عنه ولا رضى عن السلطان .!!

6 ـ جدير بالذكر أن أولئك القضاة والموظفين كانوا يتسلطون على الناس بنفوذهم ينهبون الأموال ويأخذون الرشاوى والاتاوات بعلم السلطان ، وحين يوكل اليهم مصادرة زملائهم وغيرهم كانوا يسلبون لأنفسهم جزءا من الأموال المصادرة وينهبون بعض الأشياء العينية ويخفونها عن عيون السلطان، ولكن كان كل ذلك بعلم السلطان. لذا كان يلزمهم بأن يأخذ نصيبه بطرق متعددة ، منها أن يعزل الموظف ويعيده بعد أن يدفع رشوة للسلطان ، أو أن يعزله ويصادر أمواله ، أو أن يفرض عليه غرامة . وقد يستخدم التعذيب معه ليعترف بالمخبأ من أمواله . والعادة أن يصمد القاضى أو الموظف للتعذيب فلا يعترف بكل ما لديه لأن أمواله هى سبيله للنجاة إذ يستطيع بها فيما بعد شراء نفس المنصب أو منصب آخر وتعويض ما فات بنهب الناس . وهكذا دارت طاحون التعذيب تلتهم الظالمين ، وهم بدورهم يلتهمون الشعب المسكين ، وفوقهم جميعا السلطان الورع الذى يمسك بيده اليسرى آلات التعذيب ليستزيد من المال السحت ، ويمسك بيده اليمنى شعار الشريعة السنية يحتمى بها .

خوف الموظفين من مقابلة قايتباى:

1 ـ لذا كان خوف موظفي السلطان عظيماً حين يستدعيهم للحساب، وكان خوفهم أعظم حين يعزلهم عن الوظيفة،وما يعنيه العزل من إحتمال السجن والمصادرة والتعذيب حسب السّنة السائدة . وقد هرب القاضى تاج الدين بن المقسى ناظر الأملاك السلطانية (ناظر الخاص) والسبب أن السلطان عزله، فبادر بالهرب خوفاً من المصادرة والتعذيب، وعيّن السلطان بدلاً منه ابن الكويز في يوم الخميس 12 شعبان 874.

2 ـ وفي يوم الاثنين 9 ربيع الآخر في نفس العام 874 مات القاضى المشهور فى عصره : عبد الرحيم ابن البارزي، مات خوفاً من السلطان.فقد جاء من الشام لمصر ، وأرسل هدية للسلطان فردها السلطان عليه غاضباً، وبلغه أن السلطان توعده قائلاً : ("عند من يهرب منى ؟ هذا هو وقع في القفص ). هلع المسكين مما سمع،يقول ابن الصيرفى:( واشتد مرضه بالصرع فمات.).مات خوفاًورعبا من السلطان الورع قايتباى .!!

تفنن المماليك في التعذيب:

1 ـ وعلينا أن نعذر الشيخ عبد الرحيم ابن البارزي حين مات خوفا ، فالشيخ عبد الرحيم يعى تماماً تفنن المماليك في التعذيب والعقوبات.ولعل الشيخ عبد الرحيم في أيامه الأخيرة كان يتذكر وهو يرتجف كلمة السلطان "عند من يهرب منى؟ هذا هو وقع في القفص" ولعل الشيخ عبد الرحيم كان له فهمه الخاص لعبارة السلطان "هذا هو وقع في القفص" وربما أدى تفكره في هذه العبارة إلى أن قضى نحبه..

2 ـ فالشيخ عبد الرحيم شهد ما حدث للوزير الأهناسي في ربيع الأول 873 بعد أن صادره السلطان ( وأجرى  عليه العقوبة) على حدّ قول مؤرخنا ابن الصيرفى الذى أورد وصفا لما حدث لهذا الوزير ، إذ علّقه السلطان في شباك أو قفص حديد ( بأصابع يديه ، فما تحمل وأذعن ، ودفع للسلطان ألفى دينار".)

التعذيب بالضرب:

1 ـ ولا ريب أن الشيخ عبد الرحيم ابن البازري حين قدم القاهرة عرف أن يحيي بن عبد الرازق صادره السلطان للمرة الثانية وظل يعذبه حتى طار لحم جسده ومات في 18 ربيع الأول 874 وكان تذكره لمأساة يحيي بن عبد الرازق مما عجل به إلى الموت في الشهر التالى يوم 9 ربيع الآخر 874 أى أن الشيخ عبد الرحيم "أخذها من قصيرها ومات".

2 ـ وكان الضرب هو الوسيلة المثلى للتفاهم مع المتهم في أى جناية حتى لو كان بريئاً مظلوماً، ففي يوم السبت 21 صفر 886 ضربوا الشريف الأكفاني المتهم بقتل زوجته ضرباً مبرحاً نحو خمسمائة مقرعة وعصياً.. ثم أمر قايتباى بحبسه في سجن المقشرة. ولم تثبت عليه التهمة .

3 ـ وكان الضرب أحياناً يفيد، ففي يوم الاثنين 20 صفر 877 شكوا تاجراً إلى الداودار الكبير يشبك من  مهدي أنه أخذ من التجار بضائع إلى أجل، وحين جاء الأجل رفض أن يدفع ما عليه بسبب ما عليه من ديون، فأمر الداودار بضربه، ولما ذاق الضرب المملوكي ( صار يصرخ ويقول: ادفع الحق..) فأمر الداودار أن يعمل أجيرا في الحفير ويدفعوا أجرته لمن له في ذمته شيء.

4 ـ وشهدنا نماذج للضرب كإحدي العقوبات فيما كان يفعله المحتسب مع التجار وفيما يفعله السلطان وبقية الأمراء مع الناس وأرباب الوظائف. ولكن لم يكن الضرب هو العقوبة الوحيدة، فالتكنولوجيا المملوكية في التعذيب كانت رهيبة..

عقوبة كشف الرأس:

1 ـ وفي العصر المملوكي كان كشف الرأس عيباً كبيراً وعارا فظيعا، وكان من العادات الاجتماعية فى العصر المملوكى أن يكشف أحدهم رأسه عند المصيبة الكبري التى لا يستطيع تحملها. لذا كان من العقوبات والإهانة الفظيعة الهائلة أن يرغم أحدهم أحدهم على كشف رأسه فيراها الناس .!!

2 ـ ونرجع للوراء مائتى عام. حين مات ابن السلطان المملوكي المنصور قلاوون ليلة الجمعة 4 شعبان 679هـ، وكان المتوفي وهو على بن قلاوون أثيراً لدي أبيه فحزن عليه حزناً شديداً، وكان من مظاهر ذلك الحزن الهائل أن رمي السلطان كلوتته- أى عمامته- من على رأسه. ونذكر النص التاريخي الذى ذكره المقريزى في هذا الشأن لنعرف دلالة كشف الرأس:( أظهر السلطان لموته جزعاً مفرطاً، وصرخ بأعلى صوته وا ولداه..!! ورمى كلوتته من رأسه للأرض، وبقي مكشوف الرأس، إلى أن دخل الأمراء إليه وهو مكشوف الرأس يصرخ وا ولداه!! فعندما عاينوه كذلك ألقوا كلوتاتهم عن رؤوسهم وبكوا ساعة، ثم أخذ الأمير طرنطاى النائب شاش ( أى عمامة ) السلطان من الأرض وناوله للأمير سنقر الأشقر فأخذه ومشى وهو مكشوف الرأس وباس الأرض وناول الشاش للسلطان ، فدفعه ، وقال: أيش أعمل بالملك بعد ولدى.! وامتنع من لبسه ، فقبّل الأمراء الأرض يسألون السلطان في لبس شاشه، ويخضعون له في السؤال ساعة، حتى أجابهم وغطي رأسه.) . أى كانت عمامة السلطان الملقاة ورأسه المكشوفة هما الدليل على الحزن الشديد.

3 ـ ونرجع إلى خمسين عاماً تقريباً قبل عصر قايتباى.. في سلطنة الأشرف برسباى، وفي يوم السبت 25 شعبان830هـ يقول المقريزى "وفيه اتفق حادث فظيع" ونتأهب بعد هذه المقدمة إلى الاستماع إلى كارثة مما كان يحدث في العصر من أوبئة ومجاعات وحرب مهلكه.. ولكن نفاجأ بشيء طريف.. يقول المقريزى "وفيه اتفق حادث فظيع وهو أن بعض المماليك السلطانية الجراكسة انكشف رأسه بين يدى السلطان ..!!".يا خبر وقع الهرم الأكبر.. وانكشف رأس الرجال الصالح..!! وبعض المسلسلات التليفزيونية عن العصر المملوكي تظهرهم مكشوفي الرأس أحياناً. وآه لو خرج المماليك من قبورهم وشاهدوا ذلك الافتراء.ما علينا...نرجع للمقريزي.. يقول "وفيه اتفق حادث فظيع وهو أن بعض المماليك السلطانية الجراكسة انكشف رأسه بين يدى السلطان فإذا هو أقرع".ملحوظة: في ذلك العصر الذى كان الناس فيه يغطون رؤوسهم لم يكن الفارق كبيراً بين الأقرع والأصلع.. هذا للعلم... ونرجع للمقريزي..يقول:( إنكشف رأسه بين يدى السلطان فإذا هو أقرع ، فسخر منه من هنالك من الجراكسة، فسأل السلطان أن يجعله كبير القرعان ويوليه عليهم ، فأجابه إلى ذلك ورسم (أى أصدر مرسوما ) أن يكتب له به مرسوم سلطانى، وخلع عليه،( أى ألبسه تشريفة ) ، فنزل وشق القاهرة بالخلعة في يوم الاثنين سابع عشرينه (27 شعبان)، وصار يأمر كل أحد أن يكشف رأسه حتى ينظر أن كان أقرع الرأس أو لا، وجعل على ذلك فرائض من المال، فعلى اليهودي مبلغ.. وعلى النصراني مبلغ وعلى المسلم مبلغ بحسب حاله ورتبته، ولم يتحاش من فعل ذلك مع أحد، حتى لقد فرض على الأمير الأقرع عشرة دنانير، وتجاوز حتى جعل الأصلع والأجلح في حكم الأقرع ليجبيه مالا . فكان هذا من شنائع القبائح وقبائح الشنائع.  فلما فحش أمره نودي بالقاهرة: معاشر القرعان لكم الأمان ...)

ماذا لو عاد هذا الأمير الأقرع إلى عصرنا، وفرض رسوما على كل أقرع وأصلع؟ وما مقدار ما كان يجبيه  من ضرائب.أغلب الظن أننا سنصلح ميزان المدفوعات ونسدد ديون مصر وما نهبه منها مبارك وعصابته .. ولا بأس بعدها أن ينادى بالقاهرة: معاشر القرعان لكم الأمان.

المهم أن المقريزي اعتبر كشف رؤوس الناس من شنائع القبائح وقبائح الشنائع.حلمك يا شيخ مقريزي.. ليس الأمر بهذه الشناعة.ولكنه ذوق العصر المملوكي.

4 ـ وجاء المحتسب يشبك الجمالى وجعل كشف الرأس من بنود العقوبات التى كان ينزلها بالتجار المساكين الذين لا يستطيعون دفع الرشوة لأعوانه. يقول ابن الصيرفي عنه : ( بل تحضر أعوانه له بمن لا يعطونهم المعلوم المعهود عندهم، فيضربه ثلاث علقات ، واحدة على مقاعده وأخرى على رجليه وأخرى على أكتافه، ويشهرونه بلا طرطور ، بل يكشفون رأسه . وهو الذى أحدث كشف الرأس . مع أن جماعة كثيرين ممن فعل بهم ذلك عميوا وطرشوا ، فإن الواحد يكون ضعيف البصر أو به نزلة فيكشفون رأسه ويدورون به القاهرة فلا يرجع إلا بضر،أو أمثال ذلك.).وابن الصيرفي يعتقد أن كشف الرأس جعل أولئك الضحايا المساكين يصابون بالعمي والصمم، لأنه لا يتخيل أن يسير واحد مكشوف الرأس ويرجع إلى بيته معافي وفي صحة جيدة.

5 ـ وصارت عادة سيئة أن يكون التشهير مرتبطاً بكشف رأس الضحية ليزداد إيلامه. فهذا المحتسب المتدين الظالم ضرب جماعة من التجار وأشهرهم بالقاهرة بنفس الطريقة، وحدث ذلك في المحرم 874، وأمر الداودار الكبير بتشهير شاهدي زور (ومروا بهما في شوارع القاهرة مكشوفى الرؤوس) وحدث ذلك يوم الأربعاء 7 ربيع الأول 877. وابن الصيرفي الذى عهدناه في كتابه رقيقاً في نقده للمماليك كان أكثر كراهية للمحتسب يشبك، وربما يرجع ذلك إلى ما أحدثه من كشف الرؤوس. ولنفترض أن ابن الصيرفي رجح حياً وسار في شوارع القاهرة الآن وشاهد رؤوسنا الجرداء تعكس أشعة الشمس لتنير الطريق أمام الحيارى.. ترى ماذا كان سيفعل؟ أغلب الظن أنه سيعتقد أن المحتسب يشبك صار سلطاناً على القاهرة المحروسة.!!

عقوبة الشي بالنار والسلخ والتشهير:

1 ـونقفز من كشف الرأس إلى ما هو أفظع،وهو التعذيب بالشى بالنار ( أو الشوى بالنار ) والسلخ والتشهير.

فالداودار يشبك من مهدي ظفر بأحد مشايخ الأعراب من بنى عدي فضربه بالمقارع وأمر بأن يشوى بين يديه بالنار وهو حى فصار يستغيث ولا يغاث، وأخر الأمر أطلقه ،بعد أن قيل للأمير الداودار: (لا يعذب بالنار إلى خالقها.) . وحدث ذلك يوم الخميس 14 ربيع الأول 874.

2 ـ ومن الشي بالنار إلى السلخ للأحياء.سلخ جلد الضحية وهو حىّ .!!. وكان الضحايا من زعماء الأعراب الثائرين على الدولة. في يوم الأربعاء 18 ذى الحجة 873 أمر السلطان قايتباى بسلخ ابن سعدان أحد مشايخ الأعراب من مدينة فوّة. وفي يوم الخميس 5 جمادى الآخر 875 قبض الداودار الكبير على عيسى ابن بقر أحد مشايخ الأعراب وأمر بسلخه، ثم أمر السلطان بالتشفع فيه إذا دفع عشرة آلاف دينار، وجاء البشير إلى الضحية وهم يسلخونه فوجده قد قطعوا من رأسه قطعة فقال: أنا أوزن- أى أدفع الدنانير وأنقذ نفسه.

3 ـ وأحياناً كان السلخ مرتبطاً بالتشهير، أى يطاف بالمسلوخين المساكين في شوارع القاهرة ليتفرج عليهم الناس وينادى عليهم المشاعلى هذا جزاء من يفعل كذا، وفي النهاية يتم صلبهم حتى يموتوا أمام أعين الناس. وربما جاء تخويف الأطفال من ( ابو رجل مسلوخة ) من مشهد أولئك المسلوخين وهم يطاف بهم على أعين الناس ، ومنهم أطفال . وفي يوم السبت 29 ذى الحجة 876 طافوا في شوارع القاهرة بثلاثة مسلوخين من أكابر أعراب بنى حرام ، كان قد قبض عليهم الأمير قنصوه من جوار غيط الشيخ إبراهيم المتبولى فسلخهم وجهزهم- على حد قول مؤرخنا- وبعد أن طيف بهم في القاهرة أرسلوا إلى خارجها ليصلبوا أياماً ويرتدع المفسدون من قطاع الطرق من الأعراب.

4 ـ وتفنن المماليك في جريمة السلخ، فأحيانا كانوا يسلخون الضحية المسكين ثم يحشدون جلده تبناً أو قطناً يطوفون به في الشوارع جنبا الى جنب مع الضحية المسلوخ . ففى أواخر جمادى الأول  875 وصل ابن زوين كاشف الغربية وصحبته رجل من العريان يسمى عبد القادر حمزة مسلوخاً وقد حشي جلده قطناً ومعه عدة رؤوس آدميين مقطوعة ، وصار يشهرهم فى شوارع القاهرة ، إلى أن وصل به إلى بيت الداودار الكبير، وتصادف أن الأمير تمراز الشمسي رأى الضحية المسلوخ عبد القادر حمزة فعرفه، وكان تمراز كاشفاً للغربية قبل ابن زوين ، وكان يحمى عبد القادر حمزة وصديقا له ، فعندما رآه في ذلك الحال هجم على ابن زوين وضربه.

القتل بالتوسيط:

1 ـ والجبروت المملوكى إستخدم التعذيب حتى فى تنفيذ عقوبة القتل ، فلم يكتف في القتل بقطع الرقبة وإنما ابتدع التوسيط وهو قطع الضحية نصفين. وتلك إحدى منجزات الشريعة السنية فى العصر المملوكى .وهى تعبر عن رغبة المماليك فى أن ينفردوا وحدهم بالسلب والنهب ، لذا إستعملوا أفظع طريقة فى القتل لارهاب قطّاع الطرق من الأعراب وغيرهم لأنهم ينافسون المماليك فى نهب الناس .

2 ـ وشريعة التوسيط لها طقوسها : أن يعرى المحكوم عليه بالإعدام من الثياب ثم يثبتون أطرافه بالمسامير فى  خشبتين على شكل صليب ويطرح مصلوبا عليها ، ويوضع على ظهر جمل .وتسمى هذه العملية بالتسمير. وربما يطاف به في شوارع القاهرة على هذا الحال وهذا هو التشهير . ثم يأتى السياف فيضرب المحكوم عليه بقوة تحت السرة فيقسم الجسم قسمين من وسطه فتنهار أمعاؤه إلى الأرض.

3 ـ في يوم السبت 13 ذى القعدة 875 أمر السلطان بتسمير ستة أشخاص من قطاع الطرق وأن يتم توسيطهم بقليوب، فأشهروهم على الجمال تحت قيادة الأمير يشبك بن حيدر صاحب الشرطة، وطبقا لما أورده ابن الصيرفى فقد ذكر  صاحب الشرطة عنهم "أنهم قتلوا رجلاً بقليوب وأخذ ماله وحرقوه بمستوقد . وأمثال ذلك من التهجم والقتل وقطع الطرق" ويستطرد مؤرخنا قائلاً "وذاك ذنب عقابه فيه، ووسطوا بقليوب أو قربها وعلقت جثثهم ليرتدع أمثالهم عن هذه الأفعال المنكرة . ) ويختم مؤرخنا بقوله ( ..رب سلّم !!.)

4 ـ وفي اليوم التالى وهو 14 من ذى القعدة 876 أمر السلطان بتسمير أربعة من العربان والمفسدين على الجمال، اثنان بالجيزة واثنان من غيرها، وأشهروهم بالبلد، ووسّطوا منهم اثنين بباب النصر بالقاهرة لقربهم من أعراب بنى حرام ووسطوا اثنين بمصر لقربهم من الجيزة.

5 ـ وحيكت أساطير عن موضوع التوسيط، يقول مؤرخنا "وبلغني أن شخصاً من العريان يسمى ابن زعازع قبض عليه الداودار الكبير لما بلغه من الجرائم والمفاسد، وأمر بتوسيطه، فضربه المشاعلى بين يديه نحو سبع عشرة مرة ، فلم يقطع فيه السيف بل ينقلب" وزعموا أنه معه حرزا يحميه من التوسيط.

6 ـ وحمل التاريخ المملوكي بعض المآسي الدرامية للمحكوم عليهم بالإعدام. قبل عصرنا بقرنين، أى في شهر جمادى الأول 680هـ يروى المقريزى أنهم قبضوا على قاطع طريق مشهور اسمه الكريدى، فسمّروه على جمل ، وأقاموا عليه أياماً يطوفون به في أسواق مصر والقاهرة ، وتعاطف معه الحارس الموكل به فقطع عنه الطعام والشراب، فلما جاع وطلب الطعام(قال له الحارس :إنما أردت أن أهون عليك لتموت سريعاً حتى تستريح مما أنت فيه، فقال له: لا تقل كذا فإن شر الحياة خير من الموت!! فناوله الطعام والشراب، فأتفق أنه شفعوا فيه ، فأطلقوه وسجنوه فعاش أياماً في السجن ثم مات). وأغلب الظن أنه مات بعد أن تسممت جراحه.

عقوبة قطع الخصيتين:

1 ـ وتفنن المماليك في التعذيب وإيقاع العقوبة ووصل إلى مناطق لا تخطر على البال.

في سنة879 أمر قايتباى بقطع خصيتى مملوك يقال له شاهين ، كان خازندار الأمير اينال الأشقر، لارتكابه جريمة خلقية، وصادفت هذه العقوبة وجود شخص يهودي خبير بالإخصاء بمصر العتيقة.

2 ـ والأتراك- ومنهم كان أكثرية المماليك- كانت لهم معرفة بهذه النوعية العجيبة من القتل والتعذيب، وبدأ ذلك قبل عصرنا بستة قرون. إذ يذكر الطبرى أن الأتراك المتغلبين على الخلافة العباسية ثاروا على الخليفة المهتدي وقتلوه، ويحكي الطبرى كيفية قتله فيقول" أمروا من عصر خصيته حتى مات" وذلك سنة 256.

3 ـ وأحيت الدولة المملوكية ذلك التقليد العجيب في القتل فمات بهذه الطريقة أول سلطان مملوكي وهو عز الدين أيبك. فقد بدأ العداء بين أيبك وزوجته السلطانة السابقة شجرة الدر، وعزم أيبك على أن يتزوج عليها إحدى الأميرات، وأعاد المياه إلى مجاريها بينه وبين زوجته الأولى أم على، مما جعل شجرة الدر تخطط لاغتياله، فبدأت تراسله وتبعث له من يصلح بينه وبينها ويحلف عليه ليعيد الحب المفقود بينه وبينها مما ألان قلبه وجاء للقاء زوجته شجرة الدر في القلعة. ولأن الأكياس البلاستيك التى كانت المرأة المصرية فى أوائل التسعينيات تعلّب فيها زوجها المفترى لم تكن قد اخترعت بعد فإن شجرة الدر خططت لقتله بالطريقة التركية. وفي ليلة الثلاثاء 24 من ربيع الأول 654 ترك المعز أيبك باب اللوق ودخل القلعة آخر النهار وبعد الهجر والخصام قضى ليلة من ليالى العمر مع زوجته الجميلة، ثم دخل الحمام ليغتسل فوجد مفاجأة سيئة. كانت شجرة الدر قد أعدت لقتله في الحمام خمسة من القتلة منهم محسن الجوجري ونصر العزيزى والمملوك سنجر، ويصف المقريزي ما حدث في الحمام فيقول"( ودخل إلى الحمام ليلاً فأغلق عليه الباب محسن الجوجرى وغلام عنده شديد القوة ، ومعهما جماعة ، وقتلوه بأن أخذ بعضهم بأنثييه وبعضهم بخناقه ،  فاستغاث المعز بشجرة الدر ، فقالت: أتركوه ! ، فأغلظ لها محسن الجوجرى في القول وقال لها : متى تركناه لا يبقي علينا ولا عليك. ثم قتلوه.). إستغاث المسكين من شياطين الظلام الذين أخذوا بخناقة من هنا وهناك، فأضاعوا عليه ذكريات الحلم  الجميل الذى كان يعيش في خياله.. واستيقظت السلطانة الجميلة من ذكريات اللحظات الجميلة على صوت حبيبها يستغيث بها.. وكانت في هذه اللحظة تعيش مشاعرها كامرأة عاشقة لا تزال تجتر ذكرياتها الممتعة.. وحين استغاث بها كان قلبها خالياً من الحقد والكراهية وفنون المؤامرات فأمرت بأن يكفوا عنه.ولكن القتلة لا شأن لهم بكل هذه المشاعر الجميلة، وهم يعلمون أن هذه المشاعر مهما بلغ جمالها فهي إلى نهاية، نهاية الموت لهم بعد أن يعود الزوج الولهان سلطاناً متحكماً، لذا أمر قائد القتلة بأن يجهزا على الضحية قبل أن يقتلهم، وشخط في شجرة الدر.. فكتموا أنفاسه من هنا وهناك. وبهذه الطريقة قتلت السلطانة الفاتنة زوجها أول سلطان مملوكي . وذاق السلطان أيبك قبيل موته أمتع اللحظات وأشدها عذاباً.

لا رأيتم عندكم مكروها في عزيز لديكم. والعاقبة عندكم في المسرات.. فقط.

ولا عزاء للسيدات.

 

الفصل الخامس : شريعة السجون فى عصر قايتباى

السجون في عصر المماليك :

1 ـ وما دمنا نتحدث عن العقوبات فلا بأس من ذكر ضحايا آخرين للمماليك، إنهم المساجين. بلهجة الفقهاء يقول المقريزى عن السجون التى كانت في عصره  ( إن ما يحدث فيها لا يجوز عند أحد من المسلمين، وذلك بسبب ما يتكدس فيها من الكثيرين في موضع ضيق، فلا يتمكنون من الوضوء والصلاة ، وقد يروى بعضهم عورة بعض ، ويؤذيهم الحر في الصيف والبرد في الشتاء، وربما يحبس أحدهم السنة وأكثر ولا جريمة له ويكون أصل حبسه على ضمان )، أى يكون مسجوناً لأنه ضامن للغير فى ديون ، أى مسجون بلا جريمة ومع ذلك يظل في السجن وقد لا يحس به أحد إلى أن يموت.

2 ـ وفي عصر قايتباى ذكر ابن الصيرفي إشارات للسجون المعروفة في مصر وقتها والتى كانت مبنية قبل عصر قايتباى مثل سجن الإسكندرية وسجن الجرائم وسجن الديلم وسجن الشرع وسجن المقشرة، بالإضافة إلى سجن البرج بالقلعة.

أشهر المساجين وأشهر السجون :

1 ـ وكان نزلاء السجون من الأمراء المماليك ، كنتيجة للصراع فيما بينهم ، ووقوع بعضهم ضحايا لهذا الصراع والفتن والمؤامرات . وقد يصبح سجين سابق من الأمراء المماليك سلطانا فيما بعد ، وحدث هذا قبل عصر قايتباى ، كما حدث فى عصره ، فالملك الظاهر يلباى كان مسجوناً في عصر قايتباى في سجن الإسكندرية ومات فيه بالطاعون في ليلة الاثنين أول ربيع الأول 873.وفي سجن الجرائم أودع السلطان قايتباى جماعة من الأعراب المفسدين من الشرقية وذلك يوم السبت 5 محرم 874. وهرب من هذا السجن أحد المجرمين المشهورين يوم الجمعة 17 ربيع الأول 875، وقد تمكن المماليك من القبض عليه وأمر السلطان بكحل عينيه- أى بوضع الحديد المحمى بالنار على عينيه حتى عمى. واستطاع شيخ الأعراب ابن زامل من الهروب من ذلك السجن يوم الجمعة ربيع الثاني 876. وفي يوم الثلاثاء 17 شعبان 876 أطلق السلطان سراح حوالى أربعين مسجوناً من سجن الجرائم وسجن الشرع.

2 ـ أما سجن الديلم فقد كان مخصصاً- فيما يبدو- لمن يغضب عليه السلطان من أرباب الوظائف فقد سجن فيه السلطان القاضى ابن العيسي وسجن فيه الوزير قاسم جغيته. ومثله في ذلك برج القلعة الذى اعتقل فيه ابن العيني إلى أن أذعن ودفع للسلطان ما أراد ، وكان ذلك في 17: 19 من جمادى الثانية 873. وفي نفس البرج حبس السلطان موسى بن كاتب غريب في شعبان 873، ثم اعتقل السلطان زين الدين الاستادار في رمضان من نفس العام، وصار موسي محبوساً في برج القلعة وغريمة زين الدين الاستادار محبوساً في برج أخر يقول مؤرخنا ابن الصيرفي، وفي رمضان 874 أمر السلطان بسجن أسرى شاه سوار في برج القلعة.

سجن المقشرة : أشهر سجون العصر المملوكى

1 ـ وكانت المقشرة أشهر سجن في عصر قايتباى وفي عصر المقريزي أيضاً. والمقريزي يحدد موقع سجن القشرة بأنه بجوار باب الفتوح فيما بينه وبين الجامع الحاكمى (أى المنطقة المجاورة لباب زويلة الآن).

2 ـ وأصل تسميتها بالمقشرة أنه كان فيها القمح، وكان موضعها سجنا مشهوراً يسمى خزانة شمايل، وقد تم هدمه وأقيم مكان سجن المقشرة. وهذا السجن يضم برجاً في السور وموضع المقشرة وأضيف له الدورة المجاورة التى هدمت، وأصبحت بذلك المقشرة سجناً لأرباب الجرائم.

3 ـ ويقول عنه المقريزي" وهو من أشنع السجون وأضيقها يقاسى منه المسجونون من الغم والكرب، لا يوصف، عافانا الله من جميع بلائه .!!.

4 ـ وذكر ابن الصيرفي إشارات لما حدث في عصره في سجن المقشرة . فقد أودع فيه السلطان أسرى الفرنج الذين أسرهم أهل ادكو. وكان فى نفس السجن جمع من الفلاحين ممن ( إنكسر عليهم مال للسلطان) على حد قول ابن الصيرفى ، فسجنهم في ذلك السجن البغيض، أى سجنهم لعجزهم عن دفع الضرائب والرشاوى التى يفرضها عليهم أعوان السلطان من الكاشف ومن هم دونه. .ولأنهم مظاليم فقد اشتكي بعضهم للسلطان أملا فى عدله وإقتناعا بوضوح قضيتهم ، فأمر قايتباى بسلخ أربعة منهم بحضور الباقين فسلخوا ، وأرسلوا إلى البلاد فاشهروا بها ( ليرتدع بها أمثالهم )، على حد قول مؤرخنا ابن الصيرفي الذى يعلق على هذه المأساة قائلاً عن السلطان " فنصره الله نصراً عزيزاً". أى يدعو له بالنصر ..!!

إجبار المساجين على التسول لصالح السجّانين :

1 ـ ووصف المقريزي أحوال المساجين باختصار فقال أنه لا يوصف ما يحل بأهلها من البلاء وأنه اشتهر أمرهم أنهم يخرجونهم في الحديد حتى يشحذوا وهو يصرخون في الطرقات قائلين: الجوع.. فما يصلهم من الصدقات يأخذ معظمه السجان وأعوان الوالى، ومن لم يحصل من المساجين على صدقات بالغ السجان وزبانيته في عقوبته.

2 ـ  وقبل ذلك كانت خزانة شمايل أبشع السجون، وقد هدمها السلطان شيخ المحمودى يوم الأحد 10 ربيع الأول 818، وكان والى القاهرة يفرض على السجان فيها مقداراً يومياً من المال يحمله إليه، ويحصل السجان على هذا المال من شحاذة المسجونين.واستمر ذلك في عصر السلطان قايتباى باستمرار الظلم المملوكي.

3 ـ لقد فزع بعض المماليك من قسوة الحياة في سجن الجب بالقلعة، وقبل أن يتولى السلطنة كان الأمير المملوكى شيخ المحمودى نزيلا فى سجن شمايل ، وقاسى مما فيه ، فنذر إن نجا منه وأصبح سلطانا ليهدمنه . وعندما تولى السلطنة بلقب المؤيد شيخ أوفى بنذره فهدم سجن الجب فى القلعة  وسجن شمائل، ولكن قامت السجون الأخرى مثل أبراج القلعة والمقشرة بنفس الدور وأشنع. فالمستبد يحتاج الى الكثير من القصور ليتنعّم ويحتاج الى الكثير من السجون ليأمن على حياته وليرهب شعبه. والتعذيب ـــ وليس العدل ـــ هو أساس المُلك المستبد.

أحوال المساجين في عصر قايتباى.

1 ـ في يوم الأحد 11 صفر 875 أمر السلطان قايتباى بتوسيط سجين بعد أن أشهره على الجمال، وعرضه الموكلون به أمام السلطان، والسبب في توسيطه وتسميره وتشهيره أنه كان مسجوناً بالمقشرة من سنين وقد قرر عليه السجان قدراً معلوماً كل يوم فكان يخرج في الحديد ويستعطى ويحضر ما عليه للسجان كل يوم، وحدث أنه لم يحصل في ذلك اليوم على ما يوفي بالمقرر عليه فأراد الهروب خوفاً من الضرب والعصر، أى عصر قدميه بآلات التعذيب وآلات العقاب. يقول ابن الصيرفى : ( فحصل بينه وبين الجمدار مشاجرة وضربا بعضهما فأصاب الجندار ضربة فمات فقتلوا هذا به...".). أى حسبما يذكر المؤرخ ابن الصيرفي أن المسجون كان إذا لم يتسول للسجان قدراً كافياً يرضى نهمه فإنه يتعرض للضرب وعصر قدميه بآلات العذاب.

2 ـ وفي يوم الأحد 6 ذى الحجة 875 انتحر مسجون من سجن المقشرة لأنه خاف من العقوبة التى سينالها لأن ما حصل عليه من التسول كان أقل من المقرر عليه، يقول ابن الصيرفي:( ضرب شخص من الذين هم في سجن المقشرة ويسألون في الحديد صحبة الجندار،نفسه بسكين، فخرجت مصارينه في وسط السوق، وسبب ذلك أن هذا الذى قتل نفسه كان عليه مقرر في كل يوم للسجان ثلاثة أنصاف وللذى معه قدر أخر، فإن لم ينهض فيعاقب عقوبة شديدة ويجعلون رجليه في الخشب، وطال ذلك عليه فقتله نفسه، وحسابه على الله".).كان هذا هو ما ناله المسكين من عبارات التعزية من مؤرخنا القاضى ابن الصيرفى..!!

3 ـ وربما أدى انتحار ذلك المسجون المسكين إلى صحوة مؤقتة للضمير.. فقد أصدر قايتباى مرسوماً بألا يأخذ السجان من المسجون ولا من أقاربه شيئاً وأخذ عليهم التعهدات ألا يفعلوا ذلك.، وألّا يأخذ نواب القضاء والعاملين معهم شيئا من السجّانين ، إذ كان أعوان الوالى ــ وهو القائم بالقبض على المجرمين وتنفيذ أوامر الشرع السنى المملوكى ــ هم المتحكمين فى السجّانين يأخذون منهم الأموال ، والسجانون يرغمون المساجين على التسول لهم ولاعوان الوالى . وصدر ذلك المرسوم يوم الخميس 15 محرم 876، يقول مؤرخنا: ( أشهر النداء بالقاهرة أمام الوالى حسب المرسوم الشريف أن أحداً من النقباء والرؤوس النوب لا يأخذ من السجان على السجون الذى يودعه عنده شيئاً، وأن سجاناً لا يأخذ من أحد يزور السجون شيئاً ، وأن زوجة السجان لا تأخذ شيئاً في كل ليلة جمعة كما كانت عادتها، وأن يكتب عليهم قسائم بأن لا يعودا لذلك فكثرت الأدعية للسلطان.) .أى كان السجان وزوجته يستغلون المساجين وزوجاتهم وأهليهم.

4 ـ ومع صدور هذا المرسوم فإن الأمور عادت إلى ما كانت عليه، وعاد السجان يرغم المسجون على التسول لحسابه وإلا فأمامه العذاب الشديد.. وكان بعض المساجين يثور على الوضع فيقتل الجندار أو الحارس كما حدث من قبل. في يوم السبت 16 من ذى القعدة 876 ( أمر السلطان بتوسيط لص مسجون" خرج يستعطي كعادته فقتل الجمدار المرسم عليه، قيل أنه عصر بيضه فمات، فرسم بتوسيطه".). أى إنّ هذا المسجون البائس قد تم قطعه نصفين ، ولقد قلّد شجرة الدر فيما أمرت بفعله مع السلطان أيبك ــــ وربماً كان أفضل حظاً منها فإنهم قتلوا شجرة الدر ضرباً بالقباقيب الحريمي.

الهروب من السجن:

1 ـ ويبدو أن المساجين في السجن مقامات حتى في العصر المملوكى. فالسجين الثرى من مشايخ الأعراب كانت له امتيازات لا تتاح لغيره من الفقراء المساجين الذين عليهم أن يتسولوا ليرضوا جشع السجان والحراس.

2 ـ وقد استغل بعض المساجين الأثرياء تلك التسهيلات ــــ التى اشتراها بماله  ــــ استغلها في الهروب، حدث ذلك يوم الجمعة 18 ربيع ثان 876.  كان ابن زامل أحد مشايخ الأعراب محكوماً عليه بالإعدام ومسجوناً على ذمة الحكم في سجن الجرائم، وكان السلطان يؤجل تنفيذ إعدامه حتى يوفّي ابن زامل ما عليه من ديون لديوان السلطنة، ثم نقلوه من سجن الجرائم ، وأودعوه بقاعة المسجونين بين الصورين، بالقرب من بيت الأتابك أزبك قائد الجيش المملوكي، وهو الذى قبض عليه. وقد وثق ابن زامل علاقته بالقائمين على حراسته في قاعة السجن، وصار الحراس يخرجون به كل ليلة والحديد في عنقه لزيارة بعض أصحابه بالقاهرة حيث يأخذ منهم الأموال ويأكل أجود الطعام ثم يعطى حراسه المائة درهم والمائتي درهم. واستمر على ذلك  إلى يوم هروبه ، حيث خرج كعادته وكان معه اثنان من الحراس أحدهما حارس السجن، وقد قال لحارس السجن أنت أولى بأن تأخذ كل الدراهم، وأغراه بأن يصحبه وحده ويترك زميله، وتوجه معه وهو في الحديد إلى الباطلية، وهناك في المكان الذى أراد الدخول فيه كان هناك كمين ينتظر، فضربوا الحارس حتى أغمي عليه، وفكوا وثاق ابن زامل وأركبوه فرساً وهربوا به، واستمر الحارس ملقى على الطريق إلى أن أدركوه.

عفو عن بعض المساجين:

1 ـ وخطط للسلطان قايتباى أن يقوم بعد إصلاحات مع المساجين. ففي يوم الثلاثاء 17 شعبان 876 نظر في أحوال المساجين في سجن الجرائم وسجن الشرع فأطلق من سجن الجرائم نحو أربعين شخصاً منهم شخص اسمه محمد العنبري له نحو ثلاثين سنة بالسجن، وشرط عليهم أن من وقع منهم في جريمة شنقه السلطان، يقول ابن الصيرفي "والعجيب أنه في ثانى يوم إطلاقهم قبض الوالى على شخص منهم فضربه بالمقارع" وأما المسجونون في سجن الشرع فلم يطلق السلطان أحداً منهم غير أنه رسم أن تعمل مصالحهم . ومن جملة المسجونين بالشرع رجل سجنته زوجته ، ولها في صحبته عدة سنين ، فشكر السلطان حاله فأطلقه . كما أطلق السلطان سراح جماعة من الفلاحين.

أخيرا

ونحن نستقبل عيد الفطر لعام 1433 هجرية نرجو من قايتباى مصر المعاصر السلطان محمد بن مرسى الإفراج عن الثوار الذين أحالهم العسكر للسجن بمحاكمات عسكرية ظالمة. وليتذكر السلطان محمد مرسى قايتباى أنه وصل للعرش بتضحيات هؤلاء الشباب ، وبهم قام بتقليم أظافر العسكر المماليك المعاصرين وأتباعهم من الأتابك طنطاوى الى الوزير الصاحب إبن الجنزورى .

