رقم ( 6 ) : لمصر بعد الفتح
الفتح الإسلامي والاستراتيجية السياسية

الفصل الأول

الفتح الإسلامي والاستراتيجية السياسية لمصر بعد الفتح     

 

رابعا- مصر والدولة العباسية

 

 

مقالات متعلقة :

مصرفي عصر قوة العباسيين :

 

قامت الدولة العباسية على أكتاف الفرس فولت وجهها شطر الشرق وأصبحت عاصمتها أقرب للشرق وأبعد عن الفتوحات الأموية التي أوغلت في الغرب حتى جنوب فرنسا . وبينما ظلت الدولة الأموية محافظة على أملاكها في الشرق والغرب حتى مع وجود صراعتها التي لا تنتهي فإن الدولة العباسية ضاع منها الأندلس في بداية العهد بها , ووقع على كاهل ( أبي جعفر المنصور ) عبء توطيد الدولة العباسية فأفنى الأمويين ولم ينج منهم إلا الأقلون كان منهم ( عبد الرحمن الداخل ) الذي كون دولته في الأندلس ولم يستطع أبو جعفر المنصورمع ما أوتي من قوة وحيلة أن ينال منه .

 

وشهدت الدولة العباسية عصرها المزدهر في عهد المنصور المهدي والهادي والرشيد حيث كان الخليفة العباسي يملك ويحكم , وكان هذا العهد المزدهر للخلفاء العباسيين عصر بؤس الوزراء , فالوزير منفذ لرغبات الخليفة وإذ حاقت به الشكوك فالقتل مصيره . ومع قوة الخلفاء العباسيين وقتها إلا أن بعد المسافة بين بغداد وغرب الدولة العباسية مكن الأطراف في شمال أفريقيا من الاستقلال فقامت دولة الاغالبة في عصر قوة العباسيين إذ إنه برضى الرشيد استقرت ولاية إبراهيم بن الأغلب في نظير أن يؤدي للخلافة العباسية أربعين ألف دينار سنويا, وفي المغرب الأقصى قامت دولة الأدارسة ولم يفلح الرشيد في القضاء عليها .    

 

أما في مصر فإن بعض الأعراب تشجع بإعلان الثورة في الحوف الشرقي ( شرق الدلتا ) ولكن الدولة العباسية تمكنت من إخماد ثورتها , ولا ريب أن تلك الثورة شجعها ما تموج به شمال أفريقيا من حركات استقلالية عن الخلافة حملت الوالي العباسي ( هرثمة بن أعين ) على أن يطلب من الرشيد استعفاءه عن أفريقيا لأنه لا يستطيع ضبطها فأجابه الخليفة إلى مطلبه , ثم وجهه الرشيد لقمع ثورة الأعراب في الحوف الشرقي فنجح في ذلك .

 

لم تستطع مصر في العهد الأول من الدولة العباسية أن تخرج عن التبيعية الكاملة لبغداد , وتمكنت الدولة العباسية من قمع الثورات التي شبت في مصر سواء كانت ثورات عربية أو قبطية .

 

وتركزت الثورات العربية في شرق الدلتا حيث تسكن قبائل من قيس واليمن وأولئك كانوا يثورون إذا  ظهر خارجي على الدولة العباسية كما حدث في ثورة( دحية بن المصعب من ولد عبد العزيز بن مروان الأموي ) . وكانت ثوراتهم في الأغلب بسبب دفع الخراج . وهو نفس السبب الذي كان يثور من أجله الأقباط كثورتهم في سخا سنة150 هـ , وهيب سنة 156 هـ.

 

وفي عهد المأمون اجتمع المصريون عربا وأقباطا على الثورة لعسف الوالي العباسي ( عيسى بن منصور ) واضطر (المأمون ) للمجيء بنفسه وأخمد الثورة وأعاد النظام للبلاد , وقام بعدة إصلاحات ثم عاد بعد أربعين يوما .

 

في هذه الفترة كان من أبرز الولاة العباسيين في مصر ( عبد الله بن طاهر ) الذي أخمد فيها ثورة ( عبد الله بن السري بن الحكم ) وقد حاول الاستقلال بمصر بتشبهها بالاغالبة في أفريقيا . ونظم ( عبد الله بن طاهر ) شئون مصر وبقي يحكمها إلى أن استدعاه ( المأمون ) بعد أن كافأه بإيراد مصر كاملة وقد بلغ ثلاثة ملايين دينار [1]

 

لم تفلح محاولات الاستقلال بمصر طالما كان الخلفاء العباسيون أقوياء فلما درات الدولة الحتمية على الدولة العباسية وبدأت مشوار الضعف عرفت مصر الاستقلال الذاتي في إطار الدولة العباسية وذلك في عهد الدولتين الطولونية ثم الإخشيدية .

