رقم ( 10 )
الفصل الثامن : التعذيب فى مصر فى رؤية قرآنية

 
الفصل الثامن : التعذيب فى مصر فى رؤية قرآنية
 
المقال الاول 
مصر ( ام الدنيا ) فى التعذيب .! 
أولا : مصر أم الدنيا فى الاستبداد والتعذيب 
1 ـ مصر أقدم دولة فى العالم . بدأت قبل تاريخ العالم فى حضارات ما قبل التاريخ ، وهى أول دولة تعرضت لاستعمار خارجى ـ فى عصر الهكسوس ـ واول دولة أسست إمبراطورية عظمى فى عهد تحتمس الثالث أول فاتح فى التاريخ العالمى  .  إذا كان يقال عنها ( أم الدنيا ) بسبب هذا فهى أيضا ( أم الدنيا فى التعذيب ) لأنها ( أقدم دولة إستبدادية ) فى العالم بدأت ولا زالت مستمرة بنفس ثقافة الاستبداد ،من عهد الفرعون ( مي نا ـ نا ـ رمر ) الذى وحّد جنوب مصر وشمالها فى دولة واحدة ـ الى عهد الفرعون الحالى : ( ال سى ـ سى )  . هى نفس الدولة العميقة القائمة على الاستبداد ، ولكى يستمر الاستبداد فلا بد له من ( التعذيب ) . مصر هى الدولة الوحيدة المذكورة فى القصص والتى لا تزال حيّة حتى الآن بنفس خصائصها الاستبدادية ، والتى جعل رب العزة فرعونها مثلا لكل المستبدين من عهده وما يأتى من الزمان . وعلى سُنّته يسير المستبد الشرقى حتى الآن ، مع أنهم يزعمون الايمان بالقرآن . قد تخفُّ سطوة المستبد نوعا بسبب ضعف شخصيته وتسلط الملأ و( الحاشية ) عليه ، ولكن تظل الدولة المصرية العميقة تتحكم فى سكان مصر بنفس أسلوب القهر والتعذيب لترسيخ الخوف من الدولة ، بغض النظر عن الفرعون إذا كان قويا أو ضعيفا .
2 ـ ساعد على الاستبداد المصرى النيل ، رافد الحياة فيها . يقولون إن مصر هبة النيل . ولكن النيل قبل أن يصل الى مصر يسير وسط أمم شتى ، لم تصبح لهذه الأمم دولة فى قدم الدولة مصر وأهميتها وإستمرارها خلال 7 آلف سنة. القول الصحيح أن مصر هى هبة المصريين الذين أقاموا تحت قهر المستبد هذه الدولة ( أم الدنيا ) . وبهذا القهر صنعوا حضارة وتركوا آثارا شاهدة عليها .  مصر صحراء ، والنيل يشقها من وسطها ، حيث يتركز المصريون على ضفتيه . يتفرع النيل الى فروع ، بقى منها فرعان ترقد عليهما الدلتا ، وهى من أكبر ال ( الدلتات ) فى العالم . والنيل بوضعه هذا يستلزم حكومة مركزية تسيطر على رافد الحياة ( النيل ) فى الرّى وفى الصرف وفى الزراعة ، وما تستلزمه من تسخير للبشر لصالح الفرعون ، والزراعة أساس الاستقرار وتأسيس الحضارة ، بما يقوم عليها من أنشطة اخرى يقوم بها المصرى تحت قهر الفرعون المصرى . 
3 ـ ومصر بحضارتها وبموقعها وثرائها وبشعبها الموصوف بأن ( مطيّة راكب ) جعل من السهل على الحاكم أن يكون مستبدا طالما تحت إمرته جيش يأتمر بأمره فى مواجهة شعب يدمن الصبر والخنوع . فإذا ضعف هذا المستبد طمع فى مصر مستبدون أجانب . لذا تعرض المصريون لأصناف شتى من المستبدين ، منهم من كان مصريا ومنهم من لم يكن . وفى أحيان كثيرة كان المستبد الأجنبى خيرا للمصريين من المستبد المصرى ، وأحيانا كان المستبد الأجنبى خيرا لمصر ومكانتها من المستبد المصرى. ومثلا فإن المماليك الذين كانوا أرقاء تخصصوا فى العسكرية وحكموا مصر من عام 1250 : 1517 م ـ بلغوا بها شأوا عاليا جعلوا سلطانها يمتد من السودان جنوبا الى حدود العراق وجنوب تركيا شمالا ، ومن الحجاز شرقا الى برقة غربا . وربما كانوا أرفق بالمصريين من المستبد المصرى القائم الآن ، على الأقل لم تكن فى عصر المماليك ثقافة حقوق الانسان السارية الآن فى العالم ــ عدا مصر ، والفرعون المصرى الآن يرى أن المصريين أقل شأنا من التمتع بحقوق الانسان . ثم بهذا الاستبداد لم ينجح العسكر المصرى من عام 1952 من إحراز نصر حقيقى إلا على الشعب المصرى الأعزل ، يحتكر السلاح لجيشه وأجهزة أمنه وميليشياته السرية ، ويقوم بتعذيب المصريين ليظل فقط فى السلطة محتكرا الثروة يهربها الى الخارج ، ومن ينطق معارضا ولو بالهمس يتعرض لسلخانات التعذيب . أضاع عسكر مصر الحاكم هيبة مصر وجعلها تابعة لبعض مشيخات الخليج ، وأضاع سيناء وبعض الجزر ، والنيل شريان الحياة لمصر يوشك على النضوب . المستبد المصرى الفاشل الذى حكم مصر من عام 1952 وصل الآن بمصر الى أسفل سافلين . 
ثانيا : السجن المصرى رمزا للقهر المصرى 
1 ـ السجن احد ظواهر الحكم فى عالم اليوم . فى هولندة أغلقوا السجون لأنه لم يعد فيها جرائم . لا تزال هناك سجون فى الغرب . وهى لمعاقبة ( المجرمين ) والذين يثبت إجرامهم بقانون يتم إصداره ببرلمان منتخب إنتخابا عادلا نزيها تحت أعين الناس ، ويتم تطبيقه على الجميع على قدم المساواة ، إذ لا يعلو أحد فوق القانون . وهذا ما تطبقه إسرائيل الذى تتعرض الآن زوجة رئيس وزرائها لتحقيقات بسبب ثمن وجبات طعام . والذى يدخل السجن مجرما ثبتت إدانته يكون الهدف ليس الانتقام منه بل إصلاحه .
2 ـ الأمر على العكس تماما فى مصر ودول المحمديين ، حيث يعتقد المستبد ومعه الكهنوت الدينى التابع له أنه يملك الأرض ومن عليها ، يتبع سُنّة فرعون الذى أعلن ملكيته لمصر وأنهارها التى تجرى من تحته . وهو يحتكر السلاح والسلطة والثروة ، ومعه القضاء وأجهزة الأمن تعتقل من تشاء ، ويختفى ، وقد تحتضنه مقابر سرية ، وقد يدخل السجن فى حبس إحتياطى سنوات بلا محاكمة . وفى كل الأحوال فلا توجد قاعدة ( المتهم برىء حتى تثبت إدانته ) بل ( البرىء متهم طالما رأت السلطة ذلك ) . السجن المصرى بهذا رمز للقهر ، كان ، ولا يزال .  
3 ـ  لا عجب أن يذكر القرآن الكريم ( السجن ) فى مصر وحدها ، والسجن فيها مرتبط بالتعذيب . وهنا لا فارق بين الملك الهكسوسى الذى يتجرأ عليه الملأ وبين فرعون موسى الذى يخضع له الملأ . 
4 ــ فى قصة يوسف تتهم إمرأة العزيز فتاها البرىء يوسف بأنه راودها عن نفسها وتأمر بسجنه أوتعذيبه. قال جل وعلا  : ( وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلاَّ أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (25) يوسف ) . ثم فيما بعدُ هددته علنا أمام النسوة إن لم يفعل ما تأمره ليسجنن وليكونن مهانا صاغرا ، فالسجن المصرى وقتها يعنى الإهانة والصّغار . قالت إمرأة العزيز أمام النسوة اللواتى إنبهرن بجمال يوسف : (قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (32) يوسف ) . رفض يوسف وإستغاث بربه جل وعلا :( قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنْ الْجَاهِلِينَ (33) فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34) يوسف ) . وكوفىء بالسجن مقابل عفته وطهارته وورعه : (  ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوْا الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35) يوسف) . مع إثبات براءته وأنها هى الجانية الكاذبة فقد لفقوا له تهمة لإخفاء الحقيقة فدخل يوسف السجن ( المصرى ) بريئا لأنه رفض أن يفعل الفحشاء بسيدته.  إمرأة صاحبة نفوذ تمتلك سلطة الزّج بأى برىء للسجن حتى لو كان يوسف عليه السلام. هذه هى مصر ، كانت ولا تزال .. وكم من أبرياء دخلوا السجون بسبب راقصات .!
5 ـ ودخل السجن مع يوسف فى نفس الوقت إثنان من نفس العمر ، احدهما كان ساقيا للملك ، ما لبث أن خرج وعاد الى وظيفته ، أما الاخر فهو ( خبّاز ) فقير ، انتهى مصيره الى القتل صلبا حيث تأكل الطير من رأسه ليكون عبرة . فالخباز الفقير دخل السجن وقتلوه صلبا ، والساقى ما لبث أن خرج ، والتلفيق هو سيد الموقف . هذا فى دولة ملك ليس كمثل فرعون موسى ، هو ملك لا تخاف منه حاشيته ولا تحترمه ، يقصُّ رؤياه على حاشيته: (وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلأ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَاي إِنْ كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ (43) يوسف ) ويكون الرد  بإستخفاف :( قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلامِ بِعَالِمِينَ (44) يوسف  ) 
10 ــ إختلف الحال فى عصر الرعامسة ودولتهم العسكرية المركزية . اصبح السجن أكثر رُعبا .  الله جل وعلا وعد موسى وأخاه بالحماية الالهية، قال لهما : ( اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44) قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى (45) قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46) طه ) ووعده جل وعلا أن بطش الفرعون لن يصل اليهما : ( قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنْ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ (35) القصص ) . وهدّد فرعون موسى بالسجن فى أول لقاء بينهما قال له : (  لَئِنْ اتَّخَذْتَ إِلَهَاً غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنْ الْمَسْجُونِينَ (29) الشعراء ) . ومن هنا نرى موسى يتخوف مقدما من تعذيب فرعون له بالرجم ، قال لهم : ( وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (20) وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (21) الدخان ). 
