رقم ( 3 )
الفصل الثانى

الفصل الثانى

مقال 6

ــــ تأصيل معنى ( كتب ، وكتاب ) فى القرآن الكريم(6/ 1 ) كتاب الأعمال

جزء حتمى مكتوب عليك فى الدنيا هو الحتميات الأربع، وجزء أنت حرّ فيه هو أعمالك وأقوالك ، وهو جزء تتم كتابته وتسجيله ليكون لك أو عليك يوم الحساب

مقالات متعلقة :

مقدمة

1ـ لنا سلسلة مقالات بحثية بعنوان ( لكل نفس بشرية جسدان ) نشرنا منها 18 حلقة ـ وتبقى منها القليل ،وسننشره لاحقا بعون الله جل وعلا. تثبت هذه السلسلة حقيقة قرآنية ،هى أن عمل الانسان فى الدنيا ترتديه النفس البشرية ثوبا يوم القيامة عوضا عن ثوب الجسد الأرضى الذى سيتحول رمادا ثم يفنى مع هذه الأرض ، ويتم بعث كل نفس وقد ارتدت عملها جسدا جديدا أو ثوبا جديدا ، وبه يتم صلاحها لدخول الجنة إن كان ثوبها أو عملها صالحا نورانيا ،أو به تدخل النار تبعا لعملها الظالم المظلم. هذا العمل إن خيرا أو شرأ تتم كتابته لحظة بلحظة ونحن أحياء،ونصطحبه معنا الى الآخرة كتابا لأعمالنا الفردية والجماعية .

2 ـ وهنا نتوقف بالمزيد من التفصيلات مع كتاب الأعمال فى هذه السلسلة عن معانى (كتب ، كتاب فى القرآن الكريم). ونبدأ بمقال عن فقه المصطلحات الخاص بموضوع كتاب الأعمال لأنها تعطينا خلفية لا غنى عنها فى موضوع ( كتاب الأعمال البشرية ).ثم يتوقف المقال التالى عن كتاب الأعمال .

فقه المصطلحات المرادف لمصطلح (كتب / كتاب )

أولا : كتاب الأعمال والعلم الالهى

يقول رب العزّة :(اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِي سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ)   ( الرعد 8 : 11). علم الله جل وعلا هنا يشمل الحتميات المكتوبة المقدرة سلفا ، كما يشمل ما سيقوم به البشر من أعمال ، يعرفها رب العزة مقدما قبل حدوثها وعند كتابتها وتسجيلها وحفظها.والآية الكريمة أعطت أمثلة للنوعين : الحتميات فى (اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ)،وكتاب أعمال البشر الذى يسجل ما يحدث أولا بأول:(سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ) . ومن هنا فهو جل وعلا عالم الغيب فى المستقبل وعالم الشهادة فى الحاضر: (عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ ).

ثانيا : التعقيب بحفظ وكتابة العمل

1 ـ يقول جل وعلا:( لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ)(الرعد:11) أى إن الملائكة تعقب أى تسجل وتكتب العمل. فى الآية الكريمة ما يعرف بلاغيا بالايجاز بالحذف ، وهو موضوع طويل ، لكنّ من أنواعه حذف الموصوف إكتفاء بالوصف إذا كان الوصف أكثر أهمية من ذكر الموصوف .أصل الجملة أن يقال (له ملائكة معقبات ):الملائكة هى الموصوف ، والوصف هو معقبات ، فحذف الموصوف وهو ملائكة وتم الاستغناء عنه بالوصف وهو( معقبات ):(لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ ).

2 ـ ومصطلح (عقب ) ومشتقاته يأتى بمعنى التعقيب على شىء ما:بالتجاوب:(وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لا تَخَفْ)(النمل 10)، وبمعنى الخلف الذى يعقب السلف : (وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ )(الزخرف 28) ، وفى سياق الضلال الذى يعقب الهدى:(وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا)(آل عمران 144) وبمعنى النتيجة المترتبة على شىء سابق:(فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُواْ اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ)(التوبة77 ).

3ـ وقد تكرر هذا المصطلح فى سورة الرعد: جاء بالتعقيب بالكتابة والحفظ والتسجيل :( لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ)(الرعد 11 )، وجاء بمعنى النتيجة المترتبة على العمل الصالح أو المترتبة على العمل السيىء :( وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُواْ الصَّلاةَ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ سَلامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) (مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ ) (وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ)(الرعد 22 : 24 ،35 ، 42 ). أما الله جل وعلا فلا رادّ لأمره ولا معقب لحكمه:(وَاللَّهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ)(الرعد 41 )

ثالثا : أمر الله وكتابة العمل:

1 ـ ولازلنا مع العبارة القرآنية (يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ ). البعض يظنّ أن تلك الملائكة تحفظ أى تحمى البشر من المصائب التى تحدث لهم (من أمر الله). وهذا خطأ لأن أمر الله كما سبق بيانه يأتى فى التشريع ويكون البشر أحرارا فى طاعته أو عصيانه. ويأتى فى الحتميات فلا بد من سريانه لأن الله جل وعلا إذا أمر فقال (كن ) فلا بد أن يكون. الفهم الصحيح هو أن ملائكة الحفظ هى التى تحفظ أى تسجل أعمال البشر أى تضع سجلا بتفاصيل حياة كل فرد وكل جماعة وتدخرها محفوطة الى أن يأتى موعد الحساب يوم القيامة . وهى بفعلها هذا تنفذ (أمر الله ) جل وعلا.

2 ـ إن للملائكة دورا أساسا فى تنفيذ (أمر الله) ضمن تدبير الله جل وعلا فى تحكمه فى العرش ،أى مجال ملكوته ومخلوقاته فى السماوات والأرض. يقول جل وعلا يربط تدبيره للأمربخلقه السماوات والأرض:(إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ)(يونس3 ).الكون المعروف لنا يقع بين السماوات والأرض، أو (ما بينهما) ولأن الأمر الالهى يسرى فى هذه المنطقة (البينية ) فالتفصيل القرآنى يشير اليه بالزمن،يقول جل وعلا:(اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاء إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ)(السجدة 4: 6 ). وأهم وظائف الملائكة فى تنفيذ (الأمر الالهى ) ثلاثة:

2/1 :النزول بالأمر التشريعى أى الرسالات السماوية ، وتلك وظيفة الروح ـ أى جبريل عليه السلام مع طائفة من الملائكة تنزل بالوحى: (يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُواْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَاْ فَاتَّقُونِ)(النحل 2 )(رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ)(غافر 15)(وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ )(الشعراء 192 ـ )( قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ)(البقرة 97 ).

2/2 :النزول بالحتميات من نفخ النفس فى آدم ثم فى رحم مريم :(فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ) ( الحجر 29 )( فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا )( مريم 17 ـ ).ومنها الموت(قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ)(السجدة 11)، وفى آية واحدة يذكر رب العزة نوعين من الملائكة : ملائكة حفظ العمل وملائكة الموت والوفاة ،يقول جل وعلا:( وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً حَتَّىَ إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ)(الانعام 61 ). وفى ليلة القدر من شهر رمضان نزل الروح الأمين بالقرآن الكريم دفعة واحدة مكتوبا فى قلب النبى محمد ، ثم توالى نزوله مقروءا بعدها. وفى كل ليلة قدر ينزل الروح بالحتميات الأربع للبشر من ميلاد ووفاة ورزق ومصائب:(إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ)(سورة القدر).

2/ 3 : تسجيل العمل وكتابته:( لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ) (الرعد:11).

رابعا : كتاب الأعمال والعلم والشهادة والشفاعة

1 ـ وبهذا العلم المحيط والشامل يكون رب العزة شاهدا على كل شىء لا يغيب عنه علم أى شىء ، يقول جل وعلا :(وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ)( يونس 61 ).

2 ـ وهناك إثنان من الملائكة يسجلان على كل فرد عمله ،وسيأتيان به الى يوم الحساب ، وسيكون عمله شاهدا عليه لو كان عملا سيئا ، أو يكون شاهدا له أو شفيعا له لو كان عملا صالحا ، وفى كل الأحوال فملائكة الكتابة وتسجيل الأعمال لا تشهد إلا بالحق وبالعلم ، والشفاعة هى بأمر الله جل وعلا وإذنه فيمن يستحق بعمله دخول الجنة ، فيأتى أمرالله جل وعلا لأولئك الملائكة التى تحمل العمل بتقديم كتاب عمل الفرد الذى كان مؤمنا صالحا فى الدنيا ، فيكون عمله شفيعا له . وبهذا تكون الشفاعة لله جميعا مرتبطة بهذا العلم الالهى بالبشر وبإذنه جل وعلا ورضاه. وهذا عكس مزاعم الأديان الأرضية فى إتخاذها شفعاء من البشر لا يملكون شيئا ولا يعلمون شيئا،( وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ)( يونس 26 ). وفى الرد عليهم يقول جل وعلا عن تحكمه فى الشفاعة : (أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلا يَعْقِلُونَ قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا)(الزمر 43 : 44 ). وطبقا لهذا التحكم تأتى الملائكة تحمل كتاب الأعمال شاهدة بما سجلته وكتبته:(وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (الزخرف 86). إذن ترتبط الشهادة بكتابة العمل ، وتقديم صاحب العمل الصالح ليكون عمله شفيعا له ، وذلك بعلم الله جل وعلا وإذنه ورضاه (البقرة 255، طه 109 ، الأنبياء 28 ،النجم  26).

3 ـ وتأتى تفصيلات توضح دور الملكين المكلفين بكل فرد يسجلان عليه أعماله ،يقول رب العزة:(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ)، هذا العلم ـ حتى بخطرات القلوب ـ تسجله ملائكة تسجيل العمل،تقول الآية التالية عن عملهم:(إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنْ الْيَمِينِ وَعَنْ الشِّمَالِ قَعِيدٌ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ). (رقيب وعتيد) هما ملكا تسجيل العمل لكل فرد .وينتهى تسجيل عمل الفرد بموته ،عندها يرى الفرد ملائكة الموت وكتابة العمل فيرى الموت بعينيه رؤية اليقين ويعيش سكرة الموت، وهى لحظة إغماء بين اليقظة والمنام،وقد كان غافلا لاهيا عن هذا الموقف:(وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ )، ويموت فيدخل فى البرزخ حيث يفقد الاحساس فيكون آخر إحساس فيه هو فى لحظة الاحتضار،ويكون التالى له هو لحظة البعث عند نفخ الصور أوالانفجار الثانى؛إنفجار البعث:(وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ).وفيه يؤتى بكل فرد معتقلا ، يعتقله من كانا يسجلان عمله فى الدنيا وهما (رقيب وعتيد ) ليكونا يوم الحساب ( سائق وشهيد ) : (وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ )، أى أحدهما يسوقه والآخر يشهد له أو عليه حسب عمله،وكل شىء بأمر الله جل وعلا، ويقال للفرد حينئذ وهو يرى ما لم يكن يستطيع رؤيته من قبل:(لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ )(ق 16 : 22). وفى يوم الحساب يرى كل فرد عمله بالصوت والصورة كالفيلم التسجيلى الوثائقى القصصى :(فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ) (الاعراف 6 : 7). هو قصص بالحق وبالعلم .

4ـ فهو جل وعلا حاضر (قيوم ) قائم على كل نفس بما كسبت :(أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ)(الرعد33 )، وهو جل وعلا حاضر لايغيب (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) ( المجادلة 7 )

5ـ وهناك شهود من المؤمنين المجاهدين فى سبيل الحق ، يتحملون الاضطهاد متمسكين بالصبر، يدعون رب العزة أن يجعل هذا مكتوبا فى سجل أعمالهم، وأن يكونوا شهودا على أقوامهم يوم القيامة . وقد قالها المؤمنون من أهل الكتاب حين سمعوا بالقرآن الكريم:( رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنزَلَتْ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ)(آل عمران 53 )،(وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ)(المائدة 83 ).

خامسا :كتابة العمل بالحفظ

1ـ يؤكد رب العزة أن لكل نفس يقوم (عليها ) حافظ ،يسجل مشاعرها وحركاتها وأقوالها : (إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ ) (الطارق 4) ، يسرى هذا على البشرجميعا، يقول جل وعلا : ( وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ)(الانعام 61). ويقول جل وعلا عن وظيفتهم فى كتابة العمل ومعرفة ما نفعل :( وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَاماً كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ) (الانفطار 10 : 12).

2 ـ الملاحظ هنا أن وظيفة الحفظ هى (علينا ) وليست (لنا )، وهى مهمة تم التكليف بها للملائكة من الرحمن ، ولذا وصف رب العزة القائمين بها بأنهم رسل من لدن الله جل وعلا: (إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ)(يونس 21 )( أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ )(الزخرف 80 ).

3 ـ وبملائكة الحتميات وملائكة حفظ الأعمال تتحقق قاهرية الله جل وعلا (فوق )البشر . وقد تكررفى القرآن مرتين وصف القاهر لله جل وعلا (فوق عباده) فى  سورة الانعام . يقول جل وعلا عن حتمية المصائب وحتمية الرزق (وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ) ( الانعام 18 )،أى فهو القاهر بتحكمه فيما يصيبنا من خير أو شر. وهو أيضا القاهر فوقنا بملائكة الموت وبملائكة الحفظ وتسجيل أعمالنا علينا بحيث لا نستطيع الفرار من الله جل وعلا فى حالتى الموت والسعى فى الأرض بالخير أو الشّر:( وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ)(الانعام 61). وهذا درس لا يعيه الطغاة إلا بعد فوات الأوان .

سادسا : السعى وشمولية الحفظ وكتابة كل الأعمال

1 ـ تعبير (السعى ) يعنى الحركة الانسانية المقصودة التى تسبقها نية وتدبير، وبالتالى يكون صاحبها مسئولا عنها ومساءلا عليها. أى إن السعى لا يشمل فقط الحركة والقول ولكن أيضا النية وما يخفيه القلب وما تضمره النفس حتى لو لم يتحقق بالفعل وبالصوت والقول. ونعطى بعض التفصيلات:

2 ـ عن شمولية المساءلة للسمع والبصر والفؤاد يقول جل وعلا:(إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً)(الاسراء 36)،والغفران قد يأتى لمن يستحقه ولكن بعد الحساب والمساءلة:(وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء)(البقرة 284). والعقائد تدخل ضمن هذا السعى الذى يتم تسجيله وكتابته والمساءلة عنه،يقول جل وعلا:( وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ)(الزخرف19).ومنها إرادة شيوع الفاحشة فى مجتمع مؤمن:(إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لا تَعْلَمُونَ)(النور 19)، وإرادة الظلم والالحاد فى البيت الحرام:(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاء الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ)(الحج 25).

3 ـ ويوم اللقاء مع الواحد القهّار لن يخفى منّا شىء:(يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ)( الحاقة 18)، لن تكون هناك سرائر،فقد ظهر وانكشف ما فى الصدور(وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ) (العاديات 10 )وسيكون هذا إمتحانا عسيرا للمنافقين :(يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا نَاصِرٍ)(الطارق 9: 10).وللقرآن الكريم تعبير أخّاذ عن موقفنا ذلك اليوم، هو مصطلح ( برز) الذى يعنى الظهور الكامل بلا خفاء وبلا أسرار أمام رب العزة:(وَبَرَزُواْ لِلَّهِ جَمِيعًا)(يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُواْ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ)(ابراهيم 21 ، 48).ويأتى تفصيل فى قوله جل وعلا:(يَوْمَ هُم بَارِزُونَ لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ)(غافر 16 ـ ).

4 ـ ومنذ الوحى الأول لموسى عليه السلام حذّر رب العزة من إقتراب الساعة:(إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى)(طه 15)، أى سيجزى الله جل وعلا كل نفس بسعيها فى هذه الحياة الدنيا ، وهو سعى تتم كتابته وحفظه، ويتوقف السعى عند الاحتضار، وحينئذ يغلق كتاب الأعمال ولم يعد للانسان سوى ما سعاه ، ثم يوم القيامة سيرى سعيه هذا مكتوبا ومسجلا:(وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى)(النجم 39: 40 ).   وقد يكون سعيا سيئا مثل حال صاحبنا :(وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْفَسَادَ)(البقرة 205 )، وقد يكون سعيا صالحا معززا بإيمان مخلص:(وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا) (الاسراء 19).وفى كل الأحوال سيرى الناس كل أعمالهم فور البعث وفق ما جاء فى سورة الزلزلة :(إِذَا زُلْزِلَتْ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا وَأَخْرَجَتْ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا وَقَالَ الإِنسَانُ مَا لَهَا يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ  فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَه) .

5 ـ والسعى الصالح يرتفع بصاحبه الى الجنة فى أعلى عليين:(إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُوَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ)( فاطر 10 )بينما يهبط السعى السىء بصاحبه الى قاع الجحيم يحمله صاحبه أوزارا على كاهله،وهنا يوصف السعى الشرير بالأوزار. وحملة هذه الأوزار نوعان:قادة الضلال (المضلّون)وأتباعهم (الضالون ). ويوصف القادة بالجهل وعدم العلم، ويوم القيامة يحمل أولئك القادة أوزارهم وأوزار أتباعهم (لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ )(النحل 25 ). وهذا لن يخفف من حمل التابعين لأوزارهم لأنهم استسهلوا طاعة شيوخ الضلال ليتسع وقتهم لجمع حطام الدنيا متناسين لقاء الواحد القهار، فيكون مصيرهم الخسار والبوار:(قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَاء اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُواْ يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ) (الانعام 31 ). والقاعدة أن من يعرض عن كتاب الله ولا يحمله فى قلبه ولا يطبقه بجوارحه فإنه يحمل بدلا منه وزرا:( وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِن لَّدُنَّا ذِكْرًا مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاء لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلا )( طه 99: 101). أولئك هم الخائبون الذين حملوا الظلم فى كتاب أعمالهم عند لقاء الحى القيوم الذى سيخضع للقائه الجميع :(وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا)(طه111).ويومها لن يحمل أحد عن أحد ورزره:(وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى)(فاطر18 )

هذا التوصيف القرآنى يجعل كتاب الأعمال مثل كيس يحمله كل انسان على ظهره ، وهو الذى يملؤه بنفسه ، وما يملؤه بنفسه سيحمله حيث يكون فيه عذابه أو نعيمه ، وبالتالى فهو الذى يظلم نفسه وهو الذى يكرمها،وصدق رب العزة:(وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)(النحل 118 ). ولنتخيل المثل المصرى القائل للظالم ( حمّل وشيل )،أى ما ترتكبه من ظلم هو الذى ستحمله فوق ظهرك ، هو كتاب أعمالك ، وهو الذى سيتحول الى نار تتعذب بها أبد الآبدين.  

6ـ فى تركيز البشر على الجسد المادى يعتقدون أنه كل شىء ، مع إنه ليس سوى ثوب خارجى ترتديه النفس ، تغادره مؤقتا بالنوم، وتغادره أبدا بالموت. وفى تركيز البشر على ذلك الجسد الفانى يتخيلونه فى القبر نفس الشخص المتوفى ، ولا يعتقدون أن ذات الشخص قد غادرت ذلك الثوب المادى ليعود ترابا ، بينما ترتدى النفس عملها أو زيها الجديد لتغوص به فى البرزخ الى يوم البعث والنشور. وفى تركيز البشر على الجسد المادى يحاولون حفظه من التحلل بالتحنيط وبالحفظ فى ثلاجات محكمة . ولكن الحفظ الالهى والحقيقى يكون للعمل أو السعى. وهو حفظ كامل لكل أقوال وأفعال ومشاعر الفرد تعوض جسده الذى فنى وتحتفظ لهذا الجسد بارشيف كامل محفوظ بالصوت والصورة والهمسة واللمسة من بدايته الى موته.

مقال 7

ــــ تأصيل معنى ( كتب ، وكتاب ) فى القرآن الكريم(6/ 2 ) أنواع كتاب الأعمال

جزء حتمى مكتوب عليك فى الدنيا هو الحتميات الأربع، وجزء أنت حرّ فيه هو أعمالك وأقوالك ، وهو جزء تتم كتابته وتسجيله ليكون لك أو عليك يوم القيامة

  أولا : كتاب الاعمال الجماعى

1 ـ الفرد يعيش فى جماعة ، ويكتسب حسناته وسيئاته من احتكاكه بالمجتمع الذى يعيش فيه. ولكى يكون ظالما لا بد من ضحية له يكون مظلوما، ولو فعل خيرا فلابد ان يكون هناك مستفيد من خيره. ومن هنا يرتبط كتاب الاعمال الفردى بكتاب أعمال جماعى يرصد الفرد وتحركاته فى محيط مجتمعه وتفاعله فيه بالخير أو بالشر. يقول جل وعلا يحض المؤمنين ـ كمجموعات ومجتمع ـ على فعل الخيرات : (النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُوْلُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَن تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُم مَّعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا )(الأحزاب 6 ).أى ما يفعلونه من خير يتم تسطيره وكتابته. ويقرر رب العزة جل وعلا عن كتاب العمل الأثر الباقى من كل فرد ومن كل أمة عاشت وتعامل أفرادها فيما بينهم :( إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ)( يس 12 ).أى إن رب العزة ـ عن طريق ملائكة كتاب العمل ـ يكتب ما يقدمه الناس قبل موتهم ويحفظ آثارهم ، ويحصيها فى كتاب يكون أمامهم يوم القيامة ، ويكون مرفوعا أمام وجوههم يوم العرض على الله جل وعلا . وبينما ينسى الفرد ذنوبه فإن كتاب أعماله لا ينسى شيئا ، فقد أحصى رب العزة كل شىء،يقول جل وعلا:(يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) ( المجادلة 6 )

2 ـ وهذا الاحصاء يشمل تحركات النبى فى تبليغه الرسالة،وإحاطة الملائكة بالرسول لضمان ذلك التبليغ . ففى معرض التأكيد الالهى على أنّ محمدا خاتم النبيين لم يكن يعلم الغيب ، ولم يكن ضمن بعض الأنبياء الذين كشف الله جل وعلا لهم بعض الغيوب ، يقول جل وعلا :(عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا لِيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا)(الجن 26 : 28 ). ويشمل هذا الاحصاء تعداد جميع أفراد البشر واحدا واحدا ، وكل واحد منهم سيواجه حسابه الفردى مزودا بكتاب أعماله : (إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا) ( مريم 93 : 95 )، ولن يغيب فرد منهم عن حضور ذلك اليوم : (  وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ (16) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (18) يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19)(الانفطار ).

3 ـ ويوم العرض سيرى المجرمون كتاب أعمالهم الجماعى يفضح كل أسرارهم وكل تآمرهم ومكائدهم ، سيرونه حاضرا فى شريط مسجل واقعى بالصوت والصورة ، مجسدا ما فعلوه ، سيتعجبون من هذا الكتاب الذى لم يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ، ويتيقنون أن الله جل وعلا لا يظلم أحدا ، فهى اعمالهم مسجلة متجسدة تشهد عليهم ، يقول رب العزة : (وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا) ( الكهف 49 ). لن تحدث هذه المفاجأة للمتقين لأنهم فى دنياهم كانوا يخشون ربهم بالغيب ،أى يخافون ربهم وهم فى خلواتهم لا يراهم أحد إلا الذى يعلم السّر وأخفى : (إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ)( يس 11 ).أى فهؤلاء فقط هم المستحقون للانذار والوعظ ، عكس الذين يعاندون وسواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون:(وَسَوَاء عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ) ( يس 10 ).