 

مصر الطولونية : ( 254 – 292 / 868 – 905 )

 

في عصر قوة بنى العباس لم يسمحوا لأى نفوذ بأن يطغى على الخليفة , فكان ( المنصور ) يقتل وزراءه عند أدنى شبهة ثم إذا أصبح ( للبرامكة ) نفوذ في عهد ( الرشيد ) بادر بالتخلص منهم . استغل الخلفاء الأقوياء الصراع بين العرب والعجم في صالح الدولة وحرصوا على التوازن بين العنصرين وضرب كل عنصر بالآخر خدمة للنفوذ المطلق للخليفة .

 

إلا إن الصراع بين العرب والفرس أسفر عن وجهه في الحرب بين ( الأمين ) و( المأمون) فقد عهد الرشيد للأمين وأمه عربية هاشمية عباسية ثم ( للمأمون ) وأمه فارسية , وتغلب النفوذ العربي في خلافة ( الأمين ) وشجعوه على عزل أخيه من ولاية العهد , وهى عادة سيئة أن يبادره الخليفة بعزل أخيه لصالح ابنه – بدأتها الدول الأموية وتبعهم العباسيون على ما فيها من خطر محقق على الأسرة الحاكمة .

 

ولم يسمح الفرس بأن يعزل ( الأمين ) ( المأمون ) , مع أنها سنة جرت قبل ذلك كثيرا على أيدي الخلفاء , إلا إن الفرس وجدوها فرصة لتثبيت نفوذهم ومحو النفوذ العربي في الدولة , وتمت المواجهة بين العرب والفرس في إطار الصراع بين ( الأمين ) و ( المأمون ) , وبهزيمة ( الأمين ) انحلت قوة العرب في الدولة العباسية وسيطر الفرس منفردين على الدولة .

 

وجاء الخليفة ( المعتصم ) العباسي فسأم من العرب والفرس معا واستقدم عنصرا جديدا هم الأتراك الذين استكثر منهم بالشراء , ولكن الغلمان الأتراك ما لبثوا أن قتلوا ( المتوكل ) ثم قتلوا بعده أبنه ( المنتصر ) وتعاظم نفوذهم على حساب الخلفاء . وتقاسموا فيما بينهم الولايات .. وكان الأمير التركي يفضل البقاء في بغداد ليواجه مكائد خصومه ويرسل من يحكم الولاية باسمه , وهذا ما فعله ( باكباك ) التركي حين أوفد نائبه ( أحمد بن طولون ) ليحكم مصر باسمه بينما بقى هو في بغداد إلى جوار الخليفة . وتمكن ( أحمد بن طولون ) من تكوين دولة مستقلة بمصر في إطار الخلافة العباسية .

 

ابن طولون يدعم نفوذه في مصر :

 

وكانت الدولة العباسية قد وزعت السلطة في مصر حتى لا يعمد الوالي للاستقلال وعندما أتى أحمد بن طولون واليا على الصلاة سنة 254 م كان هناك عامل على الخراج من قبل الدولة العباسية هو ( ابن المدبر ) وهو صاحب نفوذ كبير وإلى جانب صاحب البريد واسمه ( شقير ) وهو غلام لأم الخليفة المعتز وكانت صاحبة نفوذ في الدولة العباسية , وكانت مهمة صاحب البريد التجسس على الولاة حتى لا يتمكن أحدهم من الانفراد بمصر , فكان يبعث بأخبارهم على البريد إلى مقر الخلافة , ثم الإسكندرية مستقلة عن مصر وتابعة لوالى برقة .