أخيرا : نعيد نشر هذا المقال : دليل المفتون بأنواع السجون
آحمد صبحي منصور في الإثنين 11 يونيو 2012
   أولا :
1 ـ اقترب عيد الفطر سنة 1988 وكنت وقتها بأحد المساجد في ولاية أريزونا الاميركية , ووجهت لي الدعوة الرسمية من أحد السجون في مدينة تقع على الحدود المكسيكية للإفطار في أخر ليلة من رمضان وقضاء ليلة العيد مع مجموعة من المساجين المسلمين في ذلك السجن النائي . ورحبت بالدعوة ووجدتها فرصة للتعرف على الجانب الآخر من الحياة الاميركية . 
2 ـ  وصلت مع بعض الأصدقاء الأمريكيين إلى بوابة السجن وكان دخولنا في منتهى البساطة برغم أن الحراسة الاليكترونية تجعل الهروب من السجن مستحيلا ، واستقبلنا الواعظ الرسمي للسجن وهو مسيحي بالطبع ، ولكن الديمقراطية الأمريكية أوجبت عليه أن يشارك المساجين المسلمين عنده في احتفالهم بعيد الفطر ، بل وأن يقوم بنفسه على خدمتهم في احتفال الإفطار الأخير في رمضان ، برغم أن عدد أولئك المساجين المسلمين كان لا يتجاوز الخمسة عشر مسجونا ، منهم ثلاثة من الإيرانيين وواحد من الأمريكان البيض والباقي أمريكان سود . 
3 ـ ما شهدته في ذلك اللقاء جعلني أتحسر على حال المسلمين في أوطانهم خصوصا وقد كنت قبلها ببضع شهور سجينا في أحد السجون المصرية بسبب آرائي ومؤلفاتي ، وكانت ذكرياتي في سجن بلدي تلح علي وأنا أشاهد السجن الأمريكي وحال المساجين  فيه .
 4 ـ كانت المفاجأة الأولى هي تلك المعاملة المهذبة التي يلقاها المساجين من القائمين على السجن إلى درجة أنني لم أتبين الفارق بين الضابط والمسجون ، فالجميع يرتدون ما يشاءون من الزى ولهجة الخطاب بينهم لا تفصح عن مكانة المتكلم والمخاطب سواء كان مأمور السجن أو مسجونا بأصغر جريمة ، والطريف أن بعضهم استرسل معي في الحديث وابهرني بثقافته وأثنى على لغتي الإنجليزية – وقتها – ووعدني بإرسال كتب لي أتعلم منها كيفية النطق باللهجة الأمريكية ، ووفّى بوعده فيما بعد . وكنت اعتقد أنه أحد المسئولين الكبار في السجن إلا أنني فوجئت في نهاية الزيارة بأنه مسجون .!. 
.وكنت أظن السجن مختلطا إذ رأيت بعض السيدات يتجولن في ساحة السجن يختلطن بالرجال ، وفوجئت بأنهن من حرس السجن ، وساءلت نفسي هل أنا في سجن أم في مستشفى المجانين ؟ . 
5 ــ وألهبت وجداني ذكريات السجن في بلدي.. ورحت أسأل نفسي : هل أولئك الناس من طينة ونحن من طينة أخرى ؟ وفي تلك اللحظة التي لا أنساها ، تذكرت كلمة مصطفى كامل : لو لم أكن مصريا لوددت أن أكون مصريا ، وقررت وقتها أنه كان طيب القلب حسن النية ، ولو دخل سجن طره وزار بعدها ذلك السجن الأمريكي الفاخر لندم على هذه العبارة.!  
.6 ـ  وجاء موعد الإفطار في أخر يوم في رمضان . وفوجئت بالواعظ الذي دعاني يقوم ومعه بعض المسئولين بخدمة الصائمين من المساجين المسلمين . ولم تكن تلك المفاجأة الوحيدة ؛ إذ أن مطعم السجن كان مفاجأة في حد ذاته ؛ بنظافته وتجهيزاته والكمية المهولة من الطعام والشراب مما يجعله ينافس فندقا من بضعة نجوم . كانت صنابير الشراب  تسيل باللبن أو بالمياه الغازية حسبما تريد . وخيل لي وقتها أنها ربما تكون مؤامرة إمبريالية أمريكية لعمل غسيل مخ لي لأقتنع بالجنة الأميركية وأن المسألة كلها تمثيل في تمثيل ، وضحكت من هذا الخيال الأحمق وأنا أتناقش على مائدة الطعام  مع مسجون إيراني ( كان ضابطاعالى الشأن فى بلده ) ، وكان يبدو انه دخل السجن الأمريكي بتهمة التجسس لحساب وطنه ، ومع ذلك فقد اعترف بأن الفرق شاسع بين السجون الأميركية وسجون آيات الله في إيران . وتذكرت كيف قضيت اليومين الأولين لي في سجن بلدي عازفا عن الطعام والشراب حتى تشققت شفتاي وتحول ريقي إلى مرار علقم وذلك حتى لا اضطر للذهاب إلى دورة المياه التي يخجل منها كل من يمشي على قدمين ، وحتى لا اضطر لأكل السوس المخلوط بالفول المدمس .!!  
.وأحزنني هذا التشرزم بين المسلمين حتى في ذلك السجن ، فمع عددهم القليل إلا أنهم كانوا فرقا وطوائف ، السود يكرهون ذلك السجين الأبيض المثقف ، والإيرانيون لا يثقون بالأمريكيين المسلمين ، مع أنهم جميعا مسلمون في مكان واحد ،  ورأيت فيهم ملخصا وافيا لحال المسلمين في أمريكا وفي العالم كله.   
.7 ــ ودارت مناقشات بيننا وبين المسئولين عن السجن وعلموا من أصدقائي أنني كنت سجينا بسبب بسبب الرأي .  وأفزعهم ذلك. وأطمعتهم مؤهلاتي العلمية في أن اعمل واعظا للمسلمين في السجون الأميركية ووعدوا بالتوصية على تعييني ، وفرحت وقتها بهذه الفرصة . وفي نهاية اللقاء سألني الواعظ الأمريكي عن رأيي في أحوال المسلمين في السجن . ووجدتني أرد عليه بالعربية التي لا يعرفها قائلا : اللي يقول ده سجن أروح فيه ستة اشهر ..!!
.8 ـ وبعدها بأسبوع جاءت المفاجأة الأخيرة إذ وصلتني الأوراق الرسمية للحصول على وظيفة واعظ ، ومكثت ادرسها بإمعان خصوصا واجبات الواعظ مهما كانت ديانته ، وأهمها الحرص التام على توفير الحرية الدينية لكل مسجون والاحترام التام لكل ما يقدسه ذلك المسجون سواء كان أيقونة أو سجادة للصلاة أو تمائم للسحر أو عبادة للشيطان ، ثم الحرص على توفير كل التسهيلات لهم في ممارسة شعائرهم ومشاركة إدارة السجن لهم في احتفالاتهم الدينية . واكتشفت في النهاية أن تلك الوظيفة المعروضة على وقتها تتطلب الحصول على الجنسية الأميركية – واتصلت بالمسئول واعتذرت له وشكرته ، وعبرت له عن إعجابي الكامل بما قرأته  في تلك الأوراق الرسمية فيما يخص حرية العقيدة.
9 ـ وركبتني بعدها الكوابيس.. ما الذي جرى للمسلمين ؟ فالإسلام هو الذي سبق الجميع بتقرير حرية العقيدة ومنع الفتنة أى الاضطهاد في الدين والإكراه على الدخول في الإسلام أو غيره ، وبتلك السماحة انتشر الإسلام في مواطن لم تصلها جيوش المسلمين ، ثم دخل المسلمون في تيار التعصب والجهل والتأخر والتفرق بينما أدرك الغرب أن التقدم رهين بالحرية الدينية والحرية العقلية وان يكون الدين لله يحكم فيه يوم الدين وأن يكون الوطن للجميع يتمتع فيه كل مواطن بالحرية والمساواة وتكافؤ الفرص ، فتقدم الغرب بينما لا نزال نحن نعيش في ظلام العصور الوسطى
.10 ـ وقفز إلى ذاكرتي أحد المساجين التعساء في الزنزانة التي عشت فيها فى سجن مزرعة طرة ، وقد كانت تهمته هي الردة عن الإسلام والدخول في المسيحية ، وقد كان يخشى زملاءه المسلمين  في الزنزانة أكثر من خشيته من إدارة السجن ، وأذكر أنني قلت للناقمين عليه أن يدعوه وشأنه لأنه يمارس حريته في العقيدة التي كفلها له رب العزة حين قال في القرآن " لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ   (256) ( البقرة )  ، " وَقُلْ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ  (29) ( الكهف )  " ، " قلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا   (107)( الاسراء ) . وقلت لهم إن الذي سيحاسبه على هذه الحرية هو رب العزة في يوم القيامة يوم الدين ، وأنكم باضطهادكم له قد سلبتم الله تعالى بعض اختصاصاته التي لم يعطها لرسوله الكريم حين قال له " وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99) وحين قال له وللناس : (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (108) ( يونس )  . صدق الله العظيم  
أخيرا
نشرت هذا المقال فى جريدة الأحرار بتاريخ ( 21/ 10 / 1991  ) .واليوم أصبح التعصب أكثر تسيدا فى مصر، ويريد الاخوان والسلفيون تقنينه فى الدستور . ولو حدث هذا فقل : على مصر السلام.  .!!   
 
المقال الثانى 
 
مملكة التعذيب الفرعونى : مملكة الخوف 
أولا : دائرة الخوف 
1 ـ هذه حادثة حقيقية فى عصر حسنى مبارك : إستيقظ الفتى فى زنزانة فى سجن مزرعة طرة ، حكى لرفيقه رؤيا عجيبة ، قال إنه رأى فى المنام انه يركب موتوسيكل مع رفيق له من بلدته وكان معهما قنبلة . سرعان ما وصل خبر هذه الرؤيا الى ضابط أمن الدولة فى السجن ، إستدعى السجين وإستجوبه عن رفيقه الذى فى رآه فى المنام . فى اليوم التالى كان هذا الرفيق المسكين البرىء سجينا فى مزرعة طرة ومشهورا بسجين البسكليته .! . 
