الصوفية والعلم : نظرة الصوفية للعلم " الظاهر " ودعوتهم للعلم اللدني

آحمد صبحي منصور Ýí 2015-07-26


كتاب : أثر التصوف  المعمارى والثقافى والاجتماعى فى مصر المملوكية

الفصل الثانى  :( أثر التصوف الثقافى فى مصر المملوكية )

  الصوفية والعلم : نظرة الصوفية من العلم " الظاهر " ودعوتهم للعلم اللدني 

 مدخـــل :ـــ

 بازدياد التصوف لم يعد العلم شرطا في الانخراط في الطريق الصوفي ، بل كان من أسباب انتشاره عدم التقيد بالقراءة والكتابة ن بل أصبحت ( أمية الولى ) من مفاخر بعضهم . ومن بداية التصوف وقف بعض رواده موقف العداء من العلم وأهله ، ومنهم  كالشبلي القائل :

( فلو طالبوني بعلم الورق             برزت عليهم بعلم الخرق ) [1] ، يقصد علم التصوف.

وبسبب شهرة رواد التصوف الأوائل بالجهل فقد قال عنهم الشافعى :  "لو ان رجلا تصوف اول النهار لا يأتي الظهر حتى يصير احمق ".  وقال أيضا : " ما لزم احد الصوفية أربعين يوما فعاد إليه عقله أبدا )[2] . ولا شك أن نظرة الشافعي لهم كانت متأثرة بعداء عصره للصوفية والتصوف كمبدأ . وكان أولئك الصوفية من ناحيتهم يكرهون ( الحديث ) أهم علوم ( السّنة ) . قال أبو سعيد الكندي : ( كنت انزل رباط الصوفية وأطلب الحديث خفية بحيث لا يعلمون ، فسقطت الدواة ( دواة الحبر )  يوما منى ، فقال لي بعض الصوفية : استر عورتك )[3]..ومالبث أن إعتبر الصوفية العلم عائقا للوصول على الله لأن ( الاشراقات الإلهية ــ بزعمهم ــ لا ترد إلا على قلب فارغ من كل هم ومن كل علم )[4]...

وبهذا فإن جهد التصوف المملوكي في ناحية العلم كان سلبيا ، عطل التطور العلمى والعقلى  وحارب من أوتي مقدرة على الاجتهاد ، خصوصا وأن بعض خصومهم كابن تيمية ـ قالوا عنه أنه اجتمعت فيه شروط الاجتهاد ......

والواقع انه مع الشهرة التي تمتع كثير من علماء العصر المملوكي فقد حرموا الابداع العقلي الذي يضف إلى التراث الإنساني . كان الاجتهاد ممكنا ومطلوبا ، ولكن تم وأده بسبب سيطرة التصوف ودعوته للتقليد وحربه للاجتهاد.  ويلفت النظر ان من أوتى بعض العلم من أشياخ التصوف قبل العصر المملوكى وبعده ــ من الغزالى الى الشعرانى ــ وقفوا ضد العلم واستعمال العقل ، واستخدموا حصيلتهم العلمية في حرب المنكرين عليهم من الفقهاء ــ حماية لطريقهم الصوفي من الاعتراض . ومعروف أنه لا بد من تغييب العقل ومنع الاجتهاد العلمى والبحثى حتى يؤمن الناس بدعاوى الكرامات وتقديس الأولياء الصوفية ، وغضّ الطرف عن إنحرافاتهم السلوكية وعقائدهم فى الحلول والاتحاد ووحدة الوجود ، ومقالاتهم الفظيعة المنكرة فيما يُعرف بالشطح . وهذا هو ما حدث فى العصر المملوكى الذى  اشتد نفوذهم فيه وسيطروا على الحياة الثقافية ، فكان أن وجهوها في خدمة طريقتهم الصوفية،  فكانت تلك الردة العلمية في العصر المملوكي ، الذى جمع بين ظواهر متناقضة : وجود حركة تعليمية نشطة فى مؤسسات التصوف ، ووجود الأكثرية من (العلماء والفقهاء ) مع سيطرة التقليد العلمي وازدهار الايمان بخرافات التصوف.