 

هذا إلى جانب الثورات العلوية التي شبت في الصعيد تنشد اقتطاع مصر من الدولة العباسية . وثبت ابن طولون نفوذه على النحو التالي :

 

1- كانت مواجهته الأولى مع ( ابن المدبر وشقير ) . فقد استقبله ( ابن المدبر ) مع ( شقير ) وسط مظاهرة من غلمانه وبعث له بهدية قيمتها عشرة آلاف دينار ليتعرف على شخصية ( ابن طولون ) ورد ( ابن طولون ) الهدية فتخوف منه ( ابن المدبر ) واتفق مع ( شقير ) صاحب البريد على مكاتبة الخلافة بإزالة (ابن طولون ) . ثم بعث ( ابن طولون ) ( لابن المدبر ) يعتذر عن قبول الهدية ويطلب عوضا عنها الغلمان الذين يحيطون ( بابن المدبر ) ويجعلون له هيبة وموكبا , نظرا لأنه يحتاج إليهم أكثر منه , فاضطر( ابن المدبر ) لإرسالهم إليه , وزاد تخوفه منه ,وزالت هيبة( ابن المدبر )  في قلوب الناس بقدر ما زادت هيبة (ابن طولون ) وكتب ( ابن المدبر وشقير ) للخلافة يحرض على عزل ( ابن طولون ) ولكن ( ابن طولون ) كان له أعوان في قصر الخلافة ببغداد وأولئك كانوا يحجبون رسائل ( شقير وابن المدبر ) من الوصول لأولى الأمر ويطلعون عليها ( أحمد بن طولون ) أولا بأول .

 

2- كانت الإسكندرية تابعة لوالي برقة كما أسلفنا . وحدث تطور في النزاع بين زعماء الأتراك نتج عنه قتل ( باكباك ) الوالي الرسمي لمصر والذي يحكم (ابن طولون ) باسمه نائبا عنه , وكانت الظروف في صالح ( احمد بن طولون ) إذ إن الذي تولى مصر رسميا بعد ( باكباك ) هو ( ماجور ) التركي حمو (ابن طولون ) وصهره فكتب إليه يقول ( تسلم من نفسك إلى نفسك ) وأضاف إليه الإسكندرية فأسرع (ابن طولون ) بالاستيلاء عليها .  

 

3- وظهر في فلسطين (أحمد بن عيسى الشيباني ) الذي استبد بها واستولى على المال الذي بعثه ( ابن المدبر ) من مصر للخلافة وكانت الأمور مضطربة في بغداد فطمع ( الشيباني ) في الاستيلاء على مصر , وانتهت اضطرابات بغداد بقتل الخليفة ( المهتدى ) وتولية ( المعتمد ) ورفض ( الشيبانى ) الاعتراف ( بالمعتمد ) إلا بعد أن تولى ارمينيا  مع الشام . وتحارب ( ماجور ) صهر ( ابن طولون ) مع ( الشيبانى ) وانهزم ( الشيبانى ) وتولى ( ماجور ) الشام . فأمن ( ابن طولون ) على نفسه في مصر وسنحت فرصة ( لابن طولون ) في التخلص من ( ابن المدبر ) حيث استحثه الخليفة ( المعتمد ) على إرسال المزيد من الأموال فكتب إليه ( ابن طولون ) ( لست أطيق ذلك والخراج بيد غيري ) فولاه ( المعتمد ) الخراج وتخلص بذلك من ( ابن المدبر ) وكان ابن طولون قد تخلص قبلا من ( شقير ) صاحب البريد بعد زوال نفوذ ( قبيحة ) أم الخليفة ( المعتز ) وهكذا جمع ابن طولون في يده السلطة في مصر .

 

4- واستطاع ( ابن طولون )  القضاء على ثورات الشيعة في مصر وأهمها ثورة ( ابن الصوفي العلوي ) في الصعيد وقد استطاع هزيمة جيش ( ابن طولون ) ولكن تمكن منه ( ابن طولون ) في اخميم , وواجه ( ابن طولون ) ثورة ( ابن طباطبا ) العلوي في الساحل الشمالي بين برقة والإسكندرية فتحول ( ابن طباطبا)  إلى  الصعيد وهزمه ( ابن طولون ) وقتله .

 

ابن طولون والسيطرة على الشام :

 

1- بعد انفراده بالسلطة في مصر عزم ( ابن طولون ) على تأمين وضعه في مصر بالسيطرة على الشام شأن الحاكم القوى في مصر , وقد ساعده انشغال الدولة العباسية بمواجهة ثورة الزنج التي  استمرت من ( 255 : 270 هـ ) وأنهكت الدولة العباسية وشتتت جهد ( الموفق ) أخ الخليفة ( المعتمد ) وصاحب السيطرة عليه وعلى الخلافة . وكان ( أحمد ابن طولون ) يؤيد الخليفة المقهور ( المعتمد ) ضد أخيه ( الموفق ) المسيطر عليه , لذلك عهد ( المعتمد ) ( لابن طولون ) بالشام والثغور , ورفض ( الموفق ) تولية ( ابن طولون ) للشام وعهد لقائده ( ابن بغا ) بأن يحول بين ( ابن طولون ) والسيطرة على الشام فاستعد ( ابن طولون ) في مصر فبنى حصنا بالجزيرة وكان قد ابتنى قبلا ( القطائع ) عاصمة له واستقر فيها بجنده .