4ـ ونعطى أمثلة من القرآن الكريم لتسجيل جماعى لأعمال مجموعات من الناس ، منها :

4/1 : تندر بعض اليهود فى عصر النبى محمد عليه السلام على حث رب العزة على إعطاء الصدقة باسلوب: (مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ )( البقرة 245 )، فقالوا إن الله فقير ونحن أغنياء لأنه يحتاج الى الاقتراض منا ، فنزل قوله جل وعلا :( لَّقَدْ سَمِعَ اللّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ )(آل عمران 181 ـ ) . ربما قالوها فى خلوة أو علانية .لا يهم . المهم تسجيلها عليهم ، سواء من قال ومن سمع ورضى بما قيل دون إعتراض أو إستنكار. كلهم تحملوا مسئولية هذا القول الفاجر وتم تسجيله . وهى قاعدة عامة فى كل مكر الكافرين ، يقول ربنا جل وعلا يحذرهم مقدما :(إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ )( يونس 21 )، وإنهم مهما كتموا تآمرهم وأخفوا سعيهم فإنه لا يخفى على الله جل وعلا لأن رسل أو ملائكة الحفظ تكتب وتسجل : ( أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ ) (الزخرف 80 ).

4/2 : وكانت مشكلة المنافقين أفدح ، لأنهم كانوا يتظاهرون بالاسلام والطاعة ثم يتآمرون خفية معتقدين أن الله جل وعلا لا يراهم ، فكان ينزل الوحى يفضحهم ، مبينا حتى حركاتهم وإيماءاتهم كقوله جل وعلا : (وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُون)(البقرة 14) (وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُم مِّنْ أَحَدٍ ثُمَّ انصَرَفُواْ صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُم بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُون) (التوبة 127 )( وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِندِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا) (محمد 16 ). نزلت آية لا تكتفى بفضحهم ولكن تؤكد مقدما إن الله جل وعلا يكتب تآمرهم ،يقول جل وعلا : (وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُواْ مِنْ عِندِكَ بَيَّتَ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ )  ( النساء 81 )، فقد كانوا يدخلون على النبى يقدمون له فرائض الطاعة والولاء ثم يخرجون من عنده يتقولون عليه وينسبون له أقوالا لم يقلها ، وهو سبق قرآنى يؤكد أن الكذب على النبى محمد عليه السلام بدأ فى حياته على يد المنافقين ، وفضح رب العزة هذا الكذب فى القرآن الكريم ، وبعد إنتهاء القرآن نزولا إتسع المجال للكذب والافتراء عليه السلام فلم يعد الكاذبون يخشون نزول الوحى ليفضحهم .

4/3 :ولم يقتصر الأمر على المنافقين من الصحابة ،بل شمل مؤمنى الصحابة أيضا . ارتكب رجل جريمة سرقة فانكشف أمره وافتضح ، وشعر أهله بالعار، فتآمروا على وضع المسروق فى بيت رجل برىء ، ورتبوا ضبط المسروق ثم إلصاق الجريمة بهذا الشخص البرىء ، ولم يكتفوا بتلفيق تهمة لهذا البرىء بل ذهبوا للنبى يشكون له اتهام ابنهم ظلما وجعلوا النبى يدافع عن ذلك الشاب (الجانى ) وهو لا يعلم حقيقة الأمر . وهى قصة تتكرر دائما حيث يدخل البرىء المظلوم السجن ظلما وعدوانا بتهم ملفقة بينما ينجو المجرم صاحب النفوذ من العقاب ،بل يستحوذ على التمجيد والتعظيم . لذلك نزل الوحى يعرض القصة بمنهج القرآن الوعظى ، أى إغفال أسماء الشخصيات وزمنها ومكانها تركيزا على العبرة والعظة حتى تعلو القصة موعظة فوق الزمان والمكان ويستفيد منها الانسان . جاء الوحى فى البداية تأنيبا للنبى حيث تعجل فى الحكم وانخدع بوشاية الظالمين ، يقول جل وعلا له فى سورة النساء:( إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً (105) أى لا تدافع عن الصحابة الخائنين المزيفين . وأمره ربه بالاستغفار:(وَاسْتَغْفِرْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً (106) ونهاه ثانيا عن الدفاع عن أولئك الصابة الخونة الآثمين :(وَلا تُجَادِلْ عَنْ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً (107)، ويصف رب العزة جريمتهم واستخفاءهم من الناس بينما لا يأبهون برب العزة وهو معهم يسجل مكيدتهم وتآمرهم وتلفيقهم:( يَسْتَخْفُونَ مِنْ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنْ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنْ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً (108)ثم يعيد رب العزة التأنيب للنبى وآخرين ممن دافعوا عن المجرم وآله ، فإذا كانوا يدافعون عنه فى هذه الدنيا فهل سيجرأون على الدفاع عنه والشفاعة فيه يوم القيامة:(هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (109). الشاهد هنا هو قوله جل وعلا فى تسجيل عمل سىء شرّير لبعض الصحابة حين ارتكبوا ذلك العمل السىء:( يَسْتَخْفُونَ مِنْ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنْ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنْ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً )( النساء  108)

4/4 : وذكر رب العزة جل وعلا ـ مقدما ـ تسجيل عمل صالح لبعض الصحابة ، فقال :( مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الأَعْرَابِ) أى لا ينبغى لهم ( أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ اللّهِ وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ )(التوبة 120 ـ121)، أى إن أى عمل صالح يقومون به سيتم تسجيله فى صحائف أعمالهم ، أو فى كتاب عملهم الجماعى .

ثانيا : كتاب الاعمال الفردى :

1 ـ القاعدة هنا أن كل نفس ـ فى حياتها الدنيوية ـ  تتسلم أوّلا بأوّل نسخة تخصها من كتاب الأعمال الجماعى تتعلق بتفاعلها مع المجتمع ومشاركتها فى أحداثه وفعالياته ، تضاف الى أحداث أعماله الفردية، وبهذا يتكون كتاب الأعمال الفردى الخاص بكل نفس . عن كتاب العمل الفردى يقول جل وعلا:(يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا)(آل عمران 30 ) ، فكل عمل صالح ستراه النفس وتفرح به ، بينما سيصيبها الرعب والخزى من عملها السىء،وتود التبرؤ منه ـ بعد فوات الأوان. ويقول جل وعلا :(عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ ) ( التكوير14 ). هنا (تعلم ) النفس (علم اليقين ) ما قدمته من عمل صالح ومن عمل سىء . كل ذلك قبل أن يأتى غفران الله جل وعلا لذنوب وسيئات المتقين الذين تابوا وأنابوا فى الدنيا ، وفى وقت مناسب يعطيهم زمنا لعمل الصالحات التى تغطى السيئات وتبدلها حسنات . الغفران يأتى بعد رؤية كل نفس كل أعمالها .

2 ـ والآية المحكمة فى كتاب العمل الفردى هى قوله جل وعلا : ( وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنشُوراً اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً )(الاسراء 13 ـ ). يهمنا هنا هو قوله جل وعلا :( وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنشُوراً ). ففى الدنيا فإن كل ما يطير من جوارح الانسان من عمل وما يطير من قلبه من مشاعر يتم تسجيله وحفظه ليصبح معلقا برقبة صاحبه ويكون مسئولا عنه:( وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ) ثم يوم القيامة سيخرج له كتاب أعماله الفردى متضمنا حركاته وسكناته وكلماته فى يقظته وسعيه فرديا وفى تفاعله مع مجتمعه:(وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنشُوراً).

وعن تلك النسخة الفردية المنسوخة من كتاب العمل الجماعى يقول جل وعلا :( وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ )( الجاثية 27 : ـ ). والشاهد هنا قوله جل وعلا (إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ). أى أثناء حياة كل فرد يتم أوّلا بأوّل فصل نسخة من مشاركته وتفاعله مع مجتمعه بالخير أو بالشّرلتضاف الى كتاب أعماله الشخصى.

3ـ ونعطى أمثلة من القرآن الكريم لكتاب الاعمال الفردى للمؤمن عموما،يقول رب العزة:( فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ ) ( الأنبياء 94 ) ، معنى ( لا كفران لسعيه ) أن الله جل وعلا سيغفر له عمله السىء ويبقى له على عمله الصالح ، وذلك لأنه حافظ على إيمانه وتقواه فتاب وأناب ، وتقبل الله جل وعلا توبته وغفر له ، ولم يضيّع سعيه. ومع إنها حالة عن فردية كتاب الأعمال فإنها قاعدة عامة تسرى فى كل زمان ومكان.

ويقول جل وعلا عن تسجيل عمل سىء لكافر فى عقيدته ومات على كفره دون توبة :( أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى عَبْداً إِذَا صَلَّى أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى ) ( العلق 9 : 14 )، هنا لمحة عن أحد مشركى مكة كان ينهى النبى محمدا عن الصلاة فى البيت الحرام لأنه عليه السلام كان يصلى لله جل وعلا وحده دون أن يقرن صلاته بتقديس لأولياء قريش وآلهتها . ولقد استمرت قريش بعد هجرة النبى ومعظم المؤمنين الى المدينة ـ تمنع المؤمنين من دخول المساجد فى مكة :( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ )( البقرة 114 ). هذا الكافر كان ينهى النبى عن صلاته الخالصة لله جل وعلا . والشاهد قوله جل وعلا (أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى ). فالمؤمن المتقى يعلم أن الله جل وعلا يراه ، لذا يخشى الله جل وعلا بالغيب حرصا منه على أن أن يكون المسجل فى كتاب أعماله من الصالحات وليس من السيئات.

ويقول جل وعلا عن تسجيل كلمة سيئة لكافر : (أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا أَاطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا ) (مريم77 :  79 ).  تلك كلمات قالها كافر ثرى يعتقد إنه سيكون غنيا ثريا فى الآخرة كما هو حاله فى الدنيا ، وأنه سيؤتى فى اليوم الآخر مالا وولدا وجاها وثروة . ولذا كذّب بالقرآن . ويأتيه الرد على زعمه : هل يعلم الغيب ؟ هل إتخذ عهدا من الرحمن بأن الله جل وعلا سيعطيه كذا وكذا. ثم يؤكّد له رب العزة بأن ما قاله ستكتبه الملائكة عليه ،ويبشره رب العزة مقدما بعذاب شديد ينتظره . وواضح إنه قد تحكم فيه الشيطان وطبع على قلبه فلا أمل فى هدايته .

4 ـ والأمثلة السابقة هى حالات فردية إلا إنها تعبر عن ظواهر توجد فى كل مجتمع يسيطر عليه الدين الأرضى بتدينه السطحى المظهرى الاحترافى . فى هذا المناخ يعانى المؤمنون المخلصون لربهم من الاضطهاد لأنهم لا يقدسون ما يقدسه المجتمع من كتب وأئمة وأسفار وقبور وأنصاب. وفى هذا المناخ يؤمن أثرياء التدين الأرضى السطحى النفعى الاحترافى إنه بأموالهم يستطيعون شراء الجنة ، طبقا لظاهرة (تبرع يا أخى لبناء مسجد كذا ) وأكذوبة ( من بنى لله مسجدا ولو كمفحص قطاة بنى الله له قصرا فى الجنة ) ، والزعم بأن : ( من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع (عريانا ) كيوم ولدته أمّه ) . أى بأمواله الحرام يستطيع أن يتملك الجنة . وصاغ المثل المصرى هذه الأكذوبة فى مثل شعبى يزعم "إن سعيد الدنيا هو سعيد الآخرة". ومن صاغ هذا المثل الكاذب الفاجر ستسجله عليه ملائكة الحفظ فى كتاب أعماله.

مقال 8

ــــ تأصيل معنى ( كتب ، وكتاب ) فى القرآن الكريم(6/ 3 ) الزمن و كتابة العمل

مقدمة:لنا سلسلة مقالات بحثية بعنوان ( لكل نفس بشرية جسدان ) نشرنا منها 18 حلقة ـ وتبقى منها القليل ،وسننشره لاحقا بعون الله جل وعلا. تثبت هذه السلسلة حقيقة قرآنية ،هى أن عمل الانسان فى الدنيا ترتديه النفس البشرية ثوبا يوم القيامة عوضا عن ثوب الجسد الأرضى الذى سيتحول رمادا ثم يفنى مع هذه الأرض ، ويتم بعث كل نفس ثم ترتدى عملها جسدا جديدا أو ثوبا جديدا ، وبه يتم صلاحها لدخول الجنة إن كان ثوبها أو عملها صالحا نورانيا ،أو به تدخل النار تبعا لعملها الظالم المظلم. هذا العمل إن خيرا أو شرأ تتم كتابته لحظة بلحظة ونحن أحياء،ونصطحبه معنا الى الآخرة كتابا لأعمالنا الفردية والجماعية . وهنا المزيد من التفصيلات مع كتاب الأعمال فى هذه السلسلة عن معانى ( كتب ، كتاب فى القرآن الكريم). ويتوقف هذا المقال عن الزمن وكتاب الأعمال .

أولا

1 ـ يقول جل وعلا :(إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ وَمَا أَمْرُنَا إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ)(القمر49 :  53)، أى خلق الله جل وعلا كل شىء بتقديروإحكام ونظام دقيق يسرى على الخلية والذرة كما يسرى على كل نجم ومجرّة، وعلى وجهى عالمنا المادى من مادة وطاقة. الزمن هو الضلع الرابع فى هذا العالم المادى؛ يغلف كل شىء فيه؛سواء فى بنية المادة الحية والجامدة أو فى حركتها ،إذا كانت حركة إلزامية كحركة الكواكب والنجوم وحركة الاليكترون حول نواة الذّرة ـ أو حركة التفاعلات الكيماوية بالفيمتوثانية، أو كانت حركة نابعة من إرادة حرّة مثل حركة الانسان . وفى المستويات العليا البرزخية من الخلق حيث توجد عوالم الجن والملائكة والشياطين ،تتداخل تلك العوالم مع الانسان بجسده،بل إن النفس وهى التى تنتمى الى عالم البرزخ تضطر لتعود اليه بالنوم لتستريح من عالم المادة وأثقاله ، ثم تترك جسدها المادى نهائيا بالموت. وهى فى أثناء قيادتها لهذا الجسد تفعل به الخير أو ترتكب به الشر يوجد إثنان من الملائكة متداخلان مع الجسد ومع النفس يسجلان تحركها بجسدها فى اليقظة ، كما يسجلان مشاعرها وأحاسيسها ونواياها الطيبة أو السيئة. كل هذا فى الدنيا ، وهذا الوجود  كما قال جل وعلا مخلوق بقدر ، سواء القدر فى التخليق أو القدر فى متابعة الخلق بالهداية الطبيعية الغريزية أو بالهداية الايمانية لمن شاء الهدى. كما يشمل القدر أو التقدير ايضا كتابة أعمال النفس ضمن أمر الله جل وعلا بتسجيله ، ويستمر هذا التسجيل يصحب البشر فردا فردا وجيلا جيلا وقوما قوما من أبيهم آدم وزوجه الى آخر جيل وآخر فرد من بنى آدم . أوجز هذا كله رب العزة فى أربع كلمات (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ)

2 ـ وتأتى الآية التالية لتقرر إنه بعد إكتمال قدر الحياة يأتى قدر القيامة بالساعة بتدمير العالم بأسرع من سرعة الضوء. سرعة الضوء هى أقصى سرعة نعرفها فى عالمنا المادى ، يقول جل وعلا : (وَمَا أَمْرُنَا إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ).(لمح البصر) هو المصطلح القرآنى عن سرعة الضوء ، ولأن قيام الساعة يشمل عالمنا المادى وعوالم البرزخ من ملائكة وجن وشياطين وأنفس بشرية وبمستويات مختلفة تعلو عن مستوانا المادى الثقيل ، فإن سرعة قيام الساعة سيكون بسرعة أكبر لتشمل تلك العوالم البرزخية فائقة السرعة بحيث لايمكن تخيلها بادراكاتنا المادية الأرضية المحدودة ، لذا يأتى التعبير بالتشبيه باستعمال كاف التشبيه ،فقال (كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ ).

3 ـ بقيام الساعة يكون إختبار خلق البشر قد إكتمل ، ويكون تسجيل كل أعمالهم كأفراد وكمجتمعات وأجيال وأمم قد انتهى . وحين نزلت هذه الآيات الكريمة لم نكن قد جئنا للحياة بعد ، كنا موتى الموتتة الأولى فى البرزخ لم تدخل أنفسنا فى أجسادنا ، وكان معنا فى نفس البرزخ أجيال ماتت الموتة الثانية ،أى أخذا إختبارها فى الحياة ثم ماتت وعادت للبرزخ الذى أتت منه . والقرآن الكريم حين نزل بهذه الآيات يخبر عن أولئك الأقوام الذين ماتوا من قديم الزمان قبل جيل النبى محمد بأجيال،فتقول الآية التالية:(وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ)، الخطاب هنا جاء أولا للعرب من جيل النبى يخبر إن الله جل وعلا أهلك المعاندين السابقين الذين يسير على سنتهم معاندو قريش . ويشكل القصص القرآنى جانبا أساسا فى الوعظ ، وبمنهجية خاصة مختلفة عن منهجية التاريخ.وتدمير الأمم السابقة جاء تلخيصه مع الدعوة للعظة فى ست كلمات:(وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ). ومات جيل النبى وبقى القرآن الكريم يخاطب الأجيال المتلاحقة، بنفس القول :(وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ).وهو الآن يخاطبنا ، وبعد موتناسيخاطب أجيال المستقبل ، وهكذا الى قيام الساعة ، وإكتمال اليوم الدنيوى (الأول ) ومجىء اليوم (الآخر).

4 ـ انتهى الجيل السابق لنا كما انتهت أجيال أسبق قال عنها جل وعلا:(وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ).لم يبق منها إلا عملها المكتوب المحفوظ،لذا يقول جل وعلا عن المتبقى منهم :(وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِأى فكل شىء فعلوه تم تسجيله فى الكتب أو الزبر، يشمل هذا كل صغيرة وكبيرة ( وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ). مستطر أى تم تسطيره وكتابته. لكل فرد ولكل جيل زمنه الذى يحياه فى هذه الدنيا . وأولئك الذين ماتوا قبلنا قد تمت كتابة أعمالهم افرديا وجماعيا،وتم غلق كتاب أعمالهم حيث لا يقبل الاضافة أو الحذف. هذا على مستوى البشر من بدء وجودهم من وقت أبيهم الى وقتنا الحالى ، ثم من وقتنا الى قيام الساعة .

5 ـ أما على مستوى الفرد الذى لا يزال حيّا يسعى فكتاب أعماله مفتوح لأنه لا يزال حيا يسعى ويمكنه بسعيه  إضافة العمل السىء أو العمل السىء الى كتاب أعماله . هذا الفرد عليه أن يتعظ بمرور الزمن . فنحن نركب قطارا متحركا لا يتوقف ، وهو قطار الحياة بزمنه المتحرك الى الأمام دوما ، نركبه فى لحظة الميلاد أو محطة الميلاد ، ونعيش فيه الوقت المحدد لنا ، ثم نهبط منه بالموت فى موعدنا أو محطتنا النهائية. لا يمكن أن نوقف الزمن ، لأنه لايمكن أن نوقف دوران الأرض حول الشمس ، ولا يمكن أن نوقف دوران الشمس ومجموعتها حول المجرة ، فهى تسبح وتدور الى أجل محدد أو مسمى قدره أزلا رب العزة، وهو قيام الساعة . ولنقرأ هذه الآيات الكريمة : (اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى ) ( الرعد 2 )(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى  ) ( لقمان 29 )( أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى )(الروم 8 )(يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى ) ( فاطر 13 ). لا يستطيع بشر إيقاف الزمن،ولا يستطيع إستعادة يوم أمس الذى مرّ،بل لا يستطيع استرجاع دقيقة مضت من عمره لأن كل دقيقة من يقظته قد تم تخزينها محملة بحركاته وسكناته وأقواله وأفعاله ومشاعره. حتى إذا إنتهى عمره وتم قفل كتاب عمله سيأتى يوم القيامة ليرى عمله ، ثم سيتسلم كتاب عمله وبه يدخل الجنة أو النار .

6 ـ الفرصة الوحيدة له كانت معه وهو فى الدنيا حىّ يسعى . كل فرد لا يخلو من عمل سىء مهما بلغت تقواه ،ولا بد من تسجيل هذا الذنب ، ولكن الفارق هنا أن من يتقى ربه يتوب ويستغفر فى حياته ، وكلما تعاظمت تقواه كانت توبته أسرع وأبكر ، (أى مبكرا ومن وقت الشباب ).بتوبته فى الدنيا وهو حىّ يسعى يأتى يوم البعث فيرى كل أعماله من خير وشرّ كما جاء فى سورة الزلزلة :( يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ (6) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَه (8).  ثم يحين وقت الغفران يوم الحساب حين تسليم كتاب العمل ، فيتم الغفران لمن تاب وأناب فى حياته. وهنا التكفير عن الذنب أو غفران الذنب ، ومعناهما اللغوى واحد يعنى التغطية، حيث يغطى بتوبته على ذلك الذنب الذى تم تسجيله.نؤكد على أن زمن ووقت التوبة والاستغفار هو فى الدنيا أما الغفران فهو يوم الدين : (وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ )( الشعراء 82  ).  

ويقول جل وعلا:(وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً) (الفرقان 62 ). فالليل والنهار تمر يخلف بعضها بعضا لا تستطيع أن تسترجع يوما مضى ولا وقتا انتهى ولكن تستطيع وأنت حىّ تسعى أن تتذكر وتتعظ وتتوب وتشكر،أى إن فرصة التوبة فى الدنيا ، وعنصر الزمن فيها حاسم ، فكلما أسرع بالتوبة كان له أفضل . ومن هنا فإذا كان مستحيلا على الانسان أن يوقف الزمن أو أن يسترجع يوم أمس أو أن يشطب ذنبا ارتكبه تمت كتابته فى كتاب أعماله فهو يستطيع أن يتوب صادقا ويقوم بمتطلبات التوبة من   إيمان صادق خالص وعمل صالح وارجاع الحقوق لأصحابها وإنفاق فى سبيل الله جل وعلا . بهذا يغفرالله جل وعلا له يوم الدين ويبدّل الله جل وعلا سيئاته حسنات. يقول جل وعلا: (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ)(التوبة 102: 105 ).:

7 ـ هذا فى حياة كل فرد .. فماذا لو انتهى عمر البشرية ؟ ماذا لو أخذت كل نفس فرصتها فى إختبار الدنيا ؟ ماذا إذا أنتهى رسل كتابة الأعمال ( ملائكة كتابة الأعمال ) من مهمتهم ؟ يقول جل وعلا عن يوم القيامة فى سورة المرسلات : (إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ (7) فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (8) وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ (9) وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ (10) وَإِذَا الرُّسُلُ وُقِّتَتْ (11) لأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (12) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (13) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ (14) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (15).   الشاهد هنا هو قوله تعالى : ( وَإِذَا الرُّسُلُ وُقِّتَتْ (11) لأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (12) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (13). الرسل هم رسل كتابة العمل . إثنان من الملائكة ( رقيب وعتيد ) مكلفان بكل فرد. أى مكلفان بملازمته طيلة حياته يسجلان أعماله ونواياه فترة يقظته:(إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنْ الْيَمِينِ وَعَنْ الشِّمَالِ قَعِيدٌ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ) ( ق 17 : 18)، ويموت ذلك الفرد (وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ )(ق 19 ) فينتهى وقت هذين الملكين بموت صاحبهما الفرد البشرى ويتم (توقيتهما )أو تأجيلهما الى يوم الفصل(وَإِذَا الرُّسُلُ وُقِّتَتْ لأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ لِيَوْمِ الْفَصْلِ)، وفى يوم الفصل يتحولان الى (سائق وشهيد ): (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ)(ق 20 : 21 ).