متصوفة العصر المملوكي والعلم و نظرتهم للعلم والعلماء : ــ

1ــ  فى العصر العباسى الثانى إنتصر الفقهاء السنيون الذين كانوا يمثلون ( الاتجاه المحافظ ) على علماء الاتجاهات العلمية العقلية والفلسفية ، من المعتزلة والفلاسفة والحكماء من الكندى والفارابى وابن سينا والخوارزمى والبيرونى والرازى وابن الهيثم ..الخ . وتسيد الفقهاء السنيون الساحة بزعامة الحنابلة ، وهم الأشد تطرفا ، ووجدوا فى صناعة الأحاديث وسيلة للإجتهاد ، فالرأى يُقال فى شكل حديث ينسبونه للنبى عليه السلام ، ويتحصّن بهذا الاسناد من النقد . وبوأد الحركة العلمية العقلية وإبادة المعتزلة ودفن جهود العلماء الأفذاذ الذين نفخر بهم الآن (الكندى والفارابى وابن سينا والخوارزمى والبيرونى والرازى وابن الهيثم ..الخ ) لم يعد موجودا على الساحة سوى الفقهاء السنيين ، واصبح لقبهم العلماء ، أى حلوا محلّ العلماء الحقيقيين فى عصر الازدهار العلمى والعقلى فى القرون الثانى والثالث والرابع والخامس من الهجرة . ( علماء ) السّنة بزعامة الحنابلة إضطهدوا خصومهم حتى من الشيوخ السنيين ( والطبرى أشهر ضحاياهم ). ونال الصوفية والشيعة الكثير من العنت . ثم تحول الموقف لصالح التصوف والصوفية ، وقد سبق شرح هذا ، وتسيد التصوف ، وأخذ شيوخ التصوف يضطهدون المنكرين عليهم من الفقهاء الحنابلة كابن تيمية والبقاعى ، وقد عرضنا لهذا من قبل .

2 ــ وفى حمأة الصراع بين الفقهاء السنيين والمتصوفة المملوكيين إحتقر شيوخ الصوفية علوم ( السنة ) وأطلقوا عليها ( العلم الظاهر )، وأطلقوا على علومهم الوهمية الخرافية إسم  (العلم الباطن ) ، وغلفوه بادعاء الكرامات والمنامات التي ساد الاعتقاد بها في العصر حتى عرف " بالعلم اللدني" أي الذي يأتي من لدن الله بالوحي كما يزعمون .

وبهذا تغير الحال فى العصر المملوكى عنه فى العصر العباسى الثانى . الحنابلة السنيون جعلوا لهم علوما وهمية بالاسناد وصناعة الحديث ، وجعلوها علوما دينية ( التفسير والحديث النبوى والقدسى وعلوم القرآن ) وجعلوها ( وحيا الاهيا ) ، وقالوا إنها ( سُنّة ) وأن تلك السُّنّة ) وحى ، جاء بالاسناد والعنعنة . وهذا لا يتقبله عقل ، فكيف يأتى الوحى الالهى بالاسناد عن فلان عن فلان عن فلان .. وحتى يتجنب السنيون الاعتراض والتعقل حرّموا الفلسفة وعلم المنطق والعلوم الطبيعية ، كى يؤمن الناس بهذا الوحى القائم على الاسناد والعنعنة .

ثم جاء التصوف فى العصر المملوكى بعلم دينى آخر ، هو ( العلم اللدنى ) لا يحتاج الى عناء الاسناد و قولهم ( حدثنا فلان ، أخبرنى فلان عن فلان ) بل يقول الشيخ الصوفى ما يشاء ويزعم أنه من الله جل وعلا مباشر بلا واسطة ، اى وحى الاهى مباشر ، ومن يعترض عليه فهو محروم من ( الفتح عليه ). ولهذا أرسى التصوف التقليد ومنع الاعتراض ، وأوجب التسليم لكل ما يقوله الشيخ الصوفى وما يزعمه .وسيأتي اثر دعوى العلم اللدنى في نشر الجهل في العصر المملوكي .

3 ـ ونعرض لموقف شيوخ التصوف فى العصر المملوكي من العلم ( الظاهر)أى ( علوم السّنة ) ودعوتهم للعلم الباطني . 

كان جدُّ ابن عطاء السكندرى فقيها سنيا ، ثم صار حفيده ابن عطاء مريدا لآبى العباس المرسي. ولم ينس أبو العباس المرسى أن جد مريده ابن عطاء كان فقيها سنيا ، فكان  يقول عن ابن عطاء وقد استنسخ له كتابا : ( هذا الكتاب استنسخه لى ابن عطاء الله والله ما أرضى له بجلسة جدّه في العلم الظاهر ولكن بزيادة التصوف )، وقال أيضا عن جد ابن عطاء السكندرى وعن حفيده ابن عطاء :(  صبرنا على جد هذا الفقيه لأجل هذا ــ الفقيه ).