ولم يستطع ( ابن بغا ) قائد ( الموفق ) السير لمصر وما لبث أن مات , ومات في نفس العام ( 264 هـ ) ما جور صهر ابن طولون والوالي على الشام . فتحرك ( ابن طولون ) في هذه الظروف المواتية للاستيلاء على الشام .

 

2- وكانت العلاقات وثيقة بين ( ابن طولون ) و ( ابن ماجور ) الذي تولى الشام بعد أبيه . فتلقاه ( ابن ماجور ) في دمشق وأقام له الدعوة بها وحكمها باسمه , ومضى ( ابن طولون ) إلى حمص فتسلمها ورفض ( سيما الطويل ) حاكم إنطاكية الخضوع ( لابن طولون )   فانهزم وقتل . ودخل ( طرسوس ) وكانت من ثغور الجهاد ضد البيزنطيين فاستثقلوا وجوده فاتفق معهم على أن ينهزم أمامهم ليرفع من شأنهم أمام الروم , فيقتنع الروم أن أهل طرسوس هزموا ( ابن طولون ) بجيوشه التي استولت على الشام , وأصبحت تبعيتها ــ طرسوس – ( لابن طولون ).

 

3- لم يستطع ( الموفق ) مواجهة ( ابن طولون ) في الشام فلجأ للمكيدة . فأغرى ( لؤلؤ ) غلام ( ابن طولون بالانحياز إليه ) وكان ( ابن طولون ) قد بعث غلامه  ( لؤلؤا ) في جيش للشام فانحاز بجيشه إلى ( الموفق ) وفق ما اشترطه عليه من شروط . وفيما بعد لم يف ( الموفق ) بالشروط بل اعتقل لؤلؤا وصادر أمواله , فعاد لمصر فقيرا في نهاية الدولة الطولونية . واتجه ( ابن طولون ) بجيش للشام فبلغه أن ( المعتمد ) يريد الفرار إليه فتوقف ليتلقاه فقد بلغت سطوة الموفق بأخيه ( المعتمد ) حدا لم يحتمله الخليفة , فانتهز فرصة انشغال ( الموفق ) بحرب الزنج وخرج من بغداد كأنه يتصيد فبلغ أمره أخاه ( الموفق ) فأعاده معتقلا وعقد ( لابن كنداح ) على مصر وشبت الحرب بين ( الموفق وابن طولون ) في مكة .

 

4- بلغت المواجهة بين ( ابن طولون ) و ( الموفق ) إلى الحد الذي دعا ( ابن طولون ) إلى إعلان أن ( الموفق ) قد نكث بيعة أخيه ( المعتمد ) ودعا عليه في خطبة الجمعة . وأعلن خلعه من ولاية عهد ( المعتمد ) وكتب ( أن أبا أحمد الموفق خلع الطاعة وبرئ من الذمة فوجب جهاده على الأمة . ) وأسقط اسمه من العملة .

ورد ( الموفق ) فكتب بلعن ( أحمد بن طولون ) على المنابر وأجبر أخاه الخليفة ( المعتمد ) بإعلان ذلك . 

ولم تقع مواجهة حربية بين ( ابن طولون ) و( الموفق ) فقد مات ( أحمد ابن طولون ) سنة 270 وهو يحكم مصر والشام والثغور الشامية وتولى بعده ابنه خمارويه .

 

خمارويه والسيطرة على الشام :-

 

1- بادر ( خمارويه ) بإرسال حملة برية وبحرية لتأكيد نفوذه على الشام يقودها ( الواسطي ) , ولكن استماله ( الموفق ) فانضم إليه , وتعاون مع ( ابن كنداح ) و ( ابن أبى الساج ) قواد ( الموفق ) فهزم جيش ( خمارويه ) ودخل دمشق باسم ( الموفق ) .