8ـ بانفصال كل ملائكة كتاب الأعمال لكل البشر تنتهى الدنيا وزمنها وتأتى (الساعة ) وهى مصطلح قرآنى عن قيام يوم القيامة ونهاية العالم ،وهو يحمل مدلولا زمنيا (الساعة ) التى تفيد فى القاموس القرآنى معنيين : وقتا صغيرا فى حياة الانسان ،أو قيام (الساعة ) ، وقد جاء المعنيان معا فى آية واحدة :(وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ)   (الروم 55 ).وبانتهاء (زمن) الدنيا و(أزمان ) البشر فى هذه الحياة الدنيا تنتهى مهمة هذا الكوكب الأرضى فتتخلى الأرض بأطباقها السبعة عن مهمتها فيتم تدميرها نهائيا ولا يبقى منها إلا المسجل من أعمال البشر التى حدثت فوقها وجرى تسجيلها بيد ملائكة التسجيل . نفهم هذا من قوله جل وعلا :( إِذَا السَّمَاء انشَقَّتْ وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ وَإِذَا الأَرْضُ مُدَّتْ وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاء ظَهْرِهِ فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا وَيَصْلَى سَعِيرًا )( الانشقاق 1 ـ ). فمن مظاهر تدمير هذا العالم (وَإِذَا الأَرْضُ مُدَّتْ وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ)، أى تتبعثر الأرض وتتزلزل وتتناثر بعد أن يأتيها الوحى الالهى أو الأمر الالهى بالتدمير ، تمتد وتنفجر وتتحول بحارها الى نيران ملتهبة وتتحول جبالها الى ما يشبه الصوف الطائر المنفوش ، وتلقى الأرض ما فيها مما تم تسجيله على قشرتها وتنصاع لأمر ربها . وكل ذلك موصول بكتاب الأعمال ، فالآيات التالية تقول عن تسجيل كتاب الأعمال للبشر فى الدنيا :( يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ ). وعن لقاء الفرد بربه وبعمله يوم القيامة تقول الآية التالية : (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاء ظَهْرِهِ فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا وَيَصْلَى سَعِيرًا). ويتأكد نفس المعنى فى سورة الزلزلة وهى تتحدث عن انهيار هذا العالم : (إِذَا زُلْزِلَتْ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1) وَأَخْرَجَتْ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا (2) وَقَالَ الإِنسَانُ مَا لَهَا (3) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا (5) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ (6) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَه (8)). الأرض هنا (تخلت ) عن ( الأعمال ) التى كانت لها مسرحا ، وبهذا تتحدث عن أخبارها والتاريخ الحقيقى لنا الذى جرى فيها ، وكل ذلك بأمر الله جل وعلا ووحيه .

وبعد تدميرها ونهايتها يخلق الله جل وعلا أرضا جديدة وسماوات جدية مختلفة تتناقض صفاتها مع أرضنا الحالية والسماوات الحالية ، يقول جل وعلا : (يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ)( ابراهيم 48 ). هو تبديل أى تناقض تام بين عالمنا هذا والعالم الآخر ،أو بين يومنا هذا و (اليوم الآخر ). أرضنا فانية زمنها متحرك يسير الى نهايته ،أما الأرض القادمة و السماوات القادمة فهى أزلية بجنتها ونارها ، وزمنها خالد راهن ليس فيه ماض أو مضارع أو مستقبل . زمن لا ندرى كنهه لأننا لم نعايشه بعد. لهذا فإن عالمنا هذا هو عالم التكليف والحرية فى الطاعة أو المعصية ،أما اليوم الآخر فهو يوم أزلى للمكافأة أو العقوبة.إن تلخيص عالمنا اليوم يكمن فى كتاب الأعمال ، وبه تنتهى مهمة الأرض . وأن الفيصل فى دخول الجنة أو دخول النار هو أيضا فى كتاب الأعمال .

أخيرا

1 ـ نختم هذا المقال بتلك الآيات البينات من أواخر سورة الطلاق . يقول جل وعلا : (وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُّكْرًا فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا رَّسُولا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِّيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا):  

2 ـ فى آيات محكمة موجزة عن تاريخ الأمم السابقة : (وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُّكْرًا فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا )، هذا عن العقوبة فى الدنيا بالتدمير والاهلاك. فماذا عن عقوبتهم فى الآخرة ؟ الإجابة فى الآية التالية :(أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا) أى فى اليوم الآخر . فماذا عن وعظ الأجيال القادمة والراهنة ،يقول جل وعلا بعدها :(فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا).

3 ـ بعد الحديث عن الأجيال الماضية البائدة،ما هو مصدر التقوى والهداية للأجيال القادمة ؟ لا بد أن يكون هذا المصدر فوق الزمان والمكان ، يسير مع كل جيل حجة على كل جيل ،أى لا بد أن يكون القرآن وليس شخص النبى محمد المحدد بالزمان والمكان ، لذا يقول جل وعلا عن ذلك الرسول إنه (الذكر ) ولا يكون الذكر هنا سوى القرآن المستمر والمحفوظ فوق الزمان والمكان: (قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا رَّسُولا) الرسول هنا يفيد القرآن حصرا وليس خاتم النبيين .والقرآن بنفسه هو تلاوته:( يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِّيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ).القرآن هو النذير البشير بمجرد أن يتلوه المؤمن الداعية للحق ، سواء كان النبى محمد فى حياته أو أى مؤمن يدعو الى الله جل وعلا على بصيرة : (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ )( يوسف 108 )

وبالاستشهاد بآيات أخرى تجد الكتاب نفسه هو النذير والبشير ، ففى إفتتاحية سورة هود يتحدث رب العزّة عن القرآن الكتاب الذى أحكم الله جل وعلا آياته ثم فصّلها : (الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللَّهَ إِنَّنِي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُم مَّتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِن تَوَلَّوْا فَإِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (هود 1 : 4 )،أى لا بد من مؤمن يقرأ ويتلوه هذا القرآن ، ويقول لهم بالنّص والحرف : (وَإِن تَوَلَّوْا فَإِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ). وبذلك يتم استمرار النذير و البشير باستمرار الدعوة بالقرآن . ومن عجب أن يستمر الاعراض من المشركين فتقول الآية التالية من سورة هود (أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) (هود 5 ). وهنا إشارة الى تسجيل العمل والعقائد وما فى القلوب فى قوله جل وعلا (أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ).

وفى إفتتاحية سورة فصلت وفى حديث عن القرآن الكريم بشيرا ونذيرا يقول جل وعلا (حم تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ بَشِيرًا وَنَذِيرًا) ولأنه لا بد من مؤمن يتلو هذا القرآن يدعو وينذر به ويبشّر يقول جل وعلا عن رد الفعل للمعاندين : (بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ)(فصلت 1 : 4)،ثم هم يعلنون أن فى قلوبهم أكنّة وحجبا تمنع مقدما تسرب النور القرآنى:(وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ)( فصلت 5 : 6 ).

هذا استطراد ضرورى ليس فقط فى أنه يصل الحديث عن الأمم البائدة بالأجيال اللاحقة ولكن  لأنه وثيق الصلة بموضوع الزمن ،فالقرآن الكريم ليس (فعلا ماضيا ) وليس زمنا أنتهى بل هو هداية متجددة لكل زمان ومكان،وإذا كان النبى محمد مؤقتا فى وجوده بالزمان والمكان فالقرآن عظة فوق الزمان والمكان،لذا يقول جل وعلا عن القرآن:(إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغًا لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ)،وتقول الآية التالية:( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ)(الأنبياء 106: 107)، فالرسالة التى أرسله الله جل وعلا بها هى الرحمة المستمرة للعالمين بعد موته عليه السلام. ويقول جل وعلا فى إفتتاحية سورة الفرقان ـ والفرقان من اسماء القرآن ـ (تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا). فالنذير للعالمين ليس شخص النبى الذى مات ولكنه الكتاب المستمر بحفظ الله جل وعلا الى نهاية العالم .   

4 ـ ونعود الى الآيات الكريمة فى نهاية سورة الطلاق ، ونقرأ قوله جل وعلا فى ثواب المؤمن الصالح يوم القيامة (وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا).ويلاحظ هنا أن التعبير بالمضارع أى الزمن الحاضر:(وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا) يعنى أن من يأتى يوم القيامة وسجل أعماله مضىء بالايمان وبالعمل الصالح فإن الله جل وعلا يغفر له ويكفّر عن سيئاته (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ) فيصبح صالحا لدخول الجنة (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ) (العنكبوت 7،9 ).

5 ـ ونسأل ونجيب : أين هو كتاب الأعمال ؟ هو مع الملائكة المناط بها تسجيل الأعمال. وأين أولئك الملائكة ؟ هم فى العالم البرزخى ، فى أحد طبقاته . وأين تلك الطبقات بالنسبة الى الأرض ؟ نحن نتحدث دائما عن أرض واحدة نعرفها ونعيش عليها، هى تلك الأرض المادية وما يكتنفها من طاقات . ولكن هناك أرضين أخرى عددها ست ،أى ست أرضين ليكتمل العدد سبع أرضين .أى إن أرضنا المادية هذه لها ست مستويات برزخية ، فالسبع سماوات تقابل سبع أرضين ، منها ست أرضين أرضية تقابل وتماثل المستويات البرزخية للسماوات السبع . ويوجد الملائكة من درجة الملأ الأعلى فى السماوات السبع،كما يوجد الملائكة الموكلة بوفاة الأنفس وبوفاة الأعمال أو توفية الأعمال أو تسجيل الأعمال فى بعض المستويات البرزخية للأرض ،كما توجد فيها بقية عوالم الجن والشياطين . وهذا يحتاج الى بحث قادم مفصل عن عوالم الغيب فى القرآن الكريم ـ لكن الذى يهمنا هنا أن ملائكة تسجيل الأعمال توجد فى إحدى الأرضين السبع ، وأن الأمر يتنزل اليهم من السماوت العلا ، ومنه تسجيل الأعمال وحفظها لكل فرد وفى كل جيل وكل قوم وكل زمن ، ومنه قفل كتاب العمل بموت صاحب العمل حيث يتم توفية عمره ورزقه والمصائب ـ أى الحتميات ـ ثم يتم توفية عمله بقفل كتاب أعماله. تقول الآية الأخيرة من سورة الطلاق :(اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا).

6 ـ وسبحان الذى أحاط بكل شىء علما ..!!

مقال 9 :

ــــ تأصيل (كتب وكتاب)فى القرآن الكريم(6/4)توقف كتابة العمل بالنوم والموت

جزء حتمى مكتوب عليك فى الدنيا هو الحتميات الأربع، وجزء أنت حرّ فيه هو أعمالك وأقوالك ، وهو جزء تتم كتابته وتسجيله ليكون لك أو عليك يوم القيامة

 أولا : تمهيد بفقه المصطلحات الخاصة بالموضوع:

1 ـ الموت والحياة بين الحقيقة والمجاز للبشر: مصطلح الموت الحقيقى يأتى فى قوله جل وعلا مخاطبا خاتم النبيين:(إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ )(الزمر 30 ) ، ويأتى مجازا فى سياق الدعوة فالضال يكون ميتا والمهتدى يكون حيا ، ومن كان ميتا بضلاله ثم إهتدى أصبح حيا بنور الهدى ، ونفهم هذا من قوله جل وعلا :(أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ )(الانعام 122 ) . ومن الصفات المجازية للضالين : العمى والصمم ،وقد جاءت فيهم مقترنة بصفة الموت المجازى فى موضعين:يقول جل وعلا مخاطبا خاتم النبيين :(إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاء إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ وَمَا أَنتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَن ضَلالَتِهِمْ إِن تُسْمِعُ إِلاَّ مَن يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُم مُّسْلِمُونَ)(النمل 80 : 81 )ويتكرر نفس الخطاب فى سورة الروم :(فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (52) وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (53)  ) ، وفيهما يأتى المسلمون بالعقيدة والسلوك مقابل الكافرين الموصومين بالموت والعمى والصمم.

2 ـ أقسام الموت : وفى بحثنا هذا نعنى الموت الحقيقى وليس المجازى. وطبقا للقرآن الكريم فالموت الحقيقى ينقسم قسمين : موت مؤقت بالنوم والإغماء وموت نهائى بانتهاء هذه الحياة برؤية ملائكة الموت. هناك من يدخل فى إغماءة تطول ويظل جسده حيا بالتغذية الصناعية أو بدونها ، ثم يستيقظ ويعود للحياة لأن موعد موته لم يأت بعد . فموعد الموت يكون بحضور ملائكة الموت ، وحين تراهم ترى الموت ولا يمكن أن تعود الى الحياة، فقد إنقطع الخيط الذى كان يربط نفسك بجسدها وتحررت نفسك نهائيا من الارتباط بذلك الجسد ،أو تلك السيارة التى كانت تركبها وتقودها. والنفس البشرية ترى الملائكة فى الموت والبعث . فى البعث يفاجأ الضال بوجود القرين الشيطانى معه:(وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ )(الزخرف 36 : 38 ) كما يفاجأ بوجود رقيب وعتيد وقد تحولا الى سائق وشهيد (وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ )( ق 21 : 22 ). ولهذا فإنه عندما كان الكافرون يطلبون رؤية الملائكة عنادا وطلبا لآية حسية يأتى الرد الالهى باستحالة رؤيتهم للملائكة طالما ظل أحدهم حيا يسعى، يقول جل وعلا: (وَقَالُواْ يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ لَّوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلائِكَةِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ مَا نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَمَا كَانُواْ إِذًا مُّنظَرِينَ) (الحجر 6 : 8 )،فحين يرون الملائكة بالموت فلا انتظار ولا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون.ويقول جل وعلا:(وَقَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْ عُتُوًّا كَبِيرًا يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ)(الفرقان21: 22) .

 3 ـ الموت المؤقت بين النوم والموت وبين اليقظة والبعث : قد يصاب الفرد بإغماء طويل أو قصير من حادث سيارة مثلا أو حين يتعرض لآلام لا طاقة له بها، فهناك حد أقصى فى هذه الدنيا لتحمل الأم إذا تجاوزه الانسان غاب عن الوعى واستراح من الألم ، وهناك حد أقصى للاحساس باللذة ،إذا حاول الانسان  تجاوزه فإنه يفقد الاحساس باللذة بل قد تتحول اللذة الى ألم. هذا فى الدنيا. أما فى الآخرة فليس هناك حدّ أقصى لاحساس أصحاب النار بالألم ، وليس هناك حد أقصى ،أو حساب فى احساس أصحاب الجنة باللذة والنعم. فى كل الأحوال فإن الاغماء يعنى غياب النفس مؤقتا ثم عودتها عندما يتهيأ جسدها لاستقبالها طالما لم يأت بعد موعد موتها النهائى ولم تر ملائكة الموت . الله جل وعلا يقول عن الاغماء موتا وعن استعادة الوعى أو اليقظة بعثا فى هذه الآية الكريمة:( وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) ( البقرة 55: 56 ). طلبوا من موسى أن يروا الله جل وعلا جهرة فأخذتهم الصاعقة وحدث لهم إغماء ثم استيقظوا منه . وهنا يأتى تعبير الموت والبعث وصفا للاغماء ولعودة الوعى أو اليقظة (ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ ). ولأنه موت مؤقت وبعث مؤقت خلال حياتهم الدنيوية يقول جل وعلا (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)، أى بعد عودتكم لليقظة من ذلك الموت المؤقت .

وقد يكون الموت الطويل موتا مؤقتا يعقبه بعث أو إستيقاظ من النوم أو الموت المؤقت ، يقول جل وعلا :   (أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىَ يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ)(البقرة 259 ). هنا نوم استمر مائة عام ،أو موت مؤقت استمر مائة عام ، وأعقبه إستيقاظ أو بعث . ونظيره نوم أو موت مؤقت لأهل الكهف والذى أعقبه استيقاظ أو بعث :(فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ ) (وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُم بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ )( وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا)(الكهف  12، 18 : 19 ، 25 ).

4 ـ بين الوفاة والموت (معنى وأنواع الوفاة ) :  وبعيدا عن هاتين الحالتين الفريدتين فى سورتى البقرة والكهف فإن الوضع يتكرر يوميا فى حياتنا . لنفترض زوجين ينامان على وسادة واحدة وفى فراش واحد ، إستغرقا فى النوم ، وفى منتصف الليل مات الزوج وهو فى نومه ، ولم تحسّ به زوجته . حين استيقظت من النوم فوجئت بموته فصرخت ، وتوالت بقية أحداث المسلسل ..!!. هنا إثنان من النفوس ، نفس الزوج ونفس الزوجة . كلاهما نامت (أو ماتت موتا مؤقتا ) ولكن فى منتصف الليل تحول الموت المؤقت (أوالنوم) فى حال الزوج الى موت دائم بينما رجعت فى الصباح نفس الزوجة من نومها أو موتها المؤقت لتفاجأ بموت زوجها. المعنى أن الله جل وعلا (أمسك ) النفس التى قضى عليها الموت فلم تعد لجسدها لأن أجلها حلّ بينما أعاد نفس الزوجة الى جسدها لأن موعد موتها لم يأت بعد. يقول جل وعلا :( اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) (الزمر 42 )

ولأن الله جل وعلا يقول فى خاتمة الآية السابقة : (إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) (الزمر 42 ) فهنا دعوة للمزيد من التفكر فى الآية الكريمة ، وهى هنا تتحدث عن مصطلح جديد ، هو الوفاة . وللوفاة فى القرآن الكريم ثلاث معان : الوفاة بمعنى الموت والوفاة بمعنى النوم ، وقد جاء المعنيان معا فى الآية السابقة:( اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) (الزمر 42 )، ثم الوفاة يوم الحساب بتوفية كل فرد جزاء عمله بناء على كتاب عمله . ونعطى عنها المزيد من التفصيلات .

 5 ـ  فعن الوفاة يوم الحساب تأتى التوفية بمعنى توفية الجزاء على العمل إن خيرا فخيرا وجنة ،وإن شرّا فشرّا وجحيما . يقول جل وعلا لنا فى هذه الدنيا :(وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ)(البقرة 281 ). الحديث هنا عن لقاء الله جل وعلا يوم الحساب حيث يتم توفية كل فرد جزاء عمله . والله جل وعلا يحذرنا مقدما ونحن أحياء على الأرض نسعى . وهذا الحساب والجزاء وتوفية العمل يشمل الأنبياء ، فالله جل وعلا يقول فى سياق حديث موجّه لخاتم النبيين :(وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَغُلَّ وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ)( آل عمران 161 ). وعموما يقول جل وعلا عن يوم الحساب إن كل نفس بما فيها أنفس الأنبياء ستأتى تدافع عن أخطائها ، وفى النهاية يتم توفية كل نفس عملها بالقسط وبلا أدنى ظلم:( يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ )(النحل 111 ). المستفاد هنا أن التوفية تأتى بمعتى توفية الجزاء على العمل الدنيوى يوم الحساب .

ثانيا : توفية أو قفل كتاب العمل عند الموت المؤقت ( النوم ) وعند الموت النهائى :

1 ـ عن الوفاة بمعنى الموت النهائى يقول جل وعلا عن كيفية موت أو وفاة المجرمين وضرب ملائكة الموت لهم :(وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ) (الانفال 50 )(فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمْ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ) ( محمد 27 ). الضرب هنا ليس للجسد عند الاحتضارفكيف يستطيع أقوى جسد فى العالم ضرب الملائكة ؟ الضرب هنا هو للنفس الخاسرة العاصية عند موتها. ونفهم منه أن (نفسك ) تحمل فى عالمها البرزخى نفس ملامح جسدك ووجهك ، ويستمر هذا يوم القيامة ،إذ سنتعرف على بعضنا فيفر المرء من أخيه ومن أمه وأبيه ومن صاحبته وبنيه: (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ)(عبس 34 : 37 ). الوفاة (أى الموت النهائى ) تعنى إن الانسان قد (أوفى ) أى أكمل العمر المحدد له ، و(أوفى ) أكل الرزق المحدد له ، و(أوفى ) أى دخل فى اختبار كل المصائب المحددة له ، وأنه قد (أوفى ) أى أكمل أيضا كتاب أعماله،وإنه تم تسطير آخر صفحة وتم كتابة آخر سطر فى كتاب أعماله ، وأنه بهذه التوفية يتم قفل كتاب أعماله فلا يقبل الزيادة ولا يقبل النقص .وفى مزيد من الشرح يقول جل وعلا : (وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً حَتَّىَ إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ)( الانعام 61 ). فالقاهر (فوق) عباده جلّ وعلا يرسل (عليهم ) (حفظة ) أى ملائكة كتاب الأعمال وحفظها ، ويظلون فى عملهم الى أن تأتى ملائكة الموت النهائى فتتم وفاته النهائية.

2 ـ  وعن وصف الموت والنوم معا بالوفاة توقفنا مع قوله جل وعلا:( اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى )( الزمر 42 ) وبالتالى فإن ما ينطبق على الموت النهائى من توفية العمل وقفل كتاب العمل فإنه ينطبق على التوفية فى موضوع النوم ، أى يتم أيضا قفل كتاب العمل للشخص النائم . الفارق بين الشخص النائم إن نومه أو موته مؤقت لذا فكتاب عمله يتم غلقه مؤقتا الى أن يستيقظ ويستأنف ( السعى ) فى الأرض . أما من يموت فبموته النهائى يتم قفل كتاب أعماله نهائيا . وهناك توضيح أكثر فى قوله جل وعلا :(وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُّسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً حَتَّىَ إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ )(الانعام 60 : 62). فالله جل وعلا يقول عن نومنا بالليل إنه وفاة : (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ )،أى يتوفانا بالليل ونحن نيام ، ويقول عن يقظتنا بالنهار إنه بعث. وفى هذا البعث المتجدد يعلم جل وعلا ما فعلته جوارحنا وأعضاؤنا :(وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ ) ، ويستمر هذا ( كتابة العمل فى اليقظة وتوقفها فى النوم ) الى الموت أو الأجل المسمى المحد لموعد موت كل فرد:( لِيُقْضَى أَجَلٌ مُّسَمًّى ) ويستمر هذا الى انتهاء الحياة وقيام الساعة ومجىء القيامة ورجوعنا الى لقاء الله جل وعلا حيث يخبرنا بكل أعمالنا عن طريق كتاب أعمالنا : (ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ). وفى التأكيد على دور ملائكة الحفظ والتسجيل يقول جل وعلا (وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً حَتَّىَ إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ )، ثم عودة الى التأكيد على لقاء الله جل وعلا يوم الحساب : (ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ ).

3 ـ  ونترك للعلماء المتخصصين توصيح العلاقة بين النوم والموت ، وكشف أسرار النوم كأحد مظاهر القهر الالهى لله جل وعلا فوق عباده ، ومدى حاجة الانسان الى النوم ، ولكن بثقافتنا القرآنية المتواضعة نقول إن ( النفس ) داخل كل منا لا تنتمى الى هذا العالم المادى الثقيل بل تنتمى الى عالم أرفع وأعلى هو البرزخ بطبقاته التى لا نعرفها ، وحيث لا يوجد زمن ،أو لا يوجد الزمن المتعارف عليه بيننا ، بدليل أن ذلك الذى مات مائة عام ثم بعثه الله جل وعلا ظن أن لبث يوما أو بعض يوم ، وأن أهل الكهف حين استيقظوا ظنوا أنهم ناموا يوما أو بعض يوم.النفس فى سجنها فى هذا الجسد المادى تحتاج للراحة والافلات منه لتعود حوالى ثلث عمرها الأرضى الى برزخها فيما يعرف بالنوم . إنّ التسجيل هو للنفس حين تسيطر على جسدها وتسعى بالخير أو الشّر فى هذا الكوكب الأرضى ، وتسجيل عملها لا يكون عند غيابها فى برزخها ولكن عند رصد قيادتها لهذا الجسد فى عالمه المادى وهو يسعى ويتحرك فى يقظته ، فإذا مات مؤقتا أى نام أو دخل فى إغماء توقف التسجيل بقدر هذا النوم وذلك الاغماء .