 

الهوامش للفصول  السابقة 

  1. الهصر: 125.
  2. خطط المقريزيى 3، 64.
  3. الهصر :268، 269.
  4. الهصر 275.
  5. المقريزي: السلوك 3، 1، 3، 4.
  6. الهصر: 80.
  7. الهصر 304، 111.
  8. الهصر: 399، 455، 391.
  9. الهصر :507.
  10. الهصر 162، 398.
  11. الهصر: 429.
  12. الهصر: 440، 441.
  13. الهصر: 482، 511، 167.
  14. الهصر: 105، 91، 80، 112، 407،399.
  15. الهصر: 61، 67، 123، 125، 127، 289، 240، 241، 242.
  16. الهصر: 236، 137، 138، 193، 192،200،201،148،300،435،119، 147، 193، 234، 235، 229، 230، 314.
  17. الهصر: 29، 41، 42، 203، 204، 388، 211، 212.
  18. الهصر: 188، 161، 287، 288، 211، 212.
  19. الهصر: 230، 233، 234، 244، 496، 104، 82، 211، 113، 314، 195.
  20. الهصر: 274، 275، 496، 504، 202.
  21. الهصر: 389، 417، 351، 377، 378، 174، 143، 22: 23، 32: 33، 48، 423، 390، 163، 146.
  22. الهصر: 20، 515، 516، 473.
  23. المقريزي: الخطط 2، 455، 456.
  24. المقريزي: السلوك 4/ 2، 745، 746.
  25. الهصر: 42: 125، 478، 75، 233، 234، 445، 232، 233.
  26. السلوك: 1، 2، 404، حاشية: 1.
  27. الهصر: 286، 278، 427، 130.
  28. المقريزي: السلوك 1، 3، 689.
  29. تاريخ ابن اياس: 2، 150.
  30. تاريخ الطبري: 9، 469.
  31. السلوك: 1، 2، 3،4.
  32. خطط المقريزي: 2، 626.
  33. الهصر: 17، 18، 119، 214، 340، 404، 331، 338، 48: 49، 56، 162.
  34.  خطط المقريزي: 2، 626.
  35. الهصر: 445، 474.
  36. خطط المقريزي: 2، 626، 628.
  37. الهصر: 202، 203، 290، 291، 321،322، 431، 340، 404.

 

 

الفصل السادس :   مجتمع أرباب الوظائف القائمين بتطبيق الشريعة السّنية فى عصر قايتباى    

أنواع الوظائف:

1 ـ المماليك كطبقة عسكرية أجنبية احتاجت إلى جهاز إداري ودينى يساعدهم في الحكم.. والعلم هو المؤهل الذى ينبغى توافره في أرباب هذا الجهاز، ولأن العلم في ذلك العصر والعصور الوسطي بشكل عام كان علماً دينياً، لذا كان علماء الدين أو رجال الدين هم أرباب الوظائف الإدارية والكتابية والتعليمية والقضائية في العصر المملوكي.

2 ـ ويمكن تقسيم الوظائف التى كان يليها رجال القلم إلى قسمين: دينية وديوانية، فالأولى مثل القضاء والإفتاء ووكالة بيت المال ونقابة الإشراف والحسبة ومشيخة الشيوخ ونظر الأوقاف أوالأحباس والخطابة والتدريس، أما الوظائف الديوانية فهي الوزارة ونظر الدولة ونظر الخاص ونظر الجيش.. إلخ.

3 ـ وفي عصر قايتباى ازداد حجم الطبقة المملوكية وأصبحت أسرات متشعبة يطلق عليهم ( أولاد الناس ) وقد ازداد اختلاطهم بالحياة المصرية مما أدى بالتالى إلى تغلغلهم في الوظائف غير العسكرية فتقلدوا وظيفة الحسبة التى كان يليها أشهر الشيوخ والفقهاء مثل المقريزي والعيني.

اغتصاب المماليك لبعض الوظائف المدنية:

1 ـ بل إن النظام المملوكي اغتصب بعض سلطات القضاء، وقد حدث هذا في عصر المقريزي شيخ المؤرخين في القرن التاسع الهجري، وتمثل ذلك في وظيفة (حاجب الحجاب) المملوكي الذى كان يمثل القضاء العسكري والذى يختص بالنظر في قضايا ومحاكمات العسكر المملوكي، فإذا به يغتصب سلطات من القاضي الشرعي غير العسكري. يقول المقريزي:( إن حاجب الحجاب كان يختص بالفصل في النزاعات الخاصة بالأمراء والجند ولم يكن يتدخل في الأحكام الشرعية التى كانت ترجع لقضاة الشرع، بل كان بعضهم يفر من باب الحاجب إلى باب القضاة الشرعيين يستجير بحكم الشرع فلا يطمع أحد في أخذه من باب القاضى، وكان القاضى يحمي بعضهم من أيدي الحجاب). ويقول المقريزي: ( ثم تغير ما هنالك وصار الحاجب اليوم اسماً لعدة جماعة من الأمراء ينتصبون للحكم بين الناس لا لغرض إلا لتضمين أبوابهم بما مقرر في كل يوم.. ويرتزقون من مظالم العباد.) .أى يتصدّون للسلب والنهب .

ولكن القضاء العسكرى لجنرالات مبارك و( المجلس العسكرى ) كان أكثر ظلما للمصريين من حاجب الحجّاب المملوكى ، ففى عصر سيطرة جنرالات مبارك تغول القضاء العسكرى وسجن الثوار المدنيين المسالمين الذين أتاحوا لهم فرصة السلطة ، ولم يكتف عسكر مبارك بذلك بل إرتكبوا فظائع سحل الثوار والمتظاهرين بالدبابات فى الشوارع . ونرجع للمقريزى وهو يقول عن حاجب الحجاب فى عصره : ( وصار الحاجب اليوم يحكم في كل جليل وحقير من الناس سواء كان الحكم شرعياً أو سياسياً بزعمهم ، وإن تعرض قاضى من قضاة الشرع لأخذ غريم من باب الحاجب لم يمكّن من ذلك. ) . ويقول المقريزي عن نقيب الحاجب- أو سكرتيره ومدير مكتبه بتعبير عصرنا " ( ونقيب الحاجب اليوم ومع رزالة الحاجب وسفالته وتظاهره بالمنكر بما لم يكن يعهد مثله- فإنه يأخذ الغريم من باب القاضى ويتحكم فيه من الضرب وأخذ المال بما يختار فلا ينكر ذلك أحد البته. ). وفارق هائل بين جرأة المقريزى وجهره بالحق كما يظهر فى قوله هذا وبين حقارة ابن الصيرفى ونفاقه لأسياده المماليك .

2 ـ وازداد الأمر سوءاً بعد ذلك بثلاثين عاماً تقريباً أى في عصر قايتباى ومؤرخنا الصيرفي ، بحيث أصبح  قضاة الشرع السّنى أسوأ من قضاة العسكر، وبحيث كان الناس يفرون من حكم قضاة الشرع السّنى إلى حكم السياسة عند السلطان . وسنعرض لذلك في أوانه لنرى كيف أصبح ظلم المماليك أهون من ظلم قضاة الشرع فى عصر السلطان المتدين قايتباى . فهل يا ترى سيكون حال القضاء فى عصر حكم الاخوان المسلمين مثل عصر قايتياى ، أى أسوأ من حكم عسكر مبارك وعهد مبارك ؟ ..

وظيفته القضاء في العصر المملوكي:

1 ـ وما دمنا قد تعرضنا لسلطة القضاء في العصر المملوكي فلنعط عنها فكرة سريعة.

كان القضاء في العصر المملوكي نوعين: قضاء شرعى وقضاء سياسي. والقضاء الشرعى يرأسه القاضى الشافعي الذى يعين نوابا عنه في الأقاليم المصرية يقوم كل منهم بوظيفة القاضى في بلد، ويقوم القضاة الأحناف والمالكية والحنابلة بتعيين نواب عنهم أيضاً ولكن يقف القاضى الشافعي في المقدمة على رأس الهيئة القضائية الشرعية، ويختص إلى جانب ذلك بالنظر في أمر الأيتام والأوقاف وبيت المال، ثم هو خطيب الجامع الأعظم بالقلعة.وعدد نواب القضاة في الأقاليم أكثر من مائتى نائب أو قاض للحكم فى منطقته المحلية، وكل قاض منهم لقبه نائب أى ينوب عن قاضى القضاء في المنطقة التى بها المحكمة الشرعية.

2 ـ وإلى جانب قضاة الشرع هناك قضاء العسكر، وهم أربعة ، ويسافرون مع السلطان للنظر فيما يحدث في أمور بين الجند كما أنهم يجلسون بدار بدار العدل ، أو مقر القضاء الرسمى الأعلى .

3 ـ ثم هناك القضاء السياسي الذى لا علاقة له بالأحوال الشخصية، ويختص القضاء بالجنايات مثل الاعتداء أوالظلم والضرب والقتل وشئون الدواوين، ويتولى السلطان والأمراء مباشرة القضاء السياسي يعاونهم بعض القضاة، وكانوا يجلسون بالإسطبل السلطانى بالقلعة في أيام السبت والثلاثاء أول النهار ويوم الجمعة بعد الصلاة، وسار قايتباى على هذا الترتيب ، وكان يذهب إليه في موكب يعرف بموكب الإسطبل.

وكان السلطان يجلس وحوله رجال الدولة والحرس وعن يمينه القضاة وعلى يساره كاتب السر ، وذلك للنظر في المظالم، ويفصل فيها بمشورة الأمراء والقضاة بعد أن يقرأ كاتب السر القضية.

4 ـ وللأمراء المماليك سلطة قضائية في ولايتهم واقطاعاتهم، ولأتابك العسكر- أو القائد العام للجيش- سلطة قضائية بحكم منصبه. ورسوم القضايا يحصّلها القضاء من الخصوم، أى الشاكي والمشكو في حقه، وللقاضى ومن يتبعه من الموظفين نصيب من هذه الرسوم، كما أن للسلطان نصيباً منها . ويحدد السلطان المبالغ المطلوبة من القضاة.

5 ـ وفي القضايا الشرعية هناك وكلاء دار القاضى الذين يقومون بمهمة المحامى في عصرنا. ثم للقاضى كاتب وأمين ونقيب وحاجب، ويتبعهم طائفة الشهود أو العدول. والكاتب: يفحص الحجج والوثائف والوصايا ويفسر مدلولاتها.والأمين: يستحفظ على أموال اليتامي والغائبين من المستحقين.والحاجب: يستأذن لذوى الحاجات ويرفع الأمر للقاضى. والشهود أو العدول: هم الذين يشهدون في أمور التعامل بين الناس ولدى القاضى . وشهادتهم تكون رسمية معتمدة، ويمثلهم اليوم "ختم السر" أو الختم الرسمى للدولة.

الوزارة:

1 ـ والوزارة أهم وظيفة ديوانية، ولكن المماليك جعلوا نائب السلطان أهم من الوزير، ثم بتكاثر الطائفة المملوكية وتشعب سلطانها كان بعض المماليك يتولون الوزارة.

2 ـ وكانت سلطة الوزير واسعة ثم تقلص نفوذ الوزير في الدولة المملوكية البرجية حين أنشأ برقوق أول سلطان في الدولة المملوكية البرجية الديوان المفرد ليدير شئون اقطاعاته السلطانية، وكان من قبل يتبع شئون الوزير. وفي عصر المقريزي أصبح الوزير مجرد كاتب يتردد ليلاً ونهاراً إلى باب الاستادار ويسمع توجيهاته، والسلطات القديمة التى كانت للوزير أصبحت موزعة بين أربعة: كاتب السر والاستادار وناظر الخاص والوزير.  فأخذ كاتب السر من الوزارة التوقيع على القصص ( أى الشكاوى ) والبت فيها ، والقضايا بالعزل والتولية .  وأخذ الاستادار من الوزارة التصرف في نواحى مصر والتحدث في الدواوين السلطانية وفي كشف الأقاليم أو التفتيش على الكشّاف أو ما يعرف اليوم بالمحافظين فى الأقاليم المصريةأو ولاة النواحى، وفي كثير من أمور أرباب الوظائف. وأخذ الناظر الخاص جانباً كبيراً من الأموال الديوانية السلطانية ليصرفها في متعلقات الخزانة السلطانية . وبقي للوزير المكوس ( أى الجمارك ) ، والضرائب وبعض الدواوين ومصارف المطبخ السلطانى.

بقية الوظائف الديوانية

1 ـ (ناظر الخاص ) : يختصّ أو بتعبير العصر المملوكى :  ( يتحدث بما هو خاص)  بمال السلطان وإليه التحدث في الخزانة السلطانية.  ومعه (كاتب الخزانة السلطانية بالقلعة ) حيث كانت مستودع أموال المملكة، وكان منصب نظر الخزانة منصباً جليلاً إلى أن استحدث ناظر الخاص فضعف منصب ناظر الخزانة وصارت تسمى الخزانة الكبري ، وهو اسم أكبر من مسماه، وصار نظر الخزانة مضافاً إلى نظر الخاص.

2 ـ ( ناظر الدولة ) كانت رتبته تلى رتبة الوزارة، فإذا غاب الوزير أو تعطلت الوزارة قام ناظر الدولة بتدبير الأمور . ويعهد إلى ( شاد الدواوين ) بتحصيل الأموال وصرفها في النفقات وفي التكليفات.

ويعاون ناظر الدولة موظفون يرأسهم ( مستوفي الصحبة ) الذى يكتب المراسيم التى يوقعها السلطان . وتحت إدارة مستوفي الصحبة موظفون كل منهم مقيد بعمل واسمه ( مستوفي ). ويتفرع من ديوان نظر الدولة دواوين المال ، وكل منها يرفع الحساب إلى ديوان نظر الدولة .

3 ـ ( الوالى ) كان في البداية يطلق على نائب السلطان، ثم صار في عصر قايتباى يطلق على من إليه نظر الكشف عن الجرائم والقبض على المجرمين، أى صار مثل مدير الأمن العام في القاهرة.

4 ـ كاتب السر: وتصل إلى منصب كاتب السر، أهم الوظائف الديوانية في عصر قايتباى، والذى تولاه ابن مزهر الأنصاري صديق مؤرخنا ابن الصيرفي. وكاتب السر يجلس في ديوان الإنشاء ، يقرأ الكتب والرسائل الواردة الى السلطان ويكتب الأجوبة عليها ثم يرسلها بعد أن يضع عليها ختم السلطنة.  وهو يجلس بين يدى السلطان في دار العدل حين يقضى في المظالم، يقرأ له الشكاوى ويكتب الحكم السلطانى عليها. ثم صار إليه التحدث في مجلس السلطان عند المشورة وعند اجتماع الحكام، وله التوسط بين الأمراء والسلطان عند الاختلاف ، وإليه ترفع أمور القضاة ومشايخ العلم وكل ذلك برأى السلطان وإشارته. وكان من قبل دون مرتبة الوزير فأصبح يجلس أعلى من الوزير، ويحتاج إليه أرباب الوظائف كلهم، بل وأحياناً بعض أرباب السيوف من المماليك.  ولذلك كانت ألقاب ابن مزهر الأنصاري ملفته للنظر في تاريخ الهصر، وتقريباً فإن ألقابه تلى ألقاب الداودار الكبير يشبك بن مهدي الشخصية الثانية في عصر قايتباى، يقول عنه "المقر الأشرف الكريم العالى الزينى رئيس الدنيا ابن مزهر الأنصاري كاتب السر الشريف حفظه الله".

أرباب الوظائف والتقلبات السياسية:

1 ـ ومن الطبيعى أن يشهد أرباب المناصب التقلبات السياسية ما بين صعود وعز إلى حبس وعزل، ومن الطبيعي أن يشاركوا في التآمر، وأن يعرفوا العزّ والذلّ ، طبقا للشريعة السنية فى العصر المملوكى.

2 ـ والأمير يحيي بن عبد الرازق بن أبى الفرج (مقتول عام 874) أبرز بل أشهر أرباب الوظائف في القرن التاسع الهجري وقد مات تحت التعذيب والمصادرة في عصر قايتباى. وقد كان صاحب الحلّ والعقد في سلطنة الظاهر جقمق، حيث وصل إلى أوج سلطانه، وكان الأمير قايتباى يخضع له ، ثم صار إلى نكبات عديدة، وكلما نكبوه صادروا أوقافه وعقاراته، ثم إذا أعادوه أعادوها إليه. وكان في بدايته كاتباً ثم تقرب في خدمة الزينى عبد الباسط فلما تولى عبد الرحمن بن الكويز الاستادارية عينه ناظر الديوان المفرد، ثم تولى هو بنفسه الاستادارية للظاهر جقمق فعلا نفوذه وً سلطانه، وأنشأ كثيراً من المدارس والجوامع والبيوت ، بل وإقتدى بالأمراء المماليك فاشترى المماليك حتى بلغ عددهم 250 مملوكاً، وفرق الصدقات على المحتاجين، وهو الذى أنشأ أسرات من أرباب الوظائف مثل أولاد البقرى وأولاد غريب وابن جلود وغيرهم، ومع ذلك كالفئوه بالتى هى أسوأ ، إذ أسهموا في إذلاله في نهاية عمره. حيث هبط إلى الحضيض بعد سلطنه الظاهر جقمق فصودر وأهين، وأخيرا مات تحت التعذيب على يد قايتباى.

مرتبات أرباب الوظائف:

1 ـ كانت مرتباتهم شهرية تشمل المال والطعام، وكان لكبار الموظفين رواتب جارية من اللحم والتوابل وغيرها والخبز والعليق لدوابهم، والسكر والشمع والزيت والكسوة في كل سنة والأضحية في المراسم، والسكر والحلوى في شهر رمضان.

2 ـ وفي عصر المقريزي كان الوزير أكثرهم نصيباً من المرتبات والجراية العينية، وكان مرتبه في الشهر مائتين وخمسين ديناراً بالإضافة إلى مستحقاته من (الدعم) العينى، وكان مرتب القضاة والعلماء أكثر من خمسين ديناراً في كل شهر مضافاً لما بيدهم من مرتبات من المدارس والأوقاف القائمة عليها.

3 ـ ونأخذ مثالاً لإيراد أحد الأشياخ في عصر قايتباى، وهو الشيخ سراج الدين العبادي ت 877 فقد بدأ الشيخ سراج الدين فقيهاً يعلم أبناء السلطان الأشرف برسباى فعظم شأنه وترقي وأثرى وحسنت حاله، ورتب له الجامكية (المرتب) واللحم والعليق، أى الطعام له ولدابته، ثم تنقل في الوظائف وحاز الكثير منها من إمامة المدرسة الباسطية إلى مشيخة خانقاه سعيد السعداء إلى تدريس الفقه بالخانقاه الظاهرية برقوق، إلى نظر الأوقاف. وكان له في كل سنة ( خلعة ) : كامليتان بسمور إحداهما عند ختم البخارى في رمضان والأخري يوم العيد لوظيفة الأحباس. والخلعة هى زى التشريف التى يمنحها السلطان تكريما لأحدهم.

و( السمور ) هو الفراء الفاخر المستورد ، والكاملية هى الزى المملوكى الذى يشبه القفطان فوق الثياب .

4 ـ لذا كان بعضهم ينافس المماليك في الترف والأبهة والاستكثار من الجوارى والغلمان وشراء المماليك.

وفي يوم الخميس 25 شوال 875 سافر القاضى عبد البر إبن قاضى القاضاه محب الدين بن الشحنة إلى حلب لرعاية بعض مصالح والده هناك، وسافر في صحبته كثير من مماليكه وغلمانه وخدمه على أحسن هيئة ونظام، يقول ابن الصيرفي "كهيئة سفر قاضى قضاة الشام أو مباشر عظيم بمصر".

5 ـ ولنأخذ مثالاً أخرى على بعض الفقهاء الذين تشبهوا بالمماليك، وهو قاضى القضاة حسام الدين ابن حريز المالكى ت873. كان صاحب صلة بمؤرخنا ابن الصيرفي وصاحب فضل عليه، يقول عنه :( وأجرى على فضلاً جزيلاً من الضحايا ( أى الأضحيات ) في كل سنة ومن الإنعام أيضاً في شهر رمضان ومن القمح والعسل وغير ذلك رحمه الله".) . ونفهم مما قاله عنه أنه بدأ حياته الوظيفية نائبا للقضاء فى منفلوط ، أى قاضيا فيها تابعا لقاضى القضاء المالكى . ثم إستغل نفوذه هناك فى الزراعة وإستئجار الأراضى التابعة للدولة في ديوان الدولة و الديوان المفرد ، وصار له بالسرقة والاختلاس الشىء الكثير في كل سنة من متحصل الغلال والعسل والقصب ، وإستغل هذا الدخل فى تحقيق طموحه فى القاهرة ، يقول إبن الصيرفى :  ( فكان يخدم السلطان والأمراء والوزراء بالأموال والخيول العظيمة) أى يرشوهم ، فتولى قضاء القضاة المالكية، ولكن وصوله للقاهرة قاضيا للقضاء المالكى لم يمنعه من إستبقاء نفوذه فى الصعيد ، بل إستغل منصبه الرفيع فى القضاء لكى يستمر فى نهب الصعيد بإعتباره أعرف به ، فكان يلتزم للسلطان بتحصيل الضرائب في الوجه القبلي، أى يقوم عن السلطان بجباية الضرائب ، ولا حساب عليه فيما ينهب من الناس طالما يرضى السلطان ويؤدى المقدار المفروض للخزانة .  ثم سيطر على الوزارة في عهد الأشرف اينال. وحين تولى قايتباى السلطنة اشتكى إليه أهل الصعيد أنه وضع يده على عدة بلاد وجزر نيلية واستولى عليها، فوقعت ( وحشة ) أى جفوة بينه وبين الداودار الكبير يشبك من مهدي صاحب السلطة على الصعيد. وكان ذلك القاضى (ابن حريز) يتشبه بالمماليك في لباسه، وكان يركب أفخم الجياد ويجعل عليها الكنبوش، أو القماش الفاخر كالمماليك، ( واشترى الجوارى الحسان البيض والجوارى الأحباش الملاح )، على حد رأى ابن الصيرفي ، وكانوا عند بكثرة، وكان يبتاع العبد الواحد منهم بمائة دينار ويكسوه بمثلها ، وعندما يكثرون عنده يعتقهم وينشرهم في البلاد ليصيروا له عدة وأنصارا بولائهم له حسب المعتاد فى العرف المملوكى ، وتشبها بما كان يفعله أمراء المماليك.

أزمة اقتصادية لأرباب الوظائف سنة 873هـ:

1 ـ وشهد عام 873 أزمة اقتصادية لأرباب الوظائف. فقد أنقضى شهر صفر ولم ينفق السلطان الرواتب النقدية والعينية على المستحقين من أولاد الناس (أولاد الأسرات المملوكية التى تخدم في الجيش) والفقهاء وسائر الموظفين، ولم يأخذ مرتبه سوى المماليك السلطانية . وخاطبه أعيان الموظفين فوعد بأن يعطيهم المرتبات في شهر ربيع الأول ، وأخذ يتألم من الغلاء ونقصان النيل وما تكلفه ثورة شاه سوار من تجهيزات حربية ونفقات عسكرية حتى استنفذت أموال الخزانة السلطانية.

2 ـ وفي يوم الخميس 11 ربيع الأول أعطى مرتبات لأولاد الناس لمن ينجح في اختبار اللياقة العسكرية ويخرج مع الجيش الذى يعده لحرب شاه سوار، وأدى ذلك إلى تنازل معظمهم عن مرتبه. وفي 13 ربيع الأول يوم الأحد انتهى السلطان من موضوع أولاد الناس ومرتباتهم.

3 ـ وفي يوم الاثنين 15 ربيع الأول عيّن السلطان قايتباى للوزارة قاسم جغيته لأنه تعهد بتوفير الكثير من مرتبات أولاد الناس والمتعممين والأيتام وغيرهم. وبعدها شمّر قاسم جغيته الوزير عن ساعديه في قطع أرازق الناس ، بل ومطالبتهم بما أخذوه سابقاً بأثر رجعى ، مما أدى إلى هروب الكثيرين خوف القبض عليهم ومطالبتهم بالزيادات التى أخذوها من قبل. وعاش أرباب الوظائف أسوأ الظروف في هذه الأيام وكان منهم مؤرخنا ابن الصيرفي الذى سجل أحوالهم وحالته النفسية يقول حانقا :( على أن الناس في ألم ووصب وجهد وتعب ونصب ، فمنهم من هو مجتهد في تحصيل ما طلب منه حتى تبقي جامكيته،( أى مرتبه) ويريد وزن ( أى دفع) ذلك لأجل النفقة،ـ( أى تجهيز الحملة العسكرية لشاه سوار) ومنهم من هو مهموم لسبب قطع رواتبه من اللحم السلطانى، ومنهم وهو الأهم والأعظم، من هو خائف مما يطلب منه مما تناول في الماضى . وأما أكابر الدولة وأعاينها ومباشروها فكل منهم خائف من المصادرة ووزن المال، ومنهم من احتشم ووزن فحملوه ما يرضى به بل ما يسد به عن المسلمين ) . ثم يقول مؤرخنا حانقاً على الفقراء ممن لا مرتب لهم  : ( على أن جماعة ما طرق قلبهم الهمّ والغمّ ، وهم العوام والفقراء ، فإنهم يتنزهون ويتفرجون ، فلا بارك الله فيهم، وما أقبح فعالهم".) . إى إن مؤرخنا ينقم على الفقراء عدم قطع مرتباتهم لأنه لا مرتبات لهم أصلا ..!! ويستكثر عليهم سعادتهم بالفقر.!!

4 ـ ثم ترفق السلطان بالأيتام الذين لهم مرتبات فأعلن النداء يوم السبت 20 ربيع الأول 873 أن من باسمه من الأيتام في الدولة مرتب لحم يكتب قصة، أى شكوى ، ويحضر بها إلى منزل الداودار الكبير فيصرف له مرتبه".

5 ـ وفي يوم الخميس 16 ربيع الثانى 873 عقد السلطان اجتماعاً مع القضاة والعلماء ، وحضره مؤرخنا ابن الصيرفي في قلعة الجبل لبحث موضوع المرتبات، وتحدث السلطان في الاجتماع عن ازدياد اعتمادات المرتبات من 11 ألف دينار شهرياً في عهد المؤيد شيخ إلى 18 ألفاً في عهد الأشرف برسباى ثم إلى 28 ألفاً في عهد الظاهر جقمق ثم صارت في عهده (46ألف دينار وخمسة دنانير) فصار ديوان السلطان لا يفي بالجاميكية أى المرتبات ولا بثلثها.ويقول ابن الصيرفي أن السلطان ( صار يدعو على نفسه ويتبرّم من السلطنة ويصرّح بأن يخلع نفسه منها ، وقال :عجزت عن دفع هذا المال لأربابه كل شهر ).

6 ـ ويذكر ابن الصيرفي موقفاً عظيماً لأحد القضاة في ذلك المجلس جرؤ على مواجهة السلطان بالحق، ولكن ابن الصيرفي لم يتحفنا باسم ذلك القاضى الشجاع، مما يعطى مثلا لتدخل العواطف الشخصية والعلاقات الشخصية فى تسجيل المؤرخ المعاصر لأحداث عصره ، حين يتجاهل من يكره بل وقد يتحامل عليه ظلما وعدوانا ، فى نفس الوقت الذى يرفع فيه ويمدح من لا يستحق لأنه يحبه . يقول إبن الصيرفى عن هذا المجلس السلطانى والفقيه الشجاع الذى تجاهل إسمه : ( فتكلم بعض القضاة بأن الظلم لا يجوز في ملة من الملل ، لأنه قصد بذلك السلطان، لأنه بلغه عنه أنه يريد أن يأخذ فائض أموال الأوقاف وأموال التجار، ثم أن القاضى المذكور أخذ يقول أن السلطان له النظر العام ، ينظر فيمن يستحق يبقيه في الديوان ومن لم يستحق يمحوه من الديوان".) . ثم بعد هذا الموقف الجرئ تشجع الشيخ أمين الدين الأقصرائى وتكلم واحتفل ابن الصيرفي بكلامه فقال : ( وتكلم شيخنا أمين الدين الأقصرائي بكلام ساعد فيه القاضى المذكور وعضّده" ).

7 ـ ثم يقول عن نهاية المجلس: ( وانفضّ المجلس المذكور ، وقام السلطان وجلس على الدكة بالحوش المذكور ، وجلس معه الداودار الكبير وكاتب السر وبقية المباشرين لضبط ما يقع من الجامكية واللحم والعليق والكسوة والأضحية ( أى ما يتوفر بعض الاقتطاعات والتخفيضات ) .. وقطع مرتبات جماعة كثيرة من أولاد الناس وغيرهم. والذى ظهر من الأمر في هذا اليوم أن السلطان أبقي لكل واحد من المماليك السلطانية ألفى درهم في كل شهر وقطع من له الزيادة على ذلك. ) . ( ولما فرغ السلطان من قطع مرتبات غالب أولاد الناس شقّ ذلك على كل من له مرتب وقطع ) . وفي يوم الاثنين 20 ربيع الثاني فرّق السلطان الجامكية بنفس التعديل الجديد. وأكثر من تأثر بانقطاع المرتب كانوا من الفقهاء والشيوخ فى عصر قايتباى. 

 

 

الفصل السابع : حقارة أرباب الوظائف الديوانية منفذى الشريعة السنية فى عصر قايتباى.

الوزير قاسم جغيته

 1 ـ كان للوزير قاسم جغيته دور مشين في ( قطع أرزاق ) أخوانه من أرباب الوظائف.. وهو أشهر من تولى الوزارة في عصر قايتباى وأبرز من يمثل حقارة الوزراء فى حكم العسكر. 

2 ـ في يوم الثلاثاء 9 ربيع الأول 873 غضب السلطان على الوزير ابن الأهناسي وقبض عليه وأسلمه للداودار الكبير فطلب منه المال فاعتذر بأنه دفع كل ما لديه من أمول رشوة كى يكون وزيراً، فأجرى عليه العقوبة وعلقه في شباك حديد بأصابع يديه فدفع ألفى دينار، وأطلق السلطان سراحه، يقول ابن الصيرفي "فتوجه إلى داره وفي نفسه أنه يعود للوزر ( أى الوزارة ) ، وفي ذلك بُعد ، فإنه ظهر منه العجز فيها مراراً ، ورُشح قاسم جغيته المعزول من الوزارة بعوده للوزر". أى أن ابن الأهناسي بعد أن لاقي من التعذيب والإهانة ما لاقي كان يطمع في أن يعود للوزارة.هذه هى حقارة أولئك الوزراء. ولكن قاسم جغيته كان أستاذهم .

3 ـ في يوم الاثنين 15 ربيع الأول 873 تولّي الداودار يشبك من مهدي الوزارة ، وهو الرجل الثانى فى الدولة بعد قايتباى . يقول ابن الصيرفي إن الداودار الكبير تولى الوزارة بنفسه عوضاً عن الأهناسي ( بحكم القبض عليه ومصادرته وعزله، ولعجزه وخموله وظلمه وخسفه ورقاعته!!.) ، أى قائمة بليغة من الصفات الحميدة.!!. ولأن يشبك من مهدى تكاثرت مسئولياته و لا وقت لديه للنظر فى أعمال الوزارة التى تقلدها فقد عيّن قاسم جغيته متحدثاً باسمه عن الوزارة ، ويضاف سبب آخر يوضّح شخصية قاسم جغيته ، إذ تعهّد قاسم جغيته للأمير يشبك من مهدى أنّ يوفر من مرتبات أولاد الناس والمتعممين والأيتام وغيرهم في كل يوم كذا وكذا من المال وكذا قنطاراً من اللحم. ( ولا زال يسأل الداودار الكبير في ذلك ويلح عليه ويترامى على رجليه حتى وليها ، وفوّض له الداودار الكبير الكلام فيها) على حدّ قول مؤرخنا إبن الصيرفى.

4 ـ ويقول ابن الصيرفي عن أول أعمال قاسم جغيته: ( وفي الحال شمّر قاسم جغيته ساعده في قطع رواتب العسكر والأجناد ممن له زيادة على عادته وكلهم معه زيادة، وأما المتعممون ( أى الفقهاء والشيوخ ) فشنّع فيهم ( أى تطرّف فى قطع أرزاقهم ومرتباتهم ) وقطع ما باسمهم، وليتهم سلموا من المطالبة بما تناولوا قديماً، ووقع الترسيم ( أى الاعتقال ) على جماعات منهم وألزموا بأموال جمة ، وهرب خلق كثير من أولاد الناس والخدام وغيرهم.). وكان هذا على هوى الوزير فاسم جغيته لأنه سينال فرصة للإنتقام من خصومة ، وللسرقة ، حيث كان من المعتاد أن يسرق من يقوم بالمصادرة جزءا من المال والمنهوبات يخفيها عن أعين السلطان.

5 ـ وكان قاسم بجانب هوايته في قطع الأرزاق لا يتورع عن مصاحبة الغانيات. ولا شك أنه كان له أعداء يتحينون الفرصة للإيقاع به من هذا الطريق، وحدث في شهر ربيع الآخر 874 أن والى القاهرة، أى المختص بشئون الأمن والجرائم، قد ضبط الوزير قاسم جغيته مع امرأة عاهرة في الجزيرة بالقاهرة.

6 ـ ووصلت غنم من الوجه القبلي لحساب الأمير قنصوه الاينالى فأراد الأمير أخذها بدون أن يدفع الضرائب المقررة فماطله قاسم، وانتهى الأمر بأن ضرب الأمير المملوكى الوزير.

7 ـ وهرب أحد المباشرين أى الموظفين من الحبس حيث كان معتقلاً بسبب مال تأخر عليه للسلطان ، ووجدها قاسم فرصة للإيقاع بالشيخ أبى الحجاج القاضى الشافعي لأنه صهر ذلك الموظف الهارب من السجن، فكان أن ذهب قاسم إلى الداودار الكبير وأخبره أن المباشر هرب واختفي عنده صهره أبى الحجاج، فهجموا على دار القاضى لم يجدوا فيه أحداً، فاعتلقوا القاضى أبا الحجاج وضربوه في بيت الداودار الكبير.

8 ـ وتألب أعداء قاسم جغيته عليه، وما زالوا بالداودار الكبير حتى أغضبوه على قاسم واتهموه بالفساد هو وجماعته من المباشرين . ورآها الداودار الكبير والسلطان فرصة لابتزاز قاسم فطلب منه ومن مباشريه مائة ألف دينار، وانتهى المبلغ بعشرة آلاف دينار يدفعها قاسم عن نفسه ، وامتنع قاسم قائلاً أنه لا يستطيع أن يدفع أكثر من خمسة آلاف دينار فأمر الداودار باعتقاله.

9 ـ وبدأت قصة الإيقاع بقاسم بخصومة بدأت بينه وبينه صهر الأمير خشقدم الظاهرى، وأدت هذه الخصومة إلى قيام الأمير خشقدم الظاهرى بفضح قاسم أمام الداودار الكبير الذى جعله متحدثاً عنه في الوزارة.. فقد ذكر خشقدم الظاهرى للداودار الكبير أن قاسماً يختلس لنفسه ثلاثة أنصاف من كل أردب يصرفه من الديوان، وأن بركات بن أبى الطواحين مستوفي الدولة يتآمر معه في تزييف حساب الدولة.وهكذا طلب الداودار قاسماً وضربه وضرب شريكه ابن أبى الطواحين وطلب منه عشرة آلاف دينار ، ورفض قاسم، وعلم السلطان بالأمر فأصدر قراراً بتاريخ 26 ربيع الأول 875 بطلب قاسم وأعوانه إلى القلعة، فجئ بهم في الحديد ، وغرّمه السلطان 18 ألف دينار،( فقال ما معي إلا روحي). وتوسط ابن مزهر الأنصاري كاتب السر فأطلقه من الحديد . واتفق على أن يقوم بمحاسبته ومحاسبة غريمه إبن غريب الاستادار، وأثبت كاتب السر أن على قاسم خمسين ألف دينار للدولة . وعيَّن السلطان موسي بن غريب متكلماً في الوزارة عوضاً عن قاسم، مع قيام ابن غريب بوظيفة الاستادار. واستلم الداودار الكبير وزيره السابق قاسم فأجرى عليه العقوبة كى يستخلص منه الأموال ، فدفع قاسم تحت التعذيب خمسة آلاف دينار ، ثم أكمل العشرة يوم 10 ربيع الثاني ، وظل تحت التعذيب يتحمل الضرب دون أن يدفع المقرر عليه على أمل أن يتدخل كاتب السر لإنقاذه، وهذا ما حدث فقد توسط كاتب السر لدى الداودار الكبير ، وضمنه على أن يدفع الباقي، وصحبه كاتب السر ليكون رهينه لديه في بيته حتى يدفع ما عليه. إلا أن قاسم جغيته رد الإحسان بالسيئة ، فهرب من بيت كاتب السر، فاضطر كاتب السر لأنه يدفع عنه ما ضمنه من أجله، وما زال كاتب السر حتى وصل إلى مكان قاسم وظفر به وأودعه سجن الديلم.

10 ــ وفي يوم الثلاثاء 18 جمادى الأول 875 خلع السلطان قايتباى على قاسم جغيته في الوزارة بعد أن دفع قاسم للسلطان عشرين ألف دينار نقداً، وكان ابن مزهر هو الذى توسط في ذلك . وكان ابن غريب الاستادار القائم في الوزارة مكان قاسم، يحاول القضاء النهائى على قاسم، ولكن بعد جهد جهيد من كاتب السر أعيد قاسم للوزارة بعد أن دفع ما دفع واشترط عليه السلطان أن يقوم في مباشرته للوزارة بتقديم أربعة آلاف دينار للخزانة السلطانية.

11 ـ وفي يوم الأربعاء أول شعبان 875 غضب الداودار الكبير على الوزير قاسم بعد أن أعيد للوزارة واعتقله. وكالعادة توسط كاتب السر له وتوجه إلى بيت الداودار الكبير فلم يجده في البيت فانتظره إلى نصف الليل، ثم اجتمع به ، ولم يوافق الداودار الكبير على إطلاق قاسم.

12 ـ وفي محنة قاسم هذه تطلع صبيانه لتولى الوزارة مكانه ، وكانوا ابنى منقورة وابن البحلاق ، وكان قاسم استاذهم ويضربهم ويصادر أموالهم، وفى محنته سعى كل منهم لدى الداودار الكبير للوثوب على الوزارة .  ثم أطلق الداودار الكبير سراح قاسم الوزير يوم السبت 4 شعبان، بعد أن دفع للداودار مبلغاً كبيراً من المال، واستمر قاسم معزولاً عن الوزارة ليقوم بدفع المتأخر عنه . وضمنه كالعادة ابن مزهر . ولكن هرب قاسم للمرة الثانية ليلة الاثنين 13 شعبان ولم يعرف له مكان، ويعلق ابن الصيرفي على هروب قاسم من بيت صديقه إبن مزهر كاتب السّر فيقول عن قاسم :( وإنما هو موصوف بقلة الدين وعدم الأصالة والحشمة. فإن إنساناً ( يقصد كاتب السّر ) حفظه الله خّلصه من الفتك وضمنه فما يجازيه أن يهرب ، ولا يقوم بشيء مما ضمنه فيه، فكثرت أدعية الفقراء والصلحاء للمقر الأشرف الزينى ابن مزهر حفظه الله قاسم ليخلص من ضمانه. )

13 ـ وفي ليلة 29 شوال 875 حضر قاسم جغيته الوزير الهارب إلى بيت كاتب السر الذى هرب منه، وفي صحبته الشيخ الصوفى إبراهيم المتبولى، أى تشفّع بالولى الصوفى المشهور وقتها ابراهيم المتبولى ، وتصوّف وتمسكن ، يقول ابن الصيرفى عنه : (وهو لابس جبة على هيئة الفقراء الصوفية وعلى رأسه مئزر،  وسأل كاتب السر في الصبر عليه فيما دفعه عنه من أموال الضمان ، فقبل كاتب السر رجاءه.).