 

2- وخرج ( خمارويه ) بجيش قابل ( أحمد بن الموفق ) في فلسطين فانهزم ( خمارويه ) مع كثرة جيشه وقلة جيش العباسيين ولكن كمينا ( لخماروية ) استطاع صد ( أحمد بن الموفق ) , ولكن دمشق استعصت على جيش ( خمارويه ) .

 

3- ثم عاد ( خمارويه ) بجيش فاقتحم دمشق سنة 273 وسار لقتال ( ابن كنداح ) قائد ( الموفق ) , وانهزم أصحاب خمارويه ولكنه ثبت موقعه إلى أن تم له النصر وطارد ( ابن كنداح ) إلى عاصمة العباسيين ( سر من رأى ) .

 

4- وتم الصلح بين ( خمارويه ) والعباسيين فاعترفوا بولايته وولده على مصر والشام ثلاثين سنة . ودعا ( خمارويه )  (للموفق ) في الخطبة واعترف بالتبعية للعباسين مع استقلاله الذاتي في مصر والشام .

 

5- وتوفى ( الموفق ) سنة 278 وبويع ( أحمد بن الموفق ) بالخلافة تحت لقب ( المعتضد ) فكتب (المعتضد ) بولاية ( خمارويه ) وأولاده على مصر ( من الفرات إلى برقة ) لمدة ثلاثين عاما جعل له فيها كل السلطات من الصلاة والخراج والقضاء في نظير أن يؤدى في كل عام مائتي ألف دينار , وتزوج ( المعتضد ) ( قطر الندى ) بنت ( خمارويه ) وحديث جهازها مشهور . وقتل ( خمارويه ) بيد خدمه سنة 282 في دمشق بعد حكم استمر اثنتى عشرة سنة .

 

نهاية الدولة الطولونية :

 

خلف ( خمارويه) ذرية ضعافا فكان على أيديهم نهاية الدولة الطولونية في مصر والشام . إذ تولى  جيش( اين خمارويه ) وساءت سيرته وقتل عمه ( مضر بن أحمد بن طولون ) فخلعه جنوده سنة 283 وتولى ( هارون بن خمارويه ) وتنازع مع عمه ( ربيعة بن أحمد بن طولون ) وقتله , ومات ( المعتضد ) وتولى ( المكتفي ) وظهر القرمطي بالشام وهزم جيش المصريين سنة 290 , وعزمت الدولة العباسية على استرداد مصر والشام بحمله بحرية برية فملكت تنيس ودمياط . وسار ( هارون بن خمارويه ) للقائهم ولكن تفرق عنه جنده وقتله عمه ( شيبان بن أحمد بن طولون ) وتولى مكانه سنة 292 وتحالف قادة الطولونيين على ( شيبان ) لقتله ( هارون ) وانضموا للعباسيين فأمكنوهم من دخول الفسطاط فاستباحوها واستأصلوا ذرية أحمد بن طولون , وأعادوا ( مصر) للخلافة العباسية .

 

                                          الدولة الإخشيدية

                                  

( 323 – 358  هـ ) ( 935 – 969 م )

 

 

مصر قبل الدولة الإخشيدية :-

 

ارتبكت الأحوال بمصر بعد انهيار الدولة الطولونية , وأبرز ولاة مصر للعباسيين – بعد الدولة الطولونية – كان ( النوشري ) ت 297 . وقد واجه ثورة ( ابن الخليج ) الذي طمح في الاستقلال بمصر تشبها ( بابن طولون ) ولكن قضت عليه الدولة العباسية بقائدها ( فاتك المعتضدي ) بعد أن حكم  ( ابن الخليج ) مصر أكثر من سبعة أشهر . وصارت مصر بعد ولاية ( النوشري ) مجالا للصراع المستمر بين القواد الأتراك ولم يستطع الخلفاء العباسيون بسط نفوذهم الكامل عليها نظرا لضعفهم الزائد أمام طغيان الأتراك .

 

وتحرج الموقف أمام العباسيين بظهور القرامطة في جنوب العراق وتهديدهم الحجاز والشام والعراق , ثم كانت محنة العباسيين بظهور الدولة الفاطمية بالمغرب وإرسال حملاتها لمصر عن طريق البحر المتوسط والواحات .

 

كانت الدولة العباسية تتخوف من إرسال قائد حازم لمصر يضبط الأمر فيها حتى لا يستقل بمصر عن الدولة العباسية كما فعل ( أحمد ابن طولون ) ولكن ظهور الدولة الفاطمية بخلافة شيعية على حدود مصر الغربية وطمعها في انتزاع مصر من الدولة العباسية وهى قريبة من مصر – كل ذلك شجع الدولة العباسية على إرسال قائد محنك يتولى الأمر في مصر وكان ( محمد بن طغج الإخشيد) .

