منطق الاطفال:
عالم الأطفال ,ومنطق الاطفال

زهير قوطرش Ýí 2009-03-21




عالم الأطفال ومنطق الأطفال.

أحب زيارة الحديقة العامة في مدينتا الهادئة , لأنني أشعر أن كل حديقة في وسط المدينة هي رئة للمدينة,وهي المكان الذي يأوي إليه العشاق,بما فيهم عاشق الطبيعة من أمثالي ,فعشق النساء بعد هذا العمر ما عاد له في القلب والجسد المتعب بمشوار العمر الطويل مكان. وكعادتي أختار دائما ركنا قريباً من ملعب الأطفال الصغار. أراقبهم عن قرب وهم يلعبون على ملعب الرمل المخصص لهم , يبنون بيوتا ,ويخططون طرقات ,ويحفرون مغارات ويرفعون هضاب رملية .......يبنون ويه&Iumuml;مون باستمرار . أراقبهم وهم متآلفون وهم متخاصمون .. عالم فريد من نوعه , سينشأ منه مستقبل هذا العالم .


اليوم وكعادتي أحياناً, أشعر بشيء من بعض الاكتئاب .
ملاحظة" نحن أبناء الشرق, الاكتئاب عندنا هو صديق العمر ,يرافقنا حتى في لحظات السرور ,لا سعادة ,ولا فرح دائمين في حياتنا . حياتنا مليئة بالهموم, السياسية والاجتماعية وخاصة المعيشية والتي تقلب السعادة إلى شقاء ,و الفرح إلى ما يشبه الحزن.... يقول الأوربيون عنا أن مزاجنا متقلب كالسياسة في بلادنا .... .المزاجية فُرضت علينا منذ الطفولة وستبقى طالما بقيت أوضاعنا على ما هي عليه حتى نهاية العمر.
اليوم قررت أن أمارس رياضة السير على الأقدام لأنها الرياضة الوحيدة التي يمارسها أمثالي من الشيوخ بسهولة وبدون مضاعفات جانبية. تستغرق رياضتي عادة بين عشرين وثلاثين دقيقة ,بعدها أقصد الحديقة العامة للراحة.جلست بجانب ملعب الأطفال كالعادة ...لكي أراقبهم عن قرب. وبدون مقدمات جلس الى جانبي طفل لا يكاد يبلغ الرابعة من العمر ,أشقر الشعر , لون عيونه كزرقة البحر ,له حضور خاص وملفت للنظر .نظر إلي بفضول ....وسألني لماذا لون شعري أبيض....أجبته بدون تردد .أنه العمر يا عزيزي , فأنا كما ترى رجل كبير في العمر ,وأنت يا صغيري عندما تكبر سيصبح لون شعرك أبيضاً.وتتابعت على هذا المنوال أسئلته الدورية مثل ...ولماذا أنت كبير؟ ..ولماذا شعرك أبيض؟ وما معنى العمر ؟ ولماذا أنت ......... ؟ وهكذا . وكنت عندما أجيبه على سؤاله ,يتدفق بعد ذلك سيل الأسئلة الدورية التي لانهاية لها .
تعجبني أسئلة الأطفال الدورية , لأنهم بأسئلتهم هذه تتراكم لديهم المعرفة ,يتعرفون من خلالها على هذا العالم الذي سيعيشون فيه أن قُدر لهم طول العمر..
كم كنت أتمنى لو أن شعوبنا العربية تعتاد على طرح الأسئلة حتى الدورية . نحن أمة لا تسأل أبداً ....أمة تجيب فقط ...الأجوبة عندنا جاهزة حتى بدون سؤال....نجيب في العلم, والدين, والفن ,والسياسة والاقتصاد ,وعلم الاجتماع, وحتى باستطاعتنا أن نجيب حول مسائل علم الفلك ...ونعرف عن يوم الحساب كيف ستكون تفاصيله ,ونستطيع أن نصف الصراط المستقيم بكل دقائقه وكأننا نسير عليه كل يوم...