14 ـ ووقف قاسم جغيته للسلطان واتهم غريمه موسي بن غريب أنه اختلس عشرين ألف دينار، فلم يلتفت إليه السلطان لأن الداودار الكبير يدافع عن ابن غريب. ورد ابن غريب التحية بأحسن منها فاتهم جغيته أنه لا يزال في جهته مال للدولة فأمر السلطان باعتقال قاسم، وتظاهر قاسم بالفقر الشديد وصار يتسول من أعيان الدولة، ولم يصدّقه السلطان فأمر بإيداعه سجن الديلم، وكان ذلك في 29 جمادى الثانية 876، ثم تدخل كاتب السر فأطلقه من السجن يوم الاثنين 7 ربيع الأخر 876. ولم تنته متاعب قاسم جغيته فقد ادعى عليه بعضهم عند السلطان بأنه يختلس أموال المكس  أى الجمارك ، فطلبه السلطان ، وشتمه ، وسأل الداودار الثاني أن يحقق معه في ذلك.

15 ـ وانتهى بذلك قاسم جغيته إلى لا شيء. لم يرحمه السلطان الذى استغله في امتصاص دماء الناس، وكان السلطان يتحين الفرصة لكى يوقع به العذاب، والسلطان يعلم أنه ظالم مختلس، ولكنه أى السلطان محتاج إلى هذا الصنف ليسرق له أموال الشعب ، وحين تمتد يد الوزير السارق بالسرقة لمصلحته الشخصية كانت عصا السلطان تسرع إليه فتصادر كل ما سرق وما لم يسرق. وتلك بالضبط فلسفة الشريعة السّنية للحاكم المملوكى وطريقة تعامله مع أرباب الوظائف لديه. طاحونه من الظلم، الترس الكبير فيها هو السلطان وتعاونه مجموعة من التروس تعمل لدى السلطان أما المطحون فهو الشعب المصري المسكين.

موسى بن غريب الاستادار:

1 ـ وكان أرباب الوظائف الكبري يتنافسون في خدمة العسكر المملوكى ، وفي الإيقاع ببعضهم البعض . ورأينا طرفاً من ذلك في التنافس بين قاسم جغيته الوزير موسي بن غريب الاستادار.

2 ـ وقد كان موسي بن غريب غريماً من قبل للأمير زين الدين الاستادار، وحين تولى الداودار الكبير كامل سلطاته اعتقل زين الدين الاستادار وموسى بن غريب وابن البقري.

3 ـ وفي يوم السبت 6 شعبان873 حملوا موسى بن غريب من بيته على قفص إلى القلعة وحبسوه في البرج ، ودخل شهر رمضان وقد كان زين الدين الاستادار في برج ، وغريمه موسى بن غريب في برج أخر. ثم أفرج السلطان عن موسى بن غريب يوم الأربعاء 9 محرم 874 وتوجه به القاضى شرف الدين التتائى إلى بيت الداودار الكبير ( فارتمي ابن غريب على قدمي الداودار يرجوه أن يكون نائبه في الديوان المفرد ويحصل له المال، فنال ذلك.) كما يقول ابن الصيرفى .

4 ـــ وفي أول المحرم 875 أشيع أن السلطان سيولى موسى بن غريب استاداراً وقاسم جغيته وزيراً ويحاسبهما على ما يتوفر في الديوان المفرد وديوان الدولة. وبدأت بذلك المنافسة والصراع بين قاسم وموسى بن غريب.

وكسب موسى بن غريب الجولة عن طريق توثيق صلته بالداودار الكبير أكبر شخصية في الدولة بعد قايتباى، وانتهى أمر قاسم جغيته بعد العزل والمصادرة والهرب والحبس إلى أن لبس الصوف وإزعم التنسك، في الوقت الذى توجه فيه غريمه موسى بن غريب إلى الصعيد لعمل مسح للبلاد والقرى وذلك يوم الجمعة 5 ذو القعدة 875 وصحبته الأمير جانم داودار الداودار الكبير صاحب السلطان على الصعيد، وصار موسى إبن غريب هو المتكلم في الوزارة والاستادارية بالنيابة عن الداودار الكبير ، وإلى موسى بن غريب المرجع في شئون الدولة وهو يقبض الغلال باسم الديون.وفي يوم الخميس 8 محرم 876 رجع من الصعيد وأقيم له حفل لتكريمه "وكان له زفة هائلة وأوقدوا له الشموع حتى وصل داره".

5 ــ أى وصل موسي بن غريب إلى نهاية سعده... وبهذا بدأ في إظهار ظلمه... ذلك أنه كى يستمر في منصبه فلابد من تقديم الأموال إلى سادته، ولن يكون ذلك إلا بالظلم، ومعناه أن أعداءه سيجدون الفرصة لتقديم الشكاوى فيه أو يشجعون المظلومين على أن يشكوه للسلطان، وفي النهاية بعد أن يستفيد السلطان منه إلى أخر رمق سيرضى المظلومين بعقاب ذلك الظالم، ويكسب السلطان في البداية وفي النهاية وسيتمتع بدعاء الناس له باعتباره كهف العدالة ويعين شخصاً آخر يجرب معه نفس اللعبة.وهذه هى جاذبية الشريعة السّنية للمستبد . وهكذا كانت اللعبة.. ولا تزال...

6 ـ في صفر 876 كثرت الشكاوى في ابن غريب المتكلم في الوزارة والاستادارية من ظلمه وجوره وهدده السلطان وأوعده.. على حد قول ابن الصيرفي. وفي ليلة السبت 25 جمادى الأول 876 وصل قائد الجيش المملوكي الأتابك أزبك من جهة البحيرة غرب الدلتا وكان الأعراب قد دمروها ، وكانت مهمة الأتابك أزبك تعمير وتخضير هذه المنطقة لحمايتها من غارات الأعراب . وبعد عودته أخبر السلطان أن تعمير البحيرة وتخضيرها لم يكتمل بسبب ما صنع ابن غريب في أهلها الفلاحين من الظلم.

7 ـ وفي 8 أو 9 جمادى الثانية 876 وقف للسلطان تجار سوق الأخفاف (أى الأحذية) وقدموا له شكوى في إبن غريب وهى أنه أحدث عليهم مظلمة فقد كان عليهم ضرائب في كل شهر أربعمائة درهم فجعلها عليهم ثلاثة آلاف وحصّلها منهم، فأمر السلطان ابن غريب أن يرجعهم للضريبة الأول (400 درهم) فما وافق ابن غريب وجعلها (1500 درهم) فرجعوا للسلطان فأبطل ضريبة الأحذية بالكامل.

8 ـ وفي يوم الخميس 6 رجب 876 كتب ابن الصيرفي : ( تغيّظ السلطان على الاستادار والوزير الذى هو ابن غريب وما أفاد ذلك شيئاً.). ولكن ستأتى الإفادة فيما بعد.

9 ـ فى يوم السبت 8 رجب 876 شكوا ابن غريب للسلطان أنه زاد على التجار الضرائب ، فأمر السلطان بإحضاره، فاعتذر ابن غريب بالمرض فأمر السلطان بإحضاره في قفص.وفى يوم الثلاثاء 11 رجب 876 كانت الخدمة في الاسطبل حيث يجلس السلطان للحكم بين الناس وشكوا ابن غريب ، ( فوبّخه السلطان وبهدله وأساء عليه.) هكذا قال ابن الصيرفى .وفى يوم الثلاثاء 18 رجب 876 في الموعد التالى لنفس اليوم قدم السلطان لموعد الخدمة في الاسطبل وكثرت الشكاوى في الأكابر والأصاغر، وقدمت شكاوى في حق ابن غريب بسبب ديوان الدولة والديوان المفرد.

10 ـ وفى يوم السبت 29 رجب 876 كانت الخدمة في الاسطبل. وكان يوماً رهيباً على أرباب الوظائف الإدارية. وكان حظ ابن المقسي أكثر سوءا ، يقول مؤرخنا إنّه إشتكاه ثلاثة لسوء إدارته لنظارة الخاص. ونصحه السلطان فلم ينتصح ، فثار عليه السلطان وسبّه ولعنه وأمر بضربه بين يديه ، فبطحوه بين يدي السلطان وضربوه على مقاعده ( أى مؤخرته !!) ، وكان يوماَ شديد البرودة وأمر السلطان بنزع ثيابه وضربه على اللباس ، وصار يستغيث فلا يغاث ، حتى انقطع حسّه بعد ذلك ، فقام الحاضرون من الأمراء وتشفعوا فيه للسلطان ، فازداد غضب السلطان ، وأمر باستمرار ضربه بدون ملابس، فصار عرياناً مكشوف الرأس ، وضربه الوالى وأعوانه نحو خمسين مقرعة،  فشفع فيه الأتابك وبقية الأمراء.. يقول ابن الصيرفي في التعليق على هذا المجلس : ( من حضر هذا المجلس من الأكابر عُدّ كالهالك ، خصوصاً مباشرى الدولة، وأعظمهم رعباً وخوفاً شرف الدين موسي بن كاتب غريب المتكلم في الوزارة والاستادارية.). والذى لم يفهمه ابن الصيرفي أن السلطان في حاجة لأولئك الأعوان الظلمة الذين يتحملون عنه اللعنات ويتحملون أيضاً عقوبته بحجة دفاعه على المظلومين. وإلا فأولئك ينفذون أوامر السلطان، والسلطان يفرض عليهم معلوماً لابد من تأديته، ولن يستطيعوا تأديته من جيوبهم، فلابد أن يحصلوا على من ظلم الناس.

السلطان يتنزه مع أرباب الوظائف الظلمة:

وبينما يئن الناس من الظلم كان السلطان يتنزه ومعه أتباعه الظلمة.

1 ـ في يوم السبت 15 ذى الحجة 876 ركب السلطان للعب الكرة هو والأمير الكبير الداودار وأعيان المقدمين الألوف والأمير تنبك الداودار الثاني وركب معه المحتسب يشبك الجمالى، الذى شهدنا ظلمه وغباءه، وكان قد تشفع فيه الداودار الثاني وأصلح ما بينه وبين السلطان فأذن له السلطان أن يصحبه وأن يلعب معه.

2 ـ وفي يوم الثلاثاء 18 ذى الحجة 876 كان السلطان يركب للعب الكرة كعادته، وكان معه ابن غريب فضرب الداودار الكبير يشبك الكرة ضرباً شديداً فطارت الكرة وانقسمت وخرجت منها قطعة في وجه ابن غريب فجرحت وجهه وأسالت دماءه، يقول ابن الصيرفي "فبلغنى أن السلطان نصره الله ومن حضر سرّهم ذلك، وأقول يا ليتها كانت القاضية"...وقال بعضهم له أن السلطان قد سره أن تجرح الكرة وجه ابن غريب). وما ابن غريب إلا مجرد ناب من أنياب السلطان.

ابن البقري:

1 ـ ونمرّ سريعاً على مثل أخر من أرباب الوظائف وما كانوا يعانون في خدمة السلطة المملوكية. أنه الصاحب مجد الدين بن البقري ، وكان أخوه قاضياً مشهوراً وهو شرف الدين عبد الباسط ، وكان في بيته بالقاهرة عدة مماليك لخدمته ومات منهم عدّة بطاعون 873.

2 ـ وفي يوم الخميس 4شعبان 873 اعتقل الدوادار الكبير صاحبنا ابن البقري. وفي يوم السبت 20 شعبان من نفس العام قرر الداودار الكبير أن يعين ابن البقري نائباً عنه في وظيفة الاستادارية، وذلك بعدعزل الاستادار السابق زين الدين وتولى الدوادار الكبير الوظيفة. أى انتقل ابن البقري من المعتقل إلى الوظيفة الكبيرة، على نحو ما كان شائعاً في الساقية المملوكية التى تدور باستمرار ويرتفع عليها الشخص حيناً ثم تهبط به أحياناً. وهبطت الساقية بابن البقري يوم الخميس 14 ربيع الأول حين طلب الداودار الكبير منه المال المتأخر من الديوان فأمر السلطان باعتقاله.

3 ـ وفي صفر 877 كانت محنة ابن البقري الكبرى إذ إعتقله الداودار الكبير وأمر أعوانه بالذهاب مع ابن البقري إلى داره لمصادره ما فيه وإذا لم يحضر ابن البقري ما عليه فلابد من توسيطه بداره ، أى قطعه نصفين ، فوجدوا في داره ثمانمائة دينار وقماشاً وكتباً، وأمر الداودار الكبير بضربه بين يديه، فضربوه أربع علقات، وأمر الداودار بإشهاره في المدينة، ولكن توسط كاتب السر ابن مزهر الأنصاري ، وما زال بالداودار حتى منع تشهيره، ولكن ذهبوا به وهو في الحديد إلى دار الأمير قنصوه ، وصار يباشر وظيفته وهو في الحديد ، وظل هكذا إلى أن أطلقه الداودار الكبير ليلة الأحد 19 صفر ، وسلمه لأخيه القاضى شرف الدين عبد الباسط، وتوجه إلى داره ليقوم بما عليه من المال. وبعد هذه الإهانة سعى مرة ثانية ليعود إلى وظيفته بعد أن عزل منها.

4 ـ بعدها ، وفي يوم الاثنين 12 ربيع الأول 877 خلع الداودار الكبير على أن البقري خلعه التشريفة وتولي وظيفة جديدة، ( والتزم بسداد الديون المفرد وعمارة البلاد بسعى منه)، ويقول مؤرخنا ابن الصيرفي معلّقا : (وما السعى في العكس إلا خسارة ) و( العكس ) فى مصطلح هذا العصر يعنى سوء الحظ.

5 ـ وفي شهر ذى الحجة 885 كانت محاسبة ابن البقرى على ما قبضه من البلاد وما قبضه من الخزانة يقول ابن الصيرفي " وحاسبوه حساباَ فتظلم منه، وأثبتوا في جهته أشياء ، فذكر أنها في البلاد وعينّها لهم ، فلم يوافقوه، وطلبوا منه مال السنة الجديدة ، فذكر أنه صرفه ولم ينته له أمر) ويعلّق ابن الصيرفى:( وهكذا كان يفعل بمن كان قبله فُفعل به ).وقد صدق مؤرخنا وهكذا كان يفعل بمن كان قبله ففعل به. كانوا يظلمون الناس في سبيل إرضاء السلطان، ثم لا يعصمهم ذلك من غضب السلطان ونقمته عليهم على أهون الأسباب.وهكذا كانت الدائرة تدور عليهم.

المباشرون أى كبار الموظفين وسرقاتهم من الشعب:

1 ـ "المباشرون" أى الذين يباشرون التعامل مع الشعب في الريف والمدن بالنيابة عن السلطة المملوكية الغريبة عن الشعب، وهم في مباشرتهم لجباية الضرائب والمكوس وفي مباشرتهم لأراضى الدولة وأراضى السلطان كانوا يسرقون الدولة وكانوا يظلمون الناس، وبينما كانت السلطة تتهاون معهم في أغلب الأحيان فيما يختص ظلمهم للناس فإنها كانت تضرب على أيديهم بقسوة حين تحاسبهم على ما لديهم من أموال، ورأينا نماذج من ذلك.

1 ـ وبينما اهتم مؤرخنا ابن الصيرفي بما يحدث لأولئك المباشرين من تعيين وعزل ومن مصادرة  وتعذيب ،  فإننا لا نعرف عن أحوال الضحايا من أجدادنا في الريف وفي المدن شيئاً إلا من خلال إشارات متفرقة بين السطور.

2 ـ في ترجمة الشيخ برهان الدين الحلبى (ت875) قال ابن الصيرفي أنه عندما مات ترك من الذهب النقد تسعمائة دينار ذهباً، وقيل أخذ الوزير سبعمائة دينار خالصة غير ما أخذه مباشروه من أرباب المواريث.

ومعناه أن السلطان أمر الوزير بمصادرة جانب كبير من تركة ذلك الرجل (برهان الدين الحلبى)، والسلطان بالطبع لا يعرف حقيقة تركته، أو الجانب الذى ينبغي مصادرته، وكل ذلك يخضع لتقدير الوزير، والوزير يجدها فرصة ليسرق ما يشاء لنفسه، ويجدها أعوانه أو مباشروه فرصة ليسرقوا هم أيضاً أنفسهم.

3 ــ وقد مرّ بنا أن الشيخ عبد الرحيم إبن البارزي عاد من سفره إلى القاهرة فهدده السلطان وقال "عند من يهرب منى؟ هذا هو وقع في القفص" وأدى ذلك التهديد إلى أن مات عبد الرحيم بن البارزى من خوفه من السلطان وذلك يوم الاثنين 9 ربيع الثاني 874. وذلك الرجل الذى مات خوفاَ من قايتباى لم يكن مظلوما بل كان من الظلمة الفجرة؛ كان يخاف السلطان ولا يخاف الله، ومع أن ابن الصيرفي كان من معارفه إلا أنه ذكر ما له وما عليه يقول فيه: ( وكان رحمة الله بشوشاً متواضعاً أصيلاً عريقاً زاهراً في مأكله وملبسه ومركبه )، ثم يقول عنه:( وكان عرياً عن العلم سيء المعاملة لا سيما ما يستحلّه من السوقة برسم المأكل ). فهذا الرجل البشوش المتواضع الأصيل العريق النظيف في تعامله مع أصدقائه من العلماء وأرباب الوظائف كان على نقيض ذلك في تعامله مع الناس الآخرين، إذ كان معهم سيء المعاملة لا يتورع من أكل أموالهم ظلماً. وما ذلك إلا لأنها الشريعة السّنية التى إعتادوا تطبيقها بحكم كونهم أرباب الوظائف، تعودوا أن يظلموا الناس الغلابة، ومهما كان أحدهم متواضعاً حسن الخلق مع أبناء طبقته إلا أنه يكون بحكم المنصب ظالماً لأنه يخدم دولة قام بنيانها على الظلم ، وقامت شريعتها على أساس ظلم الناس وظلم رب الناس .

وقديماً قالوا: الناس على دين ملوكهم.

4 ـ وفي ذى الحجة 885 اعتقل السلطان قايتباى الأمير المملوكى علاء الدين بن قمتي رأس نوبة الداودار الكبير، وذلك بعد موت الداودار الكبير. وقد كان على ذلك الأمير أموال ضخمة لديوان الدولة المفرد وذلك في إقطاعية شطنوف. وكان ذلك الأمير متمتعاً بحماية سيدة الدوادار الكبير أثناء حياته وظن أنه سيستمر في ذلك بعد موت الداودار الكبير، لذا امتنع عن تقسيط ما عليه من ديون للدولة بحجة ( أن الأرض التى لديه شراقي)أى بور.فلم يقبل منه قايتباى ذلك، وأمر باعتقاله. ويعلق ابن الصيرفي على ذلك قائلاً: (وذلك بعض ما يستحقه، فإنه من الظلمة المردة المتجبرين ). وهنا نتوقف مع العبارة الأخيرة. أين كان ذلك الأمير الظالم المتجبر يمارس ظلمه وجبروته؟. والجواب: عند أجدادنا في شطنوف.والتفاصيل علمها عند الله تعالى وحده.ولهذا فإن أجدادنا لم يقولوا عبثاً ذلك المثل الشعبي: لك يوم يا ظالم.!!. وكم عرف أجدادنا من وجوه الظلم تحت شعار الشريعة السّنية . وكم مرّ بهم من ملايين الظلمة على اتساع العمران المصري في الريف والمدن، وعلى امتداد التاريخ المصري ذى السبعين قرناً من الزمان حيث كان و لا يزال المستبد يحكم مستندا الى الكهنوت الدينى ورجال الدين ، لا فارق بين فرعون موسى وفرعون المماليك ..أو فراعنة العسكر المصرى الحالى ..أو فراعنة محتمل ظهورهم بعد وصول الاخوان المسلمين لحكم مصر..

ويا أيها المصرى المظلوم.إنى أحبك.ومع سبق الإصرار والترصد.

وسائل مصرية لمقاومة الظلم المملوكي:

1 ـ ولابد من أن نتساءل.. ألم تكن هناك وسيلة لمقاومة كل ذلك الظلم.؟.! .

والجواب: كانت هناك بعض الطرق الصوفية، نقصد بعض الوسائل الصوفية للتحايل لتوصيل كلمة حقّ إلى أسماع السلطان. كان التصوف السّنى هو نوعية التدين السائد في ذك الوقت. فالتصوف يعنى من حيث الاعتقاد الإيمان بالأولياء الصوفية وكراماتهم ، ومن حيث الشريعة كان تطبيق الشريعة السنية عن طريق فقهاء وقضاة المذاهب السنية الأربعة ، وهم كانوا عماد السلطة المملوكية والراقصين فى موكب السلطان ـــــ ولا يزالون .!!. ومن خلال التصوف وجد بعضهم طريقة أو أخرى للشكوى من الظلم،، مجرد شكوى. فذلك هو أكبير تعبير يسمح به التصوف في مقاومة الظلم.

2 ـ في يوم السبت 8 جمادى الثاني 873 تطوع أحدهم بتأليف كرامة صوفية ألقاها في روع أحد المماليك السلطانية المتيمين بالتصوف والمعتقدين في كرامات أوليائه . لنقرأ الحادثة كما أوردها ابن الصيرفي : ( ذكر شخص يسمي يوسف السيفي ليشبك الصوفي أحد المماليك السلطانية أنه وجد حصاة مكتوب على شقتها الواحدة "قرب الوقت" وعلى الشق الآخر "اعتبروا واتقوا الله" ، والخط نأتئ كالعروق بغير نقط ، ولون  الحصاة أسمر، وهو إلى الصغر أقرب ،والخط أعمق من لونها، ووزنها سبعة دراهم ونصف وربع درهم، وذكر يوسف المذكور أنه رآها تمشى على الأرض بالقرب من دار الضيافة من تحت القلعة، قال الجمال يوسف بن تغري بردي في تاريخه عندما ذكر هذه الحصاه :وأنا أستغفر الله وأقول أنها مصطنعة..).

 فالشيخ يوسف السيفي اختار المملوك يشبك الصوفي ليحكي له هذه الأسطورة ويقنعه بأنه كرامة، واختار ذلك المملوك لاعتقاده في التصوف إلى درجة أنه منسوب للتصوف:( يشبك الصوفي )، ثم هو في نفس الوقت أحد جنود السلطان أو أحد المماليك السلطانية. وبراعة الشيخ يوسف السيفي في تأليف هذه الكرامة في أنه يدعي أن تلك الحصاة كانت تحمل تحذيراً من الظلم ودعوة للتوبة لأن القيامة قد أوشكت. ثم ـــ وهذا هو الأهم ـــ كانت تلك الحصاة تسير بهذا التحذير إلى السلطان نفسه، فقد رأها تمشى على الأرض بالقرب من دار الضيافة من تحت القلعة. ونقول : كان الأولى به أن يدعها تكمل مسيرتها للسلطان، وربما كان الأفضل أن يستدعي شهوداً على هذه الكرامة ويجمع الناس خلف تلك الحصاة التى تدب على الأرض،  ويظل الجميع خلفها إلى أن تدخل على السلطان بذلك التحذير..فساعتها يكون التحذير أوقع وأشد.!! ويبدو أنّ مؤرخنا ابن الصيرفي ــ وهو رشيق الثقافة متأثر جداً بالتصوف ـــ قد صدّق تلك الأسطورة، لذا نراه يأتي بالوصف التفصيلي للحصاة والمكتوب عليها. وفي نفس الوقت فإن أبا المحاسن (جمال الدين يوسف بن تغري بردي) المؤرخ لم يصدق تلك الحكاية واعتبر أن تلك الحصاة مصنوعة واستغفر الله تعالى من ذلك الإفك. ولكنها في النهاية محاولة للشكوى من الظلم.. ولكن كنا ننتظر أكثر من ذلك.. وحدث.

3 ـ فقد خاطر أحدهم بنفسه وواجه السلطان ببعض المظالم التى تحدث في عهده، ولأنه يعرف اعتقاد السلطان والناس كلهم في المجاذيب فقد ادعي أنه مجذوب حتى تكون له حرية القول كيف يشاء، ولا بأس بعد ذلك الجذب أن يقول للسلطان قولاً لينا لعله يتذكر أو يخشى، ولكن انتهى به الحال إلى ( مستشفي الأمراض العقلية). يقول ابن الصيرفي في حوادث شهر ربيع الأول 877 : ( وفي هذه الأيام وقف شخص متمجنن ( أى يزعم الجنون ) تحت القلعة ومشى على الناس، ( أى صدّقه الناس)، وقيل أنه صعد السلطان وقال له، أنت سلطان عادل غير أنك عندك حب الدنيا وأسألك أن تطلق هؤلاء الذين يستعطون في الجنازير ويأخذ الوالى منهم جميع ما يحصل لهم هو أتباعه، وأربد أن أجتمع بالعلماء وأتكلم معهم ،وما أشبه ذلك من هذه المقولات، فرسم له بمبلغ فلم يقبله، وتكرر وقوفه تحت القلعة وإساءته ، فسمعه الأمير عظيم الدنيا ( أى يشبك من مهدى الداودار الكبير ) فطلبه لبيته وضربه وسجنه صحبة المجانين بالبيمارستان المنصوري ). صاحبنا لم يكن مجنوناً، وإنما ادعى الجنون، أو على حد تعبير مؤرخنا "متمجنن".وقد مشى على الناس أى راج أمره بينهم، فالعصر كان عصر التصوف، وكان لدى الناس استعداد تام للاعتقاد في أى مجذوب، وبهذه الحيلة تمكن صاحبنا من أن يحظى بالدخول على السلطان والكلام معه، وقد بدأ بمدح السلطان ونقده في نفس الوقت "أنت سلطان عادل غير أنك عندك حب الدنيا" ثم سأله في موضوع مشين في حق السلطان وقد عجز السلطان نفسه في إصلاحه رغم سهولته، وهو استخدام المساجين في التسول وفرض حصيلة يومية عليهم يؤدونها للوالى وأتباعه، وسبق لنا أن عرضنا لضحايا هذا الظلم الشنيع، ثم تطرف صاحبنا المجذوب فطلب الاجتماع بالعلماء، ولعله كان يريد تأنيبهم على سكوتهم على ذلك الظلم، وأراد السلطان أن يشترى سكوت ذلك (المجذوب) الشجاع فأمر بإعطائه مالاً ولكنه رفض فطرده، ولم ييأس صاحبنا فظل يقف تحت القلعة ينادى وانتهى أمره بأن ضربه الداودار الكبير وسجنه مع المجانين. وكل عام وأنتم بخير.!!

وابن الصيرفي باعتباره أحد القضاة والعلماء لا يعجبه ما حدث ، فهو يقول عن مثابرة ذلك الرجل الشجاع في إيصال صوت الحق للسلطان "( وتكرر وقوفه تحت القلعة وإساءته...) ، أى اعتبر الجهر بالحق إساءة.

ومع أن الله سبحانه وتعالى لا يحب الجهر بالسوء من القول إلا إذا صدر عن مظلوم ولكن كان مطلوباً من أجدادنا ـــ طبقا لشريعة السّنة ـ أن يتحملوا العذاب وأن يغنوا للجلاد ، وإلا أساءوا الأدب على الأسياد. وهذه هى وجهة نظر مؤرخنا القاضى الذى يقوم بتطبيق الشريعة ..شريعة الظلم التى تمنع المظلوم من الصراخ ، بل تمنعه من الشكوى حتى لا يزعج الظالم . هذا دين أرضى لا يستحق الاحترام .!.

4 ـ وقد نتساءل.. مع كل هذا الظلم.. ألم يفكر المصريون بثورة ترفع لواء الإسلام ، وهو فى الأصل دين العدل والقسط ؟ . وقد يتساءل آخر.. ألم تكن هناك جماعات دينية وتنظيمات سرية لاقامة حكم يرضى عنه الله.؟  والجواب بسيط ومؤلم.!! مستحيل .. فالسلطان كان أشدهم تديناً. وهو الذى يطبق الشريعة السّنية ، وأعوانه من العلماء ورجال الدين، ومنشآت العصر كلها مدارس وخوانق ومساجد وجوامع لتدريس العلوم الدينية الشريفة، والخليفة العباسى يعيش في كنف السلطان، وقضاة الشرع الشريف هم أكثر من يعبر عن تلك المسحة الدينية ، وهم قضاة ( الشرع الشريف ) بزعمهم . أى سحب السلطان البساط من تحت الذين قد يزايدون عليه بالدين..

5 ـ وندخل بذلك على الفقهاء والقضاة أرباب الوظائف الدينية بعد ان عشنا مع أرباب الوظائف الديوانية . وجميعهم أحذية السلطان المملوكى وخدمه ..!!

 

الفصل الثامن : جهل وحقارة الفقهاء القائمين بتطبيق الشريعة السنية فى عصر قايتباى

  المستوى العلمي لعلماء الدين في عصر قايتباى:

1 ـ لو قام علماء الدين والقضاة بواجبهم نحو الإسلام والمسلمين لما كان هناك ظلم بهذا الشكل، ولما اضطر بعضهم إلى تأليف حكاية الحصاة التى تمشى، وما اضطر صاحبنا إلى إدعاء الجنون ومواجهة السلطان بالحقيقة. ولكننا إذا طالبناهم بهذا نكون قد ظلمناهم وكلفناهم مالا يطيقون. إذ يعنى هذا أننا نعتبرهم علماء حقيقيين ومفكرين ارتبطت حياتهم بالعلم وعلى أساس مكانتهم العلمية أختيروا لشغل تلك المناصب، ولأنهم علماء للإسلام يقدرون العلم حق قدره ويعرفون مسئوليتهم كان لابد أن يقولوا كلمة الحق. ولكنّ هذا كله يدخل في نطاق التمني ولا علاقة له بالواقع التاريخي لأكثرية العلماء في العصر المملوكي على وجه العموم، وللعلماء في عصر قايتباى خصوصاً. لابد أن يكونوا علماء أولاً. علماء بحق.. وذلك لم يكن متوفراً.  لقد كان النوابغ منهم هو من يتمتع بلقب( الحافظ ) ،أى الذى يحفظ فى ذاكرته ما كتبه السابقون، ويستظهره في الذاكرة دون تجديد أو اجتهاد.هذا ما كان عليه أكثرهم حذقاً وأوسعم شهرة. فمقياس التفوق في ذلك العصر كان مقدار ما يحفظه صاحبنا، ومقدار ما يستحضره من حصيلة حفظه وما يستعرضه للتباهى به بين الناس وفي المجالس.ونأخذ مثلين من أهم علماء ذلك الوقت.

2 ـ يقول ابن الصيرفي في ترجمة الشيخ نجم الدين العجلونى (ت876 ):( كان رحمه الله عالماً بارعاً محققاً ، عين أعيان الشافعية بدمشق بل والقاهرة، نشأ تحت كنف والده ، فحفظ كتاب الله وجوّده بالروايات، وحفظ كتباً كثيرة في الفقه وغيره، وقدم به والده إلى مصر سنة خمسين تخميناً وسمع على عدة مشايخ.. كان آية من آيات الله، وعدة محفوظاته للكتب اثنان وعشرون كتاباً يحف"right"> طرق وصول جهلة العلماء للمناصب في عصر قايتباى  :

 الصلة بالمماليك:

1 ـ كان حفظ المتون والكتب في الذاكرة هو المقياس العلمى في ذلك العصر، ويستطيع الفلاح المصري إذا قرأ وعرف كيف يحفظ الكتب أن يصل إلى أرفع مكانة في سلك العلماء والقضاة، وقد حدث ذلك كثيراً، ولكن لم يكن النبوغ في الحفظ هو الوسيلة الوحيدة للوصول للمناصب. صحيح أنه أهم طريق للشهرة ولمجالسة السلطان والأمراء كما كان يفعل العجلونى والعبادي، ولكن كانت للآخرين طرق أخرى في الوصول إلى المناصب الكبري بين العلماء والقضاء.. وهذه الطرق الأخرى كانت أبعد ما تكون عن العلم.. ولكنها كانت تستر عورة الفقر في الحفظ وعورة التخلف العلمي والعقلى أيضاً. كانت خدمة المماليك وتوثيق الصلة بهم أهم تلك المؤهلات، ومتى كان أحدهم وثيق الصلة بهذا الأمير أو ذاك انفتحت له كل الأبواب في سلك العلماء، حتى لو لم يكن يعرف (الألف من كوز الدرة) حسبما يقول المثل الشعبي.

2 ـ وكان من المتعارف عليه أن يوجد شقاق ونزاع بين الصوفية والفقهاء، إذا كان الفقهاء على قدر معقول من العلم والابتكار يجعلهم يخرجون عن إطار التقليد والحفظ والبلادة العقلية، أما إذا كان الفقهاء يتنافسون في حفظ المتون واستظهارها، لذا كانت غاية هذا الصنف من الفقهاء الجهلة أن يكون ضمن مريدى التصوف، وهكذا كانت حالة الشيخ سراج الدين العبادي ( شيخ الفقهاء الشافعية على الإطلاق والذى كان أعجوبة زمانه في الحفظ والسرد، والذى كان يحضر مجالس الفقراء، أى الصوفية، ليستعرض موهبته في الحفظ امامهم ، كما يستعرضها في مجالس الوزراء والأمراء، لقد وصفه ابن الصيرفي بأنه( كان معتقداً في الفقراء والصالحين ) أى يعتقد فى ولايتهم وفى كراماتهم والخرافات التى تقال عليهم . وقد كات التصوف السّنى هو الدين الأرضى المتحكم فى العصر ، وكان الأولياء الصوفية هم آلهة العصر أحياءا وأمواتا. ولذلك كافأ الصوفية  ذلك الفقيه الشافعى العبّادى فأشاعوا عنه أنه كان يجتمع "بالخضر عليه السلام" ، وحين مات دفنوه بتربة الصوفية.

3 ــ وبرعاية المماليك كانت للتصوف سطوته في ذلك العصر، وعن طريقة وصل كثير من مدعى العلم الذين لم تكن لهم مقدرة الشيخ سراج الدين العبادى في الحفظ. وكان أشهرهم في هذا المجال الشيخ كمال الدين العقيلي 873 الذى وصل بالتصوف إلى نفوذ عظيم . يقول عن نفوذه مؤرخنا ابن الصيرفي: ( حصل له بالديار المصرية عزّ وقبول زائد من أعيان ملوكها ، لاسيما جانم الأشرفي أخ السلطان الأشرف برسباى فإنه كان عنده في أوج العظمة والكمال ويرجع إليه ويصغى لقوله، وصار كلما أمره بشيء لا يخالفه، وخدمه بالجوارى الحسان والأموال الكثيرة ). أى أعطاه ذلك الأمير المملوكى الأموال والجوارى الحسان ،بل كان ذلك الأمير المملوكى يسمع ويطيع لهذا الشيخ . وسبب هذا النفوذ أن الشيخ كما الدين العقيلي كان يدعى الولاية الصوفية وعلم الغيب، وقد استغل ذلك الزعم الكاذب في تحقيق طموحه، فتلاعب بعقل الأمير جانم الأشرفي وبشّره بأنه سيلى السلطنة بعد أخيه السلطان برسباى، وابتهج الأمير بهذه البشرى وأغدق على الشيخ ما استطاع، يقول ابن الصيرفي : ( وكان بشرَّة بأنه يصير الأمير إليه أن يتسلطن، فلما خلص من السجن وولى نيابة حلب ازداد حبه له جداً وخدمة الخدمة التامة )، واستغل الشيخ كمال الدين شهرته هذه في تدعيم نفوذه لدى باقي الأمراء وأعوان السلطان، وكلهم يطمح في الصعود لأعلى وينتظر البشري، يقول عنه ابن الصيرفي : ( وكان قد اجتمع على حبه الخدام الأكابر ببيت السلطان )ـ أى كبار الأمراء المماليك فى القصر السلطانى الطامحين للسلطنة ، وكان العصر وقتها يؤمن بكرامات الصوفية ويعتقد فيهم ولا يعترض على مزاعمهم مهما بلغ كذبها .ويشير ابن الصيرفي إلى سبب نفوذه وعلو شأنه بين المماليك بأنه أذاع أنه يجتمع بأقطاب الصوفية فصدّقه ( الأتراك ) أى المماليك ، يقول إبن الصيرفى : ( وكان رحمه الله يذكر أنه يجتمع بالقطب الغوث وغيره من الأبدال فصار له اسم وسمعة عند الأتراك".). والقطب الغوث والأبدال من الأسماء والألقاب التى جعلها الصوفية في مملكتهم الوهمية التى يزعمون أنها تتصرف في أمور الدنيا.

ونرجع إلى الشيخ كمال الدين العقيلي ونتعرف على مقدار علمه بعد أن عرفنا مهارته في التحايل والنصب، يقول عنه ابن الصيرفي : ( وكان يري نفسه كبيراً ) أى صدّ نفسه فيما يزعمه عن نفسه . ( ويصف نفسه بعلوم زائدة لا يعرفها قط،) أى يزعم العلم اللدنى ، وعلومه الوهمية . ( وكان له اعتقاد كثير عظيم جداً في الصلحاء والفقراء ويعظمهم ويزورهم) أى كان وثيق الصلة بكبار الأولياء الصوفية المشهورين فى عصره ويزورهم ويعظّمهم معتقدا فى ولايتهم وكراماته ، وكان يفعل ذلك ليستغلّله فى طموحه ، يقول ابن الصيرفى : ( فلهذا طار صيته واشتهر ذكره..) ثم يقول إبن الصيرفى عن صلته بهذا الفقيه الأفّاق الجاهل : ( وكان بيننا وبينه صحبة أكيدة ومجالسة ومذاكرات . عفا الله عنه )..أى من خلال معرفة ابن الصيرفي به وصفه بالاعتقاد فى الأولياء الصوفية وأنه يزعم ( العلم اللدنى ) أو علوم لم يعرفها، وإنه أسّس شهرته ونفوذه على أساس التحايل بالتصوف.

4 ـ وعلى طريق الشيخ كمال الدين العقيلي سار آخرون..انتهزوا انشغال المماليك بثورة شاه سوار في العراق وتقربوا للمماليك بالمنامات التى تبشر بقرب القضاء عليه، وهى بشري إن تحققت صعد صاحبنا إلى عنان المناصب وإن لم تتحقق أصبحت فألاً حسناً للسلطان، وفي كلّ خير، وهو سيربح في الحالتين.وفي أوائل شهر جمادى الثانية 876 أخبر بعضهم الأتابك أزبك قائد الجيش المملوكي أن شاه سوار مقبوض عليه في هذه الأشهر وأنه انهزم، ووصلت هذه البشرى إلى السلطان فأخبر بها كاتم سره فأرّخها، أى دونها بتاريخها وانتظروا تحقيقها.. وراج أمر هذه البشري ولكن لم تتحقق، يقول ابن الصيرفي : ( ولم يصح شيء مما قالوه العوام من القبض على شاه سوار لكنه ـــ أى السلطان ــــ تفائل. ويمكن ذلك قريباً ببركة نبينا ).!!

الوصول بالرشاوى:

1 ــ وبعضهم وصل إلى المناصب بالطريق العملى، أى بالرشاوى والهدايا وتوثيق الصلة "وتفتيح المخ" وأشهرهم قاضى القضاة المالكى ابن حريز ت 873 الذى كان قاضياً بمنفلوط بالصعيد ولكن اشتغل بالزراعات واستئجار الأراضي من ديوان الدولة المفرد، ومن إيراده كان على حد قول مؤرخنا "يخدم السلطان وأمراءه ووزراه بالأموال الجمة والخيول العظيمة" وبذلك وصل إلى منصب قاضى القضاه المالكية، وبعد وصوله إلى منصبه الجديد اتسع نفوذه في الصعيد وتشبه بالمماليك في المظهر والمخبر.