2 ـ تحليل هذه القصة الواقعية فى كلمة واحدة : الرُّعب . وصل الرع بحسنى مبارك الى أن يحكم مصر طيلة عهده بقانون الطوارىء ليحمى نفسه ، وكان يعطى سلطته كحاكم عسكرى الى ضباط البوليس وضباط أمن الدولة ، وهم يعتقلون ما يشاءون ويعذبون من يشاءون . وكلما إزداد التعذيب إزدادوا رُعبا من إنتقام قادم . بسبب أشباح ضحاياهم التى كانت تطاردهم كانوا كمن يطارد خيط دخان، إذا تخيلوا خطرا فى أى إنسان عجلوا بسجنه أو إغتياله . إشترك مبارك مع أصغر زبانيته فى دائرة  (الرعب / التعذيب ). ولهذا عندما سمع ضابط أمن الدولة بهذه الرؤيا أسرع بإعتقال هذا الشخص المسكين الذى كانت كل جريمته أن شخصا آخر رآه فى منام . 
3 ـ هو نفس الرّعب الذى إجتاح قلب فرعون موسى . توجّس من بنى إسرائيل وتشكّك فى عبادتهم له وفى ولائهم لسلطانه فبادر بأن إستضعفهم بالتعذيب خوفا من أن يكونوا أقوياء . الله جل وعلا قال : ( إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُفْسِدِينَ (4) القصص ). كانت وسيلته فى إستضعافهم غاية فى القسوة ، أن يذبّح أطفالهم الذكور حتى لا يكونوا خطرا مُحتملا عليه فى المستقبل وأن يستبقى بناتهم لخدمته . كان هذا الأسلوب الشنيع فى التعذيب هو لاستضعافهم ، وهو كان يستضعفهم خوفا منهم ، وهو خوف لا أصل له ، ولا وجود له إلا فى مُخيلة فرعون . 
4 ـ وفرعون يستخدم التعذيب لإرهاب الآخرين . لذا لا بد أن يكون التعذيب مُعلنا يراه الناس . وهى سُنّة سار عليها تلامذة فرعون ، خصوصا فى عصر المماليك ، حيث ( التشهير ) و ( التجريس ) وأن يُطاف بالمحكوم عليه بالاعدام فى موكب يشق القاهرة، بل يتم أحيانا ( سلخ الضحية ) ويتم حشو جلده قشأ ، ويطاف به مع جلده ليراه الناس ، وإعتاد المصريون التفرج على هذا ، وإعتادوا الخنوع خوفا من الفرعون المملوكى . والتفاصيل فى كتابنا عن المجتمع المصرى فى عصر السلطان قايتباى فى ظل تطبيق الشريعة .!
والعسكر الذى يحتل مصر الآن يحرص على أن تصل أنباء التعذيب الى الافاق لينشر الخوف والرعب . وبعض فيديوهات التعذيب تكون من إنتاجهم ونشرهم . هذا لارهاب الناس لأنهم خائفون من الناس .! والفرعون الحالى  من شهور تكلم مهددا شخصا مجهولا ، وكان واضحا خوفه الشديد . 
5 ـ لكن تخيل جنود الفرعون يقتحمون بيتا شهد مولد طفل ، إذا كان ذكرا ذبحوه أمام والديه واهله وجيرانه . تخيل كمية الرعب لدى الناس . لذا تكرر هذا فى القرآن الكريم فى معرض أن الله جل وعلا منّ على بنى إسرائيل أن أنجاهم من هذا التعذيب القاسى : ( وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (6) ابراهيم )( وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49)  البقرة ) ( وَإِذْ أَنجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (141) الاعراف ).  بالتأكيد فإن الذى يمارس هذا التعذيب بذبح الأطفال ويسمع صراخهم ممزوجا بصراخ الوالدين والأهل يظل يحمل هذه الذكريات ويتوقع أن تحدث لأولاده وأهله ، وتتحول الى ذكريات مُرعبة من إنتقام محتمل من الضحايا وأقاربهم ، ويكون الحل هو المزيد من الظلم والمزيد من التعذيب ليشعر بالأمن ، فلا يشعر إلا بالمزيد من الرعب ، وهكذا يظل الفرعون ــ أى فرعون ـ يدور فى حلقة مفرغة من الرعب والظلم الى أن يقع . 
6 ـ يتوقع الفرعون من حاشيته الولاء الذى يصل الى درجة العبادة . الويل لمن يعصى الفرعون . فرعون موسى إستجلب السحرة ليبارز بهم آية موسى . فوجىء بأتباعه السحرة يسجدون يعلنون إيمانهم برب هارون وموسى. إشتد غضبه عليهم لأنهم أعلنوا إيمانهم قبل أن يأخذوا الإذن منه . وكانت فرصته ليرهب بهم غيرهم .أمر بتقطيع أيديهم وأرجلهم من خلاف ، وأن يُصلّبوا بهذا الشكل على جذوع النخل إرهابا لمن يخرج عن أوامر الفرعون .
7 ـ فى التسعينيات تعرفت الى رئيس وزراء مصرى من عصر السادات . كان متحفّظا فى كلامه معى ، وكنت أتفهّم هذا . ثم دارت الأيام وإلتقينا فى مؤتمر دولى بالعاصمة واشنطن ،  وجلسنا نتحدث ، وسار بنا الحديث الى مصر ورئيسها ( حسنى مبارك ) . رأيته يتكلم هامسا معى ينظر حواليه مع أننا نجلس فى مائدة بعيدة وحيدة . كان يهمس عن الرئيس مبارك بقوله ( الراجل الكبير ) . ولم أتعجب ، فالحاشية حتى لو كانت حاشية رئيس سابق تظل على خوف ووجل . والشاهد على هذا حادثة أخرى . استاذ جامعى جعلوه وزيرا للإقتصاد ، وعزلوه وصار نائبا فى مجلس الشعب ، بدرت منه كلمة نقد لمبارك ، ووصلت الى مبارك فأمر بوضعه فى السجن اسبوعا يسمع صراخ ضحايا التعذيب . خرج منه فى حالة يُرثى لها ؛ إذا قيل له ( السلام عليكم ) أحذ يسبح بحمد حسنى مبارك ، إذا قيل له مساء الخير أخذ يتغنى بحكمة حسنى مبارك ، ونفس الحال إذا دخل دورة المياه أو خرج منها . ظل يهذى بإسم حسنى مبارك الى إن إستراح بعزل حسنى مبارك . 
8 ـ الحاشية تظل مرعوبة من الفرعون . لم ينج من الخوف هذا الأمير الفرعونى المؤمن الذى كان يكتم إيمانه خوفا من فرعون، واخذ يعظ قومه دون جدوى : ( وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّي اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28) غافر) وفى النهاية تآمروا عليه فأنجاه الله جل وعلا من مكرهم : (فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (44) فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45) غافر )؟
9 ـ لم تنج من الخوف إمرأة فرعون التى آمنت. وهى فى فراش فرعون كانت تدعو الله جل وعلا لينجيها من فرعون وعمله ومن القوم الظالمين . أستحقت هذه الأميرة المصرية أن يجعلها  رب العزة مثلا للذين آمنوا ، قال جل وعلا : ( وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11) التحريم ) 
10 ـ فرعون نفسه كان خائفا من موسى . كان يمكنه أن يقتل موسى . قال جل وعلا : (وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ (26) غافر ). قوة فرعون مجرد ( وهم ) تأسس على دين خرافى زعم به الالوهية . دعوة موسى كفيلة بتدمير هذا الوهم . إذا تبدد هذا الوهم زالت عن فرعون سلطته . لذا هو ( يخاف ) أن ينجح موسى فى تبديل دينهم ، ويرى أن هذا هو الفساد . هى المرة الوحيدة التى يطلب فيها من حاشيته أن يسمحوا له أن يقتل موسى . وهذا يبدو غريبا . الحاشية هى التى كانت تسمع له وتطيع ، بل تفكّر له فيما يرضيه . فكيف يطلب من حاشيته أن تدعه يقتل موسى ؟ التفسير الوحيد إن الله جل وعلا قد وعد موسى وأخاه بأن يحميهما من بطش فرعون ، وألقى الرعب فى قلب فرعون من موسى وأخيه بحيث كان يخشى أن يتعرض لهما بسوء . هذا يدخل بنا على قوانين الخوف والأمن فى القرآن الكريم 
ثانيا : قوانين الخوف والأمن فى القرآن الكريم 
1 ـ قال جل وعلا  عن الكافرين المشركين ( المرعوبين ) : ( سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَمَأْوَاهُمْ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (151) آل عمران ). المُشرك يعيش رعبا فى قلبه بسبب شركه . 
2 ـ قال جل وعلا : عن المؤمنين المطمئنين بذكر بهم : (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28) الرعد ) ، وعن المؤمنين الذين لا يقعون فى ظلم رب العزة بإتخاذ آلهة مع الله لأن الشرك ظلم عظيم (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13) لقمان ) وهم لا يقعون ايضا فى ظلم الناس ، لذا فهم لهم الأمن . قال جل وعلا : ( الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82) الانعام )
3 : وبينما يقوم الشيطان بتخويف أوليائه من العصاة والظالمين والكفار والمشركين فإن على المؤمنين ألا يخافوا إلا الله جل وعلا . إذا خافوا الله جل وعلا وإتقوه أعطاهم الله جل وعلا الأمن والسكينة . إذا عصوا الله جل وعلا تركهم للشيطان يخيفهم من أى شىء ومن كل شىء . قال جل وعلا : ( إِنَّمَا ذَلِكُمْ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175) آل عمران )
4 ـ يتعرض المؤمن لاضطهاد ويقع فى الخوف . عليه أن : 
4 / 1 : يصبر . بهذا نصح موسى قومه : ( قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128) الاعراف ) 
4/ 2 : يتوكل على ربه جل وعلا ويدعوه يستنصره . قال جل وعلا عن معاناة بنى اسرائيل من الارهاب الفرعونى : (  فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنْ الْمُسْرِفِينَ (83) يونس ) طلب منهم موسى التوكل على الله والاستغاثة به أن ينجيهم من فتنة أى إضطهاد فرعون وقومه :  ( وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (84) فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (85) وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنْ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (86) يونس ) .