 

                                                                                                                                                                                       الإخشيد :-

                                                                                                                                                      

ولم يكن ( محمد بن طغج ) بعيدا عن مجريات الأمور في مصر , فأبوه ( طغج بن جف ) كان أحد قواد خمارويه وعين واليا على الشام للدولة الطولونية , وولد ابنه ( محمد) سنة 268 وبدأ حياته موظفا في الإدارة المصرية بعد سقوط الدولة الطولونية . 

 

وحينما زحف الفاطميون سنة321 اشتهر(محمد بن طغج ) بشجاعته في صدهم فعينه الخليفة ( القاهر ) واليا على مصر سنة 321 هـ إلا إن اضطراب الأمور في مصر والشام وتنازع الأمراء الترك بها بين مصر والشام جعل الدولة العباسية تعينه للمرة الثانية سنة 323 واستطاع بعدها أن يؤكد سلطانه على الأمراء الترك وأن يؤكد سلطانه بها . بعد أن أعلن استقلاله بمصر سنة 323 في إطار الخلافة العباسية التي اعترفت بولايته على مصر والشام معا سنة 324 .  

                                                             

تأكيد سلطان الإخشيد على مصر والشام : -

 

1 – دخل  ( الإخشيد ) مصر بجيشه سنة323 فحارب( ابن كيغلغ ) وهزمه وقبض على الأمور وتتبع أصحاب ( ابن كيغلغ ) فأخرجهم عن البلاد ودان له الجيش العباسي في مصر . وحاز (محمد بن طغج ) إعجاب الخليفة (الراضي ) فلقبه( بالإخشيد) ودعى له بذلك على المنابر سنة 327 بعد أن صد حملة فاطمية .   

 

فقد التقى أتباع كيغلغ بالخليفة الفاطمي بالمغرب وهو القائم بأمر ( الله ) فحرضوه على أخذ مصر نكاية في الإخشيد فجهز الفاطمي جيشا ولكن الإخشيد هزمه . 

 

2 – ازداد عجز الخلافة العباسية في عهد ( الراضي ) فتجرأ الولاة على قطع الأموال التي يؤدونها إلى بغداد , وتغلب ( بنوبويه ) على فارس وضغطوا على العراق فاضطر الخليفة ( الراضي ) للاستعانة ( بابن رائق ) وكان متغلبا على واسط فاستقدمه إلى بغداد وقلده إمارة                                                      الجيش والخراج والديوان وجعله أمير الأمراء . 

 

وقبض ( ابن رائق ) على ناصية الأمور في بغداد واستبد بالأمر فيها بدون وزير ومشير , ورأى ذلك حكام الولايات فاستقل كل منهم بولايتة كما فعل ( البريدي ) في خوزستان و ( عماد الدولة بنو بويه ) في فارس و ( ابن الياس ) في كرمان أما الري وأصبهان فتغلب عليها ( ركن الدولة بنو بويه ) , وتغلب ( بنو حمدان ) على الموصل وديار بكر و مضى وربيعة , وسبقهم ( الإخشيد ) باستقلاله بمصر والشام .

 

ثم دارت الأيام ( بابن رائق ) فغلبه على بغداد خصمه ( البريدي ) ثم جاء بعد ( البريدي ) بجكم , وحدث أن الخليفة ( الراضي ) سار مع ( بجكم ) إلى الموصل لتأديب بنى حمدان لتأخيرهم الأموال , ولما ابتعدا عن بغداد ظهر ( ابن رائق ) واحتلها , وتمت المفاوضات بين ( ابن رائق ) والخليفة و ( بجكم ) بتولية ( ابن رائق ) الشام . هذا مع تبعية الشام للإخشيد باعتراف الخليفة الراضي نفسه , فكان محتما أن ينشب الصراع بين الخصمين القويين ( ابن رائق ) و ( الإخشيد ) .

 

3- تقدم ( ابن رائق ) في الشام فاحتل حمص ثم احتل دمشق واخرج منها والى الإخشيد وتقدم من دمشق إلى الرملة فملكها ,وإذ وصل ( ابن رائق ) إلى جنوب الشام وفلسطين عزم على أخذ مصر فدخل العريش فتلقاه فيها الإخشيد ودارت معركة سنة 328 هـ . انهزم فيها ( الإخشيد ) أولا ثم انتهز انشغال ( ابن رائق ) بالسلب فهزمه وفر ( ابن رائق ) بسبعين رجلا إلى دمشق .