2 ـ إلا أن الشيخ نور الدين البرقي 875 هو المثل الكلاسيكي لهذه النوعية من العلماء الحقيرة الذين يتعلقون بذيل السلطة ليصلوا بأى طريق. يقول ابن الصيرفي عن مستواه العلمى "كان علمه بالفقيري" أى كان فقيراً في العلم، ويقول "وعلماء مذهبه يعرفون بذلك منه، غير أنه معظّم عندهم لأجل الدنيا" أى كانوا يعرفون جهله ولكنهم يعظمونه بسبب صلته بأرباب النفوذ في الدولة. كان خادما لأمير مملوكى وموضع ثقته ، فكان ذلك الأمير يأتمنه على أموال صدقاه ليوزعها ذلك الشيخ على المحتاجين ، بل أودع ذلك الأمير عند ذلك الشيخ أموالا خبأها عنده تحسبا للزمن وتقلباته ، فاكتسب ذلك الشيخ ( الجاهل ) نفوذا بين أقرانه بسبب صلته بألمير يوسف ابن كاتب جكم . وفى هذا يقول ابن الصيرفي عن بداية نفوذه : ( كان صاحب صلة بيوسف ابن كاتب جكم ، وهو الذى صيره صاحب ثروة وأموال وتحف وكتب وغير ذلك، فإنه كان يدفع له كل نقده ألف دينار وأكثر وأقل ، ويأمره أن يتصدق فيها فيصرفها فيما يريد ، فحصّل الأموال والوظائف والكتب. وأودع عنده جملاً من الأموال على ما قيل ).ومن خلال تلك الأموال وتوزيعها بمعرفته حصل على الوظائف، يقول ابن الصيرفي : ( وكان له عند الحنفية- أى القضاة الأحناف- اسم وصيت سيما عند شيخنا أمين الدين الأقصراني، فإنه يبالغ في قضاء حوائجه وضروراته عند عظيم الدولة في عصره الصاحب جمال الدين يوسف ابن كاتب حكم" أى استغل علاقته بذلك الأمير المملوكي ليحوز نفوذاً عند قاضى القضاه الحنفي وشيوخ المذهب الحنفي. وكان يجمع مع الجهل سوء الخلق ، يقول ابن الصيرفي: ( وكان سيئ الأخلاق ، مصفرّاً نحيفاً ، شديد الغضب سريعه، ورشح لقضاء الحنفية- أى يكون قاضياً للقضاء الحنفي، فما قدّر الله ذلك .ولله الحمد .!! ). ويذكر ابن الصيرفي حادثة تؤكد سوء خلقه وتوضح نوعية أولئك العلماء الوصوليين الذى لا يتورعون عن التضحية بأصحاب الفضل عليهم إذا كان في ذلك مصلحة لهم. يقول ابن الصيرفي عنه أنّ قاضى القضاة ولى الدين السفطي هو الأصل في ترقية نور الدين البرقي وهو السبب الذى عرّفه بأكابر الدولة، وه صاحب الفضل عليه فى بدايته ، يقول موضحا : ( فإنه كان يرسله في تعلقاته وهو عنده لياقة في تأدية الرسائل وقضاء الحوائج والتواضع الزائد لأبناء الدنيا والتودد إليهم ويمشي معهم حسب مقاصدهم وأرائهم،) أى كان البرقى رقيق الحاشية متواضعا لأصحاب الجاه من المماليك حلو اللسان معهم ينافقهم ويوافقهم ويكسب مودتهم ، وفى عمله خادما لشيخه قاضى القضاة ولى الدين السفطى وفى تأديته لرسائله الى الأمراء المماليك تعرف البرقى بكبار المماليك واكتسب عطفهم ومدتهم ، وبعد صار له نفوذ واستغنى عن شيخه قاضى القضاة السفطى خان شيخه وأوقع به . يحكى ابن الصيرفى عما فعله البرقى بشيخه السفطى فى محنته : ( ومع ذلك آذاه غاية الأذى فإن الملك الظاهر جقمق رحمه الله لما غضب على السفطي وأخذ منه أمواله حلّفه أنه ما بقي يملك شيئاً ولا وديعة، وكان له تحت يد صاحب الترجمة (أى نور الدين البرقي) ودائع جمة، من جملتها عشرة آلاف دينار، وأخبر من أخبر السلطان بها فأرسل من أخذها منه وما وسع السفطي إلا الفرار ومات مقهوراً وضاعت عليه بقية ودائعه.). بدأ الشيخ نور الدين البرقي (عسكري مراسلة) للشيخ السفطي قاضى القضاة في سلطنة الظاهر جقمق، وعن طريق السفطي تعرف بالأكابر، وتودد إليهم بلياقته وتواضعه ومسايرته لما يقولون، هذا مع أنه كان مع غيرهم سيء الخلق . وكالعادة كان قضاة القضاة يختلسون الموال ، ويخبئونها عند من يثقون فيه ، وكذلك كان يفعل الأمراء وكبار الموظفين ، وعندما يعزل السلطان أحدهم يصادر أمواله ، ويحاول العثور على المخبّأ منها . وهذا ما حدث عندما غضب السلطان جقمق على قاضى القضاة السفطى فصادر أمواله الظاهرة ، وقام بتحليفه على أنه لم يخبىء شيا فحلف قاضى القضاة كذبا وزرا حسب الشائع فى شريعتهم السّنية . ولم يكن يدرى الشيخ السفطى أن خادمه الأمين وموضع سرّه وثقته سيخونه لذا أودع عنده بعض المال. وإنتهزها فرصة الشيخ البرقى ليتقرّب من السلطان فأفشى سرّ الودائع التى أودعها عنده شيخه السفطى ، وغدر بأستاذه وولى نعمته ، وبذلك ضاعت على السفطي الأموال التى خبأها للزمن، وتعين عليه أن يواجه انتقام السلطان، فاضطر  للاختفاء والهرب في أيامه الأخيرة ومات مقهوراً يلعن الشيخ نور الدين البرقي قبل الأكل وبعده.. إذا كان لديه ما يأكله في أخريات عمره.

الاجتهاد في الحصول على المناصب:

1 ـ وكان أحدهم إذا مات وترك وظائف ومرتبات مختلفة تصارع على شغل تلك الوظائف والمرتبات أولئك العلماء المجتهدون في السعى لا في مدارسة العلم.. يقول ابن الصيرفي عن الشيخ برهان الدين الحلبي ت 875 أنه صار يسعى عند الأكابر فقرروا له الجوالى- أى المرتبات- ورتبوا له على الأوقاف الشافعية والحنفية، وكان باسمه تصوف- أى درس تصوف- بمدرسة جمال الدين وأخر بمدرسة بيبرس الجاشنكير وأخذ في التكلم على زاوية الشيخ نصر الله بخان الخليلي وغير ذلك، ورتب له في البخارى- أى في ميعاد البخارى- صرة بألفى درهم في كل سنة، وكان لا ينقطع عن التردد لبيوت الأكابر ويحسنون إليه.."

هذا الرجل الذى اجتهد في السعى لبيوت الأكابر حتى حصل على كل تلك الوظائف مات، وجاء آخرون يجتهدون في وراثة مناصبه، يقول ابن الصيرفي: ("وبعد موته خرّجوا وظائفه لعدة من الطلبة المجتهدين في السعي المترددين لبيوت الأكابر.).!!. من قال أن ذلك العصر خلا من الاجتهاد.؟؟..لقد (إجتهدوا في تحصيل المعاش)، ولم يكن لديهم وقت للاجتهاد في العلم الذى يأتى بوجع القلب .!!

وصار من ملامح الترجمة في تاريخ ابن الصيرفي أن يذكر مصير الوظائف بعد موت صاحبها لينالها ( المجتهدون ) فى السعى والتنافس على تلك المناصب التى تركها أصحابها بالموت أو بالعزل ، يقول عن الشيخ ابن التنسي ت 875 : ( وخرّجوا وظائفه لجماعة، فاستقر في تدريس الجمالية الخطيب الدرديري المالكي، وفي تدريس جامع ابن طولون قاضى القضاه سراج الدين إبن حريز المالكى، وأخذ مرتبه على الجوالى وصرته في البخارى عمر بن موسى اللقانى.. إلخ".).

2 ـ وبعضهم كان يدعي العفة والنزاهة فلا يتردد بنفسه على بيوت الأكابر، ولكن يبعث بمن يتوسط لديه عندهم، وتصير له منقبة ومفخرة، يقول ابن الصيرفي في حوادث الأربعاء 14 شوال 873 : ( طلب السلطان الشيخ كمال الدين أمام الكاملية وخلع عليه واستقر به في تدريس المدرسة المجاورة لضريح سيدنا الإمام الشافعي من غير سعى منه في ذلك بنفسه، غير أن العلائى بن خاص بك وجوهر المعينى الساقي وغيرهما تكلموا عند السلطان في ولاية الكمال فإنه من أعز أصحابها وجارهما ويترددون إليه ويتردد إليهما.). أى إن الشيخ كمال الدين لم يسع للوظيفة بنفسه ، مكتفيا بعلاقته بأمراء المماليك الذين توسطوا له عند السلطان فنال الوظيفة بلا سعى وبلا ( إجتهاد ).

3 ـ وبعضهم كان يشترى المنصب ويدفع الرشاوى للسلطان ومن دونه من الأمراء ليصل للمنصب، فإذا وصل عمل على أن يعوض ما دفع بالظم والسرقة (والبلص) أى الاختلاس والنهب.وقد كان البذل أو البرطلة شائعاً في العصر المملوكي في تولى المناصب الدينية والديوانية. في يوم الجمعة 12 جمادى الأولى 874 تولى تاج الدين بن الهيصم ناظراً في استيفاء الخاص بعد أن دفع ألف دينار ذهباً.وفي يوم الخميس 23 ذى الحجة 885 تولى ابن الخواجا منصب نقابة الأشراف بدمشق على عادته وكان الأشراف بدمشق قد اشتكوه للسلطان فطلبه وأحضره، من دمشق للقاهرة، واستقر في النهاية في وظيفته بعد أن دفع للسلطان ألف دينار.

4 ـ على أن الشيخ إبراهيم بن سعد الدين الحنفي ت 876 أوضح وأوضع ( من الوضاعة ) مثل على شراء المنصب، فهو من أسرة تخصصت فى منصب القضاة، وتوارثته ، فأبوه قاضى القضاة الحنفي، وأخوه كان قاضى القضاة الحنفي، وتولى أخوه منصب كاتب السر للسلطان خشقدم. وقد تقلّب إبراهيم هذا في المناصب الدينية والديوانية، من نظر الاسطبلات إلى نظر الجيش الى أن تولى القضاء تحت كنف أخيه حين كان قاضيا للقضاة . ثم طمع في تولى منصب كاتب السر الذى يتولاه أخوه الآخر، يقول عنه ابن الصيرفي : ( وكان قد تسبب في عزل أخيه وصعد للداودار والسلطان وأخبرهما أن أخاه عجز عن القضاء وأنه ذهل ووعد في كتابة السر بثمانية آلاف دينار فعجّل منها بخمسة وتأخر عليه ما بقي، فحصل لأخيه منه حصر زائد، فيقال أنه دعى عليه بالقهر فما مضى خمسة عشر يوماً حتى قهر".)، أى إنه زعم أن أخاه أصيب بالجنون والذهول وفقدان الذاكرة ، وعرض رشوة ليتولى مكان أخيه . فقهر أخاه .أخلاق أخر زمن.!!

وراثة المناصب:

1 ـ وحين مات ذلك الرجل الذى اغتصب منصب أخيه كان يحوز عدة مناصب. يقول ابن الصيرفي أنه بعد موته تكلموا مع السلطان قايتباى بالوصية على ولده محمود وأن لا يخرج عن ولده شيء من وظائفه، فسكت السلطان ولم يجب ، لأن السلطان بلغه عن ذلك الولد أن بضاعته من العلم مزجاة، على حد قول مؤرخنا- وأنه لا يصلح لمشيخه الخانقاه المؤيدية، ثم تولى المشيخة المذكورة الشيخ سيف الدين، وتولى الشيخ العنتابى مشيخة المدرسة مزداد، وورث محمود ابن الشيخ المتوفي بقية مناصبه ومرتباته بتوقيع السلطان ، ذلك أنهم كانوا يتوارثون المناصب كابراً عن كابر.)

2 ـ والشيخ نور الدين البرقي الحنفي الذى كان علمه بالفقيرى- على حد قول مؤرخنا- والذى حاز كثيراً من المناصب بنفوذه مات وخلف ولدين، يقول عنهما ابن الصيرفي "خلف ولدين.. ليس فيهما أهلية لشيء مما كان هو فيه ، مع إن علم صاحب الترجمة- أى نور الدين البرقي- بالفقيرى" ومع ذلك فقد توارث أبناه مناصبه وذلك برعاية المحتسب والشيخ أمين الدين الأقصراني وابن الجيعان والقاضى الشافعي، يقول ابن الصيرفي: ( وخرجت وظائفه باسم أولاده ، ووصّى عليهم المحتسب والشيخ أمين الدين الأقصرائى والعلمى ابن الجيعان والقاضى والشافعي ..).

3 ـ وكان توارث المناصب عادة سيئة في العصر المملوكي، يقول المقريزى "وكانوا يتوارثون هذه المرتبات إبناً عن أب ويرثها الأخر عن أخيه وابن العم عن ابن العم، بحيث أن كثيراً ممن مات وخرج شيء من مرتبه لأجنبي لما جاء قريبه وقدم قصته- أى شكواه- يذكر فيها أولويته بما كان لقريبه أعيد إليه ذلك المرتب ممن كان خرج باسمه".)

4 ـ والشيخ سراج الدين العبادي ت 877 تنازل في أواخر عمره عن مشيخه المدرسة الباسطية لولده الأصغر كمال الدين، وكتب مشيخة الظاهرية لولده الأكبر جلال الدين، أى تصرف في مناصبه كأنها ملك خاص له ، يولى عليه من يشاء، ويوصى به لمن يشاء من أولاده.

5 ـ وغدا استحقاق المنصب بالإرث أهم من حصول الغير عليه حتى لو كان أكثر علماً وفقهاً، فقد توفي الشيخ محمد إبن شيخ الكاملية الكبير وخلف أخوين أخذ احدهما درس الحديث بالمدرسة الكاملية على حد قول ابن الصيرفي (بالجاه لا بالحق) لأنه حرم الشيخ شمس الدين السخاوى من هذا النصب وهو أحق به باعتباره كان عالم عصره- بل قل أعلم عصره، في علم الحديث، ومع ذلك انتزعوا منه وظيفة الحديث بالمدرسة الكاملية لصالح أخ ابن شيخ الكاملية المتوفي، ولم يكن لذلك الأخ أى مؤهل علمى سوى قرابته لابن شيخ الكاملية.

6 ـ وكان الوارث للمنصب أحياناً شاباً جاهلاً ومع ذلك يحوز منصباً خطراً لا يصلح له، وقد تولى المقر الكاملي نظارة الجيش بعد موت أبيه الصاحب جمال الدين يوسف بن كاتب حكم، يقول ابن الصيرفي عن ذلك الابن ( وهو بلا لحية في وجهه وسنّه دون العشرين عاما )..!.وفي يوم السبت 3 محرم 873 تولى عبد الكريم بن أبى الفضل بن جلود وظيفة كتابة المماليك السلطانية ورثها عوضاً عن والده المتوفي، يقول عنه ابن الصيرفي: ("وهو يومئذ أمرد ) أى شاب مراهق ( لا نبات بعارضيه) أى لم تنبت له اللحية. وفي يوم الجمعة 7 ذى الحجة 876 ضرب الأنابكي أزبك قائد الجيش الشيخ يوسف السمين إبن أبى الفتح ناظر البيمارستان بسبب سيرته في إدارة البيمرستان،( فقد كان شاباً صغيراً بلا لحية وبلا أدب وحدثت منه وقائع استلزمت تأديبه وضربه.)..!

أخيرا

هذه هى طبيعة القائمين بتطبيق الشريعة السّنية ، وسيرتهم العلمية والوظيفية وطريقة وصولهم للمناصب.

ومن الطبيعى أن يتدهور باستمرار المستوى العلمي، وهذا ما حدث، فقد استمر التدهور العلمى إلى أن تحول إلى جمود ثم تأخر في العصر العثمانى، استيقظنا منه على ضجيج الحملة الفرنسية وبعضنا لا يزال في سبات تام حتى الآن.ومن الطبيعي أن تتأثر وظيفة القضاء بهذا التردى العلمى والسلوكى، فالقاضى الذى يصل لمنصبه بالرشوة أو بالتوارث أو بصلته بالظلمة لا يمكن أن ننتظر منه أن يحكم بالعدل. وهذا يضيف معلماً أخر من معالم الظلم الذى عانى منه أجدادنا في عصر المماليك.

ولن يختلف الحال كثيرا لو قام الاخوان المسلمون اليوم بتطبيق الشريعة السنية فى مصر .. ستجد نفس النماذج المنحطة جهلا وخلقا ، لأن الشريعة السنية لا تقوم إلّا بهذه النماذج المنحطّة من البشر . والدليل هو نظام القضاء فى الدولة السعودية .

 

الفصل التاسع  : قضاة الشرع السّنى أعمدة الظلم فى عصر قايتباى

 

القاضى فى الشريعة السّنية وظيفته الظلم ويتعيّش من أخذ الرشوة

1 ـ تعرضنا للشيخ نور الدين البرقي الحنفي القاضى صاحب النفوذ الذى وصل إلى منصب القضاء عن طريق صلاته بأرباب الدولة وسعيه هنا وهناك، وكانت بضاعته من العلم مزجاة حسب تعبير الصيرفي، والسؤال الآن، كيف كان ذلك القاضى يؤدي وظيفته في القضاء والحكم بين الناس. لنترك ابن الصيرفي يتحدث عنه يقول : ( وأما بضاعة المتوفي- يقصد صاحبنا- وفي العلوم فمزجاة ، وعلماء مذهبه يعرفون ذلك ، غير أنه معظم عندهم. وخلف بنتاً متزوجة وولد ولداً، وخرب دوراً كثيرة بموته، وكان يحب خراب بيوت الناس في حياته.. وكان عارياً من العلم خادماً لأهل الدنيا ).  ولنتصور ذلك القاضى الذى كان عارياً من العلم وكان محباَ لخراب بيوت الناس كيف كان يحكم؟ أبالعدل أو بالظلم؟

2 ـ إن آلية القضاء كنظام في العصر المملوكي جعلته في أغلب الأحوال مؤسسة الظلم لا لتحقيق العدل، فالقاضى يصل لمنصبه بالرشوة أو بالتوارث أو بصلته بالحكام الظلمة، ثم يأخذ الأموال من الذين يأتون إليه ليفصل بينهم، ومن هنا كان مدخل الفساد. والشيخ نور الدين البرقي سالف الذكر كان أثيراً ومحبوباَ من الشيخ أمين الدين الأقصرائى أحد مشاهير القضاة الأحناف في عصره لأنه كان- حسب قول مؤرخنا "مرصداً لقضاء حوائجه وضروراته وتعلقاته" وكان أيضاً يقف بباب قاضى القضاه ولى الدين الأسيوطى يكتب: ( ما يحتاج  إليه من خرج ودخل ) وهى عبارة مهذبة من ابن الصيرفي تفيد أنه كان يتفاهم مع الذين يأتون للقاضى للتقاضى والتحاكم . وأولئك (الدلالون) كانوا يقفون بباب القاضى لأخذ الرشوة باسمه، والدخول على القاضى في مجلسه للتوصية بفلان وفلان، وكان ذلك معروفاً ومألوفاً في ذلك العصر. وكان الشيخ نور الدين البرقي أحد أولئك الدلالين الذين وصلوا لمنصب القضاء.

3 ـ وأحد أولئك الدلالين كان الشيخ شرف الدين الفيومي، يقول عنه ابن الصيرفي : ( صار يركب حماراً وهو أجهل منه، لا يعرف مسألة كاملة من مسائل العلم، بل ولا قرأ ولا فهم ولا وعى، وإنما كان في خدمة القاضى صلاح الدين ابن بركوت المكيني على باب قاضى القضاة علم الدين صالح البلقينى يخدمه ويرشيه في كل قضية تكون بالباب ، ويأخذ مثله، وصار هو عنده يدخل عليه في الخلوات والجلوات ).  فالشيخ شرف الدين كان واقفاً بباب قاضى القضاة صالح البلقيني- أحد مشاهير القضاة في العصر- يخدمه ويرشيه في كل قضية تكون بالباب، ويأخذ رشوة مثلها، أى عمولة 100%، ثم كان أثيراً عند أستاذه يدخل عليه في الخلوات والجلوات، أى أوقات الخلوة والأنس والمتعة، وابن الصيرفي صرّح وشرح وأفاض هنا لأنه تحدث عن صالح البلقيني وأخذه الرشوة، ولم يكن صالح البلقيني أستاذاً له، ولكنه عندما تحدث عن شيخه أمين الدين الأقصرائى ووقوف الشيخ نور الدين البرقي ببابه يؤدي نفس المهمة فإنه أشار بإيجاز تحرجاً من أن ينسب الرشوة الصريحة لأستاذه أمين الدين الأقصرائى.

المدح بعدم أخذ الرشوة

وكان أخذ الرشوة عن طريق الدلالين عادة سيئة لجميع القضاة لم يتنزه عنها إلا من عصمه الله ببعض الورع، وحينئذ يكون ذلك من أكبر مناقبه ومحامده. يقول ابن الصيرفي يهلّل ويطنب في مدح الشيخ عز الدين الكنانى ت 876 قاضى القضاة الحنابلة: ( أجمع المسلمون كافة على عفته وتواضعه وزهده وتقلله في الدنيا ، بحيث أنه لما ولى المنصب لم يجعل على بابه نقيباً ولا رسلاً ولا نائباً من نوابه يحكم ببابه بالنوبة على عادة قضاة القضاء.. ولم يشهر عنه بل ولا قيل بل ولا ذكر عنه أنه أخذ على الأحكام شيئاً.. فإنه من حين نشأ وهو في غنية عن الناس، له ما يكفيه من إطلاقه ودروسه ومرتباته وأجرة أملاكه إلى غير ذلك ). أى أصبح من مناقب القاضى أنه لا يرتشى مثل عادة زملائه ، وأصبح من مناقب الشيخ عز الدين الكناني أنه لا يأخذ رشوة على أحكامه القضائية ، وأنه طرد الوكلاء والنواب والرسل الذين كانوا يقومون بدور الدلالين والوسائط بين القاضى والخصوم ، ويتعاونون في الاثم والعدوان والظلم. هذا مع أن الشيخ عز الدين الكنانى لم يكن محتاجاً لأكل هذا المال الحرام فقد كان له دخل من أملاكه ومن وظائفه ومرتباته.. فاكتفي بذلك كله- وهو كثير ـــــ عن أخذ الرشوة.

هذا بينما زملاؤه من القضاة وقضاة القضاة كان لديهم نفس الدخل وربما أكثر من الأملاك والوظائف والأوقاف والمرتبات.. ومع ذلك كانوا يأكلون الرشوة لأنها كانت مباحة وفق منطق عصرهم والذى كان يرفع- مع شديد الأسف ـ راية الشريعة الإسلامية.

رشوة القضاة بالشذوذ الجنسى

في أوائل ربيع الأول 877 أرسل السلطان إلى القضاة يأمرهم- حسب تعبير الصيرفي ( أن ينظفوا أبوابهم من الوكلاء ويمنعوا الصبيان الذين على أبوابهم،) ومعناه أن مجال الدلالين والسماسرة الواقفين على باب القضاة للرشاوى قد اتسع حتى دخل فيه الرشوة بالصبيان،. والمسكوت عنه هنا ـ والذى يعرفه المتخصّص فى العصر المملوكى أن الشذوذ كان سائدا ومسيطرا ، وطبقا لثقافة هذا العصر ومصطلحاته فمعنى جلوس الصبيان فى موضع ما أنه للتكسّب بالشذوذ ، وهنا يعنى إستخدام الصبيان رشوة للقاضى أو وكلائه . وربما سبب ذلك تحرجا للسلطان فأصدر قراره بذلك . وقد امتثل القضاة لذلك الأمر، فقد كانوا خير من يطيع السلطان. بورك فيهم.!! أو قل : لا بورك فيهم ..!!

 بعض القضاة العدول.

ليس الشيخ عز الدين الكنانى وحده الذى تفرّد عن القضاة بعفنه عن أخذ الرشوة ، وإنما كان الشيخ ابن عبد الزين الذى شرط على القضاة التابعين له من الأحناف ( أن لا يأخذوا على الأحكام شيئاً مطلقاً، ومن أخذ شيئاً أصبح معزولاً، وكان إذا بلغه أن أحداً أخذ رشوة  ركب بنفسه إليه وعزّره وعاقبه )، وقد تألم ابن الصيرفى من هذا الوضع ، وقد كان من بين هؤلاء القضاة الأحناف التابعين له، وذكر أن أولئك القضاة لم يكن لديهم دخل إلا ما يأخذونه رشوة من المتقاضين، وهم ليسوا مثل كبار القضاة من أصحاب الأوقاف والوظائف يقول: ( وفيهم من لا يملك قوت يومه فيحتاجون إلى الأخذ للضرورة ) أى يحتاجون لأخذ الرشوة مضطرين .!!" وقال ابن الصيرفي عن نفسه: ( وكنت توليت عنه ، ثم منعت نفس من الحكم بشروطه ولأمور أخر) أى عاقبه قاضى القضاة الحنفى فمنعه من الحكم بين الناس وممارسة القضاء ، وبسبب ( أمور أخر ) لم يتحفنا بذكرها . ويهاجم ابن الصيرفى رئيسه قاضى القضاة بطريق غير مباشر فيقول : ( وندم الأعيان على مساعدته،) أى ندموا على أنهم ساعدوه فى تولى منصب القضاء فلم يكونوا يعرفون أنهم ساعدوا إنسانا شريفا يمنع الرشوة . ويقول ابن الصيرفى بلهجة المظلوم : ( ويأتى من ألطاف الله تعالى ما لم يكن في البال )".إلى هذا الجانب ينقلب الحال، ويصير المعروف منكراً، والمنكر معروفا.. سبحان الله.!!

قضاة رؤساء عصابات ..!!

1 ــــ وبلغ الاستهتار مداه بين قضاة ذلك العهد، وتجلى ذلك في تحويل القاضى مسكنه إلى محكمة ويستطيل بمنصبه على الناس في الحي الذى يعيش فيه ويكون أشبه برئيس عصابة يحيط به أراذل الناس، وتتحول جلساتهم إلى محكمة يصدر فيها أحكاماً بالحبس والغرامة والضرب والتشهير والتعزيز على من يشاء. فهل هناك أسوأ من أن يترك القاضى المحكمة ويحول بيته إلى محكمة خاصة يحكم فيها بهواه وحوله أعوان السوء؟ ذلك بالضبط ما كان يحدث.

2 ـ يقول مؤرخنا عن رفيقه القاضى محيي الدين الحنفي أنه كان قد سعى عند محب الدين بن الشحنة قاضى القضاة الحنفية حتى قرره قاضياً من القضاة الحنفية، وعندما صار قاضياً مارس سلطاته بالظلم، أو على حد تعبير مؤرخنا " فصار يصول ويطول ويعزر ( أى يضرب الناس )، وعمل له سوقاً فصار نافقاً ). أى إشتهر فى أخذ الأموال وبتسلطه على الناس فقصده كل من يريد الانتقام من عدو له . ويستمر ابن الصيرفى فيقول عنه:( ولقّبه أهل مصر بكبش العجم ، حتى قال بعضهم: هو ما تأدب بالخروف الذى تقدمه في دولة الظاهر خشقدم") ولم يعطنا ابن الصيرفى تفسيرا لهذا القاضى ( الخروف ) الذى كان قبله .!.

 اتخذ ذلك القاضى من الحارة التى سكن فيها فى ( رحبة الأيدمرى ) مركزاً لسلطانه وترك المحكمة التى ينبغى له أن يمارس فيها وظيفته واستعاض عنها ببيته، يقول عنه ابن الصيرفي : ( وصار ساكناً بالحارة المذكورة يضرب ويرشى ويكشف الرؤوس ويسجن ويبلغ مستنينه ذلك فلا يكلمه ببنت شفه . )، أى صار حضرة القاضى يوقع  العقوبات بالناس من الضرب وكشف الرؤوس- وسبق أن عرفنا كيف كان ذلك ضرباً من الإهانة ابتدعها المحتسب يشبك- ويسجن، ثم يأخذ الرشوة، وتبلغ أفعاله إلى مستنيبه- أى قاضى القضاة الذى أنابه عنه وهو محب الدين بن الشحنة- فلا يكلمه ، مما يدلّ على أن قاضى القضاة الحنفى إبن الشحنة كان مستفيدا من الأموال التى كان يجمعها هذا القاضى زعيم العصابة . وليس هذا مستبعدا فى ضوء السمعة السيئة التى كان يحظى بها قاضى القضاة إبن الشحنة والتى تجلّت فى إحتقار السلطان قايتباى له ، ولكن لأن إبن الصيرفى كان تابعا لإبن الشحنة فلم يسهب فى وصف مساوئه .

3 ـ على أن يفعله ذلك القاضى لم يكن يدعه في ذلك العصر، بدليل أن قاضى القضاة الحنفية أصدر مرسوماً لنوابه من القضاة : ( يتضمن أنهم لا يحكمون إلا في مجالسهم ، ولا يعزرون أحداً إذا وجب عليه تعزير إلا بالباب العالى، وكم يقع هذا من الوجود ولا اعتبار له فيه ). ما سبق هو كلام مؤرخنا ابن الصيرفي عن ذلك المرسوم الذى أصدره قاضى القضاة الحنفية في محرم 876.ومعناه أن القضاة الأحناف كانوا يصدرون الأحكام في بيوتهم وليس في مقر المحكمة الرسمي، وأنهم كانوا ينفذون أحكام التعزير من الضرب والإهانة في بيوتهم وليس في المكان الرسمى المعد لذلك، أى كانوا يصدرون الحكم وينفذونه في الحال، وبالطبع كانوا يأخذون الرشوة، ومن لديه المال يستطيع أن يذهب للقاضى في بيته ويجعل القاضى يضرب له من يريد من الناس، وكل ذلك بحكم الشرع ، وصدر ذلك المرسوم ينهى عن ذلك كله. ولكن هل انتهى القضاة وأطاعوا شيخهم.؟. يقول مؤرخنا وهو أحد القضاة الأحناف في ذلك الوقت: ( وكم يقع مثل هذا في الوجود. ولا اعتبار له فيه ). يعنى ... "مفيش فايدة".

فساد الشهود

1 ـ وفي العصر المملوكي كان الشهود أحد أركان القضاء. وكان الشاهد يجلس في دكان، ويأتي له الناس ليضع شهادته وتوقيعه على المعاملات وغيرها، وتصبح شهادته مقبولة لدي المحكمة، أى يقوم بوظيفة ختم الدولة الرسمى ( ختم النسر في عصرنا)، وكانوا بالطبع يأخذون أجراً على هذه الشهادة. وفي عصر كان فيه القضاة مرتشين لا نتصور أن يكون الشهود فيه من الأولياء الصالحين.

2 ــ وفي أخريات شعبان 801 أى قبل عصر قايتباى بسبعين عاماً ، أمر السلطان برقوق بعرض وفحص الشهود الجالسين بالحوانيت للتكسب بالشهادة، ونحن هنا ننقل عن المقريزي – فكتب نقباء القضاة أسماءهم وشرع القضاة في عرضهم ليختبروا حال كل منهم ويستبقوا من عرف منهم بحسن السيرة، ويمنعوا من كان منهم مذموم الحال، فمنعوا جماعة. ويقول المقريزي :( ثم أعيدوا بالرسائل وشفاعة الأكابر فلم يتم العرض ). أى إنّ الفساد المستشرى هو الحاكم بأمره ، وهو الذى يجهض أى أمل فى الاصلاح الجزئى . ونعود الى الخبر السابق في ذلك العصر حيث كان يعيش المؤرخ العملاق ابن خلدون، وكان قد تولى القضاء ثم عزل عنه واستمر معزولاً خمس عشرة سنة، ويبدو أن السلطان برقوق أراد إصلاح النظام القضائى في عصره  فأعاد ابن خلدون قاضياً للقضاة المالكية في العاشر من محرم 801، وبادر ابن خلدون في عرض الشهود " ( وأغلق عدة حوانيت استحدثت بعده ) ، ولكن عادت الأمور الى الأسوأ لأن الفساد هو الأصل .

3 ـ وتدهور الحال بعد عصر ابن خلدون، وازداد تدهوراً بعد عصر المقريزي ، حتى إذا جئنا لعصر قايتباى ومؤرخه ابن الصيرفي، وجدنا وظيفة الشهود سيئة السُّمعة يترفع عنها أولو الدين والمروءة وإذا اضطر إليها حرص من يؤرخ له على إثبات عفته، يقول ابن الصيرفي عن الشيخ أحمد بن مظفر : ( كان هو ووالده على خير كثير وصلاح دين متين.. وكان والده شاهداً بحانوت يتكسب منه مع عفته وصلاته، وأما صاحب الترجمة- أى ابنه- فكان لا يتعاطي شهادة ولا غيرها . ) ، أى كأنما تحرج ابن الصيرفي أن يذكر أن ذلك الرجل المشهور بالتدين كان يتكسب بالشهادة ، لذا حرص على إثبات عفته وصلاته، ومعناه أن الشهود جرفهم تيار الفساد أكثر من القضاة.

قضاة يخالفون شرع الله جل وعلا فى حياتهم الشخصية

وبعض القضاة لم يراع حكم الله حتى في أموره الشخصية. فالقاضى محمد بن جنة سبط البلقينى ت876 مات وقد ترك وصية مكتوبة ، وقد حرم فيها أخوية من الذكور وجعل تركته كلها لبنته وأخته بما يخالف الشرع الاسلامى فى القرآن الكريم ، يقول عنه مؤرخنا "( وخلف بنتاً وأختاً وأخوين رجلين- فحرمهما ميراثه، أعنى الذكرين، وشكوا للسلطان أمرهما وما أفادهما ذلك . وعند الله يجتمع الخصوم.). ولم يكن هذا القاضى الفاسد وحيد عصره . لذا إستحقّوا إحتقار السلطان قايتباى.

احتقار السكان قايتباى للقضاة:

1 ـ والسلطان قايتباى- كحاكم عسكرى يمثل طبقة أجنبية تحكم مصر- كان ينظر لأولئك القضاة باحتقار، مع أنهم عنده يمثلون الشرع، ومع أنه يستمد مشروعيته منهم، طبقا للشرع السّنى ،الذى يعتبر القضاة وعلماء الدين هم أهل الحل والعقد الذين يعطون للحكم المملوكي وجاهته داخل مصر وخارجها.

2 ــ وكان السلطان يعبر ( شهريا ) عن احتقاره للقضاة وعلماء الدين في أغلب بدايات الشهور العربية، إذا كان من تقاليد السلطة طبقا لتعبير مؤرخنا ابن الصيرفى ( أن يصعد )- لاحظ عبارة يصعد- (قضاة الشرع ومشايخ الإسلام ) إلى القلعة في أول كل شهر عربي لتهنئة السلطان. وابن الصيرفي كان قاضياً ضمن القضاة الأحناف، وكان يحظي بالصعود للسلطان ضمن وفد علماء الإسلام وقضاة الشرع لنفاق السلطان وتهنئته بحلول الشهر العربي الجديد. وكان ابن الصيرفي باعتباره مؤرخاً يحرص على أن يبدأ أخبار كل شهر بتسجيل صعود أولئك الأشياخ للتهنئة.وكان الرجل فيما نعتقد- صادقاً في وصف ما كان يحدث، سواء كان حاضراً وفد التهنئة أو علم بما حدث فيها خلال صديقه ابن مزهر كاتب السر السلطانى وآخرين من زملائه القضاة.

3 ـ ولو كان القضاة ومشايخ العلم على مستوى كاف من الكرامة لاستنكفوا من السعى لتهنئة السلطان كفرض مقرر كل شهر، فالسلطان هو الذى يجب أن يسعى إليهم وليسوا هم الذين ( يصعدون ) إليه، ولكننا نكلفهم شططاً إذا طالبناهم  بهذا، فشريعتهم السّنية تقدّس الحاكم المستبد ، وتحرّم وتجرّم الخروج على المستبد الظالم ، ثم كيف ننتظر من هذه النوعية من القضاء الإحساس بالكرامة ، فلقد علمنا بضاعتهم من العلم وحظهم من الأهلية لبلوغ تلك المناصب، ووصولهم بالرشوة وإعتمادهم عليها فى إصدار أحكامهم القضائية .  ومن هنا كان احتقار السلطان لهم وهم يسعون إلى عتبات القلعة يطلبون الإذن لتقديم التهانى.

4 ــ الطريف أنّ السلطان من ناحيته كان حريصاً على أن يظهر لهم احتقاره بطريقة واضحة مستقيمة. إذ كان أحياناً يتعمد لعب الكرة في نفس اليوم الذين يحضرون فيه ويجعلهم ينتظرونه إلى أن يفرغ من اللعب، ويقول ابن الصيرفي في مفتتح أخبار شهر ذى الحجة "في غرة ذى الحجة 875 : ( فيه صعد قضاة القضاة لتهنئة السلطان بالشهر وكان يلعب الكرة فانتظروه حتى فرغ منها، وكان هذا ختمها يعنى في اللعب" ألم يكن يستطيع تأجيل اللعب بالكرة خمس دقائق.؟؟!!

وفي يوم السبت أول ربيع الثاني 877، يقول ابن الصيرفي : ( صعد فيه قضاة القضاة لتهنئة السلطان بالشهر على العادة وكان يتقدمهم أمير المؤمنين المتوكل على الله أبو العز عبد العزيز دام شرفه، فهنأه بالشهر، ثم دخل القضاة بعد أن جلسوا طويلاً بجامع الناصر ابن قلاوون ينتظرون الأذن، فإن السلطان نصره الله كان يلعب بالكرة هو والأمراء المتقدمون ، فلما فرغوا جلس بالحوض السلطانى تحت الدكة ، وكنت معهم ، فهنّوا ودعوا وانصرفوا ، ولم يتكلم أحد منه ببنت شفة" أى اهتم بالخليفة العباسى وأهمل القضاة وجعلهم ينتظرون انتهاءه من اللعب.

وفي الشهر السابق أى ربيع الأول 877 لم يحضر السلطان أوّل ربيع الأول حيث كان مسافراً يتنزّه في الشرقية، وعاد منها في يوم السبت 3 ربيع الأول. يقول ابن الصيرفي "( ثم صعد القضاة عقب وصول السلطان فشاوروا عليهم،) أى رفعوا التماسهم بمقابلة السلطان لتهنئته، ( فعادوا عليهم بالجواب بأن السلطان في الحريم فرجعوا. ) وأعادوا الكرّة يلتمسون الإذن : ( ثم ركبوا بعد العصر وصعدوا القلعة فشاوروا عليهم ، فأرسل يعلمهم أنه حضر من السفر وعنده بعض وعثاء السفر ، ولم يحصر لهم ،وأرسل يعتذر لهم بخادم من الخدام فرجعوا ولم يجتمعوا، وكان قبل طلوعهم إليه أرسل الأمير زين الدين يعقوب شاه المهمندار يعلمهم أن ينظفوا أبوابهم من الوكلاء ويمنعوا الصبيان الذين على أبوابهم فامتثلوا لذلك".)، وهكذا كانت مكانتهم عنده، يستكثر عليهم الجلوس معهم دقائق معدوده.وبدلا من أن ينزل ليتقبّل خضوعهم له يرسل لهم خادما يأمرهم أن ( ينظّفوا أبوابهم من وكلاء الرشوة ومن جلوس الصبيان على أبوابهم).