وسئل المرسي عن بعض العلماء فقال " اعرفه هنا :وأشار إلى الأرض ــ "ولا اعرفه هناك"  وأشار على السماء ) [5] ،.

 ( وكان الشيخ مدين اذا سأله احد عن مسألة في الفقه لا يجيبه ، ويقول : اذهب الى عيسى الضرير يجيبك عنها . وكان عيسى هذا اميا مقيما في الزاوية ) [6] ، اى إحتقارا للسائل وسؤاله .

اما احمد الزاهد فكان اذا أتاه من يريد الاشتغال بالفقه  يقول له : ( يا ولدي ما نحن معدين لذلك اذهب الى الجامع الأزهر. ) ، ( ومنع فقراءه الا من تعليم العبادات فقط ) [7]

ويقول الشعرانى :( وإلأُمّى الذي لم يقدم له اشتغال بعلم الظاهر والنقل اقرب الى الفتح من الفقيه والمتكلم ،لأنهما عوقبا بالجهل بالعلم اللدني الفتحي ) [8]..أى يفضّل الشعرانى المريد الجاهل بالقراءة والكتابة ( الأمّى )  على مريد آخر يكون فقيها أو عالما بعلم ( الكلام ) أى العقائد السُّنيّة ، لأن الفقيه العالم بالشريعة السنية والمتكلم العالم بالعقائد السُّنيّة محرومان من الحصول على العلم اللدنى ( الفتحى ) أى الذى ينزل وحيا وفتحا لارباب التصوف بزعمهم.

4ــ وحين تتلمذ الشعراني على شيخه (الأُمّى) الخواص أمره الخواص في أول اجتماع به أن يجمع كتبه ويبيعها وينفق ثمنها احسانا ، فاستجاب لطلبه.  وكان الشعرانى قد دوّن على هوامشها الكثير من تعليقاته ، حسبما يحكى عن نفسه . وطلب الخواص منه ان يستعيض عنها بالتجرد والذكر حتى ينساها، فاستجاب له ، ثم طلب منه ان يعرض عن حضور مجالس العلم عاما بأكمله فامتثل أمره . ثم اتصل به بعد هذا العام، فقال له شيخه: " بقيت فارغا والفارغ يملأ ".!. ثم طلب منه ان يعتزل الناس وينقطع للذكر ، فأقام على ذلك بضعة أشهر ، ثم امره بالزهد فانصاع ، حتى أصبح كأنه يصعد بالهمة في الهواء " ثم محى الله العلوم النقلية من قلبه واقبلت عليه العلوم ــ الوهبية ونزل به الهاتف في 17 رجب 931 أثناء وقوفه بالفسطاط  اتجاه الروضة ، حيث تزاحمت العلوم اللدنية على أبواب قلبه وقد وسع كل باب ما بين السماء والأرض .............الخ  ) [9].

الشعرانى إفترى هذا الكذب الهائل ليضع بالتلفيق أساسا لما يُعرف بالعلم اللدنى الذى يستوجب عندهم المحو الكامل لكل المعارف الفقهية وما يوصّل اليها من علوم اللغة والنحو والبلاغة . ولكن الشعرانى نفسه يُكذّب نفسه . فلم تنمح من قلبه تلك العلوم ( النقلية ) لأنه ببساطة كان أكبر فقيه فى القرن العاشر الهجرى . وعلى عادة العصر المملوكى قام الشعرانى بتلخيص ما قاله السابقون فى الفقه وعلوم اللغة ، وترك منها تراثا تفوق به على غيره فى عصره . الشعرانى هو الذى كتب ( الميزان الكبرى) وقد عرض فيه لمذاهب أصول الفقه، وأقوال الأئمة الفقهاء وتابعيهم ، وله أيضا : ( كشف الغُمّة عن جميع الأمة ) فى الفقه على المذاهب الأربعة . وله فى علوم اللغة (مختصر ألفية ابن مالك)  فى النحو ، و( المقدمة النحوية )، كما كتب موسوعة ( الدرر المنثورة فى بيان زبدة العلوم المشهورة ) فى علوم القرآن والفقه وأصوله والنحو . بل قام بإختصار تذكرة الامام السويدى فى الطب .