والبعض يجيب و يصف لون شعر الحور العين ..والغلمان في الجنة.....وهكذا ...أمة تجيب بدون أن تسأل.لأنها لو سألت ستعاني من مهمة البحث عن الأجوبة , وهذه ليست من شيمنا...كونها تُركت لعلماء الغرب....عليهم أن يبحثوا ليل نهار وبعناء ما بعده عناء ويقدموها لنا على طبق من فضة. هم تقدموا لأنهم سألوا وبحثوا,ونحن مازلنا لا نستطيع طرح حتى الأسئلة الدورية البسيطة لهذا تأخرنا!!!
صمت الصغير وهو ينظر من جديد على لون شعري .....في هذه اللحظة سمعت صوت سيدة تخاطبني بقولها: يا سيد أرجو أن لا يزعجك أبني بأسئلته المتكررة ...أجبتها لا عليك يا سيدتي فأنا مسرور بأسئلته..... سألته عن أسمه...أجابني بدون اكتراث وبسرعة ( يانكو). هو تصغير لأسم يوحنا.... رغبت في سؤاله عن عمره ..لكنه فاجئني بسؤاله البريء...وهل أنت جاء بك طائر النورس إلى هذا العالم وأعطاك لأمك مثلي؟....كل الأسئلة توقعت أن يسألها إلا هذا السؤال الذي صدمني وجعلني في حيرة من أمري. قلت في نفسي سأتريث قليلاً ,عله يسأل سؤالاً أخراً ,ويعفيني من مهمة الجواب والكذب على طفل برئ مثله.لكنه بإصرار أعاد عليَّ طرح السؤال!! وصوب نظرات عينيه إلى وجهي متأملاً ومنتظراً .أنا على يقين أنه سأل أمه هذا السؤال ,وأجابته بأن طائر النورس هو من حمله إليها,لكنه أراد بفضول الأطفال الذين هم كالكبار أحياناً يسألون أسئلة كونية بأسلوب طفولي... أراد بسؤاله أن يزيل الشك باليقين ...حتى الكبار طيلة العمر يسألون هكذا أسئلة..من أين وكيف أتينا ؟ والى أين نسير وننتهي؟ ...رغم أن الكتب السماوية والعلمية أجابت على هذه التساؤلات نسبياً...إلا أنها ستبقى لغزاً طيلة حياة الإنسان.المشكلة مع صغيري ليست بماهية وطبيعة السؤال ,بل بالجواب.هو أراد أن يتأكد من إجابة أمه.... بأنها قالت له الحقيقة كل الحقيقة ... أراد أن يعرف هل كل الناس حملهم طائر النورس أم أنه هو الاستثناء,
وهل يمكنني في هذا المقام إلا أن أكذب على هذا الطفل البريء. وهل باستطاعتي قول الحقيقة !!!!مستحيل لأن الحقيقة لا تعني شيئاً بالنسبة إليه . ألم يسأل البشر أنبيائهم ورسلهم عن أمور مستقبلية أو حاضرة لم تكن واضحة بالنسبة إليهم آنذاك ولم يكن لها أي تفسير مقنع يومها, وكانت إجابة الرسل تشابه إجابة الأم لهذا الطفل..... فهل كذب الأنبياء والرسل .أبداً ألم يقل الله عز وجل منبهاً المؤمنين تجنب الأسئلة التي من الصعب الإجابة عليها في ذلك العصر بقوله:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ.المائدة 101


طيلة هذه الفترة التي حاورت فيها نفسي ,مازال الطفل الصغير بانتظار الجواب.
وضعت يدي على جسده النحيل ,وأجبته بنعم .وأنا أيضاً حملني طائر النورس إلى أمي....ابتسم وهز رأسه مبتسماً ,.
وعدت أسأل نفسي ...ولماذا لا يسأل هذا الطفل مثل هذه الأسئلة....ألم يسأل أبونا ابراهيم ربه كيف يحي الموتى؟

1. وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ."البقرة260

ألم يسأل موسى ربه أن يراه بقوله عز من قائل:

وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ.الاعراف 143

أليس علم أبونا إبراهيم ونبينا موسى كعلم هذا الطفل بالمقارنة مع علم الله عز وجل الذي هو فوق كل علم عليم.
بعد قليل جاءت أم الطفل وحيتني وسألتني العذر إن كان طفلها قد أزعجني بأسئلته. ومسكت يده وهي تردد اليوم انتهت نزهتنا وعلينا العودة الى البيت.نظر الطفل الى بحيرة الماء حيث كانت تسبح طيور النورس.وسألني وهو يودعني .وكيف حملك طائر النورس وأنت كبير؟
ضحكت الأم وهزت برأسها مستغربة وودعتني .
عدت إلى بيتي وأنا أفكر طيلة الطريق بعالم الأطفال ومنطق الأطفال.

اجمالي القراءات 11915

للمزيد يمكنك قراءة : اساسيات اهل القران
التعليقات (6)
1   تعليق بواسطة   AMAL ( HOPE )     في   السبت ٢١ - مارس - ٢٠٠٩ ١٢:٠٠ صباحاً
[36134]

الاخ الفاضل زهير قوطرش , موضوع جميل عن الطفولة

طاب يومك ,


مقالة جميلة تتحدث عن الاطفال وعالمهم الرائع.


وهل تدري بان حضرتك أكيد اصبحت موضوع الحصة الاولى في فصل هذا الطفل في اليوم الثاني وبلا منازع , لان الاطفال لا ينسون شيئا وأنا اتخيل هذا الطفل وقد وقف في الصف وهو يسأل معلمته : هل يستطيع طير النورس ان يحملك على ظهره ويطير بك , وتخيل حضرتك الموقف الذي وضعت فيه المعلمة المسكينة  , الله يكون في عونها وكيف خرجت من ذلك  الموقف .


يا أخ زهير , نحن مشكلتنا اننا نعتبر الاطفال حيوانات صغيرة لا عقل لها ولكننا مخطئون جدا , فالاطفال لهم عقل يدرك ويحكم على ما يحصل حواليه , وهنا اتذكر قصة حقيقية رواها احدهم كان جالسا مثلك ولكنه سجل ماكان يدور بين مجموعة الاطفال وكيف كانوا يضحكون ويرورون كيف ان والديهم يكذبون وكل واحد يروي حادثة كذب فيها احد والديه وهو مستمتعين بلعبهم , عالم الاطفال عالم رائع برئ حقا يا أخ زهير.


وأما جوابك للطفل لا يعتبر الا كذبة بيضاء يقولها كل من يصادفه الموقف الذي اصبحت به..


دمت بكل خير


أمل


 


2   تعليق بواسطة   عثمان محمد علي     في   الأربعاء ٢٥ - مارس - ٢٠٠٩ ١٢:٠٠ صباحاً
[36226]

عالم الطُهر والبراءة :

أخى الحبيب الأستاذ زهير - ما أحلى عالم الطفولة ،عالم الطُهر ،والبراءة ،والنقاء.وما أحلى أسئلتهم الفلسفية (العويصة)باللغة المصرية ههههههه). وليتنا نتعلم من الغرب القدرة على إفساح المجال للأطفال بالسباحة باسئلتهم فى شتى المجالات ،ومختلف العوالم الموجودة والإفتراضية ،وألا نُربيهم على سياسة المنع ،والقهر ،والحصار ،وكبت وقتل إبداعاتهم الجميلة ،كى نخلق جيلاً جديدا قادراًعلى إصلاح ما أفسده الأجداد .