وفي أول صفر 874 يقول مؤرخنا "صعد قضاة القضاة لتهنئة السلطان بالشهر على العادة فوجدوه ركب من قلعة الجبل وتوجه إلى الخانقاه السرياقوسيه فلم يجتمعوا به وعادوا، وصعدوا من الغد إليه فهنأوه على العادة، أى لم يهتم يموعد مجيئهم، وسافر للخانقاه، وهو يعلم أنهم رهن إشارته ويترقبون عودته.

وفي الشهر التالي ربيع الأول 874 يقول مؤرخنا عن أول أيامه "فيه صعد قضاة القضاة ومشايخ الإسلام لتهنئة السلطان بالشهر فوجدوه قد ركب وتوجه للقرافة، فانتظروا بالجامع الناصري حتى عاد وطلبهم فدخلوا إليه بالدهيشة وكان قد فرغ من ترخيمها وتذهيبها وتنميقها وبياضها ولما جلسوا بين يديه ، وكنت حاضراً جالساً معهم ،  قال له قاضى القضاة محب الدين بن الشحنة الحنفي عامله الله بلطفه الخفي" .

 

تهنى بكم كل أرض تنزلون بها

 

كأنكم لبقاع الأرض أمطار

 

فقال له السلطان: الله يحفظكم أو ما أشبه بذلك، ودعوا له وانصرفوا" أى تكلم القاضى الحنفي ليس في مصالح المسلمين والمظلومين ولكن لينافق السلطان بالشعر ، ولم يكترث به السلطان .

5 ـ وحين يريد السلطان استخدامهم لأمر شرعي كان يعطيهم بعض الاهتمام.

في أول محرم 873 يقول مؤرخنا": ( وفيه صعد قضاة القضاة للقلعة لتهنئة السلطان بالشهر على العادة ، وكنت في خدمة قاضى الحنفية ، وقرءوا الفاتحة ودعوا ، وأرادوا الانصراف، فأمرهم السلطان بالجلوس بحضرته هيئة عقد مجلس ، وسألهم فى مباشرة بيع مماليك الظاهر .وكان اشترى الملك الأشرف أبو النصر قايتباى . نصرة الله. كل نفر منهم بعشرة آلاف درهم وصاروا مماليكه، وقال الجمال يوسف بن تغرى بردى فى تاريخه الحوادث عند ذكر هذه الواقعة: وهذا شراء لا يعبأ به الله،). كان السلطان يريد شراء مماليك السلطان السابق خشقدم، ويريد وكيلاً شرعياً وصياً عن ورثة ذلك السلطان المتوفى، ولذا احتاج لأولئك القضاة، وهم رهن إشارته، وقد حقق السلطان بهذه الصفقة مكسباً كبيراً بثمن قليل. مما أثار امتعاض المؤرخ أبى المحاسن جمال الدين يوسف بن تغرى بردي فاعتبر الصفقة باطلة، وهو مؤرخ ارستقراطي من أصل مملوكي يفهم مجريات الأمر أكثر من مؤرخنا ابن الصيرفي.

6 ـ ولنتذكر أن أولئك القضاة كانوا يقابلون السلطان كل شهر مرة على الأقل، ولم يتكلموا في مصالح المسلمين.. ولنتذكر أن ذلك الذى ادعى الجنون كى يقابل السلطان ليقول له كلمة حق انتهى مصيره إلى الضرب والسجن، فتلك طبيعة النظام المملوكي من المماليك وخدامهم من العلماء والقضاة.

7 ــــ وكان السلطان يختص الشيخ محب الدين بن الشحنة باحتقار زائد، مع أنه أشهر فقهاء وقضاة الحنفية في عصره، وفي المقابل كان ابن الشحنة لا يملّ من نفاق السلطان، وقد شهدنا طرفاً من ذلك . ونزيد عليه ما أورده مؤرخنا ابن الصيرفى وهو من أتباع ابن الشحنة في أخبار السبت 17 ربيع الثاني 875 يقول : ( وصنع قاضى القضاة محيي الدين ابن الشحنة خطبة عظيمة في مدح السلطان وعدله وفضله ووصفه بجميع أنواع الصفات بين العسكر والأمراء ومن حضر، فلم يكترث لذلك غاية الاكتراث، وقرأها ــ أى ابن الشحنة- من لفظة، ولما فرغ من قراءتها طلبها منه القاضى نور الدين الأنبابي.. ليقرأها ويكتبها، وذكر من المبالغة والإطراء أنه يرسل بها إلى الأقطار والأمصار. ) . لم يكترث السلطان بهذا النفاق الرخيص المبالغ في المدح، ولكن اهتم بقصيدة ابن الشحنة قاض أخر منافق عرض أن يكتبها وينشرها في الأقطار والأمصار،، فماذا كانوا سيصنعون لو اهتم السلطان أكثر بابن الشحنة وخطبته الرخيصة ؟.

8 ــ ومع ذلك ففي ليلة الرابع والعشرين من رمضان 876 صعد قاضى القضاة ابن الشحنة للفطر في رمضان عند السلطان، يقول مؤرخنا : ( فلم يمكن من ذلك ورُدّ عند آذان المغرب )  أى طردوه.!!. هل كان ابن الشحنة مسكينا لا يجد طعام الإفطار في بيته؟ بالطبع لا.. ولكنه كان يريد استرضاء السلطان ونفاقه- والسلطان كان قد ملّ منه ومن نفاقه ومن فساده أيضاً. فطرده..

9 ـ والسلطان وسائر فصيلته من العسكر المماليك يعرفون أن حكمهم قائم على الظلم، ومع ذلك فقد كان يعتبر نفسه أكثر قياماً بالقسط من أولئك القضاة، ويدلنا على ذلك ما أورده مؤرخنا ابن الصيرفي في أحداث السبت 16 جمادى الأولى 875 عن وفاة بنت الخازن ، وكانت سيدة ثرية ، يقول عنها ابن الصيرفى : ( وكانت قد عمّرت وخلفت أموالاً جمة ، ولها أوقاف كثيرة من قبل أبيها، ويؤول النظر في هذه الأوقاف بعد موتها إلى قاضى القضاة الحنفي خ، ولكن أراد القاضى الشافعى الوثوب والاستيلاء لنفسه على نظر تلك الأوقاف) وما يعنيه ذلك من سرقة مؤكدة . وبلغ السلطان ذلك النزاع بين قاضى القضاة الحنفي وقاضى القضاة الشافعي ( فقال: أنا أحق من الاثنين ، ولكنى أعمل فيهم بالشرط وأحميهم من الغاصبين.). أى تولى  السلطان بنفسه نظارة تلك الأوقاف ليحميها من هذين القاضيين..ووصف السلطان قاضى القضاة الشافعى وقاضى القضاة الحنفى بكونهما ( غاصبين ) ..!!.

 

الفصل العاشر  : أحداث جعلت السلطان قايتباى يأمر بعزل كل قضاة الشرع السّنى .

  بلغ إحتقار السلطان لقضاة الشرع السّنى مداه سنة 876 حين منعهم من الحكم وتولى بنفسه القضاء في سابقة خطيرة لم تحدث من قبل في تاريخ مصر بعد الفتح العربى .كان فساد القضاة قد أثار السلطان نفسه.

ولنبدأ القصة من أولها.

1 ـ في يوم الخميس 23 شعبان سنة 875 زار قاضى القضاه محب الدين بن الشحنة ومعه ابنه القاضى عبد البر شيخا مريضا يحتضر ، ليس للسؤال عليه ولكن للتحايل عليه وقت إحتضاره . الشيخ المريض المحتضر هو بدر الدين الأردبيلى  . وكانت للأردبيلى (وظائف جليلة ) بمدرسة الحنفية ، وقد طمع قاضى القضاة الحنفى الشيخ محب الدين بن الشحنة في تلك الوظائف لابنه القاضى عبد البر، لذا زار الشيخ الأردبيلى فى مرض موته مع ابنه القاضى عبد البر بن الشحنة ومعهما صهره ابن النويري، وضغطوا على الرجل المريض فى وقت إحتضاره وأخذوا توقيعه على تنازله عن وظائفه في مقابل مائة دينار يدفعها ابن الشحنة، وكتبوا ذلك فى قسيمة ، وشهد به أربعة من القضاة الأحناف وأحد الشهود العدول. ( أولاد الحلال ) أعلموا السلطان بذلك وعرف أن الأردبيلى كتب توقيعه وهو يحتضر ولا يدرى شيئاً ، فاحتد السلطان وطلب الشهود والقضاة الذين حضروا ذلك العقد ، فلما جىء بهم شتمهم السلطان وقال : ( تشهدوا على شخص غايب الوجود ومصداق ذلك أنه مات من ليلته وأخرتوه إلى يوم السبت ).أى أخروا دفنه للتغطية على أخذ توقيعه قبيل موته ، يقول ابن الصيرفى عن موقف أولئك المشايخ أمام ثورة قايتباى: ( فاعتذروا عن ذلك فلم يقبل منه، وأمر باعتقالهم واعتقال الشاهد الآخر الذى هرب، وشفع فيهم كاتب السر فلم يقبل السلطان شفاعته.).وفي يوم الثلاثاء 28 شعبان شفع فيهم الداودار الكبير وركع للسلطان ولمس الأرض أمام السلطان، ثم تبعه الأمير تمر المحمودى حاجب الحجاب الذى سجد للسلطان وقبّل الأرض، ثم تبعها ابن مزهر الأنصاري كاتب السر فقبل الأرض ثم (باس) رجل السلطان فأمر السلطان بإطلاقهم. وإرتعب قاضى القضاة ابن الشحنة وابنه القاضى عبد البر من عسف السلطان بهما فأرسلا تنازلا عمّا أخذاه من الأردبيلى مع ابن مزهر كاتب السر الذى صعد به للسلطان فقال له السلطان: ( لا تدخل نفسك في هذه القضية. )، فقال له ابن مزهر: ( أنت أمرتني بذلك لأنك جعلتني كاتب السر، وكاتب السر يتكلم في هذا وفي غيره .) . وامتلأت القاهرة بشائعات عن عزل ابن الشحنة عن قضاء الحنفية وترشيح آخرين مكانه، ويعلق مؤرخنا ابن الصيرفي على هذه الواقعة فيقول بإحتجاج رقيق لأنه هنا يتكلم عن شيخه قاضى القضاة الحنفية:( وفي الواقع ، فقضاة الشرع لو عظّموا أوامر الله وحقوقه لعظّمهم ولكنهم خافوا على وظائفهم فأهانوا أنفسهم. والأمر إلى الله ! ). وبدأ بهذه الحادثة ملل السلطان من ضعة القضاة وحقارتهم وصغارهم. ولكن كتم السلطان شعوره، إذ توجه إليه ابن الشحنة مع باقى القضاة للتهنئة بأول رمضان فلم يفتح الموضوع مع ابن الشحنة.  وفي يوم الأربعاء 7 رمضان صعد قضاة القضاة إلى القلعة لبدء ( ميعاد قراءة البخارى ) على عادتهم كل شهر رمضان، ولم يحضر إليهم السلطان، يقول مؤرخنا : ( فإنها من حين قرئ البخارى وإلى تاريخه ما حضر مجلسه). أى إن السلطان كره رؤيتهم فتخلّف عن حضور المناسبة ( المقدّسة ) لترتيل البخارى فى رمضان سنويا ، وكان المصدر المقدّس للشريعة السّنية فى العصر المملوكى..كما لو أن كتاب البخارى قد نزل به الوحى فى رمضان .!!

2 ـ ثم حدث قبيل منتصف رمضان أن استدعى الداودار الكبير يشبك من مهدي أحد القضاة المالكية بسويقة السباعين ومعه شهوده في قضية وقف ، واثبت تلاعبهم بالحكم واتهمهم بالتزوير، فتراجعوا عن الحكم والشهادة، فأمر بنفيهم لولاً أن بعض الكبراء تشفع فيهم عند الأمير يشبك . وبعد جهد جهيد- على حد قول مؤرخنا- أطلقهم الداودار الكبير بعد أن أشهد على القاضى وشهوده بقسامة أن لا يشهد الشهود ولا يقضى القاضى.أى عزل القاضى والشهود عزلا مؤبدا.وعلم السلطان بما حدث فازداد إحتقاره لقضاته وفقهاء شريعته.

وحين توزيع التشريفات والجوائز على العلماء بمناسبة ختم البخاري في القلعة يوم الأربعاء 28 رمضان 875 لم يحصل ابن الشحنة على عادته من التشريفة والخلع، ولكن توسط ابن مزهر وأوصل له مكافأته فيما بعد.

3 ـ وفي أوائل شوال من نفس العام حدثت مشاجرة بين القضاة والعلماء في القدس ، وارتبط هذا بفساد العلماء والقضاة وظلمهم وأكلهم السحت ممّا أدّى الى هجوم العوام على بيوت القضاة ونهب ما فيها وسبى الحريم .  ووصل السلطان والداودار نبأ ما حدث فإزداد مقته للجميع.

4 ـ وحدث في نفس الوقت أن استولى قاضى الإسكندرية ابن جنيبات على تركة أحد الأموات وحرم منها ابنه المسافر، وافتضح أمره. وكان قاضى القضاة ابن الشحنة متورطاً في القضية مع القاضى الشافعي جلال الدين البكري، وقد حقق الداودار الكبير في القضية فاعتقل القاضى جلال الدين البكري وقاضى الإسكندرية ابن جنيبات، وصعد بهما الداودار الكبير للسلطان ، وفوجئ بالسلطان يكرمهما ويطلق سراحهما، ولكن الداودار الكبير أطلق سراح البكري وأمر باستمرار اعتقال ابن جنيبات، وعزل البكري نفسه عن القضاء.

5 ـ وفي 11 شوال كلف السلطان كاتب السر إبن مزهر الأنصارى بالسفر للشام ( لفحص أحوال القضاة والأوقاف، وأذن له السلطان في التكلم على المساجد والجوامع والأوقاف وعزل من أراد واستمرار من اختار من القضاة وغيرهم مطلقاً خلال القضاة للكبار )، أى أعطاه قايتباى سلطة مطلقة وحرم القضاة الأربعة الكبار من حق اختيار نوابهم من القضاة وحق عزلهم ، وأعطى ذلك لكاتب السر في جولته التفتيشية.

6 ـ وفي أوائل ذى القعدة علم السلطان أن الشيخ صلاح الدين المكينى قاضى القضاة الشافعية جعل أحد الشهود قاضياً، واسمه أبو الخير الفيومي الذى كان متزوجاً بإحدى الجواري المعتوقات، وكان متورطاً في قضية سلب لإحدى الأوقاف ضمن مجموعة من الشيوخ ، وقد استدعاهم السلطان وعرف أنهم يأكلون إيراد الوقف ولا يعطون المستحقين شيئاً ، بل ولا حتى يقيمون في شعائر الصلاة. وحقّق معهم السلطان بنفسه ، ولم يستطيعوا الدفاع عنه أنفسهم أمام السلطان . فأمر السلطان القضاة الأربعة بأن يعين كل منهم نائباً عنه للجلوس بالجامع الذى فيه الوقف وفحص مستنداته وموارده ومصروفاته ويعلمون السلطان بذلك.

7 ـ وفي أوائل محرم 876 اختلف الشيخ محيي الدين الكافيجي الحنفي مع الشيخ أمين الدين الأقصرائى الحنفي في فتوى بسبب وقف الظاهر جقمق، وكان السلطان يريد أن يعلم رأى الشرع في هذه القضية، وجرت مناظرة ولكن الأقصرائى اعتذر عن حضوره هذه المناظرة.ولم يسعهما تعريف السلطان بالرأى الشرعى.

8 ــ وفي منتصف المحرم عقد السلطان مجلساً للنظر في خصومة بين قاضى مكة المعزول عنها وهو ابن ظهيره وبين قاضى المدينة ابن الفكاهانى، وحضر المجلس الشيخ أبو البركات أخو القاضى ابن ظهيره، وقال للسلطان: يا مولانا لا تسمع فينا كلام المتعصبين" وتدنّى الحوار بينما الى قول الشيخ بركات إنه يكون بريئاً عن دين الإسلام إن كان أخوه فعل كذا وكذا، وأمر السلطان بالاستعلام من مكة والمدينة عن حقيقة الحال.

9 ـ وفي أواخر صفر اغتاظ السلطان من القاضى ابن العيسى ناظر الأوقاف وغرّمه ألف دينار بسبب خصومته مع القاضى الجوجرى الشافعي، وهبوط مستوى التخاصم، الى درجة أن أثبت أحدهم أن رفيقه قذف زوجته ، فأمر السلطان بحبس المسئ في برج القلعة ماشياً ، ثم حبسه في سجن الديلم ثم أطلقه في النهابة.

10 ـ وفي أول شهر ربيع الآخر يروى إبن الصيرفى أن ( صعد القضاة لتهنئة السلطان بالشهر على العادة وصحبهم شخص اشتكي للسلطان القاضى الشافعي بسبب خان السبيل الذى تحت نظره ، وأخبر بأن بالخان مسجداً ، وأن الجمّالين جعلوه مخزناً لمتاع الجمال وخياطة الزرابيل، وأنه حاول منعهم فتغلب عليه أعوان القاضى الشافعي ). أى إن أعوان القاضى الشافعى جعلوا المسجد مزبلة للجمال والجمّالين مع أنهم القائمون على رعاية المسجد والانفاق عليه من الأوقاف الخاصة به. أى أكلوا أوقاف المسجد وجعلوا المسجد مزبلة بأجر. وعن طريق شيوخ آخرين منافسين لقاضى القضاة الشافعى تمكن هذا الرجل من الوصول للسلطان والشكوى اليه . أى أن التنافس بين الشيوخ ودسائسهم فى بعضهم كانت من عوامل فضحهم أمام السلطان. وبالطبع نحن لا نعرف من هذا كله إلّا ما قد سجّله مؤرخنا القاضى ابن الصيرفى . ولا نعرف بالتالى مقدرا حظّه من الفساد المستشرى ، ومدى صدقه فى التأريخ وهو شاهد متفاعل مع الأحداث ..ومع الفساد.

11 ـ وفي يوم السبت 5 ربيع الآخر اعتقل السلطان قاضى القضاة المالكى سراج الدين بن حريز بسبب تركة أخيه قاضى القضاة المالكي السابق حسام الدين بن حريز، يقول مؤرخنا فى إيجاز غير مفيد: ( حصل كلام كثير أفضى آخره على الترسيم ( أى الاعتقال ) في طبقة الأمير الزمّام . والأمر إلى الله الملك العلام .) وتصرف السلطان في الموارد التى كانت باسم القاضى المتوفي حسام الدين ، واستمر أخوه سراج الدين في (الترسيم) ليوفي ما عليه للناس، ثم أطلقه من الحبس يوم السبت  ربيع الآخر.ـ وتوالت أحداث مشينة أخرى : في يوم الخميس ربيع الآخر عزل السلطان الأرميوني المالكي لأنه جار في الحكم على شخص من أتباع السلطان. وفي يوم الاثنين  من هذا الشهر علم السلطان بوفاة القاضى ابن حنة الذى حرم أخويه من الميراث المستحق لهما، وقد شكى أخواه للسلطان ، وقال كاتب السر للسلطان: هذه وصية ومرجعها للشرع، ومع ذلك فلم يأخذ الأخوان حقهما بالشرع.

12 ــ وفي أوائل شهر جمادى الأول 876 اشتكى للسلطان والدان من البرلس، شكيا للسلطان القاضى الذى في البرلس أنه باع ابنهما لبعض العربان، وأنهما تعرفا على ابنهما، وحقق السلطان في القضية واستدعى القاضى فادعى القاضى أن والدى الطفل باعاه له، وادعى أن لديه شهوداً على البيع وطلب منه السلطان إحضار شهوده فلم يشهد بالشهود بما يؤيد دعواه فعلم السلطان كذبه وجريمته فأمر السلطان باعتقاله.

13 ـ وفي يوم الثلاثاء 21 جمادى الأولى تجددت مشكلة وقف الظاهر جقمق على مدرسة اينال الذى تنازع في قضيتها الشيخ الأقصرائى والشيخ الكافيجي من كبار الفقهاء الأحناف، وتحدى فيها الكافيجي زميله الأقصرائي، واعتذر الأقصرائى عن حضور مجلس المناظرة أمام السلطان وذلك أوائل المحرم 876، وكان الشيخ الكافيجي قد أفتي بأن نظارة أوقاف المدرسة تكون لمحمد بن إينال وجعل له أن يخرج من يشاء من المدرسة وأن يدخل فيها من يشاء، وأفتي الأقصرائى بخلاف ذلك.

14 ــ ثم تجددت القضية يوم الثلاثاء 21 جمادى الأولى حين وقف للسلطان أولاد ابن إينال هم وأرباب الوظائف بمدرسة جدهم إينال، وقد بنى الظاهر جقمق المدرسة لجدهم إينال، وأظهر الأولاد فتاوى بخط الأقصرائى وبخط الكافيجي وبخط الشيخ قاسم الحنفي، وكلها فتاوي متعارضة، فأمر السلطان القضاة جميعاً بالحضور في المجلس السلطانى، وحضر مؤرخنا ابن الصيرفي ذلك المجلس باعتباره أحد القضاة الأحناف ووصف ما حدث في المجلس بتفصيل ولكن يعوزه الغموض وتوضيح جوانب القضية كأنه يتحدث مع قارئ ملم بأطراف الموضوع. ولكن من خلال سرده لما حدث نعرف أن السلطان قال لقاضى القضاة الشافعي :أخربت الأوقاف، مرتين يقول ابن الصيرفي "فصار الشافعي في هيئة الأموات، ثم أنه باس يد السلطان وسأله أن يخرج عنه الأوقاف ويصير معه القضاء بلا أوقاف فقال له: أنت عاجز" واحتدم الخلاف بين القضاة ولم يصلوا لحسم القضية وظهر أمام السلطان عجزهم عن إصدار فتوى محكمة واحدة، ووضح من كلام مؤرخنا أنهم تبادلوا أمام السلطان الشتائم والاتهامات بالعجز، فالشيخ الكافيجي يقول عن الشيخ قاسم الحنفي وهو يخاطب الشلطان عنه "هذا الرجل لا يعرف النحو لا اللغة ولا الأصول ولا الفقه وإنما يعرف الحيل وهو محجور عليه في الفتوى لأنه يأخذ عليها رشوة، وهذا يسمى مفتن ماجن". واستمر الجدل بينهم إلى أن تدخل فيه نواب القضاة وارتفع اللغط، يقول مؤرخنا "وصار علاء الدين المنوفي- نائب الحنفي- راكباً على كتفي الشيخ أمين الدين والشيخ قاسم وهو من خلفهما يكلم الشيخ محيي الدين بما لا يليق، ومن جملة قوله :أيشن هذا الخباط؟ وهو خلف الحلقة وينادى بأعلى صوته: يا قاضى كاتب السر اسمع لى كلمتين" وأمره السلطان السكوت فصار يقول" والله لولا أن السلطان قال لى اسكت ما سكت" يقول بان الصيرفي "هذا مع أن السلطان قال لصلاح الدين الشافعي ولغيره : أسكتوا، ومع هذا فجماعة الشيخ أمين الدين يطلقون ألسنتهم في المنوفى ويقولون له: قم يا صبي النحس عن كتف الشيخ" واستمر البحث بينهم والكل يساعدون الشيخ أمين الدين بالألفاظ الخارجة عن البحث. ويقول ابن الصيرفي "وقام السلطان من المجلس ورسم لهم أن لا يتوجهوا من المجلس حتى ينهوا القضية" ثم حضر السلطان وقد طال النزاع ولم يصلوا إلى حل، ثم أفتي القاضى المالكي باللجوء إلى حكم السلطان ليعلن بذلك أن السلطان أفقه من القضاة جميعاً بأمور الشرع.أى بعد الهرج والسّب والشتم لم يتفق الفقهاء على أمر. أى لا يصلحون إلّا للفساد . وهذا هو تطبيقهم لشريعتهم السّنية . واستمر نقاشهم بلا فائدة ، وبعد طول أخذ ورد بينهم رسم السلطان أن يشترى المدرسة من ماله ويعمل عشرة آلاف درهم في كل سنة ويوقفه عليهم عوضاً عن ما أخرجه ابن أينال لأولاده، وأنقض الأمر على ذلك ودعوا للسلطان وانصرفوا.. وأثناء إنصرافهم وتسليمهم على السلطان حدث أن لكم السلطان القاضى جلال الدين، يقول مؤرخنا" ثم سلم الجماعة كلهم حتى الجلالى فلكمه السلطان في رأسه وقال له: أنت ما تخرج زكاة" وانصرفوا". فالسلطان مع ظلمه- يأمر قاضى الشرخ بإخراج الزكاة ، ويضربه على رءوس الأشهاد. وأفلحت هذه القضية في تنبيه السلطان إلى طبيعة قضائه الدين يمثلون الشرع.فهم ليسوا  منحرفين فقط ، وإنما هم أيضاً جهلة ورفاق متشاكسون.

15 ــ وفي يوم الاثنين 5 جمادى الآخر 876 صعد القاضى عبد البر بن الشحنة للسلطان ليسلم عليه بعد أن عاد من حلب، ومع أن السلطان أكرمه وسأل عن والده محب الدين بن الشحنة قاضى الأحناف إلا أن السلطان عزل القاضى الشريف الوفائى الملقب بدموع وهو وثيق الصلة بعبد البر بن الشحنة .ويقول مؤرخنا القاضى إبن الصيرفي الحنفي عن السمعة السيئة للقاضى الشريف الوفائى ( دموع ) وصديقه عبد البر ابن قاضى القضاة ابن الشحنة الحنفى  "وقد تكلم الناس فيه وفي عبد البر قاطبه بما تمجه النفوس مما يصدر منهما. )، ووصلت سمعتهما السيئة للسلطان عن طيق الأمير إبن خاص ، يقول ابن الصيرفى : ( وبلغ ذلك مولانا الأعظم- أى السلطان- نصره الله ، وأنه ( أى القاضى الشريف الوفائى دموع ) يتعاطى كذا وكذا، ومنها أن العلائى سيدى على بن خاص بك أعزه الله أخبروه عن الشريف أنهم وجدوا غلمانه وشهوده عند زوجة شخص من غلمانه( أى من غلمان الأمير إبن خاص )، وأخبروه أنه ( أى ذلك القاضى الشريف الوفائى ) يجلس بين القصرين في محل الحكم وهو غائب ( أى غائب عن الوعى بسبب تعاطيه )  فطلبه وهدده ، فيمكن أنه أعلم السلطان به".).وأدى ذلك كله إلى أن يأمر السلطان بعرض القضاة ونوابهم بين يديه ليفحص أحوالهم ، وكانت فضيحة عام 876. وهى تستحق وقفة فى المقال القادم .

 

الفصل الحادى عشر:( فضيحة القضاء الشرعى السّنى عام 876 فى عصر قايتباى )

 السلطان قايتباى يعزل كل القضاة ويقضى بين الناس بنفسه.

بعد أن وصل إحتقاره لهم للذروة : السلطان قايتباى يتفحص بنفسه أحوال القضاة:

1 ـ ونتعرف على القشّة التى قصمت ظهر البعير : ففي يوم الأربعاء 28 جمادى الآخرة أمر السلطان بمنع القضاة جميعا من الحكم بين الناس ، وأمر قضاة القضاة أن يحضروا إليه بنوابهم بين يديه ليعرضهم ، أى ليستعرضهم جميعا أمامه ويحقق معهم بنفسه . ويوضح مؤرخنا السبب وهو أن آل الشحنة لم يعجبهم عزل السلطان للشريف الوفائى دموع يقول: "فما هان عزل الشريف على بيت الشحنة فسعوا بكل الطرق من الأمير تمر الحاجب ومن الأمير تنبك الداودار الثاني ومن رئيس الدنيا ابن مزهر الأنصاري فتكلموا مع السلطان مرتين أو ثلاث فما وافق على ذلك، فألحّوا عليه حتى أن الأمير تم المذكور قبّل رجل السلطان" .

وأدى هذا الضغط على السلطان إلى أثر عكسي فأعلن منع كل القضاة من الحكم ، وجمع كل القضاة برؤسائهم ليحقق معهم ، أو بتعبير ابن الصيرفى " أمر بأن ينادي في المدينة أن أحداً من القضاة لا يحكم حتى يصعد إلى السلطان. وكان هذا الأمر عاراً على جميع القضاة وقتها، ومنهم يومئذ مؤرخنا ابن الصيرفي القاضى الحنفي، ونقرأ ما كتبه في هذا الصدد يعبر عن أحاسيسه ، يقول:( وبات قضاة القضاة ونوابهم من كل مذهب بكل شر وسوء، فإن هذا عار عظيم وبهدلة زائدة وكسر قلوب لعباد الله المؤمنين ومعلوم كل ما يترتب من قوله ( ص): "هدم الكعبة حجراَ حجراً أهون عند الله من كسر قلب مؤمن " وما حصل للناس بواسطة عبد البر وصاحبه ، وكانوا سبباَ في قطع أرزاق المسلمين الذين لا يقدرون على إظهار السؤال المستحق غالبهم لتعاطى البر والصلات، والمسئول من وابل فيض دنيا الكريم الخلاق أن يحل هذه العقدة بإطلاق وأن يستمروا على حالهم ببركة المصطفي المنزَّل عليه ..والله المستعان ).هنا يتحفنا مؤرخنا بحديث بذىء منسوب للنبى عليه السلام فيه إهانة للكعبة ، لكى يهاجم قرار السلطان بطريق غير مباشر . وهو يعبّر عن الأسى الذى عمّ القضاة الذين خانوا أمانة الحكم بالعدل . هذا مع إنّ مساوئهم التى ذكرها ابن الصيرفى نفسه تشهد عليهم ، وطبقا لما ذكره هو بنفسه من مساوئهم كان عليه أن يمدح تصرف السلطان ويفرح به ، ولكن لأنه كان فاسدا مثلهم فقد غضب من القرار ، ولأنه أعجز من التصريح بغضبه فقد تحوّل الغضب الى ( أسى ) ، وقام بتصوير القضاة الفاسدين المنحلّين الظالمين ( مسلمين مستحقين لتعاطى البرّ و الصلات ) أى يجعل الرشاوى برّا وصلة .

2 ـ وبدأ عرض كل القضاة على السلطان . صعدوا للقلعة للعرض على السلطان يقودهم قضاة القضاء الثلاثة بدون قاضى القضاة الحنبلى الذى كان قد مات ولم يتم تعيين من يخلفه.  وكان منهم إبن الصيرفى التابع لابن الشحنة قاضى القضاة الحنفى. يقول مؤرخنا عن ذهابهم ليوم (العرض) مجللين بالخزى: ( فيه صعد قضاة القضاة الثلاثة وهم القاضى ولى الدين الأسيوطي الشافعي والقاضى محب الدين بن الشحنة الحنفي والقاضى سراج الدين عمر بن حريز المالكي ونوابهم، وكنت منهم ــــــــ فإن القاضى عز الدين أحمد العسقلاني من حين وفاته من حادي عشر جمادي الأولي ستة تاريخه والمنصب شاغر إلى القلعة ــــــــ ليهنوا السلطان بالشهر على العادة ، وجلسوا ينتظرون السلطان بالجامع هم ونوابهم ، ليعرضوا عليه حسبما برز المرسوم الشريف. ) وكان السلطان يحكم أحكامه السياسية في الاصطبل السلطانى فلما فرغ من ذلك طلب قضاة القضاة ونوابهم، يقول مؤرخنا:( فدخلوا وكاتبه معهم)،  يعنى نفسه.

3 ـ وكان بعض الفقهاءالذين ليسوا قضاة قد سبقوا القضاة في ذلك الوقت العصيب فصعدوا للحوش السلطانى وهنأوا السلطان ، ومنهم الأقصرائي وسراج الدين العبادي. وقد جلس سراج الدين العبادي مع قضاة القضاة في الجامع بالقلعة قبيل أن يصعدوا للسلطان ورأى ما فيهم من الاضطراب والوجل، فأرسلوه للسلطان كى يتوسط لهم عنده، فدخل على السلطان وقال له: ( أريد أن أتكلم بكلام على نوع الفضول إن رسم السلطان تكلمت به وهو نصح ،  فقال له: تكلم، فقال: "هذه الخرقة (أى الوظيفة ) أعنى خرقة الفقهاء رفيعة ") ، وصار يحكى له عن عزة القضاة في عهد جقمق والمؤيد شيخ، وقد حكى الشيخ سراج الدين العبادي أقواله تلك لمؤرخنا وسجّلها، وقد رد السلطان قايتباى على سراج الدين العبادى فقال له: يا شيخ سراج الدين أنا ما بهدلت الشرع والقضاة وإنما أريد أن يكونوا على الأوضاع".أى يريدهم صالحين . وأدت محاولة الشيخ سراج الدين العبادي إلى زيادة حدة السلطان فصار كاتب السر يترضّاه ويهدئه.. ثم قال سراج الدين العبادى للسلطان: ( يا مولانا أن الناس من باب المدرج إلى آخر باب النصر اجتمعوا لينظر ما يُفعل بالقضاة ومن ينزل منهم مجبور ومن ينزل منهم مكسور) .يقول مؤرخنا عنه:( ودعا له وإنصرف) أى دعا للسلطان ثم إنصرف، وعبّر مؤرخنا عن إمتنانه للشيخ سراج الدين العبادى فقال:( فجازاه الله خيراً عن المسلمين" آمين.).

4 ـ وبدأ عرض القضاة كل فريق بمذهبه وقاضى قضاته . وبدأ بالقضاة الشافعية، يقول ابن الصيرفى : ( ثم بدأ كاتب السر يستدعي القضاة واحداً واحداً ويعرضه على السلطان ) إلى أن وصل إلى القاضى فتح الدين السوهاجي فبمجرد أن سمع السلطان اسمه شاط وعاط على حد قول مؤرخنا ( وقال له: أنت تعمل الحر عبداً والمسلم كافراً والحق باطلاً! وما زال كاتب السر بالسلطان يهدئه إلى أن رضى عنه ولم يعزله.).واستدعى القاضى أبوبكر الأبشيهي الشافعي وهو مؤلف كتاب (المستطرف فى كل فنّ مستظرف) وقد حنق عليه السلطان وذكر عنه أموراً ووبّخه على حد قول ابن الصيرفى . وقد إرتجل الأبشيهى بيتين يتسول بهما عطف السلطان ، يقول:

 

لا تكسرن قلوباً قد أتيت بها

 

وقابلنها بحسن العفو والرحب

وعم بالخير من قد جاء منكسرا
 

 

وبالخصوص إذا ما كنت في رجب

 

5 ـ وبعد عرض القضاة الشافعية وموافقة السلطان عليهم بوساطة ابن مزهر كاتب السر بدأ ابن مزهر استدعاء القضاة الأحناف، وقد وضح غضب السلطان عليهم ؛ فقد وبخ وهدد القاضى ابن إمام الشخونية، وحين أبصر كمال الدين الطرابلسي سبّه وشتمه وقال لقاضى القضاة الحنفية: "من عمل هذا القاضى" هذا مع أن كل قاضى يتقدم للسلطان يتم تعريف السلطان به وبمن عينه، ولكن السلطان كان يقول "من عمل هذا القاضى ؟ " ليس للاستفهام ولكن للاستنكار والاحتقار".يقول مؤرخنا "ثم طلب الطولوني السمين الذى يجلس بحانوت مجاور لبيت الشيخ خير الدين السنسي.. فحين رآه سبه وعزله صريحاً وقال للقاضى الحنفي: من عمل هذا قاضياً ؟ فقال له: خير بك الداودار" ثم طلب ابن ظهير فلما رآه قال له: أنت مباشر لص وحرامي من عملك قاضياً، ثم التفت إلى مستنيبه أى قاضى القضاة الحنفى ابن الشحنة الذى جعله نائباً، وقال له هذا صهرك، فقال له قاضى القضاة الحنفي ابن الشحنة: ( أحضر لى خط الشيخ تقي الدين الشمني على كتاب الكنز باجازته له ) ، أى إنّه كانت معه إجازة علمية من الشيخ الشمنى بأنه درس كتاب ( الكنز )، وكان الشمنى متوفيا ،أى لا يصح طلب شهادته ، لذا قال قايتباى لقاضى القضاة الحنفى مستهزئا : (تحتج علىّ بالأموات؟ ) ( فلم يزل المقر الزيني يتطلف به حتى سكت )." فالسلطان سأل ابن الشحنة عمن أوصل ذلك اللص الحرامي إلى منصب القضاة وهو صهر ابن الشحنة، فاحتج ابن الشحنة بأنه أحضر له شهادة من الشيخ تقي الدين الشمني بأنه قرأ عليه كتاب الكنز في الفقه، ولما كان تقي الدين الشمني قد مات فإنه لا يصح الاستشهاد به في هذا المجلس فقال له السلطان: تحتج على بالأموات؟ ثم تدخل كاتب السر كالعادة حتى هدأ السلطان.

6 ــ ونمضى مع مؤرخنا وهو يصف المجلس الخطير، يقول "ثم طلب ابن الردادى فقال السلطان: من عمل هذا قاضياً ؟ فقال مستنيبه (أى قاضى القضاة ) سألنى فيه أكبر الشافعية سراج الدين العبادى ) إى إحتج بتوصية الشيخ العبادى . وجاءت لحظة عرض ابن الصيرفى نفسه على السلطان ، يقول عن نفسه : ( ثم ُطلب كاتبه ( يعنى ابن الصيرفي نفسه) من فوق المصطبه ، وأوصلني المقرّ الزيني حقي ، وقال عنى للسلطان: أنى من طلبة الشيخ محيي الدين الكافيجي وأنّه سأل في ولايتي ، وأنى قرأت على علماء ومشايخ منهم شيخ الإسلام ابن حجر، فلم يتكلم ببنت شفه ) أى إن السلطان لم يقل عنه ( من عمل هذا قاضيا ) . ونحن لا نستطيع تكذيب أو تصديق هذا لأن المؤرخ هو وحده الذى إنفرد بالرواية وكان شاهدا على هذا المجلس الخطير . ولكن نعترف بابن الصيرفى كاتبا ومؤرخا ودارسا على يد إبن حجر والكافيجى، هذا علاوة على صلته بكاتب السّر إبن مزهر الأنصارى الذى قال للسلطان إنه السبب فى تعيينه قاضيا . وإبن مزهر الأنصارى هو الذى أنقذ الكثيرين من جهلة القضاة فى يوم العرض هذا . يقول ابن الصيرفى عن سيده كاتب السّر ودوره فى إنقاذ كثيرين من منحرفى القضاة وجهّالهم : ( مع أن المقرّ الزينى ) يقصد ابن مزهر كاتب السر ( ستر على قوم من الشافعية والحنفية والمالكية، فمن الحنفية الشريف الوفائى المقسي وابن القصيف وغيره، وممن طلع ولم يقف للسلطان وتعلل بأنه حصل له قولنج خير الدير الرميثي الشافعي، وكان لما عرض القاضى بدر الدين الدميرى كتكوت قال له: أنت أيضاً قاضى؟ فقال: يا مولانا السلطان لى عشرين سنة قاضى، قال: يكفاك استريح- ثم عرضوا نواب المالكية فلم يقع فيهم كلام سوى أنه سأل عن واحد أو اثنين من ولاهم، وانصرف المجلس على ذلك.." ثم توسط ابن مزهر في إعادة الشريف الوفائى والميموني فوافق على عودتهما.