ولكن الشعرانى بهذه الرواية يصور نظرة الصوفية للعلم السُّنى وكيفية التخلي عنه للوصول الى العلم اللدني . يقول باحث معاصر : ( وقد تابع الشعراني اساتذته في الهجوم على العلم الظاهر ولا يكاد يخلو له كتاب من حملاته على العلم) [10]  .

5ــ وحقد الأولياء الصوفية الأميون على الفقهاء السنيين ،وأظهروا الاستعلاء عليهم بما ادعو من العلم اللدني ،  فكان الخواص يقول : ( لا يسمى عالما عندنا إلا من كان علمه غير مستفاد من نقل او صور ، بأن يكون خضرى المقام) ، ويصف الفقيه فى العلم الظاهر بأنه ( حاك   لعلم غيره فقط فله أجر من حمل العلم حتى أدّاه ، لا أجر العامل ) [11] ..

ويفتخر الخواص بعلم ( أهل الحال ) أى العلم اللدنى ، ويقول : (تمجُّه العقول من حيث أفكارها ولا تقبله إلا بالإيمان فقط ) [12] . اى بإعترافه أنه لا يستقيم مع العقل ، ولذا يحتاج الى الايمان والتسليم به دون تفكير أو نقاش .

وافتخر الشعراني بأن من المنن ترفقه بالفقهاء إذا حضروا مجلسه وهو يتكلم فى ( علوم التصوف ) ورموزه التى تستعصى على الفهم ، وأنه لا يحاول إحراج أولئك الفقهاء وإظهار جهلهم بعلوم التصوف ورموزه أمام المريدين ،  وقال : ( هذا الأدب قلّ من يفعله من الفقراء ( أى الصوفية ) بل رأيت من يقصد الفقيه اذا حضر دروسه ويقول لأصحابه : إش قولكم فيمن يبين لكم جهله بالطريق : ثم يعزم عليه " ) [13] أي يدعوه للكلام في رموز الصوفية فلا يعرف ...

وقد جعلوا من انفسهم ناصحين للفقهاء بترك (العلم السّنى )، يقول المرصفي لأحد طلاب الأزهر: ( اياك ان تطالع شيئا من العلم واختص بالذكر . ). وعلّل ذلك بان ذلك الفقيه (  صاحب نفس ) أى صاحب إعتداد وفخر بعلمه ( الظاهر ) ، وأنه ( كلما ازداد علما إزداد تكبرا على الناس فأمره بالذكر لعل حجابه يرق ويذهب عنه العجب والرياء بعلمه . ) [14]

ويقول الخواص "  ما جعل الله العلم في قلوب العلماء ليصيروا به أربابا على الناس وإنما اعطاهم العلم لينفعوا به الناس )[15]  ... وتلك نصيحة غالية لولا أن الصوفية هم أول المتهمين  بهذا مع افتقارهم للعلم . ولا ننسى ان الصوفية حينما سجنوا ابن تمية ـــ سجنه الأخير ــ ( منعوه من الكتابة والتصنيف والفقه وصادروا ما عنده من الكتب والورق وما صنفه، وكان خمس عشرة ربطة )[16]..

وجمع الخيال بكاتب مناقب الحنفى ، فافترى رواية تصور صاحب اعظم عقلية فى العصر المملوكى ـ عبد الرحمن بن خلدون ــ وقد انبهر بعلم الشيخ الصوفى شمس الدين الحنفى فأصيب بالجذب مما سمع ، تقول الرواية أن ابن خلدون حضر ميعاد الحنفى  مترددا فتكلم الحنفى ( ودقّق وأطنب على الخواطر والأسرار حتى خرج كلامه عن الأفهام ، فصار ابن خلدون يضطرب وينتفض حتى وصل إلى محل النعال ، فلما انقضى الميعاد حملوه على الحنفى فرد عليه حاله فلما ان افاق طلب المبايعة وأن يكون من مريدي الحنفي . ).! ،وقال : ( وكان الحافظ ابن حجر يجلس بين يدي الحنفي جاثيا على ركبته ومثله البساطي والأخنائى والعيني ) [17]

وعلى أى حال فإن تفضيل المريد الصوفي على الفقيه مبدأ قديم قال به معتدلو الصوفية كابن الحاج القائل انه ( اذا كان قبيحا ان يُسأل عن العالم فيقال انه بباب الأمير، فما بالك بالمريد الذي خلف الدنيا وراء ظهره ) [18]..