 

وأرسل ( الإخشيد ) جيشا آخر لدمشق تمكن ( ابن رائق ) من هزيمته وقتل قائده وتم بينهما الصلح على أن تكون مصر وجنوب الشام مما يلي الرملة ( للإخشيد ) وباقي الشام ( لابن الرائق ) ويؤدى ( الإخشيد ) جزية ( لابن رائق ) عن الرملة .

 

وقد أضطر ( الإخشيد ) إلى دفع الجزية عن الرملة ( لابن رائق ) ليمد حدود الدفاع عن مصر إلى الرملة ويأمن على حدوده الشرقية من ( ابن رائق ) بعد عقد الصلح بينهما , ثم يتفرغ لمواجهة الضغط الفاطمي الآتي من الغرب . ولا يريد الإخشيد أن يحارب في جبهتين في وقت واحد .

 

4- وقتل ( الحمدانيون ) ابن رائق سنة 330 هـ فدخلت جيوش ( الإخشيد ) دمشق , وحارب ( الحمدانيين ) واستخلص منهم حلب . واضطر الخليفة المطيع للاعتراف بفتوحات ( الإخشيد ) , ومات ( الإخشيد ) سنة 334 وعهد لابنه ( نوجور ) تحت وصاية ( كافور )

 

5- واستأثر ( كافور ) بالسلطة من دون أبناء ( الإخشيد ) وسار على سياسته طيلة حكمه الذي استمر ثلاثا وعشرين سنة ( 334 – 357 هـ ) . وقد استطاع ( كافور ) أن يهزم سيف الدولة                                                                                                                                                                                 الحمداني ويسترد منه دمشق وكان استولى عليها عندما توفى ( محمد بن طغج الإخشيد)  [2].

 

ومع أن ( كافور ) هزم ( سيف الدولة ) إلا أنه صالحه على دفع جزية نظير الاحتفاظ بدمشق وذلك حتى يأمن على حدود مصر الشرقية في جنوب الشام ويرد الخطر الفاطمي عن غرب مصر .

 

واستطاع ( كافور ) أن يهزم ملك النوبة الذي أغار على مصر سنة 345 وأمن حدود مصر الجنوبية . وأقتنع الفاطميون في المغرب بالتغلغل السلمي بين المصريين دون الحملات الحربية التي تثير الحنق ضدهم , وأحسن ( كافور) استقبال الدعاة الشيعة [3], إذ كان لا يهتم بمن يحكم مصر بعده فهو خصي لا ولد له . وقد أيقن أن مصير الأمر من بعده للفاطميين وهم أقرب لمصر وأكثر تلهفا على امتلاكها .. وبقى ( كافور ) يحكم مستبدا بالأمر إلى أن مات 357 وحدود مصر منيعة ما بين برقة إلى دمشق .

                   

ثم تولى بعده حفيد للإخشيد هو ( أحمد بن على بن محمد ) وكان في الحادية عشرة من عمره وحدثت في أيامه مجاعة وتهيأت مصر للوقوع بسهولة تحت حكم الفاطميين سنة 358 ودخلت في عصر جديد .

وقبل أن نعيش مع ( مصر الفاطمية ) نتوقف مع فترة التبعية التي عاشتها مصر مع الدولة العباسية لنتعرف على أهم خصائصها الاستراتيجية .

 

1- فقد عاد الوضع الطبيعي لمصر بالتدريج وأصبح الشام حرما دفاعيا لها في مواجهة الخلافة العباسية . وقد سيطر ( أحمد بن طولون ) ثم ( خمارويه ) على الشام كخط دفاعي أمام الدولة العباسية , وفى دولة ( الإخشيد ) سيطر على جنوب الشام بالحرب وبالجزية مع وجود الضغط الفاطمي على حدود مصر الغربية . أي أنه مع وجود مصر دولة مستقلة في إطار الخلافة العباسية فقد عادت تبعية الشام الاستراتيجية لمصر وحين ضعف الحكام من الدولتين الطولونية والإخشيدية انهار بناء الدولة في مصر والشام في وقت واحد باعتبارهما وحدة استراتيجية واحدة .