4 ـ يعزّز هذا أن الله جل وعلا جعل النهار للسعى وجعل الليل للراحة والنوم . هذا فى الأغلب بطبيعة الحال ، والجسد البشرى (مصمم ) ( بفتح الميم الأولى ) على النوم ليلا ،قد ينام بعض الليل وقدرا من النهار، ولكن الانسان الطبيعى لا بد أن ينام جزءا من الليل ، ولا بد له من ساعات كافية من النوم ، ولا يستطيع البقاء محروما من النوم وإلا أصابه الجنون ،أى أصاب الجنون نفسه حين يتم منعها من العودة لوطنها البرزخى . وكثيرة هى الآيات القرآنية الكريمة التى تتحدث عن آيات الليل والنهار والنوم بالليل والسعى بالنهار ، منها قوله جل وعلا :(وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ اللَّيْلَ لِبَاساً وَالنَّوْمَ سُبَاتاً وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُوراً)( الفرقان 47 )، هنا وصف النهار بالنشور أى البعث ، أى وصف اليقظة من النوم أو الموت المؤقت بالبعث والنشور . وتتوالى الآيات : (وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً (9) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاساً (10) وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشاً (11) (النبأ)،(اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا)(غافر 61 )، (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا)(يونس 67 ).

5ـ وأغلب السعى بالنهار، والسعى هو العمل الذى يقوم به الانسان فى يقظته . ويصاحبه قصد ونية .ولذلك فلامؤاخذة على السعى الشرير الذى تتم كتابته ولكن لا مؤاخذة عليه ، مثل السعى المصحوب بالنسيان والخطأ غير المقصود: (لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا )( البقرة 186 )، والخطأ غير المتعمد ( وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا ) ( الأحزاب 5) (لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِيَ أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ ) ( البقرة 225 ) ولا مؤاخذة فى حالة الاكراه (مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ )( النحل 106 ) والاضطرار  (إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) ( البقرة 173)،وفى كل الأحوال سيرى الناس كل أعمالهم فور البعث وفق ما جاء فى سورة الزلزلة:( يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ  فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَه) . ثم يأتى الغفران فيما بعد عند لقاء الله جل وعلا يوم الحساب .

6 ـ وبعودة النفس الى عالمها البرزخى بموتها النهائى فى الدنيا تفقد الإحساس بالزمن مثل أهل الكهف،  ويوم القيامة سيظن المجرمون إنهم لبثوا يوما أو بعض يوم: (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا)( النازعات 46) (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَن لَّمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ سَاعَةً مِّنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ )(يونس 45) . ولكن النفس الكافرة فى الآخرة ينتهى عهدها بالنوم بموتها وتركها لهذه الحياة الدنيا . فلا حرية لها فى الحركة ولا تستطيع النوم عند البعث والحشر والحساب، ثم عند دخولها النار فلا مجال للنوم داخل النار ، فالنوم راحة من العذاب وكذلك الموت،ولا راحة ولا تخفيف ولا موت ولا نوم لأصحاب النار، يقول جل وعلا: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ)(فاطر 36 ) (مِّن وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِن مَّاء صَدِيدٍ يَتَجَرَّعُهُ وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِن وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ ) ( ابراهيم 16 : 17 )(إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَى  ) ( طه  74). لا نوم فى النار بل سهر فى خلود وخلود بالسهر ، يقول جل وعلا :(فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُم بِالسَّاهِرَةِ )( النارزعات 13 : 14 ).

أخر السطر : تخيل نفسك تسهر تحت عذاب خالدا مخلدا فيه ؟؟

مقال 10

ــــ كتب وكتاب)فى القرآن الكريم(6/5) كتب أعمال الأنبياء بين الحياة والموت

تمهيد (1 ) تاريخ البشر بين الكتاب الالهى وتأريخ المؤرخين

هذا موضوع طويل وعميق تعرضنا له ضمن كتابنا ( البحث فى مصادر التاريخ الدينى ) الذى كان مقررا على قسم التاريخ فى جامعة الأزهر عام 1984 ، وفى غيره . ونشير اليه بإيجاز سريع فيما يخصّ موضوعنا هنا. الله جل وعلا سجّل ويسجّل تاريخ البشر أفرادا وجماعات ومجتمعات وأمما فى : كتاب الأعمال الفردى والجماعى الذى لا يترك صغيرة ولا كبيرة إلاأحصاها . وسنرى هذا يوم القيامة . ثم هناك تسجيل لبعض تاريخ البشر فى الكتب السماوية ، وأهمها القرآن الكريم المحفوظ من لدن الله جل وعلا . كتاب الأعمال سجّل ويسجّل وسيسجل كل أعمال البشر الى قيام الساعة ،أما القرآن الكريم فقد(سجّل ) بعض هذا التاريخ فى : الماضى والحاضر والمستقبل . فى التاريخ الماضى ، نقرأ قصص بعض الأنبياء والأمم السابقة ، فى التاريخ المعاصر كان الوحى ينزل يعلّق على أحداث ويسجل أحداثا فى وقت نزول الوحى . ثم تميز القرآن الكريم بالاشارة الى أحداث تاريخية مستقبلية لا يتسنى للمؤرخين علمها لأنها غيب الهى ،مثل ما جاء فى مفتتح سورة الروم،بالاضافة الى حديث القرآن الكريم عن علامات الساعة ، ووضعه قواعد لحركة الانسان على الأرض تتجدد فى تاريخه .

 تمهيد (2)  كتاب أعمال الأنبياء والتفاضل بين الأنبياء

فى إحدى تفصيلات هذا الموضوع نجد التأريخ الالهى لبعض الأنبياء بين حاضرهم وهم أحياء فى الدنيا حيث يتم تسجيل أعمالهم وبين مستقبلهم فى الآخرة بعد انتهاء هذا التسجيل وتحديد درجة كل واحد منهم بين بقية الأنبياء فيما يعرف بالتفضيل بين الأنبياء،وهى قضية لا يجوز لبشر التحدث فيها،لأن هذا التفضيل هو لله جل وعلا وحده لأنه الأعلى فوق الجميع ، ولأنه الأعلم بمحتوى كتاب أعمال كل فرد وكل نبى . بينما لا نعرف نحن حتى عدد الأنبياء ولا نعرف شيئا عن حقيقة أعمالهم ، فكل ذلك غيب . والرأى الالهى يمكن معرفته من القرآن الكريم فيما أورده عن الأنبياء (الموتى) قبل نزول القرآن الذين انتهى وتم تسجيل كتب أعمالهم وتحديد درجة كل منهم . ولكن لا يمكن تحديد درجة النبى محمد خاتم النبيين لأنه كان لا يزال حيا يسعى وكتاب أعماله كان لا يزال مفتوحا ، ثم إكتمل القرآن نزولا ومات النبى محمد عليه السلام وتم قفل كتاب أعماله دون ان نعرف الى أى حدّ كانت مكانته بين الأنبياء السابقين ، هل تفوق عليهم جميعا فى طاعته،أو تفوق على بعضهم ام تفوق عليه كثيرون ؟ ومن هم؟ كل ذلك علمه عند الله جل وعلا ، وسنعرفه يوم القيامة .ولو كان هناك كتاب الاهى بعد القرآن الكريم وجاء نبى بعد محمد لأخبرنا بدرجة محمد كما أخبر القرآن عن أنبياء قبل محمد. ولكن لأنه عليه السلام خاتم النبيين ولأنه لا وحى فى الاسلام بعد القرآن ولأن القرآن هو الرسالة النهائية من رب العزة فلا نعرف درجته عليه السلام بين الأنبياء . ولا نريد الخوض فى تفصيلات التفاضل بين الأنبياء ، ولكن نقتصر على ما يخصّ قفل كتابة عمل الأنبياء عند الموت وتحدد درجة النيى بعدها .

 أولا : خصوصية الأنبياء لا تتعارض مع مساواتهم بالبشر فى كتابة العمل والمسئولية والحساب

1 ـ كتابة العمل تسرى على كل أفراد البشر من أنبياء وغيرهم لأن هذا الكتاب أساس الحساب يوم القيامة ، والحساب للجميع من أنبياء وغيرهم، بل إن مسئولية الأنبياء يوم الحساب أكبر ، لذا يجعل الله جل وعلا حسابهم فى كفة وحساب بقية البشر فى كفة أخرى مع الفارق العددى الهائل بين الأنبياء وأفراد البشر، يقول جل وعلا : (فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ ) (الأعراف 6:7 ) ،ونفس الحال مع خاتم النبيين يجعل ربه جل وعلا حساب محمد فى كفة وحساب قومه فى كفة أخرى: (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ )(  الزخرف 44 ) ويساوى بينه وبينه فى التخاصم أمام الله جل وعلا يوم الحساب (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ )(  الزمر 30 : 31). وهى قاعدة أساس فى المساواة بين كل البشر فى أن كل نفس ـ بما فيهم الأنبياء ستأتى يوم الحساب تدافع عن نفسها ، وسيتم توفية كل نفس جزاءها وفق المكتوب فى كتاب أعمالها :( يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ )(النحل  111 ). لذا فإن الله جل وعلا يجعل الأنبياء مشمولين فى حديثه عن كتاب الأعمال،كقوله تعالى:(وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا) (الاسراء 13 : 14)، ( يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُوفُ بِالْعِبَادِ ) ( آل عمران 30 ). والأنبياء بعملهم وإيمانهم وجهادهم يجعلون كتاب أعمالهم ناصعا مضيئا ، وكذلك من يختار من بقية البشر أن يكون مؤمنا محسنا تقيا ، فيكون فى معية الأنبياء . وهذا متاح أمامنا جميعا فى كل زمان ومكان ، بل كان متاحا للمنافقين فى عهد النبوة لو أطاعوا وتابوا وأنابوا ، يقول جل وعلا عنهم : (وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا وَإِذًا لَّآتَيْنَاهُم مِّن لَّدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ َالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا) ( النساء 66 : 69 )، أى هو حكم عام يسرى فى كل زمان ومكان:أن من يطع الله ورسوله فسيكون فى معية النبيين يوم القيامة. و(الرسول )هنا بمعنى الرسالة أى القرآن الكريم ، وليس شخص محمد عليه السلام. والتفاصيل فى كتابنا ( القرآن وكفى ).

ثانيا : النبى فى حياته يتمنى أن يكون من الصالحين فى الآخرة ، وكذلك المؤمن الحق

 1 ـ  إن الله جل وعلا يحذّر المؤمنين مقدما ـ وهم على الأرض أحياء يسعون ـ من الانهماك فى غرور الدنيا فيغفلون عن ملء كتاب أعمالهم بالصالحات قبل ورود الموت عليهم:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) ( المنافقون 9 )ثم يأمرهم بالانفاق فى سبيل الله قبل الموت:(وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ )(المنافقون10 :11)،  الشاهد هنا إن من تلهه الدنيا يتحسّر لحظة الموت وعند قفل كتاب أعماله ويتمنى فرصة أخرى ليملأ كتاب أعماله بالصلاح كى يصلح لدخول الجنة . هذا عن المؤمن الغافل اللاهى ، أما المؤمن الذى يتقى ربه فإنه  يعمل الصالحات ويرجو أن يكون من الصالحين بعون الله جل وعلا ، وهذا ما جاء فى الاتفاق بين موسى والرجل الصالح:(قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِندِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ )(القصص 27 ). أما أصحاب الدين الأرضى فلهم شأن آخر،أضل سبيلا . إعتادوا توزيع صفة الصلاح بكل كرم على شيوخهم وأئمتهم ، طبقا لطبيعة الدين الأرضى فى التدين السطحى والاحتراف الدينى ، وحيث يمكن قياس الصلاح بطول اللحية والسبحة وحجم العمامة وعدد الأتباع والأنصار والمريدين من العوام والرعاع وتأييد السلطة المستبدة . فالدين الأرضى يملكه أصحابه،وبه يمتلكون الجنة ويتحكمون فيها ، ويصدرون فرمان الصلاح لهذا وذاك فى دخولها، وبالتالى فلا حاجة لكتابة الأعمال ولاحاجة لملائكة كتابة العمل . ونذرهم فى غيّهم يعمهون ونتجه الى الأنبياء والمؤمنين وما جاء فى حقهم فى القرآن الكريم .

2 ـ النبى فى حياته يدعو ربه جل وعلا أن يكون من الصالحين يوم القيامة،أى من أصحاب الجنة ، هكذا فعل يوسف عليه السلام حين وصل الى أوج سلطانه وتحققت كل آماله ، فدعا ربه جل وعلا:(رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ) (يوسف 101).وتأمّل روعة الأدب فى عبارة :(وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ )، لم يقل يوسف عليه السلام (إجعلنى من الصالحين ) وقبلها قال لملك مصر (اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ)( يوسف  55 )، أى طلب من الملك المصرى أن يجعله على خزائن مصر وقدم مسوغات تعيينه وهى إنه صالح لهذا العمل وإنه حفيظ عليم . أما حين دعا ربه جل وعلا فإنه لم يقم بتزكية نفسه بالصلاح بل على العكس قدّم الشكر لله جل وعلا الذى آتاه الملك وعلّمه تأويل الأحاديث ( المنامات ) ، وقدّم خضوعه لربه جل وعلا فهو جل وعلا وليّه فى الدنيا والآخرة ، وبعدها دعا أن يموت مسلما ـ أى أن يتم ختم كتب أعماله بالاسلام السلوكى والاسلام القلبى ، وأن يلحقه ربه جل وعلا بالصالحين ، أى أن يلتحق بركب الصالحين الذين ماتوا من قبل وتم غلق وقفل وختم وتوفية كتاب أعمالهم بالاسلام وبصلاحيتهم للجنة . وأولئك الصالحون ـ الذين تمنى يوسف عليه السلام أن يلتحق بهم ـ  ليسوا فقط أنبياء بل أغلبهم من بقية البشر ممّن آمن وعمل صالحا فى حياته الدنيا ،وملأ كتاب أعماله بنور الايمان والصالحات.

 3 ـ ونفس الحال مع النبى سليمان عليه السلام ، وقد أوتى آيات عظيمة ، ومع ذلك دعا ربه جل وعلا أن يدخله فى عباده الصالحين يوم القيامة ، يقول جل وعلا عن سليمان حين سمع وفهم ما قالته النملة : (فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِّن قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ ) ( النمل 19 ) ، أى شكر ربه ودعا أن يهديه ربه الى عمل الصالحات فى الدنيا ، ثم أن يكون صالحا لدخول الجنة فى الآخرة.

4 ـ وهناك معياران للصلاح ، ففى الدنيا فالصلاح يعنى عمل الصالحات من العبادات والأعمال النافعات للمجتمع الصادرة عن قلب تقى ، لذا يأتى عمل الصالحات مقترنا بالايمان : يقول جل وعلا ( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) أى فى الدنيا ( لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ ) أى فى الآخرة ، وفى الآخرة يكتسب الصلاح معنى آخر هو (الصلاح ) لدخول الجنة واللحاق بركب الصالحين فيها :( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ ) (العنكبوت 7 ، 9 ).وهذا الصلاح لدخول الجنة هو آلية يتحول بها كتاب العمل للمؤمن الذى آمن وعمل صالحا فى الدنيا الى شفيع لصاحبه يوم لقاء الله جل وعلا ، وبه يتم غفران ذنبه فلا يبقى فى كتاب أعماله سوى الصالحات ، وبالغفران أو التغطية على السيئات وبتكفير الذنوب أو تغطيتها أو غفرانها يكون بعمله الصالح المتبقى فى كتاب أعماله صالحا لدخول الجنة .  

ثالثا : كتاب النبى مفتوح فى حياته وبقفل بموته وتتحدد درجته

1 ـ ابراهيم عليه السلام فى الدنيا كان يدعو الله جل وعلا أن يكون من الصالحين :(رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ)(الشعراء 83 ). وكان يقرن دعاءه بعمله الصالح ، فمثلا حين كان يرفع القواعد من البيت كان يدعو ربه :(وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ). الله جل وعلا أخبر فى القرآن الكريم عن هذا الذى حدث فى حياة ابراهيم وهو يدعو وهو يرفع القواعد من البيت . أى جاء هذا الخبر بعد موت ابراهيم بقرون طويلة . والمعنى إن ابراهيم حين كان يدعو هذا الدعاء كان كتاب أعماله مفتوحا ، ثم تم غلقه بموته . وبالتالى بغلق كتاب عمل ابراهيم تحددت درجته النهائية ، فإخبر رب العزة فى القرآن الكريم إنه استجاب لابراهيم حين دعا (وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ) ، فجعله بعد موته من الصالحين ، وهذا ما جاء فى سياق الآيات السابقة : (وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ) ( البقرة 127 : 130 ). أى إصطفاه الله جل وعلا نبيا فى الدنيا ، وأدخله فى إختبارات وابتلاءات فوفّى بها كلها : (وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى)(النجم  37)، وأتمها جميعا (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ ) وفى نهاية حياته جاءته المكافأة من ربه:(قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ)(البقرة 124 )،أى بلغت نصاعة كتاب أعمال ابراهيم فى نهاية عمره بعد أن وفّىّ وأتم ، ومات وتم قفل كتاب أعماله ، وأخبرنا رب العزة إنه فى الآخرة من الصالحين ( وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ) ( العنكبوت 27 ).

2ـ وتكرر نفس الحال مع بقية الأنبياء ،إذ تتحدد درجة أحدهم بقفل كتاب أعماله بالموت ، ثم يأتى الخبر لنا  من رب العزة فى القرآن الكريم عن منزلته بعد قفل كتاب أعماله وموته، يقول تعالى عن النبى لوط  فى الدنيا:(وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَت تَّعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ ) ثم قال عن منزلته فى الآخرة بعد قفل كتاب أعماله : (وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ). ونفس الحال عن بقية الأنبياء ومنزلتهم فى الآخرة :(وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِّنَ الصَّابِرِينَ وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُم مِّنَ الصَّالِحِينَ ) (الأنبياء 74 : 75 ، 85 : 86 )،أى صبروا فى الدنيا وتزين كتاب أعمالهم بالصبر وبقفله تحددت درجتهم بالصلاح فى الآخرة .  ونحو ذلك ما قاله رب العزة عن أنبياء سابقين ذكرهم فى سورة مريم ثم جاء التعقيب يشير الى درجتهم بعد موتهم وقفل كتاب أعمالهم : (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا) (مريم 58  ). وفى التعقيب على قصة ابراهيم فى سورة الأنعام قال جل وعلا : (  وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلاًّ فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ )(الأنعام 84 : 90 )

رابعا : إختلف الحال مع خاتم النبيين لأنه فى حياته وقت نزول الوحى كان حيا يسعى وكان محتاجا للتعلم من القرآن

1 ـ عند نزول الوحى كان كتاب أعماله لا يزال مفتوحا لم يقفل بعد،ولم تكن درجته بين الأنبياء قد تحددت، ثم قبيل موته إكتمل القرآن ، ثم مات وتم قفل كتاب أعماله ، دون أن نعرف درجته بين الأنبياء .  وأثناء نزول القرآن كان يتعلم من قصص الأنبياء السابقين . 

2 : من أهداف القصص القرآنى تثبيت فؤاد خاتم النبيين ووعظه فى دنياه ، وهو نفس الهدف لكل من يسير على السّنة الحقيقية لخاتم النبيين فى الدعوة والجهاد. بعد أن قصّ رب العزّة تاريخ بعض الأنبياء فى سورة هود قال فى ختام السورة :(وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ) ( هود 120 ).

3 ـ وفى قصص الأنبياء كان بعض الأنبياء قد بلغ الدرجات العلا مثل ابراهيم عليه السلام ، لذا امر الله جل وعلا خاتم النبيين فى حياته ان يأخذ ابراهيم قدوة وأسوة حسنة : (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ) ( الممتحنة 4 : 6 ).

وبعد أن مدح الله جل وعلا ابراهيم أمر خاتم النبيين ـ  وهو حىّ يسعى ـ أن يتبع ملة ابراهيم : (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ شَاكِرًا لِّأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) ( النحل 105  ). وبعد أن قصّ جل وعلا جانبا من قصة ابراهيم ذكر ذريته من الأنبياء أمر خاتم النبيين أن يقتدى بهداهم فى حياته:(أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ)( الانعام 90  ).

4 ـ وبعض الأنبياء وقع فى خطأ وكرره رب العزة فى القرآن مثل يونس عليه السلام الذى لم يستطع الصبر على عناد قومه فهرب منهم الى سفينة فألقوا به فى البحر فالتقمه الحوت،واستغفر ربه فأنجاه وعاد لقومه مصمما على الصبر فآمنوا،واجتباه ربه جل وعلا بعدها .يقول جل وعلا:(وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ إِذْ  أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنْ الْمُدْحَضِينَ فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ وَأَنبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِّن يَقْطِينٍ وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ ) (الصافات 139 : 148 )  (وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لّا إِلَهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ) ( القلم 87 : 88 ). وأمر الله جل وعلا خاتم النبيين فى حياته أن يتعظ بما حدث ليونس ، وأن يصبر ولا يرتكب نفس الخطأ الذى وقع فيه يونس من قبل : (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ لَوْلا أَن تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِّن رَّبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاء وَهُوَ مَذْمُومٌ فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ  ) ( القلم 48 : 50 )

خامسا :عامل الزمن فى كتابة العمل فى حياة النبى محمد عليه السلام

1 ـ من التاريخ المعاصر فى القرآن الكريم ما نزل يخبر عن أحداث وقعت وقت نزول الوحى أو يعقّب ويعلّق عليها ، وكان التعبير يأتى بالفعل المضارع كقوله جل وعلا : (وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ )(الأحزاب 37 )،( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ)(التحريم 1 )،(عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ ) ( التوبة 43 ). فالتعقيب هنا سريع ومعاصر للحدث حتى يستفيد منه النبى فى تصحيح الخطأ بما ينعكس فى كتابة عمله .

2 ـ وأحيانا كان النبى لا يستجيب للتوجيهات فتتكرر . كان يتحرج من أصحابه الفقراء المسلمين حرصا منه على التودد للملأ القرشى المتكبر حتى لا يقولون له ما قاله من قبل قوم نوح : (وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا  ) ورد عليهم نوح رافضا طردهم :(وَمَا أَنَاْ بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّهُم مُّلاقُوا رَبِّهِمْ وَلَكِنِّيَ أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ وَيَا قَوْمِ مَن يَنصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِن طَرَدتُّهُمْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلاَ أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلاَ أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَن يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ ) ( هود 27 ـ )، (قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ إِنْ حِسَابُهُمْ إِلاَّ عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ )( الشعراء 111 ـ ). على العكس كان خاتم النبيين . أعرض عن رجل أعمى جاءه يطلب الهدى أثناء إجتماعه مع الملأ ، فنزل قوله جل وعلا يعاتبه ويذكّره حتى لا يكرر الخطأ :(عَبَسَ وَتَوَلَّى أَن جَاءَهُ الأَعْمَى وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى وَأَمَّا مَن جَاءَكَ يَسْعَى وَهُوَ يَخْشَى فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّى كَلاَّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ )( عبس 1 ـ  ). ولكنه لم يتذكر . ظل بعدها وهو فى مكة يحاول التقرب للملأ معرضا عن المؤمنين الفقراء ، فنزل قوله جل وعلا يأمره أن يجاهد نفسه على الصبر فى الجلوس مع فقراء المؤمنين ، وأن يبتعد عن الملأ الذين لا أمل فيهم :(وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا) ( الكهف 28 ).ولم يطع هذا الأمر ،بل كان يطرد المؤمنين الفقراء فجاءه التحذير الالهى : (وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ) ( الأنعام 52 ). وفى المقابل كان يحضر جلسات الملأ الكافرين وهم يخوضون فى القرآن ، فنهاه ربه جل وعلا مرتين عن حضور هذه الجلسات:(فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ) ( الزخرف 83) ، (فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ )( المعارج 42 ). ولم يطع النبى فنزل التحذير :(وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)(الأنعام 68 ). ونتدبر قوله جل وعلا للنبى : (وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ )كان ذلك فى مكة. وقد إمتثل النبى أخيرا فامتنع عن حضور هذه المجالس بعد الهجرة الى المدينة ، وقد كان   يعقدها المنافقون فى الخوض فى القرآن الكريم ، بينما كان يحضرها بعض المؤمنين فنزل التحذير الالهى يذكّرهم بما سبق من نهى : (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا ) ( النساء 140 ).