6ــ وارتبط عداء الصوفية للعلم بدعوتهم للعلم اللدني الذي يهبه الحق تعالى للعارف بلا واسطة ) [19] بمجرد الرياضات ( الروحية ) الصوفية .  وزعم الشعرانى أنه كان يلقى ( الخضر ) شيخ العلم اللدنى فى التصوف ، والذى يتمتع بالخلود دون موت بزعمهم .وكتب الشعرانى كتابه ( الميزان الخضرية ) أورد فيه أكاذيب يزعم أنه سمعها من الخضر ، ومنها أن الخضر نصحه بأن يكثر من الجوع والروع حتى يرقّ حجابة ويشهد الشريعة كشفا وشهودا ، أى تتنزل الشريعة وحيا على قلبه بالعلم اللدنى ، ففعل الشعراني ذلك حتى شهد من الشريعة وما تفرع عنها ) [20]

ويقول الشعراني فى الدعوة الى العلم اللدنى بديلا عن ( العلم الظاهر ) : ( لو انك يا اخى سلكت على يدي شيخ من اهل الله لوصلك إلى حضرة شهود الحق تعالى فتأخذ عنه العلم بلا واسطة عن طريق الإلهام الصحيح من غير تعب ولا نصب ولا سهر ، كما أخذه الخضر. فلا علم إلا ما كان عن كشف وشهود لا عن نظر وفكر وظن وتخمين ) [21]

وإعتبر الشاذلي (من لم يتغلغل في علوم القوم ( أى الصوفية ) مات مُصّرا على الكبائر )[22]

7ــ ولأنهم نبذوا العقل وأنكروا العلم ــ ولأن الحياة لا تعرف الفراغ فقد شغلت الخرافات  ما كان يمكن ان يشغله العلم متحصنا بالعقل ) [23] .

ونلمح آثار تلك الخرافات واضحة في التراث الصوفي في العصر المملوكي يقول الشعراني عن السيوطي " رأيت الشيخ مرة ومعه مفاتيح كثيرة فأعطاها لي ، وقال : هذه مفاتيح علومي فخذها " ) [24] .

وروى عن احدهم قوله صعدت جبل قاف فرأيت سفينة نوح مطروحة فوقه " وقال آخر " جبل قاف امره قريب مثل جبل كاف وجبل صاد وجبل عين وهى جبال محيطة بالأرض حول كل ارض جبل بمنزلة حافظها ،وجبل قاف بهذه الأرض ، وهي أصغر الأرضين، وهو أيضا أصغر الجبال ،وهو جبل من زمردة خضراء. وقيل أن خضرة السماء من خضرته ، وحُكى أن  وليا احتاج للنار فرفع يده الى القمر فاقتبس منه جذوة ...) [25]..

8 ــ واعترفت المصادر التاريخية والصوفية بجهل بعض مشاهير الصوفية مثل نصر المنبجي خصم ابن تيمية ، والذى كان متعصبا لابن عربى ، ولا يعرف عنه شيئا ، والذى ( كان لا يعرف ما يُعاب به ابن عربي الا لكونه منسوبا الى الزهد ) [26]

وكان شيخ الفارضية في القرن التاسع (يحب ابن الفارض وابن العربي على جهل ولم يكن له المام بشيء من العلم ،ولا يعرف شيئا ممّا يقولانه  ) [27] .ويعترف الشعراني بهذه الحقيقة فيقول (ادعى طائفة من اهل الزمان أنهم خلفاء أشياخ من الأكابر ، وهم على طائفة من الجهل ) [28]  .

وادعى الأميون من الصوفية العلم اللدني مثل ( المتبولى. ) [29] . وكان داود بن ماخلا ( جامعا بين علمي الظاهر والباطن وله مؤلفات عجيبة مع انه أمى ) [30] ومثله محمد وفا الذي كان ( أُمّيا ) ( وله لسان غريب في علوم القوم ) [31]. أى كان يتكلم كلاما غريبا عجيبا بطريقة الصفية ويسمى ذلك علما لدنيا .