4 / 3 : ثم إلاستعانة بالصلاة . والله جل وعلا أمر بنى إسرائيل بالاستعانة بالصبر والصلاة ، قال لهم جل وعلا : (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ (45)  البقرة )، وهو نفس الأمر لنا أيضا ، قال جل وعلا لنا فى خطاب مباشر : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153) البقرة ) . ولهذا أمر موسى قومه بالاعتكافَ فى بيوت خاصة للصلاة والدعاء على فرعون . قال جل وعلا : (  وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّأَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرْ الْمُؤْمِنِينَ (87) يونس ) . ودعا موسى ربه جل وعلا أن ينتقم من فرعون وملئه : ( وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوْا الْعَذَابَ الأَلِيمَ (88). وإستجاب الله جل وعلا الدعاء :  ( قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلا تَتَّبِعَانِ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (89) يونس ) 
 أخيرا :
1 ـ الفرعون يستضعف الناس ( يقهرهم ) بالتعذيب . لا يعرف أنه بالتعذيب يزرع الخوف فى قلبه هو أيضا . 
2 ـ النجاة  للناس هو بالاعتصام بالله جل وعلا الذى لا يريد ظلما للعالمين . 
3 ـ فى خضم التعذيب الذى يتعرض له المصريون والذل الذى يعانون منه لماذا لا يملأون الفضاء دعاءا للرحمن جل وعلا أن ينتقم من السيسى وجنرالاته ؟ 
4 ـ حتى لو وقعوا فى السّبّ وجهروا به علنا فإن الله يعفو عن ذلك لأنهم مظلومون . قال جل وعلا : (لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنْ الْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً (148) النساء ) .
5 ـ من يدرى ؟ لعل السميع العليم جل وعلا يأخذ السيسى وقومه أخذ عزيز مقتدر.! 
 
المقال الثالث 
مملكة التعذيب الفرعونية: لمحات من سورة القصص
مقدمة : 
فرعون وقومه غير الشعب المصرى . فى ثقافة الفرعون المصرى أنه والملأ التابع له هم ( الأسياد ) . و( الأسياد ) لهم ( عبيد ) . هؤلاء ( العبيد ) هم الشعب المصرى المفترض أنهم ( احرار ) ولكن بالتعذيب الفرعونى تحولوا الى ( عبيد ). هم بإختيارهم إرتضوا أن يكونوا خانعين للمستبد الفرعونى خوف تعذيبه .  دائرة الخوف شملت الشعب المصرى فأصبح فى قصة موسى وفرعون هو الحاضر الغائب . نتوقف هنا مع ما جاء فى صدر سورة القصص عن موسى وفرعون . 
أولا : إستعراض لسورة القصص:
1 ـ (  نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (3))
 فرعون هو الوحيد فى القصص القرآنى ممثلا لقومه وملئه . فى قصص الأنبياء السابقين لم يرد إسم أو لقب لقائد الملأ الكافر . ثم فى الآية الكريمة نجد فرعون شريكا لموسى فى القصة . وتكررت قصة فرعون فى سور كثيرة أهمها الأعراف والشعراء ويونس وطه وغافر والزخرف . مع أهمية خاصة له تجعله السلف لكل مستبد يأتى بعده ، وتعذيبه مع قومه فى البرزخ .  
2 ـ ( إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُفْسِدِينَ (4)).
بسبب حضارتها وقوتها ودولتها العتيدة يتكرر وصف مصر ب ( الأرض ) . وفرعون حين (علا ) فى مصر فقد ( علا فى الأرض ) ، أى يملكها ويتحكم فيها . وقد إتّبع سياسة التفريق بين أهل مصر ، فجعلهم طوائف . وهم جميعا ( أهل مصر ) . وهنا تقرير معنى المواطنة ، فالذى يأتى لبلد يعيش فيه مدة من الزمن يكون من أهل هذه البلد ، مهما إختلف مع الأغلبية من أهلها فى الثقافة واللسان والعنصر . بالتعذيب فرعون إستضعف من ( أهل مصر ) بنى إسرائيل ، كان يذبح أبناءهم ويسترق نساءهم ، لأنه يتشكك فى ولائهم ،فقد جاءوا من سلالة أجنبية عاشت قرونا فى مصر . وقد توارثوا ثقافة لا تتفق تماما مع تأليه فرعون مع انه جعلهم عبيدا له يتعبدون له . وهنا إشارة للدولة المصرية العميقة لفرعون ، إذ يتكرر فى قصة فرعون كلمات ( الملأ ) ( القوم ) الآل) ( الجنود ) كانوا طبقات ودرجات وتخصصات ، يتغلغلون فى كل قرية ومدينة . ومنهم من كان يراقب بيوت ونساء بنى اسرائيل ، فإذا حملت وجاء أوان الوضع ذبحوا المولود إن كان ذكرا وإسترقُّوه إن كان انثى . ولهذا إستحق فرعون وصف الفساد .  
3 ـ(  وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ (6)). 
بسبب هذا الظلم الفاحش من مستبد يحتكر القوة ضد طائفة غاية فى الضعف كان التدخل الالهى بعقاب فرعون وملئه وقومه وآله . بحيث يتولى فرعون نفسه تربية موسى وحمايته بدلا من ذبحه . ولا عجب فى ذلك ، فالله جل وعلا غالب على أمره . وهى قصة وعظية لكل مستبد جبّار . مهما علا فى الأرض فسيرتد سلاحه الى نحره . 
4 ـ ( وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنْ الْمُرْسَلِينَ (7) فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ (8) وَقَالَتْ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (9)). 
كانت أم موسى تعيش فى عاصمة الفرعون ، ونتصور أنها وقومها كانوا يعيشون فى أطراف العاصمة ، بينما كان قصر الفرعون على النيل ، شأن الأكابر فى مصر . ونتصور أن أم موسى أخفت حملها فلم يصل النبأ الى عيون فرعون ، وحين وضعته جاءها الوحى أنها إذا خافت عليه من زبانية فرعون فعليها أن تضعه فى تابوت وتلقيه فى النيل . مع وعد من الرحمن جل وعلا أن يعيده اليها. وحمل النيل تابوت الطفل موسى رأسا الى قصر فرعون فإلتقطه (آل فرعون ) أى أتباعه ، وحملوا الطفل الى فرعون ، وفهموا أنه من بنى إسرائيل فكانوا على وشك أن يقتلوه لولا أن تعلقت به زوجة فرعون وترجتهم أن يتركوه.
5 ـ ( وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغاً إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ (10) وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (11) وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ (12) فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (13)) 
عاشت الأم فى قلق على ابنها الوليد وتابوته يشق النيل، وطلبت من إخته أن تقُصّ أثره وان تتعرف على خبره ، وهذا يستلزم حنكة حتى لا تثير حولها الشبهات ، وتمكنت الأخت من رؤيته دون أن يشعر بها أحد . وظلت الأخت تتسمع أخباره فى حذر ، حتى علمت أن موسى يرفض إلتقام ثدى أى مرضعة ، وبالتالى يظل جائعا صارخا مما سبب حيرة وقلقا لزوجة فرعون ، وكل مرضعة يؤتى بها فلا يلتقم ثديها . ومن المنتظر أن كثيرات من المرضعات تقدمن لنيل هذه الوظيفة ، ورفضهن موسى ، لذا كان سهلا أن تأتى الأخت وتقترح عليهم مرضعة تقوم بكفالة الطفل وإرضاعه . وبهذا تحقق الوعد ورجع موسى لأحضان أمه .  فى الآيات أشخاص بين السطور، منهم من رأى التابوت ومنهم من حمل نبأه الى القصر ومنهم من حمل الطفل الى القصر ، ومنهم الحراس والعيون الذين كانت تتحاشاهم أخت موسى ، ومنهم المراضع اللواتى رفضهن موسى . وربما تكلمت أخت موسى مع بعضهن ومع أخريات من العاملات فى القصر الفرعونى . هنا الشعب المصرى ( الحاضر الغائب ) فى مملكة الاستبداد والتعذيب الفرعونى . شعب عامل ولكن لا صوت له .
6 ـ ( وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (14)) . 
بعد إكتمال الرضاعة عاد الطفل موسى لقصر الفرعون تربيه زوجة الفرعون التى إتخذته ولدا . وفى القصر الفرعونى بلغ موسى أشُدّه ، وصار نبيا آتاه الله جل وعلا الحكم والعلم فقد كان فى عمله وتصرفاته من المحسنين فى عُقر القصر الفرعونى . 
7 ـ (  وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15) قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16) قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ (17) ).
 نتصور موسى قد أوتى من الله جل وعلا العلم بأسلافه الأنبياء ( ابراهيم واسحق ويعقوب ويوسف ) وأنه أصبح على علم بمعاناة قومه بنى اسرائيل ، وأنه إعتبر فرعون عدوا له مع أنه يعيش فى القصر الفرعونى . فى قصر الارهاب هذا نتصور موسى خائفا بسبب ما يعلم ، برغم أنه كان إبنا لزوجة فرعون وأميرا فرعونيا . وبالتالى كانت لا تفارقه الحراسة . وبجنود حراسته كان يدخل العاصمة يتجول فيها ، ولم يكن على راحته وحريته لأن الجنود جواسيس عليه . لذا دخل المدينة ( على حين غفلة من أهلها ) أى بدون أن ينتبه الحراس والعيون . وتجول فيها وحده . فوجد فيها رجلين يقتتلان ، عرف أن واحدا منهما ينتمى الى الملأ ، والآخر هو من بنى اسرائيل . ونتصور أن موسى عرفه من سيماء الذل والقهر البادية عليه وهو يتلقى الضربات من خصمه المعتدى ، ولا ريب أن هناك ناس كانوا يشاهدون هذه المشاجرة دون أن يجرؤ أحدهم على التدخل لانقاذ الرجل الذى يدافع عن نفسه . رأى هذا الرجل نظرة تعاطف من موسى فإستغاث به ، فإندفع موسى نحو المعتدى فضربه فقتله ـ دون أن يقصد . استغفر ربه جل وعلا معترفا بذنبه . نفهم من هذا أن الرجل من الملأ الفرعونى لم يكن قويا بالدرجة الكافية ، كان فقط صاحب نفوذ ، وإستخدم نفوذه وهيبته فى الاستطالة على واحد من المستضعفين محميا بدولة التعذيب المصرية التى تبيح للأسياد تعذيب العبيد فى الشارع وضرب الناس بلا سبب لمجرد إستعراض القوة والهيمنة . وهذا يحدث الآن فى مصر . لم يكن هذا الرجل قويا بجسمه بل بنفوذه ، وفقد حياته من مجرد ( وكزة ) . المشاهدون إنبهروا بموسى وتعرفوا اليه وعرّفهم بنفسه ، وعرفه الرجل الاسرائيلى المُعتدى عليه . ولا ريب أن الجمع قد إنفضّ سريعا تاركين جثة الرجل من الملأ الفرعونى تفترش الطريق . فى هذا المشهد رجل من الملأ الفرعونى وآخر من بنى اسرائيل ، ومجموعة مشاهدين .