3 ـ عنصر الزمن هنا واضح ، ليس فقط فى رصد تاريخ معاصر للنبى ،وليس فقط فى التاكيد على عدم عصمته ولكن أيضا فى أن كتاب أعماله كان مفتوحا يستقبل هذا وذاك ، ويسجله كما كان القرآن ينزل ببعض تلك الأحداث يرصدها ويعلق عليها بالتوجيهات والتربية . ويتضح عنصر الزمن أكثر عندما يقترب كتاب الأعمال من التمام والكمال ، أى باقتراب صاحبه من الشيخوخة والموت . هنا يكون المؤمن قد قارب من تحديد درجته ، بتوبته وبتعوده على التقوى وعمل الصالحات بحيث يصحو ضميره ويصير قلبه نورانيا مضيئا ، يقول جل وعلا يدعو المؤمنين للتمسك بالتقوى ليصل المؤمن الى ضمير يقظ حىّ يفرّق له بين الغىّ والحق فيحوز على الغفران يوم القيامة : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِن تَتَّقُواْ اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ) (الأنفال 29 ).فى المقابل فإن من تعود العصيان وأدمنه فإنّه بمرور الزمن يصدأ قلبه بتعود المعصية فتستحيل توبته فى نهاية العمر، يقول جل وعلا عن كتاب الأعمال للمجرمين : (كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ كِتَابٌ مَّرْقُومٌ)،ويصف رب العزة حالهم فى الدنيا فيقول:(كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ )(المطففين  7 : 9 ، 14)،أى إن إدمانهم للذنوب جعلت قلوبهم مظلمة صدئة. ويقارن رب العزة بين الفريقين : فريق أضاء الايمان قلبه وفريق فى ظلمات الضلال والظلم:(أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) ( الأنعام 122 ). بتطبيق هذا على حال النبى محمد وكتاب أعماله مفتوح يستقبل أعماله،ويتلقى التوجيهات من ربه، يخطىء أحيانا ولكنه يستغفر ويتوب محافظا على التقوى ، نجد أن شدة التأنيب تخف حدتها بمرور الزمن بحيث تأتيه  البشرى من ربه فى نهاية عمره بغفران ما تقدم من ذنبه وما تأخر :( إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ)(الفتح1  :  2 ). ومعروف ان الغفران هو يوم الحساب وليس فى الدنيا ، أى ليغفر لك الله يوم الحساب ما تقدم من ذنبك وما تأخر . جاء هذا فى نهاية رحلته وقبيل موته . وتأكّد هذا بتبشيره بالجنة هو والمؤمنين معه بعد حياة حافلة بالجهاد بالنفس والمال وفعل الخيرات:(لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ جَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) ( التوبة 88 : 89 ). أى أخيرا تحقق لهم الفوز العظيم . الكلام هنا ليس عن فلان وفلان من الشخصيات التاريخية من الصحابة ، ولكنها صفات تنطبق على أشخاص لا يعلمهم إلاّ الله جل وعلا . وليس لنا أن نتكلم فى هذا ،وإلاّ صرنا من أصحاب الديانات الأرضية الذين يجعلون التاريخ البشرى والشخصيات التاريخية جزءا اساسا من دينهم القائم على عبادة الأبطال .

 سادسا : النبى فى حياته وبعد موته وقفل كتاب أعماله ليس مسئولا عما يفعله غيره

1 ـ  مثل كل الأنبياء لم يكن خاتم النبيين فى حياته مسئولا عن عناد قومه ورفضهم الحق ،بل أكّد لهم حقهم فى الاختيار بمثل حقه هو فى التبليغ . قال هذا من قبل النبى شعيب لقومه فى سورة هود: (وَيَا قَوْمِ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُواْ إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ ) (هود 93 )، وفى نهاية السورة وبعد أن أوضح الله جل وعلا الهدف من القصص القرآنى أكّد نفس المبدأ فى حرية الايمان وحرية الكفر : (وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ وَقُل لِّلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ وَانتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ) (هود 121 : 122)، وأمره ربه جل وعلا أن يردد نفس المبدأ بنفس الألفاظ تقريبا التى قالها النبى شعيب لقومه من قبل : ( قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ  ) ( الزمر 39 : 40 )، وأيضا : (قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ) ( الأنعام 135 ).

2 ـ لم يكن مسئولا إلا عن شىء واحد هو تبليغ الدعوة ،أما موقف الناس منه فكل نفس لها حق الاختيار ، إن إهتدت فلنفسها وإن ضلت فعلى نفسها . ومن يشاء الهدى يهده الله ومن يشاء الضلالة يضله الله . تكرر هذا فى آيات كثيرة ، منها أن هداية الناس ليست مسئولية النبى : (لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء) ( البقرة  272)، بل إنه عليه السلام لا يستطيع هداية أحبّ الناس اليه :(إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ) (القصص 56 )،فالله جل وعلا هو الذى يعلم كتاب أعمالالمهتدين ، لذا فليس من وظيفة النبى فرض الحق على أحد، بل هو مجرد نذير ومجرد مذكّر بالحقّ :( فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ إِلاَّ مَن تَوَلَّى وَكَفَرَ فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الأَكْبَرَ إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ ) ( الغاشية 21 : 26 ). بالتالى فالنبى بعد موته وقفل كتاب أعماله ليس مسئولا عما حدث من أصحابه أو خصومه من خير أو شّر،أو بالتعبير القرآنى ليس وكيلا عليهم لأن الله جل وعلا هو الوكيل على كل الناس . أما خاتم النبيين النبى ليس وكيلا عن أحد . ليس وكيلا عن المنافقين المخادعين من الصحابة : (وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُواْ مِنْ عِندِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِّنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً ) (النساء 81 )وليس وكيلا عن الصحابة العصاة :(هَاأَنتُمْ هَؤُلاء جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَن يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَم مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً ) ( النساء 109 )أو حتى الصحابة الطيبين الفقراء  :(وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ ) ( الأنعام 52 )، وليس وكيلا عن قريش قوم النبى (وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُل لَّسْتُ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ )(الأنعام  65 : 66)، أوعن الكفرة المشركين عموما :(أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلا) (الفرقان 43 )( وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ  ) ( الشورى 6 )، وليس وكيلا عن الناس جميعا:(إِنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ )( الزمر 41 ). الوكيل فى المصطلح القرآنى هو الذى يتوكل عليه الناس ويستعينون به ويكون مكفلا بهم . وهذا لا يكون الا رب العزة .  ليس على الرسول إلا  البلاغ أما مدى الاستجابة للبلاغ فعلمها عند رب العزة : (مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ )( المائدة 99 ). وهذا العلم مسجل فى كتب الأعمال. بالتالى فالنبى بعد موته وقفل كتاب أعماله ليس مسئولا عما حدث من أصحابه بالخير أو بالشّر ، فسواء أثمرت دعوته هدى فلن يزيد ذلك فى مكانته ، أو إن عورضت فى حياته أو تعرضت للعصيان والتضليل بعد موته فلن يؤثر هذا على مكانته لأن القاعدة أن المسئولية شخصية ، فلا تزر وازرة وزر أخرى ومن يهتدى فلنفسه ومن يضل فعليها : ( مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ) ( الاسراء  15) .

 

مقال 11

ــــ (كتب ، وكتاب ) فى القرآن الكريم(6/ 6) آلية كتابة العمل

جزء حتمى مكتوب عليك فى الدنيا هو الحتميات الأربع، وجزء أنت حرّ فيه هو أعمالك وأقوالك ، وهو جزء تتم كتابته وتسجيله ليكون لك أو عليك يوم القيامة

أولا : التكنولوجيا الراهنة والمستقبلية تساعد على فهم آلية تسجيل وكتابة العمل

1 ـ وصلت التكنولوجيا الحديثة فى تقنية التصوير والتسجيل والاتصالات الى مرحلة الخيال ، وهى فى تطور مذهل يجعلنا نتساءل عن مستواها بعد خمسين عاما . ولكن دعنا نتصور أن هناك كاميرا تسجل تحركاتك اليومية منفردا ومع الناس بالدقيقة والثانية ، وهذه تكنولوجيا بسيطة ومطبقة منذ سنوات ،  وتخيل بعد موتك وقد تم تجميع تلك الأفلام مع بعضها مرتبة حسب الزمن ، ألا يعد هذا إرشيفا لحياتك ؟أو بالتعبير القرآنى ( حفظا ) لتاريخ حياتك ؟ أو كتابة بالصوت والصورة والألوان الطبيعية لأقوالك وأفعالك ؟ هذا تخيل ممكن ومستطاع تحقيقه بيد البشر، فما بالك بخالق البشر وخالق السماوات والأرض جل وعلا ؟  وإذا كان بامكان البشر تسجيل دقائق أعمالهم وأصواتهم بآلات مصنوعة فكيف بالخالق جل وعلا؟

2 ـ حسب علمى فهناك كاميرات شديدة الحساسية الى حد أنها تقوم بتصوير ـ ليس الجسد فقط ـ بل ما يصدر عنه من أشعة غير مرئية ـ وما يقال عن وجود هالة تحيط بالرأس . ولوصحّ هذا فهو تصوير لانفعالات النفس وليس مجرد حركات الجسد . ونقول مجددا ،إنه لو كانت لتكنولوجيا البشر تصوير ما لايمكن رؤيته من أشعة تصدر عن مشاعر الانسان وأحاسيسه فكيف بخالق الكون جل وعلا؟

3 ـ من موسوعة ويكيبديا ننقل بعض ما جاء عن الفيمتوثانية ، أنها جزء من مليون مليار جزء من الثانية أي (عشرة مرفوعة للقوة -15) والنسبة بين الثانية والفيمتو ثانية هي النسبة بين الثانية و32 مليون سنة.واول استخدام عملى لهذه الوحدة كان ابتكار نظام تصوير ـ من قبل هو العالم المصرى أحمد زويل ـ يرصد حركة الجزيئات عند نشوئها وعند التحام بعضها ببعض، والوحدة الزمنية التي تلتقط فيها هذه الصورة هي الفيمتو ثانية، وذلك حينما أراد أن يصور بالضبط ما يحصل خلال التفاعلات الكيميائية. وقد كان هذا الشئ مستحيلا قبلا لأن هذه التفاعلات تحدث بسرعة كبيرة جداً وعند تسليط  الضوء على هذه التفاعلات يسبب الضوء تشتت الإلكترونات فلا يمكن حينها تصوير تفكك الروابط بين المركبات أو إعادة ترابطها معا ، ولكن د أحمد زويل تمكن من تسليط أشعة الليزر على التفاعلات وتصويرها بكاميرات دقيقة تمكنت من التقاط ما يحدث في جزء من مليون مليار جزء من الثانية. فتح هذا الاختراع الباب على مصراعيه من أجل التقدم والبحث ، ولعل أفضل العلوم التي ظهرت حديثا عقب اختراع أحمد زويل هو علم الفيمتو كيمياء femtochemistry.وببساطة فإن علم الفيمتو كيمياء حول تخيلات العلماء للتفاعلات الكيميائية إلى مشاهدة على أرض الواقع عن طريق تلك الكاميرا التي تصور التفاعلات الكيميائية بدقة كانت تعتبر قديماً من باب المستحيلات.). أى سندخل  فى عصر التكنولوجيا الدقيقة بالغة الصغر حيث يمكن تصوير ما هو أدق من التفاعلات الكيماوية بين العناصر والمواد ، أى سندخل الى تصوير دقائق الوجه الآخر للمادة وهى الطاقة ، والمادة والطاقة معا يحكمها سرعة الضوء ، وهو أساس التصوير . ولكن توجد عوالم أخرى ذات سرعات هائلة لا نتصورها ، وهى تتداخل مع عالمنا وفق ما أشارت اليه نظرية الأوتار الفائقة . نقول إنه عالم أو عوالم البرزخ ، والذى تنتمى اليه النفس والجن والملائكة والشياطين ، وإذا كان البشر قد سخّر لهم ما فى السماوات وما فى الأرض جميعا منه (وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)(الجاثية 13)، فليس مستبعدا أن نتعرف ونستخدم علميا بعض ملامح تلك المستويات من العوالم خصوصا وهى ضمن ما أخضعه رب العزة أو سخّره لنا . وطالما دخلت تكنولوجيا الانسان فى أزمنة بالغة الضآلة ( فيمتوثانية ) فقد دخلت فى الفضاء الداخلى لعوالم الطاقة فى كوننا،وممكن أن تدخل عوالم برزخية مسموح لنا أن ننتفع بها وفق معنى التسخير .على أن هناك فارقا بين التسخير ورؤية ما سخره الله جل وعلا لنا،فمستحيل أن   نرى فى حياتنا الدنيا الملائكة المسخرة لكتابة أعمالنا أو لقبض النفس وهى فى عالم البرزخ، كما أننا نستفيد من الكهرباء والجاذبية التى سخرها الله جل وعلا لنا ولكن لا نستطيع رؤية الكهرباء أو الجاذبية.  ثانيا : محاولة لفهم آلية تسجيل العمل أو كتابة العمل من خلال القرآن الكريم :

1 ـ يقول جل وعلا:( وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ) (الاسراء 13). يستطيع المتخصصون فى العلم والتكنولوجيا تدبر هذه الآية الكريمة بصورة أفضل . ولكن نقول بثقافتنا القرآنية المتواضعة إن كل ما (يطير) عن الانسان من عمل يتم تسجيله ويتم ربطه بعنق صاحبه . وهذا الذى يطير هو نسخة العمل نفسه ، وهذا العمل هو طاقة تخرج من الجسد البشرى ـ أى جزء كان من الجسد البشرى ـ ولكن يطير عنه ، فيتم تسجيله وحفظه فى البرزخ بيد ملكى تسجيل الأعمال ( رقيب وعتيد ). ويستمر هذا التسجيل طالما بقى الانسان حيا يسعى بجسده ونفسه. وبالموت يفنى الجسد ولكن يبقى تسجيل سعيه فى كتاب عمله ، ويوم الحساب يخرج له كتاب أعماله منشورا أمامه موثقا ومسجلا كل سعيه فى حياته الدنيا : (وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنشُوراً) (الاسراء 13)،ويقال له:(اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبا)(الاسراء 14). ويقال أن كل حركة تصدر عن الانسان تحدث شعاعا يمكن تصويره ، فلو حرّكت (ذراعك ) فإن هذه الحركة  يطير عنها ما يمكن أن نسميه شعاعا بصورة الذراع يمكن تسجيله وتصويره. وتعبير (طائره) يعنى أن ما ينتج عن حركة (الذراع ) يطير أى يتحرك بسرعة فائقة ، وربما تستطيع كاميرات المستقبل تصوير هذا . ولكن ما جاء فى القرآن الكريم يتجاوز (التصوير) الى الحفظ والكتابة ، أى حفظ السعى نفسه ونسخا منه وليس مجرد تصويره . ويقال أن هناك كاميرا تسجل بأثر رجعى ، أى يمكن أن تدخل غرفة كان ينام فيها عشيقان ثم خرجا ،فيمكن أن تلتقط تلك الكاميرا ما كان يحدث من دقائق مضت، ويقال أن هناك محاولات لتسجيل أصوات بعد صدورها من أصحابها ، يعنى أن تتكلم وبعد عدة دقائق يمكن تسجيل ما قلته قبل أن يضيع ويتشتت فى الهواء ، ويقال إن كل ما يصدر (من) صوت أو ما يصدر (عن ) حركة لا يفنى ويظل موجودا ،أى قد يمكن استرجاعه وتسجيله بعد صدوره من صاحبه . ولو لم نصل الى هذه التكنولوجيا فى عصرنا فسنصل اليها فى المستقبل القريب. ولكن الاشارة عنها جاءت فى القرآن الكريم عن تسجيل العمل .

2 ـ ويقول جل وعلا:(إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ)( يس 12 ). أى إن ما نعمله فى الدنيا هو فى الحقيقة ما نقدمه ليوم الدين لأننا سنراه يوم الدين.وهذا الذى   نقدمه من عمل يتم كتابته وتسجيله، وهذا الذى نعمله ونقدمه ويتم كتابته وتسجيله هو الآثار التى ستبقى منا ، فقد مات الجسد وفنى ولم يبق منه إلا آثاره وهى ما (طار) عنه من عمل ، وكل أعمال البشر سيتم إحصاؤها فى كتاب أعمال جماعى لكل مجتمع وكل جيل وكل قوم عاشوا معا فى نفس الزمان والمكان وتفاعلوا فيما بينهم. وسيكون هذا الكتاب الجماعى معرضا أمامهم يعرض أعمالهم بوضوح،أو هو: (إِمَامٍ مُبِينٍ).يقول جل وعلا :(وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً)( الكهف 47 : 49 ) 3 ـ ويقول جل وعلا:(وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُّسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً حَتَّىَ إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ) (الانعام 60 ـ ).أى إن ربنا جل وعلا يتوفانا بالليل بالنوم ثم يبعثنا بالنهار يقظة ويعلم ما فعلته جوارحنا طيلة اليقظة ، ويظل هذا الى الموت فى الأجل المسمى لكل فرد ، ثم نأتى يوم القيامة فيخبرنا ربنا جل وعلا بما كنا نعمل فى الدنيا . وفى هذه الدنيا فهناك ملائكة يحفظون أعمالنا وتظل مهمة ملكى الحفظ الى أن يموت الفرد الذى يحفظان ويسجلان أعماله ، ثم نأتى يوم الحساب أمام الواحد القهار.

فى آلية كتابة العمل نتوقف مع قوله جل وعلا :(وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم ). ( جرحتم ) أى ما فعلته جوارحكم ، والجوارح هى أعضاء الجسد ،والتعبير عن العمل بكلمة (جرحتم) يعنى أن كل حركة تقوم بها جوارح أو أعضاء الانسان يتم نسخها كما هى . نحن هنا لا نتحدث عن صورة بل عن نسخة من نفس الجارحة او العضو فى جسد الانسان. ثم بموت الجسد وجوارحه تتبقى آثاره ، وهى تلك النسخ المحفوظة من جوارحه فى كتاب أعماله .وهنا نتكلم بمعلوماتنا الضئيلة على أمل أن يصحح لنا المتخصصون . المادة والطاقة وجهان لنفس العملة ، ويتحول أحدهما الى الآخر داخل الانسان وحوله . أنت تأكل الطعام وهو مادة ، فيتحول فى داخلك الى طاقة مادية هى الدهون والشحوم ، وبما تقوم به من مجهود و ( سعى ) تتحول الدهون المادية الى طاقة. أى إن جسدك المادى تخرج منه طاقة حين يسعى ويتحرك ، وهذه الطاقة جزء أصيل من الجسد مع أنها تفارقه . أى إن العضو فى الجسد البشرى حين يتحرك تصدر عنه طاقة هى جزء منه ، وهذا معنى ( جرحتم ). وهذه الطاقة المنبعثة من الجوارح والتى هى نسخة من الجوارح يتم حفظها وتسجيلها . أى أن كل أعمالنا التى تصدر عنا يتم أسرها والقبض عليها ،والامساك بها،وتسجيلها بعلمنا أو دون علمنا فى كتاب أعمالنا. وهذا معنى أن الله جل وعلا هو القاهر فوق عباده : (وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ )، ثم بمرور الزمن وبانتهاء الجسد موتا يبقى لنا تلك النسخة الارشيفية الموثقة عن جسدنا الذى كان وما فعله من خير أو شرّ.

ومن تلك النسخة الأرشيفية يتم نسخ العديد من النسخ ، منها نسخة تضم الفرد وسعيه يالخير والشر خلال مجتمعه ، ونسخة خاصة بسعيه وحده فى خلوته ومع مجتمعه ، ونسخة بيد رقيب وعتيد ، ونسخة للمفلحين بأعمالهم الصالحة تصعد لرب العزة . نسخ تلك النسخ يتم فى الدنيا فى حياة كل فرد ، ثم يوم العرض على الله جل وعلا تأتى كل أمة تجثو عندما يأتيها النداء لترى كتاب أعمالها الجماعى الذى لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلاّ أحصاها ، ويقال لكل أمة إن كتاب أعمالها ينطق عليها بالحق ، وإنه كان يتم نسخ نسخ من كل عمل يعملونه ، يقول جل وعلا : (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِوَالأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ   فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ ) ( الجاثية 27 : 31 ).

4 ـ ويقول جل وعلا:(كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ كِتَابٌ مَّرْقُومٌ )(كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ كِتَابٌ مَّرْقُومٌ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُون)(المطففين 7: 9 ، 18 : 21 ). يهمنا هنا وصف كتاب الأعمال للمجرمين وللأبرار بأنه (كِتَابٌ مَّرْقُومٌ ). أى التسجيل بالارقام والأعداد على مستوى الزمن والسرعة والوزن الكيمائى الى آخر ما يعرفه المتخصصون . وقد سبقت الاشارة فى مقالة سابقة عن التقدير الالهى المحكم فى الخلق وفى الميزان والحساب . وهذا يسرى أيضا على تسجيل الأعمال وعلى البعث وأحداث يوم القيامة . فى الكاميرا الفيديو العادية تجد تاريخ اللقطة المصورة ،أى إن تلك الكاميرا قامت بتحديد زمن اللقطة وربطها بالحدث الذى تم فيه . وما قامت به تلك الكاميرا مبنى على حسابات الاهية فى سرعة الضوء وتفاعلات كيماوية تتأسس على معادلات وأرقام وأوزان ، وهذا فى عالمنا المادى ، وقد سبقت الاشارة الى الفيمتوثانية والآفاق التى فتحتها أمام العلم والتكنولوجيا . وإذن فما بالنا بالتسجيل الالهى فى عالم البرزخ والتى يحملها رقيب وعتيد الموكلان بكل فرد بشرى ؟ .

5 ـ إن هناك بصمة وراثية لكل انسان (  The DNA Fingerprint) تجعله فريدا ومختلفا عن غيره من البشر . هى داخل ( مادة ) الخلية فى سلمها الوراثى، وتنتقل الى ما يصدر عن الانسان من مخلفات ودماء ولعاب . وبالتالى فإنها تلحق أيضا بكل ما يصدر عن الانسان من طاقة ، وقد قلنا إن المادة والطاقة وجهان لعملة واحدة ، فالطعام المادى يدخل جسم الانسان ويصبح شحوما تحمل شفرته الوراثية ، وحين تتحول الشحوم الى طاقة يبذلها الانسان بسعيه فإن هذه الطاقة وذلك الجهد وذلك السعى يحمل أيضا بصمته الوراثية الخاصة به . وبالتالى فإن كتاب أعماله يكون ( مرقوما ) بتلك الشفرة الوراثية الخاصة بصاحب العمل نفسه ، بحيث لا يحمل أحد عمل أحد ولا تزر وازرة وزر أخرى:(وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى )( فاطر  18 )، وبحيث يكون كل منا أسير عمله أو رهين عمله:(كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ)(الطور 21 )(كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ )( المدثر 38 ).