 

2- وكان وجود حاكم قوى طموح في الشام خطرا على مصر إذ يسارع بالتفكير في غزوها كما فعل ( الشيباني ) في فلسطين أثناء بداية ( أحمد بن طولون ) في مصر,وكما حدث من القرمطي   بالشام أثناء ضعف الدولة الطولونية وفى فترة الضعف بين انتهاء الدولة الطولونية وقيام الدولة الإخشيدية ( 292 – 323 هـ ) ساعد الارتباط الموقعى بين مصر والشام على زيادة حدة التنافس بين الأمراء الترك في الاقليمين إذ كان الأمير في الشام أو في مصر يتنازع مع جاره لإتمام سيطرته على مصر والشام لان المنطقة لا تتسع إلا لحاكم قوي واحد يتبعه الآخرين . وبعد أن ظهر ذلك الحاكم القوى في شخص الإخشيد انتصر على خصومه في مصر والشام وأصبحت المنطقة في حوزته وفى دولته .

 

ثم إذا ظهر ( ابن رائق ) في الشام طمع في مصر وكانت حربه مع ( الإخشيد ) وبعده كان ( بنو حمدان ) وصراعهم مع الإخشيدين , ونجحت الدولة الإخشيدية في فرض سلطانها على الشام طالما بقيت قوية فلما مات ( كافور ) انتهت الدولة الإخشيدية في مصر والشام في وقت واحد .

 

3- ويلاحظ أن الخطر الفاطمي على حدود مصر الغربية كان مؤثرا في سياسة الدولة الإخشيدية . حتى إن لقب( الإخشيد ) الذي اشتهر به ( محمد بن طغج ) كان بسبب الفاطميين . بل إن خطر الفاطميين على مصر هو الذي جعل الدولة العباسية تتسامح في ظهور دولة الإخشيد القوية لتواجه الخطر الفاطمي المعادي للعباسيين على طول الخط  , وقد حمل( الإخشيد) معه همومه من الخطر الفاطمي أثناء انتصاراته في الشام , فكان بعد الانتصار يكتفي بالصلح وإعطاء الجزية ليحتفظ بدمشق أو بالرملة مع تحييد خصمه في الشرق حتى لا يحارب أعداءه العباسيين في الشرق وأعداءه الفاطميين في الغرب في وقت واحد . وذلك ما التزم به ( كافور ) .

 

وبعد سقوط الدولة الإخشيدية سقطت مصر ثمرة ناضجة في يد( جوهر الصقلي ) بدون مقاومة . 

 

وأصبحت مصر لأول مرة بعد الفتح الإسلامي تواجه عاصمة الخلافة مواجهة الند للند بخلافة شيعية ونظام مختلف . فإلى أي حد أفلحت مصر القاهرة في مواجهة بغداد . هذا ما سنتعرف عليه.

 

 

 



[1]
خطط المقريزى  1 / 578  :  589  .

المصادر

[2]تاريخ ابن الأثير 8/ 123 , 136 , 140 , 148 , 179 . 7/ 73 ، 95 ، 104 ، 125 ، 128 ، 157 ، 158 ، 164 ، 169 ،171، 189 ، 211

خطط المقريزى 1/613 . ،1/ 590، 592 ، 600: 607، 2/234 . 1/ 590 ، 592 ، 600 ، 607 ، حسن المحاضرة 1/ 594 : 596 . 2/234 .

السيوطى : حسن المحاضرة 1/ 594: 596 ، 596 : 598

[3]خطط المقريزى 2/234 .

شخصية مصر بعد الفتح الإسلامي
شخصية مصر بعد الفتح الإسلامي

دكتور : أحمد صبحي منصور

قسم التاريخ الإسلامي والحضارة الاسلامية - جامعة الأزهر
1984

كل الحقوق محفوظة للمؤلف


الفهرس
المقدمة

الفصل الأول : الفتح الإسلامي والاستراتي جية السياسية لمصر بعد الفتح

أولا: استراتيجية مصر قبل الفتح الإسلامي
في العصر الفرعوني , في العصر البطلمي

ثانيا: الفتح الإسلامي لمصر:
فتح مصر بعد فتح الشام , حوادث الفتح , محاولات الاسترداد الرومية

ثالثا: مصر والأمويون
في الحرب الأهلية بين معاوية , في الحرب بين الأمويين والزبيريين , مصر وانهيار الأمويين

رابعا: مصر والدولة العباسية
مصر في عصر قوة العباسيين : مصر الطولونية:

ابن
more