نوبة عدل تهبط على السلطان:

1 ـ وانتهر الناس الفرصة فهرعوا يستغيثون بعدل السلطان الذى نزل عليه فجأة، ويشتكون له ظلم القضاة وكبار وصغار الموظفين . يقول مؤرخنا عن أحداث يوم الثلاثاء رابع شهر رجب: ( كان الموكب السلطانى وكثرت الشكاوى على الأكابر والأصاغر.).وفى نوبة العدل هذه كانت محنتهم .

2 ـ ففي يوم السبت التالى ثامن رجب:( كانت الخدمة بالاصطبل على العادة وشُكى الاستادار وناظر الخاص وأمير آخور كبير وقاضى الشافعية وابن زوين كاشف الوجه الغربي). وأخذت السلطان نوبة العدل هذه فأخذ الظلمة من أعوانه بالشدة، وارتبطت هذه الشدة أحياناً بالعطف على الفقراء، يقول مؤرخنا: ( ووقف له جماعة من الفقراء بقصص- أى شكاوى- فرسم لغالبهم بدينار ورسم لشخص مقطوع الرجلين بثلاثة دنانير، وشُكى له ــ نصره الله ــ نائب غزه فجهز له بريدياً، وشكوا له قضاة حماة فرسم بإحضارهم".) أى أمر باعتقالهما وإحضارهما له من غزة ومن حماة .

3 ــ وفي يوم الاثنين 10 رجب وقف الشيخ عثمان الحطاب المقيم بالمدرسة السيفية أمام السلطان واشتكى أن الأمير تغري بردى المحمودى اغتصب من المدرسة السيفية إيواناً وجعله إسطبلاً . ( والشيخ عثمان الحطاب كان قائماً بتجديد المدرسة المذكورة وعمارتها ، وأقام بها خلاوى للفقراء ) أى حجرات للخلوة والعبادة الصوفية حسب المعتاد وقتها من إقامة المؤسسات الصوفية ( أو التكايا ) ليعيش فيها الصوفية وكان لقبهم ( الفقراء ) عالة على المجتمع يعيشون مجانا ويتبرك الناس بدعائهم . ونعود لمؤرخنا وهو يقول عن المدرسة السيفية والقائم عليها الشيخ عثمان الحطّاب : (وكان ينفق عليهم مما يصله من تبرعات المحسنين، وكانت المدرسة المذكورة في الأصل كنيسة وليس لها كتاب وقف) أى كانت كنيسة بلا مورد لها بالوقف والانفاق عليها ، فاستولى عليها من جعلها مؤسسة صوفية . وطمع الأمير المملوكي تغرى بردي المحمودى فى قطعة أرض بجوارها فاستولى عليها بإذن من القاضى ابن حجر المؤرخ والمحدّث المشهور ثم العيني ، وهو أيضا مؤرخ ، وكان هذا قبل عصر قايتباى.ثم أذن له البساطى وعز الدين المقدسي في عهد قايتباى. ولأن السلطان قايتباى لم يعد يثق في قضاته فإنه أرسل كاتب السر والداودار الثاني تنبك قرا لينظرا هذه القضية (ويعملا ً بالشرع فيها). ولم يحسما الأمر فغضب السلطان وقال :( أنا أرسل في قضية كاتب السر والداودار والحاجب وما ينقضى لى شغل؟ أنا أتوجه بنفسي، هاتوا الفرس . ) . وتدخل بعضهم ليثني السلطان عن عزمه، ولكن نوبة العدل التى حلت علي السلطان فجأة جعلته يصمم على الذهاب بنفسه للمدرسة ليحل مشكلتها، وتوجه معه موكب من كبار المماليك، ووصلوا للمدرسة وأرسل السلطان للقضاة الثلاثة (الشافعي، الحنفي، المالكي) فجاءوا بهم على وجه السرعة ووقف العوام ينظرون إلى القضاة وهم يسرعون بهم للسلطان، يقول مؤرخنا يصف ذلك المشهد وأهل القاهرة يشمتون بالقضاة ويشتمونهم : ( ومرّوا بالقاهرة والخلق من العوام والأوباش ينظرون إليهم ويقولون فيهم ما شاءوا وصار بعضهم ينسبهم إلى خراب الأوقاف وبعضهم ينسبهم إلى بيعها.)

وحدث أخذ ورد وجدال في القضية بسبب عجز القضاة عن الاتفاق على حكم ، وأثار ذلك السلطان فقال: ( قضاة القضاة يستحسنوا ويدلسوا على ويغطوا .. قل لى كتاب الوقف عند من؟ ) . ويقول ابن الصيرفي أخيراً ( وطال الأمر على السلطان فركب ورسم للقاضى كاتب السر والأمير تمر حاجب والقضاة أن لا ينصرفوا من هذا المجلس حتى ينهوا أمره . ) وقد أعاد ابن الصيرفي رواية تلك الحادثة وجاء بتفصيلات أخري منها أن ( السلطان إحتد على ابن مزهر الأنصاري حدة مفرطة وكلمة بكلام ما سمعه منه قط، وأساء على القاضى نور الدين الأنبابي إساءة مفرطة من جملتها: يا شيخ رجلك في القبر وأنت تداجي على؟ والله أضربك بالمقارع .!!).

4 ــــ واكتسب السلطان قايتباى مكانة عالية بين جمهور العوام بسبب موقفه من فساد القضاة. وحدث يوم الاثنين 17 رجب أنه توجه إلى أبى زعبل ليفتتح سبيلاً أنشأه هناك ، وحلّ آذان المغرب فنزل وصلى إماماً بالناس بمدرسة الجناب العلمي ابن الجيعان . ودخل من باب القنطرة من بين الصورين، وأثناء مروره بالقاهرة اجتمع حوله الناس يدعون له بالبقاء والدوام.

الناس يحتكمون للسلطان في قضاياهم الشرعية:

1 ـ وانتهز المصريون نوبة العدل التى هبطت على قايتباى وعزله للقضاة فتوجهوا اليه بالشكوى ورفع المظالم . وفي يوم السبت 22 رجب كان الموكب السلطاني بالإسطبل على العادة ووقف الشاكون أصحاب الشكاوى ونودى في المدينة بأن من له دعوى على ضامن الخضر من الغياطين أو غيرهم يحضر بين يدى السلطان، فشكي ابن المقسي ناظر الخاص بأنه له في ذمته مبلغاً ثمن مشتريات لم يعطه ثمنها، فالتفت السلطان لمن حوله وصار يذكر لهم مساوئ ابن المقسي، وتدخل كاتب السر ليحل الموضوع، ولكن كان ذلك بداية المحنة التى سيلقاها ابن المقسي فيما بعد.وترك الناس التحاكم بين القضاة بعد ما حدث واتجهوا للسلطان في كل أمورهم الشرعية والسياسية الحكومية، وكانت محنة لكل أرباب المناصب، وكانت تتكرر هذه المحنة يومي السبت والثلاثاء حيث يعقد السلطان جلسته في المسطبة للحكم.

2 ــ في يوم الثلاثاء 25 رجب يقول مؤرخنا: ( كان الموكب السلطانى بالاصطبل وشُكى على جماعة، منهم الشيخ عفيف الدين الزاهد العالم المقيم بسطح جامع الحاكم بسبب الخلوة التى هو ساكن بها، فأخذ رئيس الدنيا ابن مزهر الأنصار كاتب السر حفظه الله قصته ووعده أن يعمل مصلحته، فحضر إليه وأعطاه شيئاً من الحطام ( أى أعطاه رشوة ) وكتب عليه إشهاداً، وشُكي صاحبنا الزينى عبد الحفيظ الداودار من الصيادين ببحر منجا فطلبه السلطان فتكلم بين يديه بكلام متع (أى جيد) فرسم له أن يواظب طلوع القلعة ورسم له أن يتوجه إلى الأمير الداودار الثاني لينظر في أمرهم، وشكت امرأة على زوجها للسلطان أنه تزوج عليها ويضاجرها فردها رداً قبيحاً، فلا قوة إلا بالله، وكثرت الشكاة حتى أن بياع الفجل قال اشتكى السلطان.).!!.والملاحظ مما سبق أن السلطان كان يتلقى الشكاوى السياسية من ظلم أرباب الوظائف كما كان يتلقى الشكاوى الشرعية وقضايا الأحوال الشخصية كما حدث في الشكوى من الشيخ عفيف الدين المقيم بخلوة فوق جامع الحاكم، وكما حدث من تلك المرأة التى اشتكت زوجها الذى تزوج عليها ويضاجرها. والملاحظة الهامة أن كل الناس كان يقصد السلطان للشكوى في كل شيء حتى أن بياع الفجل يقول اشتكى السلطان.

3 ــ ففي يوم السبت 29 رجب شكى ثلاثة ناظر الخاص ابن المقسي، وكان أحدهم قد تكرر وقوفه للسلطان يشكو من ناظر الخاص وقد كلف السلطان كاتب السر أن يحل الموضوع ولكن كان ناظر الخاص يتهرب من إنصاف ذلك المظلوم برغم إلحاح كاتب السر. وفي هذا المجلس كانت نوبة الإنصاف والعدل قد تملكت السلطان لسوء حظ ابن المقسي، وهكذا فعندما اشتكى ذلك الرجل ابن المقسي واشتكى اثنان معه منه احتدّ السلطان وطلب ابن المقسي وسبّه ولعنه والتفت إلى كاتب السر واحتدّ عليه أيضاً، وقال له: ( أنت ما تنصحنى.! )، وأمر بضرب ابن المقسى (.. فبطحوه بين يديه وضربوه على مقاعده وكان يوماً شديد البرودة وأمر السلطان بنزع ثيابه وضربه على ملابسه الداخلية فصار يستغيث فلا يغاث حتى انقطع حسه بعد ذلك فقام الأمراء وتشفعوا فيه لدى السلطان فازداد غضب السلطان وأمر بضربه ثانياً عرياناً، فضربوه نحو خمسين مقرعه فشفع فيه الأتابك أزبك وبقية الأمراء، فأراد السلطان قطع ثيابه من فرط غضبه عليه، وصار يقول له" أنا أعدل وأنت تظلم؟ أنا أعمّر وأنت تخرّب، ثم التفت إلى كاتب السر وأمر بتعيين ابنه القاضى بدر الدين في نظارة الخاص فأخذ كاتب السر يعتذر ويهدئ السلطان ).ويقول مؤرخنا يصف هذا المشهد ورعب أعيان الدولة ( الظالمين ) خوفا من نوبة العدل التى تملّكت قايتباى : ( هذا ، مع أنه من حضر هذا المجلس من الأكابر عُد كالهالك ، خصوصاً مباشرى الدولة ، وأعظمهم رعباً وخوفاً شرف الدين بن كاتب غريب المتكلم في الوزارة والاستادارية عوضاً عن الداودار الكبير، وأما ناظر الجيش وكاتب المماليك فما نزلا إلا  محمولين، وكانت ساعة نسأل الله منها السلامة.! ورسم بالترسيم ( أى السجن )على أن ابن المقسي وأودع الطشطخانة ثم نقل إلى طبقة الخازندار.).وشُكي في هذا اليوم الأمير المملوكى ابن قمتى رأس نوبة الداودار، فرسم بحضوره من أى مكان فيه، وشكى قاضى جدة أبو البركات من ظهيره من امرأة بسبب ميراث أبيها، ثم شكى ضامن الخفير، والغيطان  المشهور بتقي الدين ،وهو من أسماء الأضداد، ( يعنى ابن الصيرفى أن هذا الرجل إسمه تقى الدين وهو لا يتقى الله ) فرسم السلطان لأصحاب الغيطان أن يحضروا غدا تاريخه بين يدى السلطان. ) وقرّر السلطان بعد هذا المجلس تعيين بدر الدين إبن كاتب السر ابن مزهر الانصارى في نظارة الخاص بعد عزل ابن المقسي وسجنه وضربه.

4 ــ والخطأ السياسي الذى وقع فيه ابن المقسي أنه لم يهتم بالتغيير الذى حدث في السلطان قايتباى وجعله ينقلب إلى النقيض، وقد أدرك بعد فوات الأوان أن السلطان كان جاداً في تحرى العدل بعد أن وصل مستوى القضاة والقضاة إلى الحضيض.والقاضى ابن المقسي في النهاية هو مثل كلاسيكي لكل أرباب الوظائف في عصر قايتباى ولا نجد أصدق من وصفه إلا ما قاله عنه مؤرخنا ابن الصيرفي تعليقاًُ على ما حدث له، يقول القاضى ابن الصيرفي "ولقد تأسف بعض الناس على ابن المقسي وحزنوا عليه حزناً شديداً حتى أعداؤه، وما أحسن من قال:

 

رثى له الشامت مما به

 

يا ويح من يرثي له الشامت

 

غير أنهم أيضاً ذكرواً أنه سيئ المعاملة جداَ، ومعلوم أن المعاملة هى الدين، وأنه إذا ابتاع شيئاً لايقول في نفسه إلا أنه ملكه،ولا يدفع ثمنه إلا لمن له جاه أو صولة أو شوكة أما الضعفاء والفقراء.. فنهاية ما عنده لهم كتابة الوصولات ، ويكتب بخطه بالصرف على كل وصل، أى وصل نحو العشر مرات ولا يصرف لهم شيئاً وغالبهم يضيع وصوله وغالبهم يتعب وغالبهم يترك والنادر من يتجوه- أى يبحث عن جاه- بأحد حتى يصل إلى بعض شيئ.). إذن نحن هنا أمام نصاب محترف يتقوى بنفوذه على أكل مال الضعفاء ويعطيهم "وصولات" غير قابلة لدفع، أو بتعبير عصرنا "شيك بلا رصيد". ومن خلال هذه المظالم أصبح ابن المقسي من كبار الأثرياء، يقول عنه القاضى ابن الصيرفي: ( وله المماليك الحسان ويركبون الخيول الخاص والسروج والذهب والأقمشة الملونة من الديباج والحرير والصوف والسمور وكذا العبيد الحبوش، وفي خدمته شخص يسمى ابن الصناج داوداره ، يلبس كل بدلة بمائة دينار، وبلغني أنه طلع للسلطان بشئ من عند أستاذه فوجد عليه مقربة بعلبكية لابسها فقال له: قل للقاضى ناظر الخاص يفصّل لنا مثل هذا ، وأمثال ذلك من إنعامه على من يجتمع عليه من ندمائه وجلسائه بالصوف والسنجاب والسمور وغير ذلك، وسمعت أن جامع المقسي الذى هو متحدث عليه قطع غالب معاليم قومته، ( أى مرتبات موظفيه) ، وأبطل ملء فسقيته وغير ذلك ، فدعوا عليه عشاء وضحى وعصراً ومغرباً .والدعاء من المظلوم في الأسحار لا يخطئ.). أى إن ابن المقسي كما كان نهما في أكل أموال الضعفاء وقطع أرزاق الموظفين في المسجد الذى يقوم برعايته كان على العكس من ذلك كريماَ في تعامله مع ندمائه وجلسائه ولذلك لا ينبغي أن نحزن لما ذاقه من الضرب والنكال.وقد استمرت محنته فأصدر السلطان أمراً يوم الأحد 8 شعبان بانتقاله من سجن الزمام إلى بيت ابن مزهر كاتب السر ليحاسبه على ما في جهته من أموال السلطان.

5 ـ وظل القضاة معزولين وظل السلطان يقوم بوظيفة القضاة إلى يوم الثلاثاء 10 شعبان حين اشتكي له شخص من رأس نوبة نقيب الجيش، واقتنع السلطان بصدق دعوى الشاكي فضرب المدعى عليه، وظهر كذب المدعى فضربه السلطان، ثم أمر الوالى أن ينادي في المدينة أن أحداً لا يشكو أحداً للسلطان حتى يقف أوّلا على القضاة والحكام فإن أنصفوه وإلا يقف له، وبذلك أعاد السلطان القضاة مسئوليتهم وجعل نفسه الدرجة الأخيرة في التقاضى.وخمدت نوبة العدل عند السلطان قايتباى ، وانتهت محنة وفضيحة قضاة الشرع السّنى ، وعادوا الى مباشرة وظيفتهم فى إقامة الظلم بين الناس .

هوامش ما سبق

  1. خطط المقريزي3/39: 41.
  2.  خطط المقريزي 3/66: 67، 73، 71: 72.
  3. الهصر: 143: 144، 172: 173.
  4.  خطط المقريزى: 3/68.
  5. الهصر 485/ 279، 98: 100.
  6. الهصر: 16، 21، 22، 23، 24، 26، 28، 33، :40، 43.
  7. الهصر: 20، 23: 24، 148، 189، 214، 216: 217، 226، 243، 245، 246، 331، 338، 382، 281.
  8.  الهصر: 56، 60، 121، 186، 281، 285، 319، 328، 351، 362، 363، 377، 378،، 382، 387: 378، 391: 392،442.
  9. الهصر: 32، 56، 139، 47، 481، 493، 498، 195، 146: 147، 501.

10) 47: 48، 481: 482.

11) الهصر 420: 422، 484: 485.

12) الهصر: 485: 486، 101: 103، 362، 365، 367، 97: 100، 230: 232، 309، 194: 195، 227، 66.

13) الهصر 152، 504، 446.

14) الهصر 448، 231.

15) خطط المقريزي: 3/68.

16) الهصر: 485، 425، 5، 8، 438، 439.

17) الهصر: 307، 232، 408: 409، 450، 346، 348، 476، 493.

18) الهصر: 153: 154، 323.

19) المقريزي: السلوك 3، 2، 933.

20) الهصر: 449: 450، 463.

21) الهصر: 290، 487، 476، 126: 127، 136، 7: 8، 220، 412، 225.

22) الهصر: 148: 251، 254، 257، 260: 261، 263: 265، 268، 270، 282، 329، 331، 336، 337، 338، 341، 342، 343، 352، 358، 360.

23) الهصر: 370: 371، 371: 377، 378: 379، 379: 381، 385: 386، 378، 388، 391، 392، 394، 400: 401.

 

 

 

 

الفصل الحادى عشر : تطبيق حد السرقة على طفل جائع من العوام فى عصر قايتباى:

أحوال العوام  في القاهرة والمدن فى ظل تطبيق الشريعة السنية فى عصر قايتباى

 

ابن الصيرفي يظلم العوام في تاريخه:

1 ـــ إهتم مؤرخنا أحياناً بطوائف الشعب في القاهرة، وكانوا يعرفون بأهل الحرف أو الزعر والحرافيش والعامة والعوام. ويستطيع الباحث أن يتبين بعض ملامح الظلم الذى عاشه العوام من خلال إشارات فى تاريخ الهصر عن ظلم المماليك وأعوانهم من أرباب الوظائف. ومع ذلك فإن مؤرخنا (القاضى) ابن الصيرفي لم يكن عادلاً في إشاراته القليلة عن العوام، مع أنه ينتمى إليهم إذ عاش في أسواق القاهرة صيرفياً قبل أن يلحق بسلك العلماء والقضاة . وليس من السهل تبرير هذا الموقف من ابن الصيرفي إذ يتنكر للشعب الذى أتى منه في سبيل مرضاة الظلمة ، وإن كان من السهل تفسير موقفه من خلال الحياة في مجتمع يتنفس الظلم تحت شعار الشريعة التى ينفذها قضاة عرفنا نوعيتهم ، ويعبّر عنهم مؤرخون على شاكلة ابن الصيرفى . وحيث يعيش الشعب تحت ارهاب سلطة عسكرية تتمسح بالدين فلا سبيل لمخرج من هذا الظلم إلّا بتغيير ثقافى يقوم على إجتهاد يظهر حقائق الدين السماوى التى تؤكد على العدل والاحسان والحرية . وبدون هذا يزداد تلوث المناخ العام دينيا وخلقيا وسياسيا ويعلو أسافل الناس ويسود الأسوأ منهم فى ( الدين وفى الدنيا )، و تنتشر الأنانية ويسعى كل إنسان لمصلحته وصيانة نفسه وولده، بل ربما يتخلى عن أقرب الناس إليه إذا دهمه طوفان الظلم، أو على حد تعبير المثل الشعبي المصري: (يا روح ما بعدك روح..) ( إن جاك الطوفان حط ابنك تحت رجليك ). وكم اشتق شعبنا المصري من معاناته الكثير من أمثاله الشعبية.

2 ــ في غلاء سنة 873 وما حدث فيه من قطع مرتبات أرباب الوظائف وكان من بينهم مؤرخنا ابن الصيرفي يقول بعد وصف معاناة أهل طبقته:( مع أن جماعة ما طرق قلبهم الهمّ والغمّ، وهم العوام والفقراء فإنهم يتنزهون ويتفرجون فلا بارك الله فيهم، ما أقبح فعالهم.!). العوام كانوا يعيشون على الكفاف تحت سياط الظلم الذى يوقعه بهم أولئك الظالمون الذين قطع ( الظالم الأكبر ) بعض مرتباتهم، وليس متوقعا منهم أن يحزنوا لما أصاب بعض الظالمين من قطع بعض مرتباتهم. ويبدو أن مؤرخنا القاضى كان يتوقع أن يلطم العوام الخدود ويشقوا الجيوب أو أن يقوموا بمظاهرة تحتجّ على ما أصاب أرباب الوظائف الظلمة من قطع مرتباتهم، ولأنهم لم يهتموا فقد صبّ مؤرخنا القاضى جام غضبه عليهم، وكان أولى به أن ينتقد السلطان الذى أصدر قرار قطع المرتبات، ولأنه لا يستطيع فقد وجد في العوام الغلابة متنفساً لثورته المكبوتة.

السارق الأكبر يطبّق قطع اليد والأطراف على الجوعى من العوام

1 ــ وقد مر بنا أن أرباب الوظائف بما فيهم القضاة كانت لهم عادة سيئة هى أكل أموال العوام بالباطل، إذا كان للعوام أموال يمكن أكلها، ويسيئون معاملتهم ويتعالون عليهم في نفس الوقت الذى يذوبون فيه رقة في تعاملهم مع أولى الحيثية وأرباب النفوذ. وقد ذكر مؤرخنا إشارات عن ذلك في حديثه عن بعض أبناء طبقته مثل ابن المقسي وابن البارزي وعبد البر بن الشحنة . ولكننا نرى من خلال كتاباته  أنه كان يشارك أهل طبقته نفس النظرة للعوام ويتعالى عليهم ويستكثر عليهم التنزه على النيل بينما هو مهموم، وهو في نفس الوقت لا يطالب نفسه بما يطالبهم به من التعاطف والمشاركة الوجدانية، فما رأينا في كتاباته أسفاً وحزناً على مظلوم سجين أو صريع بيد زبانيه السلطان بل كان يذكر ذلك ببرود عجيب كما لو أن المقتول أو المسجون أو المضروب مجرد حشرات لا يؤبه بها، بل و قد يرصّع ذكر الحادثة التاريخية تلك بالدعاء للسلطان الظالم. وهو دائما يذكر إسم السلطان مقرونا بالدعاء له مهما فعل السلطان .

2 ـ يقول إبن الصيرفى في أحداث أول صفر 874": ( وفيه رسم السلطان نصره الله بشنق حرامى وهو مستحق لذلك فإنه سرق فقطعوا يده وأطلقوه فسرق ثانياً فقطعوا أرجله وأطلقوه فسرق ثالثاً فرسم فشنق ، وقطعت يد صغير سرق وهو غير مكلف). ولم يسأل مؤخنا نفسه عن حالة ذلك اللص المشنوق ، هل كان محتاجاً للسرقة أم لا، كيف كان يعيش بعد أن قطعوا يده ورجليه، وهل عضّه الجوع فاضطر للسرقة بعد أن فقد ثلاثة من أطرافه ولم تبق له إلا يد واحدة تناول بها ما يسد رمقه فجعلوه، سارقاً وشنقوه.. والذى أمر بشنقه هو الذى كان يسرق الجميع ويبيح له شرعه السّنى قتل ثلث الرعية لاصلاح حال الثلثين ، وبالتالى فمن حقه قتل الجميع إذا اضطرهم الجوع للسرقة.

3 ـ ونتوقّف مع قول إبن الصيرفى فى أحداث نفس اليوم : (وقطعت يد صغير سرق وهو غير مكلف.)!! .

لم يسأل مؤرخنا القاضى نفسه هل يجوز قطع يد صبي صغير حتى لو سرق ؟ وهل يجوز تطبيق الحدّ على غير المكلّف؟.!!. لم يسأل نفسه شيئاً، واكتفي بالدعاء للسلطان نصره الله ولم يأبه بالمخلوقات الآدمية التى تحطمها أقدام السلطان الذى نسي من أجله الشعب الذى أنجبه واحتضنه. إنّ قطع يد طفل صغير بعد إتهامه بالسرقة والدعاء للسلطان بعدها يعطى جوهر الشريعة السّنية التى تقوم على أساس العبودية للحاكم المستبد وحقه فى أن يفعل ما يشاء بالشعب ، فهو لا يسأل عما يفعل . ومن هذا الاقتناع ( لا نقول : القناعة لأن إستعمالها هنا خطأ لغوى  ) ومن هذا ىالاقتناع فإن إبن الصيرفى لا يرى بأسا بقطع يد طفل صغير جائع . لا يرى بأسا فى ذلك وهو قاض ، ولا يرى بأسا فى ذلك وهو مؤرخ .

ولا عزاء للعوام ولا قيمة لهم عند المؤرخين

1 ـ لقد كانت عادة سيئة للمؤرخين فى العصور الوسطى ـ خصوصا فى الحوليات التاريخية ، أن يطوفوا حول الحاكم تمجيدا ؛ يذكرون كل أخباره ، التافه منها والهام . أما آحاد الناس من الشعب فلا نصيب له  من الاهتمام . المؤرخ وقتها كان يولّى وجهه شطر الحاكم آناء الليل وأطراف النهار ، لا يلتفت الى آحاد الناس إلّا إذا وقعت له مصيبة ، عندها فقط يستحق الاهتمام وأن يأتى ذكره بين سطور التاريخ .أى كان لا بد لآحاد الناس من القتل أو الشنق أو قطع الأطراف حتى يتكرّم عليه المؤرخ بتسجيله فى التاريخ . بل حتى عندما يكتب عنه سطرا أو سطرين فالمؤرخ لا يذكر أسماء أولئك الضحايا المساكين. ونستعيد ما كتبه مؤرخنا:( وفيه رسم السلطان نصره الله بشنق حرامى وهو مستحق لذلك فإنه سرق فقطعوا يده وأطلقوه فسرق ثانياً فقطعوا أرجله وأطلقوه فسرق ثالثاً فرسم فشنق ، وقطعت يد صغير سرق وهو غير مكلف)، فلا نعرف إسم المشنوق ولا إسم الصبى الذى قطعوا يده ، ولا نعرف تفاصيل القصة ، وكيف سرق هذا ومن حكم عليه ، وممّن سرق وما هو المسروق ..

2 ـ وابن الصيرفى ليس بدعا فى هذا فى تجاهله للعوام وآحاد الناس وطوفانه حول الحاكم . كان على نفس الطريق أساتذته المؤرخون الفقهاء المحدثون ، وأهمهم ابن حجر العسقلانى . وعلى نفس السّنة تسير أجهزة الإعلام فى الدول المسنبدة حتى الآن . إنها ثقافة سائدة ترسّبت بفعل دين أرضى تحكّم وتسيّد ، وتأثر به فى العصر المملوكى ( قضاة الشرع ) الحاكمون ، بل وتأثر به العوام المظاليم أنفسهم ، إذ كانوا يحبون الظالم الأكبر قايتباى .!!

حب العوام للسلطان قايتباى:

1 ــ ومهما يكن فإن موقف مؤرخنا القاضى ابن الصيرفي المعادة للعامة يجعله وثيق الصلة بالعامة! كيف.

فابن الصيرفي الذى تنكر لأهله وشعبه وحابي الظلمة على حسابهم إنما كان يصدر في حقيقة موقفه عن نفس موقف العوام في القاهرة، إذ كانوا يحبون السلطان قايتباى ويتجمعون في الشوارع للترحيب به والهتاف باسمه. ومن ثقافة العبيد المتأصّلة أن يتحمل الظلمة من أعوان المستبد كراهية المظلومين بينما يظل السلطان الظالم الأكبر متمتعاً بحب الناس طالماً بقي في الحكم، فإذا ولى السلطان بالموت أو بالعزل انطلقت فيه الألسنة بالتجريح والسخرية، وهكذا كانوا يفعلون في العصر المملوكي. وربما لا يزالون.

2 ــ ومن العجيب أن جماهير القاهرة ومصر كانت تلاحق السلطان بالتجمهر حوله إذا شق موكبه القاهرة، ليس للفرجة والتنزه وإنما أيضاً للدعاء له.  في يوم السبت 6 ربيع الأول سنة 873 ركب السلطان للنزهة في خانقاه سرياقوس وشق القاهرة إلى موضع الخانقاه، ومكانها الأن مدينة الخانكة بالقليوبية، وفي هذه المدينة سار مع السلطان نفر يسير وترجّل ومشى في شوارع المدينة حتى شق شارع الخانقاه وقد اجتمع الخلق ( وكثر الدعاء له منهم) على حد قول مؤرخنا. وفي يوم الأربعاء 18 ذى الحجة 873 عاد السلطان من جولة له في الشرقية والغربية ونزل بالمطرية وتغدى بها وركب أخر النهار وتوجه إلى الريدانية ومكانها الآن مدينة نصر، وبات بها ، ودخل القاهرة صباح الخميس، ووصف مؤرخنا هيئة الموكب السلطان وقد كان حاضراً مع القضاة الأربعة، يقول "وركب معه- أى السلطان ــ قضاة القضاة الأربعة ونوابهم ، وكنت صحبتهم ، وسار في هذا الموكب العظيم الضخم حتى دخل من باب النصر ، ففرشت له الشقق الحرير تحت رجل فرسه ، ونثر على رأسه الذهب والفضة، وكان لدخوله يوم مشهور.)، وينقل مؤرخنا رأى المؤرخ أبى المحاسن بن تغري بردى في التهوين من استقبال الناس لقايتباى ويرد عليه فيقول: ( وقال الجمال يوسف بن تغري بردى في تاريخه:" وكان الدعاء له قليلاً، وإنما غالب ازدحام الناس للفرجة" قلت: أنا شاهدت الركبة وركبت فيها مع نواب قاضى الحنفية المحب بن الشحنة ورأيت العالم يبتهلون ويدعون للسلطان بدوام البقاء والعلو والارتقاء.). ونحن نصدق رواية مؤرخنا ابن الصيرفي فهي أكثر تعبيراً عن الشعب المصري الطيب فكم صفق للطغاة وفق ثقافة العبيد المتأصلة فيه .وقد قالها من قبل عمرو بن العاص: مصر مطية راكب.

3 ــ وكان قايتباى يشعر أحياناً بالملل من احتفال الناس به وتجمعهم لرؤيته حين يرجع من احدى نزهاته الكثيرة، فقد حدث أن رجع من احدى هذه النزهات يوم الخميس 19 جمادى الآخر 875 فصعد للقلعة من الصحراء ولم يدخل البلد مع أن أهل البلد قد تجمعوا لرؤيته. يعنى بالبلدى.. (إداهم بمبة).

4 ــ وكان المصريون في الأقاليم أكثر ابتهاجاُ برؤية السلطان. في يوم الاثنين 13 شوال 876 ( ركب السلطان من القلعة وعدّى من بولاق إلى أوسيم ، حيث استضافه الأمير خشقدم الساقى ؛ (فاجتمع له الخلائق والعوالم .. واختلطالنساء بالرجال بالوالدان فلما رأوه صاحوا بالدعاء له وعجّوا وضجّوا ، وهو ينظر إليهم ، وهم حول فرسه ،ولا يمكن أحداً من ضربهم ولا إبعادهم عنه)، أى منع حرّاسه من ضرب الجماهير . وأسهب مؤرخنا في نفاق السلطان والتعجب من شجاعته أثناء روايته لهذه الحكاية مع إشارته الطفيفة إلى أن حرس السلطان اعتادوا ضرب الناس الذين يهتفون باسمه.

5 ــ بل وصل كرم هذا الشعب إلى الاحتفاء بمن يرضى عنه السلطان من أتباعه الظلمة.. في يوم الخميس 8 محرم 876 خلع السلطان على موسى بن غريب متحدثاً في الاستادارية والوزارة عوضاً عن الداودار الكبير الذى سافر إلى الشام، فأقاموا له زفّة هائلة وأوقدوا له الشموع حتى وصل لداره.ربما حتى ينسى ما تعرض له من ( بهدلة ). وتيمناً وتفاؤلاً بسفر الداودار الكبير يشبك من مهدى لحرب شاه سوار الثائر على الدولة فى شمال العراق فإن أهل القاهرة ومصر زينوا جميع الحوانيت والأزقة والدور وصنعوا تماثيل على هيئة شاه سوار وإخوانه تعبيراً عن التفاؤل بالنصر، ويقول مؤرخنا : (واستمرت حوانيت مصر وشوارعها وأزقتها مزينة بأنواع الحلل الفاخرة.. الذى لم يسبق له مثيل بحيث لم يعهد أن وقع نظير ما ذكر في عصر من الأعصار ولا دهر من الدهور ولا في محمل ولا في حضور قائد تمرلنك ولا في عود سلطان من السفر بمثل هذه الزينة والوقيد الذى بسائر المدينة".) . والوقيد يعن الإضاءة ليلا ..

طوائف العوام رفضت الظلم:

1 ــ وبعض الحرفيين من طوائف العوام وجدوا من الجرأة ما جعلهم يرفضون الظلم. يقول مؤرخنا:( وأصبحت مصر وأهلها ( يقصد ما يعرف الآن تقريبا بالقاهرة الكبرى ) في ألم شديد من عدة وجوه : وهو أن ساكفة رُمى عليهم من ديوان الدولة جلود ( أى ألزمتهم الدولة بشراء جلود ليصنعوا منها الأحذية ) وأخذوا منهم عدة زرابيل نحو كل زربول بستة أنصاف تحت ستة آلاف زربول ، وأما الخياطون والجوخيون ( صنّاع الجوخ ) وأرباب الصنائع فيهم مجتمعون في عمل احتياج عظيم الدنيا الدوادار الكبير لأجل سفره ( أى تم تسخيرهم فى إعداد الحملة الحربية المتوجهة لقتال شاه سوار بقيادة الداودار الكبير يشبك ) ومصروفه في كل يوم على ما بلغني يصل إلى ألف دينار، ولا يقطع لأحد منهم درهماً واحداً ( أى لا يعطيه ) ..، وأما التجار الذين بالحوانيت فإنهم من أول شهر رمضان (875) إلى نصف الشهر المذكور بطّالون ( أى عاطلون ) بسبب بيع تركة الكفيلى بردبك الفارسي.. وإلى الآن ما انتهى المبيع، واتفق أن الأمير شرف الدين موسي بن غريب المتكلم في الوزارة عوضاً عن قاسم ، رمى الجلود التى أخذها منه من المدابغ على الأساكفة الذين بين القصرين وعلى أهل الصليبه: الدرهم بمثله مرتين على ما بلغني ، ( أى باعه لهم قسرا بثمن مضاعف ) ، وغرموا لأعوانه وقربائه ما لا يطيقونه،( أى أرغموهم أيضا على دفع الرشوة )، فأما أساكفة بين الصورين   فإنهم اخذوا الجلود ووعدوهم ببعض الثمن ، وأما أساكفة أهل الصليبة فقد أصبحوا فوقفوا للسلطان فردهم خدام الحوش السلطانى فرجعوا وصعدوا إلى أعلى الجبل المقابل لحوش السلطانى الذى يجلس فيه للخدمة والأحكام واستغاثوا، فسأل السلطان عن أمرهم فأخبروهم بحالهم، فغضب السلطان- نصره الله ــ على ابن غريب وانتهى الأمر بإنصاف الأساكفة.). والفضل لأساكفة الصليبية.. الذين لم يرضوا بالظلم وصمموا على الاحتجاج فأنصفهم السلطان.

2 ــ وتكرر نفس الموقف من تجار الأخفاف أو الأحذية في 8 أو 9 جمادى الآخر 876 ، فقد وقفوا للسلطان يشتكون الوزير لأنه استجد عليهم ضرائب جديدة، فقد كان عليهم في كل شهر أربعمائة درهم فزادها عليهم إلى ثلاثة آلاف، فأمر السلطان الوزير ابن غريب أن يرفع عنهم الزيادة ، وذهبوا لابن غريب فجعل المبلغ ألفاً وخمسمائة درهم فعادوا يستغيثون بالسلطان للمرة الثالثة فيما يحكيه مؤرخنا، فما كان من السلطان إلا ألغى ضرائب الأخفاف مطلقاً، يقول مؤرخنا "فالله ينصره ويحفظه ويخذل أعداءه .. آمين".

عوام وصلوا لمناصب عليا:

1 ــ وبالرشوة وصل بعض أصحاب الحرف من العوام لأعلى المناصب الديوانية في الدولة، وأشهرهم الوزير محمد البباوى الذى تولى الوزارة في ربيع الأول 868 في سلطنة خشقدم. وكان البباوى في الأصل جزارا ً أمياً لا يقرأ ولا يكتب، وعندما تولى الوزارة استحدث ألفاظاً عامية في خطابه مع أرباب الوظائف لديه كأن يقول: اضرب بالقلم بدلاً من أن يقول اكتب، ويقول عنه مؤرخنا أنه : ( صار يتحايل على الناس ويأخذ منهم المال الجزيل بغير طريق شرعي ، ويتكلم بكلام لا يجوز شرعاً ولا عرفاً ولا عادة ولا مادة ولا طبعاً ولا مروءة، وهذا مشهور من الخلائق ).

2 ــ وفي عصر قايتباى تولى نظر الدولة أحد العوام من أتباع البباوى، وقال عنه مؤرخنا:( نظر الدولة بيد شخص عامى لحّام زفورى،( أى جزّار زفر الرائحة )، وكان مقدم الدولة في وزارة البباوى، والجنسية علة الضيم.). ولم يذكر ابن الصيرفي اسم ذلك الرجل وتبدو كراهيته له خصوصاً في عبارته الأخيرة ( والجنسية علة الضيم) التى تعكس إحساس مؤرخنا بالتعالى على البيئة الشعبية التى خيل إليه أنه انفصل عنها واعتبرها "جنسية" أخرى مع أن ابن الصيرفي هو أيضا من العوام الذى وصلوا.

إشاعات العوام:

1 ــ والعوام كانت لهم مشاركتهم في الحياة السياسية عن طريق الإشاعات التى كانوا يطلقونها والتى كان لها أحياناً تأثير إيجابي في تشجيع بعض الطموحين من المماليك على الثورة، وإثارة ( البلبلة السياسية )، وكان يحدث ذلك في فترات الاضطراب السياسي خصوصاً قبل تولى قايتباى السلطة، وتغير الوضع في عصر قايتباى الذى أمسك بزمام الأمور طيلة عهده، ومع ذلك فإن ابن الصيرفي في تعصبه لقايتباى كان يتخوّف من هذه الإشاعات.  خشية على سيّده السلطان قايتباى ، ففي شهر ذى الحجة 885 توجه الأمير قجماس إلى الإسكندرية ثم حضر للقاهرة، وكان العوام قد أشاعوا أنه ذهب للإسكندرية ليعتقل المنصور عثمان بن جقمق وقانصوه الأحمدى الخسيف والمؤيد أحمد بن انيال، ولم يحدث ذلك، ويعلق ابن الصيرفي قائلاً "نعوذ بالله من كلام العامة". ويوم الخميس أواخر جمادى الثانية 873 حدث سوء تفاهم بين السلطان والأمير قرقماس الجلب واجتمع قرقماس بزملائه (خشداشيته) يقول مؤرخنا "فأشاع السخيفو العقول أنه لابد من ركوب- أى ثورة  ــ على السلطان ويأبى الله ذلك والمسلمون.)