 ثالثا : من التسجيل الى دخول الجنة أو النار

1 ـ تسجيل عمل الانسان طبقا لبصمته الوراثية يتم فى البرزخ حيث تتداخل ملائكة التسجيل مع الجسد البشرى ، وبموت الانسان وانتهاء التسجيل يتم حفظ كتاب العمل فى البرزخ بدرجاته او طبقاته السّت فى الارضين الستة من الأرض التى تتكون من سبع أرضين . ويتم البعث بنفس طريقة النبات ، حيث ينزل الماء على التربة وفيها البذور فتنبت البذور ، وهكذا البعث والنشور:( وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ  ) ( الأعراف 57 )( وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ ) (فاطر 9 ). تلك البذرة التى يتم على أساسها بعث كل فرد هى نفس بصمته الوراثية التى تم حفظها فى البرزخ ، وهى أيضا بصمة كتاب أعماله(المرقوم ).

2 ـ ونتوقف أيضا مع وصف مقام الأبرار وكتاب أعمالهم فهو فى عليين وهم فى عليين : (كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ كِتَابٌ مَّرْقُومٌ) الأبرار هنا موصوفون أيضا بالمقربين ( يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُون ).يعنى المقربون من الله جل وعلا يوم القيامة . ولتوضيح هذا نقول : إن العمل الصالح يتم رفعه الى رب العزة فى عليين،يقول جل وعلا :( إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ)(فاطر10). ويوم الحساب يأتى الفرد المؤمن ومعه ملكا تسجيل عمله ، كانا رقيب وعتيد فأصبحا ( سائق وشهيد )، ولأن كتاب أعماله يحمل الصلاح والنور ولأن الله جل وعلا هو صاحب الاذن بالشفاعة على أساس علمه بما بين أيدينا وما خلفنا لذا فإنه جل وعلا يغفر يوم الحساب للمؤمن ويأذن بتقديم كتاب أعماله ، فيشهد كتاب أعمال المؤمن (لذلك المؤمن ) و( شهد لفلان ) أى شفع فيه ودافع عنه ،أما (شهد على فلان ) أى شهد ضده . وبذلك تتحول رحمة الله جل وعلا الى حقيقة حسية أو مادية حسب العمل الصالح ،بمعنى أنه بمقدار عملك الصالح تغمرك رحمة الله جل وعلا ، وبمقدار رحمة الله لك يكون قربك من الله جل وعلا ، (إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ) ( ىالأعراف 56 )، وتنجو من النار.

3 ـ ويقول جل وعلا :(وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلاثَةً فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ وَأَصْحَابُ الْمَشْئَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْئَمَةِ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ)( الواقعة 7 : 11)،أى سيكون البشر يوم القيامة ثلاث درجات : أصحاب الجنة قسمان وهما السابقون المقربون من الله جل وعلا ،أو الأكثر قربا منه جل وعلا ، وبالتالى فمقدرا رحمته بهم تكون أكثر وهم فى المرتبة العليا عند مليك مقتدر ، ثم اصحاب اليمين ، وهم أقل منزلة ولكن تتغمدهم رحمة الله جل وعلا فتنجيهم من النار . بعد أصحاب اليمين يكون أصحاب الشمال . وبسبب قرب اصحاب اليمين من أصحاب النار سيدور حوار بينهم يسألهم أصحاب اليمين عن سبب دخولهم النار: (إِلاَّ أَصْحَابَ الْيَمِينِ فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ ) ( المدثر 39 : 43 ).

4 ـ وكتاب الأعمال هو الفيصل . ونسترجع سورة المطففين (7 : 16 ): (كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ كِتَابٌ مَّرْقُومٌ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا الْجَحِيمِ ) الشاهد هنا أن من أدمن المعصية وصدأ بها قلبه وأظلم بها كتاب أعماله لن يكون له مكان لتصل اليه رحمة الله جل وعلا يوم القيامة ،بل سيكون محجوبا عن رحمة ربه فيصلى الجحيم (كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا الْجَحِيمِ ).

أخيرا : التقوى هى مفتاح النجاح :

1 ـ هذه الدنيا هى رحلة سفر ، بدايته الميلاد ونهايته الموت . وهى إختبار لحياة خالدة يوم القيامة ، إما أن تنجح فيه وتفوز بالجنة ، وإما أن تخسر فتخلد فى العذاب . وفى سفرنا هذا يجب أن نتزود بالتقوى حتى نفلح يوم الدين ، وجواز السفر الى الجنة هو كتاب أعمالنا الملىء بالصالحات والايمان الخالص بالله جل وعلا الاها لاشريك له.( وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الأَلْبَابِ) ( البقرة 197 )

2 ـ فى الدنيا تزين جسدك المادى بأغلى الثياب لو أمكنك هذا ، وليس كل فرد يستطيع أن يرتدى أفخر الثياب ، ولكن يستطيع كل فرد أن يجعل نفسه ـ وليس جسده ـ ترتدى أفخر و أطهر وأزكى ثياب ، وهو ثوب التقوى. إن إرتدت ثوب التقوى بكتاب أعمالها أصبحت فى مقعد صدق عند مليك مقتدر . يقول جل وعلا عن أفضل لباس ترتديه النفس :(وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ)(الاعراف 26 ).

ودائما..صدق الله العظيم ..!

مقال 12

تأصيل ( كتب/كتاب ) فى القرآن الكريم ( 6 : 7 ):

حفظ العمل ينفى  أكذوبة ( إذا مات إبن آدم إنقطع عمله إلا من ثلاث .. )

أولا : ماهية التسجيل الالهى لأعمالنا 

1 ـ الصحفى أو المؤرخ حين يكتب عن شخص ما فهناك فرق بين كتابته وحقيقة ذلك الشخص . والذى يقوم بتصوير شخص ما تظل الصورة شيئا منفصلا عن صاحبها ، فصاحب الصورة يتحرك ويسعى أو قد يموت ولكن تظل الصورة تسجل جانبا زمنيا من حياته وقت التصوير . وأنت ترى صورك الفوتوغرافية أو فى الفيديوهات الخاصة بك ، وهى شىء وأنت شىء آخر ، ومستحيل أن تكون أنت نفس الصورة بحيث لا يكون لك وجود إلا فى هذه الصورة ، بل تظل أنت (الأصل ) وهى ( الصورة ). هذا هو الفارق بين تسجيل الأعمال الذى تقوم به الملائكة وتسجيلنا نحن لحياتنا بالكلمة وبالصوت وبالصورة.  

2ـ التعبير القرآنى عن كتابة العمل بالحفظ  يعنى ( حفظ الانسان بعد موت جسده ) وليس مجرد صورة أو صور له. ثم يوم الحساب ترتدى نفسك ثوب عملك ليكون جسدها فى الجنة أو فى النار ،أى كما التحمت نفسك بجسدك المادى فى هذا العالم ستلتحم مرة ثانية بعملها يوم لقاء الرحمن وستظل ترتدى ثوبها هذا فى خلود دائم فى الجنة أو فى النار. ولنتدبر قوله جل وعلا :(وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً حَتَّىَ إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ)(الانعام 61 )، الملائكة الحفظة الذين يرسلهم الله جل وعلا ( علينا ) هم الذين ( يحفظوننا )،الحفظ ليس بمعنى الحماية ولكن حفظ وتسجيل أعمالنا، الذى  ينتهى بالموت ، لذا جاء قوله جل وعلا(حَتَّىَ إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا ). وبموت الجسد يبقى حفظه فى كتاب عمله :(وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَاماً كَاتِبِينَ  يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ)(الانفطار 10 : 12 ). بموت الشخص يكون جسده قد تم حفظه فى صورة عمله بديلا عن جسده البشرى الذى فنى بالموت ، وهذا معنى كلمة ( يحفظونه ) فى قوله جل وعلا :(لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ ) ( الرعد 11  ) . ووصف ملائكة الحفظ والكتابة بأنها (مُعَقِّبَاتٌ ) يعنى أنها وبسرعة لا نتصورها تسجل بالتعقيب السريع أعمالنا وتحفظها ، ويشمل هذا التسجيل كل مايحدث لنا وبنا وما حولنا (  مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ ).عملنا يطير متحركا بسرعة تفوق سرعتنا المادية (فنحن لا نطير ) ، ولكنه قبل أن يبتعد فى طيرانه يتم القبض عليه وحجزه وربطه بعنق صاحبه ، وهذا المراد بقوله جل وعلا : ( وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ )(الاسراء 13).

المستفاد مما سبق أن (حفظ ) العمل هو ( حفظ ) الانسان بعد موت جسده . وهنا الاختلاف بين التصوير البشرى للأشخاص أو الكتابة عنه، ففيها يكون يكون الشخص هو الأصل والباقى صورته أو تصور الناس عنه فى كتابتهم عنه . أما فى الحفظ الالهى لأعمالنا فهو (الأصل ) لحياتنا الدنيا بعد فناء جسدنا. أى يكون ( كتابك ) يوم القيامة هو (أنت الذى كنته فى الدنيا ـاى الأصل الباقى عنك من الدنيا ، والذى ستكون عليه فى الآخرة ) . و(أنت ) فى هذه الدنيا لك ما يسمى بالضمير أو ( الأنا العليا ) التى تلومك وتحاول إصلاحك (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى)(النازعات 40 ـ )،ويوم القيامة ستكون أنت حكما على نفسك ، حين تقرأ أو ترى كتاب عملك الذى أصبح هو (أنت): ( وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنشُوراً اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً )، من هنا تتجلى الحقيقة الكبرى فى الحرية وفى العدل ، فالذى إختار فى دنياه الهداية فقد إختارها لمصلحة نفسه ، ومن إختار الضلال فعلى نفسه،ولا تحمل نفس وزر نفس أخرى :(مَنْ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى)(الاسراء 13ـ ).

3 ـ ولأن هذا التسجيل الالهى مختلف عن تسجيل البشر لأنفسهم ولأن الحفظ الالهى لنا ولأعمالنا مختلف عن تسجيلنا وتصويرنا وكتاباتنا عن أنفسنا فإن ( حفيظ ) من أسماء الله جل وعلا . فالله جل وعلا هو الحفيظ على كل شىء ، ولقد قالها نبى الله هود عليه السلام لقومه:(إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُم مَّا مِن دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ فَإِن تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُم مَّا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ ) (هود 56 د 57 ). فالله جل وعلا هو (القاهر فوق عباده ) ، فما من دابة تسعى وتتحرك إلا وهو جل وعلا آخذ بناصيتها : (مَّا مِن دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا )، فهو جل وعلا :( عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ )، وتكرر هذا : (وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ  )(سبأ 21 )، وليس النبى حفيظا على قومه الكفار،بل هو رب العزة:(وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ) (الشورى 6 ).

4 ـ والله جل وعلا ( الحفيظ ) لديه كتاب حفيظ:( قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ ) (ق 4 ). فالعمل الذى نبذله هو طاقة تخرج منا ،أى هو جزء أصيل منا، وهذا الجزء الذى يطير منا يتم القبض عليه واعتقاله أولا بأول ، ويتم حفظه ، وبمرور الزمن ومجىء الموت للجسد تتجمع (أجزاؤنا ) التى ( طارت ) والتى تم تسجيلها وحفظها لتكون صفحة لكل منا فى الكتاب الحفيظ عند رب العزة . أى يتم (حفظنا ) فى هذا الكتاب الحفيظ. ولأن جسدنا البشرى مخلوق من الأرض وأتى منها ومن عناصرها ففى النهاية يكون جزئين : جزء مادى ظل يعيش ويستهلك الماء والطعام ويخرجه فضلات وزفيرا ،ثم يموت ذلك الجسد المادى ويعود الى نفس الأرض ترابا وماء وغازات ومعادن ..الخ . أما جزء الطاقة ـ أو العمل ـ فهو الذى يبقى،ولا يفنى مع هذه الأرض بل تتخلى عنه الأرض ضمن أسرارها كما سبق التعرض له . وهذا يكون بحساب دقيق  بالأرقام ،أو ( كتاب مرقوم ) ، والله جل وعلا هو الحفيظ الأعلم بما نقص من الأرض من تلك الطاقة التى كانت فى الجسد المادى ثم طارت عنه لتصبح عملا محفوظا .  

ثانيا : العمل هو نفس الشخص وليس ما ينتجه الشخص:

1 ـ بعد أن عرفنا أن عملك المحفوظ هو فى الحقيقة (أنت ) الذى كنته فى الدنيا ، يبقى أن نعرف الفارق البدهى بين عملك أو سعيك الذى هو أنت وبين ما أنتجه هذا السعى . ونضرب مثلا : أنت فكّرت فى بناء مسجد ، ذهبت الى البنك وسحبت رصيدك كله ، وذهبت الى مقاول بناء وكتبت معه عقدا ليقوم بالبناء ، وأعطيته المال اللازم ، وأثناء قيام المقاول بالبناء كنت تذهب الى موقع البناء تتأكد من تنفيذ المقاول ببنود العقد من حيث جودة الخامات وجودة البناء . وانتهى المقاول من البناء وتسلمت المسجد ، وافتتحته للعبادة . السؤال هنا : مالذى يتم تسجيله : عملك وأنت تسعى الى البنك وتسحب المال ثم وانت تعطى المال الى ىالمقاول ثم وانت تفتتح المسجد للصلاة ؟ أم هو نفس المسجد المقام ؟ . هل يتم تسجيل العمل أم ( المنتج ) عن العمل ؟ واضح أنه العمل والسعى ، وليس ما يتمخض عنه السعى .

2 ـ أكثر من هذا . فما سبق هو تسجيل للسعى المادى للجسد ؛فأنت ذهبت بجسدك الى البنك والى المقاول والى موقع العمل ، وتكلمت وناقشت وتحركت ..كل ذلك سعى مادى بالجسد،وهو ليس كل شىء ، لأن الأهم هو تسجيل مشاعر النفس من عقائد ، وهو الذى يتم على أساسه قبول العمل أم إحباط العمل . ولنعيد ضرب المثل السابق فى صورة أخرى . فأنت فى تفكيرك فى بناء المسجد تهدف للرياء وخداع الناس بالدين لتحصل على جاه دنيوى ، وأنت حين ذهبت للبنك وسحبت مالا فهذا المال سحت وحرام وجاء ظلما من دماء الناس وعرقهم . وأنت حين ذهبت لتتابع المقاول والعمال فى البناء إصطحبت معك وسائل الاعلام لتمدحك وتشيد بك ،أى أنت لم تبتغ وجه الله جل وعلا فيما فعلت ، وكسبت ملايين بالسرقة والنهب والسحت والقتل ، ثم استثمرت جزءا يسيرا من هذا المال الحرام لتخدع به الناس ، ولينتخبوك مثلا فتستحوذ مع الثروة على جاه وسلطة. كتابة عملك والحفظ الالهى لسعيك لا يقتصر على الجزء المادى المرئى ولكن ينفذ الى الاعتقاد والنوايا والاخلاص أو الرياء ، وأن يكون العمل مقبولا أو مرفوضا وفق القواعد الاليهية فى اخلاص العمل لوجه جل وعلا وأن يكون من مال حلال . من هنا فتسجيل ( المنتج ) وهو المسجد ليس بشىء ، وإنما المراد هو تسجيل السعى . والسعى يعنى حركتك المقصودة وأنت تتحرك حيا فى إطار المكان ( الأرض ) والزمان ( العمر المحدد لك) . وبمجرد سعيك يتم حفظه وتسجيله وتراه يوم البعث حين يصدر الناس أشتاتا ليروا أعمالهم ، ثم يوم الحساب ولقاء الله جل وعلا ووقت وزن الأعمال حسب العقيدة يحبط الله ما لايقبله من عمل ، ويتوب الله جل وعلا على المتقين الذى كانوا يستغفرون فى دنياهم .

أخيرا

1 ـ وبالتالى فإن الحديث الكاذب القائل : ( إذا مات ابن آدم إنقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية ، وعلم ينتفع به وولد صالح يدعو له ) يتحدث ليس عن العمل والسعى ولكن عن المنتج من العمل والسعى ، وهذا المنتج يشترك فيه آخرون ويتعاقب عليه آخرون ، سواء كان مسجدا تحول الى كازينوا أو كان مرقصا تحول الى مسجد ، وسواء كان مدرسة لتعليم الخير أو لتعليم التطرف والارهاب . فى كل الأحوال ينتهى تسجيل السعى بموت صاحبه ، سواء كان سعيا فى الخير أو فى الشّر . ويوم القيامة لا يكون للانسان سوى سعيه ، وسيرى سعيه ، وهذا السعى هو حركته فى حياته ، وليس ما أنتجه سعيه فى حياته واستمر بيد آخرين بعد موته .

2 ـ ولا تزال هناك قضايا متعلقة بالموضوع . نتعرض لها فى الحلقة القادمة  بعون الله جل وعلا.

مقال 13

ــــ تأصيل ( كتب/كتاب ) فى القرآن الكريم ( 6 : 8 ): قضايا متعلقة

أولا : قاعدة  (وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى )

1 ـ تتكرر هذه القاعدة القرآنية لتؤكد على المسئولية الفردية لكل نفس على عملها إن خيرا أو شرا:(مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ) (الاسراء 15)(وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَمَن تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ )(فاطر 18 )(قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) ( الأنعام 164 ـ ) (إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُور)(الزمر7 ).وفى ضوء هذه الآيات البينات نفهم قوله جل وعلا عن إرتباط السعى فى الحياة الدنيوية فقط:( أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأَوْفَى وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى)(النجم 38 ـ ).    

2ـ هذه القاعدة تؤكد أيضا حدود هذه المسئولية وقت الحياة فقط ، فالنفس بعد موتها لا تحمل فى كتاب أعمالها المنتج الذى نتج عن عملها بل تحمل فقط عملها أو سعيها فيه ، فمن بنى مرقصا لا يحمل هذا المرقص فى كتاب أعماله ، ولا يحمل فجور الناس فيه ، ولكن يحمل فقط سعيه فى إنشاء هذا المرقص فى حياته ،أو إدارته له فى حياته . ومن ينشىء مسجدا لا يحمل فى كتاب أعماله هذا المسجد ولكن سعيه فى الانشاء ونيته وهدفه من إنشاء المسجد هل للرياء أم إبتغاء وجه الله جل وعلا.

3 ـ ومشاعرالاخلاص أوالنفاق هى الأهم،،فقد ترى إثنين يؤديان الصلاة، أحدهما يرائى أو يؤدى الصلاة معتقدا إنه يمنّ على الله جل وعلا بالصلاة اليه ، ويعتبرأداءها حملا ثقيلا يتمنى الفراغ منه سريعا ، والآخر يخشع فى صلاته ،ويلوم نفسه لو سرح فكره بعيدا عن الخشوع ، ويخشى ألا تكون صلاته دون المستوى المقبول عند الله جل وعلا ، ويحس فى قلبه الوجل أن يأتى يوم القيامة بعمل صالح لا يكون مقبولا ، لأن رب العزة ليس محتاجا الى عمل البشر الصالح وليس محتاجا لجهاد البشر ، بل البشر هم المحتاجون للعمل الصالح ليدخلوا الجنة ، وليتزحزحوا عن النار . إثنان يصليان بجانب بعضهما يؤديان نفس الحركات من قيام وركوع وسجود،ويقولان نفس القول، ولكن تختلف مشاعرهما ، يقول جل وعلا عن ملامح المتقين :(إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ)، أى يقدمون الصالحات وهم على وجل وخوف من احتمال عدم قبولها ، لذا يسارعون فى الخيرات ويكثرون منها ليضمنوا قبول بعضها :(أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ ). فكتاب الأعمال هو الذى يسجل العمل والنية بالحق(وَلا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) كما إن كتاب الأعمال للمشركين هو الذى يفضح ما فى قلوبهم من رجس وسوء عمل :( بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِّنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِن دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ)(المؤمنون 57: 63 ). وفى النهاية فلا يدخل الجنة إلا المتقون ، طبقا لإخلاص القلب لله جل وعلا ، ولن يدخل الجنة من مات مشركا قد أحبط الله جل وعلا عمله الصالح . الأهمية هنا إن التقوى هى الفيصل فى دخول الجنة ومن مستلزماتها التوبة كما أن الشرك والاصرار القلبى على العصيان حتى الموت هو الفيصل فى دخول النار. وهذه المشاعر القلبية مرتبطة بكون الانسان حيا ، ولا تنتقل منه بعد موته لغيره.

 ثانيا : معرفة المصير النهائى عند الموت:

1 ـ ولأن كتاب الأعمال يتم غلقه بالموت فعند الاحتضار تبشر الملائكة الفرد المحتضر بمصيره النهائى فى الجنة أو فى النار طبقا لنتيجة كتاب عمل الفرد الذى تم غلقه: (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ فَأَلْقَوُاْ السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ فَادْخُلُواْ أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ )( الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ )(النحل 28 : 29 ، 32 ). بل يتلقى الخاسرون عند الموت إهانة وضربا جزاءا لما قدموه فى كتاب أعمالهم :(وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ) (الأنفال 50 : 51)( فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمْ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ)(محمد 27 : 28 )

2 ـ  ولأن كتاب الأعمال يتم غلقه بالموت فعند الاحتضار يتمنى الكافر فرصة أخرى يرجع فيها للحياة كى يعمل صالحا يتم تسجيله فى كتاب أعماله ، ولكن بلا فائدة :(حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ ) (المؤمنون 99 : 100 )، ولو ظل كتاب العمل مفتوحا بعد موت صاحبه يزيده سيئة أو يزيده حسنا ما تمنى المؤمن أو الكافر فرصة أخرى ، يقول رب العزة للمؤمنين يعظهم ويحذرهم مقدما وهم أحياء : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)( المنافقون 9 : 11 ).

3 ـ ولأن كتاب الأعمال يتم غلقه بالموت فلا تستطيع قوة بشرية أن ترجىء موعد الموت إذا جاء الأجل ووفى الانسان عمله وعمره والحتميات التى له أو عليه : ( وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)( المنافقون11 ). وبغلق كتاب عمله ـ رغم الجميع ـ يتم تحديد مستقبله فى الآخرة ،هل هو من السابقين المقريين،أو من أصحاب اليمين ؟ أم هو من أصحاب النار المكذبين بكتاب الله جل وعلا ، يقول رب العزة :(فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتْ الْحُلْقُومَ وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ فَلَوْلا إِنْ كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ  إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ )(الواقعة 83 ـ) . قفل كتاب العمل بالموت هو حق اليقين الذى سيشهده كل منا عند الاحتضار . وعندها سيندم من يموت وهو يكذّب بآيات الله تمسكا بحديث كاذب مثل :(إذا مات ابن آدم انقطع عمله لا من ثلاث ..)

ثالثا : العمل الصالح والذرية

1ـ هناك مثل شعبى مصرى يقول ( العمل الصالح ينفع الذرية ) ، أى من يموت صالحا فان عمله الصالح ينفع ذريته من بعده،ويستشهدون بقوله جل وعلا (وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ )(الكهف : 82 ).فهل يستمرعمل الصالحات بعد موت صاحبه ينفع ذريته ؟. نقول لا ينفع فى الآخرة لأنه ليس للانسان فى الآخرة إلا ما سعى بنفسه فى الدنيا . إن شرط دخول الذرية الجنة مع آبائهم أن يعملوا عملا صالحا مثل آبائهم لأن كل نفس بما كسبت رهينة:( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ )( الطور 21 ).

2ـ ولكن هناك وعدا من الله جل وعلا يتحقق فى الدنيا لمن يعيش متقيا متمسكا بالحق مناضلا فى سبيله ثم يموت تاركا ذرية ضعافا أن يشمل رب العزة هذه الذرية من الأيتام برعايتهم فى الدنيا : (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيدًا )(النساء 9 ).وهناك وعد آخر من الله جل وعلا فى نفس السورة لمن يحسن معاشرة زوجته التى يكرهها بأن يجعل الله منها خيرا كثيرا:(وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا) ( النساء  19). وهناك وعود أخرى مثل النصر للمؤمنين لو نصروا الله جل وعلا:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ )(محمد 7)، ومنه ثواب المهاجرين فى سبيل الله فى هذه الدنيا :(وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ)(النحل 41 : 42 ).