3   تعليق بواسطة   زهير قوطرش     في   الجمعة ٢٧ - مارس - ٢٠٠٩ ١٢:٠٠ صباحاً
[36252]

أشكركم

الأخت أمل والأخ الحبيب عثمان.أشكركم على مروركم الكريم.وكما قيل فإن عالم الأطفال عالم الطهر والبراءة. وكما قالت الأخت أمل الاطفال لهم عقول يفكرون به , ويحكمون على ما حولهم بشكل يثير الاعجاب. في مقالتي هذه أردت التنويه الى أن شعوبنا لاتسأل ,بينما الاطفال يسألون ليراكموا المعرفة.شعوبنا تجيب وتحفظ الاجابات الجاهزة بدون تكليف النفس عناء  البحث عن الاجوبة.هي دعوة لكي  نقلد الاطفال في فضولهم لكن على مستوى وعي الكبار.


4   تعليق بواسطة   نعمة علم الدين     في   الأحد ٠٥ - أبريل - ٢٠٠٩ ١٢:٠٠ صباحاً
[36616]

أنا أول من يلبى تلك الدعوة

أحييك أستاذ زهير على هذا المقال ،وللعلم فأنا أم لأطفال فى عمر الزهور ويوميا ما أتعرض لمثل هذه الأسئلة البريئة الطاهرة الخالية من أى خطوط حمراء يسألون عن أى شيء وفى أى مجال دون حرج أو خوف ، وكثيرا ما أتعرض لأسئلة تأخذ منى وقت طويل في التفكير فيها والرد عليها ، وبحكم تجربتي هذه مع أطفالى فأنا أول من يلبى دعوتك بأن نقلد الأطفال ، أن نسأل دون أن نضع حدود لتلك الأسئلة أو خطوط حمراء لا يجب تخطيها فى الأسئلة ،وأن نبحث على الأجوبة بشتىء الطرق وبأنفسنا ، ولا نكتفى بالاجابات الجاهزة  والمتوقعة  والتى حفظناها عن ظهر قلب وأحيانا لا نقتنع بها .


5   تعليق بواسطة   نورا الحسيني     في   الإثنين ٠٦ - أبريل - ٢٠٠٩ ١٢:٠٠ صباحاً
[36647]

شعوبنا تكره التفكير

الأستاذ الفاضل / زهير قوطرش مقال مفيد لنا نحن الأمهات باعتبارنا نتعرض لكثير من هذه الأسئلة ولكن من الخطأ أن نعود أطفالنا على تكميم أفواههم منذ الصغر، بل من الأفضل أن نجيبهم بصراحة وبما يتناسب مع عمرهم العقلى لا العمر الزمني، وكما تعلم أن شعوبنا العربية لا تترك حرية الفكر والمعتقد لهم بعد ذلك فيج أن نعطيهم جرعة وقائية لكي يستطيعوا مقاومة الضغط والقهر الذي سوف يتعرضون له، فلا يجب أن نكون نحن والآخرين القاهرين عليهم .


6   تعليق بواسطة   محمد عبدالرحمن محمد     في   الأربعاء ٠٨ - أبريل - ٢٠٠٩ ١٢:٠٠ صباحاً
[36721]

لماذا الاكتئاب عند أبناء الشرق هو صديق العمر ؟؟

الاستاذ الكبير / زهير قوطرش دمت بكل خير ، وقفت عند ملحوظتك الخاصة عن الاكتئاب الذي يصيب أبناء الشرق منذ طفولتهم وإلى أن يلقوا ربهم ، وأعود إلى منطق الأطفال الذي قد خصصت له حضرتك هذا المقال ، وأسألك أنا كطفل كبير: لماذا يصيب الاكتئاب أبناء الشرق ويصادقهم حتى وهم  خارج أوطانهم الأم وبعد أن يكونوا قد تركوا البيئة التي أسهمت إلى حد كبير في صداقته لهم ؟؟ هل عند حضرتك من جواب ؟


أضف تعليق
لا بد من تسجيل الدخول اولا قبل التعليق
تاريخ الانضمام : 2007-02-25
مقالات منشورة : 275
اجمالي القراءات : 5,712,490
تعليقات له : 1,199
تعليقات عليه : 1,466
بلد الميلاد : syria
بلد الاقامة : slovakia