 8 ـ ( فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنصَرَهُ بِالأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (18) فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بِالأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنْ الْمُصْلِحِينَ (19) ). 
فى الصباح التالى عاد موسى الى المدينة خائفا يترقب ويتسمّع الأخبار عن موقف الملأ من قتيل الأمس ، وهل تعرفوا على القاتل أم لا . وفى تجواله رأى نفس الرجل الاسرائيلى يتلقى علقة أخرى من شخص آخر من الملأ . رأى موسى فإستغاث به . قال له موسى ( إنك لغوى مبين ) ، أى بالتعبير المصرى ( إنت سبب المصائب ). تدخل ليبطش بالفرد المعتدى فخاف الاسرائيلى أن يبطش به موسى فصاح مرتعبا : أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بِالأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنْ الْمُصْلِحِينَ (19) ). بهذا إنكشف الأمر وأصبح معلوما أن موسى هو قاتل الفرد الآخر.  
9 ـ ( وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنْ النَّاصِحِينَ (20) فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (21)). 
وصل الخبر سريعا الى الملأ ، فقرروا قتل موسى . ليس قتلا علنيا تعلم به زوجة فرعون التى تبنّت موسى ، ولكن قتله بمكيدة بعيدة عن القصر الفرعونى . وهذا ملمح أساس فى دولة الاستبداد الفرعونى ، أن يتصرف الملأ ـ بتعدد درجاته وطوائفه ـ بما يحلو له من قتل وخطف وإختفاء قسرى وسلب ونهب ، ولا ضير فى ذلك طالما كان الضحايا من العبيد ، إما إذا كانوا من الأسياد فلا بد من تدبير . الملف للنظر هنا أن الذى أخبر موسى بالمكيدة وحذره ونصحه بالهرب كان رجلا من ( أقصى المدينة ). أى كان مصريا يعيش على أطراف المدينة ، بالتالى ليس من الملأ ، بل كان كارها لظلم الملأ ، وعالما بما فعله موسى ويرى أن موسى كان على الحق بقتله لهذا الرجل ، كما يرى أن موسى ليس مستحقا للعقاب . سمع بتآمرهم فجاء مسرعا يخبر ويحذّر موسى . هو مصرى صاحب ضمير خاطر بحياته لينصح موسى . لذا جاء وصفه ب ( الرجل ) بمعنى الرجولة . خرج موسى من العاصمة متسللا خائفا يدعو ربه جل وعلا أن ينجيه من القوم الظالمين .
10 ـ  (  فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (25 )).
 إتجه شرقا الى الصحراء ، ووصل عين ماء لمدين ، ومعروف ما جاء بعدها من أنه سقى لفتاتين ثم دُعى لمقابلة ابيهما :  نتوقف هنا مع ( خوف موسى ). ظل يحمل خوفه حتى قابل هذا الرجل الذى قال له ( لا تخف ، نجوت من القوم الظالمين ). موسى نشأ فى القصر الفرعونى ، وهو لا ينتمى الى صاحب القصر ، وعرف إرهاب فرعون . رضع من أمه لبن الخوف ، وعاش فى رُعب من الارهاب الفرعونى . وموسى عليه السلام يتردد فى قصته فى القرآن مصطلح ( الخوف ) بما يعكس حجم الارهاب الفرعونى . 
11 ـ  ( اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنْ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ (32) قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (33) وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (34) قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنْ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ (35) ). فى رجوعه لمصر مع زوجته نزل عليه الوحى بأن يتوجه الى الفرعون وملئه بما معه من آيتى العصا واليد، وكان رده خائفا . هنا يذكر أن الرجل المقتول كان من الملأ . فالملأ درجات ، منهم الملأ الأكبر فى القصور والمعسكرات ومنهم الملأ الذى يجوب الشوارع والطرقات . وهذا القتيل كان من الملأ الأقل شأنا . ( يعنى كان ملازم أول شرطة أو جيش مثلا ) . ولكن الاعتداء عليه هو تدمير لهيبة الحُكم أو لمكانة الأسياد ، لذا إتخذ الملأ العامل فى الشارع قرار بقتل موسى بمكيدة حتى لا يتعرض للمساءلة من زوجة الفرعون . على ان موسى أعلن أمام ربه جل وعلا فى خوفه من الملأ ( كبيرهم وصغيرهم ) فجاءه الوعد الالهى أن سطوة هذا الملأ لن تصل اليه ولا الى أخيه هارون . 
12 ( وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لا يُرْجَعُونَ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40) وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لا يُنصَرُونَ (41) وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنْ الْمَقْبُوحِينَ (42) القصص ) .
رفض فرعون وقومه دعوة موسى ، بل تطرف فرعون فى الكفر وإستكبر هو وجنوده وقومه فانتهى بهم الأمر غرقا . فرعون وجنوده وعسكره وقواته الأمنية ودولته العميقة جعلهم الله جل وعلا أئمة لكل مستبد مستكبر لا يؤمن بيوم الحساب . 
أخيرا :
ولهذا تكرر القصص القرآنى عن فرعون وقومه حتى يتعظ المحمديون . وما إتعظ المحمديون . والدليل أن المستبد الحالى فى مصر يكرّر منهج فرعون فى الحكم . يكون شخصا عاديا فإذا وضع مؤخرته على كرسى الحكم فى مصر تلبسته الفرعونية ، ونسى وضعه السابق حين كان نسيا منسيا . قد تكون هناك مادة شيطانية فى كرسى الحكم المصرى تتسلل الى مؤخرة الحاكم فتجعله يتفرعن الى أن يسقط ، ثم يأتى من بعده فلا يتعظ بما حدث .
المقال الرابع 
مملكة التعذيب الفرعونية وتغييب الشعب المصرى
أولا :
1  ـ أحمد عرابى كان إبنا لعمدة قرية هرية رزنة ( فى محافظة الشرقية الآن ) ، وكان والده يملك 74 فدانا ، وتزعم أسرته الانتماء الى الأشراف . تعلم فى الأزهر . وسمح الخديوى سعيد باشا بأن يلتحق بالجيش أبناء المشايخ والأعيان لسدّ العجز فى عدد الجيش الذى كان قد تكوّن ضباطه من قبل من أبناء المماليك بعد أن قتلهم محمد على . صار أحمد عرابى جنديا ثم ترقى ، وعانى من تسلط وإضطهاد الضباط الشراكسة الذين كانوا يحتقرون الضباط ( المصريين ) الجدد . هذا مع أن أحمد عرابى ورفاقه ينتمون الى ( الملأ ) بإعتبارهم ابناء للاعيان من الفلاحين ، ولكن لأنهم فى ذيل قائمة ( الملأ ) فقد عوملوا بإحتقار . وهذا هو سبب ثوورة عرابى على الخديوى . ، وتطورت الثورة الى أن فشلت وإحتلت إنجلترة مصر عام 1882 .  يهمنا هنا تلك المواجهة بين عرابى والخديوى توفيق ، فى مظاهرة الجيش التى تزعمها عرابى وقدّم عريضة بالمظالم للخديوى . قال له الخديوي توفيق:  ( كل هذه الطلبات لا حق لكم فيها، وأنا ورثت ملك هذه البلاد عن آبائي وأجدادي، وما أنتم إلا عبيد إحساناتنا ). !. ردّ عليه عرابي: ( لقد خلقنا الله أحرارًا، ولم يخلقنا تراثًا أو عقارًا؛ فوالله الذي لا إله إلا هو، لا نُورَّث، ولا نُستعبَد بعد اليوم.).!
2 ـ هذا يستحق تحليلا سريعا . هنا فرعون مصرى ضعيف الشخصية من سُلالة أجنبية ، يحكم بالجيش الذى تكون من سلالة المماليك القدامى ، أى من كبار ( الملأ ). والجيش هو عماد القوة الفرعونية وأساس الاستبداد للفرعون . ولم يسترح الضباط الشراكسة لوجود ضباط مصريين من ( الفلاحين ) بينهم حتى لو كانوا من أبناء الأعيان . هؤلاء الأعيان كانوا أنياب الفرعون فى الريف المصرى . كانوا وكلاءه فى تعذيب الفلاحين ، ضمن سلسلة جهنمية من العمدة وشيخ الخفر والمأمور والصرّاف و ( المشدّ ) الذى يتولى تعذيب الفلاحين ليتأكد أن أحدا منهم لم يقم بإخفاء بعض المحاصيل . كان الفلاح المصرى وقتها يفخر بأنه تحمل الضرب عدد كذا من الأسواط  دون أن يعترف لهم بكل ما خبأه من المحصول الذى كان يعرق فى زراعته . كان هذا هو مقياس البطولة وقتها . بسبب أن الأعيان كانوا مصريين يعملون خدما للفرعون الأجنبى ونظام حكمه فقد تمتعوا بإحتقار الفرعون المستبد والملأ الأعلى رتبة . وإشتهر قولهم عن الفلاح المصرى ( فلاح خرسيس ). بهذه الثقافة قال الفرعون توفيق لعرابى : (  كل هذه الطلبات لا حق لكم فيها، وأنا ورثت ملك هذه البلاد عن آبائي وأجدادي، وما أنتم إلا عبيد إحساناتنا. )  .هكذا بكل بساطة وبكل صرحة : إنه ورث البلاد ضيعة عن آبائه وأجداده وليس المصريون سوى عبيد لإحسانه . 