رابعا :الدعاء والغفران

1 ـ كل منا مأمور بأن يدعو لوالديه أو أحدهما ضمن الاحسان اليهما : (وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا )(الاسراء  23 : 24). وبعض الأنبياء دعا ربه بالغفران لوالديه وللمؤمنين مثل نوح عليه السلام الذى دعا على قومه الكفرة بالهلاك ودعا لنفسه ولوالديه وللمؤمنين ولنفسه بالغفران:(وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلاَّ فَاجِرًا كَفَّارًا رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ تَبَارًا) ( نوح 26 : 28 )،ودعا ابراهيم فقال:( رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ )(إبراهيم :41). والملائكة تدعو للمؤمنين التوابين الأحياء فى هذه الدنيا:(الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدتَّهُم وَمَن صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَن تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)(غافر :7 : 9)( تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ )(الشورى5 ) .

ونضع الملاحظات التالية :

1/1 : إن الدعاء المذكور فى الآيات السابقة هو من أجل أشخاص أحياء لا يزالون يسعون فى الأرض ، ولم يكونوا قد ماتوا بعد .

1/2 : إن الدعاء فريضة تعبدية مأمور بها المؤمنون ، وهى تعنى الخضوع لله جل وعلا القائل : (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ) ( غافر60 )، فعكس الدعاء هو الاستكبار . والله جل وعلا يقول يجعل الدعاء صلة مباشرة بينه وبين المؤمن : (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ )(البقرة 186 )، لم يقل (واذا سألك عبادى عنى فقل لهم انى قريب ) ولكن تم حذف (قل ) خلافا لسياق لمنع الواسطة فى الدعاء ، فالله جل وعلا قريب من الانسان فى حياته (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ) ( ق  16) وقريب منه عند احتضاره (فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتْ الْحُلْقُومَ   وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ )(الواقعة 83 : 85). والله جل وعلا وعد باستجابة الدعاء،ولكنه هو الذى يحدد نوعية الاستجابة بما يحقق الأنفع للداعى. ولأن الدعاء فريضة مأمور بها المؤمن فهو الذى يثاب عليها بمجرد ن يؤديها أأتأتتأديتها ، وتتم كتابتها فى صحيفة أعماله هو بغض النظر عن مدى ونوعية الاستجابة للدعاء .

1/ 3 : وبالتالى فإن الدعاء لشخص ما بالغفران لا يعنى حتمية الغفران له لأن الغفران موعده يوم االحساب وليس فى هذا العالم :( رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ )(إبراهيم : 41 )،( وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ)(الشعراء 82 )، ولأن الغفران مترتب فقط على توبة الشخص وليس على دعاء الآخرين له، فإذا تاب وقام بشروط التوبة من الندم وتصحيح الايمان وتأدية الحقوق لأصحابها والاكثار من الصالحات فإن الله جل وعلا يبدّل سيئاته الى حسنات : (إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا) (الفرقان 70 ـ  )(وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى) ( طه 82).  

خامسا :الحسنة بأضعافها :

1 ـ يرتبط بالغفران للسيئات يوم القيامة أن يضاعف رب العزة حسنات المتقين ليصلحوا لدخول الجنة ، فقوله جل وعلا :(مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ )( الانعام 160 ) أى من جاء يوم الحساب. يؤكده قوله جل وعلا عن أصحاب الجنة :(مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا وَهُم مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ ) ويقول بعدها ربنا سبحانه وتعالى: (وَمَن جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ) ( النمل 89 : 90 ). حقيقة الأمر أن التعذيب لأصحاب النار يتم بسيئاتهم نفسها، لذا فمن يأتى يوم القيامة بأعماله موجزة تحت كلمة ( سيئة ) فسيكون بها عذابه ، أى سيعذب بما كان يعمل : (وَمَن جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ). ومن هنا فإن الملائكة فى هذا العالم تدعو رب العزة ليغفر للمتقين التائبين يوم القيامة فتقول:( وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ )فهذه السيئات التى نرتكبها فى الدنيا ستكون علينا نارا فى الآخرة. والذى سيقيه ربه من عاقبة وشر سيئاته يوم الحساب هو الذى يغفر الله جل وعلا سيئاته أى يغطيها بعمله الصالح فيطفىء نارها ويخمد تأثيرها ، وإذا وقاه الله جل وعلا من شرسيئاته أصبح صالحا لأن تشمله رحمة ربه جل وعلا ويفوز،تقول بقية الآية:(وَمَن تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)(غافر9 ).

2 ـ وهذا الفوز العظيم فى الاخرة لا سبيل لمقارنته بأعمالنا الصالحة فى الدنيا مهما بلغت فى عمرنا القليل، فلحظة فى نعيم الجنة تفوق (كل ) متع الدنيا ( لكل البشر) فكيف بالخلود فيها. ولا يوجد تعبير بشرى يصلح هنا سوى الاسلوب المجازى بالتشبيه،كقوله جل وعلا:(مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ )( البقرة 261 ).

سادسا: حمل الوزر يوم الحساب:  

1 ـ يقول جل وعلا :(إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى)(طه 15)، أى سيجزى الله جل وعلا كل نفس بسعيها فى هذه الحياة الدنيا ، وهو سعى تتم كتابته وحفظه، ويتوقف السعى عند الاحتضار، وحينئذ يغلق كتاب الأعمال ولم يعد للانسان سوى ما سعاه ، ثم يوم القيامة سيرى سعيه هذا مكتوبا ومسجلا:(وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى)(النجم 39: 40 ).   وقد يكون سعيا سيئا مثل حال صاحبنا :(وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْفَسَادَ)(البقرة 205 )، وقد يكون سعيا صالحا معززا بإيمان مخلص:(وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا) (الاسراء 19).وفى كل الأحوال سيرى الناس كل أعمالهم فور البعث وفق ما جاء فى سورة الزلزلة :(إِذَا زُلْزِلَتْ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا وَأَخْرَجَتْ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا وَقَالَ الإِنسَانُ مَا لَهَا يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ  فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَه) . والعمل الصالح يحمل صاحبه ويرتفع به الى أعلى (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ) ( فاطر 10 ) (فِي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ كِرَامٍ بَرَرَةٍ  ) ( عبس 13 : 16 )( كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ كِتَابٌ مَّرْقُومٌ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ ) ( المطففين 18 : 22 ) . والعمل السىء يهبط بصاحبه ويهوى به الى أسفل سافلين (  كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ كِتَابٌ مَّرْقُومٌ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ)( المطففين 7 : 15 ). عندها يكون عمله وزرا .

2 ـ الخاسر يحمل وزره يوم القيامة:(وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ)(الانعام 31 ) . والقاعدة أن لن يحمل أحد عن أحد ورزره:(وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى) (فاطر18 )، ولكن يقول رب العزة :(لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ )(النحل 25 ).أى سيحمل بعضهم وزرا زائدا من أوزار أناس آخرين. فكيف هذا ؟ نقول :

 2 / 1 : التحريض على الجريمة فى القانون الوضعى يجعل المحرض شريكا فى الجريمة ، ولا ينقص ذلك من جزاء المجرم الأصلى . فمن يحرّض فى حياته شخصا على القتل يكون شريكا للقاتل ، وفى أحوالنا التعسة حيث ينتشر التعذيب والقتل فى دول الاستبداد فالمجرمون ليسوا فقط من يرتكب القتل والتعذيب من الجنود بل من يصدر لهم الأوامر ويهددهم بالتعذيب إن عصوا . والواضح أن المحرّض فى هذه الحالة أشد جرما من الفاعل الأصلى ، ولو شارك فى التعذيب بنفسه بالاضافة الى التحريض فإنه يواجه عقوبتين : التعذيب والتحريض على التعذيب.

2/ 2 :نفس الحال سيكون يوم القيامة ، فقد تكرر حديث رب العزة عن الذين استكبروا من الملآ المتحكم  فى الدنيا ، وعن الحوار الذي سيدور بينهم وبين الذين كانوا تبعا لهم فى الدنيا ، فقد عاصروهم وأيدوهم وخدموهم فى الدنيا ثم سيصيرون خصوما لهم فى النار.  يقول جل وعلا عن خصومتهم فى النار : ( وَلَوْ تَرَى إِذْ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنْ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنتُمْ مُجْرِمِينَ وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَاداً وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوْا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الأَغْلالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ )(سبأ 31 ـ ). الواضح هنا أن الفريقين كانوا يعيشون معا فى نفس الزمان والمكان ، فريق يأمر بالعصيان ويعصى وفريق يطيع أسياده فى العصيان .

2/ 3 : وفى الخصومة بينهما وهم فى النار سيطلب المستضعفون أن يتحمل عنهم المستكبرون جزءا من العذاب ، ويرفض المستكبرون :(وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِّنَ النَّارِ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ)(غافر47 : 48). ولهذا فعندما قال مشركو قريش للمؤمنين أن يتبعوا سبيلهم مقابل أن يحمل المشركون خطاياهم يوم القيامة نزل التعليق من رب العزة بأن المستكبرين يوم القيامة سيرفضون أن يريحوا المستضعفين من شىء من العذاب المقرر عليهم ، لأن أولئك المستكبرين يحملون بالفعل أوزار التحريض مع أوزار العصيان ،أى لديهم أثقالا مع أثقالهم ،يقول جل وعلا : ( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُم بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُم مِّن شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالا مَّعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ )(العنكبوت 12 : 13 ). وسييأس المستضعفون فى النهاية وسيكتفون ـ ووجوههم تتقلب فى النار ـ بالدعاء على أسيادهم :(يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا ) (الاحزاب 66 : 68 ).

2 / 4 :و"rtl"> 1 ـ أثناء الطوفان رفض ابن نوح الركوب مع أبيه والمؤمنين ، ومات غريقا كافرا مع الكافرين ، وبعد انتهاء الطوفان دعا نوح ربه أن يغفر لابنه وأن يكون من أهله فجاء اللوم من رب العزة :(قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ) (هود 46 ). لنتأمل الوصف الالهى لابن نوح (إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ ). تحوّل ابن نوح بعد موت جسده وفنائه الى (عمل غير صالح ). وقلنا إن العمل الذى يبذله الانسان فى سعيه فى الدنيا هو طاقة تخرج من جسده المادى الذى يتكون من مادة وطاقة ،أى أن هذه الطاقة أوذلك العمل يكون فى حياة الانسان جزءا منه ولكن انفصل عنه وتم حفظه فى كتاب عمله ، وبعد موت جسد الانسان لا يبقى معبرا عنه سوى عمله المحفوظ فى البرزخ مع نفسه، فاذا مات صالحا بشرته الملائكة بالفلاح وقفل كتاب أعماله فأصبح ذلك الشخص (عملا صالحا )،وإن مات خاسرا وقد بشرته ملائكة الموت بالعذاب وتم قفل كتاب أعماله أصبح ( عملا غير صالح ). وفى الحالتين إنتهى سعيه بموته،وأصبح عملا محفوظا لا مجال لأعمال أخرى تضاف اليه أو عليه. وهذا معنى الحفظ ، حفظ الشخص بعد موته فى كتاب أعماله ، وليس مجرد تصويره كما نفعل نحن فى حفظ ذكرياتنا فى صور فوتوغرافية وأفلام .

2ـ وهذا هو أيضا الفارق بين العمل أو السعى وما ينتجه العمل أو السعى . يتم حفظ عمل الميت فيصبح الميت عملا صالحا أو عملا سيئا ، ولكن قد يبقى منتج ( بفتح التاء ) السعى بعد موت صاحبه قائما يستغله آخرون بالخير أو بالشّر ، أى تكون المتابعة والاتّباع . فهل هذا الاتباع يعنى إنه إذا مات ابن آدم استمر عمله بالخير أو بالشر ببقاء منتج عمله ؟ وهل تظل مسئولية الميت قائمة بعد موته بالخير أو بالشّر طبقا لحديث كاذب آخر يفترى أنّ من سنّ سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها الى يوم القيامة ؟ .

نقول : لا . فلو ترك الميت مسجدا للصلاة فإن من يصلى فيه هو الذى ينال نتيجة صلاته بالقبول أو بالضياع حسب إخلاص قلبه أو نفاقه ، ولو أوقف أرضا زراعية تدر صدقة جارية فإن تلك الأرض وهى نتيجة سعيه والتى جعلها وقفا فى حياته لم تعد ملكا له بموته ، انتقلت ملكيتها والاشراف عليها لآخرين يقومون على استغلالها ، ولهم سعيهم فيما يخص تصرفهم بالخير أو بالشر فى هذه الصدقة الجارية . أى يصبح المنتج مقطوع الصلة بمن كان صاحبا له فى الدنيا بموت ذلك الصاحب وتحول الملكية والاشراف والاستغلال والمسئولية لآخرين مع وجود ذلك المنتج . يسرى هذا حتى على العقائد والكتابات فيها بالحق أو بالباطل . فالذى يكتب مؤلفات فى الضلال يصدّ عن سبيل الله يتم تسجيل سعيه فى حياته سواء كان كفرا أو تحريضا على الكفر. ثم يتم قفل كتاب أعماله ، ويبقى تأليفه فى كتبه ، فإذا قام على نشرها وترويجها آخرون من الدعاة والعلماء فإن سعيهم سيتم تسجيله فى كتاب أعمالهم ، ولا شأن للمؤلف الأصلى للكتاب بما فعله أتّباعه بعد موته لأن مسئولية المؤلف فى حياته فقط  فى تحريض أتباعه الذين عايشهم ، أما بعد موته وقفل كتاب أعماله فقد انتقلت مسئولية القيام على المنتج ( اى الكتاب المؤلف ـ بفتح اللام ) الى الدعاة بعد موت المؤلف ( بكسر اللام ).

3 ـ والعادة أن للبشر (عادة ) فى التقليد وإتّباع ما وجدوا عليه أسلافهم ، بل يجعلون من السلف أو السلفية عنوانا لدينهم كما تفعل فرق السلفية فى عصرنا البائس. فهل يتحمل أئمة الضلال وزر أتباعم اللاحقين عبر القرون ؟ يقول جل وعلا : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ)(الطور 21 ). أى لو كنت مؤمنا صالحا عشت ومتّ على الايمان والصلاح ، وجاءت ذريتك مؤمنة صالحة فإنهم بإيمانهم وصلاحهم سيلحقون بك . والعكس صحيح ، فالذين كفروا واتبعتهم ذريتهم بالكفر والعصيان سيلحقون بآبائهم ليكون الجميع أخسر الخاسرين:(قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ) ( الزمر 15 ). ولو مت مؤمنا تقيا وعاشت ذريتك على الكفر والعصيان فإن هذه الذرية ستكون عملا غير صالح مثل ابن نوح. وفى النهاية فكل من إتبع الحق ومات مؤمنا صالحا فسيكون مع الأنبياء وفى رفقتهم يوم القيامة :( وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا ) ( النساء 69 ). الفيصل  هو عمل الشخص وسعيه، وهو رهين بهذا السعى فى حياته الدنيا ، ولا شأن له بعد موته باستغلال الآخرين لمنتج سعيه . 

 ثانيا  ـ أمثلة قرآنية من قصص الأنبياء :

1 ـ إمتحن الله جل وعلا ابراهيم عليه السلام بابتلاءات هائلة فنجح فيها ، ومات وقد (وفّى ) أى أوفى عمله بأحسن ما يكون ،فقال عنه ربه جل وعلا فى القرآن بعد موت ابراهيم بقرون طويلة:( وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى ) ( النجم 37 ). ولكن هل (عمل ) ابراهيم الذى (وفّاه ) بقى بعد موته لتنتفع به ذريته ؟ الجواب لا . ابراهيم نفسه طلب ذلك ورفض رب العزة ، فبعد أن أتمّ ابراهيم النجاح فى كل الاختبارات التى تعرض لها كوفىء على سعيه بأن جعله الله جل وعلا إماما للناس ، فطمع أن تكون هذه المنزلة لذريته فجاء الرفض الالهى أن الله جل وعلا لا يعطى عهده للظالمين:(وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) (البقرة124)،أى يعطى الله جل وعلا عهده للمؤمنين الصالحين ، أى هو بالعمل وبالسعى ، فالورثة لا بد أن يعملوا صالحا ليكونوا مع الصالحين من آبائهم:(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ)(الطور21 ) عمل الآباء لا ينفع الذرية فى الآخرة ، وعمل الآباء ينقطع بموتهم ويتعين على الذرية ان تعمل لنفسها ، وكل نفس لها حرية الاختيار وهى بما كسبت رهينة:( لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ)(المدثر38 ) .

2 ـ سعى ابراهيم كان لنفسه،وحين شاركه ابنه اسماعيل بعض السعى كان لاسماعيل سعيه ، يقول  جل وعلا عنهما :( وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)(البقرة 127 ). عملهما من حيث الظاهر المادى رفع قواعد البيت ، ومن حيث القلب ومشاعر النفس هو إخلاص ودعاء لأن يتقبل الله جل وعلا عملهما . أما منتج العمل وهو (الكعبة ) فهو شىء آخر ، بعد تطهيرها من الأصنام بيد ابراهيم واسماعيل، وبعد موتهما ما لبث أن زحفت الأصنام نحو الكعبة ، بل تحولت الكعبة نفسها الى وثن مقدس فى قلوب الأجيال اللاحقة. ليس ابراهيم واسماعيل مسئولين عن هذا التحريف وذاك التخريف . المسئول هو من أساء التعامل مع ( الكعبة )،(منتج العمل). فى حياته وعند الاحتضار كان ابراهيم يوصى أبناءه بالاسلام ، وهكذا فعل حفيده يعقوب عند موته:( وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ)( البقرة 132 ـ ). هذا هو السعى ، وبهذا يختم المؤمن سعيه، أما نتيجة أو منتج السعى فتتعلق بمن قام بسعى آخر يتم تسجيله فى كتاب أعماله ، أى قد يظل المنتج بعد موت صاحبه وبعد اكتمال سعيه ، ويتحمل اللاحقون نتيجة سعيهم بالخير أو بالشّر فى تعاملهم مع المنتج .والله جل وعلا بعد أن قصّ لمحات عن   بعض الأنبياء قال:(أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا) ثم قال عن الخلف اللاحقين :(فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئًا ) ( مريم 58 : 61 ). تحمّل الأئمة المرسلون عملهم ، وتحمل الخلف عملهم ، وكل إمرىء بما كسب رهين .

3ـ المنتج من عمل ابراهيم كان خيرا ( وهو بناء الكعبة ) فتحول المنتج الى وثن أو ساحة للأوثان بفعل الأجيال اللاحقة أو (الخلف ) بفتح اللام . أحيانا يكون المنتج ضلالا ، ويتمسك به الخلف يشاركون أسلافهم نفس العمل ، يكررون نفس الضلال متمسكين به ، وتلك سمة أساس فى قصص القرآن عن الأمم السابقة ـ وهذا موضوع يطول شرحه ، ولكن ما يخصنا هنا هو تلك اللمحات القرآنية عن المشركين فى عهد النبى محمد عليه السلام وفى قصص الأنبياء السابقين ، وكيف ردّد ويردد معظم المسلمين نفس الملامح فى أديانهم الأرضية بعد موت خاتم النبيين عليه وعليهم السلام ، أى ينطبق عليهم قوله جل وعلا : :(فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئًا ) ( مريم 58 : 61 ).

4 ـ والأمم السابقة لا شأن لهم بنا ، فقد تم حفظهم فى كتب أعمالهم ، ولكن لا تزال بعض  معابدهم وقصورهم باقية بعد هلاكهم. وهى المنتج الذى نتج عن عملهم وسعيهم فى الدنيا. والله جل وعلا يعظنا بأن نسير فى الأرض لنرى تلك الآثار ونتعظ ونهتدى: (أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِن وَاقٍ) (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ)(غافر 21 : 82 ) . ويحذرنا رب العزة من السير على ملتهم حتى لا يقال لنا يوم القيامة تأنيبا وتبكيتا:(وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ)(ابراهيم 45).

5 ـ وتعبير(وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ ) غاية فى الابداع ، فلا يعنى مجرد أن تسكن ماديا وجسديا ومكانيا فى مساكن الظالمين الهالكين بل أن تعايش نفس الثقافة وان تمارس نفس الظلم وأن تحترف نفس الفساد ، وأن تتنفس نفس المناخ فيكون كتاب عملك بنفس الظلم والظلام . وهو حال اليهود فى عصر النبوة ، وهم عصاة بنى اسرائيل فى عهد خاتم النبيين . سكنوا (وجدانيا وثقافيا ودينيا ) فى مساكن أسلافهم العصاة الذين كانوا يقتلون الأنبياء ويقدسون العجل ، ولأنهم كانوا على نفس الملّة ويمارسون نفس الثقافة فآخذهم بها رب العزة ، حين رفضوا الايمان بالقرآن ، وذكّرهم بما فعله أسلافهم ، وخاطبهم كأنهم هم الأسلاف الجناة عبدة العجل وقاتلى الأنبياء ، للتدليل على أنهم سكنوا فى مسكن الذين ظلموا و تشربوا دينهم ،أى ألفوا آباءهم ضالين فساروا على دينهم يهرعون ، يقول جل وعلا عن يهود العرب وقت نزول القرآن:(بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمْ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمْ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمْ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ)(البقرة 90 :93 ) (لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمْ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (آل عمران 181 :183). وانظر الى عصرنا الراهن،حيث تغلب الدين السلفى فأعاد ثقافة العصور الوسطى فى النقاب والحجاب واللحية والجلباب وطريقة الخطاب ، أى سكنوا فى مساكن الذين ظلموا أنفسهم . لا شأن للسلف بهم ، ولكن أولئك المضلين دعاة السلفية سيتحملون وزر دعوتهم وتحريضهم وإضلالهم العوام .

أخيرا :الضالون والمضلون : الملأ والعوام ، الأئمة والعلماء والأتباع

1 ـ ومن حقائق القرآن الكريم أن الأغلبية العظمى من البشر ضالة مضلّة تستطيع إضلال النبى نفسه لو أطاعهم : (وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ)(الأنعام 114 : 116 ). أى الأكثرية لها مقدرة على إضلال النبى نفسه فكيف ببقية البشر من الضالين الضحايا للمضلين ؟وكم عدد المؤمنين بعد هذا ؟ ذلك يعنى ان حوالى 99% من البشر ضالون مضلون ، وأن أقلية الأقلية هم المهتدون:(إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ )(ص 24)، وستنقسم هذه الأقلية يوم القيامةالى سابقين واصحاب اليمين:(وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ثُلَّةٌ مِنْ الأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِنْ الآخِرِينَ)(لأَصْحَابِ الْيَمِينِ ثُلَّةٌ مِنْ الأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنْ الآخِرِينَ)(الواقعة 10 : 14 ، 38 : 40) . أصحاب النار أيضا قسمان : ضالون غاوون من الأتباع والعوام ، ومضلون من السادة والملأ والأئمة المقدسين والعلماء. ووسيلة الاضلال الكبرى إختراع وحى مزيف يتخذونه بديلا للوحى الالهى الحقيقى مع محاولة تحريف الكتاب السماوى، ومن أجل كتبهم المقدسة ووحيهم الكاذب يتخذون كتاب الله مهجورا،ويكذبون بآياته، يقول جل وعلا عنهم :(فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ )( يونس17). فإذا طولبوا بالاحتكام للقرآن الكريم رفضوا،مع أنه فرض على من يريد الهداية :(أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً)(الانعام 114 ).