2 ــ وقد تأتى الإشاعات على هوى السلطان فيشيد بها ابن الصيرفي، فقد اشيع أنهم قبضوا على شاه سوار، ولم يحدث ذلك، يقول مؤرخنا: ( لم يصح شيء مما قالوه العوام من القبض على شاه سوار ولكن السلطان تفاءل.).

 

 

الفصل الثالث عشر  : أحوال أهل الكتاب فى ظل تطبيق الشريعة السنية فى عصر قايتباى

 

 كان السلطان المملوكى هو الذى يوافق على تعيين البطريرك، ففى أحداث يوم السبت 17 ربيع الأول 877 أن السلطان قايتباى "خلع على البطريرك النصارى الروم الملكيين على العادة عوض عن الذى هلك". ونلاحظ تعصب إبن الصيرفى ضد أهل الكتاب فى قوله عن البطريرك الراحل بقوله (عوض عن الذى هلك ). وتلك هى ثقافة العصر فى ثقافة الشريعة السّنية .

أهل الكتب في المناصب:

1 ـ وكان المجال مفتوحاً أمام أهل الكتاب من الأقباط واليهود في تولى المناصب خصوصا إذا أعلن الاسلام بلسانه . لذا كان منهم من كان يظهر إسلامه ليتقوى مركزه ، وقد يصل الى منصب القضاء ومع ذلك يظل سلوكه كما هو، وذلك ما نلحظه في سيرة القاضى علم الدين إبن الهصيم، يقول عنه مؤرخنا ابن الصيرفي "كان عرباً عن الإسلام كثير الميل إلى دين النصرانية مدمناً على السكر لا يكاد يوجد صاحياً لحظة، ولما تولى البباوى الوزر- أى الوزارة ـــ طلبه وضربه ثلاث علقات في مجلس واحد بسبب أنه لم يشهد صلاة الجمعة ). وقد مات يوم الأحد 7 ربيع الثانى 874 ودفن يوم 10 من نفس الشهر، وصلوا عليه بباب النصر، ويقول عنه ابن الصيرفي : ( ودفن بمقابر المسلمين ، والله أعلم بما هو عليه. !)،  وتولى بعده ابنه القاضى تاج الدين بن الهيصم بدفع الرشوة ليشترى المنصب ، : ( واستقر في استيفاء الخاص عوضاً عن والده في نظير ألف دينار، وكان يتولى مباشرة الوظيفة ولى الذلة النصراني الكاتب المشهور.).

2 ــ وواضح أن هناك عائلات نصرانية احتكرت بعض المناصب وادعى بعضها الإسلام لمجرد الحفاظ على الشكل المطلوب، وإن كان ذلك بالطبع لم يفت على منافسيهم الآخرين كما نلحظ من نبرة ابن الصيرفي في حديثه عن القاضى ابن الهيصم. وبنفس النبرة يقول مؤرخنا عن القاضى ابن سويد الذى جمع بين التجارة والعمل والقضاء، ( وكان معدوداً من فقهاء المالكية ولديه فضيلة وينعت بمال وافر، كان مع هذا المال الجزيل ساقط المروء، مبهدلاَ في الدول كل ذلك لشح كان فيه وبخل زائد وتقتير على عياله ونفسه مع اجتهاد كبير في تحصيل المال)، ونقل مؤرخنا عن المؤرخ أبى المحاسن المملوكى قوله في ابن سويد : ( وطباعه تشبه الأقباط ، حتى قيل لى أن جد أبيه سويد باشر دين النصرانية فعند ذلك تحققت ما تشككت فيه، وعلى كل حال فهو من لا يتأسف أحد على موته.).وابن الصيرفى هنا يستشهد بالمؤرخ أبى المحاسن دون أن ينتقده أو تعترض عليه.!!

التعصب ضد أهل الكتاب:

1 ــ وتتجلّى رائحة تعصب واضحة بين السطور حين يكون أحدهم من مباشرى الدولة الظلمة، وذك مثل ابن زوين كائف الغربية وكان أحد الظلمة في عصره، وذلك شيء عادى في حد ذاته لم يكن يستوجب الإنكار الكبير، ولكن لكونه يهودياً فقد كان له شأن آخر، إذ حدث يوم الاثنين 2 شعبان 876 أن اعترض الأمير تمر الحاجب على تعيين ابن زوين كاشفاً للغربية واتهمه بالظلم والفجور، وتشجع الأمير قانى بك الجمالى وبالغ في سب ابن زوين وقال: ( من يولى هذا اليهودي هذا الكلب على المسلمين.؟!). ولو كان ابن زوين مسلماً لما حدث كل هذا الاعتراض، فلم يكن ابن زوين المشهور وحده بالظلم، بل إن المعترضين عليه كانوا من بين الظلمة، وكأنهم يريدون أن يستأثروا وحدهم بظلم المسلمين.

2 ــ ويبدو أنه كان لليهود بعض مظاهر النفوذ التى نتجت عن تجمعهم، وساعدهم هذا على مواجهة حركات التعصب، وقد حدث أن أخبروا السلطان في أول ربيع الأول 886 أن شخصاً باع جارية حبشية ليهودي ، وأوهموا السلطان إن الجارية مسلمة ، وهذا لا يجوز ، فطلبه السلطان وطلب الشهود واجتمع البائع والمشترى والشهود والجارية أمام السلطان الذى قال للبائع: أنت بعت هذه الجارية لليهودي؟ قال البائع: نعم، وقال السلطان لليهودي: وأنت اشتريت؟ فقال: نعم وقال للشهود: وأنتم أشهم ثم عليهما؟ فقالوا: نعم لأنها أرت أنها يهودية، فقال السلطان للبائع: أنا أعرف أنك جلّاب، وأطلق السلطان سراح الجميع، وانتهى الأمرعلى ذلك، لولا أن حاول وكيل السلطان ابن الصابون أن يستفيد من الموضوع بأن يبتزّ اليهودى فاستدعى اليهودي الذى اشترى الجارية وأوهمه أن القضية لم تنته وأمره بدفع المال له وللسلطان وقال له :( إعمل مصلحة السلطان بألف دينار ولى مائتى دينار وإلا...). وبلغ اليهود ذلك فاتصلوا بأولى الأمر وفضحوا ابن الصابوني وأوصلوا القصة للسلطان الذى استدعى ابن الصابوني وحقق معه فأنكر ذلك وحلف ، وأطلق اليهودى في الحال.

3 ــ وكان التعصب أشد وأوضح في داخل بعض البيئات الشعبية التى أفسدها مناخ العصر. وقد تقترن حكايات التعصب تلك بالأساطير الكرامات والخوارق، فقد روي مؤرخنا في أحداث الأربعاء 22 شوال 876 أنه : ( وقعت حادثة شنيعة غريبة قليلة الوجود والوقوع حُكى ... ) وبعد هذا الاستهلال في وصف الحكاية بالشناعة والندرة يقول مؤرخنا : ( حُكى أن شخصاً من المغاربة كان مقيماً بمسجد يعبد الله ويصلى ويؤذن ويقرأ ، كل ذلك بالمناوات من الجيزية ، على ما تواتر به النقل ، وصار له سُمعة وأبّهة ، فصار أولاد النصاري يسمعون قراءته فيسلموا ، فعزّ ذلك على أهلهم فتحيلوا على المغربي المذكور وخنقوه حتى تدلى لسانه فقطعوه وشقوا بطنه ، وقالوا له أنك تفتن أولادنا ، وحملوه ليلقوه في جُبّ ، فصاروا كلما توجهوا به إلى جُبّ يجدونه مردوماً ، إلى أن سقط في أيديهم ، وقبض عليهم الكاشف وجهّزهم إلى القاهرة ، فتسلمهم الوالى وأحضرهم بين يدى الأمير جانبك بن ططخ الفقيه أمير آخور كبير، فلم يأمر بقتلهم آنذاك حتى يعرضهم على السلطان ،وأمر بسجنهم. وكان العوام لما بلغهم ذلك تجمّعوا وتحزّبوا ورجموهم تحت القلعة إلى أن ماتوا، وقيل أن عدة النصاري ستة نفر ، فأما أحدهم لما شاهد الهول العظيم رفع إصبعيه بالتشهد إشارة إلى أنه أسلم فكفوا عنه وسجنوه، وبلغ السلطان نصره الله ذلك فتغيظ وتكلم معه الأتراك في العوام يقتلون بأيديهم ويمسكون لجام المماليك السلطانية، ويحكمون لأنفسهم ،فازداد غضب السلطان ،ورسم للوالى أن ينادى بالمدينة حسب المرسوم الشريف أن أحداً لا يحكم لنفسه ولا يقبض لجام مملوك وأمثال ذلك.). ونلاحظ أن عنصر التزيد والأساطير واضح في الرواية السابقة في وصف حال المؤذن القتيل وكراماته بعد قتله بحيث أنهم لم يجدوا مكاناَ يدفنونه فيه بعد أن قتلوه. أى إنها أساطير تم خلقها وتم نشرها، وقد شاعت ووصلت للقاهرة وصدقها العوام فيها ، فأثارت حفيظتهم ولم ينتظروا حكم القضاء، وتولوا هم إصدار الحكم وتنفيذه ولو كان الأمر مقنعاً للأمير جانبك أمير آخور الكبير لما انتظر أن يعرضهم على السلطان، وهذا ما نأخذه من رواية مؤرخنا، وهو يقول عن الأمير جانبك "فلم يأمر بقتلهم آنذاك حتى يعرضه على السلطان وأمر بسجنهم".  واغتاظ السلطان وأعوانه من تصرف العوام، ليس لأنهم خرقوا ناموس العدالة الإسلامية ولكن لأنهم خرقوا ناموس السياسة المملوكية التى تجعل القتل والحكم واستعمال السلاح مقصوراً على المماليك دون الشعب فلا يصح للعوام" أن يقتلوا بأيديهم ويمسكوا لجام المماليك السلطانية" لذا نودي في المدينة أن أحداً لا يحكم بنفسه ولا يقبض لجام مملوك" وإلا فإذا كان للشعب حرية استعمال السلاح فلا حاجة إذن لوجود المماليك.. وتلك هى فلسفة الوجود المملوكي.

ولهذا السبب كانت الكراهية متبادلة بين المماليك والأعراب، وقد تنازعا فى سبيل التحكم في المصريين وكلاهما يعرف كيف يستخدم السلاح. وكم عاني أجدادنا المصريون من الفريقين المتنازعين معاً: المماليك والأعراب.

التفاصيل قادمة .

 

 

الفصل الرابع عشر : الأعـــــراب في ظل تطبيق الشريعة السنية فى عصر السلطان قايتباى

 

بداية الصراع بين الأعراب والمماليك:

بدأ الصراع بين المماليك والعُربان منذ بداية الدولة المملوكية، وأخمد المماليك ثورة الشريف حصن الدين ثعلب الذى قال:( نحن أصحاب البلاد )، وقال عن نفسه، ( أنا أحق بالمُلك من المماليك ) ، وقد بلغت قوة الأعراب تحت قيادة حسن الدين ثعلب اثنى عشر ألف فارس، ولكنهم انهزموا أمام قوة المماليك المنظمة، وخدع المماليك البقية التى استسلمت بعد الهزيمة فشنقوهم بعد أن أعطوهم الأمان، وتبدد شمل الأعراب بعدها كما يقول المقريزى فى تاريخ (السلوك). ثم بدءوا في التحرك بعد أن ضعفت السلطة المملوكية في أواخر القرن التاسع وغدوا أصحاب سطوة قبيل سقوط الدولة المملوكية بدءا من عصر قايتباى.ولكن عاملهم قايتباى بكل قسوة وفق شريعته السّنية التى تبيح له ما شاء من أحكام للحفاظ على ( هيبة الدولة ) .

أهم قبائل الأعراب الثائرة في عصر قايتباى:

1  ــ أعاد الأعراب ثوراتهم ضد المماليك في عصر قايتباى، وأهمهم قبائل بنى حرام وسعد وعرب بني عدى وعرب غزالة وعرب لبيد.

2 ــ وقد كان بنو حرام وبنو سعد يثيرون الشغب في البحيرة، فأرسل لهم قايتباى حملات عسكرية وعاقبهم بمنتهى العنف ، وقد انشغل قائد الجيش المملوكى (الأتابك) أزبك بحربهم طيلة عصر قايتباى. وفي يوم الثلاثاء 25 صفر 876 حضر الأتابك أزبك من إحدي غزواته في البحيرة ووصل إلى القاهرة ومعه (19) رجلاً من بنى حرام فوسّطوا (15) رجلاً منهم بباب النصر ، ووسّطوا أربعة بقنطرة الحاجب، وكان بينهم صبي دون البلوغ وقد سألوا في العفو عنه فما أجابهم السلطان. وقد انتقم أعراب بنى سعد وحرام لما حدث فأغاروا ونهبوا عدة قرى وبلاد فأرسل السلطان حملة أخرى لردعهم يتزعمها الأمير تمر حاجب الحجاب.

3 ــ وفي يوم الجمعة 18 ربيع الثاني 876 هرب أحد كبار بنى حرام من سجن الجرائم وهو ابن زامل.

4 ــ وقد وصلت غارات بنى سعد وحرام إلى أطراف القاهرة وبسطوا نفوذهم على أهل خانقاه سرياقوس ( الخانكة حاليا ) وهى تشبه القلعة ومحطة السفر والوصول للقاهرة من ناحية الشرق. وفي 5 ذى القعدة 876 اشتكى أهل الخانقاه لناظر الجوالى ابن عبد الباسط ( ما نزل بهم من عرب بنى حرام، فإنهم أخذوا من كل دار شيئاً معلوماً ومن كل حانوت كذلك ومن كل معصرة كذلك ومن كل طاحون، وجاء ما أخذوه من أهل الخانكاة نحواَ من ثلاثمائة ديناراً وستين دينار، وشاع هذا وتواتر، وصاروا في وجل فإنهم هددوا أنهم أن شكوهم للسلطان ينهبونهم ويقتلونهم.)

5 ــ وحدثت حروب بين بنى حرام وبنى سعد بن وائل، وانهزم بنو حرام وهربوا إلى ظاهر القاهرة ودخلوا الحسينية وقنطرة الحاجب، يقول مؤرخنا : ( وصاروا يشلحون المسافرين والقادمين، وامتنع المسافرون من التوجه للخانقاه وغيرها) ، فأرسل السلطان حملة لمطاردتهم وأمر الأمير قانصوه بالإقامة في الشرقية ليحول بينهم وبين تهديدهم للقاهرة والخانقاه. واعتقل الأمير قانصوه ثلاثة من كبار عرب بى حرام، وكانوا قد تسللوا إلى جوار غيط إبراهيم المتبولى الشيخ الصوفي المشهور، وقام قانصوه بسلخ أولئك الثلاثة وأشهرهم في القاهرة ومعهم أربعة آخرين وأودعهم السجن، ثم صلبهم أياماً ليرتدع بهم المفسدون على حد قول صاحب الهصر. واشترك في الثورة عرب بني عدي، وفي يوم الخميس 14 ربيع الأول 874 كان الداودار الكبير يشوى بالنار أحد مشايخ بنى عدي بعد أن ضربه بالمقارع.

6 ــ وأقام عرب غزالة بالبحيرة وقد انتشر بينهم الطاعون 873 فمات من زعمائهم ثمانون نفراً ، وأدى ذلك إلى خمود ثوراتهم بعض الشيء خصوصاً وأن السلطان أمر كاشف البحيرة بأن يقطع رأس من يقوم منه بالسلب والنهب.

7 ــ أما عرب لبيد فقد وصل الخبر 10 محرم 875 بأنهم نزلوا على البحيرة ونهبوا ما حولها. وقبلها في يوم الأربعاء 17 ربيع الثاني 874 وصل الخبر أن عربان لبيد هجموا على جيش المماليك في البحيرة فاضطر القائد المملوكي يشبك جن إلى الرجوع إلى دمنهور بعد أن قتلوا من مماليكه عدة، فلما بلغ السلطان ذلك أرسل حمله لينصروه، ( وورد الخبر أن الأعراب اقتتلوا مع الداودار الكبير وقتل من الفريقين ما الله أعلم بذلك) . وفي يوم الاثنين 15 محرم 875 سافرت حملة مملوكية يقودها الأتابك أزبك للبحيرة وصحبته كثير من الأمراء للقضاء على خطر أعراب لبيد، حيث كانوا ينهبون الأغلال. وكان أعراب لبيد قد حاصروا الأمير يشبك جن أحد المقدمين الألوف فى دمنهور ، وكان هذا الأمير قد توجه قبل هذا الشهر وصار بدمنهور ( وركب هو وأهل دمنهور الأسوار يرمون السهام والحجارة على أعراب لبيد الذين يحاصرونهم.) ، وأتت الحملة المملوكية لنجدة الأمير يشبك جن بقيادة قائد الجيش المملوكى أزبك ، وكان من الأتابك مجموعة من ألمع الأمراء المماليك مثل أزدمر الطويل وقراجا الطويل وتنبك قرا الدوادار الثاني، مع خمسمائة من المماليك السلطانية، فافترقوا فرقتين ليقبضوا على العربان.

8 ــ ونجح المماليك في إخضاع بعض الأعراب إلى حين ، وعقد محالفات مع البعض الآخر، ولكن كان تلك العلاقات تنتابها الشكوك وسوء النية من الجانبين.

ومثلا اشتهر فى عصر قايتباى الشيخ عيسى بن بقر شيخ عرب الشرقية، وقد قبض عليه الداودار لكبير يشبك من مهدى وأمر بسلخه بين يديه، وبلغ السلطان ذلك فأرسل ابن عبد الباسط يطالب ابن بقر بدفع عشرة آلاف دينار في نظير أن يفتدي نفسه من السلخ، وجاء ابن عبد الباسط فوجد الداودار الكبير قد سلخ من رأس عيسي بن بقر قطعة، ووافق عيسى على أن يدفع فأمهلوه حتى دفع ، وأطلقوا سراحه . وحدث ذلك في يوم الخميس 5 جمادى الثانية 875  أن عاد عيسى إلى عصيانه، فقبضوا عليه وجئ به بين يدى السلطان يوم الأحد 29 ذى القعدة 875 فأمر السلطان بضربه فضربوه ضرباً مبرحاً وأمر بسجنه في المقشرة. وقد كان عيسى بن بقر هذا معيناً من قبل السلطان في نواحى الشرقية ، ولكنه تمرد وأحرق منطقة قطيا وقتل جمعاً من أهلها ، ورفض الامتثال لأوامر السلطان ومقابلة الداودار الكبير، فأرسل السلطان الأمير قانصوه الجمالى الكاشف ليقبض عليه فوقع بينهما قتال ، ثم تمكن قانصوه من القبض عليه بالحيلة ، وجئ به للسلطان  ليلقى جزاءه، وأمر السلطان بتعيين ابن عمه مكانه وهو بقر بن راشد فأصبح شيخاً لأعراب الشرقية ، وأمره قايتباى أن يحاسب عيسى بن بقر على ما في يده من أموال للسلطان . وتسلّم بقر بن راشد ابن عمه عيسي بعد أن أصبح أميراً على أعراب الشرقية من طرف السلطان وذلك يوم الخميس 3 ذى الحجة 875.

9 ــ وتناثرت أخبار الصراع بين الأعراب والمماليك في تاريخ لهصر، ونقتطف منه بعض الأحداث :

ففي يوم السبت 10 شوال 873 سافر الداودار الكبير إلى البحيرة لقتال الأعراب.

وفي يوم الثلاثاء أو محرم 874 دخل الوالى القاهرة وكان له أيام غائباً مع عدة من المماليك للقبض على المفسدين من الأعراب، ورجع ومعه أربعة أعراب ( ماشون في الحديد وعدة من الرماح والخيول.) .

وفي يوم السبت 5 محرم 874 جاءت  للسلطان غنائم من خيول الأعراب المفسدين كانت 130  فرساً بعد أن تم توسيط أصحابها، وأرسلوا عدة منهم في الحديد، وجهزوا أربعة رؤوس آدمية مقطوعة فأشهروها بالقاهرة، وضربوا الأسرى بالمقارع وسجنوهم في سجن الجرائم.

وفي يوم الثلاثاء 8 محرم 874 وصل من عند شيخ الأعراب ( ابن عمر) من الوجه القبلي هدية للسلطان وهى مائتا فرس. وهذا الخبر دليل على وجود نوع من التحالف المؤقت بين بعض الأعراب والمماليك وهو تحالف لم يكن ليدوم.

وفي يوم السبت 19 محرم 874 أرسل الأمير برقوق تسعين رأساً من الخيول للسلطان وكان الأمير برقوق يحارب الأعراب المفسدين في الشرقية، على حد قول مؤرخنا..

وفي يوم الجمعة 7 محرم 875 بعد صلاة الجمعة وصل المبشر من الحجاز المسمى قانصوه الجمالى وهو عريان وليس معه أحد سوى هجّان واحد وذكر أن الأعراب فى صحراء الجزيرة العربية سلبوه وعرّوه، ويذكر مؤرخنا أنهم ( رجعوا به إلى خيبر وأرادوا قتله، فنهضت امرأة منهم وأظهرت أبزازها ) فأنقذته منهم ( وحضر بهذه الحالة.).!!

الريف المصري مسرح الصراع بين المماليك والأعراب:

1 ــ وكان الريف المصري هو مسرح المعارك بين المماليك والأعراب، وتنافس الفريقان على الاستئثار بالريف والتحكم في أهله، وأدى ذلك بالطبع إلى تدمير الريف والعسف بأهله.

في بداية عهد قايتباى قام الأعراب بثورات متتابعة وقد انتهزوا فرصة انشغال قايتباى بثورة شاه سوار، يقول مؤرخنا في أحداث محرم 873 ( وكثُر في هذه الأيام فساد العربان على غالب البلاد القبلية والبحرية حتى أخربوها وكذلك غالب البحيرة. وذلك لاشتغال السلطان بتجهيز العساكر وتكفيتهم بالنفقة لأجل شاه سوار)، يعنى هذا أن ثورات العريان ارتبطت بتخريب البلاد أو حسب تعبير الصيرفي: (كثُر في هذه الأيام فساد العريان على غالب البلاد القبلية والبحرية حتى أخربوها ) ، أى أنهم استولوا على غالب الريف المصري في الدلتا والصعيد، وبالتالى دمروه فى وقت غنشغال قايتباى فى القاهرة بإنفصال شاه سوار عن الدولة المملوكية فى شمال العراق .

2 ـ وهذا التخريب كان يستلزم إصلاحا ، وكان القائم على مواجهة تخريب الأعراب هو أيضا القائم على تعمير ما خرّبه الأعراب . وفي ويم الاثنين 15 ربيع الأول 873 سافر الأتابك أزبك لمواجهة العربان في البحيرة ولتعمير ما أفسدوه وما خربوه، يقول مؤرخنا : ( وفي هذا اليوم سافر الأتابك أزبك بن ططخ بالأمر السلطانى إلى البحيرة لدفع المفسدين من العربان عنها وعمل مصالح الرعية والفلاحين والمزارعين.).

3 ــ وأدت ثورات الأعراب وتخريبها الريف المصرى الى تعطيل جزئى للزراعة مما أدّى إلى قيام الغلاء الفاحش سنة 873 يقول ابن الصيرفي ( وأصل هذا الغلاء استيلاء العربان على أسفل مصر من الوجه البحري. ).ثم عاد الأتابك أزبك من البحيرة ووصل القاهرة يوم الاثنين 13 ربيع ثاني 873 بعد أن أدب الأعراب وأعاد الطمأنينة لريف البحيرة يقول مؤرخنا: ( قدم الأتابك أزبك بن ططخ من البحيرة بعد أن وطنها ووطن أهلها وعمل مصالحهم.). ثم عاد الأعراب من لبيد يخربون ريف البحيرة وقد اشتد خطرهم وسلبوا غلال الفلاحين، فسافر لهم الأتابكي أزبك في 15 محرم 875 وفي خدمته عدة كثيرة من الأمراء، يقول ابن الصيرفي ( بسبب عربان لبيد فإنهم نزلوا على أخد غلال الناس ). وجاء عام 875 وقد خضع أعراب البحيرة للقائد أزبك الذى أرسل للقاهرة بأن الأعراب أرسلوا له هديتهم دليل الخضوع للدولة ، وأنه شرط عليهم أن لا يقيموا في ريف البحيرة أكثر من عشرين يوماً ثم عليهم أن يرحلوا. وانتهت مؤقتاً مشكلة أعراب البحيرة وتخريبهم فيها. وسافر الأتابك أزبك إلى البحيرة يوم الأحد 21 ربيع ثاني 876 ( لتخضير البحيرة ) ، أى نشر الزرع الأخضر فيها بعد أن دمرها الأعراب. ثم وصل أزبك من البحيرة للقاهرة ليلة السبت 25 جمادى الأول 876 ولم يكتمل تخضير البحيرة، يقول مؤرخنا يعلل السبب: (... مما صنع فيهم ابن غريب من الظلم في العام الماضى من القياس)، أى أن الظلم المملوكي أعاق مجهودات المماليك في التعمير والتخضير والفلاحين كانوا يعيشون بين تخريب الأعراب وظلم المماليك.

4 ــ وإذا تركنا أعراب لبيد والبحيرة وجدنا إخوانهم من أعراب غزال يفعلون أموراً شنيعة من الفساد والنهب وأمثال ذلك على حد قول مؤرخنا مما دفع قايتباى لأن يأمر الكشاف، أو حكام الأقاليم بتعقبهم وقتل المفسدين منهم. وكانت الشرقية مرتعاً لفساد الأعرب من بنى سعد ووائل ، فأرسل إليهم قايتباى الأمير تمر حاج الحجاب بحملة يوم الأحد 6 من ذى الحجة 875 يقول مؤرخنا : ( لأجل ردع العربان المفسدين الذين ملأوا البلاد العباد فساداً من نهب وعري وقتل وهم سعد ووائل وأحرموا الطير يطير فبلغ خبرهم السلطان فرسم للأمير المذكور بالتوجه لردعهم وتطمين البلاد وكتب مراسيم شريفة للكشاف بالتوجه في خدمته وكذلك لمشايخ العربان. )، وواضح أن هناك مشايخ للعُربان كانوا تحت طاعة السلطان، وأن العُربان الآخرين الثائرين كانوا يمارسون قطع الطريق والنهب والقتل وتعربة المسافرين حتى أحرموا الطير يطير على حد قول صاحبنا، مما جعل أجدادنا في الشرقية يعيشون في هلع وخوف دفع السلطان لإرسال حملة لتطمين البلاد.

وسبق أن عرضنا لشيخ الأعراب في الشرقية عيسى بن بقر الذى دخل في طاعة السلطان ثم تمرد عليه وأخرب قطباً وأحرق أشجارها وقتا منها جمعاً ورفض مقابلة الداودار الكبير مما جعل السلطان يرسل له حمله تمكنت بعد قتال من أسره وتولى بقر بن راشد إمام أعراب الشرقية من لدن المماليك عوضاً عن عيسي بعد أسره وعزله وذلك بتاريخ الأحد 29 ذى القعدة 875.

5 ــ ولم يخضع أعراب الشرقية تماما للسلطة المملوكية إذ تزعمهم موسي بن عمران ( الذى خرّب البلاد وأظهر الفساد وشاع صيته بأنه غاية في قتل النفس وأخذ الأموال وعجز عن تحصيله مشايخ العرب والكشاف، فرسم السلطان بالقبض عليه وعلى شخص من مقولته يعرف بأبى طاجن وعدة من المفسدين).  وتمكن الأتابك أزبك من قيادة حملة يعاونه فيها حاجب الحجاب تمر إلى الشرقية ونجحت هذه الحملة في القبض على موسي بن عمران وأبى طاجن وثلاثين رجلاً من أعوانهما، ودخل بهم القاهرة يوم الأربعاء 12 صفر 876. وفي يوم الخميس 13 صفر عرضوا على السلطان موسى بن عمران وضربوه بين يديه بالمقارع ضرباً مبرحاً، وأمر السلطان بقطع أيدى اثنين من المشاة كانوا يرمون النشاب بين يديه ، كما أمر بتوسيط شيخ يسمى الجذيمى كان متخصصا عنده فى قتل الأسرى من المسلمين.

6 ـ وبسبب موقعها فى مدخل القاهرة من ناحية الشرق وكونها محطة إستراحة للمسافرين من و إلى القاهرة فقد عانى سكان الخانقاه (سرياقوس) من تخريب الأعراب، يقول مؤرخنا:( وقد بلغنى من غير واحد أنّ عرب بنى حرام زاد فسادهم وطغيانهم بالخانقاه وأعمالها وأخذوا من الناس)،أى أسروهم ( وأخذوا من المال شيئاً كثيراً جبوه على الحوانيت والدور وفعلوا ما لا يليق، فاتفق أن عربان الخانكاة الطائعين أرسلوا طلبوا من عرب عظيم الدنيا الداودار الكبير الذين حضروا في خدمته من الوجه القبلي المعروفين بغزالة نحو من مائتى فارس ليحفظوا الخانكاة ويحاربوا بنى حرام ويحتاطوا على موجودهم )، أى طلبوا العون من الأعراب الخاضعين للداودار الكبير فى الصعيد. ويقول مؤرخنا عما يفعله بنو حرام بالمسافرين إلى الخانكاة : ( وأما غالب من يتوج إلى الخانكاة وأعمالها أو يحضر منها فيسلخونه وينهبونه ويأخذون ما معه)، أى لا يكتفون بالسلب والنهب للمسافرين الأبرياء وإنما يسلخونه أيضاً.  وحضر المقر الزينى أبو بكر بن عبد الباسط من سفره بالشرقية ومرّ من الخانكاة وأراد بنو حرام الفتك به فقام من وقته ودخل الخانكاة فبات بها.

تطرف الأعراب والمماليك فى الظلم والتخريب

وواضح أن المماليك والأعراب كانوا في صراعهم الدامى يتبعون ما يعرف الآن بسياسة الأراضي المحروقة، وأخذ البرئ بذنب المذنب، مما نتج عنه ضياع الكثيرين من الأبرياء من أهل الريف ومن الأعراب أيضاً، وقد ذهب الداودار الكبير بحملة قوية لردع أعراب الصعيد وعاد للقاهرة يوم الجمعة 22 جمادى الأولى 873 ومعه أسرى من نوع مختلف: نساء الأعراب وأولادهم . يقول مؤرخنا ابن الصيرفي : ( قدم المقر الأشرف المعظّم المفخّم عظيم الدنيا ومشيرها ووزيرها وداودارها الكبير وصاحب حلها وعقدها من بلاد الصعيد وصحبته عدة من العربان ونسائهم وأولادهم نحو أربعمائة نفر ، ففرقوهم على الحبوس، فذلك ذنب عقابه فيه).

تطرف ابن الصيرفى فى الدفاع عن ظلم المماليك

ابن الصيرفي بعد أن أضاف الألقاب الضخمة على ذلك الداودار لم ير بأساً في أسر النساء والصبيان لأن عنده أن ذلك ذنب عقابه فيه. لم يكتف بذلك بل إنبرى ابن الصيرفي للرد على المؤرخ سليل الأسرة المملوكية أبو المحاسن ابن تغرى بردى والذى كان على منهج استاذه المقريزى فى إنتقاد المماليك ، وقد ذكر ابو المحاسن فى تاريخه حملة يشبك ، ولم يطلق عليه ألقاب التعظيم مثلما يفعل ابن الصيرفى ، وإنتقده . فلم يعجب ابن الصيرفى هذا الانتقاد فنقله وقام بالرد عليه بسخافة . يقول مؤرخنا الخائب إبن الصيرفى: ( وقال الجمال يوسف بن تغري بردى المؤرخ في تاريخه عند ذكر قدوم الأمير المذكور دامت نعمته وسعادته : " وصل الأمير يشبك الداودار من بلاد الصعيد بعد ما نهب أهلها وبدّد شملهم وأخرب عدة قرى من شرق بلاد الصعيد ، وأحضر معه من نسائهم وأولادهم أكثر من أربعمائة امرأة إلى ساحل بولاق في المراكب، هذا بعد أن مات منهم عدة كثيرة من الجوع والبرد ، وجعلهم في وكالة الأتابك قانم ، فاشترى لهم بعض الناس إردبي فول صحيح ورماه لهم، فأكلوا في الحال من شدة الجوع والحاجة، ثم شرع أهل الخير في الصدقة عليهم بقدر حالهم. وبواسطة تعويقهم ( أى بسبب أسرهم سبايا ) شرع أزواجهم في قطع الطريق وأخذوا بعض مراكب الغلال القادمة من بلاد الصعيد ونهبوا ما فيها ثم أحرقوا المراكب، وقيل أنهم فعلوا ذلك بعدة مراكب. وبهذا المقتضى ارتفع سعر القمح وغيره من الغلات. فما شاء الله كان . وفي الجملة فإن سفرة الداودار إلى الصعيد في هذه المدة كان فيها مصالح ومفاسد، فمن المصالح قتل ابن جامع وسلخه وجماعة أخر ونهب بنى هلبا المذكورين فإنهم كانوا أشر من كان، ومن المفاسد خراب البلاد التى كانت بنوه هلبا تأوى إليها وحضور هذه النسوة إلى القاهرة."".). ويرد مؤرخنا على مقالة أبن المحاسن مدافعا عن يشبك وتخريبه للصعيد فيقول: ( قلت: ولولاً وجود مثل هذا الملك الذى حُرمته ملأت الأقطار على رؤوس الأشهاد وسفره إلى الوجه القبلي وتمهيده وتنظيفه من المفسدين وردعهم بالقتل والنهب وأمثال ذلك لرأينا ما لا يطاق وصفه.). وابن الصيرفي ينسى في دفاعه الحار أن النسوة وأطفالهن لا ذنب لهم فيما يحدث سواء كانوا من نساء المماليك أم نساء الأعراب، وكان ينبغي على المؤرخ القاضي أن يتذكر أنه لا تزر وازرة وزر أخرى.

ولكن أبن الصيرفى يفكّر ويكتب من موقعه كقاض فى الشريعة السّنية التى تؤلّه المستبد وتنافقه وتوافقه . ومن هنا إختلف موقفه عن المؤرخ المملوكى جمال الدين أبى المحاسن إبن تغرى بردى الذى لم يكن قاضيا ، فكتب بحرية ينتقد الظلم من رؤيته كانسان ، ولم يكن مقيدا بالشرع السّنى ومقتضياته.

وأخيرا فالمؤرخ ابن الصيرفى يذكّرنا بأزمتنا مع القائمين على الاعلام الحكومى فى مصر وبلاد العرب ..!! 

 

الفصل الخامس عشر : معاناة أهل الريف في ظل تطبيق الشريعة السنية فى عصر السلطان قايتباى

 

مكانة أهل الريف عند المماليك:

طبقا للشريعة السّنية فى العصر المملوكى كان الفلاح المصرى فى درجة الرقيق؛لا يستطيع مفارقة الأرض أو ما يعبر عنه بالفلاح القرارى أى المستقر في الأرض مثل الدواب، وكان الفلاح في الاقطاعات المملوكية عبداً لصاحب الإقطاع إلا أنه لم يكن يباع أو يشترى بل هو رهين الأرض هو وأولاده، ومن كان يهرب من الفلاحين من الأرض كانت السلطات تعيده إلى الفلاحه ويلزم "بشد الفلاحة" ويتعرض للعقوبة الشديدة هو من سهّل له الفرار أو آواه. وكان الفلاح يتمنى أن يهرب إلى المدن حتى يرتفع إلى درجة العوام أو حرافيش القاهرة مع المكانة المتدنية للعوام فى القاهرة ، بدليل أن الناصر محمد بن قلاوون منع أثرياء العوام القاهريين من اقتناء العبيد حتى لا يتشبهوا بالسادة من المماليك وأرباب الوظائف، فأمر حاجبه بأن ينادي بألا يباع مملوك تركي لعامي ومن كان عنده مملوك فليبيعه ومن عثر عليه بعد ذلك عنده مملوك فلا يلومّن إلا نفسه.!. كانت منزلة الفلاح أسوأ، فلم يستسغ السلطان صالح القلاوونى أن يركب الفلاحون الخيول أو يشتروها، فأمر سنة 754 بأن فلاحاً لا يركب فرساً ولا يشترى فرساً. وكانت هذه فكرة عامة عن نظرة المماليك لأجدادنا أهل الريف.

إرهاب المماليك للفلاحين:

1 ــ ومع الطبيعة المسالمة للفلاح المصرى وشهرته بالصبر على الظلم ومعايشته له بالتى هى أحسن ، ومع إدراك المماليك أنه لا خوف عليهم من ثورة الفلاح المصرى مهما إستطالوا عليه بالظلم إلّا أنّ المماليك كانوا يتفننون في إرهاب الفلاحين ليضمنوا تسخيرهم في الأرض بلا شكوى،وحتى يستمر الفلاّح فى إمداد مصر بقوتها اليومى بالعصا والتعذيب . يقول المقريزي عن الأمير أيدمر الشمسي سنة 702 الذى تولى الشرقية والغربية: ( أنه كان يعذب أهل الفساد بأنواع قبيحة من العذاب منها أنه كان يغرس خازوقاً ويجعل رأسه قائماً وبجانبه صار كبير يعلق فيه الرجل ثم يسقطه فيسقط على الخازوق فيدخل فيه الخازوق ويخرج منه، ولم يجرؤ أحد من الفلاحين بالغربية والشرقية في أيامه أن يلبس مئزراً أسود ولا يركب فرساً ولا يتقلد سيفاً ولا يحمل عصا مجلبة بحديد. ). ( أهل الفساد ) فى تعبير العصر هو الثائر على المماليك بالحقّ أم بالباطل . كان مصيره تعذيب هائل ، ويتم هذا التعذيب أمام أعين الفلاحين لارهابهم .

2 ــ حتى إذا جئنا إلى عصر قايتباى وجدنا المماليك يتنافسون مع الأعراب في إيذاء الفلاح وتدمير بلاده. ومؤرخنا المصري مولداً ونسباً المملوكي هوى وتعصباً ابن الصيرفي أشار بين سطور كتابه لبعض أحوال أجدادنا في الريف في سياق كلامه عن تحركات أسياده المماليك، ونعرض لبعض هذه الأخبار لنتحسس منها بعض أحوال أجدادنا الغلابة.

3 ــ في يوم الخميس 13 ربيع الثاني 873 عين السلطان الأمير سودون الأفرم كاشفاً للشرقية وعير الأمير تمراز الأشرفي كاشفاً للغربية.وفي يوم الخميس 21 جمادى الأول 873 سافر الأمير تمراز إلى الغربية ومعه تجريده لردع المفسدين من الأعراب وكشف أحوال الجسور، وتوجه للمحلة وأقام بها.وفي شهر جمادى الآخرة فشا الطاعون في البحيرة والغربية. أى كان قدم الأمير تمراز مبشراً بالطاعون، وربما حمله معه من القاهرة إلى أجدادنا في الوجه البحري.

4 ــ وفي شهر ذى الحجة ولى السلطان الأمير برقوق الناصري أحد مقدمي الألوف كشف الشرقية ( الكاشف يعنى المحافظ فى عصرنا ) وتوجه برقوق للشرقية وأقام له نائباً يسمى جانم، فمهّد البلاد وقمع المفسدين من الأعراب. وفي يوم السبت 5 محرم 874 أرسل برقوق الناصري كاشف الشرقية للسلطان 130 من فرسان الأعراب بعد أن وسّطهم وأرسل عدداً منهم معتقلين في الحديد. وفي يوم السبت 19 محرم 874 أرسل برقوق الناصري تسعين رأساً من الخيول العربية للسلطان فأهدى منها السلطان إحدى وعشرين للداودار الكبير، وكانت الشرقية ــ  ولا تزال ــ تشتهر بالخيول العربية الأصيلة. ونظزاً لكفاءة الأمير برقوق الناصري في ولايته على الشرقية فقد رقاه السلطان ليكون والياً على الشام وصدر القرار بنيابته على الشام يوم الخميس 19 صفر 875، يقول ابن الصيرفي : ( وأعجب من هذا أنه نقل من كشف التراب بالشرقية إلى نيابة الشام.) أى إنتقل من منصب محافظ الشرقية الى منصب والى الشام .