3 ـ قامت حركة الجيش فى 23 يولية ضد الملك فاروق آخر ملك من ذرية محمد على باشا . قال عبد الناصر إن الجيش هو العصا التى يملكها الملك ضد الشعب . وهذا صحيح . بوصول الجيش للسلطة إنهار سريعا النظام القائم ، من الملك والحكومة والباشوات ، وسعوا جميعا لتملّق الضباط الشباب الذين رأوا مصر تسقط بين ايديهم ثمرة ناضجة بلا مقاومة . الضباط سيطروا على الجيش سلاح الفرعون . لم يرغب عبد الناصر أن يعود بالجيش الى ثكناته ويترك مصر يحكمها المدنيون . بدأ الحكم العسكرى وتحولت مصر الى معسكر كبير . وإنتعش التعذيب بالدولة الفرعونية العميقة . كان ( السجن الحربى ) سلخانة تعذيب للمصريين المدنيين مع انه يحمل اسم (السجن الحربى )، وانتشرت سلخانات التعذيب فى بقية السجون ، وشمل التعذيب الجميع فى عهد عبد الناصر من الشيوعيين والاخوان وغيرهم . ووصل التعذيب الى الفلاح المصرى الذى إستفاد مع القرية المصرية من بعض إصلاحات ، ولكن الدولة المصرية العميقة ظلت على نفس التعامل بالتعذيب والقهر مع الفلاح المصرى ، إعتبرته ( حائزا ) للأرض وليس مالكا لها . وكان روتينيا تعذيب الفلاح بأوامر من المهندس الزراعى فى الجمعية التعاونية إذا قصّر فى أى شىء .  وتوالت الأيام وتحت القهر الفرعونى إضطر الفلاح المصرى للهجرة من قريته . هاجر للقاهرة ، وهاجر الى الأردن والخليج ، وعانى هناك القهر وتحمله فى صبر معتاد . على الأقل هو يجنى مالا مقابل عمله وصبره ، أما فى مصر فلا يجد سوى الفقر والقهر ..والصبر . 
ثانيا : الشعب المصرى الغائب الحاضر فى الدولة الفرعونية العميقة : فى التأريخ لمصر
1 ـ فى التأريخ لمصر ترى التركيز على الفرعون وملئه وقومه وإنشاءاته وما ترك من آثار . وليس لأى مؤرخ ذرة من ( الضمير العلمى ) لكى يتحدث عن الشعب المقهور الذى بنى تحت السياط وماكينة التعذيب تلك المعابد والقصور للفرعون وقومه . 
2 ـ ( السخرة ) هى التطبيق العلمى فى دور التعذيب فى إرغام الشعب المصرى على بناء كل هذه الآثار ، والتى صارت الآن مفخرة لمصر ، ولكن دون ذكر للمصرى المسكين الذى أقامها تحت لسعات السياط . يشيدون بإنجازات الفرعون وينسون صرخات البؤساء الذين أقاموها . 
3 ـ هنا لا فارق بين باحثى التاريخ الفرعونى أو القبطى ومؤرخى العصر العربى وفقراته أو الأيوبى أو المملوكى أو العثمانى . كل أولئك الفراعنة أقاموا منشئاتهم بالسُّخرة . لا فارق بين رمسيس أو بطليموس أو عمرو بن العاص أو ابن طولون أو صلاح الدين الأيوبى أو السلاطين المماليك أو محمد على باشأ أو سعيد باشا . 
4 ـ  فى كتابنا عن ( ملك اليمين ) تعرضنا للسُّخرة فى شق قناة السويس كابشع إسترقاق للمصريين . فى كتابنا عن أثر التصوف المعمارى فى مصر المملوكية تعرضنا للظلم الذى صاحب إنشاء المساجد والمؤسسات الدينية بالسخرة والتعذيب . وفى كتابنا عن المجتمع المصرى فى عصر السلطان قايتباى تحدثنا عن بعض أساليب المماليك فى القبض على الناس وتسخيرهم فى العمل. ونتمنى باحثا ذا ضمير يلفت بأبحاثة النظر لأولئك المصريين الذين كانوا ـ  ولا يزالون ـ حاضرين ـ بما أنشأوه ، وكانوا ـ ولا يزالون ـ غائبين عن الذّكر . 
ثالثا : الشعب المصرى الحاضر الغائب فى الدولة الفرعونية العميقة فى تدبر قرآنى  
فرعون وقومه ( وجنرالاته ) يملكون أرض مصر : 
1 ـ هكذا أعلن فرعون فى مؤتمر عقده لقومه : ( وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ (51) الزخرف ) هو يقارن بينه وبين موسى عليه السلام . السؤال الآن : هل هو الذى كان يملك مصر وحده أم معه الملأ والقوم والجند والعسكر والجنرالات ؟ 
2 ـ فرعون كان الرأس ، وقومه هم بقية الجسد ، وهم معا كانوا يملكون الأرض ، أرض مصر . حين أحس بالخطر من موسى قال لقومه : ( قَالَ لِلْمَلإٍ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (34) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (35) الشعراء ). هنا هى ( أرضهم ). وهو يطلب مشورتهم و ( أوامرهم ) 
3 ـ وهو نفس ما قالوه فيما بينهم : ( قَالَ الْمَلأ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (109) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (110) الاعراف ). هنا هى أرضهم ، وهم يتداولون الأمر فيما بينهم ، كيف يتصرفون أمام آية موسى عليه السلام . وقالها فرعون لموسى عليه السلام تعبيرا عن نفسه وقومه : ( قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى (57) طه ) 
4 ـ إنهم بملكيتهم لأرض مصر تمكنوا من ( العلو ) فيها إستكبارا وظلما . وهم يعترفون بالصلة بين ملكيتهم أرض مصر وعلوهم وكبريائهم ، لذا قال الملأ لموسى عليه السلام : ( قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ (78) يونس ) ، وقالوها فيما بينهم فى مداولاتهم : ( قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمْ الْمُثْلَى (63) فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفّاً وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنْ اسْتَعْلَى (64) طه )
فرعون وقومه يسخرون المصريين فى الزراعة والبناء والصناعة 
1 ـ حين قال فرعون لقومه : ( وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ (51) الزخرف ) هل كان هو الذى يزرع الأرض والذى يشق الأنهار والترع والمصارف وما يلزم الزراعة من رىّ وصرف ورعاية ؟ بالسخرة كان الفلاح المصرى يفعل هذا للفرعون . وهل كان يفعل هذا طوعا ؟ كلا . كان يفعل هذا بالسخرة . بالتعذيب ، أو خوفا من التعذيب . من الذى كان يرغم الفلاح المصرى ؟ كان الملأ الفرعونى الذى تغلغل فى كل قرية . 
2 ـ وبعرق الفلاح المصرى ودمائه ودموعه إمتلأت خزائن فرعون وقومه بالخير . وعقابا لفرعون وقومه ضربت المجاعة مصر ، وقد عرفوا أن الفلاح المسكين لا شأن له بذلك ، فهو كالدابة الخرساء يعمل ولا يشكو . لذا إعتبروا موسى هو السبب ، وتشاءموا به . قال جل وعلا : ( وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنْ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (130) فَإِذَا جَاءَتْهُمْ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (131) الاعراف ). 
3 ـ وبعرق العامل المصرى والصانع المصرى أسّس فرعون وقومه العمائر والمسلّات ، وكان قد إشتهر بهذه المسلّات حتى إرتبط بها ، قال عنه جل وعلا : ( وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ (10) الفجر). وفى غمرة تطرفه فى الكفر طلب من وزيره هامان أن يبنى له بُرجا هائل الارتفاع لكى يرى الله جل وعلا لأنه لا يرى للمصريين إلاها غيره . قال جل وعلا : ( وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلأ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ مِنْ الْكَاذِبِينَ (38) القصص ) ( وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِباً وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنْ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبَابٍ (37)  غافر ) . هامان لم يكن ليبنى هذا بساعده ، هو مُشرف فقط على العمل ومعه الملأ المتخصص من مهندسين وجنود للتعذيب وآخرين لجمع العمال . العمال المصريون هم البناءون الحقيقيون لهذا الصرح لو كان قد تمّ . ووهم الصنّاع الحقيقيون لكل أثر تمّ أو يتمّ او سيتم العثور عليه . 
4 ـ وينكر علماء المصريات وجود فرعون موسى ، وقد ناقشنا جهلهم هذا من قبل . ومن أدلتنا أن رب العزة يذكر أن آثار فرعون موسى قد تمّ تدميرها بعد غرقه مع ملئه وقومه ودولته العميقة . قال جل وعلا : ( وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ (137) الاعراف ). تم تدمير ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يؤسسون من مبانى ومعابد وقصور ومقابر . ولنا أن نتصور المصريين الغلابة وقد إنزاح عنهم فجأة القهر الفرعونى فإنكبوا على قصور فرعون ومعابدها ينهبونها ويتلفون ما فيها ويدمرونها . ولا نلومهم .!
5 ـ هذا عن المنشئات والمبانى . وعمالها وصانعيها . فماذا عن المزارع والحقول ؟ قال جل وعلا عن نهاية فرعون وسيطرة بنى إسرائيل على مصر :  (  فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (58) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (59) الشعراء ). ترك فرعون وقومه وجنرالاته وعسكره مزارعهم وكنوزهم وهم يطاردون بنى اسرائيل فيما إعتبروه نزهة عسكرية ، وابتلعهم البحر الأحمر ، فأصبحت حقول مصر وأرضها الزراعية ملكا لبنى إسرائيل . وما تركه فرعون وقومه وجنرالاته كان جنات وعيون هائلة ، وصفها رب العزة جل وعلا فقال :  ( كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ (27) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ (28) الدخان ) . اسلوب تعجب : كم تركوا من جنات وعيون وزروع ومقام كريم ونعم كانوا فيها فاكهين . ورث هذا كله بنو اسرائيل . كانوا جمعا منظما ، لذا عادوا لمصر يبشرون أهلها بغرق فرعون وقومه ودولته وعسكره ، وورثوا هذه الحقول ومعهم من يزرعها من الفلاحين المصريين .!
أخيرا 
1 ـ العسكر الحاكم فى مصر والذى يحتلها من عام 1952 كان يدير مصر وخيراتها من خلال الملأ التابع له . قام عبد الناصر بالتأميم والتمصير . انتهى الحال بمصر الآن والعسكر هو الذى يدير ثروة مصر بنفسه بدون ( ملأ ) تابع له من المدنيين . أصبح العسكر المصرى متحكما فى الزراعة والصناعة والتجارة ، وقام الجنرالات بتقسيم ثروة مصر ومواردها عليهم . ومنحوا لأنفسهم كل الميزات . وعلى المصرى المقهور أن يعانى الفقر مع الخضوع والخنوع . كل ذلك خوف التعذيب . 