2 ـ هذه الكثرة العددية وأجيالها المتلاحقة عبر الزمن مع اتفاقهم فى الضلال إلا إن كل ضال سيحمل وزر عمله وضلاله فى سعيه الدنيوى، وسيتم إلقاؤهم فى جهنم طبقا للتتابع الزمنى الذى كانوا عليه فى الدنيا . يتم أولا فصل المؤمنين عن الكافرين، ثم يتم تجميع الكافرين فى طبقات يتكدس بعضها فوق بعض كتجميع القمامة:( لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَىَ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ)(الأنفال 37) ثم يلقى بهم فى الجحيم أفواجا فوجا بعد فوج حسب ترتيب أزمانهم جيلا بعد جيل ،وعندها يلعن كل جيل الجيل الآخر يعتبره مسئولا عن إضلاله:(قَالَ ادْخُلُواْ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُم مِّن الْجِنِّ وَالإِنسِفِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَاادَّارَكُواْ فِيهَا جَمِيعاً قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاَهُمْ رَبَّنَا هَـؤُلاءأَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِّنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْف وَلَـكِن لاَّ تَعْلَمُونَ ) (الأعراف: 38)، أى لا يحمل أحد شيئا من عذاب أحد ،ولا يحمل مثقل بالأوزارعن آخر وزره ، ولهذا يحذرنا ربنا مقدما من هذا فيقول:(وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَمَن تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ)( فاطر 18 )، من تزكى فلنفسه،أى تكون تزكيته لنفسه فى الدنيا نورا فى كتاب عمله يؤهله لدخول الجنة ، ومن ضل فإنما يضلّ على نفسه ويكون كتاب عمله وزرا يدخل به الجحيم، وفيها كل يعانى من وزره، أى من سعيه الشخصى فى دنياه والذى تحول الى عذاب له فى الآخرة، وكل له ضعف العذاب، أى عذاب مزدوج ولكنهم لا يعلمون ، ونحن أيضا.

3ـ  ثم وهم فى داخل النار يتخاصم الأتباع مع سادتهم وأئمتهم وآلهتهم وشفعائهم ، يلعن التابعون أئمتهم وأوليائهم الذين اتخذوهم آلهة مقدسة معصومة.ونعطى التفاصيل من سورة الشعراء : يقول جل وعلا عن بروز الجحيم فجأة أمام الضالين :(وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ )، ثم يقال لهم استهزاءا أين شفعاؤكم وأئمتكم المقدسون:(وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنصُرُونَكُمْ أَوْ يَنتَصِرُونَ)، ثم يتم إلقاؤهم فى جهنم كالقمامة والزبالة ومعهم أئمتهم شياطين الانس والجن ، جند إبليس ناشروا وحيه الضال:(فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ )وفى سعير جهنم يختصمون :(قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ ) أى قال الغاوون الضالون لأئمتهم المقدسين:(تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ)، أى يقسمون إنهم كانوا فى ضلال مبين فى الدنيا حين كانوا يساوون أولئك الأئمة ـ كالبخارى وابن تيمية وابن عبد الوهاب والغزالى والبدوى ـ برب العالمين، ثم يلتفت أولئك الغاوون الضالون الى علماء السوء الذين عكفوا على كتب الأئمة ينشرونها ويدعون اليها على أنها الحق والوحى،والعلماءالذين دعوا الى تقديس القبور،فيقولون يشيرون اليهم :(وَمَا أَضَلَّنَا إِلاَّ الْمُجْرِمُونَ ). ثم يتحسرون على حالهم وضياع مزاعمهم الباطلة فى الشفاعة فيقولون:( فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ ) ثم يتمنون الرجوع الى الدنيا :(فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (الشعراء 94 : 102 ). الشاهد هنا أن أولئك الضالين فى حياتهم الدنيا اتبعوا مضلّين من علماء السوء زينوا لهم الباطل حقا والحق باطلا ، وعلماء السوء أنفسهم عكفوا على ما كتبه أئمة سابقون فحوّلوهم من مجرد علماء الى آلهة مقدسة لا يجوز انتقادهم أو مناقشة كتبهم . وأولئك العلماء الذين كانوا بلا تقديس فى عصرهم يتحملون وزر ما كتبوه فى الضلال وما دعوا اليه من صدّ عن سبيل الله ، ولكن أثناء حياتهم فقط ، ثم يأتى العلماء الضالون بعد موت أولئك المؤلفين المضلّين ليسعوا فى الضلال والاضلال جاعلين العلماء السابقين أئمة معصومة وآلهة لا يجوز نقدهم أو مناقشتهم ، ومن يناقشهم يكون خارجا عن الدين كافرا به . أى يقوم الدعاة بسعى يجمع بين الكفر والصّد عن سبيل الله، فتمتلىء كتب اعمالهم فى حياتهم الدنيا بهذا السعى،ويكونون مسئولين عن إضلال معاصريهم وتحريضهم على الفسوق والعصيان.وأولئك الأتباع الضالون هم ضحايا الفريقين،أى المضلين من الأئمة والعلماء .

4 ـ وهنا نفهم حكمة القصص القرآنى المحفوظ من لدن الله جل وعلا الى يوم القيامة ليكون حجة على من يزعم الاسلام وهو يكرر سلوكيات وعقائد المشركين والكافرين والمنافقين التى شرحها وفضحها رب العزة فى القرآن الكريم . لقد جعل رب العزة تدبر القرآن فريضة : (أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا)(النساء 82)(أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا)(محمد 24) وجعل من تلاوته عبادة (وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا)(الكهف 27)(اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ)(العنكبوت 45)وجعل من التمسك به والانصات اليه رحمة : (وَلَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)(وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (الاعراف  52 ، 204 ).

5 ـ ثم يوم القيامة سيكون الكتاب السماوى ميزانا يقابل كتاب العمل . وهذا موضوعنا فى المقال القادم :(الميزان والكتاب والرحمة والعذاب ).

مقال 15

تأصيل ( كتب/كتاب ) فى القرآن الكريم ( 6 : 10 )

 الميزان والكتاب والرحمة والعذاب

 

أولا : الميزان فى الخلق   

1 ـ أقام الله جل وعلا الخلق على أساس تقدير محكم بالغ الدقة : (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ) (القمر 49 )، فكل شىء مخلوق بأعلى درجة من التقدير : (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا) ( الفرقان 2 )، يشمل هذا التقدير كل خلية حيّة وكل ذرة فى عامنا المادى وغيره:( قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا)(الطلاق 3 )،ويشمل هذا قطرة ماء المطر، من نزولها من الغلاف الجوى الى إسكانها فى الأرض،وتبخرها وذهابها: (وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ) ( المؤمنون 18 )، وخلق الجنين البشرى ونزوله:(أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَّاء مَّهِينٍ فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ إِلَى قَدَرٍ مَّعْلُومٍ )( المرسلات 20 : 22 )،بل كل جنين وكل أنثى فيما تحمل أو تلد ، وما بينهما ، كله بتقدير زمنى وموضعى ،يعلمه الله جل وعلا ويسير حسب تقديره : (اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ)(الرعد 8 )

2ـ والميزان أو التوازن هو من مرادفات التقدير. وهذا الميزان يسرى على كل شىء ، يقول جل وعلا : (وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ)(الحجر 19،21 ). يسرى هذا على الأرض ، فكل نبات فيها يتم بميزان : (وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ )(الحجر 19 )، كما يسرى على السماوات السبع وما بينهما من نجوم ومجرات وتوابع ، خلقها رب العزة بنظام وتقدير محكم ، يذهل الانسان ، فلا تفاوت ولا خطأ ولا خلل فى خلق الرحمن من الذرة وما دونها الى المجرة وما فوقها: (الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ)( تبارك 3: 4 )

ثانيا : من الميزان فى الخلق الى الميزان فى الشرع:

وخالق هذه الأكوان بكل هذا الابداع هو الذى علّم الانسان النطق والبيان ، وهو الذى وضع ميزان الخلق كما أنزل الشرع ميزانا للقسط فى تعامل الناس مع رب الناس وفى الناس مع بعضهم : (الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الإِنسَانَ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ َالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ )( الرحمن  1 ـ )، فكما يوجد ميزان فى خلق الرحمن فهناك ميزان هو شرع الرحمن ، وينبغى على البشر إقامة ذلك الميزان فى تعاملهم مع ربهم فليس من العدل إتخاذ اله مع الله ، وليس من العدل الطغيان فى الميزان ، سواء فى البيع والشراء أو فى أى نوع من التعامل بين البشر . فالظلم والطغيان محرم تماما فى شراء السلع أو فى شراء الذمم.

ثالثا : الميزان فى الشرع :

لذا نزلت الرسالات السماوية بميزان العدل ليتبعه البشر فى حياتهم الدنيا ( لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ )(الحديد  25)، فكلمة (الْكِتَابَ ) جاء مرادفا لها ومعطوفا عليها (وَالْمِيزَانَ )،فالميزان وصف للكتاب السماوى،وكلاهما جاء وصفه بالمفرد،فلم يقل رب العزة (الكتب) فالرسالات السماوية تعبر فى مجملها عن( كتاب ) واحد مهما إختلفت الألسنة و الأقوام والأزمنة والأمكنة،فكلها لكى يقوم الناس بالقسط .ولم يقل رب العزة (الموازين) لأنه ميزان واحد لكل البشر، فالعدل له وجه واحد لا يتعدد، وكذلك ( أم الكتاب )،المصدر الذى نزلت منه كل الرسالات والكتب السماوية. ويقول جل وعلا عن الرسالة الخاتمة،وهى الكلمة الالهية للبشر قبل قيام الساعة:(اللَّهُ الَّذِي أَنزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ)(الشورى 17 ). فالاسلام له ( كتاب ) واحد ومصدر واحد ، وهو ميزان واحد لا يتعدد . وبالتالى لا وجود لمصادر أخرى كالسّنة والحديث..الخ ..

فى التشريعات

رابعا : القسط والعدل والوزن بالقسط فى القرآن الكريم:

1 ـ جاءتالوصايا العشر فى القرآن تأمر بالعدل والقسط مباشرة أو بطريق غير مباشر:( قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُم مِّنْ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُواْ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)(الأنعام 151 : 153 )وقال جل وعلا لنا : ( وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُواْ بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ) (الاسراء 35 )

2 ـ وتخصصت رسالة النبى شعيب فى حض أهل مدين على الوفاء فى الكيل والميزان حيث كانوا يحترفون التجارة(هود  84 )( الشعراء 181 ـ ).يقول جل وعلا :(وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ )(الأعراف 85 ).

 خامسا : من ميزان الشرع الى كتابة العمل وميزان الآخرة

1 ـ الفارق بين ( الميزان ) فى الخلق و ( الميزان ) فى الشرع أن ميزان الخلق حتمى لا مجال فيه للاختيار ، فلا تملك الشمس أن تعتذر عن جريها الى مستقر لها ولا تستطيع الاليكترون أن يأخذ أجازة يتوقف فيها ليستريح من التعب ويلتقط أنفاسه من دورانه حول نواة الذرة . فهذا ميزان حتمى . أما ميزان الشرع فمع أنّه فرض على الناس ، ولكن الله جل وعلا جعل الناس أحرارا فى طاعة ميزان شرعه بأن يقيموا العدل أو أن يعصوا بالظلم والفساد . ومثلا فالانسان يتكون من جسد ونفس . النفس هى التى تقود الجسد ، والنفس لها الحرية فى قيادة جسدها نحو الطاعة أو المعصية ،وهذا الجسد تتبع أجهزته الحيوية الميزان الحتمى للخلق ، فالقلب لا يكف عن الخفقان ، ولا يتوقف للراحة ، وكذلك بقية أجهزة الجسد طالما بقى حيا. وهذا الجسد الدنيوى ينتهى الى فناء دون ان يتعرض الى عذاب أو نعيم فى الآخرة ، أما النفس صاحبة المشيئة فى الاختيار بين الطاعة أو المعصية فهى التى تتحمل مسئولية مشيئتها يوم القيامة ، إن حافظت على ميزان القسط دخلت الجنة ، وإن أخلّت به دخلت النار . وعملها بالطاعة أو المعصية يتم حفظه أوّلا بأوّل ، وترتديه النفس يوم الحساب الذى يتم فيه وزن عمل النفس طبقا لعقيدتها ، وبالميزان الالهى لكتاب عمل النفس يظهر فوزها أو خسارها .

2 ـ ومراعاة الميزان الخلقى والدينى تبدأ من الوزن بالحق والعدل فى البيع والشراء الى كل مناحى التعامل مع الناس ومع رب الناس، والناس فريقان : متمسكون بالعدل ومطففون ، يقول جل وعلا يتوعّد المطففين :(وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ)،أى يأخذون فوق حقهم ،ويعطون الناس أقلّ من حقوقهم، ليس فقط فى البيع والشراء،ولكن أيضا فى كل الحقوق والواجبات ، ويقول رب العزة لأولئك المطففين منبها على نسيانهم يوم القيامة ومسئوليتهم يوم الحساب :(أَلا يَظُنُّ أُوْلَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ)؟ . فى هذا اليوم سيكون كتاب أعمالهم فى أسفل سافلين:( كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ ) حيث يتم تسجيل أعمال كل فرد ببصمته الوراثية النفسية وبصمته التى كانت لجسده الفانى فأصبحت بذرة يقوم عليها بعثه يوم البعث والنشور،(كِتَابٌ مَّرْقُومٌ) أى مؤسس على الأرقام والأعداد. ويقول جل وعلا عن القائمين بالقسط (كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ كِتَابٌ مَّرْقُومٌ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ)(المطففين 1 : ـ  21).

3 ـ فكتاب العمل هو الوصلة بين ميزان الشرع فى الدنيا وميزان الحساب فى الآخرة ، وهو يشمل العمل المادى الذى يكون طاقة تخرج عن الجسم ،وميزانها بالذرة،كما يشمل المشاعر النفسية والمعتقدات القلبية التى تنتمى الى عالم البرزخ ، وبالتالى يكون تسجيلها بما هو أقل ضآلة من الذرة،كلها ينتظمها علم الله جل وعلا فى كتابه المبين الشامل المحيط ، يقول جلّ وعلا :(وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ)( يونس 61 )، فشهادة الله جل وعلا علينا من خلال كتب أعمالنا الذى يسجل عملنا مشفوعا بعقائدنا ومشاعرنا . ثم يكون كتاب العمل لكل شخص فى ميزان الآخرة يوم الحساب.

سادسا :طبيعة الوزن فى الآخرة :

1 ـ كتاب العمل يقوم على الوزن الذرى وما هو أقل منها ممّا أى جزء من الذرة أو أكبر : (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِوَلا فِي الأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ )( سبأ 3 ) وكذلك سيرى الناس أعمالهم يوم البعث بالمقياس الذرى، أى جزء من الذرة أو أكبر:( يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَه)( الزلزلة 8)، وسيكون الحكم بالعدل بنفس المقياس الذرى،أى جزء من الذرة أو أكبر ، يقول جل وعلا :(  إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ )( النساء 40 ). وهذا الوزن العادل لا يترك شيئا إلا أحصاه وأتى به :( وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ)( الأنبياء 47 ).

2 ـ وفى ثنايا الوزن الذرى يتم حساب البشر ومساءلتهم ، بما فيهم الأنبياء والمرسلين ، حيث سيقص عليهم رب العزة من واقع كتب أعمالهم التى تنطق بالحق:( فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ).وسيكون الوزن يومئذ بالحق ، فالذى تثقل موازينه سينجو ويفلح ومن تخف موازينه يخسر نفسه ، والسبب هو ظلمه للميزان الالهى أو آيات الله جل وعلا فى كتابه السماوى :(وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُم بِمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ ) ( الأعراف 6 : 9 )

3 ـ مع أن المقياس موحد فى الميزان ،أو هو وزن واحد بالقسط ،إلاّ إن الموازين تتعدد لكل فرد، فهناك ميزان للعمل المادى بمقياس الذّرة وميزان للمشاعر والمعتقدات بما هو أقلّ من الذرة،ثم يكون الوزن الأخير بالغفران أو بالاحباط ،لذا يستعمل رب العزة كلمة(الموازين ) مضافة للأفراد :(فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ)( القارعة)، (فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ ) ( المؤمنون ـ 102 ـ )

4 ـ وفى الوزن تكون النفس بكتاب أعمالها فى كفّة ويكون فى الكفة الأخرى الكتاب الالهى السماوى ( الميزان الشرعى ):(وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُم بِمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ)(الأعراف 6 : 9)،

والخاسر هو الذى يخسر نفسه: ( وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ ) ( المؤمنون ـ 102 ـ )

5 ـ الوزن الالهى ينتهى الى عكس الوزن البشرى ، فى الوزن البشرى الفائز يثقل ويهبط أما الفائز فى الوزن الالهى فهو الذى يصعد ويعلو ،والخاسر هو الذى يهبط :(فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ نَارٌ حَامِيَةٌ )(القارعة).

6 ـ وبالتالى فلا مجال للتساوى فى ميزان الآخرة ، أى لا تساوى بين الحسنات والسيئات. فالذى يأتى يوم القيامة بقلب سليم نظيف من عقائد الشرك والرياء لا يخلو من عمل سىء ولكن يضاعف الله جل وعلا حسناته ، ويغفر أى يغطى سيئاته عند الوزن فلا يكون فى كفّة ميزان أعماله وكتاب أعماله سوى حسنات فيفوز .أما المشرك فلا يخلو هو الآخر من أعمال صالحة ولكن يحبطها الله جل وعلا ويضيع ثمرتها فلا يبقى له إلا سيئاته فيهوى بها الى الجحيم .

7 ـ إى إن الكلمة الأخيرة فى الميزان هى للعقيدة من إيمان خالص أو شرك ، ومن مشاعر الاخلاص أو الرياء والنفاق .ووزن العقيدة ومشاعر النفس يؤكد قفل كتاب الاعمال بموت صاحبه ، لأنه بالموت تموت النفس ومشاعرها وأحاسيسها . وهنا التوفية الأخيرة ، توفية الوزن والجزاء ، بعد توفية العمر وتوفية كتاب العمل وكتب الحتميات.  

8 ـ  ويظل هناك فارق بين الميزان البشرى الدنيوى والميزان الالهى الأخروى . صحيح إن الانسان استخدم فى موازينه المادية الدنيوية جانبا من التقدير الالهى فى الحساب و الأرقام ولكن يقتصر الميزان البشرى على العالم المادى دون النفاذ الى البرزخ والنوايا ومشاعر النفس . وفى العلم الطبيعى يتم إخضاع الجسد البشرى للتجربة والتحليل والجراحة ، ولكن كينونة النفس أبعد ما تكون عن مشرط الجراح . لايعلم عنها العلم سوى مجرد تأثيرها على الجسد وانفعاله بها.  أما فى كتاب الأعمال فهو يسجل عقائد ومشاعر النفس، ثم يكون وزنها ، وبه يتحدد مستقبلها بين الجنة أو النار.

9 ـ الفارق الأساس بين الميزان البشرى الدنيوى والميزان الالهى الاخروى يتمثل فى وحدانية الميزان البشرى وتعدد مقاييس الموازين البشرية الدنيوية . تجد فى البشرية تعددا فى الأوزان والمكاييل والمسافات من الميل والكيلو والفرسخ والسنتيمتر والبوصة، ومن الرطل والأوقية الى الجرام والكيلو جرام . ولكن الميزان الالهى موحّد ، صاحبه هو الاله الواحد الأحد ، وله ميزان واحد وكتاب واحد ومقياس واحد موحد ، عدى رقمى ن فالقرآن له بداية ونهاية ، وهو مرقم بالسور والآيات ، وكذلك كتاب العمل له بداية تنتهى بالموت . لا مجال هنا لكتاب آخر مع القرآن ، ولم يأت فى تاريخ الأنبياء السابقين أن كان لأحدهم ثنائية الكتاب والسّنة ، أو تعدد مصادر التشريع، فالدين لله جل وعلا واصبا:(وَقَالَ اللَّهُ لاَ تَتَّخِذُواْ إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ ) ( النحل 51: 53 )، لأنه جلّ وعلا وحده الخالق الفاطر ، ولأنه وحده الذى سيحاسب الناس يوم القيامة ،ولأن الرسول وظيفته التبليغ فقط .

سابعا:عقاب الاخلال بالميزان :

يحدث الاختلال فى (ميزان الخلق ) أو التوازن الطبيعى (فى الخلق )، فيحدث التلوث والفساد فى الجوّ والبر والبحر،وتكون العقوبة فى الدنيا فى صحّة البشر والكوارث الطبيعية (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (الروم 41 ). ويحدث الاختلال فى ميزان الشرع بشيوع الظلم والكفر السلوكى و العقيدى فيأتى العقاب فى الدنيا على شكل مصائب لأفراد واهلاك عام للظالمين:( وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ )( الشورى30 )، (فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ ) ( الحج 45 ).ولكن كل عقوبات الدنيا ليست بشىء مقارنة بلحظة عذاب فى اليوم الآخر . والنجاة منه هو ( الرحمة ).!!

أخيرا :  ارتباط الرحمة فى الدنيا بكتاب الله جل وعلا

1 ـ لأن الكتاب السماوى هو الميزان فى الدنيا ولأنه سيكون فى كفة فى ميزان الآخرة مقابل كتاب العمل فإن الرحمة ترتبط بطاعة الله ورسوله ، وطاعة الله جل وعلا ورسوله تتركّز فى كلمة واحدة : طاعة القرآن الكريم ،أو الكتاب السماوى . يقول جل وعلا عن التوراة يصفها بالرحمة : (ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِيَ أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُم بِلِقَاء رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ )( الانعام 154 )(وَلَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ)(الاعراف 154 )،ويقول جل وعلا عن القرآن  يصفه بالرحمة :(وَلَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)(الاعراف 52 )(قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِن رَّبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)(الاعراف 203 / 204 )(إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغًا لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ) ( الأنبياء106 :107).

2 ـ بطاعة الكتاب السماوى فى الدنيا يتم التأهّل لنيل رحمة الله جل وعلا يوم الحساب ، فمن ينال رحمة الله جل وعلا يبيضّ وجهه ، ومن يحرم منها يسودّ وجهه :(يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)(آل عمران 106 : 107 ). ينجو المؤمنون المتقون برحمة الله وباقترابهم منه حيث تعنى الرحمة القرب من الله جل وعلا رب العالمين ، وحيث يعنى العذاب أن يكون هناك حجاب بينهم وبين رب العزة ، والله جل وعلا يتوعدهم ويحذرهم مقدما المكذبين بالكتاب من هذا اليوم :( وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا الْجَحِيمِ ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ ).

السطر الأخير

راجع القرآن كله وستجد أن سمات الشرك والكفر تتركز فى تكذيب آيات الله . وهذا هو ما يقع فيه الأغلبية العظمى من المسلمين الذين سمّوا أنفسهم صوفية وشيعة وسنية وآمنوا بمفتريات ، ومن أجلها كذّبوا بآيات الله فى ميزانه أو كتابه الحكيم.

تأصيل ( كتب / كتاب ) فى القرآن الكريم
مقدمة
اللفظ القرآنى ( كتب ) ومشتقاته يلعب دورا أساسيا فى حياتنا . فالله جل وعلا (كتب ) علينا الفرائض من صلاة وصيام وزكاة وحج ،وكتب على (نفسه ) إلتزاما ، وأنزل لنا ( كتبا ) أو ( كتابا ) سماويا ، كما إنه جل وعلا ( كتب ) علينا الحتميات أو القضاء والقدر الذى لا مفرّ منه ، ثم إنه جل وعلا له ملائكة ( تكتب ) اقوالنا وأعمالنا. ولا يخلو الأمر من قيام البشر ب ( كتابة ) رسالة أو خطابا أو تحريف فى الكتاب السماوى . جاءت تفصيلات هذا كله فى القرآن الكريم. وهذا المبحث نتوقف مع معنى (كتب وكتاب ) فى النسق القرآنى. وفى الفصل الأول نبحث ( كتب و كتاب ) بمعنى الالزام والفرض والشرع ، و( كتب بمعنى الكتاب السماوى ) مع ( كتب ) بمعنى الحتميات المقرة سلفا . وفى الفصل
more