وتناقض الشعرانى ، فكان يصف خصومه ومنافسيه من صوفية عصره بالجهل ، ويعتبر جهلهم عيبا ، ومع ذلك كان يفخر بشيخه الخواص ، وبأن الخواص كان أُمّيا لا يقرأ ولا يكتب . [32] فيقول عنه مثلا : ( فهذه نبذة صالحة من فتاوى شيخنا وقدوتنا ولى الله تعالى الكامل الراسخ الأمي : مترجما عن معنى بعضها لكونه رضي الله عنه كان اميا لا يقرأ ولا يكتب فلسانه يشبه لسان السرياني تارة والعبري تارة ) [33] . ومن الطبيعي أن تكون خرافات أولئك الأميين موصوفة بالغرابة والبعد عن مدلولات اللغة  العربية والفهم العقلى ، بل كان هذا من ملامح التفاخر بهذا الهُراء ، والتسليم به على أنه فوق العقول لأنه ( علم لدنى الاهى ).

 9 ــ وسوّغ  ذلك للمتصوفة ادعاء أصناف عجيبة من العلوم واللغات. فالدسوقي قيل أنه ( كان يتكلم بجميع اللغات من عجمي وسرياني وغيرها، ويعرف لغات الوحش والطير ) [34] .

وتكلم المرسي على زعمه بالعربية والعجمية وقال " اذا كمل رجل نطق بجميع اللغات وعرف جميع الألسن. وقال مره لأحدهم : سل ما شئت بالعجمية أجبك بالعربية ، أو سل ما شئت بالعربية أجبك بالعجمية " ) [35] ولا نعرف ماذا يقصد باللغة العجمية . وربما تصور ان اللغات الحية لغتان فقط عربية فصيحة وعجمية غير مفهومة .

وأُتيح للصوفية أن يقولوا ما يريدون دون اعتراض بسبب التقديس الذي يتمتعون به . يقول على وفا : ( مجالس العارفين محاضرات روحية ، لا يعبأون فيها إلا بفصاحة اللسان الروحاني، وهو تحقيق المعاني ذوقا وحسن تلقيها صدقا ) [36]..اى تُقال طبقا للذوق الصوفى للشيخ القائل ، وعلى المريد أن يتقبلها بالتسليم الصادق.

10 ــ وقد وجدوا في الرمز وسيلة لإخفاء الجهل. ولقد ظهرت بوادر أسلوب الرمز في عصر مبكر في التصوف[37] . واستغل متصوفة العصر المملوكي الرمز الصوفي الذي لا يحتاج على تفسير وبالغوا فيه استطرادا وتفريعا وتنويعا وتباروا في هذه الرمزيات الغامضة كعلم كشفي فوق العقل والادراك، واعتبروه مقياس العلم اللدني فيما بينهم. وأضفى اتباعهم على ذلك الهراء مظهر التقديس ، فقيل في ترجمة محمد وفا: ( وله رموز فى منظوماته ومنثوراته مطلسمه الى وقتنا هذا، لم يفك احد فيما نعلم معناها . وسئل ولده على مع علو مقامة وفرقانه ان يشرح شيئا من تائية والده فقال: لا اعرف مراده لأنه لسانه أعجمى على لساننا" . وحتى نتعرف على لسانه الأعجمى هذا ، ننقل ومن كلامه في كتاب فصول الحقائق: ( نعوذ بالله من شياطين الخلق والكون وأبالسه العلم والجهل واغيار المعرفة والنكرة ....... الخ  ) [38] . وافتخر الشعرانى بأنه كان يرسل الكلام ( من غير تحجير ولا تقييد على قدر فهم الحاضرين وقلّ من الفقراء من يتفطّن لهذا .. ) . ويقول عن البكرى : ( ولا يكاد احد من الحاضرين لدرس محمد البكري يتعقل شيئا من كلامه .. من الجن والانس والملائكة وغيرهم ) [39]...وكان لبركات الخياط ( كلام عال في الطريق لا يفهمه غالب الفقراء عصره) ، فإذا كان أغلب صوفية عصره لا يفهمونه فكيف بالآخرين ؟ .

11 ــ وكان هذا اللغو محل تفاخر بين شيوخ الصوفية ، فكان افضل الدين الشعراني يقسم ان مشايخ عصره لا يصلحون ان يكونوا له مريدين ( لأن شرط المريد ان يفهم كلام شيخه ) [40] وكلامه لايفهمه أحد .! و كان الحنفي (اذا استغرق في الكلام وخرج عن افهام الناس يقول وهنا كلام لو أبديناه لكم لخرجتم مجانين لكن نطويه عما ليس به صلة  ) [41] . ويقول المتبولي : ( لا يبلغ  الفقير مقام الكمال حتى يكون اماما في التفسير والفقه والحديث ويسلك الطريق على شيخ عارف حتى يصير يعرف الطريق بالذوق لا بالوصف والسماع وهناك يدخل الحضرات المحمدية يعرف احكام الشرائع المحمدية ) [42] وكان المتبولي أميا من أدعياء    العلم اللدني...