2 ـ حكم مصر فراعنة مصريون وأجانب أكثر من خمسين قرنا . خلال بحث وتخصص فى التاريخ المصرى لم أجد مثل العسكر المصرى الحالى فى قسوته على المصريين ، هذا لأننا فى عصر حقوق الانسان والديمقراطية . الفراعنة السابقون تصرفوا وفق ثقافة عصرهم . أما فراعنة مصر الحاليون فهم ضد ثقافة عصرهم . الفراعنة السابقون لهم انتصارات وامجاد ، ولكن فراعنة مصر اليوم لم ينتصروا إلا على الشعب المصرى الأعزل المسكين .! 
3 ـ بسبب تطرف الفرعون الحالى فى التعذيب إنتشر ( الخرس ) بين المصريين . هل نلومهم ؟ 
 
المقال الخامس
الدولة الفرعونية العميقة ( فى التعذيب )
أولا : دلائل اتساع العمران المصرى فى عصر فرعون موسى 
1 ـ قال جل وعلا : ( وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ (137) الاعراف ) . رب العزة جل وعلا يصف الوطن المصرى الذى ورثه بنو اسرائيل بأنه ( مشارق الأرض ومغاربها ) . وهى مشمولة بالبركة بما فيها من خير . ثم تنتشر ما كان يصنعه فرعون وما كان يقيمه من مبانى معروشة . 
2 ـ تتردد كلمة ( الأرض ) وصفا ودليلا على مصر بما يعنى أنها كانت ـ وحدها ـ التى تمثل الكوكب الأرضى ، وبسبب ملكية فرعون وقومه لهذه ( الأرض ) فقد علوا وإستكبروا . وهذا ما تكرر كثيرا فى قصص موسى وفرعون. وفى داخل هذه الأرض ( مدن ) و ( مدائن ) . 
3 ـ لأن مصر كانت ( الأرض ) فلم يأت فى القرآن الكريم وصف مصر بمصطلح ( القرية ). أى هى أكبر من أن تكون قرية . و( القرية ) فى المصطلح القرآنى تعنى المجتمع أو الدولة ، وتكون ( المدينة ) جزءا من هذه ( القرية) ، وربما عاصمة لها.ونتعرف على هذا من قصة القرية التى جاءها ثلاثة من الرسل ، قال جل وعلا:(وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13) إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14) يس) وجاء رجل من (أقصى المدينة) يعظ قومه : (وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) يس). واضح هنا أن ( المدينة ) جزء من القرية أو المجتمع أو الدولة .
4 ـ  مدائن مصر  : كلمة ( مدائن ) لم تأت وصفا إلا للمدن المصرية . وهذا يعنى أن المدن المصرية كانت كبيرة ومتسعة ومكتظة بالسكان. قال جل وعلا: ( قَالُوا أَرْجِهِ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ )( 111 ) الاعراف )( قَالُوا أَرْجِهِ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (36) الشعراء )( فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (53) الشعراء ).
5 ـ وصف المدينة المصرية بما يشير الى إتساعها ، قال جل وعلا : ( وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنْ النَّاصِحِينَ (20) فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (21) القصص ). جاء رجل من ( أقصى المدينة ). أى من أطرافها . هى مدينة واسعة . ومن دليل إتساعها أيضا تنوع سكانها ، منهم الاسرائيليون وبقية الطوائف والملأ الفرعونى ، نفهم هذا من قوله جل وعلا : ( وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15) القصص)،( فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفاً يَتَرَقَّبُ )(18) القصص)
6 ـ ولأنها مدينة آهلة بالسكان فقد تملّك فرعون الغضب من السحرة حين آمنوا بالله جل وعلا ، إذ خاف من ردّ الفعل عند سكان المدينة، لذا قال للسحرة متصورا أنها مكيدة : ( قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (123 ) الاعراف )
7 ـ  وقال جل وعلا : (وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ (51) الزخرف ). إفتخر فرعون بالأنهار التى تجرى من تحته . ربما كان بعضها شقتها الدولة المصرية ، بدليل إفتخار فرعون بملكيته لتلك الأنهار التى تجرى من تحته ـ أى بأمره وتوجيهه . دلتا النيل كانت فى مصر الفرعونية بعدة فروع ، ومنها ما يخترق شبه جزيرة سيناء ، ومنها ما يخترق الصحراء الغربية . ونتج عنها فى سيناء ما يعرف بسهل الطينة والخزان الجوفى فى الصحراء الغربية . وحتى العصر العباسى الأول كان الساحل الشمالى من الاسكندرية الى ليبيا معمورا ومزروعا . فلما قام الخليفة المتوكل العباسى بطرد العرب من الجندية إحترف معظمهم قطع الطريق ، وقاموا بتخريب الأطراف الشرقية والغربية فى مصر ، فإنطمرت تلك الفروع النيلية . وفى عصر السلطان قايتباى كان الأعراب يهاجمون منطقة البحيرة بل وتصل إغاراتهم الى القاهرة . فى عصر فرعون موسى كانت قبضته راسخة وكانت دولته العميقة تتحكم فى كل العمران المصرى. 
ثانيا : مظاهر تحكم الدولة الفرعونية فى كل هذا العمران المصرى : 
1 ـ إستدعاء السحرة من كل المدن والعمران المصرى وتجميعهم وحشدهم فى موعد محدد لإقامة مباراة بينهم وبين موسى 
1 / 1 : إتفق فرعون مع موسى على موعد ومكان المباراة : (  فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكَاناً سُوًى (58) قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (59 ) طه ) حدّد موسى الموعد بعيد من الأعياد حيث يتجمع الناس . وقوله ( وأن يحشر الناس ضحى ) يعنى أن موسى يفهم طريقة الدولة العميقة فى حشر وحشد الجماهير .  
1 / 2 : عن إستدعاء كل السحرة من شتى العمران المصرى نقرأ: 
1 / 2 / 1 : (  قَالُوا أَرْجِهِ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (111) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (112) الأعراف ) وفى الموعد المحدد حضروا وقابلوا الفرعون: ( وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (113) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنْ الْمُقَرَّبِينَ (114) الاعراف )
1 / 2 / 2 :  ( قَالُوا أَرْجِهِ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (36) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (37) فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (38) الشعراء ) أى تم تجميع السحرة من كل أقاليم مصر وقتها وتسفيرهم الى العاصمة ليكونوا جاهزين فى الوقت المعلوم . 
1 / 2 / 3 : وإنبث عملاء الفرعون بين السكان يشجعونهم على حضور المباراة ، وتشجيع السحرة حين يغلبون : ( وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (39) لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمْ الْغَالِبِينَ (40) الشعراء ). كلمة ( وقيل ) رائعة جدا فهى ترسم لوحة لأشخاص يوسوسون للناس ، شأن العملاء المجهولين فى أى نظام مستبد .  
1 / 3 : ونجح الاستدعاء للسحرة كما نجح تجميع الجماهير ، وشهدت الجماهير المباراة ، ولأنهم يعتقدون فى قدرة السحرة فقد أثّر السحرة على أعينهم فرأوا سحرهم عظيما : ( قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116) الاعراف ).
1 / 4 : يتضح مما سبق : 
1 / 4 / 1: المقدرة الهائلة للدولة الفرعونية العميقة على الاتصال بين العاصمة والأقاليم وكل القرى والمدن ، والقدرة الفائقة على التنظيم والتجميع والتنسيق والتسفير بحيث تم الأمر فى الموعد المحدد.
1 / 4 / 2 :  الشعب المصرى يوجد فى خلفية المشهد  فى قصة فرعون موسى . يجرى تجميعه وحشده وسوقه وتحفيزه . كما قال عمر بن العاص ( مطية راكب ).! 
2 ـ حشد الملأ الفرعونى لمراقبة قوم موسى ومطاردتهم 
2 / 1 : كان بنو إسرائيل تحت رقابة مشددة من دولة فرعون العميقة  يمنعهم من الهرب من جحيم تعذيبه . فرعون فى طغيانه وإستكباره يستنكف أن يستجيب لطلب موسى ويسمح لهم بالخروج من مصر ، يريد أن يظلوا تحت سلخانة تعذيبه ليرهب بهم بقية سكان مصر ، ولا يريد أن يقال عنه إنه خضع لواحد من بنى إسرائيل ، وهو الذى أرغم بالتعذيب بنى إسرائيل على عبادته . ولولا تدخل الرحمن لاختلف الوضع . كان الوحى الالهى يخبر موسى بأن عيون الفرعون تتبعهم . 
2 / 2 : أوحى جل وعلا  لموسى: (  فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلاً إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (23) الدخان ). أى أن يتسللوا ليلا تحاشيا للمراقبة . 
2 / 3 : ومع هذا فقد وصل الخبر الى فرعون فأرسل أمرا لكل الملأ فى كل العمران المصرى بالحشد والتجميع ، قال جل وعلا : ( وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (52) فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (53) الشعراء ) 
2 / 4 . وجاء فى بيان الاستدعاء للملأ إن بنى إسرائيل شرذمة قليلون ولكنهم للفرعون وملئه غائظون ويجب الحذر منهم : ( إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ (55) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ (56) الشعراء ) 
2 / 5 : ثم العجيب هذه القدرة الفائقة على تجميع وحشد وتسيير كل الجنود والملأ من كل العمران المصرى فى مدة وجيزة ، ثم يزحفون معا وجميعا تحت قيادة فرعون يطاردون بنى إسرائيل وهم يتجهون شرقا نحو سيناء والبحر الأحمر ، ولحقوهم وهم على ضفة البحر الأحمر . كان بنو اسرائيل فى وضع حرج ، البحر أمامهم وفرعون وجنده خلفهم . قال جل وعلا : ( فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (60) فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآخَرِينَ (64) وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ (66 ) الشعراء )
ثالثا : الدولة العميقة تتحكم بالتعذيب فى كل العمران المصرى 
1 ـ منتظر من بنى إسرائيل أن يعانوا أشد المعاناة من فرعون بدولته العميقة المتحكمة ، فهى تعُدُّ عليهم انفاسها . وحتى من يولد منهم طفلا يأتى الملأ لذبحه إن كان ذكرا أو إسترقاقه إن كان أنثى .  نستعيد قوله جل وعلا : ( وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (6) ابراهيم ). الله جل وعلا لم يقل ( أنجاكم من فرعون ) بل من (آل فرعون ) يعنى مخالبه وقواته الأمنية الباطشة.  