5 ــ ونعود إلى الأمير تمراز الشمسي وهو بالمناسبة ابن أخت السلطان قايتباى لنرى مؤرخنا ابن الصيرفي يؤرخ حضوره للقاهرة يوم الاثنين 19 ربيع الثانى 875 وقد انتهى من عمارة الجسور فخلع عليه السلطان وأكرمه وأوكب له موكباً عظيماً وزاره الأعيان والأمراء.

6 ــ وبعد وصول تمراز الشمسي واستقراره في القاهرة عيّن السلطان مكانه في كشف الغربية علاء الدين ابن زوين، ويبدو أن ابن زوين أراد أن يجتهد في مطاردة الأعراب ليحظي عند السلطان كما حظى الأمير برقوق الناصري الذى كافأه السلطان على جهوده في الشرقية بتعيينه نائباً له على الشام، لذا وصل ابن زوين للقاهرة ومعه رؤوس لأعراب مقطوعه ومعه أحد كبار الأعراب وهو عبد القادر بن حمزه وقد سلخه ابن زوين وحشى جلده قطناً وأشهرهم في القاهرة في طريقه ليعرضهم على السلطان، واتفق من سوء حظه أن ذلك الشخص المسلوخ عبد القادر بن حمزه الأعرابي كان لا يزال به رمق وهو من أصدقاء الأمير تمراز الشمسي، وتصادف أن رآه تمراز الشمسي وهم يشهرونه في الشوارع فغضب الأمير تمراز وتدخل لإنقاذ صديقه المسلوخ فزاحمه بعض مماليك الدوادار الكبير ممن كانوا في الموكب فاشتد غضب تمراز وضرب المماليك بالدبوس، وكادت تحدث فتنه  لولا تدخل الأمير جانبك قلقسيز.

7 ــ وصار ابن زوين يتحكم في الغربية كيف شاءت له شريعة عصره السّنية. وحدث يوم السبت 17 جمادى الآخرة 876 أن وقف جماعة من فلاحى المحلة للسلطان يشكون له من ظلم ابن زوين، يقول مؤرخنا القاضى المملوكي عنهم :( وتكلموا ما لا يليق وطُلب منهم بينة فأجابوا أن ما لهم بينة ، فضربوا على أكتافهم ،وانصرفوا.).!!. كانوا فلاحين غلابة لا يعرفون الاتيكيت في خطاب الملوك ولا يعرفون أصول النفاق في الحديث فتكلموا بصراحة عن أوجاعهم، ولم يعجب ذلك مؤرخنا فقال عنهم أنهم تكلموا بما لا يليق، وهل هناك متسع في صدر المظلوم لكى يشدو بألحان سارة أمام الظلمة ليسعدهم بما يليق.ولأنهم فلاحون قليلو الحيلة فلم يجدواً من يشهد معهم أو ينصرهم أو يعطيهم بينة، وكيف لهم أن يحصلوا على بينة وهم أميون لا يعرفون القراءة والكتابة، لذا استحقوا في النهاية أن يأخذوا طريحة على أكتافهم وينصرفوا بالسلامة.

وكل عام وأنتم بخير..

8 ــ إلا أن الشكاوى توالت من ظلم ابن زوين . وفي نوبة العدل والإنصاف التى أصابت السلطان حين برم بإنحلال قضاته وتصدى وحده للقضاء، وقتها كان ابن زوين زبوناً مستمراً في قفص الاتهام أمام السلطان.

وفي يوم الأربعاء 17 رجب 876 صادر السلطان ممتلكات ابن زوين التى نهبها من الفلاحين وغيرهم ، وأحضروها لقايتباى فأخذ ( أحسن ما فيها لنفسه ورد عليه أخس ما فيها.).وكان السبب في نكبة ابن زوين أحد أتباعه الذى ضربه ابن زوين وأهانه وأذلّه فعرف كيف يتصل بالوزير ابن غريب ويحسّن للسلطان مصادرة ممتلكات ابن زوين.

9 ــ وكان كشف الوجه القبلي تابعاً للداودار الكبير يشبك بن مهدي، وكان من ضمن ألقابه "ملك الأمراء بالوجه القبلي والوجه البحري" وكان الداودار الكبير يسافر في حملات روتينية للصعيد يقمع فيها ثورات الأعراب ويستولى لنفسه وللسلطان على خيرات الوجه القبلي ويعود بها للقاهرة. وفي يوم الاثنين 7 محرم 874 وصل الداودار الكبير من الوجه القبلي وصعد السلطان فخلع عليه . وفي يوم الثلاثاء 8 محرم 874 وصل إلى الوجه القبلي من عند ابن عمر هدية السلطان وهى 200 فرس ليعينهم السلطان قائمين على جباية الخراج.وحضر شخص من شيوخ الصوفية فى الوجه القبلي إلى الداودار الكبير وسأله في إطلاق شخص من أولاد ابن عمير كان محبوساً فأطلقه الداودار إكراماً لذلك الرجل. وسافر الداودار الكبير في حملة للصعيد يوم السبت 26 محرم 874، ووصلت الأخبار من الوجه القبلي أن القمح وصل ثمنه بها إلى 600 درهم الأردب وأنه عزيز الوجود وأن الوباء انتقل من البقر للبشر، وبدأ تحرك الداودار للسفر للصعيد يوم الثلاثاء 28 محرم 874، ووصل إلى منفلوط . ووصل الخبز بذلك يوم الجمعة 26 صفر، وأخبروا أن الحملة كابدت مشقة زائدة وغرق للدودار مركب قمح فيها 3 ألاف أردب، ثم بعث الداودار يخبر السلطان بأن الأعراب في الصعيد يرفضون تأدية الخراج وأن البلاء عمّ البلاد والعباد.ثم قدم الداودار من الصعيد فوصل القاهرة يوم الاثنين 24 شعبان 874 بعد غياب استمر سبعة شهور، وصعد السلطان فخلع عليه السلطان، وكلن له موكب عظيم، وقدّم الداودار هدية للسلطان من خبرات الصعيد الذي يعانى المجاعة. وكانت هذه الهدية 200 ألف دينار نقداً وعشرين ألف أردب شعير وغير ذلك.

وهذا أكثر مما كان يطمع فيه الأعراب.فكلا الفريقين ( المماليك والأعراب ) يتنازعون من أجل استنزاف دماء المصريين وخصوصا الفلاحين ، وكذلك كانوا يفعلون. إلا أنه ــ والحق يقال ــ فالمماليك كانوا أكثر حرصاُ من الأعراب على بناء الجسور والسدود وشق الترع، وذلك لأنهم كانوا القائمين في الحكم فعلاً، أما الأعراب فقد برعوا في التدمير والسلب والنهب.

إصلاحات قايتباى للريف:

1 ــ في يوم الثلاثاء بعد العصر 21 صفر 877 يروى مؤرخنا أنه ركب السلطان من قلعة الجبل، وتوجه للقبة ( قبة الأمير يشبك الداودار الكبير ) التى بالمطرية ( ومكانها الآن ميدان حدائق القبة ) وتوجه منها للقرين في الشرقية، وكان قد أنشأ هناك حوضاً وسبيلاً. ثم وصل الخبر للقاهرة عن السلطان أنه توجه على جسر بلبيس وأهان كاشف بلبيس وحثّه على عمارة الجسور ، وتوجه نحو شبين وغيرها ، ( لعمل مصالح الجسور والعباد وإزالة الظلم والفساد )على حد قول مؤرخنا.والأمير تغري بردى الذى تولى الاستادارية الكبري بعد موت الداودار الكبير طلع السلطان يوم الاثنين 13 ذى الحجة 885 ومعه جماعة من الفلاحين وشاوره عليهم في عمل مصالحهم فأجاب سؤاله.

2  ــ ويحق لنا حين تقرأ هذين الخبرين اليتيمين في تاريخ الهصر أن نستبشر خيراً ونتأكد من أن السلطان كان مع عسفه وطمعه يهتم بتسمين البقرة من أجل مصلحته هو لا من أجل البقرة بالطبع . فالفلاح المصري كان دودة الأرض يلتصق بترابها يعمل ويكد ثم يتحول فيها إلى شرنقة ترابية تزيد خصوبة الأرض وخيراتها ليأكلها الظلمة الوافدون.

قايتباى يتنزه في الريف ويزيد من معاناة أهله:

1 ــ وكان السلطان قايتباى مغرماً بالتنزه في الريف، وكان الريف يدفع ثمن هذه الهواية، وقد تقترن إحدى النزهات بإحدى المهام السلطانية مثل التفتيش على الجيش أو للاطمئنان على أحوال البلاد وتنمية البقرة الحلوب لامتصاص أكبر قدر من خيرها. في يوم الأحد 16 ذى القعدة 873 يقول مؤرخنا ابن الصيرفي ( ركب السلطان من قلعة الجبل وسافر لجهة البحيرة على حين غفلة ولم يعلم أحداً بنزوله ولا بسفره إلا بعد عشاء الآخرة، فعدي النيل بعد العشاء من بولاق وسافر من فوره، وصار الخلق يتبعونه أفواجاً أفواجاً وأرسالاً أرسالاً.. واستمر السلطان سابقاً بعسف وسوق وسرعة.. حتى وصل إلى النجيلة حيث أقام عظيم الدنيا يشبك بن مهدى فدخل عليه ليلاُ وهو نائم على غفلة ، فذعر الأمير يشبك المذكور لما رآه ، ثم سكن خبره ، وأقام عنده يومين ، وتوجه إلى جهة الغربية ، وقدمت له التقادم ( أى الهدايا ) فقبلها ، وأقام دون الثلاثة أيام ، ثم رجع إلى جهة الشرقية.). وبينما أسهب مؤرخنا في وصف سير السلطان في الريف فإنه أشار إشارة موجزة إلى قبوله للهدايا أو التقادم، وكانت هذه الهدايا مصادرات من عرق الفلاحين ودمائهم.

ولم يكتف مؤرخنا بهذا الإغفال المتعمد لتلك المصادرات التى يقوم بها السلطان بسيف الحياء وإنما أورد رأى المؤرخ جمال الدين أبى المحاسن وتولى الرد عليه لأنه انتقد السلطان وما فعلته رحلته تلك بالريف. يقول مؤرخنا الخائب المنافق:(  وقال الجمال يوسف بن تغري بردى المؤرخ في تاريخه: ولم يظهر لسفره في هذه الأقاليم الثلاثة نتيجة بل شمل الخراب غالب قراهم من النهب والكلف ولم يفتكوا بمفسد ولا ردعوا قاطع طريق بل كان دأبه أخذ التقادم (الهدايا) والانتقال من بلد إلى آخر من غير فائدة بل الضرر الشامل، فلما علم المفسدون منه ذلك طغوا في الناس وزاد شرهم وقطعوا الطريق وأخافوا السبيل ، حتى أن بعضهم كان يفعل ذلك بقرب وطاق السلطان مع بعض حواشيه وأعوانه، وهو فيما هو فيه ، فوقع بذلك غاية الوهن في المملكة ،وقاسي الناس من ظلم العرب (الأعراب) لهم وقالوا "إذا كان السلطان ما زال ذلك عنا فمن بقي يزيله"). ويقول مؤرخنا بالرد على جمال الدين أبى المحاسن والدفاع عن السلطان: ( قلت : هذا الذى ذكره الجمال مردود من وجوه: لأن السلطان نصره الله إذا توجه بنفسه إلى بلد ضرورة أن أهل تلك البلاد من المفسدين وغيرهم يفرون منه، فإن الكاشف أو الوالي إذا قصدهم يفرون منه فضلاً عن السلطان، بل سفره طمّن البلاد والعباد نصره الله . )  ثم يقول ( وطالت إقامة السلطان نصره الله بالشرقية.)

وحلّ عيد الأضحى بالقاهرة والسلطان لا يزال في الريف، ويعبر مؤرخنا المنافق عن شعوره باللوعة بوجود السلطان بعيداً عنه فيقول : ( وكان هذا العيد أشبه الأشياء بالمآتم لما طرق الخلق من الحزن والكآبة وقبض الخاطر وافتقر بسبب هذا الغلاء خلائق من الأعيان وغيرهم لطول مكثه ( أى السلطان ) بالديار المصرية ( أى الريف) ) وذكر ابن الصيرفى رأى المؤرخ جمال الدين أبى المحاسن : ( وقال الجمال يوسف بن تغري بردي المؤرخ في تاريخه "هذا والسلطان دائر بتلك الأقاليم في هوى نفسه وأنه أخذ الأموال والتقادم من الناس حتى من كبار فلاحى البلاد ، ويتوجه بنفسه إليهم حتى يأخذ تقدمتهم، ولم يكن في سفرة السلطان هذه مصلحة من المصالح ، بل المضرة الزائدة ولاسيما على الفلاحين وأهل القري، فإنهم شملهم ضرر الأعوان والضربة لأخذ الأحطاب، وكانوا إذا لم يجدوا حطباً أخذوا أبواب البيوت ، وفعلوا ذلك بغالب الأرياف والطواحين ، وبالغوا حتى قالوا فعلوا ذلك بأبواب المساجد.).! ولم يتحرك وجدان ابن الصيرفي لهذه الأخبار التى أوردها المؤرخ أبو المحاسن المملوكي الأصل والتى استقاها من أصدقائه من داخل المجتمع المملوكي نفسه، ولم ينف ابن الصيرفي هذه الأخبار وإنما انطلق يقسم بالله كاذباً ــ  وهو القاضى ــ في غمرة دفاعه المقيت عن سلطانه قايتباى يقول ردا على المؤرخ أبى المحاسن:( قلت: أقسم بالله لولا وجود هذا السلطان نصره الله في الوجود وحرمته التى ملأت الأقطار والأمصار ودوسه ابلاد وإرساله التجاريد ويقظته التامة لرأى الناس والعياذ بالله الموت عيانا".)..

ومات المؤرخ أبو المحاسن بن تغري بردي سنة 874 فحرمنا من أخباره ونقده للسلطان وانفرد مؤرخنا ابن الصيرفي بالساحة يسجل الأحداث بالطريقة التى تحلو له في دفاعه عن سيده السلطان، ومن ذلك أنه يروى نزهة للسلطان قام بها يوم الجمعة 10 ربيع الأول 875 وذكر ما استهلكه السلطان من هدايا، ولم يذكر بالطبع ما ارتبط بذلك من ضرر ونهب للفلاحين.يقول مؤرخنا : ( وكان السلطان نصره الله عزم في يوم الجمعة ـــ الذى هو العاشرـــ أن يتوجه إلى خليج الزعفران ويقيم به ثلاثة أيام للتفرج والتنزه، وجهز له المقر الأشرف الكريم العالم أمير داودار الكبير ـ دامت سعادته يشبك من مهدى ــ من الأغنام المعاليف (أى السمينة ) عشرين معلوفاً سعر سبعة دنانير الواحد ومن البداري خمسون بدرياً ومن الحلوى ثمانية قناطير ومن السكر ستة قناطير ومن الأرز والدجاج المعلوف ما قيمته مائة دينار وغير ذلك. وجهز المباشرون تقادمهم من سكر وحلوى وفاكهة وأرز ودجاج وغنم ومعاليف، وجهز أيضاَ المقر الزينى أبو بكر بن المقر المرحوم الزينى عبد الباسط عشرين معلوفاُ وفاكهة وحلوى وسكراً، فاقتضى الحال أن السلطان ركب يوم الجمعة بكرة النهار فسيرَّ ورجع إلى القلعة وبطل الفرجة.). فأرباب الوظائف وهم أرباب الظلم جهزوا للسلطان كل هذه الأطعمة من عرق الفلاح المصري الذى لم يتخيل حتى في الأحلام أن تؤخذ له صورة بجانب تلك الأكداس الشهية التى يسيل لها لعاب عدة بلاد من الفلاحين الجوعى. وعاد السلطان إلى نزهته تلك يوم الثلاثاء 14 ربيع الأول وظل فيها إلى يوم الجمعة 17 ربيع الأول حيث عاد للقلعة وصلى الجمعة بها بعد أن ذبحت له الذبائح من الأبقار المسمنة والأغنام المعاليف والحلوي والسكر والفاكهة، على حدّ قول مؤرخنا الذى يذكر ( وحتى من جملة ما صرفه عظيم الدنيا الداودار الكبير حفظه الله ألف دينار وقس على هذا المباشرين بأجمعهم، غير أن شخصاً مسجوناً بسجن الجرائم مشهوراً بالأذى والنحس كان قبض عليه من مدة فهرب من السجن ثم حصِّل ( أى قبضوا عليه) فرسم السلطان بكحل عينيه.).!.فالسلطان ذبحوا له الذبائح المسمنة مع الحلوى والسكر والفواكه وكان وقتاً سعيداً عند مؤرخنا ابن الصيرفي أن يتمتع السلطان بكل ذلك لولا أن شخصاً هرب من السجن ثم اعتقلوه وأمر السلطان بكحل عينيه بالحديد المحمى بالنار حتى فقد نظره كي لا يستطيع الهرب، ونقم مؤرخنا على ذلك السجين الهارب لأنه عكر صفو الحفل بهروبه وما كان ينبغى له أن يفعل حتى لا يتعكر مزاج السلطان ومؤرخه ( الملّاكى ) ابن الصيرفي.

الأعراب الذين يسرقون الريف بمباركة المماليك:

وكان الأعراب الثائرون على قايتباى يطمحون في التمتع مثله بخير الريف، وينكرون عليه أن يستأثر من دونه بذلك. وبعض الأعراب كان أبعد نظراً فتحالف مع السلطان وعمل في خدمته فكان يسلب الفلاحين باسم السلطان مثل باقى أرباب الوظائف والكشاف، أى حكام الأقاليم، وأولئك الأعراب الذين يسرقون الفلاحين بمباركة السلطان كان السلطان يزورهم في أماكنهم ليشاركهم الغنائم ويأخذ منهم التقادم والهدايا.

فى يوم السبت 21 شعبان 876 ركب السلطان من قلعة الجبل وتوجه إلى الجيزة لخيوله وعزم عليه ابن برقع شيخ عرب اليسار ( وصنع له مدة عظيمة) أى مأدبة ( من أغنام ودجاج وغير ذلك ).: وأين للأعراب من تربية الدجاج وإقامة المآدب السلطانية.. انه دم الفلاحين.. أجدادنا المساكين.

ونعود للشيخ القاضى المؤرخ ابن الصيرفي.يقول عن السلطان وابن برقع : ( وبات عنده وأصبح فتوجه إلى أوسيم لضيافة ابن شقير فلم يستطع للماء الذى في الطريق فرجع وعدى من أنبوبة ( أى إمبابة) ورسم للأمراء أن يرجعوا إلى أماكنهم وتوجه إلى العباسة (بالشرقية) ، فصنع له ابن شعبان ضيافة عظيمة إلى الغاية والنهاية ، واستمر مقيماً بالعباسة. ) ولو كان المؤرخ أبو المحاسن حياً  لوصف لنا  كيف دار أعوان أولئك الأعراب على بيوت الفلاحين يسلبون منها الأبقار والأغنام والدجاج ولزوم المأدبة السلطانية. والسلطان الورع وهو يلتهم الدجاج والأغنام وغيرها لم يفكر في خراب البيوت الذى أحدثته تلك الولائم.

أرباب الوظائف ونهبهم للريف:

وكان السلطان يعلم أن أرباب الوظائف في الريف يعيشون على ظلم الفلاحين، ولم يكن يتدخل السلطان إلا لتحقيق مصلحته في ذلك، سواء كانت مصلحة سياسية للدولة أو مصلحة شخصية للسلطان. كانت الأوقاف تسيطر على شريحة كبرى من الأطيان الزراعية، وارتبطت إدارة أراضى الأوقاف بالعسف الزائد والخراب، وقلّما كان يتدخل السلطان إلا إذا كان له في تدخله غرض، كأن يكون ناقماً على ناظر الأوقاف. وذلك ما حدث يوم الثلاثاء 26 ربيع الأول 874 حين عقد السلطان مجلساً في القلعة لمحاكمة نقيب الأشراف وأخيه لأن الأشراف شكوهما ( أنهما أخربا البلاد )الموقوفة على الأشراف . يقول مؤرخنا ( وغضب السلطان نصره الله من نقيب الأشراف وحطّ عليه ونقم عليه سوء مباشرته في بلاد الوقف وعدم التساوى بين المستحقين في النفقة. )، وتعجب ابن الصيرفي من فعل السلطان ذلك بنقيب الأشراف مع الصلة القائمة بينهما من سنين، وكان أولى بابن الصيرفي أن يسأل نفسه لماذا احتدّ السلطان كل هذه الحدّة على هذا الناظر للوقف بالذات دون غيره من نظار الوقف في سائر البلاد؟ ولماذ احتدّ السلطان على هذا الناظر للوقف مع أنه يعرفه من سنين، وسكت عن إنحراه طيلة تلك السنين ؟ . والعادة أن الذى يقترب من السلطان لابد أن يحظي حيناً بنعمته وأحياناً بنقمته. والعادة أيضا أن مباشرة أراضى الأوقاف كانت تقترن دائماً بالسرقة والظلم، والسلطان أول من يعرف ذلك، ولكنه لا يعقد المحاكمات إلا لتصفية الحسابات .وتلك من معطيات السياسة المملوكية. ويقول مؤرخنا يتعجب من فعل السلطان : واذكر قول الشاعر:

 

إذا كان هذا فعله في مُحبّه

 

فياليت شعري في العدا كيف يصنع

 

ونحن ننتظر الإجابة من الصيرفي..

أرباب الوظائف وظلمهم للفلاحين:

ومن أخبار يوم الاثنين 22 ذى القعدة 875 نقرأ الآتى "وركب السلطان من قلعة الجبل وأظهر أنه متوجه إلى جهة الخانكاة ثم عطف من الجبل وسار إلى أن وصل إلى حلوان وتوجه إلى طرى ( طرة ) ، ووصل إلى مصر القديمة وبولاق واستمر على طوق البحر إلى المنيه (منية السيرج) وشبرا ، فصعد من الجبل واستمر إلى أن وصل إلى القلعة، فوقف له جماعة يشكون من الحراقة التى بقليوب أن المتكلمين عليها يقبضون المسافرين من الفقهاء ويستعملونهم ويضربونهم، فرسم نصره الله بشنق من يفعل ذلك.). فالموظفون كانوا يسلبون المسافرين من الفقهاء والفقراء أى الصوفية ويضربونهم ويستعملونهم أى يستخدمونهم سخرة في قضاء حوائجهم، ولأن المجني عليهم من العلماء والصوفية فقد رفعوا صوتهم ووصلوا به للسلطان، حين تصادف مرور السلطان بهم. ولولا أن تصادف مرور السلطان بهم لظلوا تحت نير السخرة والسلب والضرب .

ولكن إذا كان أولئك الموظفون يفعلون ذلك مع العلماء والفقهاء والفقراء الصوفية وهم ذوو حيثية فى المجتمع  فكيف كانوا يفعلون مع الفلاحين الغلابة الذين لا صوت لهم. وأولئك الفلاحون المساكين حتى لو كان لهم صوت فلن يصل للسلطان إلا نادراً، وأحياناً كان صوتهم يصل للسلطان فتكون عاقبتهم شديدة السوء مثلما حدث مع فلاحي المحلة الذين اشتكوا الكاشف ابن زوين فضربهم السلطان على أكتافهم ليعلمهم الأدب.

الفلاحون في السجون:

والفلاحون الذين يتكاسلون عن دفع الضريبة فمصيرهم إلى السجون وربما إلى ما هو أفظع. وحقيقة الأمر فالفلاح لا يتكاسل عن الضريبة، فأمامه زبانية الكاشف يبذلون أقصى جهدهم فى تتبع ما يمكن ان يخبئه الفلاح من محصول وغيره ، ثم هناك سياطهم وآلات التعذيب تجعله لا يفكر في التكاسل، وإنما قد يعجز عن الدفع لأسباب قد تكون خارجة عن إرادته، ولكنهم لا يرحمونه.

في يوم الخميس 22 رمضان 875 أورد مؤرخنا خبراً يقول أن الداودار الكبير أطلق من حبسه 170 من الفلاحين المصادرين، ومعناه أن الداودار الكبير كان له حبس خاص يضع فيه الفلاحين في الأقطاع التابع له إذا عجزوا عن دفع الضريبة المقررة عليهم، ونحن نعلم من تاريخ الهصر كيف كان ذلك الداودار شديد القسوة الأمر الذى يجعلنا نتحسر على المسجونين لديه في الحبس وكل جريمتهم أنهم عجزوا عن سداد الضرائب الظالمة.

على أن السلطان ( التقىّ الورع ) كان يرمى الفلاحين العاجزين عن الضريبة في سجن المقشرة أبشع السجون في عصره وأسوئها سمعة. وفي يوم الاثنين 15 ربيع الأول 877 نقرأ الآتي: "في ضرب السلطان عدة من أهل بحطيط بالمقارع .وأتهم فلاحي الذخيرة وانكسر عليهم أموال جمة ولهم ثلاث سنين بالسجن في المقشرة ..فرسم بسلخ أربعة منهم بحضور الباقين ، فسلخوا وأرسلوا إلى البلاد ، فأشهروا بها ليرتدع بها أمثالهم.) ويعلّق مؤرخنا البائس فيقول داعيا للسلطان :( فنصره الله نصراً عزيزاً.).!

فلاحون يهربون للقاهرة:

وبعض الفلاحين كان ينجح في الهرب من الأرض وعسف زبانية السلطة بها، ويأتي للقاهرة يجرب حظه، ومع ذلك فقد كان سوء حظه يوقعه بين أيدى الزبانية للمرة الثانية.

في نفس الشهر ربيع الأول 877 جاء مؤرخنا بالخبر التالي : ( وفي هذه الأيام قبضوا على جمع كثير بالقاهرة من المنسين والفلاحين والأرياف وأودعوهم الحديد، ) أى إعتقلوم بلا ذنب ( وأرسلوهم إلى المقر الأشرفي الأتابكي (أزبك) بسبب ما يعمّره من القناطر بالجيزة ) أى ليعملوا عنده فى مشروع للرّى فى منطقة الجيزة . يقول ابن الصيرفى : ( ويصرف لهم أجرتهم وافية، فإن هذا أمر مهم وفيه عمارة البلاد، وكلما زاد البحر أتلف ما صنعوه، ومقصودهم أن يؤسسوا ويبنوا على الأساس فإن الماء كلما بنوا شيئاً قلبه، وغرم السلطان على هذا البناء أموالاً عظيمة، وبلغنى أن في هذا البناء نحو ألفي رجل خارج عن مماليك المقر الأشرف الأتابكي، وفيه نحو مائتى معمار ومهندس. )، وقد إحتاجوا للمزيد من الأيدى العاملة فلم يجدوها ففكروا فى حيلة شيطانية ، يقول مؤرخنا : ( وإنهم احتاجوا مع ذلك إلى الرجال فدبروا حيلة. وسمّروا شخصاً ونادوا عليه ببولاق: هذا جزاء من يقتل النفس التى حرمها الله، فاجتمع الخلائق للتفرج عليه وصاروا خلفه فقبضوا عليه ورموهم الحديد وجهزوهم إلى العمل . فهذه من العجائب. والسلام.).!.هذا المسكين الذى سمّروه ، أى صلبوه بالمسامير على خشبة وطافوا به فى القاهرة بلا ذنب لم يستحق عبارة عزاء من مؤرخنا إبن الصيرفى ، سوى أنه قال متعجبا ( فهذه من العجائب. والسلام.).!. يا سلام ..!!

هرب(الواد عكاشة) من( بلدهم) بسبب السخرة والسلطة والمشدّ فوجد السخرة في انتظاره في القاهرة .!!

(الواد عكاشة) لم يكن يعرف أنه إذا سار في الهيصة والزيطة سينتهي به الأمر إلى الفحير والفأس والكدح والسوط على ظهره. مسكين يا جدو عكاشة.!!

ثم ذلك المسكين الذى صلبوه بالمسامير وطافوا به في البلد طعماً لاصطياد الغلابة من المنسين والفلاحين والأرياف على حد قول مؤرخنا القاهري ابن الصيرفي.. ذلك المسكين الذى سمروه على خشبة دون أن يرتكب ذنباً ما شأنه وما خبره وما ذنبه.ربما يكون أحد أجدادي أو أحد أجدادي عزيز القارئ بين أولئك الفلاحين الذين هربوا للقاهرة خوفاً من العصا والفلقة فوجدها في انتظاره عند بولاق. وربما يكون ذلك الذى سمّروه على الخشب وقتلوه بلا ذنب هو أحد أجدادى وصدق فيهم قول مؤرخنا القاضى الظالم ابن الصيرفي: ( "قبضوا علي جمع كثير بالقاهرة من المسنين والفلاحين والأرياف.)، فقد كانوا في عالم النسيان حتى وهم أحياء يعيشون بالقرب من المؤرخ ابن الصيرفي ، وأين الصيرفي مشغول عنهم وعن ألامهم بسيده السلطان قايتباى.

وما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه..!!

قضاة الظلم في الريف:

1 ــ عشنا مع أولئك القضاة في القاهرة ورأينا فسادهم وجهلهم وظلمهم وهم يعيشون في الأضواء بالقرب من السلطان، فكيف بأعوانهم في الريف حيث لا رقيب ولا حسيب ولا نقطة ضوء تكشف الانحراف والفساد.

والعادة أن قاضى القضاة الفاسد في القاهرة لا يعين في الريف إلا من كان أضل منه سبيلا.. وكان عبد البر إبن محب الدين بن الشحنة هو الذى تولى قضاء الشرقية، وكان عبد البر مع أبيه من كبار مفسدى القضاء، والغريب أنه كان قاضياً حنفياً وينبغى أن يكون الذى يوليه هو والده قاضى القضاة الأحناف، ولكن الذى حدث أن الذى ولاه قضاء الشرقية كان قاضى القضاة الشافعية، وقد أرسل السلطان في شهر جمادى الثانية سنة 875 إلى قاضى القضاة الشافعية يسأله أأنت وليت عبد البر بن الشحنة قضاء الشرقية؟ فقال ما ولاه إلا أبو السعادات الذى كان قبلي. وكان التعصب بين المذاهب شديداً ولكن الفساد كان أشد منه، ولذلك تولى عبد البر ابن الشحنة الحنفي منصب القضاء الشافعي في الشرقية مع أنه مقيم بالقاهرة لا ينفك عن تدبير الدسائس وحيازة المناصب ولا يدري شيئاً عن أحوال القضاة التابعين له في الشرقية.

2 ــ وقد كان السلطان في زيارة للشرقية في شعبان 876 وأعد له قاضى العلاقمة مأدبة عظيمة ، نعرف بالطبع من أين أتى بها، وأرسل القاضى بالمأدبة إلى السلطان، فلما حضرت المأدبة للسلطان سأل عن الذى أرسلهما، فلما عرفه تذكر أن ذلك القاضى قتل اثنين فطلب حضروه، يقول مؤرخنا: ( وأعدّ قاضى العلاقمة مأدبة للسلطان عظيمة ، وأحضرها إليه ، فلما وصلت وعرف مرسلها قال: هذا القاضى الذى قتل اثنين، أطلبوه . فحضر . فلما قرب من السلطان نزل عن الفرس فسقط ميتاً".).!. فنحن هنا أمام قاض تصادف أن مرّ السلطان بمنطقته وعرف أخباره وأنه قتل اثنين فأمر بإحضاره إليه، ولا ريب أن سجل جرائم ذلك القاضى كان أشنع من مجرد قتل رجلين، بدليل أنّه مات من الرعب حين واجه السلطان. فالمجرم القاتل يجد منصبا فى الريف ، وتلك حالة قاض واحد بالمصادفة، فكيف بالآخرين في باقى الأرياف على امتداد العمران المصري والذين لم يتشرفوا بلقاء السلطان، ولم يكن لهم ذكر في حوليات التاريخ.

والله وحده هو الأعلم بمعاناة أجدادنا الفلاحين.

3 ــ وفي جمادي الأول 876 نقرأ الخبر التالي : ( واتفق في هذه الأيام أن شخصاً من قضاة الريف يعرف بقاضى البرلس باع صغيراً حراً لبعض العربان فعرفه أبواه ، وشكيا القاضى للسلطان فضربه بالمقارع ، وسأله عن القصة، فقال أن هذا الذى يدعي أنه أبوه باعه لى بشهود، فطلب منه الشهود فلم يشهدوا بشيء واستمر في الترسيم. )أى استمر فى الحبس . فهنا قاضى مجرم وكاذب سرق وإسترق طفلا وباعه لأحد العربان . وكان من الممكن أن يمرّ الأمر عاديا لولا أن والد الصبي كان ميسورا وجريئا فقد سافر للقاهرة وجاهد حتى تمكن من رؤية السلطان ، وبهذا عرفنا بالقصة من خلال تاريخ الهصر، وفي نهاية الأمر فذلك مجرد مثل ينبئ عن وجود أمثلة أكثر وأشنع وأفظع إلا أنها لم تلق حظها في التدوين.

فلاحون وصلوا للمناصب:

1 ــ وبعض الفلاحين اجتاز ضباب النسيان ووصل إلى دائرة الضوء وبلغ مناصب أجبرت ابن الصيرفي على تسجيل حياته، كان منهم الداودار أبو بكر 875 والقاضى هانى.

2 ــ أبو بكر كان فلاحاً خدم عند الأمير بردبك وتحمل قسوته وازداد ولاءاً له، وكان الأمير يطرده من خدمته مرات عديدة ثم يعود إليه، وفي إحدي مرات طرده فأصبح شديد الفقر فصار يخدم ابن القيسى الذى كان محتسباً ثم والياً ثم نقيباً للجيوش في سلطنة الأشراف اينال وصار قائماً بأمور إبن القيسى كلها. ثم عيّن  الأمير بردبك والياً على حلب فأعاد أبا بكر إلى خدمته. وحدث أن بعض أتباع بردبك أرادوا قتله بالسم مرات عديد وهو ينقذه، فعرف بردبك إخلاصه فرقّاه ( وصار عنده في أوج العظمة ) على حد قول ابن الصيرفى : ( وصارت له أموال عظيمة قيل أنها بلغت 250 ألف دينار)، ومات مع مخدومه الأمير بردبك في وقت واحد عام 875.

3 ــ أما هانى فقد هرب من الريف والتحق بالجامع الأزهر طالباً ، وكان طموحا ، فصار يتردد إلى الطواشية خدم القصور ويخدمهم ، فعرف عن طريقهم الأميرة خوند فاطمة بنت الظاهر ططر ، وسأل أن يكون كاتبها فكان كذلك، يقول مؤرخنا : ( واستمر حاله ينمو ويزيد وركب الخيول ، واشتهرت له الوظائف والتواقيع ، ولبس الأقمشة ولبس الخف والمهماز، وجعل في رقبته طوقاً بعد أن كان من الفلاحين المجاورين بالجامع المذكور وفي يده دقّ أخضر شاهدته.) . والدّق الأخضر الذى يذكره مؤرخنا هو وشم إعتاد الفلاحون رسمه ليسجل إسم صاحبه . أى كان هذا الوشم ــ الذى تصعب إزالته ـ دليلا على أنه القاضى هانى كان فلاحا فى الأصل .

4 ــ ونفهم من قصّة القاضى هانى أن بعض الفلاحين كان يتعلم القراءة والكتابة ويحفظ القرآن الكريم في كتاب القرية على أيدى فقهاء الأرياف، ثم يهرب إلى القاهرة ويلتحق بالجامع الأزهر أو غيره ويكون من المجاورين، وإذا كان طموحاً مثل صاحبنا (هانى) وصل إلى معرفة بعض المماليك، ويا حبذا لو كانت سيدة مثل خوند فاطمة التى اشترت للمدعو هانى الوظائف والمرتبات والملابس والخيول، إلا أنها نسيت أن تمسح الوشم الأخضر الذى كان على يده . وقد أفلح صاحبنا ابن الصيرفي في رؤية ذلك الدق أو الوشم المدقوق على يد القاضى هانى، وربما كان ابن الصيرفي يحس بالغيرة من الأبهة التى ظهرت على ذلك الفلاح بسبب علاقته بتلك الأميرة، ونحن نعرف من خلال تاريخ الهصر اهتمام صاحبه بالتغييرات التى تظهر في الزى حين يصل بعض العوام أو الفلاحين إلى المناصب تجعلهم يودعون أيام الشقاء ولبس الزعبوط إلى الغالي والثمين من الحرير والديباج والسمور. ومن الطبيعي أن يهتم مؤرخنا القاهرى من بهذه الظواهر فهو (ابن سوق) ( يفهمها وهى طايرة ).، ألم يكن صيرفياً.

 

الهوامش

  1. الهصر: 27، 127، 19، 75، 76، 237، 419، 420، 319، 261، 362، 363، 38، 151، 6، 367، 504، 505، 50.
  2. الهصر: 482، 151، 152، 105، 398، 518، 519، 424.
  3. السلوك للمقريزي: 1/ 386، 387: 388.

د. أحمد صبحي منصور: السيد البدوي بين الحقيقة والخرافة 168: 169.

  1. الهصر: 330، 340، 427، 443، 445، 140، 32 ، 125، 192، 195، 234، 289: 290، 64، 118، 119، 121، 125، 153، 191.
  2. الهصر: 9، 24، 17، 32، 195، 201، 341، 351، 125، 291، 289،: 290، 326: 327، 433، 44: 45.
  3. أبو المحاسن: النجوم الزاهرة 9/92.
  4. المقريزي: السلوك 1/3/946.
  5. الهصر: 41، 43، 46، 75، 119، 125، 207، 221، 232، 367، 389، 119، 121، 122، 123، 125، 126، 130، 131، 161، 473: 474، 496.
  6. الهصر: 71: 73، 74، 212: 214، 405، 141، 142، 287، 263، 484، 483، 235، 405، 406، 344، 197، 198، 301، 302، 132.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 



([1])

([2]) لم يتوسل بالسيدة زينب لأن ضريحها لم ينشأ حتى  سنة 955هـ أى بعد هذه الحادثة بثمانين عاماً، ولو كان ضريح السيد زينب موجوداً لاستغاث صاحبنا بأم العواجز.

كتاب ( المجتمع المصرى فى ظل تطبيق الشريعة السّنية فى عصر السلطان قايتباى):
كتاب ( المجتمع المصرى فى ظل تطبيق الشريعة السّنية فى عصر السلطان قايتباى):در اسة فى كتاب ( إنباء الهصر بأبناء العصر ) للمؤرخ القاضى ابن الصيرفى .

قراءة متخصصة نقدية لكتاب ( إنباء الهصر بأبناء العصر ) للمؤرخ إبن الصيرفى لاستخلاص ما جاء فى هذا الكتاب عن أحوال المجتمع المصرى فى ظل تطبيق الشريعة السنية فى عصر السلطان قايتباى . لقد كتب ابن الصيرفى ( تاريخ الهصر) ليعطى أحداث عصره باليوم لكل عام وحول . لم يقصد أن يسجل الأحوال الاجتماعية ، بل مجرد تسجيل الأحداث اليومية المتنوعة والتى يراها هامة تستحق التسجيل . ووظيفتنا فى هذا البحث هو إستنطاق تاريخ الهصر لنتعرف منه على حال المصريين فى ظل تطبيق الشريعة السّنية من خلال
more