[1]
ــ ابن الجوزي تلبيس إبليس 397 ، 343 ، 328 ، 329

[2]ــ ابن الجوزي تلبيس إبليس 397 ، 343 ، 328 ، 329

[3]ــ ابن الجوزي تلبيس إبليس 397 ، 343 ، 328 ، 329

[4]ــ أحمد محمود صبحي : التصوف إيجابياته وسلبياته .. عالم الفكر ص 361

[5]ــ لطائف المنن لابن عطية 68 ، 61

[6]ــ الطبقات الكبرى للشعرانى 2 / 91 ، 74

[7]ــ الطبقات الكبرى للشعرانى 2 / 74

[8]ــ الشعرانى آداب العبودية  15

[9]ــ لطائف المنن 167 وما بعدها ..

[10]ــ الطويل : الشعرانى إمام التصوف في عصره 101

[11]ــ الشعرانى الطبقات الكبرى 2 / 132

[12]ــ الشعرانى الجواهر والدرر 264

[13]ــ الشعرانى لطائف المنن 297 : 298

[14]ــ لطائف المنن 266 ، 374

[15]ــ لطائف المنن 266 ، 374

[16]ــ فتوح النصر مخطوط 2 / 259

[17]ــ مناقب الحنفى مخطوط : 181 : 183 ، 199 ، 202 ، 203

[18]ــ المدخل 2 / 166

[19]ــ الشعرانى كشف الران 63 الطبقات الكبرى للمناوى  ب255 مخطوط

[20]ــ الشعرانى الميزان الخضرية  39

[21]ــ الشعرانى الطبقات الكبرى 1 ــ 5

[22]ـ الشعرانى ـ الجواهر والدرر   257

[23]ــ أحمد محمود صبحي التصوف 361

[24]ــ الشعرانى الطبقات الصغرى  31

[25]ــ اليافعى روض الرياحين 171 ، 172

[26]ــ الدرر الكامنة 4 ــ 392

[27]ــ تاريخ البقاعى مخطوط 6 أ ..

[28]ــ الجواهر والدرر 286

[29]ــ السيوطى أعيان الأعيان 23  ، لطائف المنن للشعرانى 34 ــ الطبقات الكبرى للمناوى مخطوط 336

[30]ــ طبقات الشاذلية 111

[31]ــ الطبقات الكبرى للشعرانى 2 / 19

[32]ــ الشعرانى  لطائف المنن 404

[33]ــ درر الغواص 2

[34]ــ الطبقات الكبرى للمناوى مخطوط 254

[35]ــ لطائف المنن لابن عطاء 64 ، تعطير الأنفاس مخطوط 236 ، الطبقات الكبرى للشعراني 2 ــ 13 ، الطبقات الكبرى للمناوى 261

[36]ــ الطبقات الكبرى للشعرانى 2 ــ 27 : 28

[37]ــ نيكلسون  في التصوف الإسلامي 21

[38]ــ الطبقات الكبرى للشعرانى  2 / 19

[39]ــ لطائف المن للشعرانى 381 

[40]ــ أخبار القرن العاشر مخطوط 198 : 199

[41]ــ الطبقات الكبرى للشعرانى 2 ـ 86

[42]ــ لواقح الأنوار  271

اجمالي القراءات 9624

للمزيد يمكنك قراءة : اساسيات اهل القران
أضف تعليق
لا بد من تسجيل الدخول اولا قبل التعليق
تاريخ الانضمام : 2006-07-05
مقالات منشورة : 4980
اجمالي القراءات : 53,336,495
تعليقات له : 5,323
تعليقات عليه : 14,621
بلد الميلاد : Egypt
بلد الاقامة : United State

مشروع نشر مؤلفات احمد صبحي منصور

محاضرات صوتية

قاعة البحث القراني

باب دراسات تاريخية

باب القاموس القرآنى

باب علوم القرآن

باب تصحيح كتب

باب مقالات بالفارسي