2 ـ ولكن نضع بعض ملاحظات : 
2 / 1 : القانون السائد هو التعذيب ، ولكنه قانون يتم تنفيذه بالهوى. والدليل أنه نجا من القتل هارون أخ موسى ، كما إن أخت موسى لم يتم إسترقاقها . حين ولد موسى كان الأمر بالذبح والاسترقاق . ثم حين جاء موسى لفرعون رسولا ظهر من جديد نفس الاقتراح ، قال جل وعلا :  ( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (23) إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (24) فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (25) غافر).( وَقَالَ الْمَلأ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ (127) الاعراف )، وإشتد الإضطهاد الفرعونى لبنى إسرائيل ، وإشتكوا لموسى أنهم تعرضوا للأذى قبل مجيئه وبعده فوعظهم بالصبر :( قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129) الاعراف ). ومن شدة الارهاب الفرعونى إنفض كثيرون من بنى إسرائيل عن موسى ، قال جل وعلا : ( فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنْ الْمُسْرِفِينَ (83) يونس ). 
2 / 2 : نلاحظ فى الآية الكريمة السابقة كلمة ( وملئهم ) . جاءت بالجمع وليس بالمفرد . هنا إشارة الى تعدد طبقات الملأ . وأن ( الملفّ ) الاسرائيلى يتولاه بعض الملأ الفرعونى . وهذا منتظر من دولة مركزية عميقة تتحكم فى الشعب المصرى .
2 / 3 : يقول جل وعلا عن هذا الملأ الفرعونى بتقسيماته ودرجاته : ( فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى (62) قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمْ الْمُثْلَى (63) فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفّاً وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنْ اسْتَعْلَى (64) طه ). تنازعوا وإختلفوا فى الآراء ثم إنتهى الأمر بهم الى الاتحاد صفا واحدا حفاظا على ملكيتهم ( للأرض ) وطريقتهم ( المُثلى ) فى الاستبداد بها وحكمها وفى الاستعلاء على الشعب . وعندهم أن المفلح هو من إستعلى .
2 / 4 : لم يكن هناك تشريع لدى فرعون موسى يخدع الناس بمقولة ( التعذيب جريمة لا تسقط بالتقادم ) بينما يستمر التعذيب راسخا بالتقادم . كان التعذيب ـ ولا يزال ـ هو القانون المنقوش بسياطه على جسد المصريين . وبتعدد الملأ من السادة كان ـ ولا يزال ـ من حقهم تعذيب من يشاءون متى يشاءون وكيف يشاءون . هذا لترسيخ ( هيبة الفرعون ودولته ــ العميقة ).!
رابعا : النهاية :
1 ـ قال جل وعلا : (  فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ (54) فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (55) الزخرف ). أى غرق فرعون بقومه ( أجمعين ) لم ينج واحد منهم . القوم هنا يشملون آل فرعون ( الأسرة المالكة ) والأجهزة العسكرية والأمنية والإدارية والحكومية ، من هامان الى أصغر ( جندى أمن مركزى )
2 ـ كل هؤلاء كانوا جنود فرعون الذين غرقوا معه ، قال جل وعلا : ( فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (40) الذاريات ). غرقوا جميعا من فرعون الى أقل ( مُخبر ) وأقل ( امين شرطة ).
3 ـ هذا مفهوم من تاريخ دولة الرعامسة العسكرية ، التى ( تعسكر ) فيها كل شىء ، والتى إنقسم فيها الناس الى ( عسكر سادة يحكمون ) وعبيد يتعذبون . 
4 ـ السؤال الآن : إذا كان فرعون قد تحرك بكل قواته العسكرية والأمنية والإدارية والحكومية تاركا خلفه الشعب المصرى فلماذا لم ينتهزها المصريون فرصة للثورة والتحرك ضد فرعون فى غيابه مع اجهزة حكمه ؟ الجواب فى كلمة واحدة : ( التعذيب ) . كانوا يعرفون أن فرعون خرج بكل نظام حكمه فى إستعراض للقوة ليقضى تماما على مجموعة من الناس الغلابة ، وسيرجع منتصرا . لو ثاروا عليه فى غيابه ورجع  فسيكون مصيرهم أشنع من مصير السحرة . 
5 ـ توارث المصريون  ـ حتى الآن ــ آثار التعذيب . تتردد فى أغانيهم كلمات العذاب ونبرة الحزن  والشجن ومواويل الصبر . ولا يزالون حتى الآن يقولون ( أستر يارب ) . ويتوقعون الشّر، وأذا ضحكوا قالوا : اللهم إجعله خير .!  يستكثرون على أنفسهم لحظة سعادة ..
أخيرا : 
1 ـ وصلت مصر الآن بعد حكم العسكر من عام 1952 الى الفصل التام بين الشعب المصرى و( الملأ ) الحاكم ، ليس فقط فى الإغداق الهائل على الملأ والتضييق الهائل على الشعب ،ولكن أيضا فى عسكرة ( الملأ ) وتحصينهم من أى مساءلة مهما فعلوا بالشعب . أى صاروا ( آلهة ) ينازعون رب العزة جل وعلا الذى لا سُسأل عما يفعل. قال جل وعلا : (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22) لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23) الأنبياء ) . 
2 ـ فهل إقتربت نهاية الفرعون الحالى ودولته العميقة ؟ وهل إذا انتهت هذه الدولة العميقة وتحولت مصر الى فوضى سيحتلها بنو اسرائيل كما حدث فى عهد موسى ؟ وكم عدد الملايين من المصريين الذين ستسيل دماؤهم أنهارا ؟ وهل الحرص على السُّلطة يستحق هذا كله ؟ ! ثم : ألا يوجد ( مؤمن ) من آل فرعون يعظ قومه بالقرآن الكريم ؟  
3 ـ اللهم رحمتك بالشعب المصرى .!! 
 
 
 
 
 
 
 
الخاتمة 
1 ـ كتبنا عن التعذيب الذى يمارسه المستبد فى حق شعبه مقالات عديدة ، وتعرضنا له فى كتب كثيرة منشورة هنا ، منها : ( المجتمع المصرى فىعصر السلطان قايتباى ) و ( إضطهاد الأقباط بعد الفتح ) و ( التصوف وزأثره السياسى فى الدولة المملوكية ). فى عملنا فى اصلاح ( المحمديين ) نقف ضد التعذيب ، ليس فقط لأن اهل القرآن من ضحايا التعذيب فى مصر ، ولكن الأهم أن المستبد بالتعذيب يقهر شعبه ويحتاج الى تسويغ دينى ، يقدمه له الكهنوت الدينى التابع له . هو يركب الكهنوت والكهنوت يركب الشعب. وبهذا يخسر الشعب الدنيا فى حياة ذليلة ، ويخسر أيضا الآخرة بطاعته للمُضلين من الكهنوت ، والمحصلة النهائية أنه يخسر الدنيا والآخرة . 
  2 ــ ـ تخلص الغرب من الاستبداد ومن سيطرة الكهنوت فإإنطلق بالعالم الى آفاق العلم والتكنولوجيا ، وبعقله عرف القيم الاسلامية التى ينكرها المحمديون ، وهى العدل والحرية الدينية والحرية السياسية والتكافل الاجتماعى وحقوق الانسان . وبعض الغربيين وصل بالحرية الدينية الى أنه لا إله إلا الله . والمحصلة النهائية أن الغرب كسب الدنيا فى حياة كريمة ، وبعضهم كسب الدنيا والآخرة بوصوله الى الايمان بأنه لا إله إلا الله جل وعلا.
3 ــ ـ نحن نعيش فى الغرب شهودا على هذا ، بينما يعيش فى الغرب محمديون هم عار على البشرية يستخدمون حرية الغرب فى الدعوة للإرهاب وأسفل ما فى أديانهم الأرضية . ونحاول فى جهدنا الاصلاحى تصوير تلك الصورة السيئة التى نشروها عن الاسلام ، ولكن نعانى التهميش والتعتيم.
4 ــ ـ بعضهم يكره القرآن الكريم ويرى انه ملىء بآيات العذاب . وهو ينسى : أنه حتى فى القانون الوضعى لا بد من معاقبة المجرم وأنه لا يستوى المجرم والضحية . وينسى أن القرآن الكريم فيه آيات العذاب وآيات وصف النعيم ، وأن الله جل وعلا يذكر هذا وذاك للوعظ وكى ينقذ الناس الأحياء أنفسهم من العذاب ويدخلوا الجنة. وينسون أن الله جل وعلا يدعو الى التوبة ، وأنه جل وعلا لا يؤاخذ إلا على التعمد وأنه جل وعلا لا يؤاخذ المضطر والمجبور على فعل العصيان ، وأنه جل وعلا لا يكلف نفسا إلا وسعها ، وأن من إجتنب الكبائر غفر الله جل وعلا السيئات الصغائر وادخله الجنة . وينسون أخيرا أن الله جل وعلا لا يظلم الناس ولكن الناس انفسهم يظلمون ، إذ يتم تعذيب أهل النار بسيئاتهم التى اقترفوها فى حياتهم الدنيا .، تتحول السيئات الى نار يتعذبون بها فى خلود مستمر.
5 ـــ هناك عذاب من رب العزة جل وعلا فى الدنيا يكون إختبارا وإبتلاءا ، ثم يكون عذاب الآخرة الأبدى لمن يموت كافرا عاصيا ظالما. وهناك تعذيب يقترفه الظالمون فى الدنيا بحق الأبرياء . وتعرضنا لهذا وذاك . وتوقفنا مع تعذيب فرعون موسى لبنى اسرائيل كأكبر حالة للتعذيب مذكورة فى القرآن الكريم. والهدف أن يكون هذا عبرة لكل فرعون . ولكن الفراعنة لا يتعظون.
6 ـ  لسنا مسئولين عن هداية أحد لأن الهداية مسئولية شخصية ، ومن إهتدى فلنفسه ، ومن ضل فعلى نفسه. نحن مسئولون فقط عن أنفسنا ، ونجاهد سلميا نريد الإصلاح ما إستطعنا. ونطمع أن يجعلنا ربنا جل وعلا من أصحاب النعيم فى الآخرة.  
كتاب العذاب والتعذيب : رؤية قرآنية
كتاب العذاب والتعذيب : رؤية قرآنية
هذا الكتاب تم نشره مقالات ، وننشرها الآن فى هذا الكتاب عن العذاب والتعذيب فى رؤية قرآنية ، عن عذاب الله جل وعلا للمستحقين له فى الدنيا ثم فى الآخرة. ثم فصل عن التعذيب فى مصر الفرعونية.
more